|
|
الصفحة السابقةشدّة حرص المنصور الدوانيقيّ وبخلهومن أخبار المنصور في البخل وخسّة النفس ولؤم الطبع ما رواه السيوطيّ أيضاً عن ابن عساكر بسنده عن أبي جعفر المنصور أ نّه كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة، فبينا هو يدخل منزلاً من المنازل، قبض عليه صاحب الرصد، فقال: زِنْ دِرْهَمَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ! قال المنصور: خلِّ عنّي فإنّي! رجل من بني هاشم. قال: زِن درهمين! فقال: خلِّ عنّي فإنّي من بني عمّ رسول الله صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم! قال: زِن درهمين! قال: خلِّ عنّي فإنّي رجل قاري للكتاب الله! قال: زِن درهمين! قال: خلِّ عنّي فإنّي رجل عالم بالفقه والفرائض! قال: زِن درهمين! فلمّا أعياه أمره وزن الدرهمين:، فرجع ولزم جمع المال والتدنّق فيه حتّي لُقِّب بأبي الدوانيق.[1] وأخرج أيضاً عن ابن عساكر، عن يونس بن حبيب قال: كتب زياد بن عبدالله الحارثيّ إلی المنصور يسأله الزيادة في عطائه وأرزاقه، وأبلغ في كتابه، فوقع المنصور في القصّة، إنّ الغني والبلاغة إذا اجتمعنا في رجل أبطرتاه، وأمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك، فاكتف بالبلاغة! وأخرج عن محمّد بن سلام، قال: رأت جارية المنصور قميصه مرقوعاً، فقالت: خليفة وقميصه مرقوع، فقال: ويحك! أما سمعتِ قول ابن هَرْمَةَ: قَدْ يُدْرِكُ الشَّرَفَ الفَتََي وَرِدَاؤُه خَلِقٌ وَحَبِيٌ قَمِصِهِ مَرْقُوعُ وقال العسكريّ في « الاوائل »: كان المنصور في ولد العبّاس كعبد الملك في بني أُميّة في بُخله. رأي بعضهم عليه قميصاً مرقوعاً، فقال: سُبْحَانَ مِنَ ابْتَلَي أَبَا جَعَفَرٍ بِالفَقْرِ فِي مُلْكِهِ. وَحَدا بِهِ سَلْمَ الحَادي.[2] فطرب حتّي كاد يسقط من الراحلة، فأجازه بنصف درهم. فقال: لقد حدوتُ بهشام، فأجازني بعشرة آلاف! فقال: ما كان له أن يعطيك ذلك من بيت المال! يا ربيع؟ وَكِّلْ به مَنْ يقبضها منه! فمازالوا به حتّي تركه علی أن يحدو به ذهاباً وإياباً بغير شيء. [3] وعلی عكس المنصور ولده المهدي. فقد كان جواداً، حسن الاخلاق، ممدوحاً، محبّباً إلی الرعيّة. ونقل الدميريّ أنّ المنصور حين هلك كان في خزائنه ستّون ألف ألف دينار ( ستّون مليوناً » ومائة ألف ألف درهم ( مائة مليون ). فوزّعها المهدي علی الناس. ونُقل أ نّه أجاز شاعراً بمائة ألف درهم. [4] ومن البيّن أنّ ارتداء المنصور القميص المرقوع ليس من كمال زهده. فقد شدَّ عُقَدَ مآزره من أجل جمع أموال الناس ومل بيت المال والخزانة. وفاق فراعنة الدهر وجبابرة التأريخ في إراقة دماء المظلومين والابرياء. فادّخار ستّين مليون دينار ذهب ومائة مليون درهم فضّة أمر يحتاج إلی محاسبين حاذقين من أجل توزيعه بين الناس. وأخرج ابن عساكر أيضاً عن الربيع بن يونس الحاجب قال: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ. والملوك أربعة: معاوية، وعبدالملك، وهشام، وأنا. وأخرج أيضاً عن مالك بن أنس، قال: دخلتُ علی أبي جعفر المنصور، فقال: مَن أفضل الناس بعد رسول الله صلّي الله عليه وآله؟ قلتُ: أبو بكر، وعمر. قال: أصبتَ. وذلك رأي أميرالمؤمنين. ولم يكن ابتعاد المنصور عن اللهو واللعب للّه وفي الله. بل كانت مجالس شربه وغنائه تقام خلف الستار علی مسافة عن ندمائه. وروي السيوطيّ بإسناده عن الصوليّ، عن إسحاق الموصليّ قال: لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشرب ولا غناء، بل يجلس وبينه وبين الندماء ستارة، وبينهم وبينها عشرون ذراعاً، وبينهما وبينه كذلك. ( أي: أربعون ذراعاً تعادل عشرين متراً تقريباً ). وأوّل من ظهر للندماء من خلفاء بني العبّاس المهدي. [5] وأكّد السيوطيّ مرّة أُخري أنّ المنصور هو سبب التفرقة بين العلويّين والعبّاسيّين. وحكي عن محمّد بن عليّ الخراسانيّ أ نّه قال: المنصور أوّل خليفة قرّب المنجّمين وعمل بأحكام النجوم، وأوّل خليفة تُرجمت له الكتب السريانيّة والاعجميّة بالعربيّة، ككتاب كليلة ودمنة، وأقليدس، وهو أوّل من استعمل موإلیه علی الاعمال وقدّمهم علی العرب، وكثر ذلك بعده حتّي زالت رئاسة العرب وقيادتها، وهو أوّل من أوقع الفرقة بين ولد العبّاس وولد عليّ، وكان قبل ذلك أمرهم واحداً. [6] استدعاء الامويّين الإمام الصادق عليه السلام إلی الشامقال آية الله الشيخ محمّد حسين المظفّر: مُني الإمام الصادق عليه السلام بمعاصرة الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة، وشاهد منهما معاً ضروب الاذي والتضييق. فكم أزعجوه من دار الهجرة يحمل إلی فرعون أيّامه من دون جرم سوي أ نّه صاحب الخلافة والإمامة حقّاً. فحُمل مرّة إلی الشام مع أبيه الباقر عليه السلام أيّام بني مروان، وإلی العراق عدّة مرّات [7] في عهد بني العبّاس أبناء عمّه، مرّة في عهد السفّاح إلی الحيرة، ومرّات في عهد المنصور إلی الحيرة، وإلی الكوفة، وإلی بغداد. [8] وروي الكلينيّ بسنده عن أبي عبدالله ( الإمام الصادق ) عليه السلام، قال وهو بالحيرة في زمان أبي العبّاًس السفّاح: إنّي دخلت عليه وقد شكّ الناس في الصوم، وهو والله من شهر رمضان، فسلّمت عليه، فقال: يا أبا عبدالله! أصمتَ إلیوم؟! فقلتُ: لا! والمائدة بين يديه! قال: فادنُ فكُل! قال: فدنوتُ فأكلتُ. قال: وقلتُ: الصَّوْمُ مَعَكَ وَالفِطْرُ مَعَكَ. فقال الرجل لابي عبدالله عليه السلام: تُفْطِرُ يَوْماً مِن شَهْرِ رَمَضانَ؟! فقال عليه السلام: إي وَاللَهِ أُفْطِرُ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَحَبُّ إلی مِنْ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقِي. [9] وكذلك روي الكلينيّ بسند آخر عن الإمام أ نّه قال: دَخَلْتُ علی أَبي العَبَّاسِ بِالحِيرَةِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِاللَهِ! مَا تَقُولُ فِي الصِّيَامِ إلیوْمَ؟! فَقُلْتُ: ذَاكَ إلی الإمام. إنْ صُمْتَ صُمْنَا، وَإنْ أَفْطَرْتَ أَفْطَرْنَا! فَقَال: يَا غُلاَمُ عَلَيَّ بِالمَائِدَةِ فَأَكَلْتُ مَعَهُ، وَأَنَا أَعْلَمُ وَاللَهِ إنَّهُ يَوْمٌ مِنْ يَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَكَانَ إفْطَارِي يَوْماً وَقَضَاؤُهُ أَيْسَرَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقِي وَلاَ يُعْبَدُ اللَهُ! [10] استدعاء المنصور الإمام الصادق عليه السلاممنالمدينةإلیقصرالحمراءقبلقتلمحمّدوإبراهيمجاء في كتاب « مهج الدعوات » للسيّد ابن طاووس عن كتاب قديم بسنده عن محمّد بن الربيع الحاجب قال: قعد المنصور يوماً في قصره في القّبة الخضراء، وكانت قبل قتل محمّد وإبراهيم تُدعي الحمراء. وكان له يوم يقعد فيه يسمّي ذلك إلیوم يوم الذبح. وقد كان أشخص جعفر بن محمّد عليه السلام من المدينة. فلم يزل في الحمراء نهاره كلّه حتّي جاء الليل ومضي أكثره، قال: ثمّ دعا أبي الربيع، فقال: يا ربيع! إنّك تعرفت موضعك منّي... صِرِ الساعة إلی جعفر بن محمّد بن فاطمة، فأتني به علی الحال الذي تجده عليه، لاتغيّر شيئاً ممّا عليه.... إلی أن قال: فأخرجته حافياً حاسراً قميصه ومنديله... فوقف بين يديه. فلمّا نظر إلیه، قال: وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ مَا تَدَعُ حَسَدَكَ وَبَغْيَكَ وَإفْسَادَكَ علی أَهولِ هَذَا الْبَيْتِ مِنْ بَنِي عَبَّاسٍ. وَمَا يَزَيدُكَ اللَهُ بِذَلِكَ إلاَّ شِدَّةَ حَسَدٍ وَنَكَدٍ مَا تَبْلُغُ بِهِ مَا تَقْدِرُهُ! فقال له: والله يا أميرالمؤمنين ما فعلتُ شيئاً من هذا، ولقد كنتُ في ولاية بني أُميّة وأنت تعلم أ نّهم أعداء الخلق لنا ولكم، وأ نّهم لاحقّ لهم في هذا الامر... فكيف يا أميرالمؤمنين أصنع الآن هذا؟! ثمّ رفع ثني الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمي بها إلیه، وقال: هذه كتبك إلی أهل خراسان تدعوهم إلی نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني! فقال: والله يا أميرالمؤمنين ما فعلتُ ولا أستحلُّ ذلك، ولا هو من مذهبي، وقد بلغتُ من السنّ ما قد أضعفني من ذلك! ثمّ قال: أما تستحي مع هذه الشبية، ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل! وتشقّ عصا المسلمين! تريد أن تريق الدماء، وتطرح الفتنة بين الرعيّة والاولياء! فقال: لا والله يا أميرالمؤمنين ما فعلتُ! ولا هذه كتبي ولا خطّي، ولا خاتمي! ثمّ قال المنصور: يا ربيع! هات العيبه، فأتاه بها فقال: أدخل يدك فيها، فكانت مملوّة غإلیة. وضعها في لحيته وكانت بيضاء فاسودّت. وقال لي. احمله علی فاره من دوابّي التي أركبها، وأعطه عشرة آلاف درهم، وشيّعه إلی منزلة مكرّماً، وخيّره إذا أتيت به إلی المنزل بين المقام عندنا فنكرمه، والانصراف إلی مدينة جدّه رسول الله صلّي الله عليه وآله. ( تخلّل هذا الحوار استلالُ السيف والعزم علی قتل الإمام ثلاث مرّات في فترات مختلفة إلاّ أنّ الله سبحانه دفع عنه شرّ المنصور بأدعية كان يتوسّل بها ). ثمّ قال المنصور للربيع: يا ربيع! قد كنتُ مصرّاً علی قتل جعفر، وأن لا أسمع له قولاً! ولا أقبل عذراً. وكان أمره وإن كان ممّن لا يخرج بسيف أغلظ عندي وأهمّ علَيَّ من أمر عبدالله بن الحسن. فقد كنتُ أعلم هذا منه ومن آبائه علی عهد بني أُميّة. وهممت بقتله ثلاث مرّات فظهر لي رسول الله فعلمت أ نّي إذا قتلته ففي قتله حتفي، فانصرفتُ عن ذلك. وفصّل المنصور للربيع ما رآه في المرّات الثلاث. ثمّ قال له: إيّاك أن يسمع هذا منك أحد. [11] استدعاء المنصور الإمام من المدينة إلی الكوفة بعد قتل محمّد وإبراهيم حوار المنصور مع الإمام الصادق عليه السلام ولين الإمامروي أبو الفرج الإصفهانيّ بإسناده عن يونس بن أبي يعقوب قال: حدّثنا جعفر بن محمّد صلوات الله عليه من فيه إلی أُذني قال: لمّا قُتِل إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بباخمرا [12] وحشرنا من المدينة، فلم يترك فيها منّا محتلم، حتّي قدمنا الكوفة فمكثنا فيها شهراً نتوقّع فيها القتل. ثمّ خرج إلینا الربيع الحاجب فقال: أين هؤلاء العلويّة؟! أدخلوا علی أمير المؤمنين رجلين منكم من ذوي الحجي. قال: فدخلنا إلیه أنا وحسن بن زيد. فلمّا صرتُ بين يديه، قال لي: أنت الذي تعلم الغيب؟! قلتُ: لا يعلم الغيب إلاّ الله! قال: أنت الذي يُجبي إلیك هذا الخراج؟! قلتُ: إلیك يُجبي يا أميرالمؤمنين الخراج! قال: أتدرون لِمَ دعوتكم؟! قلتُ: لا! قال المنصور: أَرَدْتُ أَنْ أَهْدِمَ رِبَاعَكُمْ، وَأُغَوِّرَ قَليبَكُمْ، وَأَعْقِرَ نَخْلَكُمْ، وَأُنْزِلَكُمْ بِالشَّرَاةِ [13] لاَ يُقَرَبُكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ وَأَهْلِ العِرَاقِ، فإنَّهُمْ لَكُمْ مَفْسَدَةٌ! فقلتُ له: يَا أَمِيرَالمُؤْمِنِينَ! إن) سُلَيْمَانَ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَإنَّ أَيُّوبَ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَإنَّ يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَرَ، وَأَنْتَ مِنْ ذَلِكَ النَّسْلِ! [14] فتبسَّم ( المنصور ) وقال: أَعِدْ عَلَيَّ! فأعدتُ، فقال: مِثْلُكَ فَلْيَكُنْ زَعِيمَ القَوْمِ، وَقَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ وَوَهَبْتُ لَكُمْ جُرْمَ أَهْلِ البَصْرَةِ! حَدِّثْني الحديث الذي حدَّثتني عن أبيك، عن آبائه، عن رسول الله صلّي الله عليه وآله! قلتُ: حدّثني أبي، عن آبائه، عن عليٍّ، عن رسول الله صلّي الله عليه وآله قال: صِلَةُ الرَّحِمِ تَعْمُرُ الدِّيَارَ، وَتُطِيلُ الاَعْمَارَ، وَتُكْثِرُ الغُمَّارَ وَإنْ كَانُوا كُفَّاراً. فقال ( المنصور ): ليس هذا. فقلتُ: حدّثني أبي، عن آبائه، عن عليّ!، عن رسول الله صلّي الله عليه وآله قال: إنَّ اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْماً مِن إسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ. قال: ليس هذا الحديث! قلتُ: حدّثني أبي، عن آبائه، عن عليٍّ، عن رسول الله صلّي الله عليه وآله: إنَّ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ الاَرْضِ كَانَ بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ ثَلاَثُ سِنِينَ فَوَصَلَ رَحِمَهُ فَجَعَلَهَا اللَهُ ثَلاَثِينَ سَنَةً. فقال: هذا الحديث أردتُ، أي البلاد أحبّ إلیك. فوالله لاصلنّ رحمي إلیكم. قلنا: المدينة! فسرَّ هنا إلی المدينة وكفي الله مؤنته. [15] إغلاق الإمام الصادق عليه السلام كلّ طريق للانتهاك أمام المنصورونلحظ في هذا الحديث أنّ الإمام عليه السلام أخذ بنظر الاعتبار جميع أطرافه وجوانبه الوجودية. وقد أفحمه أمام عواطفه حتّي أ نّه لم يجد مناصاً إلاّ التسليم للحقّ. وكان المنصور يري نفسه عالماً فقيهاً، ومن أهل التفسير والحديث. ويحسب أ نّه من نوادر الدهر في حدّة الذكاء وسرعة الانتقال في الفهم. وقد أشعره الإمام بهذه العبارات القصيرة قائلاً له: أنت تدّعي بالعلم والتقوي والزهد، وانّك شغلتَ هذا المنصب نيابة عن الرسول الاكرم، وتربّعت علی هذا العرش كخليفة من خلفاء الله، قثّب إلی رُشدك لحظة وانظر: فقد كان سليمان من أسلافك وبلغت قدرته وعظمته درجة أنّ الجنّ والإنس سُخِّرا له، وأنّ الرياح تجري بأمره. فلم يجحد تلك النعمة، ووضع كلّ شيء في موضعه، وهذا هو عين العدالة. أمّا أنت فلم تبلغ ما بلغ سليمان من القدرة والعلم، فإذا كنتَ تتعامل معنا أو مع أهل البصرة هكذا بلا جرم ولا ذنب، فقد أسأتَ استعمال السلطة، وأصبحتَ جاحداً مكان أن تكون شاكراً! وعاقبتَ رجالاً أبرياء من غير جريرة! وانظر فقد ظُلِم يوسف، وألقاه إخوته في غيابت الجُبّ. بَيدَ أ نّه حين حَكَمَ وتمكّن، ورأي إخوته البائسين أذلاّ أمامه، عفا عنهم بقوله لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ إلیوْمَ يَغْفِرُ اللَهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. [16] وبهذا النداء القرآنيّ خلد نداء مكرمته ومجده وعظمته إلی الابد، وخُطَّ علی الاُفق عنواناً للشرف والفضيلة. وانظر فقد ابتُلي أيّوب بتلك الشدائد التي أخبر عنها القرآن الكريم، فصبر ولم يجزع أو يجحد. أمّا أنت يا منصور! فحالك لا يعدو ثلاثة أمور: إمّا أن تكون كسليمان فنجعل العفو شكراً لسلطانك وحكومتك، أو تكون كأيّوب فتصبر ولا تطلق لسانك بالشتم والفحش والبذاءة علی المحرومين، أو تكون كيوسف فقد عفا عن إخوته جميعهم مع ما لاقاه من ظلمهم وإيذائهم إيّاه. فأنتَ أمامَ هذه الخيارات، فاعمل بأيّها شئت! مثل هذا التعامل وهذا الكلام الذي نطق به الإمام عليه السلام خفّف حِدّة ذلك العفريت المشؤوم المستكبر المتجبِّر. وينبغي أن نعدّ تلك الكلمات من معجزات الإمام عليه السلام. فعن أيّ معجزة تبحث إذن؟! وينبغي أن ننظر إلی تلك الانفاس الملكوتيّة مناراً علی الإمامة والإعلميّة والفقاهة، حتّي أنّ المنصور نفسه يعترف بأنّ الحكومة وزعامة الاُمّة يجب أن تكونا لك. ولو فرضنا أنّ الإمام عليه السلام لم يتحمّل ذلك التحمّل الولائيّ، فقد كان من الممكن أن يُغضب المنصور بكلمة واحدة في جوابه، ويسلّط ذلك الجائر الفتّاك الهتّاك علی نفسه وعلی أرواح الناس ليرتكب كلّ جريمة يريدها بلا مبرّر. وقد ذكر المجلسيّ رضوان الله عليه في « بحار الانوار » كلام الإمام عليه السلام بثمانية أسناد مختلفة. ويُلحظ اختلاف في مضامين تلك الروايات نوعاًما، ولكن يتبيّن من القرائن أنّ واقعة واحدة قد حدثت، وأنّ الرواة قد نقلوها بعبارات مختلفة لجواز نقل الرواية بالمعني بأشكال مختلفة. إذ يبدو بعيداً من أدب الإمام الصادق عليه السلام وبلاغته وفصاحته أن يجيب المنصور بذلك الجواب في مرّتين أو مرّات عديدة. موقف آخر للمنصور من الإمام الصادق عليه السلامالسند الآخر سند رواه عن « كشف الغمّة » عن عبدالله بن أبي ليلي، قال: كنتُ بالربذة مع المنصور، وكان قد وجّه إلی أبي عبدالله عليه السلام ( الإمام الصادق ) فأُتي به، وبعث إلی المنصور فدعاني. فلمّا انتهيتُ إلی الباب سمعته يقول: عَجِّلُوا! عَلَيَّ بِهِ! قَتَلَنِي اللَهُ إنْ لَمْ أَقْتُلُهُ، سَقَي اللَهُ الاَرْضَ مِنْ دَمِي إنْ لَمْ أَشقِ الاَرْضَ مِنْ دَمِهِ! فسألتُ الحاجب من يعني. قال: جعفر بن محمّد عليها السلام. فإذا هو قد أُتي به مع عدّة جلاوزة. فلمّا انتهي إلی الباب قبل أن يرفع الستر رأيته قد تململت شفتاه عند رفع الستر، فدخل. فلمّا نظر إلیه المنصور قال: مرحباً يا بن عمّ! مرحباً يا ابن رسول الله! فما زال يرفعه حتّي أجلسه علی وسادته، ثمّ دعا بالطعام. فرفعت رأسي وأقبلتُ أنظر إلیه ويلقمه جدياً بارداً، وقضي حوائجه، وأمره بالانصراف. فلمّا خرج، قلتُ له: قد عرفتَ موالاتي لك وما قد ابتليت به في دخولي عليهم! وقد سمعت كلام الرجل وما كان يقول: فلمّا صرت إلی الباب رأيتك قد تململت شفتاك وما أشكّ أ نّه شيء قلته، ورأيت ما صنع بك! فإن رأيتَ أن تعلّمني ذلك فأقوله إذا دخلتُ عليه. قال: نعم! قلتُ: مَا شَاءَ اللَهُ، لاَ يَأْتِي بالخَيْرِ إلاَّ اللَهُ، مَا شَاءَ اللَهُ، مَا شَاءَ اللَهُ، لاَ يَصْرِفُ السُّوءَ إلاَّ اللَهُ، مَاشَاءَ اللَهُ، مَا شَاءَاللَهُ، كُلُّ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَهِ مَاشَاءَاللَهُ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ! [17] وقال الآبيّ: قال للصادق عليه السلام أبو جعفر المنصور: إنِّي قَدْ عَزَمْتُ علی أَنْ أُحَرِّبَ المَدِينَةَ، وَلاَ أَدَعَ بِهَا نَافِخَ ضَرْمَةٍ! فقال: يَا أَمِيرَالمُؤمِنِينَ! لاَ أَجِدُ بُدَّاً مِنَ النَّصَاحَةِ لَكَ فَاقْبَلْهَا إنْ شِئْتَ أَوْ لاَ! قال: قل! قال: إنَّهُ قَدْ مَضَي لَكَ ثَلاَثَةُ أَسْلاَفٍ: أَيُّوبُ ابْتُليَ فَصَبَرَ، وَسُلَيْمَانُ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَيُوسُفُ قَدَرَ فَغَفَرَ. فَاقْتَدِ بِأَيِّهِمْ شِئْتَ! قال: قد عفوتُ. [18] وقال الآبيّ أيضاً: وقف أهل مكّة وأهل المدينة بباب المنصور. فأذن الربيع لاهل مكّة قبل أهل المدينة. فقال جعفر عليه السلام: أتأذن لاهل مكّة قبل أهل المدينة؟ فقال الربيع: مَكَّةُ العُشُّ. فقال جعفر عليه السلام: عُشٌّ وَاللَهِ طَارَ خِيَارُهُ وَبَقِيَ شِرَارُهُ. [19] وقيل له: إنّ أباجعفر المنصور لا يلبس منذ صارت الخلافة إلیه إلاّ الخشن ولا يأكل إلاّ الجشب، فقال: يَا وَيْحَهُ مَعَ مَا قَدْ مَكَّنَ اللَهُ لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَجُبِيَ إلیهِ مِنَ الاَمْوَالِ؟! فقيل: إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بُخْلاً وَجَمْعاً لِلاَمْوَالِ. فقال: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَرَّمَهُ مِنْ دُنْيَاهُ مَالَهُ تَرَكَ دِينَهُ. [20] جواب الإمام الصادق للمنصور حول سبب امتناعه عن مخالطتهوقال ابن حمدون: كتب المنصور إلی جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: لِمَ لاَ تَغْشَانَا كَمَا يَغْشَانَا سَائِرُ النَّاسِ؟! فأجابه: لَيْسَ لَنَا مَا نَخَافُكَ مِنْ أَجْلِهِ، وَلاَ عِنْدَكَ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ مَا نَرْجُوكَ لَهُ! وَلاَ أَنْتَ فِي نِعْمَةِ فَنُهَنِّئَكَ، وَلاَ تَرَاهَا نِقْمَةٌ فَنُغَرِّيكَ بِهَا، فَمَا نَصْنَعُ عِنْدَكَ؟! قال: فكتب إلیه: تَصْحَبُنَا لِتَنصَحَنَا! فأجابه: مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا لاَ يَنْصَحُكَ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ لاَ يَصْحَبُكَ! فقال المنصور: وَاللَهِ لَقَدْ مَيَّزَ عِنْدِي مَنَازِلَ النَّاسِ: مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا مِمَّنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ، وَأَ نَّهُ مِمَّنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ لاَ الدُّنْيَا. [21] ورواه أيضاً المرحوم المحدِّث النوري في « المستدرك الوسائل » عن الإربليّ في « كشف الغمّة ».[22] وذكر المستشار عبدالحليم الجنديّ الرواية المنقولة عن « مقاتل الطالبيّين » حول استدعاء المنصور الإمام بعد قتل محمّد وإبراهيم. [23] والسند الآخر سندٌ عن « المناقب » لابن شهرآشوب، عن كتاب«الترغيب والترهيب » عن أبي القاسم الإصفهانيّ، وعن « العقد الفريد » لابن عبد ربّه الاندلسيّ أنّ المنصور قال لمّا رآه: قتلني الله إن لم أقتلك! فقال له: إنَّ سُلَيْمَانَ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَإنَّ أَيُّوبَ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَإنَّ يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَر، وَأَنْتَ علی إرْثٍ مِنْهُمْ وَأَحَقُّ بِمَنْ تأَسَّي بِهِمْ! فقال: إلی يا أبا عبدالله! فأنت القريب القرابة! وذو الرحم الواشجة السليم الناحية، القليل الغائلة. ثمّ صافحه بيمينه، وعانقه بشماله، وأمر له بكسوةٍ وجائزة. وفي خبر آخر عن الربيع أ نّه أجلسه إلی جانبه فقال له: ارفع حوائجك! فأخرج رقاعاً لاقوامٍ. فقال المنصور: ارفع حوائجك في نفسك! فقال: لاَ تَدْعُونِّي حَتَّي أَجِيئَكَ! فقال ( المنصور ): مَا إلی ذَلِكَ سَبِيلٌ! [24] ورواه المجلسيّ أيضاً بسند آخر عن الشيخ المفيد أعلی الله تعإلی مقامهما. [25] ورواه كذلك بسند آخر عن عليّ بن عيسي الإربليّ، عن كتاب محمّد بن طلحة الشافعيّ، عن عبدالله بن الفضل بن الربيع، عن أبيه قال: حجّ المنصور سنة سبع وأربعين ومائة، فقدم المدينة وقال للربيع: ابعث إلی جعفر بن محمّد من يأتينا به متعباً! قتلني الله إن لم أقتله. فتغافل الربيع عنه لينساه. ثمّ أ عاد ذكره للربيع وقال: ابعث من يأتي به متعباً، فتغافل عنه. ثمّ أرسل إلی الربيع رسالة قبيحة أغلظ عليه فيها وأمره أن يبعث من يُحضر جعفراً، ففعل. فلمّا أتاه قال له الربيع: يا أبا عبدالله! اذكر الله فإنّه قد أرسل إلیك بما لا دافع له غير الله! فقال جعفر: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ. ثمّ إنّ الربيع أعلم المنصور بحضوره. فلمّا دخل جعفر عليه أوعده وأغلظ وقال: أَيْ عَدُوَّ اللَهِ! اتَّخَذَكَ أَهْلُ العِرَاقِ إمَاماً، يَبْعَثُونَ إلیكَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَتُلْحِدُ فِي سُلْطَانِي وَتَبْغِيهِ الغَوَائِلَ! قَتَلَنِي اللَهُ إنْ لَمْ أَقْتُلُكَ! فقال له: يا أميرالمؤمنين! إنَّ سُلَيْمَانَ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَإنَّ أَيُّوبَ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَإنَّ يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَرَ، وأنت من ذلك السنخ. فلمّا سمع المنصور ذلك منه قال له: إلی وعندي أبا عبدالله أنت البريء الساحة، السليم الناحية، القليل الغائلة. جزاك الله من ذي رحم أفضل ماجزي ذوي الارحام عن أرحامهم. ثمّ تناول فأجلسه معه علی فرشه. ثمّ قال: علَيَّ بالطيب! فأُتي بالغإلیة، فجعل يغلّف لحية جعفر عليه السلام بِيَدهِ، حتّي تركها تقطر. ثمّ قال: قم في حفظ الله وكلاءته. ثمّ قال: يا ربيع! ألحق أبا عبدالله جائزته، وكسوته! انصرف أبا عبدالله في حفظه وكنفه، فانصرف. دعاء الإمام الصادق عليه السلام في دفع شرّ المنصور عنهقال الربيع: ولحقته فقلت: إنّي قد رأيت قبلك ما لم تره، ورأيت بعدك ما لارأيته. فما قلتَ يا أبا عبدالله حين دخلتَ؟ قال: قلتُ: اللَهُمَّ احْرُسنِي بِعَيْنِكَ الَّتي لاَ تَنَامُ، وَاكْنُفْنِي بِرُكْنِكَ الَّذِي لاَ يُرَامُ، وَاغْفِرْ لِي بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ، وَلاَ أَهْلِكُ وَأَنْتَ رَجَائِي! اللَهُمَّ أَنْتَ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِمَّا أَخافُ وَأَحْذَرُ! اللَهُمَّ بِكَ أَدْفَعُ فِي نَخْرِهِ، وَأَسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ! ـ فَفَعَلَ اللَهُ بِي مَا رَأَيْتُ. [26] قال المستشار عبدالحليم الجنديّ: وفي سنة 147 عزم المنصور وهو راجع من موسم الحجّ أن يسيّر الإمام الصادق عليه السلام من المدينة إلی العراق. فاستعفاه الإمام، فلم يعفه وحمله معه. ولكنّ الصادق كان يقبل عليه بمقدار، فليست دنيا أبي جعفر لتجدر بالمقاربة. وفي ذات يوم أرسل إلی الصادق: لِمَ لاَ تَغْشَانَا كما تَغْشَانَا سَائِرُ النَّاسُ. [27] السند الآخر عن « مهج الدعوات »، عن محمّد بن أبي القاسم الطبريّ بسنده عن الربيع، إلی أن بلغ قوله: فوثب المنصور فأخذ بيده، ورفعه علی سريره، ثمّ قال له: يا أبا عبدالله يعزّ علَيَّ تعبك، وإنّما أحضرتك لاشكو إلیك اهلك. قطعوا رحمي، وطعنوا في ديني، وألّبوا الناس عَلَيَّ ولو ولي هذا الامر غيري ممّن هو أبعد رحماً منّي، لسمعوا له وأطاعوا. فقال له جعفر عليه السلام: يا أميرالمؤمنين فأين يُعْدَلُ بك عن سلفك الصالح؟! إنَّ أَيُّوبَ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَإنَّ يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَرَ، وَإنَّ سُلَيْمَانَ أُعْطِيَ فَشَكَرَ! إلی آخر الرواية التي يسرد فيها الإمام أحاديث الرحم، والمنصور يخضب لحية الإمام بالغإلیة. [28] السند الآخر عن الكلينيّ بسنده عن معاوية بن عمّار، والعلابن سيابة، وظريف بن ناصح قال: لمّا بعث أبو الدوانيق إلی أبي عبدالله رفع يده إلی السماء، ثمّ قال: اللَهُمَّ إنَّكَ حَفِظْتَ الغُلاَمَيْنِ لِصَلاَحِ أَبَوَيْهِمَا فَاحْفَظْنِي لِصَلاَحِ آبَائِي مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ وَعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ! اللَهُمَّ إنِّي أَدْرَأُ بِكَ فِي نَحْرِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ! ثمّ قال للجمّال: سر! فلمّا استقبله الربيع بباب أبي الدوانيق قال له: يَا أَبَا عَبْدِاللَهِ! ما أشدَّ باطنه عليك! لقد سمعته يقول: والله لا تركت لهم نخلاً إلاّ عقرته، ولا مالاً إلاّ نهبته، ولا ذرّيّة إلاّ سبيتها. فهمس بشيء خفيّ وحرّك شفتيه. فلمّا دخل سلّم وقعد، فردّ عليه السلام ثمّ قال: أَمَا وَاللَهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَتْرُكَ لَكَ نَخْلاً إلاَّ عَقْرْتُهُ، وَلاَ مَالاً إلاَّ أَخَذْتُهُ! فقال أبو عبدالله عليه السلام: يا أميرالمؤمنين! إنّ الله عزّ وجلّ ابتلي أيّوب فصبر، وأعطي داود فشكر، وقدر يوسف فغفر، وأنت من ذلك النسل، ولا يأتي ذلك النسل إلاّ بما يشبهه. فقال: صدقتَ! قد عفوتُ عنكم! فقال له: يَا أَمِيرَالمُؤْمِنِينَ! إنَّهُ لَمْ يَنَلْ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ أَحَدٌ دَماً إلاَّ سَلَبَهُ اللَهُ مُلْكَهُ! فغضب لذلك واستشاط. فقال: علی رسلك يا أميرالمؤمنين! إنّ هذا الملك كان في آل أبي سفيان. فلمّا قتل يزيد لعنه الله حسيناً، سلبه الله ملكه، فورثه آل مروان. فلمّا قتل هشام زيداً، سلبه الله ملكه، فورثه مروان بن محمّد. فلمّا قتل مروان إبراهيم، سلبه الله ملكه فأعطاكموه! فقال: صدقتَ! هات ارفع حوائجك! فقال: الإذن! فقال: هو في يدك متي شئتَ، فخرج. فقال له الربيع: قد أمر لك بعشرة آلاف درهم. قال: لا حاجة لي فيها. قال: إذن تغضبه! فخذها ثمّ تصدّق بها! [29] استدعاء المنصور، واستحلاف الإمام الصادق الرجل الكاذب وهلاكهنلحظ في مواطن عديدة أنّ أشخاصاً كانوا يشون بالإمام الصادق إلی الدوانيقيّ، وكان الاخير يستدعيه لذلك. والواشي يحضر أيضاً. فكان الإمام يستحلفه بيمينٍ خاص ليثبت كذبه، ويبرهن علی براءته، فيهلك في حينه. ومثل هذا إلیمين في ذلك الظرف الخاصّ الذي تعرّضت فيه إمامته الإمام وولايته وصدقه للتهديد والخطر لافت للنظر وجالب للانبتاه جدّاً. روي الراونديّ في كتابه النفيس « الخرائج والجرائح » عن الإمام عليّبن موسي الرضا عليه السلام، عن أبيه عليه السلام قال: جاء رجل إلی جعفر بن محمّد عليهما السلام، فقال له: انجُ بنفسك! هذا فلان بن فلان قد وشي بك إلی المنصور وذكر أ نّك تأخذ البيعة لنفسك علی الناس، لتخرج عليهم! فتبسّم وقال: يا عبدالله لا تُرَعْ! فَإنَّ اللَهَ إذَا أَرَادَ فَضِيلَةً كُتِمَتْ أَوْ جُحِدَتْ أَثَارَ عَلَيْهَا حَاسِداً بَاغِياً يُحَرِّكُهَا حَتَّي يُبَيِّنَهَا. اقعد معي حتّي يأتيني الطلب، فتمضي معي إلی هناك حتّي تشاهد ما يجري من قدرة الله التي لا معزل عنها لمؤمن. فجاؤوا وقالوا: أَجِبْ أَمِيرَالمُؤْمِنِينَ! فخرج الصادق عليه السلام، ودخل، وقد امتلا المنصور غيظاً وغضباً، فقال له: أنت الذي تأخذ البيعة لنفسك علی المسلمين؟! تريد أن تفرّق جماعتهم؟! وتسعي في هلكتهم؟! وتُفسد ذاتَ بينهم؟! فقال الصادق عليه السلام: ما فعلتُ شيئاً من هذا! قال المنصور: فهذا فلان يذكر أ نّك فعلت! فقال: إنّه كاذب. قال المنصور: إنّي أُحلِّفه إن حلف، كفيتُ نفسي مؤنتك! فقال الصادق عليه السلام: إنّه إذا حلف كاذباً باء بإثمٍ. قال المنصور لحاجبه: حلِّف هذا الرجل علی ماحكاه عن هذا ـ يعني الصادق عليه السلام! فقال الحاجب: قل: وَاللَهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ. وجعل يغلِّط عليه إلیمين. فقال الصادق عليه السلام: لاتحلّفه هكذا! فإنّي سمعتُ أبي يذكر عن جدّي رسول الله صلّي الله عليه وآله أ نّه قال: إنّ من الناس مَن يحلف كاذباً، فيعظّم الله في يمينه ويصفه بصفاته الحسني، فيأتي تعظيمه للّه علی إثم كذبه ويمينه، فيؤخَّر عنه البلاء. ولكنّي أُحلِّفه بإلیمين التي حدّثني أبي عن جدّي رسول الله أ نّه لا يحلّف بها حالف إلاّ باء بإثمه. فقال المنصور: فحلِّفه إذاً يا جعفر. فقال الصادق للرجل: قل: إنْ كُنْتُ كَاذِباً عَلَيْكَ فَقَدْ بَرئْتُ مِنْ حَوْلِ اللَهِ وَقُوَّتِهِ، وَلَجَأْتُ إلی حَوْلِي وَقُوَّتِي. فقالها الرجل. فقال الصادق عليه السلام: اللَهُمَّ إن كَانَ كَاذِباً فَأَمْثِهُ! فما استتمَّ حتّي سقط الرجل ميّتاً، واحتمل، ومضي: وأقبل المنصور علی الصادق عليه السلام، فسأله عن حوائجه، فقال عليه السلام: ما لي حاجة إلاّ أن أُسرع إلی أهلي، فإنّ قلوبهم بي متعلّقة ( وهم في قلق ليعادي عنهم ). فقال: ذلك إلیك. فافعل ما بدا لك! فخرج من عنده مكرّماً. قد تحيّر منه المنصور. فقال قوم: رجل فأجاه الموت. وجعل الناس يخوضون في أمر ذلك الميّت، وينظرون إلیه. فلمّا استوي علی سريره، جعل الناس يخوضون. فمن ذامّ له، وحامد. إذا قعد علی سريره، وكشف عن وجهه، وقال: يا أيّها الناس إنّي لقيتُ ربّي فلقاني السخط واللعنة، واشتدّ غضب زبانيّة علَيَّ، علی الذي كان منّي إلی جعفر بن محمّد الصادق، فاتّقوا الله، ولا تهلكوا فيه كما هلكتُ! ثمّ أعاد كفنه علی وجهه، وعاد في موته، فرأوه لا حراك فيه وهو ميّت فدفنوه.[30] وروي الشيخ المفيد نظير هذا المضمون عن نَقَلَة الآثار. وجاء في ذيل الرواية: فقال الربيع للإمام: فبأيّ شيء كنت تحرّكهما ( شفتيك )؟! قال: بدعاء جدّي الحسين بن عليّ عليهما السلام. قال: جعلتُ فداك! وما هذا الدعاء؟! قال: يَا عُدَّتِي عِنْدَ شِدَّتِي، وَيَا غَوْثِي فِي كُرْبَتِي، احْرُسْنِي بِعَيْنِكَ الَّتِي لاَ تَنَامُ، وَاكْنُفُِني بِرُكْنِكَ الَّذِي لاَ يُرَامُ. قال الربيع: فحفظت هذا الدعاء. فما نزلت بي شدّةٌ قطّ إلاّ دعوتُ به، ففرِّج. إلی آخر الرواية. [31] ويبدو أنّ هذه القضيّة وقعت للإمام مرّة أُخي، واستُدعي إلی الكوفة لهذا القصد. روي الكلينيّ عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبدالله، عن بعض أصحابه، عن صفوان الجمّال قال: حملتُ أبا عبدالله الحملة الثانية إلی الكوفة، وأبو جعفر المنصور بها. فلمّا أشرف علی الهاشميّة ( مدينة أبي جعفر )، أخرج رجله من غرز الرحل. ثمّ نزل ودعا ببلغة شهباء. [32] ولبس ثياباً بيضاً وتكّة بيضاء. فلمّا دخل عليه، قال له أبو جعفر: لقد تشبّهت بالانبياء! فقال أبو عبدالله: وأ نّي تبعّدني من أبناء الانبياء؟! قال: لقد هملاتُ أن أبعث إلی المدينة من يعقر نخلها، ويسبي ذرّيّتها. فقال: ولِمَ ذَاكَ يَا أَميرالمؤمنين؟! فقال: رُفع إلی َّ أنّ مْلاٌّ المعلی بن خنيس يدعو إلیك ويجمع لك الاموال. فقال: والله ما كان! فقال: لست أرضي منك إلاّ بالطلاق، والعتاق، والهديّ، والمشي. [33] فقال: أَبَا لاَنْدَادِ مِنْ دُونِ اللَهِ تَأْمُرُونِي أَنْ أَحْلِفَ؟! إنَّهُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَهِ فَلَيْسَ مِنَ اللَهِ فِي شَيءٍ. فقال: أتتفقّه علَيَّ؟ فقال: وأ نّي تبدعّدني من التفقّه، وأنا ابن رسول الله صلّي الله عليهوآله؟! قال: فإنّي أجمع بينك وبين من سعي بك. قال: فافعل! فجاء الرجل الذي سعي به. فقال أبو عبدالله عليه السلام: يا هذا، قال: فقال: نَعَمْ وَاللَهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، لَقَدْ فَعَلْتَ! فقال له أبو عبدالله عليه السلام: يَا وَيْلَكَ تُجَلِّلُ اللَهَ فَيَسْتَحْيِي مِنْ تَعْذِيبِكَ، وَلَكِنْ قُلْ: بَرِئْتُ مِنْ حَوْلِ اللَهِ وَقُوَّتِهِ وَأَلْجَأْتُ إلی حَوولِي وَقُوَّتِي. فخلف بها الرجل، فلم يستتمّها حتّي وقع ميّتاً. فقال له أبو جفعر: لاأُصدّق بعدها عليك أبداً، وأحسن جائزته وردّه. [34] وذكر الشيخ الطوسيّ مثل هذه الرواية بسنده المتّصل عن الربيع. وفيها أنّ الرجل النمّام سعي بالإمام إلی المنصور أ نّه يزعم للناس أ نّه يعلم الغيب. [35] وروي السيّد ابن طاووس في « مهج الدعوات » عن كتبا قديم، بسنده المتّصل عن صفوان بن مهران الجمّال، رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إلی أبي جعفر المنصور، وذلك بعد قتله وإبراهيم ابنَي عبدالله بن الحسن، أنّ جعفر بن محمّد بعث مولاه المعلی بن خنيس بجباية الاموال من شيعته، وأ نّه كان يمدّ بها محمّد بن عبدالله. فكاد المنصور أن يأكل كفّه علی جعفر غيظاً، وكتب إلی عمّه داود، وداود إذ ذاك أميرالمدينة، أن يسيّر إلیه جعفر بن محمّد، ولا يرخّص له في التلوّم والمقام. فبعث إلیه داود بكتاب المنصور وقال: اعمل في المسير إلی أميرالمؤمنين في غدٍ ولا تتأخّر! إلی آخر الرواية التي نقل فيها استحلاف الإمام الرجل القرشيَّ المخزوميّ بالطريقة التي رأيناها في الروايات الاخيرة! [36] ضعف الاسباب في استدعاء المنصور للإمام الصادق عدّة مرّاتوينبغي أن نعرف أنّ الرحلات العديدة التي استدعي فيها الدوانيقيّ الإمام الصادق عليه السلام من المدينة إلی الربذة، أو الكوفة، أو الحيرة، أو بغداد لا تقتصر علی الموارد التي ذُكرت آنفاً، بل استدعاه في غير مرّة بلا دليل ولا مستمسك. [37] ويعود ذلك إلی أنّ المنصور كان يري نفسه ذا شخصيّة علميّة. ويعتقد أنّ له منزلة في الفقه والاجتهاد. ومن الطبيعيّ أ نّه بما كان يحمله من نفس خبيثة وروح حسودة لم يستطيع أن يتحمّل وجود شخصيّة علميّة عرفانيّة متّقية تنافسه، مهما كانت برئية، ومهما عفّت وترفّعت عن التطّلع إلی المنصور، وبلاطه، ورئاسته. فنفس وجود الإمام عليه السلام ـ صرف وجود فقط وفقط ـ منغّص لحياة المنصور وأضرابه. ولم يطق المنصور شخصيّة مرموقة كالإمام. فهوممتعض منه في إلیقظة، فَزِع منه في المنام حتّي يقضي عليه. لهذا رأيناه في رحلاته التي كان يُحضر فيها الإمام عليه السلام، يقف علی الحقيقة بعد أن يثبت له الإمام بمنطقه الرصين وبرهانه القيوم أ نّه لم يتآمر عليه، ولم يمهّد الامر لنفسه، ولم يُقم وزناً للرئاسة، فيرجعه إلی المدينة باحترام بالغ، لكنّا نجده يُحضره أيضاً في كلّ فترة بلا حجّة تُذْكَر، ثمّ يُرجعه بدون أن يري له ذنباً أو يعثر علی مستمسك يُدينه. وقال للريع عدّة مرّات: إنّ جعفر بن محمّد كالشجي يعترض حلقيّ. وكلّما أفكّر أراني لا أُطيقه. وكان يسعي لإطفاء نور الإمام وشمع فضيلته بكلّ ما أُوتي من قوّة. ومن الواضح أنّ الإمام عليه السلام كان له أن يدع لهم جميع درجات القدرات الاعتباريّة والقيم الوهميّة لمصلحةٍ، لكن هل كان له أن يُنكر علمه ويدعه لهم أيضاً؟! إنّ إمامة الإمام بعلمه. وميزان الإمامة الاعلميّة في الاُمّة. فإذا قال في مسألة: لا أعلم، فليس بإمام. فالإمام هو من يعلم. فلهذا لمّا كان الجهل في مسألة مساوياً لسقوط الإمامة، فما أكثر الائمّة الذين بذلوا مهجهم ـ ولابدّ أن يبذلوها ـ بسبب بيان حكم واقعيّ حقيقيّ أمام جبابرة عصورهم وظالميها! فلا معني للتقيّة في مواطن العلم. وبيان حكم حقيقيّ قد أدّي إلی استشهاد كثير من الائمّة. من أسباب استشهاد الإمام عليّ بن موسي الرضا عليه السلام تصريحه بحكم حقيقيّ عدم استطاعة المأمون تحمّل الإمام الرضا عليه السلامأتي المأمون بالإمام الرضا عليه السلام إلی بلاطه ليدعم أحكامه الباطلة ومسائله الشتبهة، لا أن يبيّن في كلّ مسألة حكماً يخالف رأيه. ولايمكن تصوّر مصيبة أعظم علی سلاطين الجور والجبابرة المتفرعنين من أن يبدي أحد علمه في مقابل آرائهم ونظريّاتهم. احتجاج رجل صوفيّ، وعزم المأمون علی قتل الإمام الرضاقال في « بحار الانوار »، في باب أسباب شهادة الإمام الرضا صلوات الله عليه: في « علل الشرائع »، و « عيون أخبار الرضا » عن المكتّب، والوّراق، والهمدانيّ جميعاً عن عليّ، عن أبيه، عن محمّد بن سنان قال: كنت عند مولاي الرضا عليه السلام بخراسان. وكان المأمون يقعده علی يمينه إذا قعد الناس يوم الاثنين ويوم الخميس. فرفع إلی المأمون أنّ رجلاً من الصوفيّة سرق. فأمر بإحضاره. فلمّا نظر إلیه وجده متقشّفاً بين عينيه أثر السجود. فقال: سوءةً لهذه الآثار الجميلة، ولهذا الفعل القبيح، أُتنسب إلی السرقة مع ما أري من جميل آثارك وظاهرك؟! قال: فعلتُ ذلك اضطراراً لا اختياراً حين منعتني حقّي من الخمس والفيء. فقال المأمون: وأيّ حقّ لك في الخمس والفيء؟! قال: إنّ الله عزّوجلّ قسّم الخمس ستّة أقسام وقال: وَاعْلَمُو´ا أَ نَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَإلیتَـ'مَي وَالْمَسَـ'كِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ ءَامَنْتُم بِاللَهِ وَمَآ أَنزَلْنَا علی' عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ التَقَي الْجَمْعَانِ. [38] وقسّم الفيء علی ستّة أقسام، فقال عزّوجلّ: مَآ أَفَاءَ اللَهُ علی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي' وَإلیتَـ'مَي وَالْمَسَـ'كِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاْغْنِيَاءِ مِنكُمْ.[39] قال: بما منعتني وأنا ابن السبيل منقطع بي ومسكين لا أرجع إلی شيء ومن حملة القرآن! [40] فقال له المأمون: أُعطّل حدّا من حدود الله وحماً من أحكامه في السارق من أساطيرك هذه؟! فقال الصوفيّ: ابدأ بنفسك فطهّرها، ثمّ طَهِّرْ غيرك! وأقم حدّ الله عليها، ثمّ علی غيرك! فالتفت المأمون إلی أبي الحسن ( الإمام الرضا ) عليه السلام، فقال: ا تقول؟! فقال: إنّه يقول: سرقتَ فسرق! فغضب المأمون غضباً شديداً، ثمّ قال للصوفيّ: والله لاقطعنك! فقال الصوفيّ: أتقطعني وأنت عبدٌ لي؟! فقال المأمون: ويلك! ومن أين صرتُ عبداً لك؟! قال: لانّ أمّك اشتُريْت من مال المسلمين. فأنت عبدٌ لمن في المشرق والمغرب حتّي يعتقوك، وأنا لم أُعتقك! ثمّ بلعتَ الخمس بعد ذلك، فلا أعطيتَ آلَ الرسول حقّاً، ولا أعطيتني ونظرائي حقّنا! والاُخري أنّ الخبيث لا يطهّر خبيثاً مثله. إنّما يطهّره طاهر. ومَن في جنبه الحدّ لا يقيم الحدود علی غيره حتّي يبدأ بنفسه. أمَا سمعتَ الله عزّ وجلّ يقول: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَـ'بَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ. [41] فالتفتَ المأمون إلی الرضا عليه السلام، فقال: ما تري فيأمره؟! فقال عليه السلام: إنّ الله جلّ جلاله قال لمحمّد صلّي الله عليه وآله: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَـ'لِغَةُ. [42] وهي التي تبلغ الجاهَل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالمُ بعلمه. والدنيا والآخرة قائمتان بالحجّة. وقد احتجّ الرجل. فأمر المأمون عند ذلك بإطلاق الصوفيّ واحتجب عن الناس، واشتغل بالرضا عليه السلام حتّي سمّه فقتله. وقد كان قتل الفضلَ بن سهل وجماعة من الشيعة. قال الصدوق رضي الله عنه: رُوي هذا الحديث كما حكيت، وأنا بريء من عهده صحّته. [43] وكم من المناسب هنا أن ننقل رواية أُخري حول الإمام الرضا عليه السلام وإن كانت خارجة عن موضوع بحثنا، لكنّها توائم سرّ الاذي الذي تلقّاه الإمام الصادق عليه السلام من المنصور تماماً. جاء في « عيون أخبار الرضا عليه السلام » عن تميم القرشيّ، عن أبيه، عن أحمد بن عليّ الانصاريّ قال: سألتُ أبا الصلت الهرويّ، فقلتُ: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه السلام مع إكرامه ومحبّته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إنّ المأمون إنّما كان يكرمه ويحبّه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده ليري الناس أ نّه راغب في الدنيا فيسقط محلّه من نفوسهم. فلمّا لم يظهر منه في ذلك للناس إلاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاّ في نفوسهم جلب عليه المتكلّمين من البلدان طمعاً من أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محلّه عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامّة. فكان لا يكلّمه خصهم من إلیهود، والنصاري، والمجوس، والصابئين، والبراهمة، والملحدين، والدهريّة، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين له إلاّ قطعه وألزمه الحجّة. وكان الناس يقولون: وَاللَهِ إنَّهُ أَوْلَي بِالخِلاَفَةِ مِنَ المَأْمُونِ. فكان أصحاب الاخبار يرفعون ذلك إلیه فيغتاظ من ذلك ويشتدّ حسده. وَكَانَ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاَ يُحَابِي المَأْمُونَ مِنْ حَقٍّ وَكَانَ يُجِيبُهُ بِمَا يَكْرَهُ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ فَيغَيظُهُ ذَلِكَ، وَيَحْقِدُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُظْهِرُهُ لَهُ. فَلَمَّا أَعْيَتْهُ الحِيلَةُ فِي أَمْرِهِ اغْتَالَهُ فَقَتَلَهُ بِالسُّمِّ. [44] ارجاعات [1] ـ «تاريخ الخلفاء» ص 263. [2] ـ قال في «أقرب الموارد» في مادّة (حدو): حَدَا يَحْدُو حَدْواً وَحُدَاءً، يقال: «ما أَمْلَحُ حُدَاءَهُ» و ـ الاءبِلَ و ـ بها: ساقها وغنّي لها فهو (حادٍ ج حُداةي وسَلاَّم الحادي مَثَلُّ فِي طَيِّب الحُدَاءِ. قيل: «أظمأوا الاءتبل شديداً ثمّ أوردوها الماءَ ووَقَفَ سلاَّم من ورائها يحدو لها فانصرفت عن الماء إلیه». [3] ـ «تاريخ الخلفاء» ص 267، الطبعة الرابعة. [4] ـ «تتمّة المنتهي» ص 205، الطبعة الثالثة. [5] ـ «تاريخ الخلفاء» ص 269. [6] ـ «تاريخ الخلفاء» ص 269 و 270. [7] ـ في «المناقب» لابن شهرآشوب، ج 1، ص 183 إلی 184، الطبعة الحجريّة، وج 1، ص 261، الطبعة الحديثة، في باب ميراث رسول الله صلّي الله علیه وآله، عن موسي بن عبدالله بن حسن بن حسن، ومعتّب ومصادف موليا الإمام الصادق علیه السلام في خبر أ نّه لمّا دخل هشام بن الوليد المدينة أتاه بنو العبّاس وشكوا من الصادق علیه السلام أ نّه أخذ تركات ماهر الخصيّ دوننا. فخطب أبو عبدالله علیه السلام، فكان ممّا قال: إنّ الله تعإلی لمّا بعث رسول الله صلّي الله علیه وآله كان أبونا أبو طالب المواسي له بنفسه والناصر له، وأبوكم العبّاس وأبو لهب يكذّبانه ويؤلّبان علیه شياطين الكفر وأبوكم يبغي له الغوائل ويقود إلیه القبائل في بدر، وكان في أوَّل رعيلها وصاحب خيلها ورجلها المُطعِم يومئذٍ والناصب الحرب له. ثمّ قال: فكان أبوكم طليقنا وعتيقنا، وأسلم كارهاً تحت سيوفنا، لم يهاجر إلی الله ورسوله هجرة قطّ، فقطع الله ولايته منّا بقوله: «الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَـ'يَتِهِمْ مِّن شَيْءٍ» (الآية 72، من السورة 8: الانفال) في كلام له؛ ثمّ قال: هذا مولي لنا مات فخرنا تراثه إذ كان مولانا، ولا نّا ولد رسول الله صلّي الله علیه وآله وأُمَّنا فاطمة أحرزت ميراثه. ونقل العلاّمة المجلسيّ في «بحار الانوار» ج 47، ص 176، الطبعة الحديثة، هذا الحديث في ترجمة الإمام الصادق علیه السلام، وقال في بيانه: ألَّبْتُ الجيش: جَمَعتُهُ. والتإلیب: التحريص، والرعيل، القطعة من الخيل. وذكر العلاّمة الشيخ محمّد حسين المظفّر هذا الحديث أيضاً في كتاب «الإمام الصادق علیه السلام» ج 2، ص 8، ضمن خطب الإمام، وقال في ذيله: إنّ الصادق أرفع من أن يواقف بني العبّاس من جرّاء المال، ولكنّي أخال أ نّه يريد أن يكشف حالاً للعبّاس كانت مجهولة، لانّ الملك سوف يواني بنيه، فيعلم الناس شأن من يملك منهم الرقاب. وهذا الكلمات علی وجازتها تفيد التأريخ فوائد جمّة، ولا أحسب أنّ التاريخ يذكر للعبّاس تلك المواقف! [8] ـ «تاريخ الشيعة» ص 43. [9] ـ «الكافي» ج 3، ص 83؛ ونقله المجلسيّ عن «الكافي» في «بحار الانوار» ج 47، ص 210، الطبعة الحديثة. [10] ـ «فروع الكافي» ج 3، ص 82؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 210. [11] ـ «مهج الدعوات» ص 192؛ و«بحار الانوار»، ج 47، ص 195 إلی 200، تاريخ الإمام جعفر الصادق علیه السلام، الطبعة الحديثة. [12] ـ باخمرا: بالراء المهملة موضع بين الكوفة وواسط. وهو إلی الكوفة أقرب. به قبر إبراهيم بن عبدالله بن حسن بن الحسن قتله بها أصحاب المنصور. وإيّاها عني دعبل بن علی الخزاعيّ بقوله: وقبرٌ بأرض الجوزجان محلّه وقبر بباخمرا لدي الغربات [13] ـ الشراة: جبل شامخ مرتقع من دون عسفان تأوي إلیه القرود. واسم صقع بالشام بين دمشق والمدينة. من بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة التي كان يسكنها ولد علی بن عبدالله بن عبّاس في أيّام بني مروان. [14] ـ ذكر محمّد بن طلحة الشافعيّ في كتاب «مطالب السئول» ص 82، الطبعة الحجريّة، مضمون هذا الحديث. [15] ـ «مقاتل الطالبيّين» ص 450، و«بحار الانوار» ج 47، ص 211 و 212 الطبعة الحديثة؛ وروي العلاّمة المجلسيّ هذا المضمون من الرواية في «البحار» ج 47، ص 187 و 188، بسند آخر عن «غوإلی اللئإلی». ونلحظ في صدرها أنّ الإمام الصادق علیه السلام قال: طلب المنصور علماء المدينة. فلمّا وصلنا إلیه خرج إلینا الربيع الحاجب فقال: ليدخل علی أميرالمؤمنين منكم اثنان! فدخلت أنا وعبدالله بن الحسن. [16] ـ الآية 92، من السورة 12: يوسف. هذا هو كلام يوسف علی نبيّنا وآله وعلیه الصلاة والسلام، حين عفا عن إخوته بمصر. [17] ـ «كشف الغمّة» ج 2، ص 428؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 183، الطبعة الحديثة. [18] ـ «كشف الغمّة» ج 2، ص 439. [19] ـ «كشف الغمّة» ج 2، ص 439. [20] ـ «كشف الغمّة» ج 2، ص 440. [21] ـ «كشف الغمّة» ج 2، ص 448؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 185، الطبعة الحديثة. [22] ـ «مستدرك الوسائل» ج 2، ص 386. [23] ـ «الإمام جعفر الصادق» ص 82 و 83 [24] ـ «مناقب ابن شهرآشوب» ج 3، ص 358؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 178 و 179، الطبعة الحديثة. وكلام الإمام: «لا تدعونيّ حتّي أجيئك» وردّ المنصور بقوله: «ما إلی ذلك سبيل» رواهما المجلسيّ في رواية أُخري، في «بحار الانوار» ج 47، ص 164، عن «الامإلی» للشيخ الطوسيّ رحمه الله، بسنده عن ربيع الحاجب. وكذلك روي هذا الكلام وجواب المنصور المساعد: لك ذلك وغير ذلك السيّد ابن طاووس في «مهج الدعوات» ص 251، عن محمّد بن عبيدالله الاءسكندريّ؛ ورواه المجلسيّ عنه في «بحار الانوار» ج 47، ص 202. [25] ـ «بحار الانوار» ج 47، ص 174 و 175، عن كتاب «الإرشاد» ص 290. [26] ـ «كشف الغمّة» ج 2، ص 374، عن كتاب «مطالب السئول» ص 82؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 182 و 183. [27] ـ كتاب «الإمام جعفر الصادق» ص 86 و 87، الصادر عن جمهوريّة مصر العربيّة، المجلس الاعلی للشؤون الإسلاميّة. وهي نفس القضيّة التي نقلناها عن «كشف الغمّة» عن ابن حمدون، وعن «بحار الانوار». [28] ـ «مهج الدعوات» ص 192؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 193 و 194. [29] ـ «الكافي» ج 2، ص 562؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 208 و 209. [30] ـ «الخرائج والجرائح» ص 244؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 172 و 173، الطبعة الحديثة. [31] ـ «الإرشاد» للمفيد، ص 290؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 174 و 175. [32] ـ الشهباء مؤنّث الاشهب. والشهب بياض يتخلّله سواد. [33] ـ القسم بالطلاق يعني إذا كان كلامي كذباً فنسائيّ جمعيهنّ مطلّقات. والقسم بالعتاق يعني عبيدي كلّهم عتقاء. والقسم بالهدي يعني إبلي جميعها في مكّد هَدْي. والقسم بالشمي يعنيّ أذهب إلی حجّ بيت الله ما شياً هذا العالم أو في كلّ عام والعامّة يجيزون هذه الضروب من القسم بأسرها ويعتقدون أنّ عقد إلیمين يرتبط بها. وإذا تبيّن كذب الموضوع، فعلی المُقسم أن يفي ويقوم بالامر. بَيدَ أنّ الخاصّة تُبطل هذه الضروب من القسم برمّتها، ولا تري قسماً نافذاً إلاّ القسم. [34] ـ «الكافي» ج 6،ص 455؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 203 و 204. [35] ـ «الأمالی» للشیخ الطوسیّ، ص 306؛ و«بحار الأنوار» ج 47، ص 164. [36] ـ «مهج الدعوات» ص 198؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 200 و 201. [37] ـ قال آية الله الشيخ محمّد حسين المظفّر في كتاب «الإمام الصادق» ج 1، ص 94، الطبعة الرابعة لجماعة المدرّسين بقم: كان بين ولاية المنصور، ووفاة الصادق علیه السلام اثنتا عشرة سنة لم يجد الصادق فيها راحة ولا هدوءاً علی ما بينهما من البُعد الشاسع، الصادق في الحجاز والمنصور في العراق، وكان يتعاهده بالاذي كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالطرف والتحف. يقول ابن طاووس أبو القاسم علی طاب ثراه في كتاب «مهج الدعوات» في باب دعوات الصادق علیه السلام أنّ المنصور دعا الصادق سبع مرّات، كان بعضها في المدينة والربذة حين حجّ المنصور، وبعضها يرسل إلیه إلی الكوفة، وبعضها إلی بغداد. وما كان يرسل علیه مرّة إلاّ ويريد قتله. هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول. وقال في الهامش: حجّ المنصور أيّام الصادق علیه السلام ثلاث مرّات عام 140 و 144 و 147 ه. وبعد وفاة الصادق مرّتين عام 152 وعام 158، فلم يتمّ الحجّ. انظر: «تاريخ إلیعقوبي» ج 3، ص 122، طبع النجف. والذي يظهر أنّ المنصور في كلّ مرّة من الثلاث يأمر بجلب الصادق علیه السلام. [38] ـ الآية 41، من السورة 8: الانفال. [39] ـ الآية 7، من السورة 59: الحشر. [40] ـ المراد بإلیتامي والمساكين وابن السبيل في آية الخمس والفيء يتامي آل الرسول ومساكينهم وأبناء سبيلهم بقرينة الالف واللام حیث إنّها في أمثال هذه المواضع عوض من المضاف إلیه. فكأنّه قال: للَّه ولرَسوله ولذي قرباه ويتاماهم ومساكينهم وابن سبيلهم. فلا حقّ في الخمس والفيء لعامّة المسلمين. وأمّا هذا الذي ذكره الصوفيّ فعلی مذاهب فقهاء العلميّة حيث يقولون: إنّها لفقراء المسلمين وأيتامهم وأبناء سبيلهم دون من كان من آل الرسول صلّي الله علیه وآله خصوصاً. [41] ـ الآية 44، من السورة 2: البقرة. [42] ـ الآية 149، من السورة 6: الانعام. [43] ـ «عيون أخبار الرضا» ج 2، ص 237 و 238؛ و«علل الشرائع» ج 1، ص 228؛ و«بحار الانوار» ج 49، ص 228 إلی 290، الطبعة الحديثة. [44] ـ «عيون أخبار الرضا» ج 2، ص 239؛ و«بحار الانوار» ج 49، ص 290. ومن الغرائب التي يمكن أن نعدّها من كرامات الإمام الرضا علیه السلام هيأ نّني أكتب هذه السطور التي نتناول سبب شهادة ذلك الإمام المظلوم لساعةٍ مضت علی طلوع الشمس يوم الخميس الثلاثين من صفر سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة. أي: في يوم استشهاد الإمام علیه السلام. وهذه هي المرّة الاُولي التي يدور فيها الكلام حول شهادة ذلك الإمام الغريب علی امتداد تإلیف هذا الكتاب (معرفة الإمام) الذي تمّ منه ستّة عشر جزءاً، ومع أ نّي لم أقصد هذا الموضوع هنا من قبل. وكما تلاحظون فقد جري هذا الكلام دليلاً علی تعامل المنصور الدوانيقيّ مع الإمام جعفر الصادق علیه السلام. وقد ذكر ابتداءً كدليل علی ذلك. بَيدَ أنّ روح الإمام القدسيّة ونفسه الملكوتيّة ـ وحياته وموته سواء ـ قد أفاضت علی قلمي الحسير سلام الله وسلام ملائكته المقرّبين علیه وعلی آبائه وأبنائه أجمعين.
|
|
|