|
|
الصفحة السابقةالدرس الحادي والاربعون بعد المائتين إلی الخامس والخمسين بعد المائتين:مدرسة الإمام الصادق عليه السلام العلميّة مصدر إشعاع دائم علی المعمورة
بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ وصلّي الله علی محمّد وآله الطّاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلی العظيم
الكلمة الطيّبة هي حقيقة الولايةقال الله الحكيم في كتابه الكريم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبُ اللَهُ مَثَلاً كَلِمَـ'ةٌ طَيِّبَةً كَشَجِرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ * تُؤْتِي´ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَهُ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. [1] قال سماحة أُستاذنا الاعظم آية الله العلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ تغمّده الله أعلی درجات جنانه في تفسيره المبارك: والذي يعطيه التدبّر في الآيات أنّ المراد بالكلمة الطيّبة التي شُبِّهت بشجرة طيّبة من صفتها كذا وكذا هو الاعتقاد الحقّ الثابت، فإنّه تعإلی يقول بعد وهو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل: يُثَبِّتْ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الاْخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَهُ الظَّـ'لِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَهُ مَا يَشَآءُ. [2] والقول هو الكلمة ولا كلّ كلمة بما هي لفظ، بل بما هي معتمدة علی اعتقاد وعزم يستقيم عليه الإنسان ولايزيغ عنه عملاً. وقد تعرّض تعإلی لما يقرب من هذا المعني في مواضع من كلامه كقوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَهُ ثُمَّ اسْتَقَـ'مُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. [3] وقوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَهُ ثُمَّ اسْتَقَـ'مُوا تَتَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَـ'ئِكَةُ وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ. [4] وقوله إلیهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـ'لِحُ يَرْفَعُهُ. [5] وهذا القول والكلمة الطيّبة هو الذي يرتّب تعإلی عليه تثبيته في الدنيا والآخرة أهله، وهم الذين آمنوا. ثمّ يقابله بإضلال الظالمين ويقابله بوجه آخر بشأن المشركين. وبهذا يظهر أنّ المراد بالممثّل هو كلمة التوحيد وشهادة أَن لآ إِلَـ'هَ إِلاَّ اللَهُ حقّ شهادته. فالقول بالوحدانيّة والاستقامة عليه هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغيّر وزوال وبطلان، وهو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق. وله فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقّه فرعيّة وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيي بها المؤمن حياته الطيّبة ويعمر بها العالم الإنسانيّ حقّ عمارته. وهي التي تلائم سير النظام الكونيّ الذي أدّي إلی ظهور الإنسان بوجوده المفطور علی الاعتقاد الحقّ والعمل الصالح. والكُمَّل من المؤمنين وهم الذين قالوا: ربّنا الله ثمّ استقاموا فتحقّقوا بهذا القول الثابت والكلمة الطيّبة مثلهم كمثل قولهم الذي ثبتوا لا يزال الناس منتفعين بخيرات وجودهم ومنعمّين ببركاتهم. وكذلك كلّ كلمة حقّة وكلّ عمل صالح مثله هذا المثل، له أصل ثابت وفروع رشيدة وثمرات طيّبة مفيدة نافعة. فالمثل المذكور في الآية يجري في الجميع كما يؤيّده التعبير بكلمة طيّبة بلفظ النكرة، غير أنّ المراد في الآية علی ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرّع عليه سائر الاعتقادات الحقّة، وينمو عليه الاخلاق الزاكية وتنشأ منه الاعمال الصالحة. ثمّ ختم الله سبحانه الآية بقوله: وَيَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذكَّرُونَ، ليتذكّر به المتذكّر أن لا محيص لمريد السعادة عن التحقّق بكلمة التوحيد والاستقامة عليها. [6] وقال سماحة العلاّمة فيما قاله في البحث الروائيّ: وفي « الكافي » بإسناده عن عمرو بن حريث قال: سألتُ أبا عبدالله ( الإمام الصادق ) عليه السلام عن قول الله: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ، قال: فَقَالَ: رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَصْلُهَا، وَأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ فَرْعُهَا، وَالائمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِهمَا أَغْصَانُهَا، وَعِلْمُ الائمَّةِ ثَمَرَتُهَا، وَشِيعَتُهُمْ المُؤْمِنُونَ وَرَقُهَا. هَلْ فِي هَذَا فَضْلٌ؟! قَالَ: قُلْتُ: لاَ وَاللَهِ! قَالَ: وَاللَهِ إنَّ المُؤْمِنَ لَيُولَدُ فَتوُرَقُ وَرَقَةٌ فِيهَا، وَإنَّ المُؤْمِنَ لَيَمُوتُ فَتَسْقُطُ وَرَقَةٌ مِنْهَا. قال سماحة العلاّتمة: أقول: والرواية مبنيّة علی كون المراد بالكلمة الطيّبة هو النبيّ صلّي الله عليه وآله، وقد أُطلقت الكلمة في كلامه علی الإنسان كقوله: بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ. [7] ومع ذلك فالرواية من باب التطبيق ( لا من باب تعيين مورد خاصّ ). ومن الدليل عليه اختلاف الروايات في كيفيّة التطبيق. ففي بعضها أنّ الاصل رسول الله صلّي الله عليه وآله والفرع عليّ عليه السلام والاغصان الائمّة عليهم السلام، والثمرة علمهم، والورق الشيعة، كما في هذه الرواية. وفي بعضها: إنَّ الشَّجَرَةَ رَسُولُ اللَهِ، وَفَرْعَهَا عَلِيٌّ، والغُصْنَ فَاطِمَةُ، وَثَمَرَهَا أَوَلاَدُهَا، وَوَرَقَهَا شِيعَتُنَا، كما فيما رواه الصدوق عن جابر، عن أبي جعفر ( الإمام الباقر ) عليه السلام. وفي بعضها: إنَّ النَّبِّيَّ وَالائمَّةَ هُمُ الاَصْلُ الثَّابِتُ، وَالفَرْعَ الوَلاَيَةُ لِمَنْ دَخَلَ فِيهَا، كما في « الكافي » بإسناده عن محمّد الحلبيّ، عن أبي عبدالله عليه السلام. وفي « مجمع البيان » روي أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام إنَّ هَذَا ـ يعني قوله: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ... إلی آخره، مثل بني أُميّة. وفي « تفسير العيّاشيّ » عن عبدالرحمن بن سالم الاشلّ، عن أبيه، عن أبي عبدالله عليه السلام: ضَرَبَ اللَهُ مَثَلاً كَلَمِةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ـ الآيتين، قال: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَهُ لاِهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَلِمَنْ عَادَاهُمْ هُوَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوقِ الاَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ. ردّ العلاّمة الطباطبائيّ علی الآلوسيّ في الدفاع عن بني أُميّةقال سماحة العلاّمة هنا: أَقُولُ: قال الآلوسيّ في تفسير « روحالمعاني» ما لفظه: وروي الإماميّة ـ وأنت تعرف حالهم ـ عن أبي جعفر رضي الله عنه تفسيرها ـ يعني الشجرة الخبيثة ـ ببني أُميّة، وتفسير الشجرة الطيّبة برسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم وعليّ كرّم الله وجهه وفاطمة رضي الله عنها وما تولّد منهما. وفي بعض روايات أهل السنّة ما يعكر علی تفسير الشجرة الخبيثة ببني أُميّة، فقد أخرج ابن مردويه عن عديّ بن حاتم قال: قال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: إنَّ اللَهَ تَعَإلی قَلَّبَ العِبَادَ ظَهْراً وَبَطْناً، فَكَانَ خَيْرُ عِبَادِهِ العَرَبَ، وَقَلَّبَ العَرَبَ ظَهْراً وَبَطْناً فَكَانَ خَيْرُ العَرَبِ قُرَيشاً، وَهِيَ الشَّجَرَةُ المُبَاركَةُ الَّتي قَالَ اللَهُ تَعَإلی فِي كِتَابِهِ: «مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ». لاِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ» ـ انتهي. موضع الحاجة. وهو عجيب، فإنّ كون أُمّة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جيمع الشعب المنشعبة منها كذلك. فالرواية علی تقدير تسليمها لا تدلّ إلاّ علی أنّ قريشاً شجرة مباركة. وأمّا أنّ جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيّبة كبني عبدالدار مثلاً، أو كون كلّ فرد منهم كذلك كأبي جهل وأبي لهب فلا قطعاً. فأيّ ملازمة بين كون شجرة بحسب أصلها مباركة طيّبة، وبين كون بعض فروعها التي انفصلت منها ونمت نماءً فاسداً، مباركة طيّبة؟! وقد روي ابن مردويه هذا عن عائشة أ نّها قالت لمروان بن الحكم: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَقُولُ لاِبِيكَ وَجَدِّكَ: إنَّكُمُ الشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ فِي القُرْآنِ! وروي أصحاب التفاسير كالطبريّ وغيره عن سهل بن سعد، وعبدالله بن عمر، ويعلی بن مرّة، والحسين بن عليّ، وسعيد بن المسيِّب أ نّهم الذين نزل فيهم قوله تعإلی: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَـ'كَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ ـ [8] الآية، ولفظ سعد: رأي رسول الله صلّي الله عليه وآله بني فلان ينزون علی منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكاً حتّي مات، وأنزل الله: وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا ـ الآية. وستأتي الرواية عن عمرو بن عليّ في تفسير قوله: «الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا» [9] إنَّهذمُ الافْجَرَانِ مِن قُرَيشٍ: بَنُو المُغِيرَةَ وَبَنُو أُمَيَّةِ. [10] أجل، يتبيّن ممّا ذكرناه ما يأتي: أوّلاً: لاتنحصر كلمات الله تعإلی بالكلمات اللفظيّة، بل إنّ جميع الموجودات الكونيّة هي كلماته. إذ إنّ الكلمة تعني ما يُعْرِبْ عن الضمير. فكافّة المخلوقات في عالم التكوين لمّا كانت مرتبطة بالله سبحانه ومنوطة به ـ بل هي عين الارتباط والإناطة ـ فهي تعبّر بوجود اتهاعن جماله وجلاله. وكلّها مَعْلَم كاشف عن حقيقة الوجود. ويُعَدُّ كُلٌّ منها بقدر سعته الوجوديّة آيةً ومرآة وكلمة من كلماته. ثاثياً: تنقسم كلمات الله التكوينيّة إلی قسمين هما: الكلمات الحسنة الطيّبة، والكلمات السيّئة الخبيثة. فالموجودات الشريفة في العالم هي كلماته الطيّبة. أمّا الموجودات الضارّة المفسدة، فهي كلماته الخبيثة. ثالثاً: أنّ أسمي الكلمات اللفظيّة الطيّبة هي الشهادة بحقّ التوحيد، وحقيقة لآ إلَـ'هَ إِلاَّ اللَهُ. وأنّ أدني الكلمات اللفظيّة الخبيثة وأشدّها هي إظهار الكفر والشِّرك بالمعبود، وإنكار الحقائق في عالم الوجود. وأنّ أسمي الكلمات التكوينيّة الطيّبة وأرفعها هي حقيقة وجود ولاية الإنسان وعروجه إلی درجات القرب، واشتماله علی الاسماء والصفات الإلهيّة، والاندكاك والفناء في الذات الاحديّة. وذلك أرقي مقام الإمكان. ووصول الممكن إلی هذا المكان هو أحلي ثمار شجرة الوجود وألذّها. وهو عبارة عن مقام الإنسان الكامل، وحقيقة وسرّ الانبياء العظام، والاولياء الكرام، والذوات المقدّسة للائمّة المعصومين عليهم أفضل التحيّة والسلام. وأنّ أخبث الكلمات التكوينيّة الخبيثة هي حقيقة نهج الإنسان الناكب عن صراط الحقّ وسلوكه وأخلاقه وعقائده، فقد أفسد ثمرة الشجرة، وأضاع منهجه، وألقي نفسه في حضيض الهوي، فأصبح بذلك كائناً نتناً. والعيّنة الماثلة لهذا الضرب من البشر هم الملحدون والمعاندون والمنافقون الذين لايصنعون إلی القول السديد الصائب، ويمضون أعمارهم في لجاجة أنفسهم وعُتوّ أفكارهم. حقيقة الكلمة التكوينيّة الطيّبة وجود سرّ الإنسان الكاملرابعاً: حقّ الكلمة الطيّبة وجود الإنسان المون المتّصل بالله ومعناه وسرّه. والعقائد الحسنة والصفات الحميدة والاخلاق والاعمال الرغيبة هي كلمات طيّبة أيضاً، وهي من آثاره الوجوديّة. ومن منظارٍ ما، يمكن أن نسّميها كلّها كلمات طيّبات إجمالاً. وعلی العكس فإنّ حقّ الكلمة الخبيثة وجود الإنسان الكافر الجاحد المنافق العنود ومعناه وسرّه. والعقائد السيّئة والصفات الذميمة والاخلاق والاعمال غير الرغيبة هي أيضاً كلمات خبيثة من آثاره. ومن منظور ما، جاز لنا أن نطلق عليها جميعاً كلمات خبيثات. هذه رموز وإشارات يتسنّي لنا أن نستنتجها من مدلول الآية المباركة، ونستفيد منها. ونلحظ في نظرة أُخري أنّ هذه الموجودات الذاتيّة والكلمات الإلهيّة قد عُبِّرَ عنها بالكتاب. وكأنّ العوالم بأسرها هي كتاب الحقّ المتعال الذي كتبه بيد القدرة والعظمة. ونجد هذا التعبير في مواضع عديدة من القرآن الكريم، إذ أُطلق عنوان الكتاب علی الموجودات التكوينيّة. ومن الطبيعيّ أنّ هناك فرقاً بين التعبير عن الموجودات الإلهيّة بالكلمة، والتعبير عنها بالكتاب. وهو أنّ لكلّ موجود وجهتين: وجهة حقّيّة ووجهة خلقيّة، وبعبارة أُخري، وجهة ربِّيَّة ووجهة عبديّة، وبعبارة مستعاضة، وجهة أمريّة وعالم أمريّة ووجهة عالم خلقيّة، وبكلمة بديلة، وجهة ملكوتيّة ووجهة ملكيّة، وبعبارة أُخري، من جهة صدوره وقيامه بذات المبدأ المتعال، ومن جهة قبوله. فتُطلق الكلمة علی الموجودات التكوينيّة من الجهة الاُولي، ويُطلق الكتاب عليها من الجهة الثانية. لانّ الاوّل من جهة القيام والصدور، أي: مَعْلَم علی المبدأ المتعال بواسطة وجوده، والثاني: القابليّة من جهة الفيض، والكثرة الماهويّة، والبروز والظهور في العالم الخارجيّ. كلام المرحوم الكمبانيّ في الفرق بين الكلمة والكتاب الإلهيّوشرح المرحوم آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهانيّ الغرويّ ذلك في منظومته التي أنشدها في الحكمة والمعقول، فقال: بَيْنَ الكَلاَمِ مِنْهُ وَالكِتَابِ فَرْقٌ لَدَي العَارِفِ بِاللُّبَابِ فَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنَ الكَلاَمِ مِنْ جِهَةِ الصُّدُورِ وَالقِيَامِ وَالكُلُّ مِن حَيْثِيَّةِ القَبُولِ كِتَابُهُ عِنْدَ أُولِي العُقُولِ وَبِاعْتِبَارِ عَالَمِ الاَمْرِ فَقَطْ كَلاَمُهُ فَإنَّهُ بِلاَ وَسَطْ وَعَالَمُ الخَلْقِ كِتَابٌ مَحْضُ وَالجَمْعُ فِي ذِي الجِهَتَيْنِ فَرْضُ وَلِلْكَلاَمِ بِاعْتِبَارِ الجَمْعِ وَالفَرْقِ [11] وَصْفَانِ بِغَيْرِ مَنْعِ فَبِاعْتِبَارِ الجَمْعِ بِالْقُرْآنِ يُدْعَي كَمَا فِي الفَرْقِ بِالفُرْقَانِ وُجُودُهُ الجَمْعِيُّ فِي أَعلی القَلَمْ [12] فِيهِ انْطَوَي كُلُّ العُلُومِ وَالحِكَمْ[13] وُجُودُهُ الفَرْقِيُّ وَالتَّفصِيلي [14] فِي غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ العُقُولِ وَإنَّ فِي دَائِرَةِ الوُجُودِ[15] قَوْسَيْنِ للنُّزُولِ [16] والصُّعُودِ [17] وَبالنَّبِيِّ المُصْطَفَي وَالآلِ قَدْ خُتِمَتْ دَائِرَةُ الكَمَالِ وَأَوَّلُ [18] المَرَاتِبِ العَقْلِيَّة هِيَ [19] الحَقِيَةُ المُحَمَّدِيَّة [20] فَمَا وَعَاهُ قَلْبُهُ مِمَّا وَعَي يَكُونُ قُرْآناً وَفُرْقَاناً مَعَا وَغَيْرُهُ لَيْسَ علی هَذَا النَّمَطْ بَلْ كُلُّ مَا أُوتِيَ فُرْقَانٌ فَقَطْ وَلإخْتِصَاصِهِ بِهِ كَمَا عُلِمْ يَقُولُ: أُوتِيتُ جَوامِعَ الكَلِمْ[21] رسول الله وآله لهم المقام الجمعيّ في أعلی القلمتبيّن ممّا قلناه أنّ حقيقة ذات الرسول الاكرم وآله تشتمل علی الكَلِمِ الجَمْعيّ والفَرْقيّ، أي: الوجود الجمعيّ في أعلی القلم، وهناك تنطوي جميع العلوم والحِكَم، وليس لسائر الانبياء والمرسلين هذه المرتبة من الوجود، ولم يبلغوا هذه الدرجة من الكمال، بل إنّ علومهم علوم كلّيّه في عالم الفرق، حيث أصاب كلٌّ منهم حظّاً من تلك العلوم تبعاً لاختلاف مراتبهم ودرجاتهم. [22] وفي ضوء ما قال محيي الدين بن عربي فإنّ مقام الرسول الاكرم نُقْطَةُ الوَحْدَةِ بَيْنَ قُوْسَيالاَحَدِيَّةِ وَالواحِدَيَّةِ، ونلحظ ذلك في كلامه الآتي: اللهُمَّ أَفِضْ صِلَةَ صَلَوَاتِكَ وَسَلاَمَةَ تَسْلِيمَاتِكَ علی أَوَّلِ التَّعَيُّنَاتِ المُفَاضَةِ مِنَ العَمَاءِ الرَّبَّانِيِّ، وَآخِرِ التَّنَزُّلاَتِ المُضَافَةِ إلی النَّوعِ الإنسانيِّ، المُهَاجِرِ مِنْ مَكَّةَ ـ كَانَ اللَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيءٌ ـ ثَانِي إلی المَدِينَةِ وَهُوَالآنَ علی مَا كَانَ ـ. مُحْصِي عَوَالِمِ الحَضَرَاتِ الخَمْسِ فِي وُجُودِهِ، «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَـ'هُ فِي´ إِمَامٍ مُّبِينٍ». [23] رَاحِمِ سَائِلِ اسْتِعْدَادَتِهَا بِنَدَي جُودِهِ، «وَمَا أَرْسَلْنَـ'كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّـِلْعَـ'لَمِينَ». [24] سِرُّ الهُوِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي كُلِّ شَيْءٍ سَارِيَةٌ وَعَنْ كُلِّ شَيءٍ مُجَرَّدَةٌ. كَلِمَةُ الإسْمِ الاَعْظَمِ الجَامِعِ بَيْنَ العُبُودِيَةِّ وَالرُّبُوبِيَّةِ. نُقْطَةُ الوَحْدَةِ بَيْنَ قَوْسَي الاَحَدِيَّةِ وَالوَاحِدَيَّةِ. [25] الجامعة لمقام التجرّد من الهويّات، والشاملة لجميع الهويّات. أجل، يستفاد من مجموع ما أوردناه أنّ رسول الله والائمّة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام هم أعظم الاسماء الإلهيّة، وهم أُولو مقام جمع الجمع الحائزون علی التجرّد والانتشاء في الكثرة، والجهة الامريّة والخلقيّة. ولمّا كانوا ـ حسب افرض ـ أوّل الاسم المشتقّ النازل من مرتبة الذات فلابدّ أن تكون لهم هذه الخصائص، علی عكس سائر الانبياء والمرسلين المستمتعين بجانب التفصيل وعالم الفرق ونشأة التعيّن فحسب. الرسول الاكرم وأهل البيت كلّهم هم الكلمة الإلهيّة الطيّبة وكتاب تكوين الحقّ. وكلماتهم وعلومهم المترشّحة منهم هي الكلمات اللفظيّة الطيّبة، ووجودهم وحقيقتهم هما الكلمات الكونيّة الطيّبة. ومن جهة عنوان القبول، هم الكتاب الإلهيّ المبارك. كلامهم هو الكتاب اللفظيّ، ووجودهم هو الكتاب الكوفيّ. وهو ذلك الكتاب العظيم الخطير الشامل لجموع الجمع والفرق، أي: القرآن والفرقان الإلهيّ. إنّهم أصحاب قرآن بنحو الجمع أُعطوه في لحظة واحدة ولية واحة، وأصحاب فرقان أيضاً نزل خلال ثلاث وعشرين سنة تدريجيّاً. وفي هذا القرآن والفرقان الكتابين العظيمين المشتملين علی مجمل الحقّ سبحانه وتفصيله نلحظ عنوان اللفظ ووجود المدخليّة. فهم بعلومهم حائزون علی القرآن العلميّ من حيث المَلَكَة وبساطة النفس، وبوجودهم حائزون علی القرآن التكوينيّ من حيث الصورة الذهنيّة. وهم بعلومهم أيضاً حائزون علی الفرقان العلميّ من حيث المَلَكَة وبساطة النفس، وبوجودهم حائزون علی الفرقان التكوينيّ من حيث الصورة الذهنيّة والمثال. أجل، إنّ عندهم كلّ شيء. « آنچه خوبان همه دارند تو تنها داري!» [26] وراثة الإمام الصادق العلوم الكلّيّة عن رسول الله صلّي الله عليه وآلهويتبيّن في هذا الكتاب المبارك، الذي يتناول علوم الائمّة وعلوم شيعتهم ويتعرّض لتقدّمهم في جميع العلوم وتأسيسهم لها، مدي كُنْه المكنونات العلميّة لاُولئك السادة الكرام والموإلی العظام، وهو فوق فكر الإنسان وعقله ودرايته. وقد أُفيض عليهم من أعلی نقطة القلم البسيط وأرفع ذروة العلم البحت. وتحدثّنا أخيراً بإجمال عن علوم الائمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين وتأريخهم. واستعرضنا ذلك بنحو مقتضب اعتباراً من مولي المتّقين وإمام الموحدّين وأميرالمؤمنين حتّي الإمام السجّاد زين العابدين، ومن الإمام محمّد الباقر حتّي الإمام الحسن العسكريّ، والمهديّ قائم آل محمّد عليهم السلام. بَيدَ أ نّه كان مناسباً أن نتوسّع في الحديث عن صادق آل محمّد جعفر بن محمّد عليهم السلام جميعاً، إذ إنّ بحثنا يحوم حول موضوع العلم، مع اعترافنا وإقرارنا بدءاً أ نّنا هيهات أن نقدر علی تصفيد ذلك الوجود الملكوئيّ في قالب هذه العبارات الملكيّة! أو نستطيع أن نحيط بوجوده الامريّ والخلقيّ بأفكارنا! أو ندنو من أقرب نقطة من نقاط تحليقة وعروجه، علی جناح طائر الغيرة العلميّة الطموح! أما تلاحظون أ نّنا وضعنا لهذه الدروس في هذه البحوث الشريفة العنوان الآتي: «المدرسة العلميّة الرفيعة للإمام جعفر الصادق عليه السلام مصدر إشعاع دائم علی ربوع المعورة»؟ ولكن هل بمقدور هذا العنوان أن يعطي الإمام حقّه كما ينبغي؟! وهل نستيطع وحدنا أن نضطلع بهذه المهمّة في هذه البحوث؟! هَيْهَات! هَيْهَات! هل يمكننا أن نقول: إنّ علوم الإمام الصادق عليه السلام كانت أكثر من علوم سائر الائمّة؟! أبداً، وحاشا، وكلاّ. ولكن لمّا كانت الظروف الزمنيّة والإمكانات الكثيرة المتاحة تستلزم أن يُظهر الإمام علومه، لهذا كانت علومه أكثر من غيره. عمر الإمام الصادق الطويل أحد البواعث علی ظهور علومهأولاً: أحد العوامل المهمّة طول عمر الإمام عليه السلام، إذ كان عمره ثماني وستّين سنةً. [27] فقد ولد عليه السلام سنة 80 ه، [28] وتوفّي بالمدينة سنة 148 ه بسمّ المنصور الدوانيقيّ. وهذا العمر المبارك يتيح الفرصة للإمام عليه السلام أكثر حتّي يُدرّس ويُعلِّم علومه الباطنيّة. وكانت له مجالس درس وتعليم في المدينة المنوّرة خلال ثلاثين سنة تامّة. ومن الواضح أنّ الفترة التي درّس فيها الإمام عليه السلام وتعلّم خلالها الناس كانت فترة طويلة. وأنت خبير بأنّ الإمام عليه السلام لو لم يُستَشهد في ذلك العمر، وعمرّ ثلاثين سنة أو تسعين أو أكثر. وواصل نهجه في التفسير والحديث والعلوم الغريبة والاسرار الكونيّة والاحكام والسياسات والمعاملات والتأريخ والاخلاق والعرفان وغيرها، فماذا كان سيحدث في العالَم؟! وكم كنّا نرفل في علوم جمّة قد حُرمنا منها بسب اخترام عمره الشريف! إنّ العلوم التي وصلت إلینا من الإمام محمّد الجواد عليه السلام قد انتهت بوفاته وهو في الخامسة والعشرين من العمر. فقد وُلد عليه السلام سنة 195 ه، واستُشهد بسمّ المعتصم سنة 220 ه. فهل يتسنّي له خلال هذا العمر القصير أن يدرّس الناسَ العلوم التي درّسها الإمام الصادق عليه السلام في غضون ثلاثين سنة أمضاها في التدريس فحسب؟! كما أنّ العلوم التي وصلت إلینا من الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام قد انتهت بوفاته عليه السلام وهو في الثامنة أو التاسعة والعشرين من العمر. فقد ولد سنة 231 أو 232، واستشهد بسمّ المعتمد العبّاسيّ سنة 260 ه. فهل كان بمقدوره أن يعلّم ويدرّس خلال 28 أو 29 سنة عاشها من العمر ماتمّ تعليمه وتدريسه خلال 68 سنة؟! وكذلك فإنّ العلوم التي وصلت إلینا من الإمام عليّ الهاديّ عليه السلام قد انتهت بوفاته وهو في الاربعين أو الثانية والاربعين من العمر. فقد وُلد عليه السلام سنة 212 أو 214، واستُشهد بسمّ المعتزّ العبّاسيّ سنة 254 ه. فهل تفي 40 أو 42 سنة بعمل 68 سنة؟! كما أنّ العلوم التي وصلت إلینا من الإمام الرضا عليه السلام قد انتهت بوفاته وهو في الخمسين أو الخامسة والخمسين من العمر. فقد وُلد عليه السلام سنة 148 أو سنة 153، واستشهد بسمّ المأمون العبّاسيّ سنة 203 ه. وكذلك كان عمر الإمام محمّد الباقر عليه السلام 57 سنة، أو 60 سنة؛ وعمر الإمام زين العابدين عليه السلام 57 سنة؛ وعمر الإمام الحسن المجتبي عليه السلام 48 سنة؛ وعمر الإمام الحسين عليه السلام 57 سنة. وأطولهم عمراً ماعدا الإمام الصادق عليه السلام ـ هو النبيّ الاكرم وأميرالمؤمنين عليهما الصلاة والسلام، إذ عمرّ كلٌّ منهما 63 سنة. يضاف إلی طول عمر الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنّ في السنين الاخيرة منه خاصّيّة غير موجودة في السنين الاُولي أو الواسطي منه. وهي أنّ السنين الاخيرة من عمر كلّ عالم محقّق متتبّع أكثر قيمة من السنين الاُولي، كما أ نّها أكثر ثماراً من حيث القدرة علی العمل وقيمته. ذلك أ نّها سنون العطاء والمثر ورجوع الناس إلیه واستفادتهم منه. وكلّ عالم خبير بصير قد صنّف كتبه في أواخر عمره، لا في أوائله ولا في أواسطه. وإذا عمّر الكتّاب والمتتبّعون، فإنّ، فإنّ دائرة كتاباتهم تتّسع، وحجم تإلیفاتهم يزداد، ونطاق تربيتهم للطّلاب يكبر ويتسامي. مثلاً كان المجلسيّ والسيّد هاشم بن سليمان البحرانيّ والسيّد ابن طاووس من المعمّرين، لذلك كانت كتاباتهم كثيرة. أمّا الشريف الرضيّ فلم يترك آثاراً جمّة تلك العلوم الواسعة، ولو كان قد عمّر كثيراً لبلغت آثاره آثار أخيه الشريف المرتضي. وقد تربّع الإمام جعفر الصادق عليه السلام علی كرسيّ التدريس والتعليم ثلاثين سنةً. أي: منذ الثامنة والثلاثين حتّي الثامنة والستين من عمره. وفي تلك الفترة بالذات كان الناس يأتون من شتّي الآفاق البعيدة، ويحطّون رِحالهم في المدينة للتزوّد من دروس الإمام عليه السلام، فذاع صيته. وماهي إلاّ السنون الاخيرة المباركة من العمر حيث تؤتي الشجرة المثمرة أُكلها. وثانياً: كانت حرّيّة القلم والتعبير عن الرأي، وعدم التقيّة النسبيّة من العوامل المهمّة التي تركت بصماتها علی تعإلیم الإمام عليه السلام. أمّا في عصور الائمّة الذين سبقوه أو جاؤوا بعده فقد كانت الحكومات متشدّدة إلی درجة أ نّها صادرت كلّ ضرب من ضروب الحرّيّة. حتّي نلحظ في عصر الإمام محمّد الباقر عليه السلام وجود ضغوط شديدة أيضاً، ولم يبلغ الاب مع بسطته ما بلغه الابن في اتّساع نطاق التعليم. أسباب تسمية التشيّع بالمذهب الجعفريّوكان الشيعة في أغلب أوقات إمامة الصادق عليه السلام يتمتّعون بحرّيّة أكثر نسبيّاً في نقل الحديث وسائر العلوم. ويعود هذا إلی سبين: الاوّل: ضعف الحكومات المروانيّة التي أشغلها التناحر فيما بينها في مناطق شتّي، فلم تجد فرصة كبيرة للتضييق علی القطب الوحيد المناوي لها، وهم الشيعة. الثاني: اشتباكات العبّاسيّين مع الامويّين، والحروب الطويلة التي دارت بينهما، وانتصارهم عليهم، ثمّ انشغالهم بتوطيد دعائم حكومتهم في نقاط مختلفة من العالم الإسلاميّ. لهذا لم يجدوا مجالاً للاشتباك مع العلويّين والشيعة الإماميّة. وهذان السببان هما اللذان ساعدا الإمام الصادق عليه السلام علی بثّ العلوم المختلفة غير المنشورة وشرحها وتفسيرها وتأويلها ببالٍ رخيّ، وعلی إتحاف تلاميذه وغيرهم بمطالب بسيطة ومجرّدة، وإغناء طلاّب العلم وأُولي الفهم والكياسة والدراية بُدرَرٍ ثمينة نفيسة يتيمد لم يظفر بها أحد. من هنا قال البعض: هذا هو الذي أفضي إلی تمذهب الشيعة بالمذهب الجعفريّ وتسميتهم بهذا الاسم، إذا استطاع الإمام عليه السلام خلال برهة من الزمن أن يبيّن روايات جمّة، ولهذا سمّي المذهب بالمذهب الجَعْفَرِيّ. ويظهر من التأمّل أنّ هذا الوجه لا ينبغي أن يكون صحيحاً، لانّ كثرة الروايات لا تخصّص المذهب. فقد نُقلت عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام روايات كثيرة، فلم يعرف المذهب الشيعيّ بالمذهب الباقريّ. وقال بعض آخر: لمّا أُسيت دعائم المذهب الإماميّ الاثني عشريّ في عصر الإمام، ونبغ المتكلّمون في الولاية وإمامة الائمّة الاثني عشر المعصومين يومئذٍ، ووطّد عليه السلام قواعد الولاية وأُسسها، لذا عُرف المذهب بالمذهب الجعفريّ. وهذا غير سديدٍ أيضاً، إذ إنّ أُصول الولاية حسب الروايات مذكورة في كلّ عصر، ومفصّلة في الروايات. وتفصيلها الاكثر في أيّام الإمام عليه السلام لا يستلزم التسمية بالمذهب الجعفريّ. وتوضيح ذلك: أنّ مذهب اسم مكان ومعناه محلّ الذهاب. تقول العرب: المَذْهَبُ إلی المَاءِ وَإلی الكِلاَءِ. والمَذْهَبُ إلی شَرِيعَةِ الشَّطِّ. ولمّا كان طريق الوصول إلی الدين الإسلاميّ ذا مسالك مختلفة، وكان كلُّ عالم من علماء العامّة قد تلمّس طريقاً معيّناً نحو الدين كالمذهب الحنفيّ، والمذهب المالكيّ، والمذاهب الحنبليّ، والمذهب الشافعيّ، فإنّ الطريق الذي اختاره الإمام الصادق عليه السلام نحو ذلك الدين القويم عُرف بالمذهب الجعفريّ. ولم يكن الدين ذا مذاهب مختلفة في عصر الرسول الاكرم صلّي الله عليه وآله. فالجميع كانوا ينهجون نهج رسول الله صلّي الله عليه وآله ويتبعونه ويكتفون بظاهر الاحكام. وكانت شريحة خاصّة من المسلمين تعرف بالشيعة وتتحرّك في طريق مولي الموحّدين أميرالمؤمنين عليه السلام عملاً بأمر رسول الله صلّي الله عليه وآله. وكان هولاء، واعين لروح الولاية، واقفين سرّ النبوّة، مطّلعين علی حقائق الاحكام الإسلاميّة وأسرارها ورموزها ومعاينها مضافاً إلی اطلاّعهم علی ظاهرها. وكانوا عاملين بالسنّة النبويّة الشريفة، حيث أوجب رسول الله صلّي الله عليه وآله اتّباع أميرالمؤمنين عليه السلام، وأخبرهم أ نّه وصيّه وخليفته. تعبّد الناس بفقه العامّة حتّي عصر الإمام الصادق عليه السلاموبعد وفاته صلّي الله عليه وآله، ودوران الخلافة حول محور آخر، وعزل أميرالمؤمنين عليه السلام، وتربّع القوم علی أريكة الحكم، وهم لم يعرفوا إلاّ ظاهر الاحكام، ولم يدركوا من الإمامة والخلافة إلاّ الرئاسة والتقدّم الظاهريّ والإمارة، اتّخذ الدين طابع القوانين والاُصول الظاهريّة المتّسمة بسماتهم، وسار معظم الناس علی ذلك النهج حسب قاعدة النَّاسُ علی دِينِ مُلُوكِهِمْ. أمّا الاُصول والاُسس الظاهريّة والباطنيّة فكانت لاميرالمؤمنين عليه السلام. وأتباعه الذين عُرفوا بشيعته كسلمان الفارسيّ، وأبي ذرّ الغفاريّ، وعمّار بن ياسر، والمقداد بن الاسود، وحذيفة بن إلیمان وغيرهم. وقد كانوا شيعته حقّاً، وكانوا يسيرون سيرته في الاحكام والتفسير والقرآن والمشورة في مهامّ الاُمور. ومع أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام تنازل عن حقّه حفاظاً علی كيان الإسلام،إلاّأنّه كان يُنير الطريق للطرف المخالف، ويغيثهم في علاج مشاكلهم العلميّة والفقهيّة. وكان يحضر في صلاتهم رغبة منه في عدم شقّ عصا المسلمين. وخلاصة الامر أ نّه كان يماشيهم في أُمورهم برمّتها. وكان الحجّ، والجهاد، والصلاة، والزكاة، وسائر الاُمور تُمارس حسب مايريده الخليفة المتحكّم، وهو الذي يصدر الاوامر وله الفتيا والرأي الاخير. وهو وأمثاله لم يعلموا بجيمع المسائل وخصوصيّاتها. وكم أخطأوا! كم غيّروا وبدّلوا في موضوعات مختلفة حسب مشتهياتهم. ولميعدّوا خلاف العمل بظاهر القرآن منكراً، وكانوا يعملون خلاف السنّة النبويّة، ويجتهدون في مقابل النصّ صريحاً علی رؤوس الاشهاد. ويثبّتون هذه الضروب من الخلاف ويُبقونها بوصفها رأي الخليفة والإمام. ولهذا لوحظ رأي الخليفة وقد حلّ محلّ القرآن وتعإلیم النبيّ ووصيّته وسنّته ومنهاجه. وكان جميع الناس يهملون العمل بالقرآن والسنّة في مواطن التَّرك هذه، ويعملون وفقاً للاوامر الصادرة المقضيّة من مقام الخلافة ( الخلافة الجائرة القاهرة الغاصبة المزيّفة ). إنّ حروب الخلفاء والغنائم والاموال الطائلة التي كانوا يأتون بها، وشوكة الحكم، وأُبّهة الإمارة، وقعقعة السيوف والاسلحة، ونظائر الرماح والاسنّة، وهمهمة الغُزاة، وحمحمة الخيول، وإثارة الغبار باهتزاز أعلام الاُمراء، ورايات القادة، كلّ ذلك قد أعمي الابصار، وأصمّ الاسماع، وأدهش العقول وسلبها القدرة علی التعقّل والإدراك، وصادر منها التفكير والتدبير. ومَن يأتي فيقايس أمر الخلاف الصادر من السلطان مالك الرقاب، بالقرآن أو بالسنّة النبويّة؟! أو ـ في الاقلّ ـ يقدّم احتمالاً ضعيفاً في بطلانه، ويري ويسمع ويفكّر ويشهد الخلاف بعين بصيرته؟ ويَدَع الخلاف، ويتحرّك حسب الحقّ وقول الحقّ وأمر الحقّ وسنّته ومنهاجه ومنهجه؟ ومَن يذهب إلی عليٍّ عليه السلام؟ ومن يبحث عن ذلك الرجل المهيض الجناح، المعتزل في منزله، الحامل معوله ومسحاته، زارع النخل وساقيه؟ ومن يسمع كلامه الذي هو حقّ وعين الحقّ، بل يدور الحقّ حيثما كانت حقّانيّة عليٍّ؟ ومَن يسترضيه ويستميله؟ ومن يقدّم رأيه الحصيف السديد علی هذه الكبكبة والدبدبة؟ ويسمعه يقول: كلّ كلام عدا كلام الله ورسوله باطل، وكلّ أمر صادر من أيّ جهة باطل مرفوض إذا لم يتطابق مع آية من آيات القرآن؟ ولم يكن في المدينة غير الاثني عشر الذين جاؤوا إلی المسجد بعد وفاة النبيّ صلّي الله عليه وآله، وتكلّموا وأدانوا أبابكر، [29] وقليل من أتباعهم. لقد جري هذا الامر بهذا النحو. وظهر خلال خمس وعشرين سنة من الحكم الاسود المظلم للخلفاء الثلاثة، أي: خلال ربع قرن. وأَلِفَ الناس تلك الاحكام والمناهج ومردوا عليها إلی درجة أنّ مولي الموإلی الإمام بالحقّ عندما تقلّد الامر وأراد أن ينسف تلك البدع الباطلة التي اخترعها عمر عجز عن ذلك، إذ إنّ عمر كان قد أضفي علی أعماله صبغة دينيّة، وكان الناس يقدّ سونه كالسامريّ، ويعدّون معارضته معارضة للإسلام والنبيّ. ولم يعلم المساكين أنّ هذا المحتال المتلبس بجلد الذئب قد جاء لاقتناص الحمل، وقد اتّخذ الدين وسيلة للتربّع علی أريكة الخلافة والعرش. وأنّ نداءه الذي عليه مسحة الحقّ هو نداء الشيطان ولا تحمل صحيفة دعوته إلاّ عنوان الباطل. ولقد خطب أميرالمؤمنين عليه السلام في أوّل خلافته بالكوفة، وقال كما جاء في خطبة الوسيلة: (لقد عملت الولاة قبلی بامور عظیمة ] بدع عمر[ خالفوا فیها رسول الله صلی الله علیه وآله متعمّدین لذلک؛ ولو حملتُ الناس علی ترکها و حوّلتُهاإلی مواضعها التی کانت علیها علی عهد رسول الله رسول الله صلی الله علیه وآله، لتفرّق عنّی جُندی حتّی أبقی وحدی). وسارت الاُمور علی هذا المنوال حتّي عصر عثمان، ثمّ معاوية ويزيد ومروان والمروانيّين بالشام، حتّي وصل الدور إلی العبّاسيّين. والجميع كانوا علی هذه الوتيرة. وعمل الناس قاطبة بسنّة الخلفاء الاُوَل، حتّي نلحظ أنّ جماعة كانت تري عثمان فاسداً لكنّها تري أنّ الخليفتين قبله كانا علی الحقّ وأوامرهما واجبه التنفيذ إلی يوم القيامة. وكانت تعتقد بذلك وتعمل به. وكان بين جند أميرالمؤمنين عليه السلام مَن يقال لهم جميعاً شيعة عليّ، سواء في الجمل، أم في صفّين، أم في النهروان. ويراد من ذلك أ نّهم كانوا مخالفين لعثمان ـ أي شيعة عليّ في مقابل شيعة عثمان ـ وكان معظمهم يعتقد بخلافة أبي بكر وعمر. ويسير علی سنّتهما. ولم يستطع أميرالمؤمنين عليه السلام أن يعيد الجميع إلی نصاب الحقّ. وعلی هذه الشاكلة كان شيعة الإمام الحسن والإمام الحسين بالكوفة، إذ كانوا يقولون بحقّانيّة عليّ وبطلان عثمان، ويرون عليّاً عليه السلام هو الخليفة الثالث بالحقّ. وهكذا الامر في عصر الإمام السجّاد عليه السلام، حتّي أنّ الفقهاء السبعة في المدينة كانوا يفتون علی فقه السنّة في حين كان اثنان منهم شيعيَّين، وهما سعيد بن المسيِّب، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر. ومع أنّ الحقائق كانت تظهر شيئاً فشيئاً في عصر الإمام محمّد الباقر عليه السلام بسب اتّساع نطاق الرواية والتفسير والحديث والعرفان في مدرسته العلميّة، بَيدَ أنّ الاُمور لم تنكشف فجأة، فيستبين أنّ حقيقة الإسلام والدين والنبوّة والخلافة والإمامة هي شيء آخر لاخلاق للناس منه. ارجاعات [1] ـ الآيتان 24 و 25، من السورة 14: إبراهيم. [2] ـ الآية 27، من السورة 14: إبراهيم. [3] ـ الآية 13، من السورة 46: الاحقاف. [4] ـ الآية 30، من السورة 41: حم السجدة. [5] ـ الآية 10، من السورة 35: فاطر. [6] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 12، ص 49 إلی 51. [7] ـ الآية 45، من السورة 3: آل عمران. [8] ـ الآية 60، من السورة 17: الاءسراء. [9] ـ الآية 28، من السورة 14: إبراهيم. [10] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 12، ص 62 إلی 64. [11] ـ نظير الملكة والعلوم والصور والمعاني النازلة عن المَلَكَة. [12] ـ الذي خلع علی الموجودات لباس الكثرة. [13] ـ وذلك مختصّ بالعقل الكامل. [14] ـ النازل من مقام الجمع والانطواء. [15] ـ من صدور الفيض ونزول الخلقة، ومعاد السير والصعود إلی المبدأ الاوّل. [16] ـ الذي ينزل من الاعلی إلی الاسفل. [17] ـ الذي يرفع من الاسفل إلی الاعلی. [18] ـ ولانّ قوسَي النزول والصعود يجب أن يكملا ليصبحا في هيئة دائرة تامّة يتحقّق فيها الكمال دون أن تبقي ذرّة خلال مسار هذه الدائرة، فينبغي حتماً أن... [19] ـ تكون في قوسي النزول والصعود مسبّبة عن النبيّ وآله الذي اكتملت لديهم دائرة الكمال. [20] ـ حقيقة محمّد وآله. [21] ـ «تحفة الحكيم» (منظومة في الحكمة والمعقول) ص 83 و 84، طبعة النجف الاشرف، سنة 1378. [22] ـ قال محيي الدين بن عربيّ في كتاب «الفتوحات المكّيّة» ج 1، ص 137: في الحديث المرويّ عن رسول الله: إنّ الله يقول: لولاك يا محمّدما خلقتُ سماءً ولا أرضاً ولا جنّة ولا ناراً. وذكر خَلْقَ كلِّ ما سوي الله. وقال في ج 1، ص 144: فقد عَلِمَتْ هذه الاُمّة علم مَن تَقَّدم واختصَّت بعلوم لم تكن للمتقدّمين، ولهذا أشار صلّي الله علیه وآله وسلّم بقوله: «فعلمتُ علم الاوّلين» وهم الذين تقدّموه. ثمّ قال: «والآخرين» وهو ما لم يكن عند المتقدّمين. وهو ما تعلمه أُمَّته من بعده إلی يوم القيامة. فقد أخبر: أنّ عندنا علوماً لم تكن قبلُ. فهذه شهادةٌ من النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم وهو الصادق بذلك. فقد ثبت له صلّي الله علیه وآله وسلّم السيادة في العلم في الدنيا وثبتت له أيضاً السِّيادة في الحكم حيث قال: لو كان موسي حيّاً ما وسعه إلاّ أن يتَّبعني، ويُبَّيِّن ذلك عند نزول عيسي علیه السلام وحكمه فينا بالقرآن فصحَّت له السيادة في الدنيا بكلّ وجهٍ ومعنيً، ثمّ أثبت السيادة له علی سائر الناس يوم القيامة بفتحه باب الشفاعة ولا يكون ذلك لنبيّيوم القيامة إلاّ له صلّي الله علیه وآله ـ انتهي كلام محيي الدين. أقول: نقل العلاّمة الامينيّ رحمه الله روايات في «الغدير» ج 7، ص 38 و 39، في سياق ترجمة الحافظ رجب الرسيّ. حول مفاد: لولا محمّد صلّي الله علیه وآله وسلّم لما خلق الله جنّة ولا ناراً ولا سماءً ولا أرضاً ولا سائر الموجودات. [23] ـ الآية 12، من السورة 36: يس. [24] ـ الآية 107، من السورة 21: الانبياء. [25] ـ في مجموعة من الصلوات الخاصّة لمحيي الدين غير الصلوات المشهورة. وأقتني أصل المجموعة في كُتيّبٍ مخطوط بخطّ النستعلیق (وهو أحد أنواع الخطّ الفارسيّ) في غاية الحُسْن. [26] ـ وتعريبه: «حزتَ وحدك ما حازه الصالحون بأسرهم». [27] ـ جاء في بعض الآثار أنّ عمره كان 63 سنة اعتماداً علی ما ذكره البعض أنّه ولد سنة85.. [28] ـ ذكر صاحب كتاب «مغز متفكّر جهان شيعه» (= العقل المفكّر للعالم الشيعيّ) ص 20 و 21، حول ميلاد الإمام جعفر بن محمّد بن علی الصادق علیهم السلام: أنّ الإمام زين العابدين علیه السلام قال: أُحبّ أن أري حفيدي، ولا أُريد أن تخرجوه من حجرة أُمّه لبرودة الجوّ هذا إلیوم وأخشي أن يصيبه البرد. ثمّ سأل زين العابدين علیه السلام القابلة: هل حفيدي جميل؟ فلم تجرو القابلة أن تقول: هو ضعيف نحيف، وقالت: عيناه الزرقا واان في غاية الحُسن. فقال علیه السلام: تُشبهان عينَي أُمّي رحمها الله. كانت عينا شهربانو ابنة يزدجرد الثالث وأُمّ زين العابدين علیه السلام زرقاوين، فورث جعفر الصادق زرقة العينين من جدّة أبيه حسب قانون مندل. 1 وثمّة رواية تُشعر بأنّ عينَي «كَيهان بانو» أُخت «شهربانو» ـ التي كانت من آل يزدجرد الثالث الذين أُتي بهم من المدائن إلی المدينة سبايا ـ كانتا زرقاوين أيضاً. ولو صحّت هذه الرواية فإنّ جفعراً الصادق ورث زرقة العين من تينك الاميرتين الفارسيّين، إذ إنّ «كيهان بانو» ابنة يزدجرد الثالث كانت جدّة جفعر الصادق أيضاً لكنّها جدّته لاُمّه. وكان علی بن أبي طالب علیه السلام يحمي أسري العائلة الفارسيّة المالِكة بالمدينة، وزوّج ولده الحسين بشهربانو، وزوّج ربيبه محمّد بن أبي بكر، الذي كان يبحّه كثيراً كأولاده، بكيهان بانو. وعندما تقلّد الخلافة، أعلی شأن محمّد بن أبي بكر حتّي ولاّه علی مصر. وقُتل فيها باحتيال معاوية. 2 1 ـ كان يوهان ـ غريغور ـ مندل قسّاً نمساويّاً. ولد سنة 1822 م ومات سنة 1884 م. وهو الذي اكتشف قانون الوراثة، أي: قانون انتقال الصفات من جيل إلی جيل آخر في النباتات والكائنات الحيّة. 2 ـ تحدّث كورت فريشلر الالمانيّ في كتاب «عائشة بعد از پيغمبر» (= عائشة بعد النبيّ) المطبوع علی حِدة، عن قتل محمّد بن أبي بكر وأعضاء أُسرته مفصلاً. وقد لاحظه القرّاء في مجلّة «خواندنيها». [29] ـ تحدّثنا عن هذا الموضوع مفصّلاً في الجزء الثامن من كتابنا هذا، الدرسان 116 و 117.
|
|
|