|
|
تفسير الآية التي تبيّن حرمة النسيءكلام وتفسير «مجمع البيان» و «أبي السعود» في آية النسيءالنسيء [1] مصدر کـالنذير والنكير من نَسَأ الشَيْءَ يَنْسَؤُهُ نَسْأ وَمَنْسَأةَ وَنَسيئاً: إذا أخَّرَهُ تَأخِيراً. يقول الشيخ الطبرسيّ: وكانت العرب تحرم الشهور الاربعة ] رجب، وذي القعدة، وذي الحجّة، ومحرّم [ وذلك ممّا تمسّكت به من ملّة إبراهيم وإسماعيل ] عليهما السلام [ وهم كانوا أصحاب غارات وحروب، فربّما كان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوإلیة لايغزون فيها، فكانوا يؤخّـرون تحريم المحـرّم إلی صفر فيحرّمونه، ويستحلّون المحرّم فيمكثون بذلك زماناً، ثمّ يُأوّل التحريم إلی المحرّم، ولا يفعلون ذلك إلاّ في ذي الحجّة. قال الفرّاء: والذي كان ( يقوم به ) رجل من كَنَانَة يُقال له: نُعَيْمبن ثَعْلَبَة. وكان رئيس الموسم ] في الحجّ [ فيقول: أناالذي لاأُعاب ولاأُخاب ولايردّ لي قضاء! فيقولون: نعم صدقت! أنسئنا شهراً! أو أخّر عنّا حرمة المحرّم! واجعلها في صفر! وأحلّ المحرّم! فيفعل ذلك. والذي كان ينسأها حين جاء الإسلام: جُنَادَة بن عَوْف بن أُمَيَّة الكَنَانِيّ، قال ابن عبّاس: وأوّل من سنّ النسيء: عَمْرُو بْنُ لَحَيبن قُمَعَةبن خِنْدِف. وقال أبو مسلم بن أسلم: بل رجل من بني كنانة، يقال له: القَلَمَّس، كان يقول: إنّي قد نسأت المحرّم العام، وهما العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا فجعلناهما محرّمين. قال شاعرهم: * وَمِنّا نَاسِيُ الشَّهْرِ الْقَلَمَّس * وقال الكُمَيْت: وَنَحْنُ النَّاسِئُونَ علی مُعَدٍّ شُهُورَ الحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَاماً وقال مَجَاهِد: كان المشركين يحجّون في كلّ شهر عامين. فحجّوا في ذي الحجّة عامين، ثمّ في المحرّم عامين، ثمّ حجّوا في صفر عامين. وكذلك في الشهور حتّي وافقت الحجّة التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة. ثمّ حجّ النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم في العام القابل حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجّة، فذلك حين قال النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم وذكر في خطبته: ألاَ وَإنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ؛ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثةٌ مُتَوإلیاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذوالْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرُّ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَي وَشَعْبَانَ. أراد ] صلّي الله عليه وآله وسلّم [ الاشهر الحرم رجعت إلی مواضعها، وعاد الحجّ إلی ذي الحجّة، وبطل النسيء. [2] وقال صاحب « تفسير أبي السُّعُود » بعد ذكره الاشهر الحرم، وخطبة رسولالله في حجّة الوداع، وقوله: إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ. وَإِنَّ الشُّهُورَ اثْنَا عَشَرَ شهراً: والمعني رجعت الاشهر إلی ما كانت عليه من الحلّ والحرمة. وعاد الحجّ إلی ذي الحجّة بعدما كانوا أزالوه عن محلّه ب النسيء الذي أحدثوه في الجاهليّة. وقد وافقت حجّة الوداع ذا الحجّة. وكانت حجّة أبي بكر قبلها في ذي القعدة. [3] ومثل هذا التفسير المذكور في « مجمع البيان » وتفسير « أبيالسُّعود » يلاحظ في أغلب التفاسير؛ وخلاصة ما نستنتجه هو أنّ تغييرين كانا يحصلان عند عرب الجاهليّة: الاوّل: تغيير الاشهر الحرم بتحويلها من وقت لآخر، كما في تحويل المحرّم إلی شهر صفر؛ والثاني: تغيير في الحجّ، يرفع الحجّ به من ذي الحجّة فيقع في شهور أُخر، يدور فيها، حتّي يعود ثانية إلی محلّه الاصليّ. ويطلق علی هذين التأخيرين: النَّسِيء. الروايات الواردة في تفسير النسيء بتأخير الاشهر الحرموالشاهد علی التغيير الاوّل، أي تغيير حرمة الاشهر الحرم إلی شهور أُخري أحاديث وروايات متنوّعة: فقد جاء في تفسير «الدرّ المنثور» قوله: أخرج ابن أبي حاتم، وأبوالشيخ عن ابن عمر، قال: وَقَفَ رَسُولُ اللَهَ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ، فَقَالَ: إنَّ النَّسيءَ مِنَ الشَّيْطَانِ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهَ عَامًا؛ وَيُحَرِّمُونَ صَفَرَ عَامًا وَيَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ النَّسِيءُ. [4] وذكر أيضاً في « الدرّ المنثور » أنّ ابن جرير، وابن منذر، وابنأبي حاتم، وابن مردويه أخرجوا عن ابن عبّاس أنـّه قال: كَانَ جَنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ الْكِنَانِيُّ يُوفِي الْمَوْسِمَ كُلَّ عَامٍ، وَكَانَ يُكَنَّي أَبَا ثُمَادَةً، فَيُنَادِي: ألاَ إنَّ أَبَاثُمَادَةَ لاَ يَخَافُ وَلاَ يُعَابُ؛ ألاَ إن صَفَرَ الاْوّلَ حَلاَلٌ. [5] وَكَانَ طَوائِفُ مِنَ الْعَرَبِ إذَا أَرَادُوا أَنْ يُغيرُوا علی بَعْضِ عَدُوِّهِمْ أتَوْهُ فَقَالُوا أحِلَّ لَنَا هَذَا الشَّهْرَ ـ يَعْنُونَ: صَفَرَ ـ وَكَانَتِ الْعَرَبُ لاَ تُقَاتِلُ فِي الاْشْهُرِ الْحُرُمِ، فَيُحِلّهُ لَهُمْ عَامًا وَيُحَرِّمُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَامِ الآخَرِ. وَيُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ فِي قَابِلٍ لِيُواطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَهُ، يَقُولُ: لِيَجْعَلُوا الْحُرُمَ أَرْبَعَةً غَيْرَأَنـَّهُمْ جَعَلُوا صَفَرَ عَاماً حَلاَلاً وَعامَاً حَرَاماً. [6] وفيه أيضاً: أخرج ابن منذر عن قتادة في الآية: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ» قال: عَمَدَ أُنَاسٌ مِنْ أهْلِ الضَّلاَلَةِ فَزَادُوا صَفَرَ فِي الاْشْهُرِ الْحُرُمِ. وَكَانَ يَقُومُ قَائِمُهُمْ في الْمَوْسِمِ، فَيَقُولُ: إنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتْ صَفَرَ، فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا: الصَّفَرَانِ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَسَأَ «النَّسِيءَ» بَنُو مَالِكٍ مِنْ كِنَانَةَ، وَكَانُوا ثَلاَثَةً: أَبُوثُمَامَةَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، أَحَدُ بَني فَقِيمِ بْنِ الْحَارِثِ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِيكِنَانَةَ. [7] وفيه أيضاً: أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ في الآية الشريفة، قال: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ: جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ يُكَنَّي أَبَا أُمَامَةَ يُنْسِيُ الشُّهُورَ؛ وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْكُثُوا ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ لاَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ علی بَعْضٍ، فَإذَا أَرَادُوا أَنْ يُغَيِّرَ علی أَحَدِهِمْ قَامَ يَوماً بِمِنَي فَخَطَبَ فَقَالَ: إنِّي قَدْ أَحْلَلْتُ الْمُحَرَّمَ وَحَرَّمْتُ صَفَرَ مَكَانَهُ. فَيُقَاتِلُ النَّاسُ فِي الْمُحَرَّمِ، فَإذَا كَانَ صَفَرُ عَمَدُوا وَوَضَعُوا الاْسِنَّةَ ثُمَّ يَقُومُ فِي قَابِلٍ فَيَقُولُ: إنِّي قَدْ أَحْلَلْتُ صَفَرَ وَحَرَّمْتُ الْمُحَرَّمَ فَيُواطِئُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَيُحِلُّوا الْمُحَرَّمَ. [8] وجاءت فيه روايتان أُخريان بتخريج ابن مردويه، عن ابن عبّاس، وهما تفسّران الآية الشريفة علی نفس النسق. [9] الروايات الواردة في تفسير آية النسيء بدوران الشهوروالشاهد علی التغيير الثاني، أي: تغيير وقت الحجّ من موعده المحدّد إلی موعد آخر، ودورانه في جميع شهور السنة، ليرجع مرّة أُخري إلی ذي الحجّة، فيتمّ بذلك دورته، روايات وأحاديث مأثورة: فقد جاء في « الدرّ المنثور »: أخرج الطبرانيّ، وأبو الشيخ، وابن مردويه،عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: كَانَتِ الْعَرَبُ يُحِلُّونَ عَاماً شَهْراً، وَعَاماً شَهْرَيْنِ، وَلاُ يُصيبُونَ الْحَجَّ إلاَّ فِي كُلِّ سِـتَّةٍ وَعِشْـرِينَ سَنَةً مَرَّةً، وَهُوَ النَّسِيءُ الَّذِي ذَكَرَ اللَهُ تَعَإلی فِي كِتَابِهِ. فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْحَجِّ الاْكْبَرِ ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الاْهِلَّةَ، فَقَالَ رَسُولُاللَهِ صَلَّياللَهُ عَلَيهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدر اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ. [10] وجاء فيه أيضاً: أخرج أحمد بن حنبل، والبخاريّ، ومُسْلم، وأبوداود، وابن منذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقيّ في كتاب « شعب الإيمان» عن أبي بكرة قال: خَطَبَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ في الحَجِّ، فَقَالَ: ألاَ إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوإلیاتٌ: ذُوالْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرُ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَي وَشَعْبَانَ. [11] و ورد فيه أيضاً: أخرج البزّاز، وابن جرير، وابن مردويه عن أبي هريرة بهذا المضمون.[12] وأخرج ابن جرير، وابن منذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عمر. [13] وأخرج ابن منذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عبّاس.[14] وجاء فيه أيضاً: أخرج عبد الرزّاق، وابن منذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مُجَاهِد أنـّه قال في تفسير الآية: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ: فَرَضَ اللَهُ الْحَجَّ في ذِي الْحِجَّةِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمُّونَ الاْشْهُرَ: ذُوالْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَصَفَرُ وَرَبِيعٌ وَرَبِيعٌ وَجُمَادَي وَجُمَادَي وَرَجَبُ وَشَعْبَانُ وَرَمَضَانُ وَشَوَّالُ وَذُوالْقَعْدَةِ وَذُوالْحِجَّةِ ثُمَّ يَحُجُّونَ فِيهِ. ثُمَّ يَسْكُتُونَ عَنِ الْمُحَرَّمِ فَلاَ يَذْكُرُونَهُ، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيُسَمُّونَ صَفَرَ صَفَرَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ رَجَبَ جُمَادَي الآخِرَةَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ شَعْبَانَ رَمَضَانَ، وَرَمَضَانَ شَوَّالَ، وَيُسَمُّونَ ذَاالْقَعْدَةِ شَوَّالَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَاالْحِجَّةِ ذَاالْقَعْدِةِ، ثُمَّ يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ ذَا الْحِجَّةِ، ثُمَّ يَحُجُّونَ فِيهِ وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ ذُو الْحِجَّةِ. ثُمَّ عَادُوا إلی مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَاماً حَتَّي وَافَقَ حِجَّةُ أَبي بَكْرٍ الآخِرَةُ مِنَ الْعَامِ فِي ذِي القَعْدَةِ، ثُمَّ حَجَّ النَبِيُّ صَلَّياللَهُ عَلَيْهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ حِجَّتَهُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا فَوَافَقَ ذُوالْحِجَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْـتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّـمَاوَاتِ وَالاْرْضَ. [15] و [16] ومحصّل هذه الرواية علی ما فيها من التشويش والاضطراب أنّ العرب كانت قبل الإسلام تحجّ البيت في ذي الحجّة، غير أنـّهم أرادوا أن يحجّوا كلّ عام في شهر، فكانوا يدورون بالحجّ الشهور شهراً بعد شهر، وكلّ شهر وصلت إلیه النوبة عامهم ذلك سمّوه ذاالحجّة، وسكتوا عن اسمه الاصليّ. ولازم ذلك: أن تتألّف كلّ سنة فيها حجّة من ثلاثة عشر شهراً وأنيتكرّر اسم بعض الشهور مرّتين أو أزيد كما تشعر به الرواية. ولذا ذكر الطبريّ أنّ العرب كانت تجعل السنة ثلاثة عشر شهراً، وفي رواية: اثني عشر شهراً وخمسة وعشرين يوماً. ولازم ذلك أيضاً: أن تتغيّر أسماء الشهور كلّها، وأن لايواطي اسم الشهر نفس الشهر إلاّ في كلّ اثنتي عشرة سنة مرّة، إن كان التأخير علی نظام محفوظ، وذلك علی نحو الدوران. [17] كلام الفخر الرازيّ في تفسير آية النسيءوتحدّث الفخر الرازيّ في تفسيره عن النسيء مفصّلاً، وقال في ذيل الآية: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَـ'بِ اللَهِ: اعلم أنّ هذا شرح النوع الثالث من قبائح أعمال إلیهود والنصاري والمشركين، وهو إقدامهم علی السعي في تغييرهم أحكامالله. وذلك لانـّه تعإلی لمّا حكم في كلّ وقت بحكم خاصّ فإذا غيّروا تلك الاحكام بسبب النسيء فحينئذٍ كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم، فكان ذلك زيادة في كفرهم وحسرتهم. ثمّ قال في بيان المسألة الاُولي من المسائل التي طرحها: اعلم أنّ السنة عند العرب عبارة عن اثني عشر شهراً من الشهور القمريّة والدليل عليه هذه الآية، وأيضاً قوله تعإلی: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً والْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ و مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. [18] فجعل تقدير القمر بالمنازل علّة للسنين والحساب، وذلك إنّما يصحّ إذا كانت السنة معلّقة بسير القمر، وأيضاً قال تعإلی: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاْهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَ'قِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. [19] وعند سائر الطوائف ] غير العرب [ عبارة عن المدّة التي تدور الشمس فيها دورة تامّة، والسنة القمريّة أقلّ من السنة الشمسيّة بمقدار معلوم. وبسبب ذلك النقصان تنتقل الشهور القمريّة من فصل إلی فصل، فيكون الحجّ واقعاً في الشتاء مرّة، وفي الصيف أُخري وكان يشقّ الامر عليهم بهذا السبب. وأيضاً إذا حضروا الحجّ حضروا للتجارة، فربّما كان ذلك الوقت غيرموافق لحضور التجارات من الاطراف، وكان يخلّ أسباب تجاراتهم بهذا السبب. فلهذا السبب، أقدموا علی عمل الكَبِيسَة [20] علی ما هو معلوم في علم الزيجات، واعتبروا السنة الشمسيّة، وعند ذلك بقي زمان الحجّ مختصّاً بوقت واحد معيّن موافق لمصلحتهم، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم. فهذا النسيء، وإن كان سبباً لحصول المصالح الدنيويّة، إلاّ أنـّه لزم منه تغيّر حكم الله تعإلی. لانـّه تعإلی لمّا خصّ الحجّ بأشهر معلومة علی التعيين، وكان بسبب ذلك النسيء، يقع في سائر الشهور تغيّر حكمالله وتكليفه. فلهذا المعني، استوجبوا الذمّ العظيم في هذه الآية. ولمّا كانت السنة الشمسيّة زائدة علی السنة القمريّة، جمعوا تلك الزيادة فإذا بلغ مقدارها إلی شهر، جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهراً. فأنكر الله تعإلی ذلك عليهم، وقال: إنّ حكم الله أن تكون السنة اثني عشر شهراً لا أقل ولا أزيد. وتحكّمهم علی بعض السنين أنـّه صار ثلاثة عشر شهراً حكم واقع علی خلاف حكم الله تعإلی ويوجب تغيير تكإلیف الله تعإلی. وكلّ ذلك علی خلاف الدين. ومذهب العرب من الزمان الاوّل أن تكون السنة قمريّة لاشمسيّة. وهذا حكم توارثوه، عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام. فأمّا عند إلیهود والنصاري، فليس كذلك. ثمّ إنّ بعض العرب تعلّم صفة الكبيسة من إلیهود والنصاري، فأظهر ذلك في بلاد العرب. [21] وقال الفخر الرازيّ أيضاً بعد حديثه عن مواضيع مفصّلة: النسيء هو التأخير، وقال أبو زيد: نَسَأْتُ الإبل عَنِ الْحَوْضِ أَنْسَأُهَا نَسْأً إذَا أَخَّرْتَهَا، وَأنْسَأْتُهُ إنسَاءً إذَا أَخَّرْتَهُ عَنْهُ والاسْمُ النَّسِيئَةُ وَالنَّسءُ. وقال قطرب: النَّسِيءُ أصْلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ يُقَالُ: نَسَأَ فِي الاْجَلِ وَأَنْسَأَ، إذَا زَادَ فِيهِ. وقال الواحديّ في جوابه: الصحيح القول الاوّل، وهو أنّ أصل النسيء التأخير. والمراد هنا التأخير، لا الزيادة. [22] كلام الفخر الرازيّ في إقدام العرب علی عمل الكبسثمّ قال الفخر الرازيّ: لو رتّب العرب ] في الجاهليّة [ حسابهم علی السنة القمريّة، فإنّه يقع حجّهم تارة في الصيف، وتارة في الشتاء، وكان يشقّ عليهم الاسفار ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات، لانّ سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلاّ في الاوقات اللائقة الموافقة. فعلموا أنّ بناء الامر علی رعاية السنة القمريّة يخلّ بمصالح الدنيا، فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسيّة. ولمّا كانت السنة الشمسيّة زائدة علی السنة القمريّة بمقدار معيّن احتاجواإلی الكبيسة، وحصل لهم بسب تلك الكبيسة أمران: أحدهما: أنـّهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهراً بسبب اجتماع تلك الزيادات. والثاني: أنـّه كان ينتقل الحجّ من بعض الشهور القمريّة إلی غيره، فكان الحجّ يقع في بعض السنين في ذي الحجّة، وبعده في المحرّم، وبعده في صفر، وهكذا في الدور حتّي ينتهي بعد مدّة مخصوصة مرّة أُخري إلی ذيالحجّة. فحصل بسبب الكبيسة هذان الامران: أحدهما: الزيادة في عدّة الشهور. والثاني: تأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلی شهر آخر. وقد بيّنا أنّ لفظ النسيء يفيد التأخير عند الاكثرين، ويفيد الزيادة عند الباقين. وعلی التقديرين، فإنّه منطبق علی هذين الامرين. والحاصل من هذا الكلام: أنّ بناء العبادات علی السنة القمريّة يخلّ مصالح الدنيا. وبناؤها علی السنة الشمسيّة يفيد رعاية مصالح الدنيا، والله تعإلی أمرهم من وقت إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ببناء الامر علی رعاية السنة القمريّة. فهم تركوا أمر الله في رعاية السـنة القمريّة، واعتبروا السـنة الشـمسـيّة رعاية لمصـالح الدنيا أوقعوا الحجّ في شهر آخر سوي الاشهر الحرم. فلهذا السبب عابالله عليهم وجعله سبباً لزيادة كفرهم. وإنّما كان ذلك سبباً لزيادة الكفر، لانّ الله تعإلی أمرهم بإيقاع الحجّ في الاشهر الحرم، ثمّ إنّهم بسبب هذه الكبيسة أوقعوه في غيرهذه الاشهر وذكروا لاتباعهم أنّ هذا الذي عملناه هو الواجب وأنّ إيقاعه في الشهور القمريّة غير واجب. فكان هذا إنكاراً منهم لحكم الله مع العلم به وتمرّداً علی طاعته، وذلك يجب الكفر بإجماع المسلمين. وأمّا الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادات الحاصلة بسبب تلك الكبائس، فمذكور في الزيجات. قال الواحديّ: وأكثر العلماء علی أنّ هذا التأخير ما كان يختصّ بشهر واحد، بل كان ذلك حاصلاً في كلّ الشهور. وهذا القول عندنا هو الصحيح علی ما قرّرناه واتّفقوا أنـّه صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم لمّا أراد أن يحجّ في سنة حجّة الوداع، عاد الحجّ إلی شهر ذيالحجّة في نفس الامر، فقال: ألاَ إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً. وأراد أنّ الاشهر الحرم رجعت إلی مواضعها.[23] كلام البيرونيّ حول نسيء السنة القمريّة بالشمسيّةوقد سبق أبو ريحان البيرونيّ [24] الفخر الرازيّ فتحدّث في مواضع من كتابه المشهور « الآثَارُ البَاقِيَةُ عَنِ الْقُرُونِ الْخَإلیةِ » عن كيفيّة النسيء فيالشهور بين العرب، وأصل تأسيس التأريخ الإسلاميّ وأسماء الشهور. وقال في موضع من ذلك الكتاب بعد ذكره الشهور العربيّة الاثني عشر التإلیة: الْمُحَرَّمُ، صَفَرُ، رَبِيعٌ الاْوَّلُ، رَبِيعٌ الآخِرُ، جُمَادَي الاُولَي جُمَادَيالآخِرَةُ، رَجَبُ، شَعْبَانُ، رَمَضَانُ، شَوَّالُ، ذُو الْقَعْدَةِ، ذُوالْحَجَّةِ: [25] وكان العرب فيالجاهليّة يستعملونها علی نحو ما يستعمله أهل الإسلام. وكان يدور حجّهم في الازمنة الاربعة، ثمّ أرادوا أن يحجّوا في وقت إدراك سلعهم من الاُدْم والجلود والثمار وغير ذلك، وأن يثبت ذلك علی حالة واحدة وفي أطيب الازمنة وأخصبها. فتعلّموا الكبسَ من إلیهود المجاورين لهم وذلك قبل الهجرة بقريب من مائتي سنة فأخذوا يعملون بها ما يشاكل فعل إلیهود من إلحاق فضل ما بين سنتهم وسنة الشمس شهراً بشهورها إذا تمّ. ويتولّي القَلاَمِسُ [26] بعد ذلك أن يقومون بعد انقضاء الحجّ، ويخطبون في الموسم، وينسئون الشهر، ويسمّون التإلی له باسمه. فيتّفق العرب علی ذلك ويقبلون قوله ويسمّون هذا من فعلهم: النسيء، لانـّهم كانوا ينسأون أوّل السنة في كلّ سنتين أو ثلاث شهراً علی حسب ما يستحقّه التقدّم. قال قائلهم: لَنَا نَاسِيٌ تَمْشُونَ تَحْتَ لِوائِهِ يُحِلُّ إذَا شَاءَ الشُّهُورَ وَيُحَرِّمُ وكان النسيء الاوّل للمحرّم، فسمّي صفر به وشهر ربيع الاوّل باسم صفر، ثمّ والوا بين أسماء الشهور. وكان النسيء الثاني لصفر فسمّي الشهر الذي كان يتلوه وهو ربيع الاوّل بصفر أيضاً. وكذلك حتّي دار النسيء في الشهور الاثني عشر، وعاد إلی المحرّم، فأعادوا بها فعلهم الاوّل. وكانوا يعدّون أدوار النسيء ويحدّون بها الازمنة فيقولون قد دارت السنون من زمان كذا إلی زمان كذا دورة. فإن ظهر لهم مع ذلك تقدّم شهر عن فصل من الفصول الاربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس وبقيّة فصل ما بينها وبين سنة القمر الذي ألحقوه بها كبسوها كبساً ثانياً. [27] وكان يبيّن لهم ذلك بطلوع منازل القمر وسقوطها حتّي هاجر النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم. وكانت نوبة النسيء كما ذكرت بلغت شعبان، فسمّي محرّماً، وشهر رمضان صفر. فانتظر النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم حينئذٍ حجّة الوداع وخطب للناس وقال فيها: ألاَ وإنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَاللَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ. عني بذلك أنّ الشهور ] القمريّة [ قد عادت إلی مواضعها، وزال عنها فعل العرب بها. ولذلك سمّيت حجّة الوداع، الحجّ الاقْوَم ثمّ حرّم ذلك، وأهمل أصلاً. [28] ويقول في موضع آخر: وفي التاسع عشر ] من شهر رمضان [ فتح مكّة. ولميقم رسول الله صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم الحجّ، لانّ شهور العرب كانت زائلة بسبب النسيء. وتربّص حتّي عادت إلی مكانها، ثمّ حجّ حجّة الوداع، وحرّم النسيء. [29] قال نلِّينو في كتاب « علم الفلك »: أمّا هذا الظنّ أنّ النسيء نوع من الكبس لتحصيل المعادلة بين السنة المشتملة علی شهور قمرّية والسنة الشمسيّة، فليس من أبكار أفكار فخر الدين الرازيّ، لانّ جملة من أصحاب علم الهيئة قد سبقوه إلی ذلك الظنّ. وأقدمهم علی ما نعرفه هو أبومَعْشَر البَلْخِيّ [30]المتوفّي سنة 272 ه. كلام أبي معشر البلخيّ حول النسيء والكبس عند العربقال أبو معشر في كتاب «الاُلوف»: [31] وأمّا العرب فيالجاهليّة فكانوا يستعملون سنيّ القمريّة برؤية الاهلّة كما يفعله أهل الإسلام. وكانوا يحجّون في العاشر من ذي الحجّة. وكان لا يقع هذا الوقت في فصل واحد من فصول السنة، بل يختلف فمرّة يقع في زمان الصيف ومرّة في زمان الشتاء، ومرّة فيالفصلين الباقيين لما يقع بين سنيّ الشمس والقمر من التفاصيل. فأرادوا أن يكون وقت حجّهم موافقاً لاوقات تجاراتهم، وأن يكون الهواء معتدلاً في الحرّ والبرد ومع توريق الاشجار ونبات الكلا لتسهل عليهم المسافرة إلی مكّة ويتّجروا بها مع قضاء مناسكهم. فتعلّموا عمل الكبيسة من إلیهود وسمّوه النسيء، أي: التأخير إلاّ أنـّهم خالفوا إلیهود في بعض أعمالهم، لانّ إلیهود كانوا يكبسون تسع عشرة سنة قمريّة بسبعة أشهر قمريّة حتّي تصير تسع عشرة شمسيّة. والعرب تكبس أربعاً وعشرين سنة قمريّة باثني عشر شهراً قمريّة. واختاروا لهذا الامر رجلاً من بني كنانة، وكان يدعي: القَلَمَّس. وأولاده القائمون بهذا الشأن تدعي: القلامسة، ويسمّون أيضاً: النَّسَأَة. و القَلَمَّس هو البحر الغزير. وآخر من تولّي ذلك من أولاده: أبو ثُمامة، جُنادة بن عَوْف بن أُمَيَّةَ بن قَلَع بن عَبَّادبن قَلَعبن حُذَيْفَةَ. وكان القَلَمَّس يقوم خطيباً في الموسم عند انقضاء الحجّ بعرفات. ويبتدي عند وقوع الحجّ في ذي الحجّة فينسي المحرّم، ولايعدّه في الشهور الاثني عشر، ويجعل أوّل شهور السنة صفر فيصيرالمحرّم آخر شهر ويقوم مقام ذي الحجّة ويحجّ فيه الناس فيكون الحجّ في المحرّم مرّتين. ثمّ يقوم خطيباً في الموسم في السنة الثالثة عند انقضاء الحجّ وينسي صفر الذي جعله أوّل الشهور للسنتين الاُوليين، ويجعل شهر ربيع الاوّل أوّل شهور السنة الثالثة والرابعة حتّي يقع الحجّ فيهما، في صفر الذي هو آخر شهور هاتين السنتين، ثمّ لا يزال هذا دأبه في كلّ سنتين حتّي يعود الدور إلی الحال الاُولي. وكانوا يعدّون كلّ سنتين خمسة وعشرين شهراً. وقال أبو معشر أيضاً في كتابه عن بعض الرواة: إنّ العرب كانوا يكبسون أربعة وعشرين سنة قمريّة بتسعة أشهر قمريّة. فكانوا ينظرون إلی فضل ما بين سنة الشمس وهو عشرة أيّام وإحدي وعشرون ساعة وخُمس ساعة بالتقريب. [32] ويلحقون بها شهراً تامّاً كلّما تمّ منها ما يستوفي أيّام شهر، ولكنّهم كانوا يعملون علی أنـّه عشرة أيّام وعشرون ساعة فكانت شهورهم ثابتة مع الازمنة جارية علی سنن واحد لا تتأخّر عن أوقاتهم ولا تتقدّم إلی أن حجّ النبيّ صلّيالله عليه ] وآله [ وسلّم. [33] وقد خصّ نلِّينو الدرس الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر من هذا الكتاب للحديث عن معارف عرب الجاهليّة بالسماء والنجوم، ومسألة النسيء المذكور في القرآن الكريم، وجاء بعدد من الآيات القرآنيّة وأقوال المفسّرين. [34] وحصيلة ما جاء في بحثنا هذا عن تفسير النسيء في الآية الشريفة، مع روايات كثيرة وردت في هذاالمقام، وكلام للمؤرّخين من علماء الهيئة والنجوم أمثال أبي ريحان البيرونيّ، و أبي معشر البلخيّ، وكذلك كلام الرحّالة الكبير والمؤرّخ الجليل علیبن الحسين المسعوديّ المتوفّي سنة 346 ه في كتابه « مروج الذهب » [35] وكتابه النفيس: «التنبيه والإشراف» هو أنّ أُصول الشهور القمريّة قد تغيّرت بين عرب الجاهليّة لسببين: للنسيء معني عامّ ويشمل كلا النوعينالاوّل: تأخير الاشهر الحرم من وقتها كما في شهر محرّم الذي كانوا يؤخّرونه وينسئون حرمته، ويسمّونه صفراً، ولميبالوا بالحرب والقتال والنهب والغارة فيه. وكانوا يكفّون عن القتال خلال أربعة أشهر في السنة من حيث الكميّة لا من حيث النوعيّة حفظاً لحرمة الاشهر الاربعة المحترمة ( ذي القعدة، وذي الحجّة، ومحرّم، ورجب ) و لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَهُ. الثاني: تأخير أيّام الحجّ أو أيّام الصوم وبعض العبادات والمناسك إلی وقت آخر، لملائمة المناخ، ومن أجل بيع البضائع التجاريّة، وجذب القبائل لاداء الحجّ. ولذلك كان الحجّ يقام في فصل خاصّ من حيث اعتدال الجوّ، ويدور في الشهور القمريّة، حتّي يعود إلی زمنه الاصليّ كلّ ثلاث وثلاثين سنة حسب السنة الكبيسة الدقيقة، وكلّ ستّ وعشرين سنة حسب الكبيسة التقريبيّة، كما مرّ بنا في رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، وقد رجع إلی وقته الاصليّ في حجّة الوداع التي حجّها رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، ولذلك قال رسول الله في خطبته: إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ. ونحن لا نصرّ علی أن ننظر إلی الآية القرآنيّة في عدّة الشهور و النسيء متعلّقة بتأخير الاشهر الحرم، أو تأخير الحجّ عن وقته المعيّن، بل إنّ الآية المباركة ـعامّة ومطلقةـ تشمل كلا النوعين من النسيء، ونقل الروايات المشهورة بل المستفيضة يعضد هذا المعني أيضاً. وفي ضوء ذلك، فإنّ تأخير حرمة الاشهر الحرم عن وقتها حرام في الشريعة الإسلاميّة النيّرة، وكذلك تأخير الآداب والاحكام والتعإلیم المقرّرة في أوقات معيّنة كالصوم في شهر رمضان، والحجّ في شهر ذي الحجّة. لذلك فإنّ استبدال الشهور الشمسيّة بالشهور القمريّة، واستبدال السنين الشمسيّة بالسنين القمريّة لا يجوز بأيّ وجه من الوجوه. عدم شرعيّة استبدال الشهور الشمسيّة بالقمريّةوليس للمسلم أن يصوم في شوّال أو في غيره من الشهور المعتدلة. أو يصوم في فصل الشتاء لملائمة الجوّ وقصر النهار. أي: ليس له أن يجعل صومه وفقاً لحساب السنين والشهور الشمسيّة. وليس له أن يحجّ في المحرّم أو في غيره من الشهور المعتدلة بسبب ملائمة الجوّ وتبعاً لبيع البضائع والاُمور الاعتباريّة والمصالح المادّيّة والدنيويّة. فيجعل حجّه في فصل الربيع أو الخريف. أي: لايحقّ له أن يحجّ طبقاً لحساب السنين والشهور الشمسيّة. وكذلك الامر بالنسبة إلی التكإلیف الاُخري من واجبات ومستحبّات ومحرّمات ومكروهات. وكذلك بالنسبة إلی الاحكام الاجتماعيّة والسنن الاعتباريّة والآداب والتقإلید والعادات التي يواجهها في المجتمع. وليس للمسلم أن يجعل السنة الشمسيّة ملاكاً وميزاناً لاعماله وتأريخه، ذلك لانّ القرآن المجيد جعل السنة القمريّة سنة المسلم بكلّ صراحة، فقال: عزّ من قائل: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَهِ اثْنَاعَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَـ'بِ اللَهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ. [36] تصرّح هذه الآية بأنّ السنين والشهور الإسلاميّة الرسميّة هي السنون والشهور القمريّة من جهات متعدّدة: الاُولي: قوله: مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ. لانّ من الضروريّات أنّ الإسلام لم يجعل شهراً مامن الاشهر الحرم، إلاّ هذه الاشهر الاربعة من الشهور القمريّة، وهي ذو القعدة، وذو الحجّة، ومحرّم، ورجب. وهذه الاشهر هي من الشهور القمريّة، لا الشمسيّة. وجاء في روايات عديدة، وفي خطبة رسولالله صلّي الله عليه وآله وسلّم أنّ ثلاثة منها متوإلیة وواحداً فرد: ثَلاَثَةٌ مِنْهَا سَرْدٌ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا فَرْدٌ. [37] والمتوإلیة هي: ذو القعدة، و ذو الحجّة و محرّم، والفرد هو شهر رجب. الثانية: قوله: عِندَ اللَهِ. والثالثة: قوله: فِي كِتَابِ اللَهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ. فهذان القيدان يدلاّن علی أنّ الشهور غير قابلة للتغيير والاختلاف أبداً. ولاتأثّر بالوَضْع والجعل وغيرهما من الاُمور الوضعيّة لانـّها عند الله الذي لايتغيّر علمه وإحاطته، وفي كتابه يوم خلق السماوات والارض. فقد كانت هكذا في الحكم المكتوب في كتاب التكوين، وفي القانون المدوّن في لوح الخلق، وَلاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ تَعَإلی. ومعلوم أنّ الشهور الشمسيّة مهما كان وضعها وعنوانها وتأريخها شهور عرفيّة وضعيّة تبلورت علی أساس حساب المنجّم والزيادة والقلّة الاعتباريّة والوضعيّة. أمّا الشهور القمريّة فإنّها كانت كما هي عليه الآن منذ خلقالله السماوات والارض. تبدأ برؤية الهلال عند خروجه من المحاق ومن تحت الشعاع، وتنتهي بالمحاق والدخول تحت الشعاع. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَ ' لِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـ'هُ مَنَازِلَ حَتَّي' عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ إلیلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. [38] تأريخ الإسلام تأريخ قمريّوالشهور القمريّة حسيّة ووجدانيّة ولها بداية ونهاية معيّنتان في عالم التكوين. فهي علی عكس الشهور الشمسيّة التي تمثّل شهوراً عرفيّة واصطلاحيّة. وعلی الرغم من أنّ الفصول الاربعة والسنين الشمسيّة حسيّة تقريباً، إلاّ أنّ الشهور الاثني عشر التي لها أصل ثابت هي الشهور القمريّة. وفي ضوء هذا المعني، فإنّ معني الآية سيكون علی النحو التإلی: أنّ الشهور الاثنا عشر التي تتألّف منها السنة هي الشهور الثابتة في علم الله سبحانه وتعإلی. وهي الشهور التي عيّنها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات والارض. وقرّر الحركات العامّة لعالم الخلق، ومنها حركات الشمس والقمر. وأصبحت تلك الحركة الحقيقيّة والثابتة أساساً وأصلاً لتعيين مقدار هذه الشهور الاثني عشر. ومن الآيات التي تنصّ علی لزوم التأريخ القمريّ هي الآية الخامسة من سورة يونس التي مرّ ذكرها: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ و مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. ومن الواضح أنّ الناس في أيّ بقعة كانوا من البرّ والبحر والجبال والصحاري يستطيعون أن يضبطوا حسابهم علی امتداد الشهر القمريّ دون الحاجة إلی المنجّمين وأهل الحساب، وذلك من خلال رؤية الاشكال المختلفة للقمر في السماء كالهلال، والتربيع والتثليث، والتسديس حتّي الليلة الرابعة عشرة حيث يظهر فيها بدراً. وهي ممّا يختصّ بها الشهر القمريّ لا الشمسيّ. وعلی الرغم من ذكر الشمس في الآية السابقة، إلاّ أنـّها جعلت منازل القمر سبباً للحساب والتقويم. ومن هذه الآيات: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاْهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَ ' قِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. [39] إنّ استبدال الشهور القمريّة بالشمسيّة هو النسيء الذي يعني تأخير الاعمال عن موعدها المقرّر. وهذا هو الذي اعتبره القرآن الكريم زيادة في الكفر. وهو ما جاء في الكلمات البيّنة الرائعة التي وردت في خطبة رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم التي ألقاها بمني وأعاد فيها الشهور القمريّة إلی وضعها الطبيعيّ بعد أن استبدلت الشهور الشمسيّة بها في العصر الجاهليّ، وكانت قد جعلت علی أساس سنّة إبراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح عليهما السلام. وأعلن علی رؤوس الاشهاد أنّ هذا الحجّ هو الحجّ الصحيح الذي وقع في وقته، وحان أوانه إثر استدارة الزمان. ويطلق علی هذا الحجّ: حِجَّة الإسلام لانـّه استقرّ في موضعه وفقاً للقانون الإسلاميّ، ووقع في شهر ذي الحجّة، وهو شهر الحجّ الحقيقيّ. وجاء في « السيرة الحلبيّة »: يُقَالُ لَهَا: حِجَّةُ الإسلام، قِيلَ لاءخْرَاجِ الكُفَّارِ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِهِ لاِنَّ أهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْحَجَّ فِي كُلِّ عَامٍ أَحَدَ عَشَرَ يَوْماً حَتَّي يَدُورَ الزَّمَانُ إلی ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً فَيَعُودُ إلی وَقْتِهِ. ولِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي هَذِهِ الْحِجَّةِ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ، فَإنَّ هَذِهِ الْحِجَّةَ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي عَادَ فِيهَا الْحَجُّ إلی وَقْتِهِ، وَكَانَتْ سَنَةَ عَشْرَ. [40] ونصّ علی ذلك كلّ من إلیعقوبيّ، و المسعوديّ، و ابن الاثير [41] بل إنّ المسعوديّ عندما ذكر حوادث السنة العاشرة للهجرة، نقل كلام النبيّ: إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ، مكتفياً به دون التعرّض إلی ما حصل في حجّة الوداع من أُمور. وهذه المعاني كلّها صورة معبّرة ناطقة وشاهد صدق علی أنّ استبدال السنين الشمسيّة بالقمريّة لا يجوز. وعلی المسلم أن يولي غاية اهتمامه لحفظ الاوقات علی أساس التأريخ الذي قرّره رسولالله مرتكزاً علی سنّة إبراهيم الخليل، وجعله القرآن الكريم حتماً ولازماً. لقد منّ الله عزّ وجلّ علی بتوفيقه وعنايته فأعددت رسالة حول لزوم التعويل علی بداية الشهور القمريّة برؤية الهلال في الخارج. وهذه الرسالة موسوعة علميّة وفقهيّة في لزوم اشتراك الآفاق في رؤية الهلال لدخول الشهور القمريّة. وقد اشتملت علی بحوث فنيّة ذات أُسلوب رسائليّ تتكفّل بعلاج كلّ إشكال، وقطع دابر كلّ خلاف. تفيد هذه الرسالة، بالبرهان العلميّ والدليل الشرعيّ، أنّ الشهور القمريّة يجب أن تبدأ برؤية الهلال في الليلة الاُولي. وأنّ قول المنجّمين علی أساس الحساب والرَّصَد ليس له حجّة شرعيّة. وبناءً علی ضرورة الآيات القرآنيّة، وإجماع أهل الإسلام، وسنّة رسولالله صلّي الله عليه وآله وسلّم إذ قال: صُومُوا لِرؤيَتِهِ، وَافْطَرُوا لِرُؤْيَتِهِ! فإنّ الشهور القمريّة جميعها ينبغي أن تتحقّق بمشاهدة الهلال فوق الاُفق. وأينما رُئي الهلال، بدأ الشهر. وفي الاماكن التي يتعذّر فيها رؤية الهلال في تلك الليلة، ويُري في الليلة التي تليها، فإنّ بداية الشهر تكون من هذه الليلة. لذلك صحّت الفتوي المشهورة القائلة بأنّ دخول الشهر القمريّ تابع للرؤية، وإنّ كلّ نقطة في العالم تابعة لاُفقها. وقول بعض العلماء والاساطين الذين يعتبرون خروج الهلال من تحت الشعاع كاف لجميع العالم أو لنصف الكرة الارضيّة، ويحكمون بدخول الشهر في أرجاء العالم خلال ليلة واحدة، ليسله اعتبار، بل إنّ الادلّة المتقنة تقضي بخلافه، والبراهين المنتهية بضرورة ردّه ودحضه قائمة. هذه الرسالة العلميّة والفقهيّة باللغة العربيّة، وعنوانها: رِسَالَةٌ حَوْلَ مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ. وقد صدرت في سياق الكتب المطبوعة تحت الرقم ( 6 ) من دورة العلوم والمعارف الإسلاميّة. فإن قال شخص: ما ضرّ لو أنّ المسلمين قاموا بأعمالهم وتكإلیفهم العباديّة، من صوم وحجّ وفقاً للشهور القمريّة، ومارسوا آدابهم وشؤونهم الاجتماعيّة والسياسيّة الاُخري وفقاً للشهور الشمسيّة، وحينئدٍ لا يلزم النسيء الذي يمثّل زيادة في الكفر، إذ إنّهم يقومون بأعمالهم التي لا علاقة لها بالشرع علی أساس تأريخ آخر كالتأريخ الروميّ أو الروسيّ أو الفرنسيّ أو الفارسيّ القديم من حيث تعداد أيّام الشهور، حسب عقود اعتباريّة يضعونها. وعلی فرض أنـّهم يجعلون هجرة النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم بداية للتأريخ في هذه التواريخ المذكورة، فإنّ تأريخهم الرسميّ فقط هو التأريخ الشمسيّ تبعاً للمصالح الدنيويّة. فإنّنا نقول في إجابته: إنّ جميع الإشکالات تنبع من هذا الاُسلوب في التفكير، وذلك: أوّلاً: أنّ جعل التأريخ الشمسيّ تأريخاً رسميّاً خلاف لنصّ القرآن والسنّة النبويّة وسيرة الائمّة الطاهرين وعلماء الإسلام، بل خلاف لمنهج المسلمين جميعهم. ثانياً: هذا العمل يؤدّي إلی فصل الدين عن السياسة، إذ إنّ القيام بالاعمال العباديّة وفقاً للتأريخ القمريّ، وممارسة الاحكام الاجتماعيّة والشؤون السياسيّة طبقاً للتأريخ الشمسيّ من المصاديق الواضحة لفصل الدين عن السياسة. وينتهي بعزل الدين عن شؤون الحياة المهمّة وحصره في الشؤون الشخصيّة والفرديّة. ثالثا: ويؤدّي إلی تعطيل الكتب والتواريخ المدوّنة، وقطع الصلة بين الخَلَف والسلف الصالح، لانـّنا نري ـ منذ عصر صدر الإسلام حتّي الآن ـ أنّ جميع كتب التفسير، والحديث، والتأريخ والتراجم، وحتّي الكتب العلميّة كالنجوم، والرياضيّات، والهيئة والفقه، وغيرها قد دوّنت علی أساس السنين القمريّة والشهور القمريّة. ونجد أنّ آلاف بل ملايين الكتب المؤلّفة في النطاق الذي كان يحكمه المسلمون سواء باللغة العربيّة، أو الفارسيّة، أو التركيّة أو الهنديّة، أو الإفريقيّة، أو الاُوروبيّة الشرقيّة، كلّها تستند إلی التأريخ الهجريّ والسنوات والشهور القمريّة. فلو جعلنا التأريخ الشمسيّ هو الاساس في التأريخ، أفلا يعني هذا إقصاء تلك الكتب عنّا، وقطع الصلة بين هذا الجيل، وبين الثقافة الإسلاميّة الاصيلة في القرون والاعصار الماضية؟ إنّ استبدال التأريخ الشمسيّ بالتأريخ القمريّ يماثل استبدال الخطّ الإسلاميّ بالخطوط الاجنبيّة، بل هو من متفرّعات ذلك الاصل ومن الفروع الناميّة لذلك الجذر. رابعاً: ويحول هذا العمل دون اتّحاد المسلمين في العالم، ذلك لانّ تأريخ المسلمين جميعهم هو التأريخ القمريّ، فإذا استعملنا التأريخ الشمسيّ، فإنّنا سنختلف معهم في التأريخ. وكذلك إذا أختار المسلمون أيضاً لانفسهم تأريخاً آخر كالتأريخ الميلاديّ أو الزردشتيّ أو الكورشيّ أو غيرها من التواريخ. فإنّهم بهذه الطريقة ـويا للاسفـ سيسيرون في اتّجاه معاكس لاءتّجاه النبيّ الاكرم صلّيالله عليه وآله وسلّم ممّا يؤدّي إلی تفرّق كلمتهم وتشرذمهم وشقّ عصاهم وانفصام عقدهم. يجب أن يكون تأريخ جميع المسلمين في العالم هجريّ قمريّإنّ التأريخ من الاُمور الاُصوليّة للاحكام الإسلاميّة. واتّحاد المسلمين في التأريخ يفضي إلی اتّحادهم في الثقافة النبويّة واختلافهم فيه يؤدّي إلی تفرّقهم وتشتّتهم. والإسلام الذي جمع الناس كلّهم من عرب، وعجم، وأتراك وأكراد، وهنود، وشرقيّين وغربيّين، وسود وبيض، وصفر وحمر تحت راية واحدة هي راية التوحيد، علی الرغم من اختلاف آدابهم وعاداتهم القوميّة حريّ بالتعظيم. وما أسوأ ما نفعل إذا تركنا المسلمين وشأنهم في التأريخ الذي يعتبر من أهمّ البواعث علی الاتّحاد والوفاق، وأهمّ الدعائم لتوطيد علاقاتهم وتعزيزها! وليسمن الإنصاف أن نجعل كلّ جماعة منهم تسير في الاتّجاه الذي اختارته لنفسها! وتوحيد التأريخ كتوحيد اللغة الملحوظ في العبادات والمناسك، كالقرآن، والصلاة، والدعاء، والذكر، يجعل المسلمين صفّاً واحداً. والاختلاف في التأريخ كالاختلاف في اللغة يشتّتهم ويفرّق كلمتهم. وبينما نري المسلمين في العالم يحتاجون إلی الاتّحاد والوفاق أكثر من أيّ شيء آخر، وأنّ نبيّهم أمرهم بالاتّحاد، وأنّ كتابهم ناداهم بقوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وأنّ القرآن والنبيّ أعلنا أنّ التأريخ هو القمريّ، فلماذا نمزّق رسالة سعادتنا بأيدينا، ونسير في الاتّجاه المعاكس؟ ارجاعات [1] ـ جاء في «النهاية» لابن الاثير، ج 2، ص 139، في مادّة دَوَرَ، وفي الحديث إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ، يقال: دَارَ يَدُوُر وَاسْتَدَارَ يَسْتَدِيرُ بمعني إذا طاف حول الشيء، وإذا عاد إلي الموضع الذي ابتدأ منه. ومعني الحديث: أنّ العرب كانوا يؤخّرون المحرّم إلي صفر، وهو النسيء ليقاتلوا فيه،ويفعلون ï ïذلك سنة بعد سنة. فينتقل المحرّم من شهر إلي شهر حتّي يجعلوه في جميع شهور السنة. فلمّا كانت تلك السنة، كان قد عاد إلي زمنه المخصوص به قبل النقل، ودارت السنة كهيئتها الاُولي. ولذلك قال رسول الله هكذا. [2] ـ «مجمع البيان» طبعة صيدا، ج 3، ص 29. [3] ـ «تفسير أبي السعود» ج 2، ص 548. [4] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 236؛ وتفسير «الميزان» ج 9، ص 286. [5] ـ نقل العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله عليه في ج 9، ص 287 من «الميزان» عن السيوطيّ في كتاب «المزهر»: أنّ العرب قبل الإسلام كانت تسمّي المحرّم: صفر الاوّل، وصفر: صفر الثاني. وهما صفران كالربيعين والجماديين. والنسيء إنّما ينال صفر الاوّل ولايتعدّي صفر الثاني. فلمّا أقَرّ الإسلام الحرمة لصفر الاوّل، عبّروا عنه ب شهر الله المحرّم، ثمّ لمّا كثر الاستعمال، خفّف، وقيل: المحرّم. واختصّ اسم صفر بصفر الثاني. فالمحرّم من الالفاظ الإسلامیّة. [6] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 236 و 237؛ وتفسير «الميزان» ج 9، ص 286 و 287. [7] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 237؛ وتفسير «الميزان» ج 9، ص 287. [8] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 237؛ وتفسير «الميزان» ج 9، ص 287. [9] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 237. [10] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 236؛ وتفسير «الميزان» ج 9، ص 289. [11] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 234؛ و «مسند أحمد بن حنبل» ج 5، ص 37. [12] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 234؛ و «مسند أحمد بن حنبل» ج 5، ص 37. [13] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 234؛ و «مسند أحمد بن حنبل» ج 5، ص 37. [14] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 234؛ و «مسند أحمد بن حنبل» ج 5، ص 37. [15] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 234؛ و «مسند أحمد بن حنبل» ج 5، ص 37. [16] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج 3، ص 237؛ وتفسير «الميزان» ج 9، ص 288. [17] ـ «الميزان» ج 9، ص 288. [18] ـ الا´ية 5، من السورة 10: يونس. [19] ـ الا´ية 189، من السورة 2: البقرة. [20] ـ الكبيسة هنا هي عبارة عن حساب الاختلاف في مقدار السنة القمريّة، مع مقدار السنة الشمسيّة، وإضافة ذلك الاختلاف إلي السنة القمريّة في آخرها. [21] ـ تفسير «مفاتيح الغيب» طبعة دار الطباعة العامرة، ج 4، ص 633. [22] ـ تفسير «مفاتيح الغيب» ج 4، ص 637 و 638. [23] ـ تفسير «مفاتيح الغيب» ج 4، ص 638 و 639. [24] ـ أبو ريحان محمّد بن أحمد البيرونيّ الخوارزميّ من كبار علماء الإسلام. عاش في القرن الرابع والخامس، ولد بخوارزم. سنة 360 ه، وتوفّي بغزنة، سنة 440 ه. [25] ـ وذكر في ذلك الكتاب أسماء أُخري للشهور العربيّة قبل الإسلام ووجه تسميتها بتلك الاسماء، وذلك ص 60 إلي 62. ثمّ قال: هذه الاسماء تعود إلي عصر قديم ثمّ بدّلت الاسماء الحاضرة بها في العصر الجاهليّ. وهذه الاسماء هي: المُؤْتَمِرـ خَوَّانٌ ـ حُنْتَمٌ ـ نَاجِرٌـ صُوانٌ ـ زَبَّاءُ ـ الاْصَمُّ ـ نَافِقٌ ـ هُوَاعٌ ـ عَادِلٌـ وَاغِل ٌـ بُرَكٌ. وهناك اختلاف في التواريخ حول بعض هذه الاسماء وترتيبها. وأحسن نظم في هذا المجال هو ما قاله الصاحب إسماعيلبن عبّاد: أَردْتُ شُهُورَ الْعُرْبِ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَخُذْهَا عَلَي سَرْدِ الْمُحَرَّمِ تَشْتَرِكْ فَمُؤتَمِرٌ يَأْتِي وَمِنْ بَعْدُ ناجِرٌ وَخُوّانُ مَعْ صُوَانَ يُجْمَعُ فِي شَرَكْ حَنِينٌ وَزَبَّا وَالاْصَمُّ وَعَادِلٌ وَنَافِقُ مَعْ وَغْلٍ وَرَنَّةُ مَعْ بُرَكْ [26] ـ القَلاَمِس جمع القَلَمَّس، وهو البحر الزاخر. والقلمّس لقب لاحد نَسَأَة الشهور علي العرب في الجاهليّة، وهو من بني كنانة. وأوّل النَّسَأَة هو حذيفةبن عبدفقيم الكنانيّ. وكانوا يتوارثون منصبه واحداً بعد الا´خر. وآخرهم، وهو سابعهم: أبو ثمامة جُنادة بن عوف (أبوثمامة جنادة بن عوف بن أُميّة بن قَلَع بن عبّاد بن قَلَع بن حذيفة) ولو اعتبرنا متوسّط السنّ لكلّ جيل ثلاثين سنة، فالمجموع هو مائتان وعشر سنوات. ولو أنقصنا من هذه المدّة سنوات الهجرة العشر، فإنّ أوّلهم كان يعيش قبل الهجرة بمائتي عام. وقد نصّ المقريزيّ علي هذا الزمان في خططه، ج 2، ص 54. [27] ـ أي: كانوا يصحّحون المقدار المهمل من جمع الفروق الذي يحصل من الكبس مع مقدار السنة الشمسيّة أثناء السنة القمريّة المحسوبة، وذلك مع كبيسة أُخري ذات حساب أدقّ. وذكر المقريزيّ المتوفّي سنة 845 ه هذه الطريقة من الكبس عند العرب في الجاهليّة، وذلك في كتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والا´ثار» ج 2، ص 56، طبعة مصر. [28] ـ «الا´ثار الباقية» ص 62 و 63. [29] ـ «الا´ثار الباقية» ص 332. [30] ـ أبو معشر الفلكيّ هذا من أصحاب علم النجوم والهيئة. وهو غير أبي معشر نجيحبن عبد الرحمن السنديّ، من المحدّثين المشهورين صاحب كتاب «المغازي» المتوفّي سنة 170 ه. [31] ـ فقد هذا الكتاب ولكنّ كلامه هذا في النسيء نقله عبد الجبّاربن عبدالجبّاربن محمّد الخرقّيّ المتوفّي سنة 553 بمدينة مَرْو في كتابه الموسوم بـ«منتهي الإدراک في تقاسيم الافلاك». واستخرج هذا النصّ من مخطوطة في باريس: محمود أفندي الملقّب فيما بعد محمود باشا الفلكيّ في مجلّة (جورنال اسياتيك). [32] ـ هذا المقدار مسلّم به عند أصحاب علم الهيئة. وينبغي أن نعلم أنّ كلّ شهر قمريّ نجوميّ يمثّل فترة مقارنتين متواليتين للشمس والقمر، وهو عبارة عن تسعة وعشرين يوماً واثنتي عشرة ساعة وأربع وأربعين دقيقة ( 29 يوم 12 ساعة 44 دقيقه) وإذا ضربنا هذا المقدار في العدد 12 فالناتج هو ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثماني ساعات وثماني وأربعين دقيقة، فالسنة القمريّة عبارة عن ( 354 يوم 8 ساعة 48 دقيقة) ولمّا كانت كلّ سنة شمسيّة عبارة عن ثلاثمائة وخمسة وستّين يوماً وستّ ساعات تقريباً ( 365 يوم 6 ساعة)، فلهذا يكون تفاضل السنة الشمسيّة من القمريّة عشرة أيّام وإحدي وعشرين ساعة واثنتي عشرة دقيقة ( 10 أيّام 21 ساعة 12 دقيقة) تقريباً، وهو المقدار الذي ذكره أبو معشر. [33] ـ «علم الفلك، تاريخه عند العرب في القرون الوسطي» تأليف الفلكيّ الاءيطاليّ السينور كرلو نلّينو، الطبعة الثانية 1911 م، ص 87 إلي 89. [34] ـ «علم الفلك» المحاضرة الثانية عشرة إلي المحاضرة الرابعة عشرة، ص 83 إلي 99. [35] ـ جاء في «مروج الذهب» ج 2، ص 188 و 189، طبعة دار الاندلس: أسماء الشهور: شهور الاهلّة: أوّلها المحرّم، وأيّامها ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً تنقص عن السريانيّ أحد عشر يوماً وربع يوم. فتفرق في كلّ ثلاث وثلاثين سنة، فتنسلخ تلك السنة العربيّة، ولا يكون فيها نيروز. وقد كانت العرب في الجاهليّة تكبس في كلّ ثلاث سنين شهراً وتسمّية النسيء، وهو التأخير. وقد ذمّ الله تبارك وتعالي فعلهم بقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ. ورسـمت العرب الشـهور فبدأت ب المحرّم، لانـّه أوّل السنة. وإنّما سمّته المحرّم لتحريمها الحرب، والغارات فيه. و صفر بالاسواق التي كانت باليمن تسمّي الصفريّة، وكانوا يمتارون منها. ومن تخلّف عنها، هلك جوعاً. وقيل: إنّما سمّي الصفر، لانّ المدن كانت تخلو فيه من أهلها بخروجهم إلي الحرب. وهو مأخوذ من قولهم: صَفِرَتِ الدَّارُ مِنْهُمْ، إذا خلت. و ربيع، و ربيع لارتباع الناس والدوابّ فيهما. فان قيل: قد توجد الدوابّ ترتبع في غير هذا الوقت، قيل: قد يمكن أن يكون هذا الاسم لزمهما في ذلك الوقت، فاستمرّ تعريفهما بذلك مع انتقال الزمان واختلافه. و جُمادي و جُمادي، لجمود الماء فيهما في الزمان الذي سمّيت به هذه الشهور، لانـّهم لم يعلموا أنّ الحرّ والبرد يدوران فتنتقل أوقات ذلك. و رجب، لخوفهم إيّاه. يقال: رَجبْتُ الشيء، إذا خفته. و شعبان، لتشعّبهم إلي مياههم وطلب الغارات. و رمضان، لشدّة حرّ الرمضاء فيه ذلك الوقت. والوجه الا´خر أنـّه اسم من أسماء الله تعالي ذكره. ولا يجوز أن يقال: رمضان، وإنّما يقال: شهر رمضان. و شوّال، لانّ الإبل كانت تشول في ذلك الوقت بأذنابها من شهوة الضراب، تشاءمت به العرب، ولذلك كرهَت التزويج فيه. و ذوالقعدة، لقعودهم فيه عن الحرب والغارات. و ذو الحجّة، لانّ الحجّ فيه ـ انتهي. يتّضح لنا ممّا تقدّم وممّا قاله أبو ريحان البيرونيّ في «الا´ثار الباقية» حول سبب تسمية الاشهر القمريّة أنـّهم كانوا يضعون هذه الاسماء للفصول الشمسيّة وفقاً للشهور الشمسيّة مدّة من حياتهم. ثمّ عادوا من الشهور الشمسيّة إلي الشهور القمريّة التي لاتنطبق علي الفصول ثانية بسبب قانون الإسلام. وهذا هو النسيء الذي اعتبره الله زيادة في الكفر بسبب تأخير الاحكام والواجبات عن وقتها إلي وقت آخر يليها رعاية للمصالح الدنيويّة. [36] ـ الا´ية 36، من السورة 9: التوبة. [37] ـ جاء في تفسير الإمام الفخر الرازيّ، ج 4، ص 634، من الطبعة ذات الاجزاء الثمانية قوله: قد أجمعوا علي أنّ هذه الاربعة ثلاثة منها سرد، وهي: ذوالقعدة، وذو الحجّة والمحرّم، وواحد فرد، وهو رجب. وقال في ص 635: قوله: ذَ'لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ إشارة إلي الشهور الاثني عشر، لانّ الكفّار كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً. [38] ـ الا´يات 38 إلي 40، من السورة 36: يس. [39] ـ الا´ية 189 من السورة 2: البقرة. [40] ـ «السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 289. [41] ـ «تاريخ اليعقوبيّ» ج 2، ص 110، طبعة بيروت؛ و «مروج الذهب» ج 2، ص 302، طبعة بيروت. |
|
|