|
|
بسم الله الرحمن الرحيم حمداً و شكراً يفوق العدّ و الحصر، مختصّاً بالربّ الودود ذي الجلال و الإكرام الباري المنّان، الذي هدي البشر بعد الخلقة و الهداية التكوينيّة، و خلع عليه خلعة الحركة الی الكمال بالهداية التشريعيّة؛ اللَهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامنَوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَـ'تِ الی النُّورِ. و أطهر و أسمي الصلاة و التحيّة و الإكرام علی أنبياء الله و أصفيائه وسُبل الهداية الی معارفه الحقّة، الذين قادوا البشر بهدايتهم من ظلمات الجهل الی وادي أنوار العلم و المعرفة الالهيّة، و فكّوا عقاله من الجمود والركود، ليحلّق في مقام سعة إطلاق الحقائق و الواقعيّات و فتحها. و خاصّةً خاتم الانبياء و سيّد المرسلين محمّد بن عبدالله صلّي الله عليه و آله و خليفته سيّد الوصييّن أميرالمؤمنين علی بن أبي طالب وأولاده الاحد عشر الاماجد، الذين أناروا العالم بنور وجودهم الواحد تلو الآخر، و قادوا قافلة البشريّة ـ بتحمّلهم أعباء الخلافة و الامانة الالهيّه ـ الی ميقات الله و لقاءه، و الذين أوصلوا طنين جرس هذه القافلة الی أسماع العالم كلّه. اولئكم الذين أدخلوا في قلوب الناس النور و السرور و الحبور من النفحات القدسيّة، و ألحقوا تلك القلوب بمقام عزّالله، و أشاروا بصدق ودقّة الی سبيل تخطّي عقبات النفس المخوفة و منعطفاتها المهولة، وعرّفوا الإنسان بالمراحل و المنازل التي تتضمّنها المسيرة، و هدوه الی آخر منازله، أي مقام المقرّبين و الصّديقين و المخلَصين في حرم أمن وأمان الخالق الجميل و الجليل. فَلِلهِ دَرُّهُمْ وَ عَلَيْهِ أَجْرُهُمْ و سلامه عليهم أجمعين. و لقد شمل التوفيق الإلهي حال هذا العبد الفقير، ليقوم بشكل منتظم في أيّام شهر رمضان المبارك لسنة 1396، و في ليالي نفس الشهر لسنة 1399 هجرية قمريّة ببيان بحث المعاد؛ و هو من بين أشرف و أجمل البحوث العقائديّة؛ لجمعٍ من إخوة الإيمان و أخلإ الروح. و الحمد والشكر لله الرحمن الرحيم الذي منّ بتأييداته التي لا نفاد لها، و بتسديداته التي تكرّم بها ء ليُصار الی تدوين هذه المذاكرات و كتابتها علی هيئة مجالس، لتكون و اعزاً للذكري للحقير نفسه و لإخوة الإيمان الاعزاء المحترمين. و ستبيّن هذه المجالس التي تجاوزت الستّين بقليل كيفيّة سير الإنسان و حركته في دنيا عالم الغرور و كيفيّة تحوّل نشأة الغرور الی عالم الحائق و الواقعيّات، ثم ارتحال الإنسان الی الله و غاية الغايات. و ستضّم هذه المجالس بالترتيب بحوثاً عن عالم الصورة و البرزخ وكيفيّة ارتباط الارواح هناك بهذا العالم، و عن كيفيّة خلقة الملائكة ووظائفهم، و عن نفخ الصور و موت جميع الموجودات، ثم بعثها جميعاً وقيام الإنسان في محضر الذات الاحديّة، و عن عالم الحشر و النشر والحساب والكتاب، والجزاء و العَرْض، و السؤال، و الميزان، و الصراط، و الشفاعة، و الاعراف، و الجنّة و النّار. و قد ضمّت هذه المجالس قدراً و افراً من الآيات القرآنية و أخبار المعصومين كما اشتملت علی الادلة العقلية و الفلسفية و المطالب الذوقية والعرفانية، و لم يقصر فيها عن ذكر المسائل الاخلاقية و المواعظ أيضاً في حدود الإمكان. و ستكون هذه الابحاث في حدود عشر مجلدّات تشكلّ قسم (معرفة المعاد) من سلسلة العلوم و المعارف الإسلامية. و تضمّ هذه الدورة في سلسلة العقائد ثلاث دورات: «معرفة الله»، «معرفة الإمام»، و «معرفة المعاد»، كما تشمل في قسم الاحكام و المسائل بحوثاً عن القرآن الكريم و المسجد و الدعاء و الصلاة والصيام و الاخلاق و بعض المسائل الاخري، يُرجي أن تصبح تدريجاً ـبحول الله وقوّته ـ مورد استفادة عموم الناس وَ مَا تَوْفِيقي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ. رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنَا وَ إلَيْكَ الْمَصِيرُ. وَ هُوَ الْمُسْتَعَانُ وَ عَلَيْهِ التَّكلانُ. السيد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين و الحمد لله ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة الاّ بالله العليّ العظيم و صلّي الله علی سيّدنا محمّد و ءاله الطاهرين و لعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن الی يوم الدين (ألقيت هذه المطالب في اليوم الاول من شهر رمضان المبارك لسنة 1396 ) قال الله الحكيم في كتابه الكريم: بِسْم اللهِ الرَّحمـ'نِ الرَّحيمِ * وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَ طُورِ سِينِينَ * وَ هَـ'ذَا الْبَلَدِ الاَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَـ'نَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَـ'هُ أَسْفَلَ سَـ'فِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَهُ بَأَحْكَمِ الْحَـ'كِمِينَ. يُقسم الله سبحانه في هذه السورة؛ و هي السورة الخامسة و التسعين من القرآن الكريم؛ بالتين و الزيتون، و المراد [1] بهما هاتان الفاكهتان المعروفتان، أو شجرتاهما، أو جبل التين الذي تقع علی سفحه مدينة دمشق و جبل الزيتون الذي علی سفحه مدينة بيت المقدس و هما مبعث جمع غفير من الانبياء و المرسلين، و يُقسم بطور سيناء الذي كان موضع مناجاة موسي كليم الله علی نبيّنا و آله و عليه السلام، و بمدينة مكّة المكرّمة و هي البلد الامين الذي جعله الله حرماً آمناً. أفضليّة الإنسان علی الملائكة و يقول: لقد خلقنا الإنسان في أفضل[2] قوام في الوجود و الماهيّة، وفي أسمي طينة و خلقة و أفضل هيكل و بناء، ثم رددناه الی أسفل الدرجات و المنازل، الاّ الذين آمنوا بالله و عملوا الاعمال الصالحة الحسنة الذين لهم بالطبع الثواب و الاجر الدائم المستمرّ. فلهذا فانّ يوم الجزاء حقّ لا يمكن إنكاره و جحوده، لان الله سيحكم فيه بين الناس حسب اختلاف حالاتهم و درجاتهم، و هو الحاكم بالحقّ الذي يقوم حكمه علی أسس متينة و راسخة. و قد نوينا بمشيئة الله المتعال ـ إن شملتنا عنايته و توفيقه ـ أن نبيّن دورة في بحث المعاد مستنبطة من الآيات القرآنية الشريفة و أخبار أئمّة أهل البيت عليهم السلام، يُذكر فيها بالترتيب وبما يتّسع له المجال من تفصيل مسائل عن خصوصيات الانسان التي يجدها في سكرات الموت، وعن كيفيّة عالم البرزخ والانتقال منه الی القيامة الكبري، وعن اجتماع الخلائق في الحشر والنشر، والسؤال، والميزان، والعَرض، والصراط، والشفاعة، والاعراف، والكوثر، والجنّة والنّار. يبيّن الله سبحانه في سورة التين المباركة التي تُليت في مطلع الحديث موقع الانسان من العالم العلوي الی عالم الطبع والمادة والحياة الدنيا ومنطق الإحساس، بأنّا خلقناه في أحسن خلقة وقوام، ثم انزلناه الی أسفل مرتبة من الحدود والقيود والاسر في ظلمات عالم الحسّ، والبُعد عن عالم الانس والجمع والمعرفة، ليعود فيرتقي بقدمه واختياره وإرادته الی أعلي الدرجات، وينال الذورة المتسامية لمدارج مقام الإنسانية ومعارجها، فيصير في تلك الحال مقيماً عند ربّه، وينال الاجر والثواب غير المقطوع. فالإنسان، من بين جميع الموجودات من الجماد والنبات والحيوان، يمتلك شرفاً و خاصيّة تميزه عن الباقين وتجعله في صفّ خاص، وهي القوي العاقلة وإدراك الكليّات وإمكان العروج والإرتقاء الی العوالم العليا و المجرّدات من النفوس القدسيّة العقلانيّة. وبالرغم من أنّ العلوم التجربيّة لم تستطع حتّي الآن اثبات الشعور والقدرة لجميع الموجودات، إلاّ أنّه قد جري الإثبات والبرهنة في الفلسفة الكليّة الالهيّة علی أنّ كلّ موجود يمكن أن نسميّه موجوداً ـ حتّي لوكان قطعة صغيرة من التبن أوذرّة لا يمكن رؤيتها ـ يتمتّع بنعمة الحياة والعلم والقدرة، وعلي أن الوجود يتلازم مع هذه الخواصّ الثلاث، غاية الامر انّ كلّ موجود يمتلك تلك الدرجة من الحياة والعلم والقدرة التي تتناسب وسعته الوجوديّة، الموجودات المادّية بقدر سعتها، والنباتات والحيوانات بقدر سعتها الوجودية، كما يمتلك الانسان والملائكة أيضاً هذه الخواص بحسب قابليتّهم. علی انّ الانسان يمتلك من بين جميع الموجودات قويً متضادّة وغرائز مختلفة، ويتنازعه صراع الرغبات النفسية والشهوات من جهة، والقوي العاقلة والمجرّدة من جهة أخري.
وبينما تتحدّد دائرة نشاط الحيوانات ويتحدّد اختيارها وإرادتها، فهي انّما
تتحرك لاستجلاب المنافع ودفع المضارّ، فتطير الطيور في الفضاء، و تتحرك
الحيوانات البحرية في البحر سعياً وراء الصيد، كما ان الوحوش و الحيوانات
البريّة لا تتعدّي ولا تتخطّي أمر تمتّع الحسّ والتناسل واعمال غرائزها
البسيطة والمحدودة، إذ انها لا تمتلك هدفاً الاُمور الاعتبارية هي هوة الحقيقة و حافتهافقد صارت الاعمال الحقيقية للإنسان مقرونة بسلسلة من الاُمور الاعتباريّة، وأدّت المصالح لحفظ الشأن والحيثيّة، ولتحقيق الرغبات النفسية، وشؤون الحياة الموهومة، والرئاسة والمرؤسيّة، والملكية والمملوكيّة، و حبّ الجاه وحسّ التفاخر و حبّ التكاثر، الی ان يقوم الانسان بسلسلة واسعة من الفعاليّات و النشاطات. علی أنّ النزوع الشديد و الميل الحادّ لهذه الامور الاعتباريّة يبعد الانسان بطبيعة الحال عن عالم المعني و الحقيقة، و لا يدعه يصل الی هدفه كما ينبغي له. و علی سبيل المثال فانّ الشخص يحتاج الی الغذاء لإدامة حياته، كما أن الغذاء الذي يتكفّل أمر حياته يمكن نيله بسهولة و يُسر كبيرين، بيد أن مشكلات عجيبية من الاُمور الاعتباريّة تكتنف ذلك و تحيط به. فهو يقول: ما الذي ينبغي أن أختار من غذاء كي لا يُهدر ماء وجهي؟ وكي لا ينتقدني عليه رفيقي لورآني في تلك الحال، أويعاتبني فيه ضيفي الذي يأتي الی منزلي؟ و ليست هذه الاُمور الاّ سلسلة من الاُمور الاعتباريّة مُزجت مع ذلك الامر الحقيقي، فأدّت الی ان يشمل ذلك العمل كلا الوجهين: تحصيل الواقع مع لحاظ الامر الإعتباري، و ما أكثر ما يؤدي تزاحم و كثرة توارد الامور الاعتباريّة الی الذهاب كليّاً بذلك الامر الواقعي و ابتلاعه والقضاء عليه. انّ جميع الامور التي تحصل للانسان في الدنيا، او التي يقوم بها الانسان نفسه، من قبيل البيع و الشراء، الصلح، الهبة، الوكالة، الإجارة، المزارعة، المساقاة، المضاربة، النكاح و الطلاق تتضخّم بشكل جدّي علی أساس الإعتباريات، بحيث يحصل كثيراً أن يدفع الانسان بنفسه الی حافّة الموت والهلاك من أجل حفظ تلك الاعتبارات و صيانتها، فيبادل حياته الغالية بتلك التضخّمات الاعتبارية و المصالح الموهومة، و يخسر بلاعوض في لعبة شطرنج الدهر. أدني العوالم حكومة منطق الحسّعلی أنّ عالم الامور الاعتباريّة هذا هو أسفل السافلين، أي أكثر العوالم إنحاطاً عن حدود الحقيقة و متن الواقع، لانّ الانسان الذي يتوجّب عليه في مسيرته التكاملية أن يوافق بشكل تام و كامل بين وجوده و بين الحقائق، و أن يحرز الرقيّ المتزايد كلّ يوم في حركته للإفادة من مواد العالم الحقيقيّة والوصول للواقعيّات في سلّم الرقي و التعالي، قد انحطّ به الامر حتّي صار يصرف جميع عمره و ثروته الوجودية من العقل والعلم والحياة والقدرة في الحديث عن أساطير و خرافات زيد و عمر، ويؤمّل نفسه و يتعلّق ـ من أجل الشأن و الحيثيّة ـ بسلسلة أمنيات بعيدة لا يعلم أحد هل سيصل اليها أم لا. إنغمار الانسان في الامور الاعتباريّة:
و من أجل نيل و تحقيق تلك المُني
والآمال الخياليّة يقوم الانسان الدين هو منظّم العلائق بين الامور الحقيقيّة و الإعتباريّةلقد جاء الدين من قِبل الله تعالي ليشخّص و يعيّن سلسلة اعتباريات الانسان في حدود معيّنة بحيث تكون نافعة للانسان، و غير معيقة لرقيّه وتكامله، كما جاء ليبعد عن الانسان الكثير الذي لاينفعه منها، بل الذي يجرّه الی جهنّم، و ليعلّمه سلسلة تعاليم تقوده الی عالم الوجود و الحياة. وبلا شكّ فانّ اولئك الذين يقتفون اثر هذه التعاليم ستدرك ثمرة وجودهم مرحلة كمالها، وسيقومون بالافادة القصوي من القوي والإمكانات التي أعطيت لهم لدفع قواهم الوجودية الی مرحلة الفعليّة. لذا يواجهون الموت في هذه الحالة ببشاشة، لانّهم تخطّوا المراحل الابتدائية للتكامل و وصلوا الی سرّ العالم، وانكشفت لهم الحقائق جليّة، وارتبطوا بالله ربّهم وضمّوا وجودهم الجزئي الی كليّة هذا العالم، و انغمروا و فنوا في العلم و الحياة و القدرة الكليّة، فلم يبقَ لهم أيّ حال منتظرة لم يدركونها. هؤلاء لايخشون الموت بل يعشقونه ويهيمون به، من أجل ان يروا أمامهم تلك العوالم التي لم يشاهدوها هنا، والتي أخفيت وسُترت عنهم لمصلحةٍ ما. أمّا اولئك الذين يُعرضون عن هذه التعاليم صفحاً، وينشغلون باللعب واللهوطيلة أعمارهم، ولا يتخطّون دائرة الاعتبار خارجاً ولو بقدم واحد، فانّ حركتهم الی العالم الاخر ستكون قهراً مقرونة بضعف ونقص وجودهم، و سيرحلون عن هذا العالم في حال انكسار وهمّ و غم وحسرة وغصّة، عطاشي لم ينالوا مراماً أويدركوا هدفاً، و ذلك لانّ الباطل كان قد سخّر قلوبهم، والحقيقة التي تلبّست بالباطل بصوره المزيّنة الخيالية قد شغلت أفكارهم، فقضوا حياتهم بلا نيل لثمرات عالم الوجود المانحة للحياة، و بلا إدراك لمقصد الخلقة وسرّها، وبلا أُلفة بالوطن الاصلي، ولا ارتباط بالعالم الكلي، و لا المناجاة و الانس بربّهم. الفرق بين المؤمن و الكافر في اتّباع العقل و الحسّرِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ'رَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَهِ وَ إِقَامِ الصَّلَوةِ وَ إِيتَاءِ الزَّكَوَةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَـ'رُ * لَيَجْزِيَهُمُ اللَهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِن فَضْلِهِ وَاللَهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُو´ا أَعْمَـ'لُهُمْ كَسَرَابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَمْـَآنُ مَآءً حَتَّي إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَ وَجَدَ اللَهَ عِنْدَهُ فَوَفَّيـ'هُ حِسَابَهُ وَاللَهُ سَريعُ الحِسَابِ [3]. انّ اشعاع نور الحقيقة و التجلّي الالهي سيضي قلوب رجال لم تصرفهم التجارة و لا البيع و الشراء عن ذكر الله وإقامة الصلاة و الزكاة، ولم تشغلهم الاُمور الاعتباريّة بهذا العالم عن ذلك المقصد و المقصود وعن ذلك الهدف والمعبود، بل كان هؤلاء في خوف وفزع من العاقبة الوخيمة للاعمال القبيحة التي تجعل القلوب والابصار تتقلّب. بلي، ان الله سبحانه سيجزيهم ويكافئهم بأحسن الثواب والجزاء الذي يفخرون به، و سيزيدهم من فضله ورحمته، و سيرزقهم بمنّه من رزقه الوافر بلا حساب. أمّا الذين كفروا برّبهم فان أعمالهم وسلوكهم قد جعل مقصدهم وهدفهم كالسراب، ذلك الماء الخيالي و غير الواقعي الذي مهما سار المرء اليه ليجد الماء فانّه لن يناله، لانّه ليس الاّ سراباً نشأ من انعكاس أشعة الشمس المتلالاة علی الرمل والحصي، فصار يُري من بعيد كمنظر الماء فيحسبه الإنسان الظمان ماءً، وهكذا حال الكافر المتعطّش للرغبات، الذي يسعي الی الماء في الصحراء القاحلة المحرقة لعالم الإعتبار من أجل ان يرتوي من الماء، فلا يصل الی الماء و لا يَرتوي منه أبداً، ثم ينقضي عمره و يخسر نعمة الحياة. و ذلك لانّ هذا الكافر لم يتحرك في الصراط المستقيم، ولم يرمّم نقاط وجوده الضعيفة، و لم يبدّل نقصان وجوده الی الكمال، فبقي ظمآناً لم ينهل من ماء الحياة. و علی العكس فقد سعي لاهثاً خلف السراب فقط السراب الذي لا يروي الإنسان، فخسر في النتيجة عمره، و سيبقي مخريّاً في محضر الله و عالم الحقيقة، وسيُحاسب و يؤاخذ علی أعماله تلك. و يُستفاد هنا أنّ الكفار يسعون هم أيضاً في طلب الماء، الكفّار يسعون هم أيضاً الی الله، فهم كذلك يسعون الی شي يفتقدونه، فهم في حركة و تفتيش و بحث للحصول عليه، و هم في سعي و تنقيب لنيل ذلك الشي. بيد انّ هؤلاء قد ضلّوا الطريق، و كان عليهم ان يسلكوا سبيل الماء لا طريق السراب. المؤمن يسعي الی الماء، و يسلك سبيل الماء فيصل نبع الحقيقة وماءها الزلال الهاني فيرتوي منه، في حين ينسي الكافر طريق ا لماء في سعيه لنيل الماء وريّ عطشه، فيلتزم طريق السراب، ثم يزداد عن طريق الحقيقة بُعداً و عن السراب قُرباً كلّما زاد سعيه لزيادة اعتباريّات الدنيا من الجاه و الزوجة و الولد و الرياسة و الحكومة، فتلهب حرارة الشمس ولظيالصحراء القاحلة كبده من الظمأ، و ينقضي العمر فتّمحي كلّ طرق العودة، ثم يُدفن منكوباً مصاباً في آماله، و يُقبر في خيالاته وأفكاره الباطلة. تقسيم المراحل الإعتباريّة طيلة حياة الإنسان من وجهة نظر القرآن الكريمو ما أبدع التشبيه الرائع الذي ذكره القرآن الكريم لهذا الامر: حقيقة الدنيا وأسر الإحساسات:
اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيـ'وةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِيْنَةٌ وَ تَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ
فتأمّلوا كيف يجسّد العليّ الاعلي الحقيقة للانسان فيقول: انّ هذه الحياة
الدنيا، هذه الحياة التي يقضي البشر عمره ـ بهذه المساحة الواسعة هذه الحياة التي لا تعدوفي الحقيقة عن دورة حياة الحيوانات والبهائم، و هذه الاعتباريّات التي أشغلت البشر و أبعدته عن الحقائق، وانحطّت به الی أسفل من حياة الوحوش. مركّبة من لَعِب يقوم به المرء دون الرغبات النفسيّة؛ و لَهْو يقوم به الانسان تبعاً لرغباته و نوازعه النفسيّة ولا يترتّب عليه غرض عقلائي صحيح، و زِينَة، اي تمويه وجه الباطل والاعتبارات بلباس الحقيقة، و اظهار الامور الفانية في هيئة الاُمور الباقية؛ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ و غرور، و ادارة أمور الحياة علی أساس الفخر والمباهاة؛ وَتَكَاثُرٌ فِي الاْمْوَالِ وَ الاْوْلَ'دِ و السعي و اللهاث الدائمي لزيادتها. وللمرحوم الشيخ بهاء الدين العاملي (ره)[5] كلامٌ لطيف في تفسير هذه الآية يقول فيه: انّ الخصال الخمس المذكورة في الآية مرتّبة بحسب سير عمر الانسان ومراحل حياته، فهويُولع أوّلاً باللعب وهوطفل أومراهق، ثم اذا بلغ واشتدّ عظمه تعلّق باللهو و الملاهي، ثم اذا بلغ أشدّه اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهيّة والمنازل العالية وتولّه بالحسن والجمال، ثم اذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالاحساب والانساب، ثم اذا هَرِم سعي في تكثير المال والولد. بلي، ان الانسان يجد الرغبة بعد انقضاء فترة صباه وبلوغه الی تزيين نفسه، فيعمد الی ترتيب لباسه وعمله وحياته ومكانه، وأخيراً جميع الامور المتعلّقة به علی نحوٍ يجعل نقش البقاء والعيش علی نحوالحياة الابديّة يغطيّان وجه حقيقة الفناء، فيختفي واقع الامر وحقيقته ويضيعان تحت هذه النقوش الزائفة الباطلة. و اذا تخطيّنا هذه المرحلة فانّه يقول في مرحلة التفاخر و المباهاة: انّ قدرتي كذا، و علمي كذا، حتي انّه يرتجز و يفخر بجرأة كبيرة بالعظام النخرة المتهرّئة لآباءه و أسلافه، وبالنقوش البالية و الاطلال و الخرائب، فيضعها في المتاحف المجلّلة العظيمة، و ينشد فيها الاشعار الحماسيّة، وأخيراً فانّه يركّز طاقته الوجوديّة في آخر مراحل حياته في زيادة المال والولد. و بالطبع فانّ الانسان كلّما زاد عمره زاد حرصه معه، فهو يمتنع الآن من الانفاق في سبيل الله، ذلك الانفاق الذي كان يفعله في شبابه، حتي انّه صار يفتقد الآن الإيثار و المسامحة و العفو. انّ الطبيعة البشريّة تقوم علی انّ النفس اذا ما ربّيت علی أساس معيّن فانّها تتحجّر علی ذلك الاساس و ترسخ عليه، و ان الحالات المؤقّتة لها تصير ملكات ثابتة، و بالطبع فانّ الانسان ان لم يربِّ نفسه علی محور قانون الدين و الحقّ، فان نتيجته و عاقبته النفسيّة ستكون آخر العمر تراكم تلك الاحوال و الطبائع وتحجّر تلك الخواطر و الافكار. قصّة الرجل العجوز و هارون و الامل البعيدقيل انّ هارون الرشيد قال يوماً لخواصّه وندمائه: أرغب أن أزور شخصاً قد تشرّف بإدراك الرسول الاكرم (صلّي الله عليه و آله) وسمع منه حديثاً، لينقل لي عنه بلا واسطة. و باعتبار انّ خلافة هارون كانت سنة مائة و سبعين هجريّة، فقد كان من الجلي ـ مع هذه المدّة الطويلة ـ انّ أحداً لم يبقَ من زمن النبيّ، و إن وجد فانّه سيكون في غاية الندرة. لذا فقد سعي رجال هارون و ملازموه في العثور علی شخص بهذه الاوصاف وفتّشوا الاطراف و الاكناف، فلم يعثروا الاّ علی رجل عجوز متداعٍ متهالك في غاية الضعف و الوهن، لم يبقَ منه الاّ أنفاس تتردّد في كومة عظام بالية، فوضعوه في زنبيل و جاءوا به الی بلاط هارون في غاية العناية و أدخلوه عليه فوراً، فسرّ هارون بذلك كثيراً، لانه شاهد شخصاً أدرك رسول الله و سمع منه. ثم قال له: أيّها العجوز! أرأيت النبيّ الاكرم؟ قال: بلي. فقال هارون: متي رأيته؟ قال العجوز: أخذ أبي بيدي يوماً في طفولتي واصطحبنيالي رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، ثم لم أدرك محضره حتّي رحل عن الدنيا. قال هارون: أفسمعتَ من رسول الله شيئاً ذلك اليوم؟
أجاب: بلي! سمعتُ من رسول الله ذلك اليوم انّه قال: يَشِيبُ ابْنُ
آدَمَ وَ تَشُبُّ مَعَهُ خِصْلَتَانِ: الْحِرْصُ وَ طُولُ الاْمَلِ
[6] فسرّ هارون كثيراً قالوا: لا إمكان في ذلك. قال: لابدّ من رجوعي اليه، فلديّ سؤال ينبغي أن أسأله منه ثم أخرج. وهكذا أعادوا الزنبيل وفيه العجوز الی هارون، فقال: ما الامر؟ قال العجوز: لديّ سؤال. قال هارون: قُلْ. فقال: أيّها السلطان! أعطاؤك الذي تفضّلتَ به علی اليوم لهذه السنة فقط أم هوعطاء يتجدّد كلّ عام؟ فتعالت قهقهة هارون وقال متعجّباً: صَدَقَ رَسُولُ اللَهِ (صلّي الله عليه وآله)؛ يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَ تَشُبُّ مَعَهُ خِصْلَتَانِ الْحِرْصُ وَ طُولُ الاْمَلِ. انّ هذا العجوز لا رمق له، و لم أكن لاظنّ انّه سيبقي حيّاً حتّي خروجه من البلاط، وها هويقول: أهذا العطاء مختصّ بهذه السنة أم انّه عطاء لكلّ سنة. لقد أوصله الحرصُ علی زيادة المال وطولُ الامل الی أن صار يتوقّع لنفسه عمراً فهوفي صدد أخذ عطاء جديد. بلي، هذه هي نتيجة عدم تربية النفس الانسانية بالادب الالهيّ، ممّا دعي بالحرص والامل الی بسط نفوذهما في وجود الانسان في طيف واسع متزايد لا حدّ له ليقف عنده.
امّا
أولئك الذين ترحّلوا بمتاعهم الی العالم الباقي، و أمّلوا قلوبهم بالكليّة و
الابدية، و ذلك بإيمانهم بالمبدأ الازلي الابدي و النزوع إلاَّ الَّذِينَ ءَامَنوا وَ عَملُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. [7]
ذلك
الاجر والجزاء الذي لاحدّ له ولا حساب، وهؤلاء سينعمون فَأول´ئِك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ[8]. يصلهم فيها رزقهم من ربّهم صباحاً ومساءً: وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا [9]. وبعد بيان الله سبحانه لهذه المراحل الخمس من الحياة الدنيا التي ينقضي كلّ منها ويزول ويتصرّم ويمرّ مرّ السحاب فلا يعود من ذات هذه المراحل حقيقةٌ الی الانسان، يقدّم الله تعالي تمثيلاً لها فيقول: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَـ'مًا.[10] تمثيل الحياة الدنيا في القرآن بالنباتات اليانعه و جفافهاهذا اللعب واللهووالزينة، وهذه المرحلة في التفاخر والتكاثر في الاموال والاولاد ستزول جميعاً، كما ان طراوة الشباب ونضارته وغرور الجمال وعزّ الجلال ستعصف به الطوفانات فلا تذر له أي أثر، تماماً كالغيث المنهمر من السماء بقطراته المنعشة الباعثة علی الحياة، ينهمر فيروي الارض العطشي فتنشقّ عن يانع النبت وطريّه ممّا يُحار لرونقه وجماله الزرّاع، ثم تتبدّل تلك الطراوة والنضارة بحركة واحدة الی الإصفرار والجفاف، فتتحوّل تلك اللطافة خشونة، فيصير النبات اليانع يابساً يتحوّل الی هشيم وحطام ورماد. هذا هومثال وانموذج الحياة الدنيا التي يتصاعد فيها العلم والقدرة والحياة وسائر الثروات الانسانيّة وترقي الی أوجها وغايتها، وتظهر فيها القابليّات وتتخايل في مرحلتها القصوي من الفعليّة، فتغيّر النطف الباردة الی إنسان ملي بالنشاط مشحون بالحرارة والحماس كالنار الملتهبة في الموقد، ثم تتنازل فجأة من نقطة الذروة والقمّة متهاوية الی الحضيض، فتتناقص جميع هذه الصفات وتتضاءل، ويتهدّد الضعفُ والخمول الانسان من كلّ صوب، حتي يرد به شيئاً فشيئاً الی مشارف الموت والعبور من عالم الطبع هذا وتخطّيه. بيد انّه ينبغي العلم انّ هذه المرحلة ليست المحطّة الاخيرة للحياة، وأنّ مراحل الحياة لن تنتهي عند هذه النقطة، بل: وَ فِي الاْخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَانٌ وَ مَا الْحَي'وةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَ'عُ الْغُرُورِ. [11] انّ الناس ينقسمون في عالم الروح والحقيقة، عالم الآخرة الذي يمثّل نتيجة هذا العالم وعاقبته، الی قسمين ومجموعتين: المجموعة الاولي: أولئك الذين قنعوا بهذه الامور الظاهريّة، فلم يتخطّوا زينة الدنيا وغرورها، ولم يتجاوزوا الإعتباريّات واللذائذ المؤقتة، ولم يرتووا من معين الحياة الابديّة الخالدة، أويحظوا بلقاء ربّهم أويفيدوا من اشعاع صفات جماله وجذباته الربّانيّة، فلم يكن كلّ ما نالوه الاّ سرابًا. ثم زالت اللذائذ الفانية وتصرّمت، ولم يكونوا قد تزوّدوا من اللّذات الدائميّة، لذا فان نصيبهم في الآخرة لن يكون غير الحرمان والخسران. كما إن عاقبة الإنغماس في اللّذات الإعتباريّة والانصراف عن مقام العدل والعبوديّة للحقّ جلّ وعلا، والتمرّد علی تعاليم العقل والفطرة والشرع، والإعتماد علی النفس الامّارة سيكون ذلك العذاب الاليم يوم الجزاء. امّا المجموعة الثانية فهم الذين لم يمنحوا لامور هذه الدنيا الظاهريّة عنوان العالم الابدي، ولم يفنوا أنفسهم في المقصد المخوف للاعتباريّات، ولم ينفقوا جميع وجودهم وقواهم في اللذائذ المؤقتة الفانية، ولم يكتفوا بالسراب عن الماء المعين بدلاً، بل كان لهم في موازاة طيّ هذه الحياة نظرٌ الی باطن هذا العالم، وكان لهم نصيب في الحياة الابدية المثمرة، ونصيب في الارتباط بالله تعالي، وأمل التطلّع الی الجمال الازلي، وعقد الامل علی الانوار السرمديّة. وهكذا فان عاقبة الاستقامة والثبات من أجل نيل مقام العظمة، والرسوخ والتحمّل في المقام المتين للصدق والحقيقة هورضوان الله والتمتّع بصفاته الحسني وأسمائه العليا والتمتّع بمقام المغفرة. استنباط لطيف للعلاّمة الطباطبائي مدّ ظلّه من القرآن في أنّ الآخرة هي باطن الدنيايقول الاُستاذ الجليل العلاّمة الطباطبائي مدّ ظلّه العالي في رسالة «الإنسان في الدنيا» التي لم تُطبع بعد، وهي مجموعة مع رسائل ستّ أخري تعدّ من بين آثاره النفسية غير المطبوعة: من الممكن أن تكون هذه الفقرة في الآية المباركة «وَ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَهِ وَ رِضْوَانٌ» معطوفة علی كلمة لعب، فيصبح المعني علی ذلك: إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَانٌ؛ أي أنّ هذه الحياة الدنيا الظاهرية المتشكّلة من المراحل الخمس لها باطن سيظهر ويتجلّي في هيئة عذاب شديد أومغفرة من الله. وعليه فانّ عالم الآخرة هوباطن الدنيا، والدنيا هي ظاهر الآخرة، يشهد علی هذا المعني قول الله سبحانه بعد هذه الآية مباشرةً: سَابِقُو´ا الی مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالاْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَهِ وَ رُسُلِهِ[12]. فالسبق الی المغفرة والي جنّة الله أمر موجود في هذه الدنيا، وحاصلٌ في هذه الحياة اذا ما كان نظر الانسان الی باطن الدنيا وسلسلة نشاطاته ومساعيه منظّمة علی أساسها. علی أنّ جميع الامور الدنيويّة التي تشكّل الاساس لمعيشة البشر وحياته في هذا العالم، كالمعاملات، التجارات، الزراعات، الصناعات، النكاح والطلاق وغيرها هي أمور مشتركة بين المؤمن والكافر. فالمؤمن يحصل منها علی نتيجة حقيقيّة لانه يتوجّه الی أصالتها، والكافر يحصل علی نتيجة إعتباريّة لانه يتوجّه الی ظاهرها بصورة محضة. لقد كان أميرالمؤمنين عليه السلام يمسك بالمسحاة، فيبذر البذور و يزرع الارض ويزرع النخل فيوجد بساتين النخيل، وكان يحفر الارض ويجري قنوات الماء الجاري، كما كان الكفرة يعملون نفس هذه الاعمال، فما الفارق يا تري؟! فهذه هي الغفلة وتلك هي اليقظه والصحو، فهذا كان ينقّب ويبحث بأمل التمتّع من هذه اللّذات والإفادة علی أساس حبّ النفس وزيادة الثروة والمال و الاولاد، وذاك لإعانة المساكين والفقراء ومدّ يد المساعدة اليهم، وكان يفعل ذلك من أجل العدل والرحمة، ومن أجل رضا الخالق، وسعياً للعالم أبديّة المعني والروح وأصالتها. لماذا كان أميرالمؤمنين يحفر الآبار ويجري القنوات؟ لماذا كان يخطب في الناس؟ ولماذا كان يحمل سيفه بيده و يجهد في الحرّ و القرّ في مواجهة آلاف المشاكل؟ أكان ذلك لزيادة المال، أو لحبّ الرئاسة، أو للاختيال بمظاهر كماله و جماله؟! أبداً أبداً، بل انّه كان يعمل ذلك ببصيرة نافذة، و بعين تتطلّع الی ربّها، كان يعمل لان نفس العمل كان مطلوباً، في حين كان الآخرون يعملون للمقاصد الجزئيّة. و هذا ـ لا غير ـ هو الفاصل و الفارق بين الطريقتين و الاسلوبين. انّ المؤمن و الكافر يطويان عمرهما بموازاة أحدهما الآخر، يلهوان و يلعبان و ينعمان بالدنيا، و ينشغلان بالتجارة و الزراعة و الصناعة، وينكحان و يتزوّجان و يُنجبان، بيد أنّ المؤمن يقوم بتلك الاعمال مستنداً الی أساس أصالة الإيمان بالمعني و الروح و مظاهر الله، و اعتماداً علی البقاء، في حين يفعل الكافر ذلك علی أساسٍ واهٍ من الدعاوي النفسيّة واللذائذ الفانية و الشهوات و مظاهر الزينة الخادعة. الكافر ينظر الی الظاهر، و لمؤمن ينفذ بنظره الی أعماق الظاهر فينظر الی الباطن. مسيرة المؤمن الحقيقة و الواقع، و طريق الكافر الزينة و الغرور. معني الزينة و الغرور في الدنياالزينة هي ما ينزع بالانسان من الحقّ الی الباطل، و يُظهر الباطل للانظار في هيئة الحقّ، والقبح بصورة الجمال و الفتنة. فالشخص الذي يتزيّن يفعل ذلك ليظهر نفسه جميلاً، و المرأة حين تتزيّن فتجمّل ظفائرها و طلعتها و ترتدي السوار و القلادة والقرط فانّما تفعل ذلك لتغطّي عيوبها وتظهرها في هيئة جميلة، أو كي تزيدمن حسنها إن خلت من العيوب. وباعتبار ان الشخص الذي يتزيّن لا يمتلك جمالاً و حسناً حقيقيّاً، و انّ الزينة تمتلك الجمال، فانّ هذا الشخص يقوم بتزيّنه بصرف نظر الناظر من قبحه و جماله الناقص الی حسن الزينة و جمالها، فيكون نظر الشخص الناظر في النتيجة مصروفاً من صاحب الزينة و إدراك قبحه الی حُسن الزينة، فيحسّ نتيجةً انّ صاحب الزينة حَسَن و جميل. و لو كانت يد امرأة ما جميلة و حسنة بحيث لاتحتاج معها الی زينة السوار و الخاتم، فانّ تلك المرأة لن تعمد مطلقاً الی لبس سوار في يدها، او خاتم في اصبعها، و لن تزيّن صدرها و عضدها و أذنيها بالقلادة و الدُّمْلُج والاقراط. و ذلك لان أمثال هذه الزينة ستمنع في هذه الحالة من تجلّي حسنها و نضارتها التي وهبها الله، و ستحدّ من بروز حُسنها، و حينذاك فانّ الزينة ستفقد عنوان الزينة. لذا فان استعمال جميع أنواع الزينة هو من أجل صرف النظر الصائب عن واقع الامر و متنه الی جهات إعتباريّة و نسب مجازّية غير صحيحة، وفي الحقيقة فانّ الزينة تعني الخداع وا لتحايل و التمويه و نصب الحبائك واسعة لصرف الافكار و عطفها الی المحاسن المجازيّة، و هذا هو معني الغرور. الدنيا دار الزينة و الغرور، أي أنّها تغرّ الانسان و تخدعه فتُظهر الاعتباريّات الفانية في نظره علی هيئة حقائق واقعيّة، فيقع الانسان في حبائل الهوس و الهوي من أجل الحصول علی تلك الحقائق المتخيّلة، وينشغل دوماً بالزينة و الغرور، فيخسر في مقامرة العشق مع هذه الامور الاعتباريّة الخياليّة، و يوثق عقد حبّه وهيامه لهذه الصورالقبيحة المُنفرة من الفناء و الزوال و البوار و العدم، حتي يخسر في عاقبة الامر ثروة وجوده بلا عوض. أمّا رجل الصدق و الاستقامة فلا يعير زينة الدنيا أدني اهتمام، وينظر الی حقيقتها بعين بصيرته النافذة المضاءة، فلا يمنح الامور الاعتبارية و اللذائذ الفانية عنوان البقاء و الدوام، و لا يخدع نفسه فيعقد عقد نكاحه علی عجوز شمطاء قد تجمّلت للانظار و جرّت الآف الازواج الی الموت في أحضانها بالآف الخدع و الاحابيل. إِنَّا جَعَلْنَا مَا علی الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَ إِنَّا لَجَـ'عِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا. [13] إنّا جعلنا ما علی الارض زينة و جمالاً لها لنخبر أهلها و نبلوهم أيّهم يمتلك ميلاً أشدّ الی الحقيقة و عملاً أحسن و أجمل، ثمّ اننا في عاقبة الامر سنجعل ما علی الارض صعيداً و تراباً خالصاً لا خاصيّة له و لا أثر. فالماء الجاري علی الارض زينة، و النباتات و الاشجار و المناظر الخلاّبة من الجبال و الشلاّلات زينة كلّها، الطيور و الدجاج زينة، و الانعام و الدوابّ زينة، النساء والاولاد، الارحام و العشيرة، الاصدقاء و الإخوان هم زينة كلّهم. جعلهم الله جميعاً زينةً للمادة و للهيولي التي لا شكل و لا لون و لا رائحة و لا جمال و لا فتنة لها، و ذلك من أجل أن يبلو الناس ويختبرهم فيما سيفيدونه من هذا العمر و من سنيّ الحياة المتوالية، و كيف سيجتازون هذا الاختيار، و كيف سيصيرون خالصين منزّهين. فهذه الاشكال و الصور ستتبدّل جميعاً في موقد الدهر الی رماد، كما ستتحول هذه الطراوة و الجمال الی أشكال كريهة و مناظر عجيبة، وستنتهي الارض الخضراء اليانعة قفراً قاحلة. فالله سبحانه يختبر بهذه الامور عباده ليعلم أيّهم لا ينخدع في هذه المعمعة من المناظر الخدّاعة و الفخاخ الكثيرة المنصوبة، و أيّهم لا يتخطّي قوانين الفطرة و العقل و الاخلاق الفاضلة و العمل الصالح و الايمان بخالق هذا العالم الغريب، و لا يتجاوز العبودية في فنائه المقدّس الخارج من الشكل و اللون و الرائحة، و الذي لا يبخل بالانفاق و الإيثار المقرون بالإلتفات الواعي الی الواقعية و الحقيقة، الذي لا يعقد آماله و لا يمنّي قلبه بهذا اللون و تلك الرائحة فيفسد قلبه بضياعها و يُدفن في ديار الهلاك والفناء والبوار. يقول أميرالمؤمنين عليه السلام ضمن الخطبة 155 من نهج البلاغة: فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ، وَمَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ، وَ زَيَّنَتْ لَهُ سَيِّيَ أَعْمَالِهِ، فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ، وَالنَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ. [14] إعْلمُوا أَنَّمَا الدُنْيَا تُطْلَبُ لِثَلاَثٍ: لِلْعِزِّ وَ الْغِنَي والرَّاحَةِو يقول في موضعٍ آخر: الدُّنْيَا دَارُ غُرُورٍ وَ فَنَاءٍ، وَ مُلْتَقَي سَاعَةٍ وَ وَداعٍ، وَالنَّاسُ مُتَصَرِّفُونَ فِيهَا بَيْنَ وَرْدٍ وَ صَدْرٍ، وَ صَائِرُونَ خَبَراً بَعْدَ أَثَرٍ، غَاَيَةُ كُلِّ مُتَحَرِّكٍ سُكُونٌ، وَ نِهَايَةُ كُلِّ مُتُكُوِّنٍ أَنْ لاَيَكُونَ، فَإذَا كَانَ ذَلِكَ كَذلِكَ، فَلِمَ التَّهَالُكُ علی هَالِكٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا الدُّنْيَا تُطْلَبُ لِثَلاثٍ: لِلْعِزِّ وَالْغِنَي وَالرَّاحَةِ، فَمَنْ قَنَعَ عَزَّ، وَ مَنْ زَهِدَ اسْتَغْنَي، وَمَنْ قَلَّ سَعْيُهُ اسْتَرِاحَ. فما الذي يعنيه الإمام في قوله «صائرون خبراً بعد أثر»؟ أي لا أثر بعدُ من وجودهم، و من قدرتهم و علمهم، و من حياتهم الدنيويّة، و لا أثر من جميع صفاتهم و مخلّفاتهم، فلقد صاروا خبراً مضي و انقضي. كانوا بالامس أثراً فصاروا اليوم خبرا، و تبدّلت هويّاتهم، فمن كان يُذكر بـ«السيّد... أيدّه الله» صار يذكر اليوم بـ «المرحوم... رحمه الله». اليوم يقولون: شافي الله فلاناً! اقرأوا له سورة الحمد؛ و سيقولون غداً: رحمه الله! اقرأوا له الفاتحه. أين صار إخوتنا؟ و آباؤنا؟ و أجدادنا؟ أين ذهب أجدادنا؟ لقد صاروا جميعهم خبراً، و كانو يوماً ما أثراً، و أيّ أثر مهم! كانت الدنيا تهتزّ تحت أقدامهم، و آذان الافلاك تصمّ من صراخ أنانيّتهم، كان ذلك جميعه أثراً. كانوا يأتون الی المساجد فيجلسون و يصغون الی النصائح و المواعظ، لكنّ ذلك كلّه كان أثراً، و صار أولئكم اليوم خبراً بأجمعهم. و نحن أيضاً اليوم أثر، نتحدّث و نسمع و نتحرك بحيويّة و نشاط، و صائرون في الغد خبراً، و سيُقال عنّا: رحمهم الله، كانوا بالامس أثراً و صاروا اليوم خبراً. بيد انّ هذه القرعة لا يخرج سهمها بإسمهم فقط، بل انّها كالجَمَل الذي سيبرك علی عتبة كلّ دار، و الذي سيستقبل كلّ شخص. انّ نهاية كلّ متحرك الی السّكون، و عاقبة كلّ من ارتدي لباس الحياة و الوجود أَنْ لا يَكُون. و حين يكون الامر كذلك فبأيّ دليل و بأيّ مجوّز عقليّ يُلقي الشخص بنفسه في فم الهلاك الفاغر من أجل نيل أشياء فانية تالفة، و يتسابق في التهالك و إلقاء النفس في التهلكة للوصول الی هذه الامور الفانية الزائلة؟ اعلموا ايّها الناس انّ الدنيا انّما طُلبت لثلاثة أمور: للعزّة و للغني وللراحة؛ فمن زهد في الامور الدنيويّة و لم يرغب فيها استغني دوماً، ومن سلك سبيل القناعة عَزّ دوماً، و من قلّل سعيه و مجهوده للوصول الی الدنيا كان في راحة. لقد جاء الدين من قِبل الله تعالي ليقول للإنسان: أيّها الانسان لستَ مُهْمَلاً مغفولاً عنه، و لستَ موجوداً متفرّداً معزولاً عن جميع الموجودات، لستَ متفرّقاً مشتّتاً، بل متّصل بجميع العالم، و مرتبط بإِلهك. أنت جزء وفرد من مجموعة عالم الكون، جئت لهدف معيّن، و تعيش في هذه الدنيا لمقصد خاصّ، و ستذهب من هنا الی مكان آخر. رَحِمَ اللَهُ امْرَءً عَلِمَ مِن أَيْنَ وَ فِي أَيْنَ وَ الی أَيْنَ. و قد جاء في الرواية انّ اميرالمؤمنين كان يقرأ هذه الآية (الآية 36 من السورة 75): أَيَحْسَبُ الإنْسَنُ أَنْ يُتْرَكُ سُدًي. [15] فكان يكرّرها و دموعه تنساب جارية من عينيه. [16] انّ جميع فيض و رحمة الخالق من عوالم الغيب تشمل حال الفرد الذي لا يري نفسه مهملاً و مخلوقاً عبثاً في عالم الوجود و ساحة الخلقة، بل يري انّه قد جاء من عندالله و ورد هذه الدنيا لمهمّة معيّنة وفق برنامج معيّن ينبغي العمل به و تطبيقه، فهو يتحرّك في هذه الدنيا صوب خالقه سعيداً مبتهجاً، و يرحل عنها بيُسر و شوق و لهفة قاصداً مقام رضوان ربّه. و اذا ما أدرك الانسان هذا المعني جيّداً، و وضع أعماله و سلوكه وفق هذا الاساس و الفكر المتين الراسخ، فانّ موته و رحيله سيكون من اليُسر والسهولة بحيث يفوق في سهولته سحب شعرة من اللبن. تأثير ميزان التعلّق بالدنيا في سهولة الموت و صعوبتهو حين يقدم عزرائيل لقبض روح العبد المؤمن، فيراه متثاقلاً في حركته الی ذلك العالم لاُنسه بأولاده و أرحامه و أقاربه و متعلّقاته، و يلحظ في المؤمن قدراً من التأنّي و التأمّل في استقبال الموت، فانّ ذلك الملك المقرّب يعود الی الربّ الودود و يعرض له علّة تأنّي المؤمن، فيأتي الخطاب: اكتب علی راحة يدك بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. و أرها ايّاه. فيكتب عزرائيل علی راحة يده اليمني بسم الله الرحمن الرحيم ويُريها للمؤمن، فيري المؤمن نفسه فجأةً في عالم آخر يرتع في بحبوحات الجنّة و النعيم، و لا يدرك كيفيّة حركته و موته، هذه هي حال المؤمن. ولكن، و العياذ بالله من سكرات موت الكافر الذي أنفق عمره كاملاً في جهة معاكسة لعالم الحياة، و الذي أفسده في اللهاث المحموم وراء زخارف الدنيا و زينتها و زبرجها، و قضي ساعات عمره و دقائقه وراء الجاه و الاعتبار، متناسياً ربّه الرحيم الرؤف، فخسر لذلك نقد عمره في صفقته مع أعدائه الذين ينزعون به الی عالم الاعتبار و العدم، و صارت كلّ واحدة من هذه المتعلّقات في حاله تلك أشبه بسلسلة فولاذيّة أوثقت قلبه فصارت تجرّه صوبها. فكيف سيتأتّي الرحيل بيُسر مع آلاف التعلّقات و آلاف السلاسل؟ و هكذا فانّ ذرات جسد هذا الكافر لو مُزّقت كلّ ممزّق فانّه لن يختار الرحيل بإرادته. و يأتي الخطاب هنا أنْ: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ¥ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. [17] و ما إن يدرك مغزي النداء حتي يُساق مدهوشاً مذعوراً الی عالم الغُربة و الظلمات. أفضل الاعمال الإجتناب عن المحرّمات؛ و خطبة رسولالله في شهر شعبان
لقد
وعظ رسول الله صلّي الله عليه و آله الناس في خطبته التي ألقاها في آخر
جمعة من شهر شعبان، بأنّ هذا الشهر المقبل عليكم هو شهر البركة و الرحمة، و
شهر المغفرة و الدعاء و الإجابة، شهر الصلاة و شهر تلاوة القرآن، شهر الصدقة
و صلة الرحم و الإيثار، شهر أداء الفرائض والصيام و الإنفاق، و ربيع المغفرة
و العفو و التخفيف و معني ذلك انّ المؤمن لاينبغي عليه فقط أن يجتنب في شهر رمضان الآداب السيئة التي ذكرها الفقهاء في كتبهم العلميّة، بل عليه في شهر الرحمة هذا أن يستجلب الرحمة بكلّ أرجاء وجوده، و أن يتحلّي بالخشوع و الخضوع و يشتغل علی الدوام بذكر الله سبحانه، و أن يُسابق الی كلّ ما يقرّبه الی الله زلفي، و ان يفرّ من كلّ ما يبعده عن الله، و أن يعمل بما أمرا لله و يجتنب ما نهي عنه، و أن يغضّ بصره عمّا لا يحلّ له النظر اليه، و ان يجتنب سماع ما نُهي عن سماعه. و خلاصة الامر فقد بيّن الرسول بكلامه في خطبته ذلك الصراط المستقيم الذي يمثّل الفاصلة القصوي بين الإنسان و بين الله. ثم يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في نهاية هذه الرواية التي نقلها عن الرسول: فَقُمْتُ وَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَهِ! مَا أَفْضَلُ الاْعْمَالِ فِي هَذا الشَّهْرِ؟
فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ! أَفْضَلُ الاْعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ
الْوَرَعُ فَقَالَ: أَبْكِي لِمَا يُسْتَحَلُّ مِنْكَ فِي هَذَا الشَّهْرِ، كَأَنِّي بِكَ وَ أَنْتَ تُصَلِّي لِرَبِّكَ وَ قَدْانْبَعَثَ أَشْقَي الاْوَّلِينَ وَالاْخِرِينَ، شَقِيقُ عَاقِرِ نَاقَةِ ثَمُود فَضَرَبَكَ ضَربَةً علی قَرْنِكَ فَخُضِبَتْ مِنْهَا لِحْيَتُكَ!
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَهِ فِي سَلاَمَةٍ مِنْ دِينِي؟ فَقَالَ صَلّي الله
عليه ثُمَّ قَالَ: يَا علی مَنْ قَتَلَكَ فَقَدْ قَتَلَنِي، وَ مَنْ أَبْغَضَكَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي لاِنَّكَ مِنِّي كَنَفْسِي وَطِيْنَتُكَ مِنْ طِينَتِي وَ أَنْتَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي.[18] ارجاعات [1] ـ تفسير الميزان،طبعة الآخوندي،ج 20 ،ص 454. [2] ـ يمكن استنباط مسألة أفضليّة الانسان علی الملائكة من آيات القرآن بوجوه عديدة،أوّلها أنّ الله تعالي أمر الملائكة بالسجود لآدم،و لا معني لان يصبح وجود ناقص محلّ سجود وجود كامل،بالرغم من انّ علّة السجدة كانت ذلك السرّ الذي أودعه الله في آدم، ولكن صار آدم علی كلّ حال مسجوداً له. الثاني: قوله في سورة البقرة ( 2 )،الآية 30: وَ إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاْرْضِ خَلِيفَةً و خلافة الله علی نحو مطلق هي للموجود الاكمل. الثالث: قوله في سورة ص ( 38 )،الآية 71 و 72: « إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـ'ئِكَةِ إِنِّي خَـ'لِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَ'جِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ الكَـ'فِرِينَ * قَالَ يَـ'إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَديَّ اسْتَكْبِرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. فقد صرّح هنا ان علّة السجدة هي نفخ روح الله،و كذلك قول الله سبحانه انّه خلق آدم بيديه،و المقصود بذلك تلك التجليات لجميع الصفات الجماليّة و الجلاليّة. و الرابع: قوله في سورة المؤمنون ( 23 )،الآية 14 في شأن خلقة الإنسان: «فَتَبَارَكَ اللَهُ أَحْسَنُ الْخَـ'لِقِينَ» و قد روي الشيخ الصدوق في «علل الشرائع» عن أبيه،باسناده عن عبدالله بن سنان قال: سألتُ أبا عبدالله جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم ؟ فقال: قال أميرالمؤمنين علی بن أبي طالب عليه السلام: انّ الله عزوجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة،و ركّب في البهائم شهوةً بلا عقل،و ركّب في بني آدم كليها،فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة،و من غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم. (الباب 6 ،ص 4 ،العلّةالتي من أجلها صار في الناس مَن هو خير من الملائكة و صار فيهم مَن هو شرّ من البهائم). ï ï و قد حكي هذا الحديث في وسائل الشيعة أيضاً،الطبعة الحروفية،ج 11،ص 164،نقلاً عن علل الشرايع،و رواه أيضاً الشيخ هادي كاشف الغطاء في مستدرك نهج البلاغة،طبع مكتبة الاندلس - بيروت،ص 172 ،عن أميرالمؤمنين عليه السلام. و قد نظمه المثنوي شعراً: در حديث آمد كه خلاّق مجيد خلق عالم را سه گونه آفريد يك گرُه را جمله عقل و علم وجود آن فرشته است و نداند جز سجود نيست اندر عنصرش حرص و هوي نور مطلق زنده از عشق خدا يك گروه ديگر از دانش تهي همچو حيوان از علف در فربهي او نبيند جز كه إصطبل و علف از شقاوت غافل است و از شرف وان سِوُم هست آدميزاد و بشر از فرشته نيمي و نيمش ز خر نيم خر خود مايل سِفلي بود نيم ديگر مايل عِلوْي شود تا كدامين غالب آيد بر نبرد زين دوگانه تا كدامين بُرد نَرد «مثنوي» الدفتر الثالث،طبع ميرخاني ص 361 يقول: جاء في الحديث انّ الخلاق المجيد خَلَقَ العالَم في ثلاث مجموعات: الاولي كلّها عقل و علم وجود،و هم الملائكة الذين لا يفقهون الاّ الذكر و السجود. وجودهم و عناصرهم تخلو من الحرص و الهوي،فهم نورٌ محض مطلق،يعيشون بعشق الله. و مجموعةٌ لا حظّ لها من العلم و الفكر،مثل الحيوان الذي ينمو و يسمن بتناول العلف فقط. فهو لا يري غير العلف و الاصطبل،غافلاً عن الشرف و عن الشقاء. و المجموعة الثالثة هم البشر من بني آدم،الذين نصف وجودهم من الملائكة والنصف الآخر من الحمير والبهائم. فنصف البهائم يميل الی الضَّعة و التسافل،بينما ينزع النصف الآخر الی العلوّ ï ïوالارتقاء. و هاتان القوّتان في وجود البشر في صراع يتميّز فيه الغالب الذي يفوز بلُعبة النَرد هذه. و قد أورد المؤرّخ الامين المسعودي في «مروج الذهب»،طبع مطبعة السعادة، 1367 هجري،ص 33 ،ضمن رواية شيّقة و بديعة رواها عن أميرالمؤمنين عليه السلام،أنّه قال: «فلّما خلق الله آدم أبان فضله للملائكة و أراهم ماخصّه به من سابق العلم من حيث عَرَّفه عند استنبائه ايّاه أسماء الاشياء،فجعل الله ادم محراباً و كعبة و باباً و قبلةً أسجد اليها الابرار والروحانيين الانوار». و يمكن افادة أفضليّة آدم علی الملائكة من تعبير الإمام انّ آدم صار محراباً لسجود الابرار و الروحانيين الانوار.
و قد روي العالم الجليل و المحدّث الخبير السيّد هاشم البحراني في
تفسير البرهان،سورة ص، 38 ذيل الآية المباركة 75 «قَالَ
يَـ'إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَديَّ
اسْتَكْبِرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ» عن ابن بابويه،عن
عبدالله بن محمّد بن عبدالوهاب ، [3] ـ الآية 37 ـ 39 ،من السورة 24: النّور. [4] ـ الآية 20 ،من السورة 57: الحديد [5] ـ نقل هذا المطلب عن الشيخ البهائي،العلاّمة الطباطبائي مدّ ظلّه العالي * في حاشية الرسالة المخطوطة «الانسان في الدنيا»،كما نقلها عن المرحوم الشيخ بواسطة في «تفسير الميزان»،ج 19 ،ص 188 ضمن تفسير هذه الآية من سورة الحديد.
* أُلّف هذا الكتاب في زمن حياة العلاّمة قدّس سرّه،فآثرنا
إبقاء التعبير كما ورد [6] ـ أورده في كتاب أربعين جامي،طبع العتبة الرضوية المقدّسة (آستان قدس رضوي) بهذا اللفظ: يَشِبُ ابْنُ آدَمَ وَ يَشُبُّ فِيهِ خَصْلَتَانِ الْحِرْصُ وَ طُولُ الاْمَلِ. و يقول في مجموعة ورّام ابن أبي فراس بإسم «تَنْبِيهُ الْخَوَاطِر و نُزْهَةُ النّواظر»،الطبعة الحجرية،ص 204: و قال صلّي الله عليه و آله و سلّم: يَهْرَمُ ابْنُ ءادَم وَ تَشُبُّ مِنْهُ اثْنَتَان (خَصْلَتَانِ نسخه ل) الْحِرْصُ وَ طُولُ الاْمَلِ. و أورد الصدوق في الخصال،طبع الاسلاميه سند 1389 ،باب الاثنين،ج 1 ،ص 73 بسند واحد عن أنس: إنَّ النَبيَّ صلّي الله عليه و ءاله قال: يَهْلِك ـ أوقال يَهْرَمُ ـ ابْنُ ءَادَمَ وَيَبْقِي مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ وَ طُولُ الاْمَلِ. و أورد بسند آخر عن أنس عن رسول الله صلّي الله عليه وآله قال: يَهْرَمُ ابْنُ ءادَمَ وَ يَشُبُّ مِنْهُ اثْنَانِ: الْحِرْصُ علی الْمَالِ وَالْحِرْصُ علی الْعُمْرِ. و قد ذكر هاتين الروايتين الاخيرتين المحدّث النوري في كتاب مستدرك وسائل الشيعة،الطبعة الحجريّة 1319 ،ج 2 ،ص 335 ،عن نوادر السيّد فضل الله الراوندي باسناده المتّصل. [7] ـ الآية 25 ،من السورة 84: الانشقاق. [8] ـ الآية 40 ،من السورة 40: غافر. [9] ـ الآية 62 ،من السورة 19: مريم. [10] ـ الآية 20 ،من السورة 57: الحديد. [11] ـ الآية 20 ،من السورة 57: الحديد. [12] ـ الآية 21 ،من السورة 57: الحديد [13] ـ الآية 7 و 8 ،من السورة 18: الكهف [14] ـ نهج البلاغة شرح عبده،مطبعة عيسي البابي الحلبي بمصر،ج 1. [15] ـ الآية 36 ،من السورة 75: القيامة [16] ـ الغدير،المطبعة الاسلامية،الطبعة الثانية 1372 ،ج 6 ،ص 172 ،ضمن قصّة ينقلها عن كنز العمال،ج 3 ،ص 179 ؛ و عن مصباح الظلام للجرداني ج 2 ص 56. كما ينقل الشيخ محمد تقي الشوشتري هذه القصة بجميع تفاصيلها في كتاب (قضاوتهاي أميرالمؤمنين عليه السلام) ص 147 و 148 ،عن كتاب (التشريف بالمنن في التعريف بالمحن) للسيّد علی بن طاوس،الذي طُبع في النجف بإسم (الملاحم و الفتن) ووردت في كتاب (الملاحم و الفتن) ص 154 و 155. [17] ـ الآية 30 و 31 ،من السورة 69: الحاقّة. [18] ـ يروي أصل هذا الحديث الشريف مع تتّمته التي ستُذكر فيما بعد،الصدوق في كتاب «عيون أخبار الرضا»،الطبعة الحجرية،الباب 28 ،ص 192 ،و في «الامالي»،ص 57 و 58. و قد رواه أيضاً صاحب الوسائل في «وسائل الشيعة» عن العيون الی لفظ «الورع عن محارم الله»،الاّ انّه قام بتقطيع الحديث باعتبار انّ باقيه لا يتعلّق بالاعمال المستحبّة والاجتهاد في الصلاة. لكنّ السيد ابن طاوس يرويه بتمامه في اوّل كتاب «الاءقبال» عن محمد بن أبي القاسم الطبري في كتاب «بشارة المصطفي لشيعة المرتضي»،باسناده عن الحسن بن علی بن فضال،عن الامام علی بن موسي الرضا عن آبائه الكرام الواحد تلو الآخر الی أميرالمؤمنين عليه السلام. كما يرويه الشيخ بهاء الدين العاملي في الحديث التاسع من كتابه «الاربعين» الطبعة الحجرية،ص 81 ـ 83 عن المرحوم الصدوق محمد بن علی بن الحسين ابن بابويه القمّي،و يرويه كذلك المرحوم الفيض القاساني في كتاب الوافي،باب فضل شهر رمضان،عن كتاب عرض المجالس للصدوق،و هو نفس كتاب الامالي،عن أحمد بن الحسن القطان،عن أحمد بن محمد بن سعيد. و تتمّة الرواية: إن الله تبارك وتعالي خلقتني و إياك ! فاختارني للنبوة،و اختارك للاءمامة. فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوّتي،يا علی أنت وصيّي و أبو ولدي،و زوج ابنتي،و خليفتي علی أمتّي في حيوتي وبعد موتي،أمرك أمري،و نهيك نهيي،أُقسم بالذي بعثني بالنبوّة و جعلني خير البريّة انّك لحجّة الله علی خلقه،و أمينه علی سرّه و خليفته علی عباده. انتهي. و قد روي هذه التتمّة المحدث العظيم السيد هاشم البحراني في «غاية المرام» الطبعة الحجرية ص 29 ،عن ابن بابويه باسناده عن الاصبغ بن نباته عن أميرالمؤمنين عليه السلام،و رواها الشيخ القندوزي الحنفي في «ينابيع المودّة» طبع اسلامبول،سنه 1301 ،ص 53 ،عن كتاب المناقب. |
|
|