|
|
الصفحة السابقةفي الآخرة يُسئل عن بضاعة العبوديّة و التقوي لاغيرهاان الاعتبارات التي اكتسبها الانسان في هذا العالم علی أساس النفس الامّارة لا تمتلك رخصة الورود هناك، و ستعدّ هناك أمتعة و بضائع مهربة سيجري التحقيق بشأنها و ترمي بعيداً في الجمارك المتمركزة في حدّ الموت الفاصل بين العالمين. أمّا اذا أراد أحد أن يصحب معه شيئاً، فانّ عليه ان يُنفقه في هذا العالم في سبيل اللَه و من أجل رضاه؛ فالمال الذي يريد استصحابه يتوجّب عليه أن يُنفقه هنا لينتقل تلقائيّاً هناك. و العلّة في هذا الامر انّ نفس الإنسان ستصبح طاهرة و ملكوتيّة بواسطة الإنفاق في سبيل اللَه، و ستألف عالم الحقائق و تتعرّف عليه، وهذه الالفة هي التي ستحظي بالتقدير هناك في ذلك العالم. انّ متاع ذلك العالم هو التوحيد و العدل و التقوي و الخطو بقدم الصدق، و التعامل بالصفاء و سلامة الطويّة، و رعاية حقوق الآخرين و عدم المساس بها، وعدم تخطّي دائرة العبوديّة للمعبود تعالي خطوة واحدة. التعيّنات الدنيويّة بضاعة كاسدة في تلك الدنياو اذا ما كان أحد يحظي في الدنيا بأيّ نوع من الامور الاعتباريّة فيها، كالاولاد و العشيرة الكبيرة مثلاً، أو بامتلاكه أفراساً مرصّعة بالجواهر؛ واذا ما كان مستلفتاً للانظار بجميع شؤونه بلحاظ عالم الاعتبار، فكان أحد أبنائه دكتوراً و الآخر مهندساً، و كان يمتلك قصراً صيفيّاً يصطاف فيه و آخر يقضي فيه فصل الشتاء، فانّه مع ذلك كلّه لو قال هناك: انّ ابني دكتور! فانّهم سيردّون عليه: ما الذي جلبته لنا؟ نحن نريد قلباً طاهراً و عقيدة منزّهة سليمة. و سيقول: انّ ابني الآخر مهندس! و يردّون: كم أنفقتَ في الدنيا؟ و ما الذي قدّمت عن طريق ولدك المهندس هذا من أعمال الخير للناس سعياً لنيل رضا اللَه؟ و سيُضيف: لقد كنت أمتلك قصراً! فيجيبون: أكان ذلك القصر محلاًّ لتردّد الناس و قضاء حوائجهم؟ أكان ملجأً للايتام و الضعفاء و المحتاجين؟ أبسطتَ فيه موائدك أمام الجياع ام انّك أغلقتَ بابه فجعلتَه محلاًّ خاصّاً لإطفاء شهواتك و للتمتّع بلذائذك الشهويّة؟ هنا عالم التوحيد، هنا عالم الحساب، هنا عالم الجزاء و مشاهدة عاقبة الاعمال التي اجترحتها في الدنيا حسنةً كانت أم سيّئة. هذا مكانٌ لا تراب فيه و لا هواء، لا ضحك و لا سعادة ماديّة فيه و لا بكاء و لا حزن طبعيّ، ليس فيه أمّ و لا أب و لا طائفة و لا عشيرة، و لا ذهب و لا فضّة، و مهما شئت أن تقدّم أيّاً من هذه الامور كرشوة تنجيك وتبعد بك عن نتائج أعمالك القبيحة فلن يجديك نفعاً، و ذلك لانّ ما ينفعنا هنا و ما نسأل عنه هو طهارة الباطن و تزكية الاخلاق و العمل الصالح الحسن. ما مقدار العلم الذي جئتَ به؟ و ما حجم الحلم الذي جئتَ به؟ و ما حدّ العبوديّة للَه التي صدرت منك؟ ما مقدار ألفتك التي اكتسبتها بمشاهد هذا العالم بواسطة الصلاة و الصيام و الجهاد و الحجّ و الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، و بالزكاة و الخمس و الصدقات و صلة الرحم و قضاء حوائج إخوانك في الدين و الإيثار و المحبّة و ولاية أولياء الحقّ و أئمّة الدين؟ أهلاً و سهلاً و مرحباً بك هنا، تفضّل و تنعّم و استعد بمقدار ما جئتَ به من هذه الامتعة. امّا الشخص الذي لم يكتسب معرفة ذلك العالم و لم يألفه و ظلّ غريباً عنه، ذلك الذي عميت عيناه الملكوتيّتان، فانّه لو شاء ان يخطو الی الامام خطوة واحدة فانّه سيواجه الهلاك. كيفيّة قبض أرواح الظالمين في منطق القرآن الكريمو ما أعجب ما يصف القرآن الكريم في خطابه للنبيّ الاكرم حال الظالمين في سكرات الموت: وَلَوْ تَرَي إِذِ الظَّـ'لِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ علی اللَهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آيَـ'تِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ¥ وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَي كَمَا خَلَقْنَـ'كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَـ'كُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَ مَا نَرَي مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَـ'وءُا لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُم مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [1] و هذه الآيات تبيّن أنّ جميع الامور و الجوانب التي يعوّل عليها الانسان في الدنيا تفني و تتلاشي عند الموت. فالإنسان يعوّل في الدنيا علی أمرين: أحدهما المال و الثروة، من الذهب و الفضّة و الخيول المطهّمة والمتاجر و الدرهم و الدينار و بيوت السكن و أمثالها من الامور التي يستخدمها الانسان لقضاء حوائجه المعيشيّة. و الثاني: الولد و الزوجة و الرفيق و الصديق و الاقارب و الشريك وأمثالهم الذين يتوسّل بهم لسدّ احتياجاته؛ فهو يطلب أمراً من هذا الرفيق، و أمراً من ذاك، و يطلب من أمّه حاجةً، و من ولده حاجة، و من الرئيس و الحاكم و كبير المحلّة حاجة، و من الثريّ و المقتدر حاجة؛ فهو يتوسّل بهؤلاء في مواقع الحاجة و الضرورة فيقومون بفعل ما يمكنهم فعله له؛ و لا شيء آخر هناك غير هاتين المجموعتين. و هكذا فانّ الانسان حين يريد الإرتحال فانّ الملائكة تخاطبه: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَي كَمَا خَلَقْنَـ'كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ لقد ولدتم من أرحام أمّهاتكم و جئتم لا تملكون درهماً و لا ديناراً، و لا بيتاً و لا زراعة و لا تجارة، لا تملكون دفتر صكوك و لا كمبيالات و لا اعتباراً، لانّكم كنتم خالين من هذه الامور، لا تعرفون أباً و لا أمّاً و لا أخاً، و لا تميّزون حاكماً و لا محكوماً، و لا رئيساً و لا مرؤساً، و لا مُطيعاً و لا مُطاعاً، كأنّ ذلك لم يكن شيئاً مذكوراً. أين كنتم هناك؟ كم كنتم طاهرين و منزّهين هناك؟ لكنّكم جئتم هنا فلوّثتم أنفسكم؛ و عليكم ـ و أنتم تريدون العودة ـ أن تنسوا هذه الامور جميعاً و تركنوها في زاوية النسيان، فتعودون الينا فُرادي. ثمّ انّ اولئك الملائكة يقومون بتفصيل ما أجملوا ذكره للإنسان، ويوضحون له انّ احدي تلك المجموعتين اللتين كنت تعوّل عليهما كان المال الذي تعتمد عليه و تضع عليه أساس حياتك، لكنّك تركته الآن خلف ظهرك، و ودّعته وداع مفارق لا يعود: وَ تَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَـ'كُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ. نحن خوّلناكم و أعطيناكم ما أعطيناكم من مال، و ذلك لتفيدوا منه بالطريفة الصحيحة، و لتنفقوه في مصالحكم، و في طريق الرقيّ و التكامل الروحي و ارتقاء مراتب الإنسانيّة و درجاتها، لكنّكم أسأتم التصرّف فيه، فأنفقتموه فيما يعود عليكم بالضرر، و أضعفتم أنفسكم به فألقيتم بها أخيراً في التهلكة، و ها أنتم قد تركتموه بأجمعه. هذا هو حساب أموالكم! أمّا اولئك الاعوان و الاولاد و النساء و الرفقاء و المعارف الذين كنتم تعتمدون عليهم، أولئك الذين كانوا يعينونكم في مواقع العُسر والضرورة، و الذين كانوا يُضافون الی قواكم لإنجاز أهدافكم و مقاصدكم فيصبحون قرناءكم، و الذين كانوا أعوانكم و مساعديكم في الامور التي تعجزون عن مواجهتها لوحدكم، فقد فارقوكم هم أيضاً فلم يأتوا معكم هنا، لانّا لا نراهم معكم: وَ مَا نَرَي مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَـ'وءُا. لماذا لم يأت هؤلاء؟ لماذا لم تأتوا معكم بأبيكم، و أمّكم، وزوجتكم، و ولدكم، و معتمد محلّتكم، و رئيسكم، و معاونكم؟ لِمَ لَمْ يأتِ شريكُكم معكم؟ انّنا ـ مهما أمعنّا النظر ـ لا نري معكم منهم أحداً. هذا عالمٌ نراكم فيه فُرادي وحيدين بكلّ معني الكلمة. ثمّ يبيّن الملائكة علّة عدم تمكّن الإنسان من جلب أمواله و أعوانه معه من هنا الی هناك: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ. لقد حلّ بينكم الفراق، لانّكم تهاجرون من هذه النشأة الی نشأة أخري، و ترحلون من هذه المدينة الی ديار أخري لا تردها آلات هذه الديار و لا أسبابها، و لا تجد فيها عادات و آداب هذه الديار سبيلاً و لا محلاًّ. ذلك العالم عالم الملكوت، و هذا العالم عالم المُلك. ذاك عالم علويّ، و هذا عالم سفليّ. هناك دار الحقيقة، و هذه دار المجاز. هناك محلّ الاستقرار، و هنا محلّ العبور و الانتقال. شؤون الآخرة متناسبة معهاهناك حيث يجري التعامل مع الانسان علی أساس الحقائق، و هنا عالم الاعتبار و التفكير بالمصالح و المحافظة عليها؛ و هناك محلّ التحقّق والواقعيّة، و هنا محلّ الاماني و الاوهام؛ و هناك عالم الفعليّة، و هنا عالم الاستعداد و القابليّة؛ هناك حسابٌ بلا عمل، و هنا عملٌ بلا حساب. و لانّ هذا العالم متفاوت و متباين مع ذلك العالم موضوعاً و حكماً، فقد تقطّع بينكم و بين اعتباراتكم في هذا العالم، و لهذا يقولون: وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. لقد خُيّل لكم في الدنيا انّ الآخرة تقتفي أثر الدنيا و تتمحور علی شأن من شؤونها، فأوصيتم أنْ: ليقم الشخص الفلاني بتزيين مقبرتي بالمرايا، و ببناء قبري بالرخام، و بإعداد أثاث المقبرة و فراشها بشكل لائق، و بأن يضع علی الدوام مزهريتيْ ورد علی القبر، و ينضد حوله الارائك الفخمة، و لينثر علی قبري كلّ ليلة جمعة باقةً من الورود اليانعة. انّ هذه أمور لا تنفع و لا تجدي شيئاً، هذه زينة عالم الغرور لا عالم الملكوت، الميّت يذهب الی الملكوت، و ينبغي ان يُهدي له شيء ينفعه ويُجديه. انّ ما سينفع الميّت آنذاك الاولاد الصالحون، و الصدقة الجارية، والعلم الذي خلّفه للناس لينتفعوا به، و الإنفاق علی الفقراء و الضفعاء، ومساعدة البؤساء، و تربية الايتام و تفقّد أحوالهم، و نشر العلم و التقوي في المجتمع، و إقامة الصلاة و تلاوة القرآن و التدبّر فيه، كما سينفعه طلب المغفرة له. أمّا هذه الزينات التي سبق ذكرها، فعلاوة علی أنّها لن تجديه نفعاً فهي ضارّة له، لانّ أخذ باقات الورد الی الميّت و إهداءها الی قبره بدعة وحرام، كما انّ تزيين القبور بهذه الاشكال المذكورة حرام أو مكروه كراهة شديدة علی أقلّ تقديرّ و هي أمور تؤذي الميّت. كما انّ تجميل المقابر بمثل هذه الكيفيّة مخالف لتعاليم الاسلام. اننا نتخيّل ـ و نحن نعيش في هذه الدنيا ـ انّ شؤون الآخرة تماثل شؤون الدنيا، و هو تفكير سقيم خاطي، فنجد الميّت يوصي: ادفنوني في هذه المقبرة فأنا أخاف من الارض التي لا سقف لها. ذلك لانّه يتخيّل انّ الامر هناك كما هو هنا، فاذا دفنوه في غرفة ذات سقف فانّه سيكون مُصاناً محفوظاً، امّا لو أودعوه التراب في ارض مستوية فانّ الثلوج و الامطار ستؤذيه، كما انّ حركة الناس فوق قبره و مزاره ستزعجه، و كفي بذلك جهلاً! لقد اصطحبت الملائكة الروح الی عالم البرزخ، و صار البدن المطروح في القبر طعاماً للديدان و الافاعي، و لقد أهلكت هذه الجهالة جميع أفراد البشر، و قد ضجّ القرآن الكريم بالنداء: وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. لقد فنيت خيالاتكم و أوهامكم و تبدّدت في رمال العدم و في تيه الضلالة. بلي، انّ منزل الآخرة يحتاج سقفاً، و يحتاج فراشاً، و وروداً ومرايا؛ لكنّ سقفه الجُنّة من النار، و هو الاجتناب عن المحرّمات؛ وفراشه الاستقرار في محلّ الامن، و ذلك هو التقوي؛ و مرآته صفاء الباطن ليصبح محلّ تجلّي أسماء اللَه و صفاته؛ كما انّ وروده نسيم الرحمة المعطّر الهابّ من جانب الجنّة، و هو التجلّي بالجمال الالهيّ. خطبة مفصّلة لاميرالمؤمنين عليه السلام في كيفيّة حال الاحتضاريقول مولي الموحّدين و أميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغه: وَ لاَ يَزْدَجِرُ مِنَ اللَهِ بِزَاجِرٍ، وَ لاَ يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ، وَ هُوَ يَرَي الْمَأْخُوذِينَ علی الغِرَّةِ ـ حَيْثُ لاَ إقَالَةَ وَ لاَ رَجْعَةَ ـ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَ قَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ علی مَا كَانُوا يُوعَدُونَ؛ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ. اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ؛ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ، وَ إنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، وَ علی صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ. يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَي عُمْرَهُ، وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ، وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبَهاتِهَا. قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَ أَشْرَفَ علی فِرَاقِهَا، تَبْقَي لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا؛ فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ الْعِبْءُ علی ظَهْرِهِ، وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونهُ بِهَا. فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً علی مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمْرِهِ. وَ يَتَمَنَّي انّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ. فَلَمْ يَزَلْ الْمَوْتُ يُبالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّي خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَ لاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ؛ يَرَيحَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ.
ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ
سَمْعُهُ، ثُمَّ حَمَلُوهُ الی مَخَطِّ فِي الاْرْضِ، وَ أَسْلَمُوهُ فِيهِ الی عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ، حَتَّي اِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَ الاْمْرُ مَقَادِيرَهُ وَ أُلْحِقُ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ، أَمادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا؛ الخطبة [2] و قد بيّن أميرالمؤمنين عليه السلام في صدر هذه الخطبة (الذي تجاوزناه و لم نذكره) مسائل عن توحيد اللَه عزّ و جلّ، ثمّ عن خلقة الملائكة، و تحدّث بعد ذلك عن تمرّد الناس علی دعوة رسول اللَه صلّي اللَه عليه و آله و ميلهم الی جيفة الدنيا. ثمّ قال بعد ذلك: وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَي بَصَرَهُ وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ؛ حتّي يصل في كلامه الی حديثه عن هذا الشخص ذي القلب المريض و البصيرة العمياء فيذكر الكلام الذي نقلنا عباراته الشريفة. و لقد أوردنا الخطبة الی هذا الحدّ حيث محلّ الحاجة لبيان أحوال الشخص المحتضر عند سكرات الموت و صرفنا النظر عن نقل كلامه عليه السلام بعد ذلك في كيفيّة القيامة و حصولها. و لانّ الامام عليه السلام كان يقوم باستمرار بتوعية الامّة في خطبه، و تنبيهها الی هذه المواقع الخطيرة، فانّ خطبه الشريفة في نهج البلاغة علی اختلاف و تنوّع مطالبها تدور بأجمعها علی ثلاثة محاور: التوحيد، المعاد و الموت، و التقوي. أَيُّهَا النَّاسُ اِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ وَ الآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ. أيّها الناس، انّ الدنيا محلّ للعبور و الاجتياز، ليس لكم فيها إقامة ولا مكث، بل أنتم في حركة دائبة مستمرّة نحن الآن جالسون هنا، لكنّ نفوسنا لا توقّف لها و لا مكث؛ إنّ بدننا جالس هنا، لكن نفوسنا في حالة حركة. لقد تحرّكنا جميعاً في هذه الساعة و تقدّمنا ساعةً الی الامام، لقد مرّت ساعة كاملة و بَعُدت بنا عن زمن ولادتنا و اقتربت بنا الی زمن موتنا، و كنّا في جميع لحظات هذه الساعة في حركة، و كنّا نطوي مسيراً معيناً بلا لحظة من التوقّف. في هذه الحركة لم يكن لنا أي اختيار، و سواءً كنّا أنفسنا في حالة حركة و انتقال أم كنّا جالسين ساكنين؛ و سواءً كنّا نائمين أم يقظين، فانّ هذه المسيرة ستطوي في كلّ الاحوال، حتي نصل الی تلك النقطة المعهودة التي تمثّل زمان موتنا. أمّا الآخرة فهي دار القرار و السكون و الهدوء، دار الإقامة و المكث. لقد كنّا في تحرّك و نصب و تعب في هذه الدنيا، و كنّا أشبه بالمسافر الذي طوي طريقه و يريد الوصول الی منزله ليخلع ملابسه ويخلد الی الراحة و السكون. لذا ستنتهي في آخر نقطة و هي الموت، حركةُ سفرنا فنخلع لباس البدن البالي و نتخلص من كل آثاره و تبعاته، و نتخلّع بلباس التجرّد حيث سنصبح آنذاك مستعدين للسكون و الراحة. فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ
و
ذلك لانّ هناك عالم الفعليّة و الإقامة الذي يستحيل فيه إعداد الطعام و
الزاد و وسائل الراحة، لانّ إعداد هذه الامور يحصل بواسطة الحركة، اعملوا علی أن تكون فعليّتكم جيّدة، و صفحة أعمالكم ناجحة مقبولة، انّهم هناك سيبدلون هويّتكم و يُطلقون عليكم إسماً آخر، فاسعوا ان يكون ذلك الإسم إسم المؤمن و الصالح و المتّقي، لا اسم الكافر و الطالح و المتجرّي. ولو كان ذلك حاصلاً وفق الطريق الاوّل لكان ذلك المكث توأماً مع السرور و البهجة و النشاط و اللذة، امّا لو حصل بالطريق الثاني لجعل تلك الإقامة مشحونة بأنواع الغصص و المصائب. وَ لاَ تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ احفظوا حجب عفّتكم و أستار عصمتكم و حصانتكم من أن يعبث بها الشيطان أو تتلاعب بها النفس الامّارة، و لا تهتكوها في محضر عظمة الباري المطّلع علی خفايا أسراركم و العالم بخفاياكم. وَ أَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ من قَبْلُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ اعملوا علی أساس الحقّ لا وفق هوي النفس الامّارة، فانّ تلك الرغبات و الميول و النزعات ستزول شيئاً فشيئاً في تلك الحال، فيصبح قلب الإنسان طاهراً نقيّاً مصفّيً، و سيحلّ محلّ تلكم النزعات و الرغبات الحقُّ و رضا اللَه و رغبته، و سيجد المشابهة مع عالم الابديّة. امّا القلب الذي أنس بهوي النفس فانّ سيفتقد المشابهة مع ذلك العالم، و سيلفّه الاضطراب و القلق و عدم الاستقرار عند الموت، اي عند خروج الروح من البدن، ذلك الاضطراب و الفزع الذي لا يوصف. فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ وَ لِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ لقد جئتم الی هذه الدنيا من أجل اكتساب الملكات الحميدة و العقائد المنزّهة و الافعال الحسنة الحميدة، لذا فانّهم يضعونكم في بوتقة الامتحان و الاختبار، فيمتحنونكم كلّ ساعة ليتشخّص فيكم تقديم رغبات باطنكم علی رضا اللَه أو عكس ذلك. بيد انّ العلّة من خلقكم ليست لهذه الدنيا، بل لغيرها من عالم الابديّة و الفعليّة المحضة و الاستقرار في حرم أمن اللَه ولقائه. اِنَّ الْمَرْءَ اِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ: مَا تَرَكَ؟ وَ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةٌ: مَا قَدَّمَ؟ ان البشر في الدنيا ينظرون اليها لا يَعْدونها الی سواها، كما يعدّون الشخصية و الاعتبار دائرة علی محور التعيّنات الدنيوية من الزوجة و الولد والمال و الشغل و العشيرة و الاعوان، لذا فانّهم يتحدّثون عن كيفيّة موقع الانسان وفق موازين الاعتبار هذه، كما أن تجليلهم و احترامهم له يدور حول هذا المحور، و لذلك فانهم يتفاوتون في احترامهم للميّت وتكريمهم له ـ و هم لا يتصوّرون منه غير جنازته ـ باختلاف هذا الاساس و المحور. أمّا ملائكة اللَه فهم ينظرون الی الملكوت، و يعتبرون مقام الميّت و منزلته هناك علی أساس التقوي و الفضيلة و المعارف الإلهية و العلوم السرمديّة، لذا فانّهم يتحدّثون عن مكانته في هذا الحرم و يقيسون احترامهم له علی هذا الاساس و المحور. و تبعاً لاختلاف هذا الاساسا لديه فانّهم سيختلفون في تجليله و تكريمه ـ أي تكريم النفس الناطقة الملكوتيّة التي لا يعتبرون شيئاً غيرها ـ و ذلك باختلاف درجات الميّت و مراتبه، و سينشغلون تبعاً لذلك بإسكانه في المنازل المختلفة التي تليق بحاله. لِلَهِ آبَاؤُكُمْ فَقَدِّمُوا بَعْضاً يَكُنْ لَكُمْ قَرْضاً وَ لاَ تُخَلِّفُوا كُلاًّ فَيَكُونُ عَلَيْكُمْ[3]. أيّها الناس! أُقسم عليكم بآبائكم أن تقدّموا شيئاً لسعادتكم في آخرتكم، فيكون لكم قرضاً و ذخيرةً محفوظة عند الخالق المنّان، و يردّ اليكم يوم فاقتكم أضعافاً مضاعفة؛ و لا تتركوا كلّ ما لديكم في الدنيا وتخلّفوه فيها فيلحقكم وباله و يكون ثقلاً تنوء به كواهلكم. انّ الاموال التي يجمعها الانسان في الدنيا فيرتبط بكلّ منها بعلاقة، ثمّ تجتمع تلك العلائق فترتبط مع روحه برابطة لا تنفكّ عراها، ثمّ يأتي الوقت الذي يتحتّم عليه فيه الرحيل فيعجز عن حمل هذه الاموال و العلائق معه، و تظهر آثار هذا الارتباط و العَقد الذي قيّد روحه و أوثقها فتثقل علی روحه، حتّي كأنّ جميع هذه الاموال و العلائق قد وُضعت علی كتفيه فأُمر بحملها. عيادة رسول الله لاميرالمؤمنين عليه السلام؛ و شرحمطالب تتعلّقبالموتيروي المرحوم الكليني في كتاب الكافي عن علی بن ابراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبيعبداللَه الصادق عليه السلام قال: انّ أميرالمؤمنين عليه السلام اشتكي عينه فعاده النبيُّ صلّي اللَه عليه و آله فاذا هو يصيح. فقال له النبيّ صلّي اللَه عليه و آله أجزعاً أم وجعاً؟ فقال: يا رسول اللَه! ما وجعتُ وجعاً قطّ أشدّ منه. فقال: يا عليّ! إنّ ملك الموت إذا نزل لقبض روح الكافر نزل معه سفود من نار فنزع روحه به فتصيح جهنّم. فاستوي علی عليه السلام جالساً فقال: يا رسول اللَه أعِدْ علی حديثك فقد أنساني وجعي ما قلتَ. ثمّ قال: هل يُصيب ذلك أحداً من أمّتك؟ قال: نعم! حاكمٌ جائر و آكلُ مال اليتيم ظُلماً، و شاهدُ زورٍ[4]. و يروي المرحوم الصدوق في كتاب «معاني الاخبار» عن محمّد بن القاسم الجرجاني، عن أحمد بن الحسن الحسيني، عن الحسن بن عليّ، عن أبيه، عن محمّد بن عليّ، عن أبيه عليهم السلام قال: دخل موسي بن جعفر عليه السلام علی رجل قد غرق في سكرات الموت و هو لا يُجيب داعياً، فقالوا له: يا ابن رسول اللَه وددنا لو عرفنا كيف الموت و كيف حال صاحبنا. فقال: الموت هو المصفّاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يُصيبهم كفّارة آخر وزرٍ بقي عليهم، و يصفيّ الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم، و هو آخر ثواب حسنة تكون لهم، و أمّا صاحبكم هذا فقد نُخل من الذّنوب نخلاً، و صُفّي من الآثام تصفيةً، و خلص حتّي نقي كما ينقي الثوب من الوسخ، و صلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الابد[5]. انّ سكرات الموت الشديدة و العسيرة علی الكفّار و أهل الجحود و الإنكار، و علی أهل الذنوب الكبيرة المتعلّقة بحقوق الناس، هي في الوقت نفسه يسيرة للمؤمنين و أهل اليقين و الورع الذين يحفظون حقوق الآخرين، و لذيذة الی الحدّ الذي يجعل هؤلاء غير راغبين في العودة الی الدنيا، ولو خيّروا بين الذهاب للآخرة أو العودة للدنيا لفضّلوا اللحاق بالعالم الابدي. قصّةالملاقاةمعملكالموتوالخمسةالاطهاروالإمامموسيبنجعفرعليهمالسلامنقل لي أحد أقاربنا الاجلاّء من أهل العلم، و كان يسكن في سامرّاء، ثمّ في الكاظمين، و يقطن حاليّاً في طهران، فقال: ابتليتُ بمرض الحصبة الشديد أيّام كنتُ في سامرّاء، فعالجوني هناك مدّة بلا جدوي. ثم اصطحبتني والدتي و اخوتي من سامرّاء الی الكاظمين للمعالجة، فاستأجروا غرفة في احدي الفنادق القريبة من الصحن المطهّر و شرعوا بمعالجتي هناك، بيد انّ ذلك لم يؤثّر شيئاً، و كانت حالتي تزداد سوءاً حتّي غبتُ عن الوعي. ثمّ انّهم ـ و قد يئسوا من معالجة أطبّاء الكاظمين ـ ذهبوا يوماً الی بغداد فجاءوا بطبيب سنّي الی الكاظمين ليقوم بمعالجتي. جاء الطبيب و اقترب من فراشي و أراد الشروع بالمعاينة و الفحص، فأحسست علی الفور بثقل جعلني أفتح عيني بلا اختيار، فرأيت انّ هناك خنزيراً واقفاً عند رأسي، و لم أتمالك نفسي فبصقت في وجهه. صاح: ماذا تفعل، ماذا تفعل؟ أنا دكتور، أنا دكتور! فأشحتُ بوجهي الی الحائط، و شرع الدكتور بالمعاينة، ثمّ أصدر تعليماته و كتب وصفةً بالدواء. و هكذا فقد جلبوا الدواء الذي وصفه، و عملوا بتعاليمه بحذافيرها، الاّ انّها لم تنفع شيئاً، و كنتُ ألفظ أنفاسي الاخيرة. ثمّ رأيتُ انّ عزرائيل قد دخل بملابس بيضاء، و كان جميل وسيم الطلعة هاشًّا باشًّا. ثمّ قدم الخمسة الاطهار: الرسول الاكرم و أميرالمؤمنين و فاطمة الزهراء و الامام الحسن و الامام الحسين عليهم السلام بالترتيب وجلسوا جميعاً يطيّبون خاطري، فانشغلتُ بالتحدّث اليهم، و شُغلوا هُم أيضاً بالتحدّث مع بعضهم البعض. و في هذه الحال التي كنتُ فيها مُغميً علی ظاهراً، شاهدت أمّي مضطربة هلعة و قد صعدتْ درجات السلّم الی سطح الفندق و توجّهت الی القبّة المطهّرة للإمام موسي بن جعفر عليه السلام و قالت: يا موسي بن جعفر! لقد جئتُ بولدي الی هنا من أجلك، أفترضي أن أدفنُه هنا و أعود لوحدي؟! حاشا و كلاّ، حاشا و كلاّ. (و بالطبع فقد شاهد هذا المريض هذه المناظر ببصيرته و عينه الملكوتيّة لا بعيني رأسه، فقد كانت عيناه مغمضتين و بدنه علی مشارف الرحيل). و عندما كانت والدتي منهمكة في مخاطبة الامام موسي بن جعفر والتضرّع اليه، شاهدتُه عليه السلام و قد جاء الی غرفتنا فقال لرسول اللَه: أرجو أن توافقوا علی رجاء أمّ هذا السيّد! فالتفت رسول اللَه صلّي اللَه عليه و آله الی عزرائيل و قال: فلتذهب الی الوقت الذي عيّنه اللَه تعالي، فلقد أمّد اللَه عمره بتوسّل والدته، و نحن أيضاً نذهب الی وقت آخر إن شاء اللَه تعالي. ثمّ هبطتْ والدتي السلّم، و جلستُ أنا في غاية العصبيّة من فعلها، وكنتُ أقول لها: لماذا فعلتِ ذلك؟ لقد كنتُ علی و شك الذهاب مع أميرالمؤمنين و مع النبيّ و مع فاطمة الزهراء و الحسنين عليهم السلام فجئتِ و منعتني و لم تتركيني أذهب معهم! قصّة ملاقاة زوجة أحد أعاظم النجف، مع أميرالمؤمنين في سكراتنقل لي أحد مفاخرنا الاعزّاء و من أعاظم اهل العلم في النجف الاشرف حاليّاً و من الرجال الاجلاّء المحترمين فقال: لقد اخترت زوجة في النجف الاشرف ثمّ سافرنا في فصل الصيف الی ايران لزيارة الارحام والاقارب، فزرنا ثامن الائمة عليه السلام، و عرّجنا من هناك الی مدينتي التي كنت أقطن فيها، و هي الی القرب من مدينة مشهد. و صادف انّ جوّ تلك المنطقة و ماءها لم يناسب مزاج زوجتي فسقطت مريضة، و صارت حالها تسوء يوماً بعد يوم، و لم تنفع معها المعالجات التي عملناها لها، حتّي أشرفت علی الموت. و كنت واقفاً عند جسدها مضطرباً أري زوجتي تلفظ أنفاسها في تلك اللحظات، و أري أنّ علی العودة الی النجف وحيداً خجلاً أمام والدها و والدتها اللذين سيقولان: لقد أخذ فتاتنا العروس فدفنها هناك و عاد. كان الاضطراب و القلق العجيب يلفّ كياني، فهرعتُ فوراً الی الغرفة المجاورة فصلّيت ركعتين و توسّلت بإمام الزمان عجّل اللَه تعالي فرجه الشريف و قلت: يا وليّ اللَه! اشفِ زوجتي. يا وليّ مصدر الفعل الالهيّ، انّ هذا الامر بيدك و في استطاعتك! توسّلت الی الامام في ضراعة و التجاء، ثمّ عدت الی الغرفة فشاهدتُ زوجتي جالسة تجهش بالبكاء، فصاحت حالما رأتني: لماذا منعتني؟ لماذا منعتني؟ لماذا لم تدعني؟ لم أفهم ما تقول، و تصوّرت ان كلامها عاديّ، و انّ حالها وخيمة، ثمّ سقيتها ماءً و أطعمتُها شيئاً من الغذاء، فشرحت لي قضيّتها و قالت: لقد جاء عزرائيل لقبض روحي، و كان يرتدي ملابس بيضاء، وسيماً متجمّلاً ومزيّناً، فابتسم في وجهي و قال: أحاضرةٌ أنتِ للمجيء؟ قلتُ: بلي. ثمّ جاء أميرالمؤمنين عليه السلام فلاطفني كثيراً في رحمة و مودّة، ثمّ قال: أريد الذهاب الی النجف، أترغبين أن نذهب معاً الی النجف؟ قلتُ: بلي، أحبّ كثيراً أن آتي معكم الی النجف. ثمّ نهضتُ فارتديت ملابسي و تهيّأت للذهاب مع الإمام الي النجف الاشرف، و حالما أردت الخروج معه من الغرفة شاهدتُ إمام الزمان عليه السلام و قد جاء و أنت متعلّق بأذياله، فقال لاميرالمؤمنين: لقد توسّل هذا العبد بنا، فاقضوا له حاجته! فأطرق أميرالمؤمنين عليه السلام برأسه، ثمّ قال لعزرائيل: اذهب الی الوقت المعيّن حسب طلب المؤمن المتوسّل بولدنا. ثمّ ودّعني أميرالمؤمنين و خرج. فلِمَ لَمْ تدعني أذهب؟ انّ هذه من الحقائق، و ناقل هذه القضيّة و زوجته ـ و هي من الصالحات ـ كلاهما علی قيد الحياة. لقد ورد في كثير من الروايات أن أميرالمؤمنين يحضر عند جسد المحتضرلقد ورد في كثير من الروايات انّ أميرالمؤمنين عليه السلام يحضر عند جسد المحتضر في سكرات الموت، فإن كان مؤمناً متمسّكاً بالولاية اصطحبه معه الی الجنّة. اي كه گفتي فَمَنْ يَمُتْ يَرَني جان فداي كلام دلجويت كاش روزي هزار مرتبه من مردمي تا ببينمي رويت [6] انّ أميرالمؤمنين يتّصل بالانسان من خلال عين الانسان الملكوتيّة، و أذنه الملكوتيّة، و قلبه الملكوتي، فيأخذه معه الی الملا الاعلي. ما أكرم و اجمل هذا اللقاء و الزيارة للمؤمن! و ما أبعثه علی السعادة حقّاً!! شب رحلت هم از بستر روم تا قصر حورالعين اگر در وقت جان دادن تو باشي شمع بالينم صباح الخير زد بلبل كجائي ساقيا برخيز كه در سر ميكند غوغا خيال خواب دوشينم اگر غيري بجاي من گزيند دوست حاكم اوست حرامم باد اگر من جان بجاي دوست بگزينم زتاب آتش دوري شدم غرق عرق چون گل بيار اي باد شبگيري نسيمي زان عرق چينم [7] بلي، لقد حضرت الارواح الطيّبة عند بدن أميرالمؤمنين نفسه عند موته فدعوه الی الرحيل. كتب المرحوم المجلسي (رضوان اللَه عليه) يقول، نقلاً عن بعض الكتب القديمة، ضمن رواية طويلة في بيان شهادة الإمام: ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً وَ أَفَاقَ وَ قَالَ: هذَا رَسُولُ اللَهِ صلّي اللَه عليه و آله و سلّم وَ عَمِّي حَمْزَةٌ وَ أَخِي جَعْفَرٌ وَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَهِ وَ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: عَجِّلْ قُدُومَكَ عَلَيْنَا فَإنَّا إلَيْكَ مُشْتَاقُونَ. ثُمَّ َأدَارَ عَيْنَيْهِ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ كُلّـِهِمْ وَ قَالَ: أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَهَ جَمِيعاً سَدَّدَكُمُ اللَهُ جَمِيعاً حَفَظَكُمُ اللَهُ جَمِيعاً خَلِيفَتِي عَلَيْكُمُ اللَهِ وَ كَفَي بِاللَهِ خَلِيفَةً. ثُمَّ قَالَ: وَ عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ يَا رُسُل رَبِّي، ثُمَّ قَالَ: لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَاِملُونَ اِنّ اللَهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. وَ عَرَقَ جَبِينُهُ وَهُوَ يَذْكُرُ اللَهَ كَثِيراً، وَ مَا زَالَ يَذْكُرُ اللَهَ كَثِيراً وَ يَتَشَهَّدُ الشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَ غَمَّضَ عَيْنَيْهِ وَ مَدَّ رِجْلَيْهِ وَ يَدَيْهِ وَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا اِلهَ اِلاَّ اللَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، ثُمَّ قَضَي نَحْبَهُ [8]. ارجاعات [1] ـ الآية 93 و 94، من السورة 6: الانعام. [2] ـ نهج البلاغة، شرح محمّد عبده، ج 1، طبع مصر، من الخطبة 107، ص 212 و 213. [3] ـ نهج البلاغة، الخطبة 201، ص 418 محمد عبده طبع مصر... و هذه الفقرات المذكورة هي من خطبة واحدة. [4] ـ «فروع الكافي»، كتاب الجنائز، باب النوادر، ص 70 من الطبعة الحجريّة؛ و ص 253 من طبعة مطبعة الحيدري. [5] ـ «معاني الاخبار»، ط الحيدري، ص 289، باب معني الموت. [6] ـ يقول الشاعر: يا مَنْ قالَ مَنْ يَمُتْ يَرَني فديتُ بروحي كلامَك الحبيب ليتني ألف مرّة مُتُّ كلّ يومٍ عسي محيّاك يطلع لي من قريب [7] ـ ـ يقول: لو شهدْتَني أوانَ احتضاري و أَنرتَ كالشمع ليلي فصار نهاري لسافرتُ لا شكّ ليلة موتي و يمّمتُ قصرَ الحور في أسفاري شدي العندليبًّ بأنغامِ صباحِ ال خير ـ فقمْ يا أيّها الساقي فحلم الامس قد طوّف في رأ سي خيالاتٍ بلا راقِ إنْ باعني الحبيبُ يوماً و اشتري غيري فلستُ مخالفاً أمراً يمضّيهِ و لكنّ اختيار سواه من قلبي حرامٌ لا أقارفهُ، و ذنبٌ لا أُوافيهِ اصطليتُ بنار هجرك كالورد فتصبّبــتُ عطـــرا فهاتِ من قلنسوة الخِلِّ يا صَبا نسائمَ حُلوةً تَتْري [8] بحار الانوار، الطبعة الكمباني، المجلّد التاسع، ص 674.ش. |
|
|