|
|
الصفحة السابقةكيفيّة عبور النور من الهويّات والماهيّات الإمكانيّةوهكذا سينعم المؤمنون ذوو العمل الصالح يوم القيامة بالانوار الجماليّة واسم الرحيم والرؤوف والودود وذي المنّ والكرم؛ بينما سيرزح الكفّار والمجرمون تحت الانوار القاهرة الجلاليّة، وتحت اسم شديد العقاب والجبّار والقهّار وأعظم المتجبّرين. فهم بأجمعهم في النور والإشراق، والإقرار والاعتراف، وعدم إمكان التمرّد والإنكار، وكلّ منهم حسب مرتبته ودرجته في المقامات والكمالات، وفي حجب متفاوته حسب القُرب والبُعد، وتبعاً لظهور مراتب القُرب والبعد من الجنّة أو من جهنّم. لذا فإنّ الفرق بين المؤمن وغير المؤمن سيتّضح بجلاء، إذ إنّ العالم هناك عالم الصدق وعالم النور والإشراق والظهور والبروز. ولمّا كان للمؤمنين في الدنيا صدقٌ غير مشوب بكذب، ونورٌ غير مشوب بكدر وظلمة، فإنّ هذه المعاني التي تتجلّي لهم يومئذٍ توجب دخولهم في الإشراق والنور المحض. وأمّاالكافرون فلمّاكانوا معروفين بالكذب والعتمة والكدر، فإنّهم يصيرون في شبكات النور محجوبين بالحُجب والاستار. وتلك الجماعة المجبولة علی الظلم والجور، التي عُجنت أرواحها بالكذب والافتراء، وخُلطت بالشقاء والقسوة، موجودة هناك في شبكات نوريّة بعيدة وضعيفة جدّاً، وممزوجة بظلمة الحجب الظلمانيّة؛ وأنّ بلّور قلوبهم المخلوط بالرين والشين سيجعل ذلك النور الإلهيّ المجرّد الطاهر البسيط في شبكات القلب المظلمة والعفنة الملوّثة في هيئة نور خافت ومعتم يدخل في قلوبهم. وذلك أنّ البلّور المعتم يجعل النور معتماً، والبلّور الداكن يجعل اللون داكناً. فأمرهم من حيث إشعاع النور غير قابل للاءنكار، أمّا من جهة تلوّثه بالهواجس النفسيّة وحجب الإدراك والبصيرة الباطنيّة، فإنّهم سيصبحون في العتمة والحجاب ومظاهر البُعد. المغيرة بن شعبة يُغالط متعمّداًوجاء في «نهج البلاغة» ما نصّه: وَقَالَ علیهِ السَّلاَمُ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِر (وَقَدْ سَـمِعَهُ يُرَاجِعُ الْمُغِيرَةَبْنَ شُعْبَةَ كَلاَماً): دَعْهُ يَا عَمَّارُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الدِّينِ إِلاَّ مَا قَارَبَهُ مِنَ الدُّنْيَا؛ وَعلی عَمْدٍ لَبَّسَ علی نَفْسِهِ؛ لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ. [1] وهذا الوصف من الإمام للمغيرة ممّا يثير العجب، أن يصل امرؤٌ إلي الحدّ الذي يتّخذ فيه ـ عالماً عامداً ـ ستاراً من الشبهات للدعاوي الباطلة، كي يجعل لباس الشبهة ذلك وجهه الموجّه يوم المحاكمة وفي أوساط الناس. وتمثّل هذه الحالة نفاقاً باطنيّاً شديداً، إذ يتجاهل الإنسان ويظهر عدم الاطّلاع متعمّداً مع علمه وبصيرته وتنوّره ووعيه، ويحاول الفرار من مؤاخذة الناس حفظاًلكرامته، وذلـك بحمل أعمال الناس علی وجـه غيرصحيح مع علمه أنـّها صحيحة، أو بحملها علی وجه صحيح مع علمه بخطئها وعدم صوابها. وباتّخاذه موارد الشبهة تلك مستمسكاً لعمله. وهذا نوع من الظلمة في عالم النور، ونوع من العمي في عالم الإبصار، وسيظهر في عالم القيامة علی هذا النحو والكيفيّة. وهناك أفراد كثيرون من هذا القبيل في المجتمع، من الذين يجعلون الدين آلة لنيل الدنيا، فيصلّون ويخطبون خطباً خادعة ليحكموا في الدنيا. وقد استخدم سيّد الشهداء علیه السلام استعارة لطيفة للتعبير عن أهل الدنيا وكيفيّة استخدامهم الدين للوصول إلي نواياهم ومقاصدهم الدنيويّة، وذلك في خطبة قصيرة له خطبها في «ذي حسم» عند مسيره إلي كربلاء، جاء فيها كما في «تحف العقول»: وَقَالَ علیهِ السَّلاَمُ فِي مَسِيرِهِ إِلَي كَرْبَلاَء: إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا؛ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإنَاءِ؛ وَخَسِيسُ عَيشٍ كالْمَرْعَي الْوَبِيلِ. أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لاَ يُعْمَلُ بِهِ وَأَنَّ الْبَاطِلَ لاَ يُنْتَهَي عَنْهُ، لِيَرْغَبِ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللَهِ حَقّاً. فَإِنِّي لاَ أَرَي الْمَوْتَ إِلاَّ سَعَادَةً وَلاَ الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلاَّ بَرَمَاً. إِنَّ النَّاسَ عِبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعِقٌ علی أَلْسِـنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْمَعَائِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلاَءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ. [2] الدرس الثالث والثلاثون:قيام الإنسان في ساحة الله عزّ وجلّ ومحضره
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلیّ العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلي قيام يوم الدين قال الله الحكيم في كتابه الكريم: بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَـ'نِ الرَّحِيمِ * وَالذَّ ' رِيَـ'تِ ذَرْوًا * فَالْحَـ'مِلَـ'تِ وِقْرًا * فَالْجَـ'رِيـ'تِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَـ'تِ أَمْرًا * إِنـَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَ ' قِعٌ. [3] قسماً بالرياح التي تذرو التراب وتفرّقه؛ وقسماً بالسحب التي تحمل المياه الثقيلة؛ وقسماً بالسفن التي تجري في البحار رخاءً ميسّرة؛ وقسماً بالملائكة التي تقسّم أمر الله في العالم، فتأخذ الامر الواحد للحضرة الاحديّة من عالم اللاهـوت، حسـب اختلاف مقاماتها ومراتبها، وتبعاً لسـعة ماهيّاتها أو ضيقها، فتقسّـم ذلك الامر علی العوالم الاُخري؛ إنّ ما توعدونوماأنذرتكم به صادقٌ وواقع، وإنّ الجـزاء والثواب لامر واقع ولازم. يروي علیّ بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن جميلبن درّاج، عن الإمام الصادق علیه في تفسير هذه الآيات علی النحو الذي ذكرناه. [4] كما خرّجه السيوطيّ علی هذا النحو الوارد في التفسير المذكور، في تفسـير «الدرّ المنثور» عن عبد الرزّاق والفريابيّ وسـعيد بن منصـور وحارثبن أبي أُسامة وابن جرير وابن منذر وابن أبي حاتم وابن الانباريّ في «المصاحف»؛ وعن الحاكم في «المستدرك» وصحّحه؛ وعن البيهقيّ في «شعب الإيمان»، جميعاً عن علیّ بن أبي طالب.[5] وقال الفخر الرازيّ في تفسيره: والاقرب أنّ هذه صفات أربع للرياح، فالذاريات هي الرياح التي تنشي السحاب أوّلاً؛ والحاملات هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه التي إذا سحّت جرت السيول العظيمة، وهي أوقار أثقل من جبال؛ والجاريات هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها؛ والمقسّمات هي الرياح التي تفرّق الامطار علی الاقطار. [6] ويشهد علی التفسير المرويّ عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّ هذا القسم المتكرّر إشارة إلي عامّة التدبير، حيث ذكرت أُنموذجاً ممّا يدبّر به الامر في البرّ وهو: وَالذَّ ' رِيَـ'تِ ذَرْوًا؛ وأُنموذجاً ممّا يدبّر به الامر في البحر وهو: فَالْجَـ'رِيـ'تِ يُسْرًا؛ وأُنموذجاً ممّا يدبّر به الامر في الجوّ وهو: فَالْحَـ'مِلَـ'تِ وِقْرًا؛ وتمّم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير: فَالْمُقَسِّمَـ'تِ أمْرًا. [7] ومجمل الامر أنّ الله تعالي يقسم بهذه الاُمور التي هي من أهمّ الاُمور ثمّ يقول: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَ ' قِعٌ. إنّ يوم الجزاء صادق وواقع، وليس أمراً تخيّليّاً وموهوماً جاء به الانبياء كفرضيّة ونظريّة لاءسكات نفوس البشر، وإلجام أجيال البشريّة المتمرّدة والمتعدّية، ورتّبواأمر القيامة والجزاء والثواب وقدّموه إلي الناس ليحدّوا بهذه الوسيلة من الاعتداءات. المعاد عبارة عن عودة الإنسان ورجوعه إلي الله سبحانه، لانّ المعاد بمعني محلّ الرجوع أو زمنه أو أصله، فبواسطته يتحقّق عود الإنسان ورجوعه إلي الله تعالي. ويستخلص منه أنّ مجيء الإنسان يجب أن يكون من عند الله تعالي، ليكون عوده ورجوعه إليه، فالسير في طريق لم يسبق للاءنسان سلوكه وطيّه لا يدعي رجوعاً. فنحن ـ لهذا ـ قد جئنا من عند الله سبحانه، وعلینا أن نعود إلي حيث كنّا وإلي المكان الذي قدمنا منه. كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. [8] كَمَا بَدَأْنَآأَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ. [9] كما بدأنا أوّل خلق وأنزلناه من نقطة نزوله الاُولي، فأقمنا هذا العالم وخلقناه، فإنّنا سنُعيد هذاالخلق ونرقي به ثانيةً إلي تلك النقطة. عود الإنسان بكلّ وجوده وأرجاء كيانهومن هنا فإنّ هناك معاداً للاءنسان والحيوانات والموجودات جميعاً، وستعود إلي حيث كانت بداية خلقها، والإنسان أحد الموجودات والمخلوقات وله معاد أيضاً. ولمّا كان الإنسان قد نزل بجميع وجوده ومراتبه، فعلیه أن يصعد ويعود ثانية بجميع وجوده وأرجائه، وإلاّ لمّا تحقّق معاده كما ينبغي. لقد نزل الإنسان بوجوده كلّه فظهـر في عالم الكثرة وارتدي لباس الطبع والمادّة، وعلیه أن يعود بهذه المجموعة التي هي عبارة عن البدن والمثال والنفس، والظاهر والباطن، والمُلك والملكوت. وإلاّ فإن تقرّر أن يبقي هنا قسم من الإنسان ويعود القسم الآخر منه، لماكان قد عاد بوجوده كلّه. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَاكُنتُمْ تَعْمَلُونَ. [10] إنّ العالم الذي نعيش فيه ليس عالم العبث والجزاف واللعب، فأعمال الإنسان تدوّن وتسجّل، سواءً تجاهل الإنسان ذلك أم لا، بل إنّ هذا التجاهُل نفسه سيسجّل ويدوّن أيضاً. لذا فإنّ الإنسان ليس بمعزل عن الحساب والمحاكمة، فإن تكلّم رأي أنّ جهاز التسجيل يسجّل كلماته حرفاً حرفاً، وإذا ما قلّب صفحات كتاب أو أوراق ما، لسُجّل صوت تلك الورقة والصفحة أيضاً. ومن ثمّ فإنّ الإنسان لا يمكنه أن يُخفي شيئاً في عالم الكون والتكوين، وسـتكون عودته إلي الله الذي سـيُطلعه علی جميـع أفعاله وسيرته. لقد كان لقمان من الحكماء الكبار، وكان له منصب النبوّة علی ما في بعض الروايات، وكان من بين نصائحه ومواعظه لابنه، قوله: يَـ'بُنَيَّ إِنـَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ [11] فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَـ'وَ ' تِ أَوْ فِي الاْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَهُ إِنَّ اللَهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. [12] وحينمالا تخفي علی الذات الاحديّة ولا تخرج من دائرة علمها وقدرتها وإحاطتها الوجوديّة والحياتيّة حبّة من خردل في صخرة أو خلف جبل أو في أعماق بحر أو في الفضاء أو في السماوات، وكذلك كلّ موجود بقدر هذه الحبّة وزناً، فكيف يمكن للاءنسان الادّعاء بأنّ وجوده وأفعاله وعقائده وصفاته خارجة عن دائرة علم الله وقدرته؟ وكيف يُنكر وجوده وحياته مع أنّ من المعلوم أنّ هذا الوجود الفعلیّ في عالم التكوين ملازم ومستلزم للستجيل والتدوين وتحقّق المعاد؟ إنّ الله تبارك وتعالي مقتدر، وسيبعث الإنسان ويُحييه، فيفهم آنذاك أنّ هذه الدنيا لم تُخلق عبثاً، بل خُلقت وفق حساب دقيق. وسواءً أنكر الإنسان المعاد أم لم ينكره، أو قال إنّ أحداً لم يذهب إلي ذلك العالم الذي أخبر الانبياء به فيأتينا بالخبر اليقين. ولو تساءل: من سافر ـتريـ إلي الآخرة ليجيء بخبرها؟! إنّ الإنسان يري من منظار الإدراك الحسّيّ أنـّه يموت ويُدفن تحت التراب ويصبح رميماً، كماأنّ روحه ليست بالشيء المرئيّ لنقول إنّها لاتزال حيّة. فحقيقة الإنسان ـ إذَن ـ هي بدنه العنصريّ الذي يتلاشي ويتبدّد، وليس هناك خبر عن الروح أيضاً، فلا معاد ولا خبر حينئذٍ. هذه هي مقولة المادّيّين والدهريّين. إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَاالدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. [13] إعلان المعاد من قبل الانبياء لم يكن لاءخافة الناس وإفزاعهموبناءً علی ذلك فإنّ ما قاله الانبياء إنّما كان من أجل مصلحة المجتمعات البشـريّة وتنظيمها، ولمنـع الناس من الاعتـداء علی بعضهم البعض، لذا كانوا يضعون فزّاعة علی مرأي ومسمع من الناس تتمثّل بعذاب عالم الآخرة وجزائها ويظهرونها أمام قواهم المتخيّلة والوهميّة ليحدّوا من سبعيّتهم وبهيميّتهم نوعاً ما، مثلهم في ذلك كمثل الفلاّحين والمزارعين الذين ينصبون فزّاعة لِيُخيفوا بهاالطيور والغربان كي لا تهاجم الثمار والازهار والحبوب. لقد تصوّر الانبياء أنّ الله والقيامة هي الوسيلة الافضل لاءخافة البشر، فكانوا يلقّنون الناس أمر وجود الله والمعاد لاءيقافهم عند حدّهم ومنعهم من الاعتداء علی أموال الغير وأعراضهم ونفوسهم. أمّا حقيقة الامر فليس هناك شيء من هذا، إذ إنّ المطالب والاحكام الطويلة والعريضة لاتتوكّأ علی أساس المعاد الواقعيّ ولا علی أساس الإله الحقيقيّ. وإذا مات الإنسان وتلاشي بدنه وصار رميماً واضمحلّ تحت الارض وفني، فكيف يجمع الله هذه الذرّات ويمنحها الحياة من جديد؟ كيف يتأتّي ذلك؟! هذا هو حصيلة كلام الطبيعيّين الذي عرضوه منكرين علی الإلهيّين إيمانهم بالمعاد. والجواب هو أنـّكم لم تذكروا شيئاً غير الظنّ والاستبعاد وترتيب مقدّمات شعريّة مشوبة بالاخطاء.فأين العجب يا تري؟ انظرواإلي أصل خلقكم وبدايته وانظروا أيّ شيء كنتم؟عجائب خلقة الإنسان ليست أقلّ من عجائب عودته إلي اللهفهل هناك قصّة أعجب وأغرب من قصّة خلق الإنسان؟ لقد قلتُ يوماًلاولادي: إنّني كلّما فكّرتُ في الآيات الآفاقيّة لربّ العزّة تعالي لم أتحيّر كحيرتي في تفكيري بالجنين في بطن أُمّه. إنّ أصل الإنسان من نطفة، ثمّ يصبح عَلَقة، ثمّ مُضغة، ثمّ عظاماً تُكسي لحماً، وهذه هي المراحل التي لابدّ للجنين من طيّها في رحم الاُمّ ليصير إنساناً كاملاً يتنفّس ويمتلك الشعور والعقل، فيخطو إلي العالم، وما أعجبها من أُمور! ثمّ بعد ذلك يبدأ في الكلام فيرتفع منه صُراخ «أنا رجل». إنّ هذه التحوّلات والتطوّرات عجيبة وغريبة بحيث إذا ما حاول الإنسان أن يفكّر فيها، وأن يتدبّر في المدارج والمعارج الصعوديّة والتكامليّة لهذه النطفة، فإنّ عقله سيشلّ عن التفكير، ولسانه سيخرس عن النطق. وعلی الرغم من أنّ الموجودات جميعها عجيبة، لكن لا حدّ للعجب في طيّ المراحل التكامليّة للنطفة. ولذا فإنّ الله سبحانه حين ذكر في مواضع عديدة من القرآن الكريم قصّة خلق الجنين، فإنّه أشار إليها بعنوان العظمة، ويقول في موضوع من تلك المواضع: فَتَبَارَكَ اللَهُ أَحْسَنُ الْخَـ'لِقِينَ.[14] إنّ مثل هذه اليد التي تخلق هذا الخلق طافحة بالبركة والجود حقّاً! فالنطفة هي ذرّة لا تراهاالعين المجرّدة، ولا عقل لها ولا شعور، ولايد ولارجل، ولا سائر الاعضاء والجوارح، وهي مبدأ خلقة الإنسان. وحين تُقسّم قطرة من نطفة إلي أربعة ملايين جزء، فإنّ جزءاً واحداً غيرمرئيّ منها هو أصل النطفة (أي الحويمن)، أي لا شيء في الحقيقة. وهكذا فإنّ الله تعالي يخلق من هذا اللاشيء عيناً وأُذناً وقلباً وكبداً ورئة وكلية وعروقاً وشحماً، ويخلق عظاماً وغضروفاً وعضلات وأعصاباً، ويخلق في كلّ يد خمسة أصابع، ولكلّ إصبع مفاصل عديدة لها جميعها أعصاب متّصلة كلّها بالمخّ. فهناك أعصاب للحسّ وأعصاب للحركة، وهناك مواضع فيها أعصاب للحركة وليس فيها أعصاب للحسّ، فأمعاء الإنسان تتحرّك إلاّأنـّها بدون حسّ، أي: أنّ إحساسها ضعيف. وهكذا فإنّ معدتنا وكليتنا في حركة دائمة دائبة، إلاّأنـّنا لا نحسّ بتلك الحركة، وهذه أُمور تبعث علی العجب. فكيف خُلقت هذه الاعضاء كلّها من حويمن واحد صغير؟ ذلك الحويمن البالغ في الصغر حدّاًلا يُري معه بالعين المجرّدة. فتلك الذرّة الصغيرة يجب أن توضع تحت المجاهر القوّية لتصبح قابلة للرؤية. وعلی كلّ حال فهي ذرّة وجزء صغير لا تُشاهد فيه هذه الاعضاء أبداً ولو بعنوان الاندماج. كيف تمتلك هذه النطفة حركة في جوهرها وكينونتها؟ وبأيّ سرعة عجيبة تغيّر نفسها؟ فتتقدّم في كلّ لحظة، وتصبح علقة، ثمّ تصبح في هيئة موجود أكثر إتقاناً وإحكاماً، أي: مُضغة من لحم، ثمّ تظهر علی سطحها نقاط صفراء عديدة أشبه بالبقع الصغيرة، فيقال إنّ هذه النقط والبقع هي المخّ والكبد والقلب. ثمّ تتحرّك نحو تكاملها بسرعة. فإن شاهد الإنسان تلك البقع، لما أمكنه أن يُدرك أنـّها عيون وقلوب. تماماًكما تضعون بالقلم نقاطاً صفراء علی ورقة ما؛ أفيمكن القول إنّ تلك النقاط عين وقلب وكبد؟ أيمكن القول إنّ هذا هو البطين الايمن وذلك هو البطين الايسر للقلب؟ وإنّ هذا هو دهليز القلب! وإنّ ذلك هو مدخل القلب؟ ما هو المخّ؟ وما فيه من الاُمور؟ ماالذي تمتلكه كلّ من القوّة الحافظة أو الذاكرة والقوّة المفكّرة والقوّة المتخيّلة والقوّة الواهمة والحسّ المشترك، من أجهزة ومن أشرطة تسجيل؟ وماأطول أشرطة التسجيل في مخّ الإنسان! ومن أين صنعت؟ إنّنا نري ظاهرها فنحار ونبقي مبهوتين خرساً وبكماً لما نشاهده من صنع الله المتعال، ويتوقّف عقلنا عن الحركة والتفكير، ناهيك عمّا يحصل لنا لو أدركنا باطنها. لقد كانت هذه الاُمور جميعاً من تلك الذرّة غير المرئيّة؛ سُبْحَانَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الْحَكِيمِ. أفهذه الاعمال من صنع الله أم لا؟ أيمكننا الإنكار يا تري؟ أفـلا يمكن للربّ الـذي يفعل هـذه الاُمـور أن يُحيـي المـوتـي، ولميُستكثر علی الله إحياء الموتي؟ ولِمَ يُستبعد ذلك من قدرته تعالي؟ آيات القرآن الكريم في خلق الإنسان وبعث الارض في الربيعيَـ'´أَيـُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـ'كُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الاْرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَي أَجَلٍ مُسَمًّي ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُو´ا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّي' وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَي'´ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَي الاْرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا علیهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَ ' لِكَ بِأَنَّ اللَهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنـَّهُ و يُحْيِ الْمَوْتَي' وَأَنـَّهُ و علی' كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ. [15] نعم، إنّ هذه الحوادث والوقائع كافّة دليل علی وحدانيّة وحقّانيّة ذاته المقدّسة.عجائب خلقة بدن الإنسان دالّة علی وحدانيّة الله وحقّانيّتهافرضوا أنـّكم موجودون في عالم الوجود وحدكم، دون أن يكون معكم موجود آخر وافرضوا أن ليس هناك من معاد؛ لكنّ وجودكم نفسه أمرٌ لا يمكن إنكاره، فأنتم موجودون ولا يمكنكم إنكار وجودكم. فماذا كنتم سابقاً؟ أكنتم تراباً ثمّ صرتم نطفة؟ إنّ أصل النطفة من الدم، والدم هو جوهر الغذاء الذي تناوله الإنسان، وكان ذلك الغذاء إمّا لحماً أو حبوباً أو خُضَراً أو فواكه. فأصل الإنسان ـإذَنـ من التراب، لانّ المادّة الاصليّة لهذه الموادّ هي التراب. ولقد تبدّل هذا التراب علقة ودماً متخثّراً، ثمّ تحوّلت النطفة تدريجيّاًإلي مادّة كمثل المضغة من اللحم، ثمّ صارت عظاماً. وما أعجب العظام التي خلقها ربّنا! عظام القدم، وعظام اليد، وعظام الصدر. ولم يحصل في خلق الله وصنعه أيّ خطأ، كأن يضع عظام الصـدر في القـدم مثلاً أو بالعكس. ولميخلق العظام حادّة الحافّات فتؤذي اللحم، ولم يضعها بحيث تخرج من اللحم والعضلات، بل صنعها كمالو كانت قد صُقلت وبُردت بالمبرد. والعجيب أنّ بين هذه العظام تزييتاً دائماً يحول دون تآكلها الناتج من احتكاك بعضها ببعض. إنّ رجال الصناعة الذين يعملون بآلات خراطة المعادن وصقل سطوحها ومكائن التفريز وأشباه ذلك يعمدون إلي تشحيم تلك الآلات لئلاّ تتآكل نتيجة دوران العجلات والعجلات المسنّنة واحتكاك بعضها ببعض، ممّا يولّد أصواتاً عند احتكاكها ويفضي ذلك إلي عطب الماكنة وتوقّفها عن العمل. وهكذا فإنّ هذه العجلات يجب أن تكون مزيّتة باستمرار لتعمل جيّداً. وحين يتحرّك إصبع الإنسان، أو تتحرك مفاصل الإصبع أو المعصم أو المرفق أو العمود الفقريّ، أو كلّ مفصل يتحرّك فيه العظمان المتّصلان معاً، فإنّ ذلك المفصل يتزيّت بنحو تلقائيّ بمجرّد إرادة الإنسان ومشيئته لتحريك ذلك المفصل، فتتزيّت أطراف العظام علی أفضل صورة. والعجيب أنّ الإنسان عندما يريد حَنْوَ إصبعه فإنّ تلك المادّة الزيتيّة اللزجة اللاصقة تترشّح في تلك النقطة المعيّنة، فإذا أُوقف الإصبع أو أُوقفت سائر المفاصل عن الحركة، توقّف معها عمل التزييت. أفنحن الذين نقوم بهذا العمل؟! خسئنا! خسئنا حقّاً! إنّنا لو أردنا أن نعمل علی ماكنة ما، فقد يحدث أن نفقد علبة الشحم أو مادّة التزييت فنبحث عنها ساعة هنا وهناك، ولعلّنا لا نعثر علیها في الاعمّ الاغلب. فأنـّي لنا أن نتمكّن من ذلك! ناهيك عن أن نقوم في آن واحد بتزييت أكثر مفاصل العظام أو جميعها. عجائب مرحلة تكامل الجنين دليل علی المعادوقد قيل إنّ بدن الإنسان يحتوي علی أربعمائة وستين عظماً ونيّف. وهذه العظام تتزيّت في مواضعها عند الضرورة والحركة. لماذا تستقرّ هذه العظام في كلّ بدن بلا زيادة أو نقصان؟ وكلّ واحد منها في موقعه ومكانه، عظم الجمجمة والمخّ في موضعه، وعظام الوجه في مواضعها، وعظام الرقبة، والعمود الفقريّ كلٌّ في موضعه، فلم يحصل أيّ خطأ في هذا الهيكل العظميّ كلّه لدي أفراد البشر جميعهم.[16] بأيّ سرعة مُذهلة ومحيّرة للعقول تتكوّن العظام؟ يقال إنّ الطفل يلبث تسعة أشهر في بطن أُمّه، فهذه المدّة خاصّة بالإنسان، أمّا بيضة الدجاجة فإنّ هذه التحوّلات والتغيّرات الوجوديّة جميعها تحصل فيها خلال بضع وعشرين يوماً. وإنّ الاشهر التسعة في بطن الاُمّ قصيرة جدّاً، إذ إنّ حركة الجنين في غاية السرعة. فإذا ما شاء هذا التراب أن يتبدّل إنساناً، فإنّه يتطلّب ملايين السنين من الزمن. وإذا ماأراد هذا التراب بسرعته الذاتيّة وحركته الجوهريّة أن يتحرّك باتّجاه صيرورته نطفة، ثمّ باتّجاه صيرورته علقة، ثمّ مضغة، ثمّ إنساناً، لاحتاج إلي ملايين السنين. ولا يمكننا في الواقع أن نوضّح ذلك من منظار العلوم الطبيعيّة، ولكنّكم ترون أنّ النطفة في بطن الاُمّ تطوي هذه المراحل البعيدة في تسعة أشهر، فيولد منها طفل ذو شعر ذهبيّ فنقول: (ماأحسن هذا! لقد رزق الله فلاناً طفلاً). لا نزيد علی ذلك شيئاً، ولا نعلم أيّ أسرار وألغاز، وأيّ عجائب وغرائب، وأيّ نكات ودقائق قد أودعتها اليد المقتدرة المباركة لاحسن الخالقين في هذا الطفل. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الاْرْحَامِ مَا نَشَآءُإِلَي'´ أَجَلٍ مُسَمًّي. إنّ هذه الاُمور جميعها هي لمعرفة الإنسان وعلمه، كي يقترب من الله سبحانه، ويسلك ـ بالتفكّر والتأمّل والتدّبر ـ طريق الخلوص والتقرّب. إنّ الجنين يستقرّ في موضعه من رحم الاُمّ، فتنام الاُمّ وتستيقظ، وتتناول طعامها وتتحرّك، وتغتسل وتسير في الظلمة والنور، وفي الماء وعلی اليابسـة، وتركب إحـدي وسـائط النقل، وتجلـس في الباخـرة أو الطائرة، لكنّ رحم الاُمّ يبقي في كلّ الاحوال كالمهد، يحتضن الطفل في حجره الحنـون. ويهزّه أحياناً بينما يحافـظ علی اسـتحكامـه واسـتقراره ولايطرأ علیه أيّ تزلزل وخلل أبداً. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً. ثُمّ نخرجكم من رحم الاُمّ في هيئة طفل قد نبت شعر رأسه وظهرت أصابعه وأظفاره وخُطّ بنانه، ونمت رموش عينيه. طفل تتلالا عيناه وتومضان كمصباحين متألّقين، يبكي ويُعلن ببكائه جوعه، وتبحث شفتاه عن الثدي لامتصاص الحليب. ندفع هذا الطفل باتّجاه كماله دائماً، ونسوقه إلي فعلیة درجات القابليّة والاستعداد: ثُمَّ لِتَبْلُغُو´اأَشُدَّكُمْ. فنصل بكم إلي مقام إحكامكم واستحكامكم في القوي الظاهريّة، ونبلغ بكم درجة شدّة الشباب وقوّته وبلوغه والنبوغ في العقل والاحاسيس والنشأة. وكمال قوي التفكير وسائر القوي الباطنيّة، وقدرة الهيكل الجسميّ وعظمته. وإجمالاً أنـّكم قد وصلتم إلي مراحل فعلیة القوي الكامنة لديكم. وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّي وَمِنْكُم مَّن يُرَدُّ إِلَي'´ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا. ثُمّ إنّ البعض منكم يُتَوفّون قبل أن يصلوا إلي مرحلة الشيخوخة، والبعض الآخر يردّون إلي أرذل العمر والعيش، فيفقدون قواهم بأجمعها وينتابهم العجز بحيث لا يُبقي لهم أيّ بهجة ونشاط، ويغلب علیهم النسيان بعد كلّ مراحل العلم والمعرفة، حتّي كأنـّهم لم يعلموا شيئاً أساساً. وكما يُلفّ الطفل الرضيع في القماط وينظّف من الاقذار، فإنّ هنا العجوز الطاعن في السنّ يجب تعاهده وتنظيفه علی الدوام. وهكذا فإنّ تلك العظمة والقدرة، وذلك النشاط والحركة، وذلك الإحساس والرأفة، وذلك العقل والكياسة، وذلك العلم والبصيرة، سيطوي ملفّه ويودّع وداعاً أبديّاً ويرحل، فلا يبقي منه أيّ أثر. لقد دُفنت الدراية والذكاء في تراب النسيان دفعةً واحدة، وعاد المرء لايميّز يده اليمني عن اليسري، ولا يفرّق بين يوم الجمعة ويوم السبت. لقد كان قبل سنين يسمّي نفسه (أعلم العلماء) ويضفي علی نفسه ألقاباً فذّة تفرّد بها علی وجه الارض، وكان يحفظ في صدره كتباً فلسفيّة واستدلاليّة وفقهيّة. وها هو قد بلغ أمره درجة أنـّه إذا خرج إلي مكان ما، نسي محلّ عودته إلي منزله فيبقي حائراً؛ وإذا غمس إصبعه في العسل، فإنّه يضع إصبعه الآخر في فمه فيلعقه سهواً. وَتَرَي الاْرْضَ هَامِدَةً. أَيّها الناس! إنّكم ترون الارض هامدة ساكنة لا حراك فيها، ويابسة لاطراوة فيها، كأنـّها فقدت أيّ أثر للحياة، وهي تظهر في فصل الشتاء علی هيئة ميّت لاأثر له، وعلی هيئة جذور شجرة لاأثر فيهالساق وأوراق وأزهار وثمار. فمن يحتمل ـ يا تري ـ أن تكون فيها حياة جديدة؟ فَإِذَاأَنزَلْنَا علیهَاالْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. فَإذا أنزلنا علیها الماء من السماء اهتزّت وتحرّكت واكتسبت الحياة، ونمت فأنبتت من كلّ زوج بهيج من أقسام الاعشاب والاشجار والإنسان والحيوان، وصارت تفيض جميعها بالبهجة والقوّة والنشاط. الاشجار جميعها خضراء، ومتحرّكة. ليس بهذه الحركة الظاهريّة، بل إنّ لها حركة في داخلها وفي جوهرها وكينونتها. فهي متحرّكة في الكمّ والكيف وفي (أين) و(متي)، وفي ظلّ سائر الاعراض. ومتحرّكة في جوهرها وذاتها مع تغيّرات وتبدّلات سريعة. ولو وضعنا ورقة شجرة تحت المجاهر القويّة لرأينا أنّ في داخلها خِلالاً وفتحات كثيرة، كالانهار التي تطفو فيها الاسماك؛ والموادّ الغذائيّة تتحرّك فيها باستمرار وهي تماثل حركة أشياء طافية داخل هذه الانهار. وهذه الورقة متحرّكة علی الدوام. [17] إنّنا ننظر إلي هذه الاوراق نظراً ساذجاً عابراً، وقد نقطفها حين نريد تناول العنب والتوت وأمثالها، فنضع هذه الاوراق في إناء ونضع علیها العنب والتوت مثلاً؛ إلاّأنـّنا لا نعلم ماذا في هذه الاُوراق. إنّ الاشجار جميعها متحرّكة في ذاتها، جذورها، وجذوعها، وسياقها وفروعها وأوراقها. الخلايا جميعها في حركة، وهي ذات قوّة لتناول الغذاء وللنموّ والهضم والإفراز، وتميّز بين العدوّ والصديق، وهي في صدد كسب المنافع لنفسها ودفع الضرر عنها ما وسعها ذلك. ثمّ إنّ كلّ ورقة شجرة لا تفقد خواصّها الاوّليّة، بل تحتفظ بها باستمرار، وتحافظ علی وجودها ولا تختلط بخواصّ سائر الاوراق المزروعة في مزرعة ما. فمن ذاالذي صنع ذلك؟ من الذي خلق هذه الحياة من الارض الميّتة الهامدة الجامدة الصامتة؟ أيّ رسّام أبدع هذه اللوحة المدهشة لرياض الازهار والاوراد؟ من الذي بَرَأ الإنسان والحيوان من هذه الارض الميّتة؟ مَن خلق الطاووس الجميل؟ مَن أنشأ الزاغ والغراب الاسود؟ من ذرأ العصفور والصقر؟ من أوجد البعوضة والفيل؟ ومن وضع غصن الورد وشجرة الدُّلب وشجرة الصفصاف؟ ذَ ' لِكَ بِأَنَّ اللَهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنـَّهُ و يُحْيِ الْمَوْتَي' وَأَنـَّهُ و علی' كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. في تفسير الآية: ذَ'لِكَ بِأَنَّ اللَهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنـَّهُ و يُحْيِ الْمَوْتَي'اعلموا، ولا تسقطواإنسانيّتكم بإسدال ستار الغفلة علی فهمكم ودرايتكم، أنّ الله قد فعل ذلك، وأنـّها جميعها معتمدة علی الله وقائمة بذاته سبحانه وتعالي. ولقد كانت هذه الامثلة التي أوردناها، والنماذج التي فصّلناها من أجل أن تعلمواأنـّه هُوَ الْحَقُّ، وأنـّه يُحيي الموتي بهذه الطريقة والكيفيّة وبمنتهي السهولة واليسر، وأنـّه علی كلّ شيء قدير. فماالذي يعنيه إنماء الوردة من الطين والتراب؟ وماالذي يعنيه خلق البلبل من التراب والرمل والطين؟ وماالذي يعنيه بثّ التغاريد الفتّانة في البلبل؟ وماالذي يعنيه إيجاد الحماس والإحساسات؟ وماالذي يعنيه العشق والجَذْبة والمناجاة؟ اين همه نقشِ عجب بر در و ديوار وجود هر كه فكرت نكند نقش بود بر ديوار [18] يأتي البرد القارس فيهدّد الارض في فصل الشتاء، ويسقط الثلج فيجعلها مكتئبة، وتعصف الرياح الباردة القاسية اللاذعة من كلّ صوب وحدب (مع أنـّها من آيات الله الكبري أيضاً وهي لاتختلف عن تلك الوردة والبلبل حقّاً)، أمّا في فصل الربيع فتخضرّ الروضة، وتنمو الاوراد والازهار، وتعبق العطور والنسائم المنعشة المبهجة للرياحين والورود من كلّ جهة، وماذا تفعل البلابل وطيور الكناري والببغاوات؟ ومن الذي صنع هذا كلّه؟ ذَ ' لِكَ بِأَنَّ اللَهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنـَّهُ و يُحْيِ الْمَوْتَي'. إنّ الله سبحانه يُحي الموتي باستمرار، وهذه الاُمور هي دوماً خلع ولبس، وموت وحياة، فظهور الثلج والمطر والبرد اللاذع القارس، وذَرْأُ الاوراد والبلابل والرياض والمروج هي بأجمعها إحياء للموتي. وليس إحياء الإنسان وبعثه من القبور شيئاً غير هذا، بل إنّه جزء من أجزاء هذا القانون والناموس العامّ والقدرة اللامتناهيّة. وَأَنَّ اللَهَ علی' كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أفتشكّون في حياتكم أنتم؟ أليست هذه حياةً؟ ألم تكن هذه ميّتة فأحياهاالله؟ ألم يكن ميّتاً ذلك الإنسان الذي كان نطفة أو تراباً بلاحسّ ولاحركة؟ فلا تدعوا تلك النطفة إنساناً أصلاً!إذإنّها لم تكن شيئاً، بل كانت عدماً، كانت عدماً محضاً. ثمّ إنّ الله جاء بالإنسان من كتم العدم إلي الوجود. وهذه البلابل وطيور الكناري، وهذه الحيوانات ذوات الإحساس والشعور التي لم تكن موجودة، كانت ميّتة وعدماً أيضاً. وهذه الاوراق والسيقان والاشجار، وهذه المياه والثمار والنسائم، كانت كلّها ميّتة، وهكذا الامر في الارض التي كانت ميّتة هامدة كئيبة. فمن الذي نفخ في هذه الارض؟ وأيّ قدرة وعلم وتدبير وحكمة كوّنت هذه اللوحة والمنظر، بحيث بُعثت الارض ومحتوياتها فاكتسبت حياةً جديدة، ونشطت وتحرّكت بفعّاليّة، فظهر في كلّ شبر منها آلاف مؤلّفة من ضروب الحياة، وتحرّكت آلاف الموجودات الحيّة وفق نظام صحيح للبدء والعَوْد، وبرنامج معيّن ومشخّص للموت والحياة والسير الواضح المعلوم، متحرّكة من القابليّة إلي الفعلیة، من الاستعداد إلي الكمال، بلاتفاوت ولااختلاف، وتحرّكت كلّ بعوضة وذبابة نحو كمالهاأيضاً بإتقان وكمال وجدّ. أشعار هاتف الإصبهانيّ في حقّانيّة الباري تعالييار بي پرده از در و ديوار در تجلّي است يا أولي الابصار شمع جوئي و آفتاب بلند روز بس روشن و تو در شب تار گر ز ظلماتِ خود رَهي بيني همه عالم مشارق الانوار كوروَشْ قائد و عصا طلبي بهر اين راه روشن و هموار چشم بگشا به گلستان و ببين جلوة آب صاف در گُل و خار ز آب بيرنگ صدهزاران رنگ لاله و گل نگر در آن گلزار [19] پا به راه طلب نه از ره عشق بهر اين راه توشهاي بردار شود آسان ز عشق كاري چند كه بود نزد عقل بس دشوار يار گو بالغدوّ و الآصال يار جو بالعشيّ و الإبكار صد رَهَت لَنْ تَراني ارگويد باز ميدار ديده بر ديوار تا به جائي رسي كه مي نرسد پاي اوهام و پاية افكار بار يابي به محفلي كانجا جبرئيلِ امين ندارد بار اين ره آن زاد راه آن منزل مردِ راهي اگر بيا و بيار ور نِه اي مردِ راه چون دگران يار ميگوي و پشت سَر ميخار هاتف ارباب معرفت كه گهي مست خوانندشان و گه هشيار از مِي و بزم و ساقي و مطرب وز مُغ و دير و شاهد و زُنـّار قصد ايشان نهفته اسراريست كه به ايما كنند گاه اظهار [20] پي بري كه به رازشان داني كه همينست سِرِّ آن اسرار كه يكي هست و هيچ نيست جز او وَحْــــدَهُ لاَ إلَــــهَ إِلاَّ هُــــو [21] بلي، يتصاعد هنا تلقائيّاً من فم كلّ عبد موحّد نداء: ذَ ' لِكَ بِأَنَّ اللَهَ هُوَ الْحَقُّ. فحصر الحقّانيّة في الذات المقدّسة للّه تعالي شأنه دليل علی حصر الصفات والاسماء فيه جميعها سبحانه. إنّ الإنسان يتصوّر أنـّه يمتلك وحده هدفاً ومسيراً، لكنّ الامر ليس كذلك. توحيد گوئي او نه بني آدمند و بس هو بلبلي كه زمزمه بر شاخسار كرد [22] وهكذا فإنّ لكلّ ذبابة هدفاً، ولكلّ بعوضة هدفاً، فهذا البعوض الذي يحطّ علی الورد له هدف ومقصد وآمال، وله تناسل وتناكح، وله زوجة وأولاد، وله عشق ومناجاة، وله مسير، وله موت وحياة، وله عبادة ومعبود. وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الاْرْضِ وَلاَ طَـ'´نءِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلآأُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَـ'بِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَي' رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ. [23] إِنَّ هذه الموجودات جميعها لهاأثر وخاصيّة، في ووجودها علی أساس من المصلحة والحكمة. أرأيتم العنب الياقوتيّ؟ إنّ حبّاته مهما تراصّت فإنّ هناك حشرة صغيرة تتحرّك علی هذه الحبّات وتنفذ أحياناً إلي داخل العنقود، ونحن نسمّي هذه الحشرة حشرة الدعسوقة (الرفّاء)، وهي حشرة صغيرة ذات أجنحة حمراء منقّطة بنقط سوداء، ومن الطبيعيّ أن لا شأن لهذه الحشرة بالعنب الياقوتيّ فحسب، بل إنّها موجودة علی غالب الخضراوات والاسباناخ والاعناب الاُخري، لكنّها تكثر علی العنب الياقوتيّ خاصّة وتحبّ الدخول بين حبّاته. وهي حشرة سامّة يُقال إنّ أكلها خطر، ولو أنّ الإنسان أكل منها اثنتين لمات. ذهبتُ ذات ليلة أيّام صباي مع المرحوم والدي إلي مجمع علميّ كان قد دُعي إليه. فجري الحديث حول هذا الموضوع هناك، وقيل إنّ الكتب العلميّة ذكرت بأنّ هذه الحشرة سامّة يكفي اثنتان منها لاءهلاك الإنسان، وقيل خاصّة أنّ علی الإنسان أن يتناول العنب الياقوتيّ حبّة حبّة لئلاّ تؤكل معه حشرة الدعسوقة المختفية في طيّاته. فخطر في ذهني سؤال حول الحكمة من خلق الله تعالي هذا الكائن السامّ، وجَعْله في مكان حسّاس كهذا، ليؤدّي بالنتيجة إلي موت الإنسان، أو ليختفي في الخضراوات والاسباناخ فيسبب الخطر، ثمّ تبيّن لي في أيّام شبابي بعد البحث والتدقيق أنّ هذه الحشرة ليست من جنس الحشرات السامّة. ولقد خلقها الله سبحانه لدفع السموم عن النباتات، وأنشأها للقضاء علی المكروبات، وهي في حركة دائبة دائمة فوق حبّات العنب وفوق سيقان الخضراوات، تصعد من الاسفل إلي الاعلی، وتهبط من الاعلی إلي الاسفل، فتلتهم كلّ حشرة وموجود مجهريّ فوقها؛ ويصبح بدنها نتيجة ذلك محلاّ لتجمّع السموم. فهي تقوم بتعقيم العنب والخضراوات لنا، وتقضي علی المكروبات الموجودة فيها. نحن نرقد في الليل براحة تامّة، لكنّ هذه الحشرة يقظة تحرس سيقان الاسباناخ والكرّاث والحلبة والبقدونس، وتلتهم السموم وتنقّي النبات وتسلّمنا إيّاه معقّماً. فَتَبَارَكَ اللَهُ أَحْسَنُ الْخَـ'لِقِينَ. [24] وقد رأيتُ في بعض المزارع أنّ الفلاّحين لا يقتلون هذه الحشرة ويقولون إنّها مفيدة لدفع الآفات. إذَن، لهذه الحشرة وظيفة تؤدّيها، فهي تكثر في النباتات التي تكثر سمومها، وهكذا فإنّنا نرقد وترقدون في الليل، ثمّ نذهب صباحاً إلي دكّان بائع الخضراوات لشراء الخضراوات والعنب الياقوتيّ، فنجد أنّ حشرة الدعسوقة قد قامت في الليلة السابقة بتعقيم هذه الخضراوات وهذا العنب من وجود البكتريا والمكروبات. وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ. إنّ كلّ من يرقد في جوف الليل ثمّ يستيقظ صباحاً فقد كان له موت وحياة، لا شكّ في هذا الامر، موت وبعث جديد، ولا أعجب من النوم والاستيقاظ ولا أغرب منهما. إنّنا نواجه طوال يومنا ملايين العجائب والغرائب التي يصل كلّ منها إلي حدّ الإعجاز، حتّي أنّ كلامنا هذا واستماعكم وإدراككم كلّ ذلك معجزة، فنزول المطالب والمعاني من صقع النفس وعالم الذهن إلي عالم الالفاظ معجزة، وصعود الالفاظ بواسطة الاستماع إلي عالم المعني في الذهن، ثمّ إلي جهة النفس معجزة أيضاً. وهناك الآلاف من هذه المعجزات تحصل كلّ آن، إلاّ أنـّنا لا نعدّها معجزة أصلاً. إنّ الدم الذي يجري في أبداننا يقوم بوظيفته في تبديل وتحليل ما يتحلّل من ذرّات كلّ نقطة بما يتناسب معها هو معجزة، والحركة الدائمة للقلب دون لحظة واحدة من فتور وتوقّف معجزة، وعمل الكلية وهذا الجهاز المعقّد والمختبر السيّار معجزة. وعمل المخّ معجزة، وكلّ خليّة مشغولة بعملها وفق الامر الإلهيّ في عدم تغيّرها وكيفيّتها، وهذا بحدّ ذاته قصّة عجيبة ومعجزة. الموجودات بأسرها معجزة؛ ولا اختصاص للاءعجاز بإحياء الموتيوهذا الهواء، وهذا الفضاء، وهذا الماء، وهذا النبات، وهذه الشجرة، وهذا الحيوان، وهذا الإنسان، كلّ أُولئك معجزة؛ غاية الامر أنـّنا نري هذه الحوادث يوميّاً، لذا صرنا ننظر إليها نظراً عابراً عاديّاً، فالمشابهات قد تخطّت لدينا أمر العجب والغرابة، أمّا لو حصل شيء ما خلافاً للمعتاد، وليس له شبيه، لعددناه معجزة ولاذعنّا آنذاك واعترفنا بقدرة الله تعالي. وهذا الامر ناشي من استغراب الاُمور غير الواقعة والنوادر من الوقائع والحوادث، لا من حيث تعلّق قدرة الله بالاُمور غير العاديّة. فقدرته سبحانه لا تتفاوت بالنسبة إلي الاُمور العاديّة وغير العاديّة. ولكن إذا زرعنا بذرة في الارض وسقيناها بالماء، وأشرقت علیها الشمس فتفتّحت وصار القسم الاسفل منها جذراً والاعلی ساقاً وأوراقاً لما أوليناها أدني اهتمام، ولاعتبرنا ذلك أمراً اعتياديّاً، ولما عددنا ذلك من المقدورات بقدرة الله عزّ وجلّ، ولما جلسنا عند هذا النبات والورد للتدبّر والتفكّر والمشاهدة لساعة، ولما تأمّلنا هذه المعجزات بحذافيرها بحيث نري فيها تجلّيات ذات الحقّ نصب أعيننا، لذا فإنّنا نتخطّاها بنظر عابر ساذج. نحن نمرّ علی مزرعة الحنطة التي تُعدّ كلّ بذرة فيها معجزة، فنتجاوزها بلا اهتمام، إذ لا نأخذ منها العبر، أمّا لو فرضنا أنـّنا بذرنا بذرة في الارض فنمت معكوسة، بحيث امتدّت ساقها وأوراقها وأزهارها وثمارها إلي الاسفل في داخل الارض، وارتفع جذرها من الارض إلي الاعلی، لصرخنا فوراً: لقد حدثت معجزة، لقد حدث شيء مخالف للعادة! وهكذا نقوم بنشر هذا الخبر في وسائل الإعلام، فيهجم المراسلون والمصوّرون من أطراف العالم وأكنافه يتساءلون عن الخبر، لقد أرتفع الجذر إلي الاعلی واتّجه الساق إلي الاسفل. ما الخبر، لقد وُلد إنسان له رأسان وأربع أيدٍ! هل هو أعجب من هذا الإنسان العاديّ؟ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً. كم من العجائب والغرائب في هذا الطفل ذي الشـعر الذهبيّ الـذي يولد من رحم أُمّه؟ الغرائب والعجائب قد ملات أرجاء عالم الوجود قاطبةانظر إلي تفّاحة واحدة تشتريها من بائع الفواكه «مشهدي حسن» فتأكلها، كم هي مشحونة بالعجائب؟ إنّ ليلنا ونهارنا عجائب، ولقد أحاطت بنا المعجزات والعجائب من كلّ صوب، فنحن نواجه كلّ لحظة آلاف العجائب، ونلتقي بآلاف المظاهر من علم الله المتعال وقدرته فلانأبه لايّ منها؛ فإذا وجدنا في زاويةٍ ما شيئاً مخالفاً للمعتاد اجتمعنا حوله فصرنا نتحدّث عن قدرة الله سبحانه. وهو أمر يرجع إلي قصور فكر الإنسان، وإلاّ فإنّ أحداً لو أراد حقّاً البحث عن قدرة الله ومشاهدة تلك القدرة عياناً، فإنّ العالم جميعه وكلّ واحد من ظواهره وموجوداته قدرة الله سبحانه. العالم برمّته قدرة، وعلم، وحكمة. أين نذهب فيكون ذلك المكان خارج علمه وقدرته وحكمته، ثمّ نريد أن نعثر علیه هناك؟! أين المكان الذي لا علم فيه؟ وأين المكان الذي لا قدرة فيه؟ وأين المكان الذي لا حياة فيه، لنذهب هناك ونعثر علی الله سبحانه؟! نحن نري هذه الاُمور في حياتنا اليوميّة ولا نعجب، ثمّ نقول حينئذٍ: أنـّي يُحيي الله الميّت؟ هنا تتعثّر خطي الإنسان فيعترض آلاف الاعتراضات علی قدرة الله، ويؤلّف المادّيّون الكتب، ويُنكر الدهريّون، ويُثيرون الصخب والضجيج، وينفخون في النفير. أن: كيف يبعث الله ميّتاً تلاشي تحت الارض، وعظاماً صارت رميماً ورماداً؟. إشكالات المادّيّين علی المعاد لا تعدو كونها تراه مستبعداًعلماً أنّ الإشكالات التي يثيرها المادّيّون هذه الايّام ليست بالشيء الجديد، بل هي نفس الاستبعاد الذي كان المادّيّون يتذرّعون به قبل عدّة آلاف من السنين. وَقَالُو´ا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الاْرْضِ أَءِنـَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ كَـ'فِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّب'كُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَي' رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ. [25]مراحل تكامل الإنسان أو قيام القيامة وظهور الآيات الانفسيّةلقد تلاشت أبدانكم تحت الارض، لكنّ حقيقتكم لم تتلاشَ بعدُ، ولقد كانت لكم أطوار معيّنة: كنتم تراباً، فصرتم نطفة، ثمّ عَلَقة، ثمّ مُضغة، ثمّ عظاماً، ثم أُنشئتم خلقاً آخر واكتسبتم قوّة النطق وروح الإنسانيّة فخرجتم طفلاً، ثمّ وصلتم إلي مقام القدرة والشدّة وحزتم حدّ النصاب. وها أنتم قد انتقلتم من الدنيا إلي البرزخ، فصار بدنكم تحت الارض، لكنّ وجودكم لم يذهب ولن يذهب تحت الارض. لانّ ملك الموت يقبض وجودكم وحقيقتكم، فيُبقونكم في البرزخ. وحين تقوم القيامة يُجمع بين الروح والبدن ويُؤلّف بينهما، فتحضرون بأجسامكم هذه في القيامة. إنّ عود الروح إلي البدن أيسر علی الله من شربنا الماء، وينبغي ألاّ نعدّ هذا العمل غريباً ممتنعاً ونحن نشاهد قدرة الله وعظمة ذاته القدسيّة اللامحدودة واللامتناهية، وألاّ يُعدّ محالاً بمجرّد الاستبعاد، وسنبيّن إن شاء الله تعالي فيما بعد كيف يكون إحياء الموتي أيسر من شُرب الماء. إنّ هذا الإنسان الميّت يُبعث: ثُمَّ إِلَي' رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (تتمّة الآيات مورد البحث). إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَ ' جِعُونَ. [26] نحن مِلك مطلق للّه تعالي، وسنعود إليه لا محالة. از جمادي مُردم و نامي شدم و ز نَما مُردم به حيوان سر زدم مُردم از حيواني و آدم شدم پس چه ترسم كي زمردنكم شدم حَملة ديگر بميرم از بشر تا برآرم از ملائك بال و پر و ز مَلَك هم بايدم جَستن ز جو كلّ شَيْءٍ هَالِك إِلاَّ وَجْههُ بار ديگر از مَلَك قربان شوم آنچه اندر وَهْم نايد آن شوم پس عدم گردم عدم چون ارغنون گويدم: إِنَّا إِلَيْه رَاجِعُون [27] إنّ الإنسان لن يقرّ قراره ما لم يصل إلي موطنه الاصليّ، وموطن الإنسان حرم الله تعالي، فهناك محلّ استقرار القلب وهدوئه. ولقد قدم الإنسان إلي الدنيا للكسب والعمل وتحصيل زاد المعرفة، ثمّ إنّ علیه الرجوع. وعلیه العودة بثروة وخَلاق. دلا تا كي در اين چرخِ مجازي كني مانند طفلان خاك بازي توئي آن دست پرور مرغ گستاخ كه بودت آشيان بيرون از اين خاك چرا از آن آشتيان بيگانه گشتي چو دونان مرغ اين ويرانه گشتي بيفشان بال و پر ز آميزش خاك بپر تا كنگره ايوان افلاك [28] خُلِقْتُمْ لِلْبَقَاءِ لاَ لِلْفَنَاءِ. [29] إنّ الإنسان لا يفني مبدئيّاً، وليس للعدم المحض سبيل إليه. فالموت والبعث خلعٌ ولبس، والحركة إلي البرزخ إلي القيامة هي المسير الكماليّ للاءنسان وصعوده إلي الله المتعال، وهي قابليّة الحضور في محضر العلم والقدرة والحياة اللامتناهية. فالموت ـ إذَن ـ هو كمال الإنسان لافتوره وضعفه ونقصانه. وما أروع الابيات التي أنشدها الإمام سيّد الشهداء علیه السلام في الموت إذ قال: لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا تُعَدُّ نَفِيسَةً فَدَارُ ثَوَابِ اللَهِ أَعلی وَأَنْبَلُ وَإِنْ كَانَتِ الاْبْدَانُ لِلْمَوْتِ أُنْشِأَتْ فَقَتْلُ امْرِيءٍ بِالسَيْفِ فِي اللَهِ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَتِ الاْرْزَاقُ شَيْئاً مُقَدَّراً فَقِلَّةُ سَعْي الْمَرْءِ فِي الرِّزْقِ أَجْمَلُ وَإِنْ كَانَتِ الاْمْوَالُ لِلتَّرْكِ جَمْعُهَا فَمَا بَالُ مَتْرُوكٍ بِهِ الْمَرْءُ يَبْخَلُ [30] ارجاعات [1] ـ «نهج البلاغة» الحكمة 405، ج 2، ص 231؛ طبعة عبده ـ مصر. [2] ـ أورد خطبة الإمام كلٌّ من ابن شُعبة الحرّانيّ في «تحف العقول» ص 245؛ والمجلسيّ رحمه الله في «بحار الانوار» روضة البحار، المجلّد 17، ص 148؛ وفي الطبعة الحديثة ج 78، ونقل السيّد ابن طاووس في «اللهوف» هذه الخطبة عن الإمام علیه السلام في «عذيب الهجانات» وهو أحد المنازل بين المدينة والكوفة وقال: فورد كتاب عبيداللهبن زياد إلي الحرّ بن يزيد يأمـره بالتضييق علی الحسـين علیه السـلام، فقام الحسـين علیه السلام خطيباً... («اللهوف»، ص 69 ). كما نقلها الطبريّ عن الإمام علیه السلام أنـّه خطبها في «ذي حسم»، وذلك في تأريخه ضمن وقائع سنة 61. ويبدو أنّ «ذا حسم» و «عذيب الهجانات» اللذين ذكرهما السيّد محلّ واحد، لانّ هاتين الخطبتين ذكرتا بعد ورود الحرّ. («تاريخ الطبريّ» ج 5، ص 403 و 404، طبعة محمّد أبي الفضل إبراهيم). ونقلت هذه الخطبة في «ملحقات إحقاق الحقّ» ج 11، ص 605، حيث أوردها صاحب الكتاب المشار إليه عن كتب التأريخ والحديث المهمّة لاهل السنّة مع ذكر أسانيدها. [3] ـ الآيات 1 إلي 6، من السورة 51: الذاريات. [4] ـ «تفسير القمّيّ» ص 646. [5] ـ «الدرّ المنثور» ج 6، ص 111. [6] ـ «تفسير مفاتيح الغيب» طبعة دار الطباعة، ج 7، ص 654. [7] ـ «تفسير الميزان» ج 18، ص 396. [8] ـ المقطع الاخير للا´ية 29، من السورة 7: الاعراف. [9] ـ مقطع من الآية 104، من السورة 21: الانبياء. [10] ـ النصف الثاني للا´ية 15، من السورة 31: لقمان. [11]ـ الخردل: نوع من الفلفل، له بزور سوداء صغيرة ذات طعم حادّ. [12] ـ الآية 16، من السورة 31: لقمان. [13] ـ الآية 37، من السورة 23: المؤمنون. [14] ـ الفقرة الاخيرة للا´ية 14، من السورة 23: المؤمنون. [15] ـ الآيات 5 إلي 7، من السورة 22: الحجّ. [16] ـ وما أجمل الابيات التي أنشدها الشيخ سعدي في كتاب «بوستان» بهذا الشأن، فقال: ببين تا يك انگشت از چند بند به صنع الهي به هم در فكند پس آشفتگي باشد و ابلهي كه انگشت بر حرف صنعش نهي تأمّل كن از بهر رفتار مرد كه چند استخوان پي زد و وصل كرد كه بي گردش كعب و زانو و پاي نشايد قدم بر گرفتن ز جاي از آن سجده بر آدمي سخت نيست كه در صُلب او مهره يك سخت نيست دو صد مهره بر يكديگر ساختست كه گل مهرهاي چون تو پرداختست رگت بر تنت اي پسنديده خوي زميني در او سيصد و شصت جوي بَصَر در سر و راي و فكر و تميز جوارح به دل، دل به دانش عزيز بهايم برو اندر افتاده خوار تو همچون الف بر قدم ها سوار («بوستان»، ص 207؛ عن «كلّيّات سعدي» طبعة فروغي) يقول: انظر إلي الإصبع المكوّن من عدّة مفاصل، فقد خلق الله مفاصلها جنباًإلي جنب في صنع إلهيّ. إنّ من الاَفَن والبلاهة أن يقدح المرء بما خلق الله. تأمّل سير الإنسان ومشيه، كيف خلقه الله من عدّة عظام وصل بعضها ببعض. وكيف لا تخطو القدم خطوة دون دوران الكعب والركبة والرجل! وليس عسيراً علی الإنسان السجود، إذ لم يكن في صلبه فقرة متصلّبة واحدة. فقد ركّب مائتي فقرة بعضها علی بعض، ليصوغ منها فقرة طينيّة مثلك. والعروق في بدنك أيّها المغرور، أشبه بأرض جرت فيها ثلاثمائة وستّون ساقية. البصر في الرأس والرأي والفكر والتمييز، والجوارح في القلب، والقلب بالعلم غزير. البهائم ساقطة منحنيّة ذليلة، وأنت كحرف الالف سائر علی قدميك! [17] ـ يقول الشيخ سعدي الشيرازيّ في («بوستان» ص 407، نقلاً عن «كلّيّات سعدي» طبعة فروغي): شيوة نرگس ببين نزد بنفشه نشين سوسن رعنا گزين زرد شقايق بيار خيز و غنيمت شمار جنبش باد ربيع نالة موزون مرغ بويِ خوش لالهزار هر گُل و برگي كه هست ياد خدا ميكند بلبل و قمري چه خواند ياد خداوندگار برگ درختان سبز پيش خداوند هوش هر ورقي دفتريست معرفت كردگار يقول: انظر طبع زهرة النرجس، واجلس عند زهرة البنفسج، واختر السوسن الجذّابة، وهاتِ الشقائق الصفراء. انهض واغتنم هبوب نسيم الربيع، وحنين الطيور الموزون، وعطرَ روضة الورد. كلّ وردة وورقة موجودة تذكر الله؛ وما شداالبلبل والقُمري كان ذكراًللخالق. وكلّ ورقة شجرة خضراء عند أُولي الالباب، هي دفتر لمعرفة الخالق المتعال. [18] ـ يقول: كلّ هذه الرسوم العجيبة مبثوثة في أرجاء الوجود، فمن لم يُعمل فكره فيها كان كالرسم علی الجدار. [19] ـ من جملة أشعار السيّد أحمد هاتف الإصبهانيّ، نُقلت من «ديوان هاتف». يقول: إنّ الحبيبَ السافر يا أُولي الالباب في تجلٍّ. أتنشد الشمعَ والشمس في وسط السماء؟! إنّ ضوء النهار شديد وأنت في ليلٍ بهيم! فإن وجدتَ خلاصاً من ظلماتك، لرأيتَ العالم كلّه مشارق الانوار. أفتطلب عصاً ودليلاًكالعميان، لتسير في هذاالدرب المضاء الرحب؟! افتح عينيك وتطلّع إلي البستان، وانظر تجلّي الماء الصافي في الورد والاشواك! وانظر في تلك الروضة مئات الآلاف من ألوان أوراد الشقائق والازهار، من ماءٍ لالونَ له! [20] ـ فضع علی طريق الطلب قدمك بواسطة العشق، وتزوّد لهذاالطريق زاداً. فطالما تيسّر بالعشق عملٌ كان شاقّاً عسيراً علی العقل. ونادِ الحبيب بالغدوّ والآصال، واطلب الحبيب بالعشيّ والإبكار. فإن قال في دربك مائة مرّة (لَنْ تَرَاني)، فاحبس البصر علی الجدار. حتّي تصل إلي حيث لم تصل قدم الاوهام، ولاأساس الافكار. وحتّي يؤذَن لك بالتشرّف في محفلٍ لم يكن لجبرئيل الامين إذن لوروده. هذا هو الدرب، وذاك الزاد، وذاك المنزل والهدف، فإن كنت سالكاً فهلمَّ. وإن لم تكن سالكاً (درب التوحيد) كالآخرين، تتشدّق باسم الحبيب وتكرع الكأس في السرّ. يا هاتف (وهو اسم الشاعر) إنّ أصحاب المعرفة يُدْعَون ثمالي طوراً وصاحين طوراً آخر. إنّ قصدهم من الخمر والحفل والساقي والمطرب، ومن المجوسيّ (كناية عن العارف ووليّ الحقّ) والدير والشاهد والزنّار. [21] ـ يقول: أسرار خفيّة يُشيرون إليها تارة، ويُظهرونها تارة أُخري؛ فإن أدركت سرّهم حيناً علمت أنـّه سرّ تلكم الاسرار. وأنـّه واحد ليس شيء عداه، وهو وحده لاإله إلاّ هو. [22] ـ يقول: إنّ القول بالتوحيد لا يقوله بنو آدم وحدهم، بل يقوله كلّ بلبل مغرّد علی الفَنن. [23] ـ الآية 38، من السورة 6: الانعام. [24] ـ الفقرة الاخيرة للا´ية 14، من السورة 23: المؤمنون. [25] ـ الآيتان 10 و 11، من السورة 32: السجدة. [26] ـ النصف الثاني للا´ية 156، من السورة 2: البقرة. [27] ـ «مثنوي» طبعة ميرخاني، المجلّد الثالث، ص 300. يقول: مُتُّ من الجماد وصرت اسماً، ثمّ مُتّ من النموّ فصرتُ حيواناً. ثمّ مُتُّ من الحيوانيّة فصرتُ بشراً، فَلِمَ الخوف ـ إذَن ـ من النقصان بالموت؟ إنْ هي إِلاَّ هجمة أُخري لاموت من الآدميّة، فآخذ من الملائكة ريشاً وجناحاً! ثمّ إنّ علیَّ أن أقفز من المَلَك، إذ: كلّ شَيء هَالِك إلاّ وجهه. علیَّ أن أضحّي مرّة أُخري من مرحلة المَلَك، لاصبح ما لا يناله الوهم والخيال. فلاكن عدماً، عدماً كالارغن، قائلاً: إنّا إِلَيه راجعون. [28] ـ يقول: إلي متي تلهو ـ أيّها القلب ـ في هذه العجلة المجازيّة كطفل يلهو بالتراب؟ أنت أيّها الطائر المروّض الجسور الذي كان عشّه خارج هذا التراب. لِمَ صرتَ غريباً عن عشّك ذاك، و صرت طائر هذه الخربة كالسفلة؟ فانشر جناحك عن ممازجة التراب، و حلّق إلي شرفات أيوان الافلاك! [29] ـ رسالة مخطوطة في المعاد باسم «الإنسان بعد الدنيا» تأليف العلاّمة الطباطبائيّ، ص 2، وقد نقله عن المرحوم الصدوق وغيره، عن رسول الله صلّي الله علیه وآله أنـّه قال: مَا خُلِقْتُمْ لِلْفَنَاءِ بَلْ خُلِقْتُمْ لِلْبَقَاءِ وَإِنَّمَا تَنْقَلِبُونَ مِنْ دَارٍ إِلَي دَارٍ. [30] ـ «إحقاق الحقّ» الملحقات، ج 11، ص 637، نقله عن أبي الفداء في «البداية والنهاية» (ج 8، ص 209 طبعة القاهرة)؛ وكذلك عن أبي الفداء في كتاب «أهل البيت» (ص 440، طبعة القاهرة). وأورده في هذا الكتاب بلفظ: (فَقِلَّةُ حِرْصِ الْمَرْءِ فِي السَّعْيِ أَجْمَلُ) بدلاً من (فقلّة سعي المرء في الرزق أجملُ). |
|
|