|
|
الصفحة السابقةفي كيفيّة نزول الوحي علی رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلمو الخلاصة فانّ ظاهر هذه الآيات يدلّ علی انّ جبرئيل قد أنزل جميع القرآن. و من أجل فهم حقيقة الامر، و الجمع بين آيات القرآن، فقد كان لي فكرةٌ ما، لستُ أعلم هل تفي بالامر أم لا؟ و هي أن نقول بأن هناك ثلاث مراحل لكيفيّة نزول الوحي: المرحلة الاولي: مرحلة نزول الوحي من الله بلا واسطة. الثانية: و هي أدني منها، و ليست من الله مباشرة، بل بواسطة جبرئيل. أي ان جبرئيل كان موجوداً حيثما أوحي الله، فكان تعالي يوحي بواسطة جبرئيل. و الثانية: و هي أدني من سابقتيها، و هي انّ الوحي لم يكن بمباشرة جبرئيل بنفسه، بل كان يوحي بواسطة أعوان جبرئيل. و في هذه الكيفية فقد كان الله تعالي حاضراً، و كان جبرئيل حاضراً، و أعوان جبرئيل كذلك. و لدينا آية في القرآن الكريم في هذه الكيفيّة الثالثة التي يتم الوحي فيها بواسطة أعوان جبرئيل، توضح انّ الآيات الإلهيّة كانت تنزل في ألواح أو نظير ألواح ـ مثلاً ـ في أيدي سفرة كرام فيقرأها رسول الله. كَلآ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرةٍ. [1] و كان أصحاب المراحل الثلاث (أي الحقّ تعالي و جبرئيل و السفرة الكرام البررة) حاضرين في جميع هذه المراحل الثلاث، و كان نزول الوحي يحصل في كلّ مرحلة بواسطتهم جميعاً. أي بواسطة السفرة الكرام البررة، بواسطة جبرئيل، بواسطة الحقّ تعالي. غاية الامر أنّ النظر الاساس كان في بعض الموارد الی نفس ذات الحقّ، بحيث لم يكن هناك نظر الی جبرئيل و السفرة، و هذا يحصل في الموارد التي كانت حال رسول الله تتغير فيها، و التي كانت وَحْياً وفقاً للآية الواقعة في سورة الشوري. كما كان النظر الاساس في بعض الموارد الی جبرئيل، بحيث لم يكن هناك نظر الی السفرة؛ و كان النظر الی ذات الحقّ يحصل من خلال مرآة جبرئيل. أمّا في الموارد الباقية فكان النظر الاساس الی الملائكة من أعوان جبرئيل، أي الی السفرة. فكان النظر يحصل من خلال نافذد وجودهم و تعيّنهم الی جبرئيل و الی الحقّ. و كانت هذه الكيفيّة الاخيرة تحصل وفقاً لتلك الآية: أَوْ يُرسِلَ رَسُولاً؛ غاية الامر انّ الوحي كان يحصل أحياناً بواسطة جبرئيل، و أحياناً أخري بواسطة السفرة الكرام البررة من أعوانه. ذلك لانّه وفقاً لآية: و مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآيٍ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً، فإنّ الله المتعال يتكلّم بنفسه حين يوحي، فلا يتّخذ في تكليمه واسطة ما، بل يتجلّي بنفسه مباشرة و بتكلّم. فيدرك رسول الله ذلك التكلّم. و لدينا نظير هذا المعني في قبض الارواح، فقد ورت فيه.يضاً هذه المراحل الثلاث في القرآن الكريم: اللَهُ يَتَوَفَّي الاْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا. [2] و في موضع آخر: قُلْ يَتَوَفَّـ'كُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ. [3] و في موضع آخر: حَتَّي إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ. [4] و هناك أيضاً نظير لهذه الآية في القرآن الكريم. و علی أيّ حال فانّه يستفاد من هذه الآيات في أمر قبض الروح أنّ الله المتعال يقبض الروح في احدي المراتب مباشرةً، و يُوكل ذلك في مرتبة أدني الی ملك الموت، و الی الملائكة و رُسل قبض الارواح في مرتبة أدني. فالله المتعال و ملك الموت و ملائكة قبض الارواح حاضرون كذلك في جميع هذه المراحل الثلاث، و انّما ينحصر الاختلاف بين تلك المراحل في انّ المحتضر في بعض الموارد ليس له التفات أبداً الی غير الله تعالي، فيقبض الحقّ المتعالي روحه بلا واسطة، أي انّ المحتضر لا يري عزرائيل و لا ملكاً آخر، بالرغم من انّهم القائمون بالامر. و في بعض الموارد لا يكون للمحتضر مقام يمكنه معه الغرق بشكل محض في أنوار الحضرة الاحديّة، بيد انّه يمتلك بعض مراتب الخُلوص، لذا يحصل قبض روحه بواسطة عزرائيل نفسه. أمّا في الموارد الاخري فانّ قبض الروح يحصل بواسطة أعوان جبرئيل و الملائكة الثانويّين. حيث لا تحصل في الحالة الثانية مشاهدة لذات الحقّ، و لا تحصل في الحالة الثالثة مشاهدة لذات الحقّ و لا لعزرائيل. و علی أيّ حال فانّ اختلاف هذه المراتب انّما هو بحسب اختلاف إدراكات المحتضر و درجاته و مقاماته. و كما سلف، فانّ اختلاف درجات و مراتب وحي الآيات القرآنيّة في هذه المراحل الثلاث أيضاً كان بحسب الظاهر تبعاً لاختلاف الحالات و المقامات و الاوضاع التي ينزل الله تبارك و تعالي الوحي عن طريق أحدها. تفسير الآيةالمباركة: وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي'´ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَيالتلميذ: هل مفاد الآية الكريمة: وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي'´ إِن هُوَ إِلاَّ وَحيٌ يُوحَي عَلَّمَهُ و شَدِيدُ الْقُوَي' [5] و [6] انّ جميع كلمات رسول الله صلّي الله عليه و آله وسلّم كانت وحياً؟ أم أنّ ظاهرها انّ الآيات التي كان رسول الله يتلوها بعنوان قرآن كانت وحياً! فقد لو حظ انّ البعض يستدلّ ـ متمسّكاً بهذه الآيات ـ علی انّ الكلام العادي لرسول الله كان هو الآخر وحياً منزلاً. فهم يستدلّون بهذه الآية الشريفة: وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي' إِن هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي. في مسألة أمر النبيّ بتحرّك جيش أسامة أو في مسألة طلب رسول الله القرطاس و الداوة عند احتضاره ليكتب للامّة شيئاً لن يضلّوا من بعده أبداً أو لم تكن وحياً كلمات رسول الله هذه و أوامره و نواهيه في الامور الفرديّة وا لعائلية أو الاجتماعية؟ و علی الرغم من انّ كلمات رسول الله العاديّة كانت صحيحة و منطبقة علی الحقّ، و لكن هل يصحّ الاستدلال بآية: وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي'؟ العلاّمة: انّ آية وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي لها اطلاق، و تشمل وحي آيات القرآن و غيره؛ و يمكن القول بأنّ رسول الله لم يتكلّم في الامور العادية أيضاً وفق رغباته و أهوائه النفسانيّة. لكنّ آية إِن هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي عَلَّمَهُ و شَدِيدُ الْقُوَي تتحدّث عن القرآن الكريم و الآيات النازلة، و لا علاقة لها بكلام النبيّ العادي و أوامره في الامور الشخصيّة. التلميذ: يمتنع البعض استعمال ضمير المتكلّم «أنا» في كلامهم و حديثهم، فلا يقولون: فعلتُ كذا، أو ذهبتُ و قلتُ... و أمثال ذلك؛ بل يستعملون دائماً ضمير الغائب «هو» فيقولون: فعل كذا، و ذهب، و تناول الطعام فهل يقصدون التأدّب بهذا النحو من الكلام، فيحاولون عدم تعويد أنفسهم علی قول «أنا» و يمتنعون عن نسبة الافعال المختلفة الی أنفسهم؟ أم انّ قصدهم اسناد الافعال الی الحقّ، فلا يريدون وضع.فنسهم في البين، و لا تخيّل وجود لانفسهم مقابل الحقّ تعالي؟ بالرغم من انّ هذا المقام ليس مقام التوحيد الصرف، و انّ ذلك المقام مقامٌ لا يُشاهد فيه شيءٌ غير الحقّ تعالي، و بالرغم من أنّ نسبة الافعال الی النفس هو في الحقيقة نسبتها الی الحقّ تبارك و تعالي. العلاّمة: ربّما كان لدي البعض هذا الجانب من التأدّب ـ ظاهراً ـ في أنّهم لا يريدون تعويد أنفسهم علی ترديد لفظ «أنا»، من أجل إعداد أرضيّةٍ ما للمقام التوحيدي. و يخطر في بالي في مسألة التوحيد أنّ الإمام الصادق عليه السلام كانت له عناية و رغبة زائدتين في ارجاع لفظ «هو» الی الله تعالي، بحيث يُشير الی مقام الذات. و لو صحّ ذلك لما كان لدينا من «هو» الاّ الله و ينتهي الامر. قُلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ. [7] لَوْ أَنزَلْنَا هَـ'ذَا الْقُرْءَانَ علی جَبَلٍ لَّرَأيْتَهُ و خَـ'شِعًا مُتَصَدِّعًا مِّن خَشْيَةِ اللَهِ وَ تِلْكَ الاْمْثَـ'لُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَهُ الَّذِي لاَ إِلَـ'هَ إِلاَّ هُوَ عَـ'لِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَـ'دَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمِ هُوَ اللَهُ الَّذِي لآ إِلَـ'هَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدْوُّسُ (الكلام عن «هو» و لفظ «هو» يرد في البين) الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. [8] رؤيا أميرالمؤمنين للخضر و تعليم الإسم الاعظمو قد ورد في شأن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه رأي الخضر عليه السلام في المنام في الليلة التي سبقت حرب بدر، فقال له: علّمني شيئاً أنتصرُ به علی الاعداء. فقال له الخضر: قل: يَا هُوَ يَا مَن لاَ هُوَ إِلاَّ هُوَ. فلمّا أصبح قصّ ذلك علی رسول الله فقال الرسول: يا عليّ! عُلِّمت الإسم الاعظم. [9] فما أعمق معني هذا الذكر يَا هُوَ يَا مَن لاَ هُوَ إِلاَّ هُوَ! و هو في غاية الجلاء في توحيد الوجود. يَا هُوَ يَا مَن هُوَ هُوَ؛ يَا مَن لاَ هُوَ إِلاَّ هُوَ. قال أميرالمؤمنين عليه السلام: كنت مشغولاً بترديد هذا الذكر في حرب بدر؛ و كان عليه السلام يقاتل و يردّد هذا الذكر. بلي، لقد كان «هو» يُظهر أشيائ من ظهوراته. و علی كلّ حال فانّها بأجمعها ظهورات، لكنّ الناس ينظرون اليها بأعين عمياء لا تبصر، أمّا أميرالمؤمنين عليه السلام فكان ينظر اليها بعينٍ أخري. و هي بأجمعها أطوار و أشكار لظهورات الحقّ جلّ و علا. في الحالات التوحيديّة للمرحوم القاضي رضوان الله عليهالتلميذ: هل كان المرحوم القاضي يتحدّث و يتذاكر في مجالسه مع تلامذته و رفقائه الخاصّين عن شيء من هذه المقولات التوحيديّة؟ فلقد كان المرحوم القاضي رجلاً في غاية العجب، كمثل جبل راسخ مقتدر ذي سعة و قابليّة هائلتين. فبعض تلامذته الذين تردّدوا عليه عشر سنوات أو اثنتا عشرة سنة لم يتوصّلوا الی التوحيد، و لم ينالوا شيئاً من توحيد الحقّ تعالي. و لستُ أعلم هل كان يماشيهم و يسير وفق خُطاهم، فبقوا مشغولين بعالم الكثرات هذا الی حين ارتحال آية الحقّ تلك؟ الاّ انّ بعض تلامذته كانوا علی العكس من ذلك، فقد توصّلوا بسرعة الی العلم و المعرفة في مجال المعرفة الإلهيّة و في مجال الاسماء و الصفات و توحيد ذات الحقّ. العلاّمة: بلي، كان المرحوم القاضي يتحدّث هذا النوع من الحديث مع بعض تلامذته ممّن يعتمد عليهم الی حدٍّ ما، و لقد كان المرحوم القاضي رجلاً عجيباً حقّاً، فكان ينهج مع كلّ واحد من تلامذته حسب قابليّته و حالاته. و كان تلامذته مختلفين، فقد كان لبعضهم قابليّد علی التقدّم بسرعة، امّا البعض الاخر فلم يكونوا كذلك، و كان تقدّمهم يحصل ببطء و تأخير. و كان المرحوم القاضي يتواجد في الحال العاديّة لمدّة عشرة أيام عشرين يوماً، فيتردّد عليه الرفقاء و يتذاكرون معه و يتحدّثون اليه؛ ثم يحصل أن يختفي فجأة لعدّة أيّام دون أن يكون له أثر، لا في البيت و لا في المدرسة و لا في المسجد و لا في الكوفة و لا في السهلة. فلا أثر له أبداً. و لم تكن عائلته تعلم أين كان يذهب، أو ماذا كان يعقل. و لم يكن لاحد علم بذلك. و كان الرفقاء لا يتركون مكاناً يحتملون وجوده فيه دون أن يفتشّوه، فلا يعثرون له علی خبر. ثمّ انّه كان يظهر بعد عدّة أيام فيستمر بدرسه و جلساته الخاصّة في المنزل و المدرسة. و كان له كثيرٌ من الغرائب و العجائب علی هذا النحو، و كانت حالاته غريبة تُثير العجب. و كان النجفيّون ينقلون عنه قضيّة، لا ينحصر ذلك في شخص واحد أو اثنين منهم، بل يتعدّي الامر ذلك. و قد اسنتسرتُ عنها منه بعد ذلك فأقرّ أنّها كذلك. فقد كان المرحوم القاضي مريضاً، و كان جالساً في أيوان المنزل الذي كان يسكنه، و كان يشكو آلاماً في رجليه بحيث فقدت رجلاه القابليّة علی الحركة و الانثناء. و كان هناك في تلك الاثناء حرب دائرة في النجف الاشرف بين طائفتي«الشِمِرت» و «الذِکُرت»؛ و كان اولئكم قد تحصّنوا فوق سطوح المنازل يترامون من فوقها. فكانت الحرب دائرة بين هذا الطرف من المدينة و طرفها الآخر. ثمّ رجحت كفّة الذِکُرت، فأجلوا طائفة الشمرت و ردّوهم علی أعقابهم، فكانوا في تقدّمهم يحتلّون المنازل و السطوح الواحد بعد الآخر. و كانت جماعة من طائفة الشمرت قد تحصّنت فوق سطح داره و استخدمته في رمي الزگرف، فلمّا تغلّبت طائفة الذِکُرت جاء رجالها الی هذا السطح فقتلوا رجلين من الشمريتين. و كان المرحوم القاضي جالساً في الايوان يتفرّج و لمّا احتلّ الذِکُرتيّون السطح و تراجع الشمرتيّون عنه، نزل الذِکرتیّون الی ساحة البيت و احتلّوا البيت و قتلوا اثنين آخرين من الشمريّتين في الايوان، و اثنين آخرين في ساحة البيت، فصار مجموع قتلاهم ستّة أنفار. و كان المرحوم القاضي يقول: حين قتلوا ذينك النفرين فوق السطح، فقد كان الدم يتدفّق من الميزاب الی الاسف كالمطر، و كنت جالساً في مكاني دون أن أقوم بحركة. ثمّ انّ الكثير من الذکرتیيّن تدفّفوا في الغرف فجمعوا كلّ ما يصلح للاءستفادة منه و نهبوه. بلي، كان لطف ذلك أنّ المرحوم القاضي يقول: لم أتحرّك، فلقد جلستُ علی هيئتي السابقة و أنا أتفرّج. و يقول: كان الدم يتدفّق من الميزاب، و كان هناك قتيلان ساقطين في الايوان و قتيلان آخران ملقيين في ساحة البيت، و أنا أتفرّج. و هذه الحالات يُقال لها الفناء في التوحيد، حيث انّ السالك لا يري حينذاك شيئاً غير الله تعالي، فهو إذ يشاهد جميع الحركات و الافعال، يُشاهدها تجلٍّ للحقّ. و قد حصل للمرحوم القاضي قضيّة.خري حضرتُها و شاهدتُها بأمّ عيني؛ و بيانها كالتالي: كان لاحد أصدقاء المرحوم القاضي حجرة في مدرسة الهندي البخارائي المعروفة في النجف الاشرف، و كان قد سافر و أوكل حجرته الی المرحوم القاضي ليستفيد منها في الجلوس و النوم و سائر احتياجاته. و كان المرحوم القاضي يأتي الی تلك الغرفة نهاراً قرب الغروب، كما كان رفقاؤه يأتون كذلك فيقيمون صلاة الجماعة. و كان مجموع التلامذة يترواوح بين سبعة الی عشرة أشخاص. ثم يجلس المرحوم القاضي الی ما بعد ساعتين من الليل، و كانت المذاكرات تقام، فيطرح التلامذة أسئلهم و يستفيدون منه. و حصل أن كنّا في أحد الايّام جالسين في الحجرة، و كان المرحوم القاضي جالساً أيضاً، فشرع بالكلام عن التوحيد الافعالي. و كان منهمكاً بالحديث عن التوحيد الافعالي و بيانه بصورة موجّهة، حين بدا انّ السقف قد انهار، و كان في أحد طرفي الغرفة مدخنة للمدفأة، فبدأ من هناك صوت كمثل القرقعة، ثم حصل انهيار مع جلبة و صخب، و تصاعد الغبار فملا فضاء الحجرة. فنهض التلامذة و السادة الحاضرون بأجمعهم و أنا معهم، و اتّجهت الی باب الحجرة فرأيت التلامذة مزدحمين بأجمعهم و كلّ منهم يدفع الادخر الی الوراء من أجل أن يخرج من الغرفة. ثمّ اتّضح في تلك الحال أنّ الامر ليس كذلك، و انّ السقف لم يتهدّم، فعدنا و جلسنا بأجمعنا كلاّ في مكانه. أمّا المرحوم السيّد (القاضي) فظلّ جالساً في موضعه دون أن تبدر منه أدني حركة مع أنّ ذلك الانهيار قد بدأ مصادفة من فوق رأسه. لقد عدنا و جلسنا فقال السيّد: تعالوا يا موحّدي التوحيد الافعالي! نعم، كان جميع التلامذة متأثّرين لا يحيرون جواباً. و هكذا جلسنا مدّة، ثم انّه أنهي بياناته التي تفضّل بها في أمر ذلك التوحيد الافعالي. بلي! لقد جري ذلك اليوم امتحان كهذا، فقد كان للمرحوم السيّد مذاكرة في هذا الشأن، ثمّ حصل هذا الامتحان في نفس الموضوع، فقال: تعالوا يا موحّدي التوحيد الافعالي. ثمّ اتّضح بعد التحقيق في الامر انّ هذه المدرسة مُلاصقة لمدرسة أخري بحيث كانت غرف هذه المدرسة متّصلة تقريباً بغرف تلك المدرسة و متناظرة معها، و كان هناك جدار واحد فقط يفصل غرف هذه المدرسة عن تلك. و كان سقف المدفأة في الغرفة المقارنة للغرفة التي كنّا نجلس فيها قد انهار و تهدّم؛ و باعتبار اتئصال غرفة هذه المدرسة بغرفة تلك المدرسة عن طريق مدخنة المدفأة، فقد ظهرت هذه الجلبة و ورد هذا الغبار من موضع المدفأة الی هذه الغرفة. بلي، كان الامتحان الذي أدّيناه علی هذه الكيفيّة. في التوحيد الافعالي للحقّ المتعالالتلميذ: يقول البعض بأنّه لو جاء شخصٌ ما بهديّة للإنسان، فإنّ عليه قبولها منه علی أساس مسألة التوحيد الافعالي، لان المعطي هو الله، و ليس ردّ إحسان الله و هديّته بالامر اللائق. و ليس أمر مقام عزّة النفس و حفظ الكرامة و غير لك وارداً في البين هنا. و أنّ علی الشخص السالك أن يتجاهل في مثل هذه المقامات عزّة النفس و كرامته مقابل هذا الإحسان، و أن يفتح لنفسه ـ بقبولها بعنوان قبولٍ من الله ـ سبيلاً الی التوحيد الافعالي. امّا البعض الآخر فلا يقبلون من أحد شيئاً، و ذلك بعنوان عنزّة النفس و لعبض الملاحظات الاخري. فماذا ينبغي علی السالك في طريق الله فعله في هذه الحال للوصول الی مقصد التوحيد! هل المقدّم عزّة النفس أم معاملة التوحيد الافعالي لحضرة الحقّ تعالي. و ما أكثر ما يحصل أن تقترن هديّة المُهدي بعنوان المساعدة و الصدقة، أو ان تنطوي نيّته علی نوع من العطف و الشفقة، أو يكون فيها عنوان شبه رشوة من أجل تمهيد الارضيّة لطلبٍ لاحق مشروع أو غير مشروع، فيكون قبول هذه الهدايا في أغلب الاوقات مستلزماً حقّاً لذلك المعطي، فهو ـ بالملازمة ـ ينتظر استمالة الطرف و يعدّ لنفسه حقّاً عليه، بينما تلك الاستحالة مضرّة لسالك، أو ان ذلك ـ علی الاقلّ ـ سيستلزم منّةً لا يصحّ للسالك الخضوع لها من جهة. و من جهة أخري فإنّ الانطواء و تجاهل خلق الله و ردّ رجائهم مضرّ للسالك هو الآخر. العلاّمة: انّ قبول الهديّة و التحفة أمر ضروريّ في حدّ نفسه عالم يستلزم ذلّة و عواقب غير مشروعة. فردّ الهدية أمر قبيح غير مستحسن. و الظاهر انّ هناك رواية واردة عن أميرالمؤمنين عليه السلام تقول: لا يردّ الإحسان الاّ الحمار! و أخري انّه لا يردئ الإتحسان الاّ الحجر الصلد، أو الشخص السيّء الجلف. بلي، لو استتعبت أحياناً مقاصد أخلاقيّة سلبيّد كالذلّة و المنّة و أمثال ذلك، لما كان قبولها مستحسناً بحسب الظاهر. و علی سالك طريق الله أن يلتفت الی هذه الجهات. و يجب القول عموماً انّ قبول الهديّة و التحفة أمر ضروريّ، و انّ حكم « لا يرّد الإحسان الاّ الحمار» حكمٌ عامٌ مسجّل عموماً. امّا اذا استلزم المنّة أو الذلّة أو الجوانب غير الصحيحة، فانّ المسائل الاخلاقيّة ستمنع آنذاك من قبولها، لانّ النفس هذا القبول بالذلّة و المنّة سيسدّ الطريق علی السالك. التلميذ: يبدو أنّ المرحوم الآخوند الملاّت فتح علی سلطان آبادي لم يكن في مراحل و منازل توحيد ذات الحقّ المتعال بالرغم من جميع الرياضات و المكاشفات و المقامات التي تُنقل عنه. العلاّمة: الظاهر انّه كان في مسائل المجاهدات النفسانيّة، لا في مجال التوحيد، لانّه عاصر المرحوم الآخوند الملاّ حسين قلي الهمداني الذي كان فذّاً منقطع النظير في مجال توحيد الحقّ تبارك و تعالي، بيد أنّهما لم يمتلكا علاقات و مراودات بينهما، و كانت روابطهما فاترة الی حدٍّ ما. و انصافاً فقد كان المرحوم الآخوند الملاّت حسين قلي الهمداني ذا حقيقة عجيبة، و كان يقوم بتربية ما يقرب من ثلاثمائة نفر؛ أي من تلامذته و تلامذة تلامذته. و كان هناك آنذاك بين هؤلاء التلامذة جماعة من الكاملين تقريباً، كالمرحوم السيد أحمد الكربلائي، وا لمرحوم الحاج الشيخ محمّد البهاري، و السيّد محمد سعيد الحبوبي، والحاج الميرزا جواد اقاي التبريزي رضوان الله عليهم. قيل أنّ جماعة تواطئوا فيما بينهم و انتقدوا الاسلوب العرفاني و الالهي و التوحيدي للمرحوم الآخوند الملاّ حسين قلي، فكتبوا عريضة الی المرحوم آية الله الشربياني ـ و ذلك خلال فترة تصدّي المرحوم الشربياني لرئاسة المسلمين، حيث كان يعدّ الرئيس المطلق في عصره ـ ذكروا فيها انّ الآخوند الملاّ حسين قلي قد انتهج مسلك الصوفيّة. و هكذا انتهي الامر بجملة الشربياني هذه، و ذهبت دسائسهم أدراج الرياح. [10] في أحوال المرحوم السيد أحمد الكربلائي الطهراني رضوان الله عليهيقول أستاذنا المرحوم الحاج الميرزا علی أقاي القاضي: يقول أستاذنا المرحوم الحاج السيد أحمد الكربلائي رحمة الله عليه: كنتُ أُلازم محضر المرحوم آية الحقّ الآخوند الملاّ حسين قلي الهمداني رضوان الله عليه، و كان الآخوند متفرّغاً لي تماماً؛ و لكن ما إن صار للحاج الشيخ محمّد البهاري علاقة و رباطة مع الآخوند و تردّداً دائماً عليه حتّي سرق الآخوند منّي. و يقول المرحوم القاضي: يقول المرحوم السيّد أحمد الكربلائي: التقيتُ في احد الاسفار بدرويش مشرق القلب و الضمير، فقال لي: أنا مكلّف بإطلاعكم علی أمرين، الاوّل الكيمياء؛ و الثاني: أنّي أموت غداً فجهّزني و ادفنّي! فأجابه المرحوم السيد أحمد: امّا الكيميا فلا حاجة لي بها، و امّا تجهيزكم فأنا مستعدّ. ثمّ يموت الدرويش في اليوم التالي، فيتكفّل المرحوم السيّد بتجهيزه و تكفينه و دفنه. لقد أدرك المرحوم القاضي لسنوات طوال مصاحبة و ملازمة المرحوم ذي المقام المخلّد الحاج السيد مرتضي الكشميري، فكان يلازمه في الحلّ وا لترحال. و كان المرحوم الحاج السيد مرتضي من أوتاد زمانه و من الزهّاد المعروفين و من ذوي الحالات و المقامات و المكاشفات، و كان من أهل الادب و الاخلاق و جلالة القدر الی حدٍّ بعيد، لكنّ مجال عمله لم يكن نفس مجال المرحوم الآخوند الملاّ حسين قلي، أي مجال التوحيد و العرفان؛ لكنّه كان في منتهي الجلال و العظمة في حاله و موقعه النفساني. ينقل المرحوم القاضي: جئتُ يوماً من النجف الاشرف الی كربلاء المقدّسة لزيارة مرقد أبي عبدالله الحسين عليه السلام، و ذلك في محضر الحاج السيّد مرتضي الكشميري، فحللنا بادي الامر في حجرة في مدرسةا لسوق الواقع بين الحرمين؛ و كان علينا أن نرتقي سلّماً لنصل الی الغرفة الواقعد أفصاه. و كان المرحوم الحاج السيّد مرتضي يسير في المقدّمة و أنا خلفه، فلمّا ارتقينا السلّم و سقطت أبصارنا علی باب الغرفة وجدناه مقفلاً. فالتفت المرحوم الكشميري لي و قال: قيل انّ مَن يتلفّظ بإسم أمّ النبيّ موسي علی قفلٍ موصد فانّه ينفتح. و ليست أُمّي شأناً من أمّ النبيّ موسي. ثم أمسك بالقفل بيده و قا: يا فاطمة! ثمّ وضع القفل المفتوح أمامنا فدخلنا الغرفة. التلميذ: لقد نقلتم لي قصّة؛ و قد أوردتُها في رسالة «لبّ الالباب در سير و سلوك اولي الالباب» تتضمنّ انّ شاباً من أهل الفسق و الفجور قد اهتدي و صار له مكاشفات ببركة إرشاد سيّد أخبره بأحواله الباطنية، و جاء فيها انّ سيّد الشهداء عليه السلام رحّب بذلك الشاب عند سفره الی كربلاء المقدئسة. ثمّ انّي عدتُ بعد ذلك من النجف الاشرف الی طهران، فتعرّف عليّ! ذلك الشاب، و هو مهندس في البناء و الطرق، و ذكر حالاته مفّصلاً، و دار الحديث بيننا في عدّة مجالس، فذكر لي تفاصيل سفره الی العتبات المقدّسة و إدراكه محضر المرحوم آية الله السيّد جمال الدين الگبايگاني تغمّده الله برحمته؛ و هو حالياً من أصدقائنا، و هو بحمدالله رجلٌ لائق مؤدّب. يقول: كان ذلك السيّد الذي قصدني ثم ذهبت اليه فأعانني هو المرحوم ذو مقام الرضوان آية الله الحاج السيّد محمود الزنجاني إمام جمعة زنجان. ثم ينقل أموراً عن أحوال ذلك المرحوم و أخلاقه. فهل كانت لكم عرفة مع المرحوم إمام جمعة زنجان؟ و هل تمتدّ معرفتكم له الی أيّام النجف الاشرف؟ العلاّمة: لقد كان المرحوم إمام جمعة زنجان رضوان الله عليه رجلاً جليل القدر عظيم الشأن ذا آداب و خُلق و سيرة جميلة، و قد أدركتُ محضره كراراً و مراراً، لكنّ معرفتي به لم تمتدّ الی النجف الاشرف، فقد التقيت به أوّل مرّة في قم، و كان قد تشرّف بالمجيء هناك لزيارة السيّدة المعصومة سلام الله عليها و للالتقاء بولده الحاج اقا عزّالدين. و يبدو أنّه كان راغباً في لقائي هو الآخر، و كنت ـ بدوري ـ مشتاقاً لزيارته للمحاسن التي سمعتها عنه غياباً، فاتّفق يوماً أن ذهبتُ الی الحمّام، فالتقينا في منزع الحمام لينما كنت منهمكاً بتجفيف بدني بالمتشفة، فعرفنا بعضنا دونما سابق عهد، ثم كانت لنا بعد ذلك لقائات حميمة و جيّدة في مجالس متعدّدة. و لقد كان رجلاً جليل القدر كريم النفس متعبّداً من أهل المراقبة، و قد نال جمعٌ من ذوي الفهم و الفضل و السلوك في بلدد زنجان كمالاتٍ بيُمن و بركة تربيته، رحمة الله عليه. [11] التلميذ: كانت تُشاهد لدي رسول الله صلّي الله عليه وآله و سلّم حالات تدعو الإنسان حقّاً الی الحيرة و تدعه مبهوتاً. فنحن نعلم ـ من جهة ـ بمدي علم النبيّ الباطني و اطّلاعه علی الخفايا و الضمائر و الدسائس التي كانت تُحاك ضدّه، و علی الوقائع في الداخل و الخارج (أي داخل بيت النبيّ و خارجه)، و بعلم النبيّ و خارجه)، و بعلم النبيّ و اطّلاعه علی الاحداث التي ستحصل بعد رحيله، و المصائب التي سترد علی بَضعته فاطمد الزهراء سلام الله عليها، و علی وقائع حرب الجمل و صفّين و النهروان، بحيث انّه يقول لنسائه يوماً: اللَهُمَّ طَوِّلْ عُمْرَهُ وَ أَيِّدُهُ وَ سَدِّدْهُ.لَيْتَ شِعْرِي أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الجَمَلِ الادْبَبِ تَنْبَحُهَا كِلاَبُ الحَوْأَبِ. و بحيث أخبر عن المتخلّفين عن جيش أُسامة، و عن المظالم التي تلحق بأميرالمؤمنين عليه السلام، حتّي انّه عندما أشرف علی الرحيل، طلب قرطاساً و قلماً ليكتب للامّة شيئاً لن يضلّوا بعده أبداً، فامتنعوا عن الإيتان بهما، و عزوا كلام رسول الله الی الهجر والهذيان و الاضطراب. و نري ـ من جهة أخري ـ مدي مسايرة رسول الله لهم، و تحلية في سلوكه معهم بالهدوء، و عدم تغييره نهجه و أخلاقه، و اجتنابه الخشونة و الحدّة، بل كانت أرجاء وجوده بأجمعها صبرا و ثباتاً و استقامة و تحمّلاً. فهل كان هذا النظر من رسول الله اثر التوحيد الافعالي، بحيث كان يعدئ جميع هذه الوقائع من الحقّ المتعال، لذا فقد كان يصبر و يتحمّل؛ كالذي نقلتموه عن المرحوم القاضي في قضيّة الذِکُرت و الشمرت أو في قضيّة انهيار سقف المدفأة في الغرفة المجاورة؟ في امتلاك رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم مقام البقاء بعد الفناءالعلاّمة: كلاّ، فلقد كانت حالات رسول الله أعلي و أفضل من حالات المرحوم القاضي؛ لانّ رسول الله قد نال مقام البقاء بعد الفناء، مع حفظ جميع آثار عالم الكثرة و خصائصه في مواضعها في ذلك المقام، و كالإحساس بالآلام و الامراض و الاوجاع والغصص الروحيّة، و لذا فقد كانت جميع جهات عالم الكثرة مشهودة للنبيّ بجميع خصائصها. و من ثمّ فقد تدفّق الدمع من أعينه عند ارتحال ولده ابراهيم، و كان يعدّ ذلك من آثار رحمة الله، و لانّه كان في الوقت نفسه أمراً من جانب الله، لذا لم يقل غير الحقّ، و كان راضياً برضا الله، مسلّماً لامره. فيقول في تلك الحال: العَيْنُ تَدْمَعُ وَالقَلْبُ يَحْزَنُ وَ لاَ نَقُولُ إِلاَّ حَقّاً وَ إِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. و تبعاً لذلك فانّه يتألّم أكثر عند اطلاّ علی هذه الوقائع، و يدرك إدركاً أفضل و أعمق آثار هذه الجهات و خصائصها؛ لكنّه باعتبار: وَ إِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ، [12] فقد كان يصبر و يتحمّل، دون أن تطفح كأس صبره و استقامته أبداً. و في رأيي انّ كلمة الرسول الاكرم صلّي الله عليه و آله وسلم: مَا أُوذِيّ نَبِيُّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ قَطُّ، كانت في شأن المنافقين في الداخل، لافي شأن الكفّار و المشركين في الخارج. فلقد كان رسول الله يتجرّع الالم و الاذي من المنافقين داخل بيته و خارجه ـ من الذين أسلموا ظاهراً لكنّجوانحهم لم تنطوِ علی حبّ الإسلام و المودّة لرسول الله ـ ممّا يعسر علی الوصف. و لو أغضينا عن أمر المنافقين، فانّ محسن الرسول الاكرم لم تكن تفوق بشكل ملحوظ محن و مصائب الانبيائ السلف، فقد كانت مصائب اولئك أشدّ و أقسي ـ بحسب الظاهر ـ من مصائب الرسول الاكرم. فقد حصل لبعضهم أن أُلقي في القدر و طُبخ، بينما لم يحصل أبداً مثل هذا الاذي لرسول الله، لكنّه مع ذلك يقول: مَا أُو ذِيَ نَبِيُّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ قَطُّ. و ما هو راجع علی الظاهر الی أمر المنافقين ذلك، فقد كان أذي المنافقين لرسول الله. في هذا المجال أمراً يفوق إدراكنا و وصفنا. التلميذ: هل حصل انكشاف التوحيد للائمّة الاطهار عليهم السلام منذ زمن طفولتهم، ام انّه حصل بالمجاهدات و السير التكاملي و التقدّم، و بالوصول أخيراً الی فعليّة القابليّات؟ فبالنسبة للإمام محمّد التقي جواد الائمّة عليه السلالا، فانّه تصدّي لمنصب الإمام في سنّ الطفولة. العلاّمة: يمكن تسمية ذلك بـ «الإرهاص»؛ فإلارهاص حالة من خرق العادة قبل أوانها و وقتها و قبل البلوغ. فقد ورد في أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه لمّا ولدته أمّه فاطمة و خرجت به من بيت الله الحرام، تقدّم رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم و تناول الطفل، فشرع أميرالمؤمنين سلام الله عليه يتلو لرسول الله سورة «المؤمنون» من أوّلها الی آخرها، بينما كان طفلاً لا يتجاوز عمره عدّة ساعات، و هذا المعني يدعي بالإرهاص (بهاء هوّز و الصاد). [13] هذا هو الإرهاص، أمّا باقي أنواع خرق العادات فيُدعي بالكرامات أو المعجزات؛ أمّا لو سبقت أوانها فإنّها تدعي إرهاصاً، و يمكن دعوة هذه المعاني بالنسبة لائمّة الهدي بالإرهاصات، كمثل فاطمد الزهارء سلام الله عليها التي كانت تتكلّم في بطن أمّها، فهذا ليس بمعجزة، بل هو إرهاص، و هكذا الامر بالنسبة الی جواد الائمّة. التلميذ: هل كان أئمّة الهدي سلام الله عليهم أجمعين يلعبون في طفولتهم كسائر الاطفال؟ و هل كانوا يلعبون نفس الالعاب؟ و هل ورد أمر لعبهم في السير و التواريخ الصحيحة و الروايات الصحيحة؟ العلاّمة: لا إشكال هناك في أمر لعبهم. و قد نقل في شأن جواد الائمّة سلام الله عليه قضيّتان. الاولي: انّه كان يلعب مع الصبيان في الزقاق حين مرّ المأمون فسأله عدّة أسئلة فأجاب الإمام عليها. [14] الثانية: من الصوفيّة، حيث ينقلون انّه كان مشغولاً باللعب مع بايزيد لعبة خاصّة، فكان أحدهما يستخفي، و علی الآخر أن يفتّش عنه و يعثر عليه (لُعبة الإستخفاء)؛ فتقرّر أن يستخفي الامام الجواد و أن يعثر بايزيد عليه، فاختفي الجواد، وفتّش عنه بايزيد في كلّ مكان دون أن يعثر عليه (حيث نُقلوا شيئاً كهذا بعنوان كرامة للجواد) و آنذاك بدا أنّ الجواد ينادي بايزيد من أعماق قلبه: أنا هنا، فأين تبحث؟ و لستُ أذكر جيداً أين قرأت هذه القضيّة، فأنا مردّد بين كتاب «طرائق الحقائق» و كتاب «نفحات الانس» بجامي. هكذا نقلوا؛ و بالطبع فانّ من المعقول أن يعجز بايزيد عن العثور علی الإمام الجواد. و هناك شخصان معروفان بإسم «جامي»، أحدهما عبدالرحمن و الآخر أحمد؛ و كتاب «النفخات» لعبد الرحمن، و هو أكثر نضجاً من أحمد، و له أشعار جيّدة و بيانات حسنة، و له بعض الكتب الجيّدة ككتاب «اللوائح» و كتاب «اللمعات»، و قد طالعتُ الكتاب الاخير، الاّ انّي لم أرَ كتاب «اللوائح». في قيام الإمام المهدي قائم آل محمّد عجّل الله تعالی فرجه الشريفالتلميذ: أيخطر في بالكم شيء عن المرحوم القاضي رحمة الله عليه في أمر قائم آل محمّد الحجّة بن الحسن العسكري أرواحنا فداه و كيفيّة ظهوره؟ العلاّمة: ورد في الرواية أنّ الإمام القائم يظهر فيبدأ دعوته من مكّة، فيُسند ظهره الی الكعبة بين الركن و المقام و يعلن دعوته، فيجتمع اليه خواصه و هم ثلاثمائة و ستّون نفراً. و كان المرحوم أستاذنا القاضي رحمة الله عليه يقول: ثمّ انّ الإمام يخبرهم بشيء فيتفرّقون و ينتشرون في أقطار العالم. و باعتبار امتلاكهم طيّ الارض فانّهم يتفحصّون جميع العالم فيُدركون أنّ ليس من أحد ـ غير الإمام ـ يمتلك مقام الولاية المطلقة الالهيّة، و صاحب للامر و مأمور باظهور و القيام، و بيده جميع خزائن الاسرار الالهيّة. ثمّ انّهم يرجعون آنذاك بأجمعهم الی مكّة، فيسلّمون له الامر و يُبايعونه. يقول المرحوم القاضي عليه: و أنا أعلم ماهي تلك الكلمة التي يقولها الإمام لهم فيتفرّقون عنه. و قد رأيتُ في الرواية انّ الإمام الصادق عليه السلام قال بأنّه يعلم ما هي تلك الكلمة. يقول المرحوم القاضي: و من المسلّم أنّ بعض أفراد عصرنا قد أدركوا المحضر المبارك للإمام و تشرّفوا بالمثول بين يديه. و كان أحد هؤلاء مشغولاً بالدعاء و الذكر في مسجد السهلة في مقام الإمام، المعروف بمقام صاحب الزمان، حين شاهده فجأة و هو يقترب منه وسط هالة من النور الساطع، و كانت أبّهة و عظمة ذلك النور تغمره بحيث شارقت روحه أن تفارق بدنه، و انبهرت أنفاسه فكانت معدودة، و كان علی وشك أن يلفظ أنفاسهُ الاخيرة حين أقسم علی الإمام بأسماء الله الجلاليّة أن لا يقترب منه أكثر. ثمّ حصل بعد ذلك باسبوعين انّ هذا الشخص كان مشغولاً بالذكر في مسجد الكوفة حين ظهر له الإمام فحصل علی مرادة و تشرّف بلقائه. و يقول المرحوم القاضي: و كان هذا الشخص هو الشيخ محمّد تفي الآملي. [15]
بسم الله الرحمن الرحيم قصّة الدرويش بيدار علی والضيف الوارد عليهالعلاّمة: حصلت قصّة عجيبة في تبريز أيّام طفولتي، فقد كان هناك درويش في تبريز يُدعي «بيدار علي»، و كان يسير و البلطة (التبرزين) في يده دوماً، و كان رجلاً نحيف القامة حنطيّ اللون له طلعة و سيمة. و كان قد تزوّج فُولد له ولد سمّاه هو الآخر «بيدار علي». و كان من دأب هذا الدرويش الحضور في المجالس و محافل الخطابة و التعزيد، فيقف عند الباب في مواجهة الناس، و يرفع بلطته و يقول: لا تغفل عن عليّ! و قد شاهدته في المجالس كراراً. و حصل في ليلة من الليالي، بعد أن تصرّم من الليل ساعات، أن جاء الی منزل بيدار علی أحد أصدقائه لزيارته، و لم يكن بيدار علی في المنزل حينذاك، فقامت زوجة بيدار علی بتضييفه. ثمّ حل وقت النوم دون أن يأتي بيدار علی، فتقرّر أن يبات الضيف تلك الليلة في المنزل لحين عودة بيدار علی. و كان ابن بيدار علی الصغير (واسمه أيضاً بيدار علی كما مرّ) نائماً في فراشه في زاوية الغرفة التي يجلس فيها الضيف، لذا أبقت المرأة الطفل في موضعه و لم تصطحبه الی غرفة أخري. و هكذا رقد الضيف في فراشه، و ذهبت المرأة الی غرفة أخري فرقدن فيها بعد أن أقفلت باب غرفة الضيف؛ و صادف تلك الليلة أنّ بيدار علی لم يعد الی المنزل. استيقظ الضيف من نومه منتصف الليل، فرأي أنّه بحاجة ماسّة الی التبوّل، فنهض من فراشه ليخرج فيُريق إدراره، فشاهد باب الغرفة مقفلاً، ثمّ طرق الباب من الداخل دونما جدوي، و نادي برفيع صوته عبثاً، و كان ـ من جهة ـ يري نفسه محصوراً بشدّة، فأحسّ بالعجز. ثمّ قال في نفسه: لانيم هذا الطفل مكاني و أنام مكانه و اتبوّل هناك، حتي اذا انبلج الصبح قيل: هذا إدرار الطفل. و هكذا جاء فرفع الطفل و وضعه في مكانه، لكنّه ما إن وضع الطفل حتّي وجده قد تغوّط فلوّث فراشه بأكمله. ثمّ انّه تمدّد في فراش الطفل الی الصباح دون أن يغمض له جفن من الخجل، يفكّر: لوحلّ الصباح فشاهدوا فراشي فماذا سيقولون؟ و أيّ كرامة ستبقي لي؟ و كيف سأشرح عملي الخاطي المنطوي علی الخيانة، و الذي الجزّ خطأ أكبر؟ ثمّ حلّ الصباح فجاءت المرأة و فتحت باب الغرفة ليخرج الضيف لقضاء الحاجة و الوضوء فخرج الضيف و غادر البيت فوراً منكّس الرأس دونما توديع. و كان مواظباً باستمرار في مدينة تبريز و محترساً من لقاء بيدار علی و مواجهته، فكان كلّما شاهده في الزقاق أو السوق، زحف الی زاويةٍ ما أو اختبأ في زقاق أو دكّان لئلاّ يراه الدرويش بيدار علی. و صادف يوماً أن واجه بيدار علی في السوق، و ما إن حاول الاختفاء حتّي ناداه بيدار علی: گدا، گدا، تعالي فلديّ كلام معك (تطلق كلمة «گدا» في اصطلاح الاتراك الاذربايجانيّين علی الشّحاذين و من هم في مقام الذلّة و الوضاعة) حين تغوّطتَ في فراشك تلك الليلة، فلِمَ تغوّطت كالاطفال؟ فخجل الضيف و قال: أقسم بالله أنّي لم أتغوّط. ثم شرح قصّة خيانته بالتفصيل. التلميذ: هذه الحكاية تعليميّة، و ربما ترمي الی إفهام انّ من يريد إلقاء ذنبه علی عاتق شخص آخر، فانّ الله سيبتليه بفضيحةٍ أكبر. و كما انّ شأن الإنسان و كرامته عزيزان عليه، فانّ كرامة الآخرين محترمة و عزيزة هي الاخري. و ينبغي الاّ يجعل امروٌ ما كرامةَ إنسان آخر فداء كرامته هو، فانّ التملّص من الذنب و إلقاءه علی عاتق آخر عملٌ مذموم و خطأ في عالم التكوين و الواقع و متن الحقيقة، حتي لو كان الطرف الآخر طفلاً صغيراً. عالم التكوين يقظ، والله تعالي يقظ علی الدوامو علی الإنسان أن يلتفت دوماً الی أنّ نظام التكوين يقظ، و انّ عمل الإنسان الخاطي لن يمرّ دونما ردّ، إنَّ اللَهَ لَبِالمِرْصَادِ.
و لقد كان عمل هذا الضيف كذباً فعليّاً، و هو أمر خاطي شأنه شأن الكذب القوليّ.
بسم الله الرّحمن الرَّحيم في سهولة فهم القرآن؛ و المعاني الغامضة و مشكلة بواطن القرآنالتلميذ: لقد ورد في شأن القرآن الكريم: وَ لَقدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ. [16] فما العلّة في الغموض و التعقيد الشديدين في بعض آيات القرآن، بحيث يعسر ادراك حقيقة معناها و المراد الحقيقيّ منها؟ فمثلاً يستعصي الوصول الی حقيقة معني الآية الشريفة: يُدَبِّرُ الاْمْرَ مِنَ السَّمَآءِ الی الاْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ و أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. [17] و ما هي ـ يا تري ـ كيفيّة ارتباط عالم الامر بعالم الخلق التي بيّنت بالنزول و الصعود في ألف سنة من السنين العاديّة المعهودة؟ اللهمّ الاّ أن ينظر اليها الناس كعبارة بسيطة، و يكتفوا بمعنيٍ ساذج حرفيّ لها، أي بمعني بسيط يمكن إدراكه لجميع الناس. و قد وردت في القرآن الكريم ألفاظ يَحتاج معناها الی تفسير؛ إذ ما الذي يفهمه الناس منها دونما تفسير؟ مثل آيات: وَ النَّـ'زِعَـ'تِ غَرْقًا وَالنَّـ'شِطَـ'تِ نَشْطًا وَالسَّـ'بِحَـ'تِ سَبْحًا فَالسَّبِـ'قِـ'تِ سَبْقًا فَالْمُدَّبِّرَاتِ أَمْرًا. [18] أفهذه الآيات بالمستوي الذي يدرك معه جميع الناس معناها، أم انّ عليهم الاستفسار و مراجعة التفسير لمعرفة انّ المراد بها ملائكة خاصّين؟ و قد ورد في الرواية أنّ المراد بالفلق في « قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ِ الْفَلَقِ» [19] الصبح الذي ينبلج، أو الوجود الذي يخرج من كتم العدم. فأنّي يمكن معرفة هذ المعني دونما رجوع الی تفسير الفَلَق؟ و لدينا في الرواية مثلاً: الوَيْلُ (الوارد في سورة المطفّفين) جُبُّ فِي جَهَنَّمَ [20]. فهل ذلك من باب التسمية؟ أي هل لامكنة القيامة ـ مثلاً ـ أسماء كما هي الحال في أمكنة الدينا، أم انّ هذا من باب التمثيل؟ العلاّمة: الظاهر انّ جميع القرآن الكريم قد أوحي و أُلقي بصورة بسيطة جدّاً بلحاظ المعني المتبادر الی الذهن، و في مستوي فهم الجميع و إدراكهم؛ امّا المراحل الاخري التي تعقب هذه المرحلة، فيصعب فهمها و يتعسّر تدريجاً، و تلك هي المعاني الباطنيّة للقرآن. فالقرآن بأجمعه سهل و يسير و قابل للفهم بلحاظ الظاهر؛ أمّا بلحاظ الباطن فانّ المعاني تصبح أكثر إبهاماً و غموضاً بحسب اختلاف درجات بطون القرآن، فكلّما تناولنا معاني أعمق، كان ذلك أعسر و أبعد عن أفهام العامّة. إِنَّ لِلْقُرآنِ بَطْنًا وَ لِبَطْنِهِ بَطْناً الی سَبْعَةِ أَبْطُنٍ، أَوْ الی سَبْعِينَ بَطْناً.[21] و هذه البطون في الحقيقة هي مراحل من معني القرآن، بحيث انّ كلاّ من هذه المراحل لهاحقيقة في بابها ليست موجودة في المرحلة الاخري. والمراحل القرآنية المختلفة علی هذه الكيفيّة، و ليس للقرآن مرحلة واحدة امّا أن تكون عسيرة لا ينالها أحد، أو تكون يسيرة سهلة ساذجة. أمّا في سورة النازعات، فانّ الضمائر الواردة فيها حين تُضمّ الی الآيات الاخري، فانّها ستُشير الی انّ المراد بها الملائكة؛ إذ يُستفاد من « المُدَبِّراتِ أَمْرًا » انّ الملائكة هم المقصودن، فالله المتعال لا يفوّض تدبير الامور الی كلّ من هبّ و دبّ؛ بل ان الملائكة هم الذين يجب ان ينجزوا هذه الامور و يخضعونها لرعايتهم و رقابتهم و محافظتهم. كما انّ الله المتعال عبرّ بهذا النحو أيضاً في سورة «المراسلات» و سورة «الصافّات» في عدّة مواضع من القرآن الكريم، حيث كُلّفت الملائكة في هذه البيانات بالقيام بإنجاز المهام الموكلة اليها بالطرق المختلفة. امّا الفلق الوارد في الآية المباركة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، فهو معني انبلاج الصبح و انفلاقه؛ لانّ هذا المعني الابتدائي يخطر في الذهن من كلمة «الفلق»، ثم يأتي بعده المعني الاوسع، و هو انفلاق كلّ وجود من العدم عموماً. و من ثمّ فإذا احتاج معني الفلق لتفسير في المرحلة الاولي، فانّه سيكون تفسيراً ببيان أبسط يجعل معني الآية أكثر وضوحاً، لا تفسيراً يرفع الغموض عن المشكلة و يقدّم حقيقةً ما. امّا الويل فحقيقة معناه ـ كما ورد ـ الشقاء و التعاسة و المحنة و الهلاك؛ امّا بعمني الجبّ فهو من باب التمثيل، أي إشارة الی معني اللفظ بحسب السياق بحيث يكون هذا المعني تمثيلاً في الحقيقة، لا تفسيراً و لا تمثيلاً كذائيّاً. في حقيقة خلقة الملائكة و الروح و روح القدسالتلميذ: ما المراد من الروح في القرآن الكريم: تَنَزَّلُ الْمَلَـ'ئِكَةُ وَ الرُّوُحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِّن كُلِّ أَمْرٍ؟ [22] و ما المراد من روح القدس و الروح الامين؟ و هل تمتلك الروح صلة مع روح الإنسان و أرواح البشر أم لا؟ و ما الموازنة بين الملائكة و الروح؟ العلاّمة: المراد بروح القدس و الروح الامين جبرئيل عليه السلام: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ. [23] نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ علی قَلِبْكَ. [24] أمّا الروح فيظهر انّه خلق أوسع بكثير من جبرئيل و غير جبرئيل؛ و خلقٌ من مخلوقات الله أفضل من جبرئيل و ميكائيل. و قد ورد في سورة النبأ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلُمُونَ إِلاَّ مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَابًا. [25] لانّ جبرئيل من الملائكة قطعاً، أمّا الروح فقد جعل في هذه الآية في مقابل الملائكة لذا فهو غير جبرئيل و الملائكة. الروح مرحلة من مراحل الوجودات الرفيعة، و خلق أشرف من الملائكة و أفضل، فالملائكة يستعينون به فيما يقومون به من أمور. و قد وردت آيتان في القرآن الكريم فيهما دلالة علی انّ الله تعالي يُرسل الروح الی رسله و أنبيائه الذين يدعون الناس الی الحقّ، وانّ الملائكة ينزلون حين ينزلون برفقة الروح. 1 ـ يُنَزِّلُ الْمَلَـ'ئِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أَمْرِهِ علی مَن يَشَآءُ مِن عِبَادِهِ أَن أَنذِرُوا أَنَّهُ و لآ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ. [26] 2 ـ يُلْقِي الرُّوحَ مِن أَمْرِهِ علی مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ. [27] و هكذا فانّ جبرئيل يستعين به حين ينزل في الامور التي ينجزها وا لتدبير الذي يقوم به في العالم؛ لكأنّه رفيق جبرئيل، أو كأنّه ـ بتعبيرنا ـ مُعين جبرئيل. والعجب في هذه الآية الثانية في قوله انّ الله يُلقي الروح علی بعض عباده اللائقين بالإنذار وا لتخذير من يوم القيامة (الذي يمثّل يوم التلاق)، حيث ورد التعبير بكلمة الإلقاء. و القصد انّ الروح يمثئل حقيقةً و موجوداً أشرف و.فضل، يصحب الملائكة في النزول حين يهبطون للقيام بأمور العالم، فيعينهم في تلك المهمّة، و هذه هي هويّة الروح. فجبرئيل ـ اذاً ـ لا ارتباط له بالروح، و ليس من أفراد الروح و نوعه، كما انّ الروح لا فرد له، بل هو نوع متفرّد؛ و في حين انّ جبرئيل من الملائكة، فانّ الروح يمثّل حقيقة تخالف حقيقة الملائكة. و علی كلّ حال فهم صنفان: الصنف الاول: الروح، و هو حقيقة معيّنة. و الصنف الثاني: الملائكة؛ و كيفيّتهم بحيث يستعينون بالروح و يتسمّدون منه المساعدة، و يصحبونه حين يتوجّهون الی أعمالهم، فيقوم بتأييدهم و إعانتهم: يُنَزِّلُ الْمَلَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أَمْرِهِ علی مَن يَشَآءُ مِن عِبَادِهِ. كما يمكن الإستفادة من اتيان القرآن بالروح بصيغة المفرد و بالملائكة بصيغة الجمع، انّ الروح يمتلك مقام الشمول و الإحاطة، و انّه أقرب الی الله تعالي من جبرئيل. و قد ورد في الرواية أنّه أعلي منه و أرفع. التلميذ: ما الصلة و العلاقة بين روح الإنسان و تلك الروح؟ و لِمَ تدعي روح الإنسان روحاً؟ أبواسطة الارتباط و الصلّة التي لها مع تلك الروح؟ ألا يمكننا عدّ تلك الروح بالنسبة لارواح البشر بمثابة الكلّي الطبيعي مع أفراده؟ و هل جري السؤال في هذه الآية الشريفة: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي[28] عن تلك الروح أم عن روح الإنسان؟ العلاّمة: انّ الروح ـ كما سبق ـ خلقٌ أعظم من الملائكة، و لا ارتباط له مع الإنسان و روح الإنسان؛ فاستعمال لفظ «الروح» في تلك الحقيقة و في النفوس الإنسانيّة من باب الإشتراك اللفظي لا الإشتراك المعنوي. و ربّما كان ذلك بلحاظ انّ النفس الناطقة الإنسانيّة تصل إثر سيرها التكاملي، و اثر مجاهداتها و عباداتها الی مقام تصبح معه في مصافّ تلك الروح و جوارها. هذا و قد جري السؤال في هذه الآية الشريفة عن مطلق الروح، لا عن النفس الناطقة الإنسانيّة. و حين يُجاب بأن: الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي، فانه يُستفاد منها انّها من عالم الامر، و ليست ـ كمثل الإنسان ـ من عالم الخلق. و لم يرد في أسئلة اولئكم أيّ كلام عن روح الإنسان؛ و يظهر أنّهم كانوا يسألون عن تلك الروح التي ورد ذكرها في القرآن. و العجيب في الامر قوله في ذيل الآية: وَ مَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً؛ أي انّ خلقة الروح و إدراك حقيقتها خارجان عن مستوي العلوم البشريّة، فلا يمكن نيلهما بيُسر. ارجاعات [1] ـ الآيات 11 إلی 16، من السورة 80: عبس. [2] ـ صدر الآية 42، من السورة 39: الزمر. [3] ـ صدر الآية 11، من السورة 32: السجدة. [4] ـ ذيل الآية 61، من السورة 6: الانعام. [5] ـ المقصود بـ «شديد القوي» جبرئيل الامين. [6] ـ الآيات 3 إلی 5، من السورة 53: النجم. [7] ـ الآية 1، من السورة 112: الاءخلاص. [8] ـ الآيات 21 إلی 23، من السورة 59: الحشر. [9] ـ أورد الطبرسي هذه الرواية في تفسير «مجمع البيان» في تفسير سورة الاءخلاص، قال: وحدّثني! (أي قال أبو جعفر عليه السلام) و حدّثني أبي عن أبيه عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: رَأَيْتُ الخِضْرَ فِي المَنَامِ قَبْلَ بَدْرٍ بِلَيْلَةٍ فَقُلْتُ لَهُ: عَلِمْنِي شَيْئاً أنْتَصِرُ بِهِ علی اًلاْعْدَاءِ! فَقَالَ: قُلْ: يَا هُوَ يَا مَنْ لاَ هُوَ إِلاَّ هُوَ! فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَصَصْتُ علی رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا عَلِيُّ! عُلِمْتَ الاءسْمَ الاَعْظَمَ. فَكَانَ علی لِسَانِي يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ: وَ قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَوْمَ بَدْرٍ: قُلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٍ؛ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: يَا هُوَ يَا مَنْ لاَ هُوَ إِلاَّ هُوَ اغْفِرْلِي وَانْصُرْنِي علی الْقَوْمِ الكَافِرِينَ. وَ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ يَوْمَ صِفِّينَ وَ هُوَ يُطَارِدُ. فَقَالَ لَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِر: يَا أَمِيرَالمُؤْمِنِينَ مَا هَذِهِ الْكِنَايَاتُ؟! قَالَ: إسْمُ اللَهِ الاَعْظَمُ وَ عِمَادُ التَّوحِيدِ لِلَهِ؛ لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ. ثُمَّ قَرَأَ: شَهِدَ اللَهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَـ'ئِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـ'هَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. و يروي الصدوق في «التوحيدش باب تفسير «قل هو الله أحد» ص 89 بسنده المتّصل.صل هذه الرواية عن أبي البختري وَهَب بن وَهَب، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن الامام الباقر عليه السلام. حيث يستشهد الامام الباقر بهذه الرواية ضمن التفسير. فيرويها عن أبيه، عن أبيه سيّد الشهداء عليه السلام، عن أميرالمؤمنين عليه السلام. [10] ـ أورد المرحوم العلاّمة آية الله الحاج الشيخ آقا بزرگ الطهراني ترجمة المرحوم الآخوند الملاّ حسين قلي الهمداني في المجلّد الثاني من «نقباء البشر من أعلاما لشيعة» ص 674 ـ 678، و يقول عنه: و هو في خصوص هذا العلم (يعني علم الاخلاق) أمر3 عظيم لا يحدّه وصف، فقد مضت حقبة طويلة لم يجد خلالها الزمن بمن ماثله في علم الاخلاق و تهذيب النفوس. و قد خُتم به هذا الفنّ فلم يبنغ بعده مَن يكون له ما كان للمترجَم له بحيث يُعدّ نظيراً له... إلی آخر كلامه. [11] ـ و قد آلت إمامة جمعة زنجان و زعامة حوزتها العلميّة بعد ذلك المرحوم رحمة الله عليه إلی نجله الرفيق الشفيق و الصديق الكريم سماحة آية الله الحاج السّد عزّ الدين الزنجاني دامت بركاته، المقيم حالياً في مدينة مشهد المقدّسة علی ثاويها آلاف التحيّة و الثناء، و هو من مبرّزي تلامذة العلامة الطباطبائي رحمة الله عليه القدماء الذين حضروا عنده دروساً في «الاسفار» و «الشفاء» سنين طويلة. و تمتدّ معرفة هذا الحقير به و علاقتي معه إلی أيّام دراستي في بلدة قم الطيّبة. و هو رجل جامع بين العلم و العمل، و بين المعقول والمنقول، فهو مفسٍّّر للقرآن الكريم، و متبحّر في الابحاث العلمية و الفلسفيّة، و متعبّد بالعبوديّة الإلهيّة، و متخلّق بالاخلاق الحسنة. و حقّاً فانّه يمكن أن قذعدّ أحد النماذج البارزة لمفاخر الإسلام، حيث يفيد من بركات محضره جمع من الطلاّب. أداما لله نعمة وجوده لعالم العلم و الفضيلة. [12] ـ الآية 4، من السورة 68: القلم. [13] ـ ينقل ابن شهرآشوب قصّة قراءة أميرالمؤمنين لسورة «المؤمنون» في «المناقب» ج 1، ص 359، الطبعة الحجرية، كما ينقلها المجلسی في «بحار الانوار» الطبعة الكمباني ج 9، ص 5عن المناقب و عن «أمالي الشيخ الطوسي». (و في الطبعة الحروفية للبحار، ج 35، ص 35). [14] ـ أورد الشيخ البهائي هذه القصة مفصّلاً في «مفتاح الفلاح» ص 171، طبعد سنة 1322، ضمن بيان بعض أدعية الإمام الجواد و يقول: رواها الخاصّة وا لعامّة. كما أوردها الحرّ العاملي في «إثبات الهداة» ج 6، ص 202 عن «مفتاح الفلاح» و يقول: و أورده أيضاً محمد بن طلحة الشافعي في كتاب «مطالب السئول». [15] ـ كان المرحوم الشيخ محمد تقي الآملي من علماء طهران البارزين من الطراز الاوّل، سواءً بلحاظ الفقاهة أو بلحاظ الاخلاق والمعارف. وكان يدرّس الفقه و الفلسفة، و يدرّس «المنظومة» السبزوارية» و «الاسفار». و له حاشية علی «مصباح الهدي في شرح العروة الوثقي) و حاشية و شرح للمنظومة السبزوارية. و كان له والد الحقير سوابق علميّة و سوابق المعرفة منذ زمن الدراسة. و قد أدرك الحقير محضره كراراً، فكان رجلاً خليقاً مؤدّباً سليم النفس بعيداً عن الهوي، و لم يتصدّ للفتوي أو يطبع رسالة حتّي آخر عمره، و قد استفاد ذلك المرحوم أيّام شبابه و دراسته في النجف الاشرف من محضر درس الاستاذ القاضي رحمة الله عليه في الامور العرفانيّة، و امتلك كمالات عديدة. [16] ـ الآيات 17، 22، ص32 و 40، من السورة 54: القمر. [17] ـ الآية 5، من السورة 32: السجدة. [18] ـ الآيات 1 إلی 5، من السورة 79: النازعات. [19] ـ الآية الاولي، من السورة 113: الفلق. [20] ـ أورد المرحوم الفيض الكاشاني هذه الروايات في المقدّمة الرابعة من مقدّماته الاثني عشرة في كتاب «تفسير الصافي» و بحث في شأنها بحثاً وافياً. [21] ـ أورد المرحوم الفيض الكاشاني هذه الروايات في المقدّمة الرابعد من مقدّماته الاثني عشرة في كتاب «تفسير الصافي» و بحث في شأنها بحثاً وافياً. [22] - الآیة 4، من السورة 97: القدر. [23] ـ صدر الآية 102، من السورة 16: النحل. [24] ـ الآية 193 و صدر الآية 194، من السورة 26: الشعراء. [25] ـ الآية 38، من السورة 78: النبأ. [26] ـ الآية 2، من السورة 16: النحل. [27] ـ ذيل الآية 15، من السورة 40: غافر.
|
|
|