|
|
الصفحة السابقةالفرق بین حقیقة العلم و الأخلاقالتنبيه الخامس: ذكر صاحب مقالة « بسط وقبض » ـفي كتاب مستقلّ آخر له باسم «دانش و أرزش پژوهشي در ارتباط علم و أخلاق» ـ في كلامه عن الفرق بين العلم والاخلاق، بأنّ العلم عبارة عن القضايا الخارجيّة التي يصـحّ إطلاق الصـدق والكذب عليها، والاخلاق عبارة عن الاُمـور الاعتباريّة التي لا ارتباط لها بالخارج أبداً، وقال: مواضیع کتاب «دانش و أرزش»(- العلم و القیم)الاخلاق العلميّة أيضاً من أبناء هذه الرؤية الحديثة لمشركي عبدة العلم. حتّي يصل إلي القول: فحين نعلم أنّ إشعاعات الموادّ المشعّة تسبّب السرطان( علم)، ثمّ نعلم أنّ علينا الحذر منها( أخلاق). وحين نعلم أنّ سحق الغرائز وكبتها يحطّم الشخصيّة ويسبّب نشوء العُقد( علم)، ثمّ ندرك أنّ علينا أن لا نُميت الغرائز ونوجد العُقد( أخلاق). وحين نتعرّف علي البناء الكيميائيّ والآثار الصيدلانيّة والحيويّة لدواء معيّن( علم)، ثمّ يمكننا أن نقرّر استخدام ذلك الدواء أم عدم استخدامه. وحين نناقش ونحلّل بما لا يقبل الخطأ الهيكل الفاسد والظالم الغاصب لنظام اجتماعيّ معيّن( معرفة)، ثمّ نشعر بالمسؤوليّة تجاه إسقاط ذلك النظام( أخلاق). فهذه الامثلة ومئات أُخري من قبيلها تظهر بوضوح أنّ العلم هو الذي يلد الاخلاق، وأنّ الفكر هو الذي يخلق القيم، وأنّ المعرفة هي التي توجد الالتزام. [1] ... علينا في البداية التعرّف باختصار علي العلم والاخلاق، فالعلم يعني التوصيف والاخلاق تعني التكليف. العلم يعني معرفة الواقعيّات والاخلاق تعني معرفة القيم. في العلم يدور الكلام عن الطبيعة، وفي الاخلاق عن الفضيلة. في عهدة العلم أن يبحث كيف وجد و كيف لم يوجد، وفي عهدة الاخلاق أن تناقش ماذا يجب عمله، و ماذا يجب اجتنابه؛ فمجموعة المعارف التي تصف بنحو جزئيّ أو كلّيّ كيفيّة الوجودات تُدعي علماً. ... أمّا القوانين الاخلاقيّة فهي جميع القوانين التي تقوم بتقييم الاشياء والاُمور الخارجيّة، أو تتحدّث بنحو جزئيّ أو كلّيّ عن يجب و لايجب أو الداعية لاءقدام وتصرّف معيّن....[2] إنّ تقييم الاشياء وتعيين جيّدها من رديئها ليس في الحقيقة معزولاً عن يجب و لا يجب، وبمعني آخر هما شيء واحد. فالعمل الذي نقولإنّه يجبألاّ يُعمل،فإنّنا قد قلنا بتعبير آخر إنّ عمله سيّيء، وكذا الامر بالنسبة إلي المورد الجيّد الذي يجب عمله وعليه، فلايخلو أبداً أيّ قانون أخلاقيّ من نوع من التقييم والتقدير، علي العكس من القوانين العلميّة التي تتجنّب دوماً بوعي مسألة التقييم، وتكتفي ببيان كيفيّة وجود أو عدم وجود الظاهرة المعيّنة. [3] إنّ كشف وإبطال المغالطة الكامنة في الاستدلال والفكر الاخلاقيّ العلميّ يمثّل أحد الاءنجازات البشريّة العظيمة والقيّمة، وتكتسب هذه المسألة أهمّيّتها بلحاظ إمكان استخدامها كمعيار لتقييم وقياس متانة وأصالة الاءيديولوجيّات؛ فكلّما كانت إحدي المدارس والاتّجاهات العلميّة مصونة من وسوسة هذه المغالطة، كلّما كانت أكثر أصالة وإتقاناً وتكاملاً، وكلّما سقطت المدرسة أكثر في شباك هذه الشبهة فإنّها ستصبح بنفس النسبة عديمة الثبات، ضئيلة الاهمّيّة. [4] إنّ الاعتباريّات هي المفاهيم التي يفترضها ويتّخذها الشخص لاجل ضرورات العيش بمساعدة العواطف والرغبات الباطنيّة. والحقائق هي المفاهيم التي يكتشفها العقل بالنظر في الواقع الخارجيّ للاشياء وفي روابطها وعلائقها، فهذان النوعان من المفاهيم لايتولّد أحدهما من الآخر، وبعبارة أُخري: لا يمكن الوصول من الكشف إلي الفرض. فدوران القمر حول الارض هو من كشوف العقل، ومقولة إنّ قلب الاءنسان السليم ينبض 70 مرّة في الدقيقة ليست فرضاً وتعاقداً، وعلي هذا فهي لا تتغيّر بالاستحسان وعدم الاستحسان، وبالقبول أو عدمالقبول، وبوجود شخص ما أو عدم وجوده. فنحن إن شئنا أم أبينا، وقبلنا أم رفضـنا، ووُجدنا أم لمنوجد، فإنّ القمر كوكب يدور حول الارض. أمّا بشأن الفرضيّات والعقود فالامر مختلف، فحين ندعو الميكروب سيّئاً، فليس ذلك مستقلاّ بأيّ وجه عن رغباتنا واستحساننا ووجودنا. فأوّلاً: لو لم يكن هناك وجود لايّ إنسان لما اتّصفت الميكروبات بصفة السوء، فالبشر الذين يرغبون في البقاء هم الذين ينعتون الميكروبات التي تمنع بقاءهم بالسيّئة، وإلاّ فإنّ الميكروبات في حدّ ذاتها وبقطع النظر عن البشر هي ميكروبات فقط، لاجيّدة ولاسيّئة. وثانياً: أنّ هذه الميكروبات تصبح جيّدة بالنسبة لنا أحياناً، إذ في حال فتك الميكروبات الوبائيّة بأعدائنا فرضاً، فإنّها لن تكون سيّئة أبداً. [5] وبتعبير آخر: لا يمكن بأيّ وجه إثبات حسن شيء أو قبحه باستخدام سلسلة براهين منطقيّة، كما لا يمكن بهذا الدليل إثبات وجوب عمل شيء أو عدم وجوبه بأي برهان منطقيّ. وفي نهاية هذا القسم، فإنّ هيوم يذكر نكتة مهمّة نقلها عنه واقتبسها بعده فلاسفة آخرون وصارت ملهمة لكثير من التحقيقات المنطقيّة: ... ونري فجأة بكمال العجب بدل الاُسلوب المعهود من إضافة قضايا تشتمل علي «وجود» و«عدم»، فإنّ جميع القضايا تصبح فجأة ذات «يجب» و«لا يجب»، علي الرغم من عدم التفات أحد الي هذا التغيير. ... وسيمنحنا الفرصة لنري جيّداً أنّ الخير والشرّ والفضيلة والرذيلة لم تُبنَ علي أساس العلائق والروابط بين الاشياء، وليست مشمولة للاءدراكات العقليّة. [6] ولم تتكرّر فكرة هيوم المكثّفة هذه إلاّ في أوائل القرن العشرين علي لسان فيلسوف آخر. فقد نشر جي اي مور الحكيم الاءنجليزي سنة 1903 م كتابه ذائع الصيت باسم «مباني الاخلاق»، وقام في كتابه بتحليل دقيق ومفصّل لمفهوم «الحَسن» وعدّه مفهوماً بسيطاً لا يتجزّأ ولا يُعرّف. وقد استخدم في هذا الكتاب اصطلاح « مغالطة دعاة الطبيعة » لاوّل مرّة، وكان الغرض منه ـكما سيأتي فيما بعدـ نفس تلك المغالطة الكامنة في جميع أنواع الاخلاق العلميّة. [7] وكان كانْت، الفيلسوف الالمانيّ والمعارض الشهير لجميع أنواع الميتافيزيقيّة، قد دعي كتابه المشهور في نقد ما وراء الطبيعة « مقدّمة علي كلّ فلسفة ميتافيزيقيّة مستقبليّة تدّعي العلميّة ». وذكر مور أيضاً في مقدّمة كتابه أنّ هدفه الاصليّ من كتابه أن يكون مقدّمة « لايّ نوع من الاخلاق المستقبليّة تدّعي العلميّة ». [8] ويتكرّر هذا الخطأ اليوم من قِبل الكثيرين، ولقد سمع الكاتب كثيراً وشاهد بنفسه أنّ جمعاً من المفكّرين المشتغلين بالبحث في أمر فلسفة الاخلاق يظنّون أنّ المسألة الاساسيّة في فلسفة الاخلاق أن يجدوا بنحو من الانحاء شيئاً مطلوباً ومحبوباً بذاته ـلاباعتباره وسيلةـ وكأنّ جميع الصعوبات والمشـاكل ستنهار بالعـثور علي هذا المحبوب النهائيّ، وكأنّ جميع الالغاز ستنحلّ بإشراق جمال ذلك المحبوب، وسيتّضح مرّة واحدة ما هي الوظيفة والتكليف؟ وما العمل الذي ينبغي؟ وعن أيّ شيء ينبغي البحث؟ وما هو معيار الجيّد والسيّي؟ وما هو منشأ القيم والموازين؟ لكنّ هذا ليس إلاّ خطأً وخيالاً، فالعثور علي المطلوب النهائيّ شيء، وإرادة أنّ ذلك المطـلوب ينبـغي طلبه وابتغـاءه شيء آخر، فأحدهما توصيف والآخر تكليف، الاوّل هو وظيفة العلم(بالمعني الواسع)، والثاني وظيفة الاخلاق، وجعل هذين الاثنين واحداً يمثّل خطأ الاخلاق العلميّة الذي لا يُغتفر. وخلاصة الكلام أنّ مقولتَي « الناس يبحثون عن مطلوبهم » و« المطلوب ينبغي لزوماً أن يُطلب » متفاوتان بشكل كامل، فالاُولي توصيفيّة والثانية تكليفيّة. [9] وكان السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ الحكيم والمفسّر المعاصر في بلاد الشرق هو أوّل الحكماء الذين عملوا ـبإيحاء من أنفسهمـ علي طرح حلّ مسألة الاءدراكات الاعتباريّة وعلاقتها بالاءدراكات الحقيقيّة، ولقد خطا خطواته في هذا الوادي مفكّراً مستنتجاً دون أيّة إشارة إلي آراء حكماء الغرب أو الاستعانة بها في هذا المجال. ويمكن العثور علي بحثه التفصيليّ بهذا الشأن في المقالة السادسة من سلسلة مقالات فلسفيّة نُشرت بأجمعها تحت عنوان «أُصول فلسفة و روش رئاليسم». [10] وهذا النوع من الاءدراكات له اختلاف جوهريّ مع الاءدراكات الحقيقيّة، فهي أفكار تنطبق علي الواقع وحاكية عن صفات موجود واقعيّ وخارجيّ، فلا هي تُستحدث وفق رغباتنا ولا تتغيّر بتغيّرها». [11] ... وحين يكون الامر كذلك وتوجد هذه الهوّة الواسعة التي لايمكن ملؤها بين الافكار التصوّريّة والافكار الحقيقيّة، فإنّ علينا عندئذٍ أن لا ننتظر وجود ارتباط منطقيّ بين هذين النوعين من الاءدراك، أو الوصول من أحدهما إلي الآخر. أو حسب التوضيح الوارد في المقالة: ولانّ هذه الاءدراكات والمعاني هي وليدة عوامل الاءحساس، فليس لها علاقة توليديّة مع الاءدراكات والعلوم الحقيقيّة، وباصطلاح المنطق، فلايمكن بالبرهان إثبات تصديق شعريّ. وفي هذه الحالة، فلنتصدق بعض أقسام المعاني الحقيقيّة في مورد هذه المعاني الوهميّة، مثل: بديهيّ ونظريّ وضروريّ ومحال وممكن. [12] وبعبارةٍ أُخري: لا يمكن إثبات إدراك اعتباريّ من الاءدراكات الحقيقيّة، ولا العكس، ولا يمكن أيضاً الاعتماد علي التشبيه لاءثبات حكم حقيقيّ. وفي تصوّرنا فإنّ هذه النكتة عظيمة الاهمّيّة، فهي تزيح الستار عن مغالطات ضخـمة وواسـعة كثـيراً ما تسـتلفت النظـر في أغلـب الاسـتدلالات المـتـسـامحـة، وخاصّـة في البحـوث الاجتـمـاعيّـة والسياسيّة. [13] وبعد بحث التمثيلات والاستعارات، وبيان الانفكاك المنطقيّ بينها وبين الاءدراكات الحقيقيّة، يصل البحث إلي « الوجوب ». فمؤلّف «روش رئاليسم»(= المذهب الواقعيّ) يعتقد أن لا بدّ لكلّ اعتبار من الانتهاء والختم بحقيقة معيّنة، وعلينا أن نبحث في الحقائق عن أصل جميع التصوّرات. وعلي هذا، فإنّ الوجوبات الاخلاقية(الاعتباريّة) تستمدّ نشأتها في نظره من الوجوبات الحقيقيّة والفلسفيّة؛ فإذا ما رأينا في مكان ما وجوباً اعتباريّاً وأخلاقيّاً، فإنّ علينا أن نوقن بأ نّه يستند إلي وجوب وضرورة واقعيّة موجودة في مكان آخر، فهذان الوجوبان مرتبطان يلد ثانيهما أوّلهما. والضرورة الفلسفيّة هي الضرورة القائمة بين العلّة والمعلول، فمع حضور العلّة التامّة فإنّ وجود المعلول سيصبح ضروريّاً لاتخلّف فيه. أمّا الضرورات الاخلاقيّة فتتجلّي في الوجوبات الاخلاقيّة، فهي توصي بشيء ما أو تحرّمه بصورة الامر والنهي. [14] وحسب نظر المقالة مورد البحث ـ أي المقالة السادسة من «أُصول فلسفه» ـ فإنّ الاءنسان أيضاً(كسائر أنواع الموجودات الطبيعيّة التي تقوم بسلسلة من الاعمال في داخلها مع الاتّصال بخارجها من شمس وهواء وأرض حفظاً علي دوام معيشتها وبقاء حياتها)، يتناول الطعام للوصول إلي الشبع، لكنّه يعتبر الحصول علي المال ضروريّاً للحصول علي الطعام، ويعتبر العمل ضروريّاً للحصول علي المال، ويعتبر مراجعة أصحاب الاعمال ضروريّاً للعمل، و... فهو لهذا يقرّر في نفسه بوعي: يجب أن أذهب إلي صاحب العمل؛ و« يجب » هذه ـالتي هي إدراك ذهنيّـ واسطة لوصول الموجود الحيّ إلي هدفه(كالشبع مثلاً)، وهكذا الامر بشأن أيّ هدف آخر وأيّ وجوب آخر. وعليه فإنّ الاحتياجات الطبيعيّة لاعضائنا وقوانا ستوجد فينا وجوبات ـ بتوظيفها وعينا وشعورنا ـ ليمكن بمساعدتها تأمين احتياجاتها تلك. إنّ العلاقة بين الغذاء والشبع علاقة جبريّة وضروريّة، أي أنّ تناول الغذاء سيوجد تلقائيّاً وبحكم قانون العلّة والمعلول إحساس الشبع، أمّا العلاقة بين الشبع ومراجعة صاحب العمل فليست علاقة جبريّة، ولكن لانّ جهاز إدراكنا التابع لبنيتنا الطبيعيّة يميّز وجوباً جبريّاً بين الغذاء والشبع، فهو يقوم بصياغة وجوب اعتباريّ من هذه الملازمة الحقيقيّة(وهو لزوم مراجعة صاحب العمل)، ليردّ إيجاباً علي إحساسه الباطنيّ وهو طلب الشبع. [15] ... وسنورد هنا جزءاً فقط من إيضاحات هذه المقالة حول اعتبار أساس الاستخدام: نحن نقول إنّ الاءنسان يريد الحصول علي نفعه من الجميع تبعاً لهداية الطبيعة والتكوين(اعتبار الاستخدام)، ويريد ـمن أجل نفعهـ نفعَ الجميع(اعتبار المجتمع)، ويريد العدل الاجتماعيّ لنفع الجميع(اعتبار حسن العدالة وقبح الظلم)، ونتيجة للفطرة الاءنسانيّة فإنّ الحكم الذي يكوّنه بإلهام الطبيعة والتكوين يمثّل حكماً عامّاً لاينطوي علي حقد خاصّ علي الطبقة الراقية، ولا عداء خاصّ مع الطبقة السفلي. بل إنّه تبع في ذلك طائعاً حكم الطبيعة والتكوين في الاختلاف الطبقيّ للقرائح والاستعدادات، وراغباً ـتبعاً للاُسس الثلاثة المذكورةـ أن يحلّ كلّ واحد في محلّه ومكانه المناسب. فالهداية الطبيعيّة(الاحكام الفطريّة) ستتحدّد بالاعمال التي تتوافق مع أشكال وتركيبات الاجهزة البدنيّة، فنحن مثلاً لا نُجيز لهذه الجهة إشباع الرغبات الجنسيّة عن غير طريق الزواج(كعلاقة رجل ورجل، امرأة وامرأة، رجل وامرأة عن غير طريق الزواج، إنسان مع غير الاءنسان، إنسان مع نفسه، التناسل عن غير طريق الزواج). ولن نمتدح التربية الاشتراكيّة للاطفال، وإلغاء النسب والوراثة، وإبطال العرق والعنصـر؛ ذلك لانّ النظـام المـرتبـط بالزواج والتـربية لنيتلائم مع هذه الاُمور.[16] هذا ما أورده صاحب كتاب « دانش و أرزش » في بيان وشرح عبارات العلاّمة قدّس الله سرّه، ثمّ شرع بعدها في انتقادها والاءيراد عليها: إشکال صاحب کتاب «دانش و أرزش» علی کلام العلامة الطباطبائیومع احترامنا العميق لحضرة المؤلّف المحترم لهذه المقالة، فإنّنا لا نوافقه علي جميع آرائه في مجال الاعتبارات الاخلاقيّة، فنحن نعتقد ـكما سنوضّـحـ أ نّه لم يفرّق ـكما يبـدوـ بين نوعين مـن « الوجوب »، فوصل في النهاية بسبب عدم التفكيك هذا إلي نوع من الاخلاق العلميّة المحضة. رد صاحب المقالة علی العلامة فی الخلط بین معنی الوجود و الوجوبثمّ يقول بعد شرحٍ مختصر: وأمّا الاستفادة الفلسـفيّة والاخلاقـيّة، فقد كان جميع سعي المقالة المذكورة هو إظهار أنّ كلّ « وجوب » معلول لاقتضاء القوي الفعّالة الطبيعيّة والتكوينيّة للاءنسان، وحين يثبت هذا فكأ نّما سيثبت تلقائيّاً أ نّه يجب العمل بذلك « الوجوب »؛ وبعبارة أُخري أنّ « الوجوبات » التي تستمدّ نشأتها من مقتضي البنية الطبيعيّة هي « وجوبات » وأحكام طبيعيّة وفطريّة تحمل سند جوازها ووجوبها معها بلا حاجة إلي أيّ دليل وبرهان. أي أ نّه حالما يتّضح أنّ حكماً ما حكم فطريّ، فلن يمكن عندئذٍ السؤال عن حسنه وقبحه، لانّ أيّ حكم فطريّ هو في ذاته جيّد وحسن، وهنا يكمن ـ حسب تصوّرنا ـ « الخَلْط » المدمّر. ذلك لا نّه لو افترضنا أ نّنا حصلنا علي مقتضي بنيتنا الطبيعيّة ـ أي علي حكم فطريّ ـ فيبقي مع ذلك السؤال مطروحاً: لماذا ينبغي العمل بمقتضي البنية الطبيعيّة؟ ولِمَ تكون الاحكام الفطريّة واجبة وينبغي اتّباعها؟ من أين يأتي ـ يا تري ـ هذا الوجوب الثاني؟ ويتّضح هنا أ نّنا نملك نوعين من « الوجوب »، فإن لم يكن لدينا إيمان بـ« وجوب » ابتدائيّ وأساسيّ، فإنّنا لن نتمكن من صنع أيّ وجوب أخلاقيّ آخر. [17] ... وأصعـب من هذا وأعقد، مسـألة العـثور علي الاحـكام الفطريّة، فحسب أيّ معيار وضابط يمكن القول إنّ حكماً ما فطريّ أم لا؟ وخاصّةً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار مسألة تصاعد حياة الكائنات الحيّة واعتبارنا أ نّها في حالة تغيّر جسميّ ونفسيّ دائم، حيث سيصعب علينا ـبل سيستحيلـ التمييز بينها ومعرفة أيّ عضو فيها أساسيّ وأيّها غير أساسيّ، ومقتضي أيّة قوّة ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار؟ وأيّها ينبغي اعتبارها في طريقها إلي الزوال؟ [18] ... وتُظـهر الاختـلافات والنـزاعات الحاصـلة حـول الاحكام الفطريّة، والمشاقّ العظيمة في تعيين الحدّ والضابط للاحكام وإمكان الاستفادات غيرالصحيحة باسم الفطرة درجة الضعف والركاكة التي سيكون عليها إصدار الحكم اعتماداً علي مباني الاحكام الفطريّة. [19] ...ونكرّر قولنا السابق فيأنّ هناكمقابل كلّ واقعخارجيّ معيّن موقفَين ونوعَين من الخيار يمكن اتّخاذهما، رفضه أو قبوله؛ وأنّ نفس الواقع الخارجيّ لا يعيّن مطلقاً نوع ذلك الخيار، خلافاً لوجهة نظر المؤلّف المحترم للمذهب الواقعيّ «روش رئاليسم». فوجود الاعضاء التناسليّة لدي الرجل والمرأة(بمثابة واقع معيّن) لا يعيّن بنفسه وجوب زواجهما فقط، أو ينفي إمكان مقاربة رجل لآخر، أو أنّ الحمل عن غير طريق الزواج أمر غير مقبول. فنفس ذلك الواقع الخارجيّ ليس هو المعيِّن لهذه الخيارات الاخلاقيّة، ولهذا السبب لا يمكن تقبيح القرارات الاخلاقيّة المخالفة لها اعتماداً علي مبني مخالفتها للبنية الطبيعيّة للرجل والمرأة. وعليالرغم من أنّخياراتنا الاخلاقيّةتعتمد علي بنيتنا الطبيعيّة ومتعلّقة بشأنها، لكنّها لا تستمدّ نشأتها منها مباشرة، بل إنّ أساسها شيء آخر، وهي نابعة من مصدر نشأة « الوجوبات ». فليس هناك علاقة بين الطبيعة والفضيلة، ولا يمكن صنع ارتباط بين وجود شيء و انتخابه، فإن اعتبرنا الطبيعة في حالة تصاعد وجريان مستمرّ، وتصوّرنا أنّ العمل بحكم الطبيعة أمر مقبول وواجب، فيمكننا اعتبار أيّ عمل ما مُباحاً. [20] ... وينتج من الكلام السابق أ نّه لا يمكن غضّ النظر عن فرض «وجوب» أصيل وابتدائيّ، وأنّ الاخلاق لها مبدأ منفصل في النتيجة عن «العلم»، وأنّ «الوجوبات» لا يمكن إرجاعها في أُصولها إلي «الوجودات»، وحتّي العمل بالاحكام الفطريّة يمكن عدّه واجباً حين يكون لدينا مسبقاً أساس آخر يقول بوجوب العمل بمقتضي الفطرة والخلقة، أي أنّ انتخاب الاحكام الفطريّة ورفض الاحكام غير الفطريّة( الوجوبات الاعتباريّة في اصطلاح المقالة السادسة للمذهب الواقعيّ) «= روش رئاليسم» هو نفسه محكوم لـ« وجوب » اعتباريّ أوّليّ لا يمكن توجيهه وتعليله علي أساس الفطرة ومبناها، وما لميكن لدينا ذلك الوجوب، فإنّها هي الاُخري لن تكتسب القاطعيّة والاءلزام من كونها فطريّة. [21] كان هذا خلاصة كلام صاحب مقالة « بسط وقبض تئوريك شريعت » في كتاب « دانش و أرزش » ردّاً علي كلام الاُستاذ العلاّمة آية الله الطباطبائيّ قدّسالله سرّه، في عدم انتزاع الاعتباريّات من الحقائق الخارجيّة وضرورة الفصل والتفكيك بين لفظ «وجوب» و لفظ «وجود»؛ ومع أ نّنا أوردناه بإيجاز واختصار، إلاّ أ نّه مع ذلك قد حوي قدراً من الشرح والتفصيل لاءيضاح جوانب الاءشكال، ولئلاّ يكون هناك قصور في تقريره وبيانه. وأمّا كلامنا في هذا الشأن فهو أنّ صاحب المقالة المحترم لميدرك أبداً مقولة العلاّمة في « أُصول فلسفه وروش رئاليسم » ولم يصل إلي كُنه كلامه وقصده، فلم يشخّص أساساً حقيقة المعني الاعتباريّ من الحقيقيّ، ثمّ تصدّي ـفي كتابه الذي لم يضمّ علي ضخامته إلاّ القليل من المطالبـ للانتـقاد والردّ علي كلام العـلاّمة في المقـالة السـادسـة بشـأن الاءدراكـات الاعتباريّة، فخبط خبط عشواء. ونري أنفسنا مجبرين؛ في بياننا لمواقع الخطأ ومواضع الانحـراف؛ علي إيراد بحث عن الاعتباريّات وانتهائها بالحقائق، لتتّضح متانة ورسوخ كلام الاُستاذ العلاّمة وتفاهة وضحالة رأي المنتقد. فی معنی الاعتباریات و قیاسها مع الحقائقفالحقائق عبارة عن الواقعـيّات الموجـودة في الخـارج، بما فيـها المادّيّات والطـبيعـيّات والموجـودات الملكـوتيّة المجـرّدة، بما فيـها من العلوم والمعارف الذهنيّة التي لم تتحقّق علي أساس فرض فارض واعتبار معتبر. أمّا الاعتباريّات فعبارة عن الاشياء التي محلّها وموقعها الذهن فقط، والمتحقّقة علي أساس فرض فارض، بحيث تدور وجوداً وعدماً مدار الفرض والاعتبار، فهي تكتسب تحقّقها الاعتباريّ بمجرّد الاعتبار، وينتفي عنها أي تحقّق بمجرّد رفع اليد عن الاعتبار أو نقضه. وبطـبيعة الحال فإنّ لديـنا قسـماً ثالثاً غير هذيـن القسـمين وهو الانتزاعيّات، وهذه ليست من الحقائق ولا من الاعتباريّات، بل تنشأ بواسطة انتـزاع الذهن من الحقائق الخارجـيّة، فلا تحـقّق لها في الخارج أبداً، وكلّ ما هناك أنّ محلّها ومورد انتزاعها في الخارج، كما في الفوقيّة و التحتيّة. فعنوان الفوقيّة، كفوقيّة سطح البيت ـمثلاًـ نسبة إلي ساحته ليست شيئاً غير ذات السطح، فنحن لا نجد شيئاً غير نفس السطح، وغير سقف الغرفة الذي يعلوها باسـم فوق، فما هناك هو نفـس السـطح، لكنّ ذهنـنا ينـتزع من النسـبة الخارجـيّة بين سقف الغـرفة وأرضيّـتها عنواناً ندعـوه بـ فوق. وهذا العنوان محلّه الذهن لا الخارج، ومبدأ انتزاعه في الخارج، وهو ليس أمراً اعتباريّاً، لانّ فوقيّة السقف نسبة إلي الارض غير قائمة باعتبار الشخص المعتبر، فالسقف يعلو سطح الغرفة شئنا أم أبينا. ونغضّ الطرف عن شرح وتفصيل الاُمور الانتزاعيّة باعتبارها لا ترتبط فعلاً بموضوع بحثنا الحاليّ، ونقصر الكلام علي الحقائق والاعتباريّات. إنّ الاعتباريّات باعتبارها من صنع الذهن وصياغته، فلا بدّ لحصولها من وساطة قوي الاءدراك، سواء القوي الوهميّة والخياليّة والفكريّة، وبعبارة أوجز: العقل النظريّ، أم النفس الناطقة والنور المجرّد للروح الاءنسانيّة التي نعبّر عنها بالعقل البسيط والملكوت الاعلي والناطقة القدسيّة والكلمة الاءلهيّة. ومع أنّ قيام الاعتباريّات وقوامها في الذهن، وأنّ قيامها باعتبار المعتبر، إلاّ أ نّها في نهاية المتانة والاءتقان، وكثيراً ما تكون بنفسها منشأ ومبدأ لحقائق كثيرة في الخارج. فطباعة أوراق العملة النقديّة ـمثلاًـ وجعل القيم المختلفة لها أمر اعتباريّ يرتبط بقرار خزانة الدولة ورئيس الاُمور الماليّة، حيث يصدران الامر بطباعة الاوراق النقديّة وعرضها بقيم مختلفة. فتكون هذه الاوراق النقديّة معتبرة ما دام إمضاء المسؤول والشخص المعتبر وإقراره لها باقياً، لكنّها تسقط عن الاعتبار بمجرّد سحب الرئيس المسؤول ومسؤول الخزانة إمضائهما أو إصدارهما قراراً بإلغائها، فتصبح أكداس الاوراق النقديّة الثمينة حينذاك بلا قيمة، ويؤول مصيرها إلي الاءحراق في المدفأة أو ما إلي ذلك من الاستعمالات. ولا يخضع اعتبار الرئيس المسؤول لها، وطبعها، ومقدار المطبوع منها، وتعيين قيمتها، ومدّة اعتبارها، وطرحها للتداول داخل الدولة أو في الداخل والخارج، للفوضي أو المزاجيّة؛ إذ لا بّد من حساب دقيق لتقدير ثروة المملكة من الذهب والفضّة الموجودة في الخزينة أو ضمن أموال الدولة، وقيم المعادن المسـتخرجة، أو محصـول اللؤلؤ المسـتخرج من البحر، والاراضي الزراعيّة والبساتين، أو العمل والجهود اليدويّة للعمال والفلاحـين، وكلّ ما يصدق عليه عنوان المال ويمكن حسـابه في هيئة العملة الصعبة، وبعد الحساب الدقيق لقيمة العملة الصعبة وأسعار البضائع والذهب والفضّة الخارجيّة وملاحظة العوامل المهمّة الاُخري، كميزان الثروة والنقد عند الشعب، يقومون بتبديل ذلك المال في المعاملة إلي أوراق رسميّة معتبرة ويدعونها بأوراق العملة الماليّة، تسهيلاً للحمل والنقل، وحفظاً للذهب والفضّة، ولجهات أُخري غيرها. وهذا الحساب من الدقّة والصحّة بالقدر الذي يحدّد الشخص المعتبِر والمعيِّن لقيم وأسعار الاوراق النقديّة بضرورات المحاسبة الاقتصاديّة، بحيث إنّه لا يجرؤ علي طباعة وعرض ورقة نقديّة بقيمة خمسة تومانات أكثر أو أقلّ من المطلوب، وفي حالة ثبوت هذا الامر فإنّه سيحاكم علي مخالفته هذه عند الحاكم والقاضي المسؤول. وللصكوك والكمبيالات أيضاً نفس هذا الامر الاعتباريّ. والطوابـع البريـديّة لها أيضـاً نفـس الشـأن، فدائـرة البـريد تعـمد ـلتسـهيل اسـتلام النقـود مـن الناس مقابل التـزامها بإيصـال رسائـلهم وأماناتهم إلي مقاصدهاـ إلي طباعة طوابع تُلصق علي الشيء المرسَل بما يتناسب مع وزنه وبُعد مقصده وكونه من المطبوعات أو غيرها، فتقبل هذه الطوابع بمثابة إيصالات نقديّة. ثمّ تقوم هذه الدائرة ـلتغطية ميزانيّتها الكلّيّة ورواتب موظّفيها وعمّالها وأُجور وسائل الحمل والنقل علي اختـلافها من الطائـرة والسفينة والسيّارة والدرّاجة الناريّة والدرّاجة الهوائيّة، وفي بعض القري من البغال والحيوانات المستعملة للنقلـ بحساب هذه الاُمور وتقسم مجموعها علي جملة المحمولات، فتصدر طوابع بريديّة للنقل داخل المدينة بقيمة ريال واحد مثلاً، وللنقل إلي المدن الاُخري بقيمة خمسة ريالات وإلي خارج الدولة بأكثر من ذلك، وتقوم بتعيين واعتبار وتثبيت هذه الاسعار وتطبع الطوابع تبعاً لذلك وتبيعها. وحين تسـتلم دائـرة البريـد الطـرود وتقـوم بنقلها حسـب تعـهّدها والتزامها، فإنّها تختم عليها بختم البطلان، أي أ نّها تُسقط تلك الطوابع من درجة الاعتبار وتُلغي اعتبارها منها، لانّ التزام دائرة البريد وتعهّدها كان فقط إيصال تلك الطرود إلي مقاصدها، فتفقد تلك الطوابع البريديّة حينذاك قيمتـها، فتسـتخدم لمعـرفة تأريخ واسم وصفات السـلاطـين المتـوفّين؛ وتُجمع في دفاتر ومجاميع تثير الاعتبار والاتّعاظ، أو تُلقي مع المهملات في صندوق النفايات. لقد كان الاعتبار ومدّة الاعتبار وزمانه وكيفيّته وقيمته محدودة ومشروطة، وحين يُختم علي الاُمور المعتبرة بختم البطلان، فإنّها ستبطل جميعاً وتنهار دفعة واحدة، وليس في هذا الامر استبداد ولا إعمال للرأي الشـخصيّ لرئيـس دائرة البريد في هذه الاعتـبارات، لا بلحـاظ القيـمة ولابلحاظ مدّة الاعتبار، فهم يمتلكون حقّ طبع وبيع وتعيين قيم هذه الطوابع ضمن دائرة محدّدة مرتبطة بمصالح الدولة ونفقات دائرة البريد، ومع أنّ جميع أعمالهم هذه اعتبار محض، إلاّ أ نّه ليـس اعتباراً جزافـيّاً، لا نّهم بحـكم عقلـهم ودرايتـهم وحسـن إدارتـهم وصدقـهم وأمانتـهم، لايملكون أن يطبعوا يوماً ما ولمرّة واحدة طابعاً واحداً بقيمة ريال واحـد ويقوموا باعتباره من غير داعٍ وسبب، وهم كذلك غير قادرين حتّي في مورد واحد أن يقوموا بإبطال طابع واحد بقيمة ريال واحد وإسقاطه من الاعتبار والختم عليه بالبطلان من غير داعٍ وسبب. العلامة تعتقد أن کل اعتبار إنما یقوم بحقیقة معینةولقد عمل آية الله العلاّمة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في المقالة السادسـة من « أُصول فلسـفه » التي بحـث فيها في ثلاثـين مسـألة بشـأن الاعتباريّات، علي تشخيص محلّ وموضع الحقائق التي هي أُمور واقعيّة وحقيقيّة، وعيّن كذلك محلّ وموطن الاعتباريّات تبعاً لجعل الشـخص المعتبر في الذهن، وأوضح كالشمس أمر عدم ولادة العلوم الاعتباريّة من العلوم الحقيقيّة، وفصل جميع موارد «الوجوبات» عن «الوجودات»؛ لكنّه بيّن أنّ هناك رابطة وعلاقة بين الاعتباريّات والحقائق في موردَين: المورد الاوّل: قيام المعاني الوهميّة بالمعاني الحقيقيّة؛ وكانت عبارته: أنّ كلاّ من هذه المعاني الوهميّة قائمة علي حقيقة معيّنة، أي أ نّنا حين نضع أيّ حدّاً وهميّاً إلي مصداق ما، فإنّ له مصداقاً حقيقيّاً آخر ينشأ منه، فلو اعتبرنا مثلاً إنساناً ما كالاسد، فإنّ هناك أسداً حقيقيّاً أيضاً يرجع إليه حدّ ذلك الاسد. [22] محل الأمور الاعتباریة فی الذهن، و لها وجود خارجیوهذه المقولة متينة جدّاً، لانّ هذا الامر الاعتباريّ القائم بالقوي الوهميّة والخياليّة إن استند إلي أمر حقيقيّ فإن ذلك سيثبت مطلوبنا ومرادنا، أمّا إن استند إلي أمر وهميّ وخياليّ آخر فإنّه يستلزم الدور والتسلسل، وسيفتقد معناه بغير ذلك القيام، لانّ الصور المنطبعة في النفس هي إمّا من الخارج أو من الذهن، والاخيرة أيضاً تحقّقت سابقاً بانعكاس صورة خارجيّة. ومن هنا تصحّ قاعدة: كُلُّ مَا بِالعَرَضِ لاَبُدَّ وَأَنْ يَنْتَهِي إلَي مَا بِالذَّاتِ. وقاعدة: لِكُلِّ مَجَازٍ حَقِيقَةٌ. ذلك لانّ فرض موجود عرضيّ قائم بذاته بدون فرض الذات محال، وفرض استعمال المجاز ـوهو الخروج من دائرة الاستعمال الحقيقيّـ بدون فرض وجود الحقيقة محال أيضاً. وقد بيّن الاساتذة العظام في أُصول الفقه هذا البحث بالتفصيل، وأوضحوا أنّ الاءنشـاء ـفي مقابل الاءخبارـ عبارة عن الاءيجاد والاءبداع والخلق في عالم الذهن، فكما أ نّنا نستطيع في بعض الموارد إيجاد شيء في الخارج ومنحه لباس الوجود والتحقّق، فكذلك يمكننا إنشاء وإيجاد عين ذلك الامر الخارجيّ في الذهن، والحكم القطعيّ بوجوده في الخارج. فمعني قول البائع في المعاملات: بعتك هذا بالمبلغ الفلانيّ: أ نّني نقلتُ إليك هذا الشيء في عالم الاعتبار وملّكتك إيّاه مقابل انتقال المبلغ الفلانيّ في هذا الاعتبار والاءنشاء إلي ملكي وحيازتي. لكأنّ هذا النقل والتحويل قد حصل في الخارج وكأ نّني قد أوجدتُ هذا الامر الخارجيّ في عالم ذهني واعتباري، وقد ارتضي العقل والشرع هذا الاعتبار، أي التحقّق الخارجيّ في عالم الوهم والخيال. وفي صيغة النكاح حين تقول المرأة للرجل: أَنْكَحْتُكَ نَفْسِي، فإنّ ذلك يعني في عالم الاعتبار أ نّها جعلت نفسها في الخارج فراشاً له ودعته إلي نكاحها ووطئها! والرجل حين يقبل بهذا القول فهو إنّما يقبل هذا المعني. وبهذه الصيغة يتحقّق النكاح الخارجيّ، لا النكاح الذهنيّ والتخيّليّ، وعليه فإنّ إنشاء صيغة النكاح هي أمر اعتباريّ، وهو اعتبار يصنعه الذهن لما في الخارج، فالمرأة تجعل نفسها في عالم الاعتبار حقيقة وفعلاً موطوءة للرجل في الخارج، وينبغي عند إجـراء صيغة النكاح الالتـفات إلي هـذا المعني، لانّ النكاح هو بمعني الوطء لا بمعني العقد. والامر كذلك بالنسبة إلي الحاكم الشرعيّ الذي يحكم أحياناً بدخول الشهر بالرغم من عدم رؤيته لهلال أوّل الشهر ومع وجود الشكّ لديه، لكنّه يحكم بذلك استناداً إلي القرائن الخارجيّة أو لشـهادة رجلَين عادلَين. ومعني ذلك قوله: إنّني أجعل وأخلق في عالم اعتباريّ وإنشائيّ هلالاً في أُفق السماء. وبالطبع فهو غير الخلق الخارجيّ الحقيقيّ الذي من الواضح أ نّه أمر يفوق قدرته، وغير خلقه إيّاه في عالم نفسه وذهنه، لانّ رؤية الهلال الذهنيّ لا توجب دخول أوّل الشهر، بل هو هلال خارجيّ حقيقيّ، كلّ ما في الامر أ نّه في عالم الذهن والاعتبار، وهو معني حكم الحاكم برؤية الهلال وبدخول الشهر. وباعتبار إمضاء الشرع المقدّس لهذا الحكم فإنّ حكم الحاكم برؤية الهلال بمثابة ومنزلة الرؤية الخارجيّة للهلال، وقائم مقامها وحائز منزلتها ورتبتها. وهذه المسألة دقيقة جدّاً، حيث إنّ الاءنشاءات والاعتبارات في خصوص الذهن لا أثر خارجيّ لها، وهذه الاُمور لا تتحقّق في الخارج، فمحلّها إذَنْ في الذهن مع الحكم بتحقّقها في الخارج. وجميع الاُمور الاعتباريّة التكليفيّة من وجوب واستحباب وتحريم، والاُمور الوضعيّة مثل الضمان والصحّة والفساد هي من هذا القبيل، حيث إنّ اعتبار هذه المعاني بدون وجود حقيقتها في الخارج سيكون بلامعني. المورد الثاني: تأثير الحقائق الخارجيّة في إيجاد المعاني الاعتباريّة الذهنيّة، وهذه المسألة أيضاً قد أثبت العلاّمة تحقّقها بوضوح. ومع أنّ الحقائق الخارجيّة التي يعبّر عنها بالمسائل العلميّة والتي تتّخذ لنفسها عنوان الوجود، هي غير المسائل الاعتباريّة التي يعبّر عنها بعنوان الوجوب، وأنّ المسائل العلميّة والحقائق الخارجيّة لا تقع بأيّ وجه من الوجوه في طريق ولادة المسائل الاعتباريّة، فلا يمكن بألف مسألة علميّة استخراج أمر اعتباريّ واحد بصورة البرهان، لكنّ مسائل العلم تقع في طريق الاستنتاج وفي طريق الحصول علي الحكم الاعتباريّ. فبعد اطّلاع الاءنسان علي المسائل العلميّة فإنّه يجعلها دوماً صغري البرهان، ثمّ يضع حكماً عقليّاً يرتّبه بنفسه بعنوان كبري المسألة، فيشكّل منهما برهاناً صحيحاً ويصل إلي النتيجة المطلوبة. فالصغري مثل: تناول السمّ موجب لزوال الحياة؛ والكبري مثل: كلّما أوجب زوال الحياة يجب اجتنابه. ونتيجتهما: أنّ تناول السمّ لازم الاجتناب. مقدّم چون پدر، تالي چو مادر نتيجه هست فرزند اي برادر [23] وما ذكره العلاّمة هو أنّ الاعتباريّات لا تولد من الحقائق، لا أنّ الحقائق لا يمكن الاستفادة منها في استنـتاج برهان معـيّن بأن توضـع كمقدمة له. وبالطبع فإنّ البرهان الذي يشكّل أحد مقدّماته أمر اعتباريّ، سيكون اعتباريّاً أيضاً بلحاظ أنّ النتيجة تابعة لاخسّ المقدّمتَين. فلا يمكن الاستعانة بالمقدّمات الاعتباريّة ـسواء في الصغري أم في الكبريـ لاستنتاج مسألة فلسفيّة وعلميّة، وممّا لا شكّ فيه ا نّه يمكن استنـتاج أمر اعتباريّ بطريقة البرهان من مقدّمات فلسـفيّة وعلميّة يكون مقدّمتها أمر اعتباريّ، وهناك مسألة من المسائل العلميّة كمقدّمة للبرهان فعلاً في الكثير من نتائج الاُمور الاعتباريّة والاحكام والقوانين. فمقولة العلاّمة الطباطبائيّ في أنّ الاحكام الفطريّة عبارة عن الاحكام التي أودعها نظام الخلقة والطـبيعة في طينة الاءنسـان، فهي التي تيسّـر أُسلوب حركة الاءنسان في سيره في مدارجه الكماليّة، هي من أعلي المقولات و أكثرها منطـقيّة. لانّ الفطـرة والطـينة ـكما سيأتي تفصـيلهـ عبارة عن البنـية الوجوديّة المادّيّة والمعنويّة وتجهيز القوي والاستعدادات لمنح الفعّاليّة للنفس المبهمة والهيولي المستعدّة والمحضة للوصول إلي غاية الخلقة والقصد من الاءيجاد. فالاطّلاع علي هذه التجـهيزات والاُمور الطبيعـيّة هو من المسائل العلميّة التي يتوصّل إليها الفرد بواسطة العلم، وحكم العقل بوجوب استخدامها هو حكم اعتباريّ نتيجته وجوب إعمال القوي المادّيّة والطبيعيّة والروحيّة في مجري الخلقة ومسار الحياة. إنّنا لا نقرّ باعتباريّة مسائل العلم، كما لا نضع الاُمور الاعتباريّة محلّ مسائل العلم أبداً، فلكلٍّ منهما مقامه ومكانه الخاصّ، لكنّنا نقول ونؤكّد كثيراً علي أ نّنا لا نمتلك ـغير حكم العقلـ طريقاً لاستخدام المعلومات والغرائز والمسائل الفطريّة. فهو الحكم الذي تجعله النفس وتعتبره للمسائل المستحصلة عن طريق العلم، لا أن تكون المعلومات الفطريّة والغرائز بنفسها علّة تامّة للعمل، أو أن يكون مجرّد عنوان الفطرة ونظام الطبيعة كافياً لوحده للعمل، بل حين تتعرّف النفس الاءنسانيّة علي مسائل العلم بشأن الفطرة، فإنّها تقوم بإصدار حكم عقليّ بوجوب اتّباعها والسير علي نهجها. وقد أشار العلاّمة بوضوح أنّ عمل الطبيعة والفطرة لا يكفي لوحده في استخدامها، بل ينبغي ضمّ الاختيار والاءرادة لذلك، فإن نحن أوكلنا الزمام عند ذلك بِيَدِ العقل النظريّ والشعور الاءنسانيّ الذي تشاركنا فيه الحيوانات في كثير من الجهات، فإنّ هناك احتمالاً كبيراً في انحراف سعي الاءنسان عن طريق الفطرة ونهجها، أمّا إن أعطينا الزمام بِيَدِ العقل الاءنسانيّ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنسَانٌ، فإنّنا نضـمن تحـقّق الحـكم الفطـريّ وقيام العقل باستخدام هذه الاجهزة للوصول إلي كمال الاءنسانيّة، وحينذاك سيوافق حكم العقل لمسائل الفطرة وتجهيزات الخلقة، وهو معني: فِطْرَتَ اللَهَ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا. [24] إذا كانت الغرائز والفطرة ومسائل الطبيعة كافية لوحدها للعمل، فعلامَ سنحمل هذه الانحرافات والاخطاء؟ أمّا قولكم إنّ هذه الوجوبات تحتاج إلي وجوب ابتدائيّ ترجع إليه، فقول صائب نؤيّـده ونوافق عليه، لكنّ هذا الوجـوب الابتـدائيّ ليـس إلاّ حكم العقل المستقلّ الاءنسانيّ المنزّه عن شوائب الاوهام والوساوس، ولايمكن أن يكون شيئاً آخر غيره. ولو لم يكن هذا العقل في الاءنسان، لاصبح الامر في: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، [25] لغواً لا فائدة فيه. فهذا العقل هو الذي يصوغ من الاءنسان إنساناً، وبه عرّف الله نفسه بواسطة لسان الباطن و لسان الانبياء، وهو الذي يقول: ينبغي لهذا الوجوب الابتدائيّ أن يكون حكم العقل وليس حكم الباري الموجّه إلي النفس التي تفتقد العقل والتي لا ينفع معها ألف وجوب ووجوب. لطالما قلنا، ونقول: إنّ مسائل الفطرة تحتاج في سنّة التكوين إلي وجوب لنقلها إلي حيّز العمل، وينبغي أن يكون ذلك الوجوب أبداً من نتاج العقل وملازماً لاءنسانيّة الاءنسان. فهل تعرفون مبدأ ومنشأ غير هذا الوجوب العقليّ؟ هاتوه وأرونا إيّاه فنحن في الانتظار! مؤلف «دانش و ارزش» ینفی حجیة القیاس القائم علی الرهان العقلیويتّضح من هذا الكلام أنّ حكم المعترض بهذه العبارة: ونقول هنا: إنّه لا يمكن بألف برهان عقليّ تشكّل مقدّماته الاءدراكات الحقيقيّة «وجود» و«عدم» من إثبات حُسن شيء أو قبحه، ولا إثبات ملكيّتنا لشيء ما، ولا الدلالة بحكم العقل علي رئاستنا لجماعة ما؛ فالذين يسعون عبثاً ليثبتوا بالبرهان العقليّ للآخرين أنّ فعل العمل الفلانيّ حسن أو قبيح، إنّما يسيرون في متاهة ويحاولون عبثاً». [26] هو حكم واهٍ وليس أكثر من مغالطة وسفسطة. وذلك من خلال اعتـرافكم بالقول: بالبرهان العـقليّ! ولو وصـلت النوبة إلي البرهان العقليّ لصارت جميع المطالب ثابتة راسخة. وإنّ جميع نبوّة الانبياء وحجّيّة القرآن وتوحيد الربّ جلّ وعلا إنّما تعتمد علي العقل. ولو فُرض زوال حجّيّة البرهان العقليّ، فسينهار الصرح الشامخ للعلم والمعرفة تبعاً، له وسيصبح العالم داراً للمجانين ومجمعاً لشملهم. فلو كنتم تدرسون في كلّيّة جميع معلّميها ومدرّسيها مجانين لاعقل لهم، فهل تعلمون أيّ بلاءٍ كان سيحلّ بكم، مهما كانت جميع الكتب النفيسة والخطّيّة والقديمة الموجودة فيها في أعلي درجات الاءتقان؟ وعليه، فلا مفرّ لتركيب القياس البرهانيّ والاستثنائيّ لاحكام الصواب والخطأ والمحاسن والقبائح غير استخدام جميع العلوم بعنوان صغري القياس، وجعل حكم العقل عمـوماً بعنـوان كبري القـياس، ثمّ استحصال النتيجة المطلوبة؛ والامر كذلك في القياسات الاستثنائيّة. أمّا ما نُقل عن هيوم فهو أمـر ضعـيف جـدّاً ولا يمـكن مقارنـته بالتحقيقات الرائعة للعلاّمة قدّس سرّه. لقد كان أقصي وسع جي اي مور ونهاية إدراكه أن يفهم أنّ معني الحسن بسيط لا يتجزّأ، وكان هذا من العجب العجاب؛ وكان من الحريّ بهم أن يسألوا أحد طلبتنا المبتدئين في مستوي « الحاشية » عن ذلك ليبيّن لهم بسهولة أنّ الجيّد والسيّي، والحسن والقبح، وكثير من الكلمات عامّة البلوي، كالعامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، باعتبارها بسيطة وخالية في جوهرها من التركيب، فتعريفها بتعريف شامل للحدّ والرسم، تامّاً كان أو ناقصاً أمرٌ محال، ولهذا فإنّ جميع التعريفات التي أُعطيت لها كانت من باب شرح الاسم. التفسیر الخاطی لآیة الفطرة من قبل مؤلف کتاب «دانش و ارزش»التنبيه السادس: لقد أراد صاحـب مقالة « بسـط وقبض تئـوريـك شريعت » في الفصل الرابع من كتابه « دانش و أرزش »؛ بعد قيامه في الفصول السابقة ـحسب نظرهـ بإثبات عدم إمكان تشكيل برهان عقليّ في مسائل الحسن والقبح، والقيم، والجودة والرداءة، وبشكل عامّ في جميع الاعتباريّات، متصوّراً أ نّه قد صنع هوّة أبديّة تفصل بين الواقعيّة والاخلاق،[27] أن يُشـير إلي الوجـوب الاوّليّ الذي يمـثّل أسـاس باقي الوجوبات؛ وباعتبار أ نّه قد فسّر أوّلاً آية الفطرة المباركة بأُسلوبٍ خاصّ لا ينطبق علي حقيقة الامـر، ولادّعـائه ثانياً أنّ الوجـوبات في القرآن الكريم غير مستفادة من مسائل الطبيعة والفطرة، وأ نّه ليس هناك أيّ حكم من أحكام هذا الكتاب السماويّ المقدّس يقوم علي أساس المسائل العلميّة والواقعيّة، أو يسـتخدم الحقائق كجـزء للبرهان العقليّ المنطـقيّ من أجل استنتاج أحكامه التي يصدرها؛ فإنّنا نجد أنفسنا مجبرين علي تقديم بحث مختصر بشأن هذين الموضوعَين: أمّا بشأن آية الفطرة: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُو´ا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّـ'صِرِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَهِ ذَ ' لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـ'كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْـلَمُـونَ * مُنِيـبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُـوهُ وَأَقِيـمُوا الصَّـلَو'ةَ وَلاَ تَكُـونُـوا مِـنَ الْمُشْـرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَـهُم وَكَانُوا شِـيَعًا كُلُّ حِـزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. [28] فقد أكدّت هذه الآية صراحة علي لزوم متابعة الفطرة الاءنسانيّة، لكنّ كاتب المقالة قال أوّلاً علي أساس عدم استخدام حكم العقل في طريق انتاج قياس الاحكام الفطريّة: إنّ هناك فاصلاً بين قضية: أنّ الفطرة تدعو إلي شيء معيّن:(خبر) وقضيّة: يجب اتّباع ما تدعو الفطرة إليه:(أمر)، هو بقدر الفاصل بين العلم والقيم، وإنّ صنع جسر للعبور من أحدهما إلي الآخر هو ذلك الخطأ الخالد لجميع أنواع الاخلاق العلميّة. وبهذا اللحاظ فحتّي لو كانت الفطرة البشريّة داعية إلي الدين ومجبولة علي التوحيد، فلايكفي ذلك لوحده في الدلالة علي وجوب الاتّجاه للدين أو اتّباع التوحيد. ولو صحّ احتواء الآية المذكورة علي أمر كهذا مبتنٍ علي هذا الاستنتاج، لصحّ كلام الذين ينظرون من منظار الاخلاق العلميّة، والحاملين في قلوبهم وسوسة الاعتبار الحقيقيّ؛ ولكن يجب القول إنصافاً بأنّ ذلك ليس صحيحاً. [29] و ثانياً أخذه كلمة الفطرة في الآية المباركة حسب احتمال الفخر الرازيّ والشيخ الطوسيّ ـخلافاً لاكثر المفسّرينـ بمعني الدين والمنهج، لئلاّ تدلّ علي لزوم متابعة الفطرة الاوّليّة والخلقة والبنية الطبيعيّة للاءنسان. ... ولا شأن لنا بالجدال حول الاحتياجات والدوافع الفطريّة الاءنسانيّة، ولا ننكر أنّ الفطرة الاءنسانيّة حسب التعليمات الاءسلاميّة داعية إلي الخالق، لكنّ ما نقوله إنّه لا يمكن القول: لانّ الله متبوع ومطلوب، إذَنْ يجب طلب الله؛ فهذا الاستنتاج الاخير هو الخاطي بنظرنا منطقيّاً. [30] وجوابنا علي المطلب الاوّل هو نفس كلامنا السابق من أنّ العقل يحكم بضرورة متابعة الفطرة، لا أن تكون الفطرة بنفسها محرّكة للاءنسان، وإلاّ لما تعلّق به الامر والتكليف. فالطبيعة والفطرة هنا( أي العلم) ليست واسطة لنشوء القيم والاعتبار، ولمتُتّخذ جسراً لذلك؛ بل إنّ حكم العقل المستقلّ الناجم عن القياس المنطقيّ هو المشير بضرورة متابعة هذا العلم، والموجب بالبرهان القطعيّ إلي لزوم متابعة الفطرة، فهذه ليست ولادة الاخلاق والاعتبار من العلم، بل إنشاء حكم النفس بلزوم متابعة مسائل العلم. وأمّا جوابنا علي المطلب الثاني، أي تفسير آية الفطرة المباركة، فمُبتنٍ علي علمنا بأنّ معني الفطرة من مادّة فَطَرَ التي استخدمت كراراً في القرآن الكريم، مثل: فَطَرَهُنَّ [31] ـ فَطَرَ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ [32] ـ السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ [33] ـ إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ. [34] فهي تعني في جميع هذه الموارد الاءبداع والخلق بلا مثيل سابق. معنی الفطرة حسب أصل اشتقاقها فی لغة العربو أمّا صيغة الفِطْرَة علي وزن فِعْلَة فتدلّ علي النوع، مثل جِلْسَة، أي الكيفيّة الخاصّة للجلوس، لانّ هذا الوزن يستخدم في العربيّة في بيان النوع والهيئة؛ كأن تقول: جَلَسْتُ جِلْسَةَ زَيْدٍ. وعليه، فيصبح معني الفطرة في الآية: فِطْرَتَ اللَهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا: ذلك النمط الخاصّ من الخلقة الذي خلق اللهُ الاءنسان عليه. وهي تلك الخصائص والآثار التي لا تنفكّ عن الاءنسان، فقد خلق اللهُ الاءنسان مع تلك الخواصّ والخصائص والسجايا الاخلاقيّة والهداية للتكامل الخاصّ، ولم يكن خلقه ذاك خلقاً مجرّداً، بل ابتداعاً وإيجاداً وتصويراً علي غير مثال سابق وشبيه. معنی الفطرة لدی: الراغب الأصفهانی و ابن الأثیر و الزمخشریيقول ابن الاثير: جاء في رواية عن ابن عبّاس: قَالَ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ، حَتَّي احْتَكَمَ إلَيَّ أَعْرَابِيَّان [35] فِي بِئْرٍ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا. أَيْ ابْتَدَأْتُ حَفْرَهَا. [36] لقد كان ابن عبّاس رجلاً عربيّاً عالماً وفصيحاً، ولم يكن أعجميّاً ليُحمل عدم معرفته معني الفَطْر علي عدم اطّلاعه علي لغة العرب، بل يتّضح من جهله به ومجيء الاعرابيّ به في كلامه أنّ استعمال هذا اللفظ باشتقاقاته لم يكن معهوداً في اللغة العربيّة وأدبها وأشعارها، وأنّ استعماله كان من مختصّات القرآن الكريم. وقد اهتمّ القرآن الكريم بشكل خاصّ بهذه الكلمة التي أوضح بها في كلّ موضع وردتْ فيه أنّ صنع الربّ الخالق الحكيم كان إبداعاً وصنعاً علي غير شبيه،و كذلك إبداع عوالم الوجود من خلق السماوات والارض وسائر الموجودات. يقول الراغب الاءصفهانيّ في « المفردات »: أَصْلُ الفَطْرِ: الشَّقُّ طُولاَ... وَفَطَرَ اللَهُ الخَلْقَ؛ وَهُوَ إيجَادُهُ الشَّيْءَ وَإبْدَاعُهُ عَلَی هَيْئَةٍ مُتَرَشِّحَةٍ لِفِعْلٍ مِنَ الاَفْعَالِ. وعليه، فإنّ قوله تعالي: فِطْرَتَ اللَهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا إشارة إلي أنّ الله تعالي ركز معرفته في الاءنسان وأوجدها إبداعاً. فـ فِطْرَتَ اللَهِ عبارة عن قوّةٍ منه أودعها في الناس لمعرفة الاءيمان وجبلها في طينتهم، ولذا فإنّهم حين يُسأَلون مَنْ خَلَقهم؟ يقولون: الله: وَلَنءِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَهُ. [37] وقال تعالي: «الَّذِي فَطَرَهُنَّ»، «وَالَّذِي فَطَرَنَا»؛ أَي أَبْدَعَنَا وَأَوْجَدَنَا. يصحّ أن يكون الانفطار في قوله: السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ إشارة إلي قبول ما أبدعها وأفاضه علينا منه. [38] يقول ابن الاثير في « النهاية » في مادّة فَطَرَ: ورد في الحديث النبويّ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَی الفِطْرَةِ؛ [39] الفَطْرُ الابْتِدَاءُ والاخْتِرَاعُ. والفِطْرَةُ: الحَالَةُ مِنْهُ، كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ. والمَعْنَي أَ نَّهُ يُولَدُ عَلَی نَوْعٍ مِنَ الجِبِلَّةِ وَالطَّبْعِ المُتَهَيِّي لِقَبُولِ الدِّينِ؛ فَلَوْ تُرِكَ عَلَیْهَا لاَسْتَمَرَّ عَلَی لُزُومِهَا وَلَمْ يُفَارِقْهَا إلَي غَيْرِهَا. وَإنَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ مَنْ يَعْدِلُ لآفَـةٍ مِنْ آفَـاتِ البَشَـرِ وَالتَّقْلِيـدِ. ثُمَّ تَمَـثَّلَ بِأَوْلاَدِ اليَهُـودِ وَالنَّصَارَي فِي اتِّبَاعِهِمْ لآبَائِهِمْ وَالمَيْلِ إلَي أَدْيَانِهِمْ عَنْ مُقْتَضَي الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَی مَعْرِفَةِ اللَهِ وَالاءقْرَارِ بِهِ. فَلاَ تَجِدُ أَحَدَاً إلاَّ وَهُوَ يُقِرُّ بِأَنَّ لَهُ صَانِعاً، وَإنْ سَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، أَوْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ. ثمّ يقول: وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «وَجَبَّارُ القُلُوبِ عَلَی فِطْرَاتِهَا». أَي عَلَی خِلَقِهَا؛ جَمْعُ فِطَرٍ، وَفِطَرٌ جَمْعُ فِطْرَةٍ؛ أَوْ هِيَ جَمْعُ فَطْرَة كَكَسْرَةٍ وَكِسَرَاتٍ بِفَتْحِ طَاءِ الجَمْعِ، يُقَالُ: فِطْرَاتٌ وفِطَرَاتٌ وفِطِرَاتٌ.[40] وقد سار الزمخشريّ في « أساس البلاغة » علي هذا النهج، فبعد بيانه معني فَطَرَ اللَهُ الخَلْقَ، وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَی الفِطْرَةِ؛ أي علي الجبلّة، يقول: وَقَدْ فَطَرَ هَذَا البِئْرَ. وَفَطَرَ اللَهُ الشَّجَرَ بِالوَرَقِ فَانْفَطَرَ بِهِ وَتَفَطَّرَ. وَتَفَطَّرَتِ الاَرْضُ بِالنَّبَاتِ. وَتَفَطَّرَتِ اليَدُ وَالثَّوْبُ: تَشَقَّقَتْ... [41] إلي آخره. كان هذا تحقيقاً بشأن المعني اللغويّ للفطرة وتفسير الآية المباركة، وقد اتّضح أنّ معني الفطرة بمعني الخلق من العدم، والاءيجاد من العدم المحض، والاءبداع والاختـراع علي غير مثال سابق. ولا حيـلة ولا مهـرب من هذا المعني والمفهـوم من آية الفطرة حسـب أقوال أساطـين العـلم والمتبحّرين بالعربيّة وآدابها؛ وإذا ما أخذ البعض كلمة الفطرة في هذه الآية بمعني الملّة والسنّة والدين فإنّ ذلك كان أيضاً بلحاظ نفس معني الخلقة والسجايا الطبعيّة والروحيّة التي أنشأ الله سبحانه الملّة والشريعة عليها. ويتّضح أيضاً بهذا البيان أنّ ما أورده المعترض في هذا البحث فراراً من الامر الاعتباريّ واستناداً إلي آية الفطرة من: إنّ العلوم لا تمنحنا إلاّ النواهي لا الاوامر، وحين نعلم النواهي فإنّنا سنعلم الواجبات أيضاً بالملازمة. [42] ليس إلاّ دوراناً في حلقة مفرغة ولن يؤدّي إلاّ إلي نفس النتيجة، كمن يدير اللقمة في يده ما شاء من المرّات ثمّ يضعها في النهاية في فمه؛ فكلا الوجوب و النهي أمر اعتباريّ، فإن لم يجز الامر في الوجوبات، فهو كذلك في النواهي فلا تغفل. كان هذا بحثنا عن الموضوع الاوّل والاءشكال الوارد علي صاحب كتاب « دانش و أرزش »( = العلم والقيم) في تفسير آية الفطرة. آیات قرآنیة تشیر إلی استناد الأوامر و الأخلاقیات علی المسائل العلمیةوأمّا بشأن الموضوع الثاني بشأن ادّعائه أن ليس لدينا آية قرآنيّة تأمرنا بشيء أو تنهانا عن شيء حسب مبني المسائل العلميّة وعن طريق الاستنتاج العلميّ، وبكلمة أوجز أ نّه لا يمكن لمقدّمات المسائل الفلسفيّة والطبيعيّة أن تكون طريقاً للوصول إلي الاحكام الشرعيّة والمواعظ الاءلهيّة القرآنيّة؛ فإنّنا نجد ـرغم ادّعائه هذا ـ الكثير من الآياتٍ القرآنيّة من هذا القبيل، ونكتفي بذكر بعضها كأمثلة: 1 ـ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَهِ لِيُرِيَكُم مِّن ءَايَـ'تِهِ إِنَّ فِي ذَ ' لِكَ لاَيَـ'تٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. [43] فانسياب الفلك علي سطح الماء من مسائل العلم، ونتيجتها ـأي لزوم الصبر والشكرـ من الاخلاق. 2 ـ وَمِنْ ءَايَـ'تِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالاْعْلَـ'مِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَی' ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَ ' لِكَ لاَيَـ'تٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. [44] فحركة السفن العملاقة علي سطح الماء بحركة الرياح وتوقّفها إثر سكون الرياح من مسائل العلم، وهي تدعو في النتيجة إلي الاستقامة والصبر الوافر والشكر الكثير، أي الاخلاق. 3 ـ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ و كَانَ تَوَّابًا. [45] فالنصر والظفر الاءلهيّ ودخول الناس أفواجاً في الاءسلام من مسائل العلم، يستلزم علي إثره تسبيح رسول الله وحمد الله وطلب الغفران وهي من مسائل الاخلاق. 4 ـ وَإِنَّهُ و لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ و لَحَسْرَةٌ عَلَی الْكَـ'فِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. [46] تذكرة القرآن للمتّقين، وعلم الباري بالمكذّبين، كون القركن حسرة للكافرين، وكونه في الثبوت والتحقّق حقّ اليقين، كلّ ذلك من مسائل العلم. وتسـبيح رسـول الله صلّي الله عليه وآله وسـلّم باسـم ربّه العظـيم المترتّب عليه بفاء الترتيب، والناتج من ذلك العلم؛ هو عبارة عن الاخلاق. 5 ـ... أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـ'هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ * أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِـُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَـ'هَا تَذْكِرَةً وَمَتَـ'عًا لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ باسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. [47] فظهور الماء علي سطح الارض من هطول المطر، وتحليته وعذوبته، وظهور النار من الشجر لرفع حوائج المحتاجين لها، كلّها من مسائل العلم؛ وتسبيح رسول الله تبعاً لها من مسائل الاخلاق. 6 ـ... وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّـآلِّينَ * فَنُـزُلٌ مِّنْ حَمِـيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـ'ذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. [48] فمكان ومنزلة المقرّبين من الباري سبحانه وهو الروح والريحان وجنّة النعيم، والسلام الذي يقترن به أصحاب اليمين، والحميم ومعادن جهنّم المصهورة، واستقرار المكذّبين الضالّين في الجحيم، وثبوتها وحقّانيّتها هي جميعها من مسائل العلم، وفي النتيجة أمر الخالق سبحانه رسوله بتسبيح اسم ربّه العظيم مسألة أخلاقيّة. 7 ـ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَی' مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَـ'رَ السُّجُودِ. [49] فخلق السماوات والارض وما بينهما في يسر وسهولة في ستّة أيّام من مسائل العلم، وعلي إثرها وجوب الصبر من قبل رسول الله وأمره به مقابل كلام المشركين غير المستساغ، وتسبيحه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقدراً من الليل وأدبار السجود جميعها من مسائل الاخلاق، ومن الاعتباريّات الاخلاقيّة المترتّبة علي الحقائق. 8 ـ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّي * فَاصْبِرْ عَلَی' مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِن ءَانَآيءِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَي'. [50] فعدم سبق الكلمة الاءلهيّة التكوينيّة والاءرادة الحتميّة السبحانيّة والاجل المسمّي الذي قدّره الله سبحانه، وعدم لزوم العذاب وتحقّقه في الدنيا قبل الموت من المسائل العلميّة؛ وصبر رسول الله واحتماله لاقوال المعاندين، وتسبيحه وحمده خالقه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وراء الاُفق، وآناء من الليل وفي أطراف النهار هي كلّها من الاخلاقيّات والاوامر الاءلهيّة الاعتباريّة والمترتّبة علي مسائل العلم تلك. 9 ـ وَهُوَ الَّـذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّـوْمَ سُـبَاتًا وَجَـعَلَ النَّـهَارَ نُشُورًا. [51] إنّ جَعْل الليل مظلماً في حكم اللباس والستر، والنوم باعثاً علي الهدوء والراحة، وجَعْل النهار مضيئاً للعمل والنشاط من مسائل العلم، واستراحة الاءنسان ليلاً وسعيه ونشاطه نهاراً من الاخلاق. 10 ـ وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم بشأن الرجل والمرأة وتكاليفهـما المخـتلفة حسـب اختـلاف البنية الطبيعـيّة والمـزاج والنظـام الوجوديّ، تتعلّق بمسائل النكاح والطلاق والميراث والنفقة والرضاع والعدّة وكيفيّة العبادة، كاجتناب الصلاة والصيام أيّام الطمث، ووجوب الحجاب من الرجال من غير المحارم وغيرها، وهي تدلّ بأجمعها علي اختلاف هذه الاحكام علي أساس الاختلاف في البنية الوجوديّة والطبيعيّة لهما. وعليه، فإنّ اختلاف البنية والنظام المادّيّ والروحيّ للرجل والمرأة هو من مسـائل العلم، وترتّـب الاحكام المخـتلفة علي ذلـك من مسـائل الاخلاق، وقد استخدمت تلك المسائل العلميّة في هذه الآيات بشكل واضح في قياس إجراء الاحكام الاخلاقيّة والامر والنهي والضمان والملكيّة وغيرها، حيث إنّها جميعاً من الاعتباريّات. ولا كلام لدينا في التقييم، فعاقبة الامر أنّ الناس يُساقون إلي الجنّة علي أساس مقدار التقوي والامر الصالح، الرجل والمرأة علي حدٍّ سواء: مَنْ عَمِلَ صَـ'لِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَي' وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ و حَيَو'ةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. [52] ولكنّ الكلام حول اختلاف الاحكام تبعاً لمبني اختلاف البُنية الوجوديّة، أي اختلاف مسائل الاخلاق وتفاوت الاعتبار علي أساس تفاوت واختلاف مسائل الطبيعة والعلم. ولا شكّ ولا تردّد في هذا الامر، ومع ذلك فقد كان لمؤلّف كتاب « دانش وأرزش » خبط واشتباه فيه، فقد تنكّب عن الجادّة في هذه المسألة البيّنة فقال: لا شأن لنا بأيّ لحاظٍ كان اختلاف مسائل المرأة والرجل، فما هو موجود فعلاً تساويهما في القيمة التقوائيّة. ونورد عين عبارته ليتّضح خلطه ومغالطته للعيان: مغالطة کتاب «دانش و أرزش» فی سبب اختلاف حقوق الرجل و المرأةومن هنا ينبغي العلم بأنّ اختلافات الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة مثلاً لم تكن بسبب الاختلافات في الجسم والطبع بنظر القرآن في تقييمه لتلك الاختلافات. فما ميّز بين حقوق الرجل والمرأة أساساً هو النظرة الواقعيّة الاخلاقيّة والعزم علي اجتناب التكليف بما يفوق الطاقة والتحمّل، فلمتُفرض علي كلّ من الرجل والمرأة واجبات تفوق حدود طاقتهما، وهذا هو أساس نشوء اختلاف حقوقهما. ولا زال هناك الكثير ممّن يتصوّر أنّ مرجع اختلاف حقوق المرأة والرجل في القرآن إلي اختلافهما في التقييم في نظر المقنّن والمشرّع، وأنّ في ذلك إشارة إلي تفوّق أحدهما وضِعَة الآخر. لذا، ينبغي أن تفضح صراحةُ الآية السابقة [53] والآيات الاُخري المشيرة إلي تساوي الرجل والمرأة عند الخالق بطلان هذا التصوّر المهين. إنّ الاختلافات الحقوقيّة للمرأة والرجل في الاءسلام مهما كان سببها، فهي حتماً غير ناشئة من تفاوت قيمتهما المعتبرة، فالكرامة والقيمة والقدر في نظر القرآن أمر مختصّ بالتقوي وحدها، ولقد كان منظار الاخلاق العلميّة هو المسبّب لعجز البعض عن تفسير تفاوت الحقوق إلاّ بمعني تفاوت القيمة، وتفاوت القيمة إلاّ باختلاف البُنية الطبيعيّة. [54] ويلاحظ في العبارات السابقة كيف خلط المؤلّف البحث، فحاول إظهار اختلاف المرأة والرجل في أفكار المفكّرين القرآنيّين علي أ نّه حسـب مبني اختـلافهما في القيمة والقدر، ثمّ قام برفضـه، مع أنّ كلامـنا لميكن أساساً في موضوع اختلاف القيمة والقدر، بل في اختلاف الحقوق والاحكام والاءرث والنفقة وعدم الجهاد والقضاء والحكومة ونظائرها، وهي مسائل أخلاقيّة اعتباريّة محضة رُتّبت من وجهة النظر القرآنيّة علي أساس المسائل العلميّة والطبيعيّة للمرأة والرجل. الارجاعات: [1] ـ كتاب «دانـش و أرزش»(= العلم والقيم)، للدكتـور عبد الكريم سروش، ص 12 و 13، الطبعة الثانية. [2] ـ «دانش و أرزش» ص 13. [3] ـ «دانش و أرزش» ص 14. [4] ـ «دانش و أرزش» ص 15. [5] ـ «دانش و أرزش» ص 243. [6] ـ «دانش و أرزش» ص 244. [7] ـ «دانش و أرزش» ص 245. [8] ـ «دانش و أرزش» ص 245. [9] ـ «دانش و أرزش» ص 245 و 246. [10] ـ «أُصول فلسفة وروش رئاليسم» للسيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، تقديم وتعليق مرتضي المطهريّ، طهران، 1332. [11] ـ «دانش و أرزش»، ص 259. [12] ـ «أُصول وروش رئاليسم» ص 153 و 154. [13] ـ «دانش و أرزش»، ص 259 و 260. [14] ـ «دانش و أرزش» ص 263 و 264. [15] ـ «دانش و أرزش» ص 265. [16] ـ(أُصول فلسفه)، ص 199 و 200. [17] ـ «دانش و أرزش» ص 267. [18] ـ «دانش و أرزش» ص 268 و 269. [19] ـ «دانش و أرزش»، ص 270. [20] ـ «دانش و أرزش» ص 270 و 271. [21] ـ «دانش و أرزش» ص 271. [22] ـ «أُصول فلسفه» ج 2، ص 151. [23] ـ يقول:«المقدّم(في القياس) كالاب،والتالي كالاُمّ،والنتيجة أيّها الاخ هي الولد». [24] ـ قسم من الآية 30، من السورة 30: الروم. [25] ـ صدر الآية 30، من السورة 30: الروم. [26] ـ كتاب «دانش و أرزش» ص 275. [27] ـ كتاب «دانش و أرزش» ص 289. [28] ـ الآيات 29 إلي 32، من السورة 30: الروم. [29] ـ «دانش و أرزش»(= العلم والقيم) ص 320. [30] ـ «دانش و أرزش» ص 321. [31] ـ في الآية 56، من السورة 21: الانبياء. [32] ـ قسم من الآية 79، من السورة 6: الانعام. [33] ـ صدر الآية 18، من السورة 73: المزّمّل. [34] ـ الآية 1، من السورة 82: الانفطار. [35] ـ الاعرابيّ هو من سكن البادية، وجمعه أعراب؛ أمّا العَرَب فيُجمعون علي عُرْب لا أعراب. [36] ـ «النهاية» لابن الاثير، مادة فَطَرَ، ج 3، ص 457. [37] ـ قسم من الآية 87، من السورة 43: الزخرف. [38] ـ «المفردات» للراغب، ص 382، طبعة حلبي ـ مصر، تعليق محمّد سيّد الگيلانيّ. [39] ـ روي في «إحياء العلوم» ج 3، ص 13، عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم أ نّه قال: كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَي الفِطْرَةِ؛ وَإنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ. وورد في تفسير «روح البيان» ج 7، ص 31، الطبعة الجديدة، جزء 21، سورة الروم، بهذه العبارة: قَوْلُهُ عَلَيهِ السَّلاَمُ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ وَقَدْ يُولَدُ عَلَي فِطْرَةِ الاءسْلاَمِ؛ ثُمَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ حَتَّي تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا. ويقول في «أقرب الموارد» في مادّة جَدَع: جَدَعَ يَجْدَعُ بمعني قطع الانف، ويستعمل مجازاً في قطع الاُذن والانف واليد. [40] ـ «النهاية» لابن الاثير؛ ج 3، ص 457. [41] ـ «أساس البلاغة» ص 344. [42] ـ «دانش و أرزش» ص 289 إلي 293، القسم الرابع، النظرة الواقعيّة الاخلاقيّة. [43] ـ الآية 31، من السورة 31: لقمان. [44] ـ الآيتان 32 و 33، من السورة 42: الشوري. [45] ـ الآيات 1 إلي 3، من السورة 110: النصر. [46] ـ الآيات 48 إلي 52، من السورة 69: الحاقّة. [47] ـ الآيات 68 إلي 74، من السورة 56: الواقعة. [48] ـ الآيات 92 إلي 96، من السورة 56: الواقعة. [49] ـ الآيات 38 إلي 40، من السورة 50: ق. [50] ـ الآيتان 129 و 130، من السورة 20: طه. [51] ـ الآية 47، من السورة 25: الفرقان. [52] ـ الآية 97، من السورة 16: النحل. [53] ـ المقصود بالآية السابقة هي: يَـ'´أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ'كُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَي' وَجَعَلْنَـ'كُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَـارَفُو´ا إِنَّ أَكْرَمَـكُمْ عِندَ اللَهِ أَتْقَـ'كُـمْ إِنَّ اللَهَ عَلِيمٌ خَبِـيرٌ.(الآية 13، من السورة 49: الحجرات). وكما نلاحظ فهذه الآية لا تفرّق بين الرجل والمرأة، كما لا تفرّق بين السيّد والسيّدة والغلام والجارية من جهة المقام والقيمة المعنويّة وسلوك طريق التقوي والقرب من ربّ العزّة سبحانه، لا أ نّها تسـاوي بينهم من جهة الاحكام والواجـبات والقوانين. وكلامنا فعلاً في الجهة الثانية لا الاُولي. [54] ـ «دانش و أرزش» ص 323 و 324. |
|
|