بسم الله الرحمن الرحيم

نظرة علي مقاله بسط و قبض نظرية الشريعة / القسم التاسع:الاشکال السابع: استناد العلل الطبیعیة الی العلل المجردة، وظائف الملائکة

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

 الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

الإشکال السابع

برهان‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ في‌ استناد العلل‌ الطبيعيّة‌ إلي‌ العلل‌ المجرّدة‌

 

 الاءشكال‌ السابع‌: عدم‌ إدراكه‌ واستيعابه‌ لمقولة‌ الاُستاذ آية‌الله‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ الشريف‌ في‌ سرّ اتّخاذ العلل‌ الطوليّة‌ من‌ جانب‌ ربّ العزّة‌ تعالي‌ لاءيجاد الاُمور الخارجيّة‌ والحوادث‌ الكونيّة‌، في‌ إثبات‌ عدم‌ تنافي‌ إسناد الجنون‌ إلي‌ بعض‌ الاُمور الطبيعيّة‌ المحسوسة‌ وإلي‌ بعض‌ الاُمور الخفيّة‌.

 فقد بيّن‌ الاُستاذ العلاّمة‌ في‌ هذا المجال‌ أعلي‌ المطالب‌ الفلسفيّة‌ والعرفانيّة‌ والقرآنيّة‌، أي‌ وجود سلسلة‌ العلل‌ الطوليّة‌ بين‌ الذات‌ القدسيّة‌ للحـضرة‌ الاحديّة‌ ـأي‌ الواحد الاحد، ذاتاً وصفةًـ وبين‌ الموجـودات‌ والحادثات‌ الكثيرة‌ والمختلفة‌ لهذا العالم‌، وقدّم‌ حلاّ لهذا الاءشكال‌ يتعذّر بدونه‌ حلّ مسألة‌ كيفيّة‌ نشأة‌ الكثرة‌ من‌ الوحدة‌، والحادث‌ من‌ القديم‌، والمادّي‌ّ من‌ المجرّد، والطبيعي‌ّ من‌ النور المحض‌.

 فهذه‌ كتب‌ العلم‌ والفلسفة‌ قديمها وجديدها في‌ متناول‌ أيدينا، كلُّها قد عجزت‌ وتعثّرت‌ في‌ كيفيّة‌ حدوث‌ الحادث‌ من‌ المجرّد، والاستناد إلي‌ العلّة‌ البسيطة‌، اللهمّ إلاّ تلك‌ الكتب‌ التي‌ نهجت‌ نهج‌ العلاّمة‌ واختطّت‌ أُسلوبه‌.

 فالمادّيّون‌ الذين‌ عجزوا عن‌ الجمع‌ بين‌ علّتين‌ مادّيّة‌ ومعنويّة‌، أراحوا أنفسهم‌ تماماً وتنصّلوا من‌ قبول‌ إله‌ قادر قاهر عليم‌ حكيم‌ مختار مريد، وأنكروا وجود الخالق‌ العليم‌.

 أمّا الاءلهيّون‌ فانقسموا مدارس‌ واتّجاهات‌ مختلفة‌، فمنهم‌ من‌ أنكر العلل‌ المعنويّة‌ وحصر العامل‌ بهذه‌ العلل‌ المادّيّة‌، ومنهم‌ من‌ أنكروا العلل‌ المادّيّة‌ واعتبر أنّ العلل‌ المعنويّة‌ فقط‌ هي‌ المؤثّرة‌ في‌ العالم‌.

 وبقي‌ أُولئك‌ القائلون‌ بالعلل‌ الطبيعيّة‌ والعلل‌ المعنويّة‌ ـكليهماـ عاجـزين‌ عن‌ بيـان‌ كيفـيّة‌ ارتباطـهما وتأثـيـرهما علي‌ بعضـهما، فبقـيت‌ مطالبهم‌ مشـتّتة‌ ومتفـرّقة‌، لم‌ يقـدّموا نهجاً قويماً ولا سبيلاً متيناً عارياً عن‌ التناقض‌ في‌ القول‌ أو التهافت‌ في‌ الاستدلال‌.

 أمّا القول‌ بالعلل‌ المادّيّة‌ التي‌ توجبها الضرورة‌ والمشاهدة‌، والقول‌ بتبعيّتها للعلل‌ المعنويّة‌ تبعاً لضرورة‌ البرهان‌ وضرورة‌ الكشف‌ بالعيان‌، وصولاً إلي‌ الواحد الحي‌ّ القيّوم‌ الذي‌ هو نفسه‌ المبدي‌ والمنشي‌ والمُعيد والمَعاد، فهو أشـبه‌ بالماء الصـافي‌ الزلال‌ البارد الهنـي‌ء الذي‌ ينسـاب‌ في‌ حرّ تمّوز اللاهب‌ علي‌ الاكباد الحرّي‌ للباحثـين‌ عن‌ وادي‌ الرواء وكأس‌ المعرفة‌، يحلّ جميع‌ الإشكالات‌، ويبرهن‌ بداهةً علي‌ الاشياء التي‌ تبدو بعيدة‌ عن‌ التحقّق‌.

 فهو من‌ جهة‌ يوافق‌ علي‌ سلسلة‌ العلّيّة‌ بقوامها واستحكامها هذا ويعتقد بصحّتها، ومن‌ جهة‌ أُخري‌ يستدلّ ويبرهن‌ علي‌ وحدة‌ علّة‌ العلل‌ بتمام‌ معني‌ الكلمة‌، سواء الوحدة‌ في‌ الذات‌ أم‌ في‌ الصفات‌، أم‌ في‌ الافعال‌.

 لذا، فإنّ القول‌ بسلسلة‌ العلل‌ الطوليّة‌ له‌ ما يدعمه‌ من‌ الناحية‌ الفلسفيّة‌ والعرفانيّة‌ والقرآنيّة‌، وهو الحلّ الامثل‌ لعقد المشكلات‌ المستعصية‌ والمسائل‌ الغامضة‌ العسيرة‌ في‌ باب‌ الكلام‌ والحكمة‌، ولا مفرّ للشخص‌ الباحث‌ ولا مناص‌ له‌ من‌ قبوله‌ والتسليم‌ به‌ روحاً وقلباً كي‌ يمكنه‌ الوصول‌ للحقائق‌.

 فإن‌ نحن‌ فصلنا بين‌ تأثير الدواء وتأثير الميكروب‌ وبين‌ العلل‌ الطبيعيّة‌، فسنكون‌ قد جانبنا الصواب‌، وإن‌ نحن‌ أنكرنا تأثير الله‌ سبحانه‌ فيهما، فسنكون‌ قد جانبنا الصواب‌ أيضاً. أمّا لو قلنا بأنّ تأثير الدواء والميكروب‌ من‌ الله‌ سبحانه‌، لصار منطقنا سليماً صائباً، سواء اعتبرنا بين‌ الميكروب‌ والدواء وبين‌ الله‌ سبحانه‌ واسطة‌ مثل‌ ملائكة‌ الرحمة‌ أو جانّ النقمة‌ أم‌ لم‌ نعتبر. فالمهمّ في‌ الامر هو الاعتراف‌ بطوليّة‌ العلل‌، لا نّنا حين‌ نعتقد بذلك‌ فإن‌ مسألة‌ الملائكة‌ والجانّ ستثبت‌ هي‌ الاُخري‌ وتصبح‌ مسألة‌ مقبولة‌.

 ولكن‌ لعدم‌ إدراك‌ صاحب‌ المقالة‌ لروح‌ هذا المطلب‌، فقد أشكل‌ علي‌ العلاّمة‌ إسناده‌ بعض‌ أنواع‌ الصرع‌ إلي‌ الميكروب‌، وفي‌ نفس‌ الوقت‌ إلي‌ الشيطان‌ أيضاً. ويلزمنا ـإيضاحاً للامرـ أن‌ نورد عين‌ كلامه‌ ثمّ نتطرّق‌ إلي‌ مناقشته‌، فقد قال‌:

 الرجوع الي الفهرس

اشکال صاحب المقالة علی قول الأستاذ العلامة الطباطبائی قدس سره

(ومضافاً إلي‌ ذلك‌، فقد قال‌ المرحوم‌ الطباطبائي‌ّ: أوّلاً: إنّ القدر المتيقّن‌ من‌ دلالة‌ الآية‌ هو أنّ بعض‌ أنواع‌ الجنون‌ ـعلي‌ الاقلّـ مسبّب‌ عن‌ مسّ الجنّ. وثانياً: إنّ إسناد الجنون‌ ونسبته‌ إلي‌ علل‌ معيّنة‌ ـكمسّ الشـيطان‌ـ لا يسـتلزم‌ إبطال‌ العلل‌ الطبيعـيّة‌، بل‌ إنّ تلك‌ العلل‌ غير الطبيعيّة‌ أعلي‌ وفي‌ طول‌ العلل‌ الطبيعيّة‌، لا في‌ عرضها.

 ونلحظ‌ كيف‌ حُلّت‌ مشكلة‌ التعارض‌ مع‌ العلم‌ الطبيعي‌ّ بالتوسّل‌ بعـدّة‌ قواعد فلسـفيّة‌، وهي‌ أوّلاً: أنّ أساس‌ العلّـيّة‌ جارٍ في‌ العالم‌، وثانياً: أ نّنا نمتلك‌ عللاً طوليّة‌ متدرّجة‌، وثالثاً: أنّ العلل‌ غير المادّيّة‌ لاتحلّ محلّ العلل‌ المادّيّة‌ والطبيعيّة‌، وأنّ الفعل‌ يمكن‌ أن‌ يستند في‌ آن‌ واحد لكليهما. لذا يجب‌ فهم‌ الآية‌ بالشكل‌ الذي‌ لا تعطي‌ فيه‌ معني‌ نفي‌ العلل‌ الطبيعيّة‌ أو المسّ المادّي‌ّ والمباشر للشيطان‌.

 وهو معني‌ جديد وبالطبع‌ معني‌ عميق‌ متعال‌، لكنّه‌ يمثّل‌ فهماً تحقّق‌ في‌ ضوء تلك‌ الاُسس‌ الفلسفيّة‌(التي‌ كانت‌ من‌ بين‌ معتقدات‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ وليست‌ أبداً من‌ ضرورات‌ الدين‌)؛ لكنّ نفي‌ العلّيّة‌ في‌ العالـم‌(علي‌ الاقلّ بأُسـلوب‌ الاشـاعرة‌) أو عدم‌ القـبول‌ بالعلّـيّة‌ الطوليّة‌، واعتبارها أمراً لا يمكن‌ إدراكه‌ وتصوّره‌ أصلاً، وكذلك‌ القول‌ بالتدخّل‌ المباشر للموجودات‌ المادّيّة‌ في‌ العالم‌(كما يري‌ الكثير من‌ المتكلّمين‌)، أو عدم‌ القول‌ بالموجودات‌ المادّيّة‌ والمفارقة‌، واعتبار الروح‌ وإبليس‌ والمَلَك‌ ـخلافاً للحكماء ـ مادّة‌ لطيفة‌(كما يري‌ الكثير من‌ المتكلّمين‌ والمحدّثين‌)، كلّ هذه‌ الاُمور تؤدّي‌ إلي‌ عدم‌ إعطاء الآية‌ معني‌ كما أراده‌ المرحوم‌ الطباطبائي‌ّ. [1]

 وقوله‌ هذا مخدوش‌ من‌ عدّة‌ جهات‌:

 الجهة‌ الاُولي‌: أ نّه‌ مع‌ تصريحه‌ واعترافه‌ أنّ تعليل‌ العلاّمة‌ هذا هو معني‌ عميق‌ متعال‌، أي‌ أ نّه‌ لم‌ يستطع‌ الردّ عليه‌ من‌ جهة‌ فنّ الاستدلال‌، لكنّه‌ يقول‌ بأ نّه‌ كان‌ من‌ إيحاءات‌ ذهن‌ العلاّمة‌ وليس‌ من‌ ضروريّات‌ الدين‌، لانّ الاشاعرة‌ والكثير من‌ المتكلّمين‌ والمحدّثين‌ لا يقبلون‌ به‌.

 وينبغي‌ أن‌ نسأل‌ أوّلاً: أيتوجّب‌ أن‌ يكون‌ ما يصوغه‌ الشخص‌ الحكيم‌ والمحقّق‌ في‌ قالب‌ البرهان‌، ويستدلّ عليه‌ إثباتاً مقبولاً سائغاً للجميع‌، ولو كانت‌ مقدّماتهم‌ الاستدلاليّة‌ فاسدة‌ ومخدوشة‌؟ أكان‌ يتوجّب‌ أن‌ لايكون‌ هناك‌ مخالف‌ لما برهن‌ عليه‌ ابن‌ سينا أو الخواجة‌ نصيرالدين‌ أو صدرالمتأ لّهين‌ في‌ باب‌ الاءلهيّات‌؟ أكان‌ يتوجّب‌ أن‌ يقضي‌ علي‌ جميع‌ المادّيّين‌ والطبيعيّين‌ في‌ العالم‌؟ أم‌ أنّ علينا حين‌ نري‌ حاليّاً وجود الكثير من‌ أصناف‌ المادّيّين‌ أن‌ نقول‌ بأنّ مقدّمات‌ برهان‌ أُولئك‌ الحكماء من‌ أهل‌ التوحيد كانت‌ خاطئة‌، وإنّ ذلك‌ يستتبع‌ أن‌ يكون‌ أصل‌ الاعتقاد بوحدة‌ الحقّ تعالي‌ أمر خاطي‌؟!

 وحين‌ نقول‌ إنّ الحقّ في‌ الولاية‌ كان‌ لامير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌، أفتستلزم‌ واقعيّة‌ هذا الامر أن‌ لا يكون‌ هناك‌ مخالف‌ لهذه‌ المسألة‌؟ أفإن‌ علمنا أنّ أبا بكر وعمر وأتباعهما لم‌ يقبلوا بهذا الامر في‌ زمن‌ حياة‌ رسول‌الله‌، فإنّ علينا أن‌ نقول‌ إنّ أصل‌ الولاية‌ والخلافة‌ والاءمامة‌ أمر مخدوش‌؟!

 وإذا قلنا: إنّ النبي‌ّ الاكرم‌ محمّد بن‌ عبد الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ كان‌ آخر الانبياء المرسلين‌ بالوحي‌ المنزل‌ من‌ قبل‌ ربّ العزّة‌؛ أفيمكننا القول‌ إنّ هذا الكلام‌ سيكون‌ مقبولاً إذا قبل‌ به‌ جميع‌ اليهود والنصاري‌، وبما أ نّهم‌ لم‌ يقبلوا به‌ فعلاً، وبما أنّ هناك‌ ملايين‌ من‌ البشر المعادين‌ للاءسلام‌ في‌ العالم‌. إذنّ، الاءسلام‌ ليس‌ آخر الاديان‌؟! وبأنّ نبيّنا الاكرم‌ ليس‌ خاتم‌ الرسل‌؟!

 وأساساً، فما معني‌ أن‌ يقول‌ امري‌ بأنّ الكلام‌ ـمهما كان‌ـ هو صحيح‌ حين‌ يقبل‌ به‌ الجميع‌ فعلاً؟ فهذا الكلام‌ غلط‌ وخاطي‌ بتمام‌ معني‌ الكلمة‌، بل‌ يكون‌ الكلام‌ متيناً صحيحاً حين‌ يكون‌ قابلاً للقبول‌، ويكون‌ قد صُبّ علي‌ أساس‌ المقدّمات‌ البرهانيّة‌ والاوّليّات‌ والمسلّمات‌ والبديهيّات‌. إذ سيكون‌ حينداك‌ صحيحاً، سواء قبله‌ أحد بالفعل‌ أم‌ لم‌ يقبل‌ به‌.

 ولقد كان‌ هناك‌ كلام‌ صحيح‌ كثير في‌ هذا العالم‌ لم‌ يقبل‌ به‌ أحد، لانّ القبول‌ ينبغي‌ أن‌ يحصل‌ عن‌ حسن‌ عقيدة‌ وصفاء نفس‌ السامع‌ وإدراكه‌ وتعقّله‌ لذلك‌ المطلب‌، وإلاّ فإنّه‌ سيرفضه‌.

 أكانت‌ صحيحة‌ تلك‌ الاقوال‌ والآراء التي‌ أبداها الاشاعرة‌ والكثير من‌ المتكلّمين‌ والمحدثّين‌ في‌ هذا الباب‌ ودوّنوها في‌ كتبهم‌؟

 لقد كان‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌ علي‌ الحقّ، ولو طيف‌ برأسه‌ من‌ بلد إلي‌ بلد، أو وضع‌ في‌ محفل‌ يزيد فاحتسي‌ عنده‌ الخمر، أو أُ لِّف‌ في‌ يومنا هذا في‌ المملكة‌ العربيّة‌ السعوديّة‌ كتاب‌ باسم‌ «حقائق‌ أميرالمؤمنين‌ يزيد» فدُرِّس‌ في‌ المدارس‌!

 ومن‌ هنا، فإن‌ الكلام‌ الراسخ‌ والصحيح‌ هو القائم‌ علي‌ أساس‌ من‌ البرهان‌ القويم‌ والبيّنة‌ الاءلهيّة‌، فهذه‌ المقدّمات‌ البرهانيّة‌ تلزم‌ البشر بالقبول‌ وتدينه‌ في‌ محكمة‌ العدل‌ الاءلهي‌ّ، ولا علاقة‌ في‌ الامر بالقبول‌ أو عدم‌ القبول‌ الفعـلي‌ّ. وحين‌ يبـيّن‌ العلاّمة‌ مطـلباً فيثـبت‌ فيه‌ العـلل‌ الطـوليّة‌ المادّيّة‌ والمجـرّدة‌ وصولاً إلي‌ الحضرة‌ الاحديّة‌، وينشي‌ هذا المطلب‌ علي‌ أُسس‌ البرهان‌ وعلي‌ أساس‌ الاستفادة‌ من‌ صريح‌ الآيات‌ القرآنـيّة‌ المـباركة‌، ويُظهر كالشمس‌ ضرورة‌ هذه‌ الحقيقة‌، فإنّ قوله‌ راسخ‌ ومتين‌ وقول‌ سواه‌ فاسد مهزوز، أشعرياً كان‌ أم‌ متكلّماً أم‌ محدّثاً، وسواء كان‌ مثل‌ كانْت‌ أم‌ مثل‌ ديكارت‌.

 لقد سار جميع‌ الفلاسفة‌ السابقين‌ علي‌ هذا النهج‌: أن‌ يرتّبوا تبعاً للنتائج‌ الفكريّة‌ التي‌ يتوصّلون‌ إليها مقدّمات‌ معيّنة‌، ويؤلِّفوا في‌ ذلك‌ الكتب‌، فيقدّم‌ كلّ منهم‌ مطلباً علي‌ هذا الاساس‌، وللمخالف‌ أن‌ يشكّك‌ فقط‌ في‌ مقدّماته‌ البرهانيّة‌، أو أن‌ يردّها إن‌ قدر علي‌ ذلك‌، لا أن‌ يتوقّف‌ خلف‌ متراس‌ الجهل‌، فيعلن‌ عدم‌ قبوله‌.

 الرجوع الي الفهرس

القرآن یقول بالعلل الطبیعیة للحوادث، و یعتبرها راجعة الی الله تعالی

 الجهة‌ الثانية‌: لقد أثبت‌ العلاّمة‌ في‌ تفسيره‌ مفصّلاً سلسلة‌ العلل‌ المادّيّة‌ وارتباطها بالعلل‌ المجرّدة‌ المعنويّة‌ والنوريّة‌، وانتهاءها أخيراً إلي‌ ذات‌ الحقّ القدسيّة‌؛ فالقول‌ بطوليّة‌ العلل‌ هي‌ من‌ ضروريّات‌ برهانه‌ المتين‌ ودليله‌ القويم‌.

 وقد أوضح‌ هذه‌ الحقيقة‌ بشكل‌ ساطع‌ في‌ الجزء الاوّل‌ من‌ تفسير « الميزان‌ »، ضمن‌ مقالة‌ بشأن‌ معني‌ المعجزة‌ وكيفيّة‌ تأثيرها في‌ أبحاث‌ سبعة‌، وأورد علي‌ ذلك‌ شواهد من‌ آيات‌ القرآن‌ لم‌ تبقِ مجالاً للشكّ؛[2] فلِمَندّعِ في‌ هذه‌ الحالة‌ بأنّ القول‌ بالعلل‌ الطوليّة‌ ليس‌ من‌ ضروريّات‌ الدين‌؟ أو هناك‌ أساس‌ للدين‌ غير الكتاب‌ الاءلهي‌ّ؟

 وإذا اتّضح‌ هذا المعني‌ بربط‌ وتفسير آيات‌ القرآن‌، أفلا يكون‌ بعدُ من‌ ضروريّات‌ الدين‌؟!

 يقول‌ القرآن‌ بوجود أسباب‌ وعلل‌ للحوادث‌ الطبيعيّة‌، ويقرّ قانون‌ العلّيّة‌ العامّ، كما أنّ العقل‌ يثبت‌ هذا المعني‌، والتجربة‌ تشير إلي‌ أنّ أي‌ّ احتراق‌ أينما حصل‌ فلابدّ من‌ علّة‌ تسبّبه‌، سواء كانت‌ تلك‌ العلّة‌ حركة‌ أم‌ احتكاكاً أم‌ غير ذلك‌. لذا، فالكلّيّة‌ وعدم‌ تخلّفها من‌ أحكام‌ العلّيّة‌ والمعلوليّة‌ ولوازمها.

 ولقد أفصح‌ القرآن‌ الكريم‌ عن‌ روابط‌ العلّيّة‌ المادّيّة‌ في‌ أقواله‌ وفي‌ سياق‌ بيانه‌ وأُسلوبه‌ في‌ مسائل‌ الحياة‌ والموت‌ والرزق‌، ونزول‌ المطر ونشوء العشب‌ والزرع‌ والشجر، وجريان‌ الماء، وفي‌ جميع‌ الحوادث‌ السماويّة‌ والارضيّة‌، ولو أ نّه‌ أسند تلك‌ الروابط‌ في‌ الخاتمة‌ ـعلي‌ أساس‌ مسألة‌ التوحيدـ إلي‌ الله‌ المتعال‌.

 كما فعل‌ في‌ آية‌: إِنَّ فِي‌ خَلْقِ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ وَاخْتِلَـ'فِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي‌ تَجْرِي‌ فِي‌ الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن‌ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن‌ كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَـ'حِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالاْرْضِ لاَيَـ'تٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. [3]

 وكآية‌: اللَهُ الَّذِي‌ خَلَقَ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَ ' تِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي‌ الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الاْنْهَـ'رَ. [4]

 حتّي‌ أ نّه‌ يصرّح‌ في‌ موضعين‌ من‌ القرآن‌ بأنّ هذه‌ الفُلك‌ التي‌ تحملكم‌ علي‌ الماء بُنيت‌ علي‌ هيئة‌ جُعل‌ فيها مقدّمها حادّاً قاطعاً ليمكنه‌ بذلك‌ شقّ الماء في‌ سيره‌ وجريانه‌ في‌ البحر؛ وقد استخدم‌ هذا النوع‌ من‌ الهياكل‌ للسـفن‌ والطائـرات‌ تقليداً لاُسلوب‌ خلقة‌ الطيور التي‌ يمكنها شقّ طريقها في‌ الجوّ بسرعة‌ لقلّة‌ سطح‌ تماسّها مع‌ الهواء عند حركتها.

 أي‌ أنّ تأثير ودخل‌ مَاخِرَة‌ [5]( أي‌ طراز وهيئة‌ مقدّمة‌ السفينة‌) يوجب‌ حركة‌ السفينة‌ بيسر، فلم‌ يكن‌ القرآن‌ الكريم‌ ليدع‌ بيان‌ هذه‌ العلّيّة‌ أيضاً.

 لقد جاء لفظ‌ مواخر؛ أي‌ جمع‌ ماخرة‌؛ في‌ موضعين‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌ أوّلهما في‌ سورة‌ النحل‌: وَتَرَي‌ الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلَتَبْتَغُوا مِن‌ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.[6]

 وثانيهما في‌ سورة‌ فاطر: وَتَرَي‌ الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. [7]

 حتّي‌ أ نّه‌ بيّن‌ العلّة‌ في‌ خلق‌ الجبال‌ في‌ أ نّها كالاوتاد تثبّت‌ الارض‌ وتمسكها عن‌ التلاشي‌ والانهيار والمَيَدان‌:

 أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَـ'دًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا. [8]

 وَأَلْقَي‌' فِي‌ الاْرْضِ رَوَ ' سِـيَ أَن‌ تَمِـيدَ بِكُـمْ وَأَنْهَارًا وَسُـبُلاً لَّعَـلَّـكُمْ تَهْتَدُونَ. [9]

القرآن یعتبر العلل الطبیعیة تحت العلل المجردة، و مستندة الیها

 كان‌ هذا كلّه‌ راجعاً لتصريح‌ القرآن‌ الكريم‌ بشأن‌ العلل‌ الطبيعيّة‌ والمادّيّة‌، أمّا بشأن‌ العلل‌ المجرّدة‌ وما وراء عالم‌ المادّة‌ والطبيعة‌، كوجود الملائكة‌ الذين‌ يمثّلون‌ واسطة‌ الفيض‌ من‌ جانب‌ الحقّ تعالي‌ في‌ تدبيرات‌ جميع‌ أُمور عالم‌ الخلق‌، فآيات‌ القرآن‌ واضحة‌ في‌ ذلك‌ وبيّنة‌ يمكن‌ عدّها من‌ ضروريّات‌ هذا الكتاب‌ السماوي‌ّ، فسورة‌ فاطر المباركة‌ تبدأ بهذه‌ الآية‌:

 الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ جَاعِلِ الْمَلَـ'´نءِكَةِ رُسُلاً أُولِي‌´ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَي‌' وَثُلَـ'ثَ وَرُبَـ'عَ يَزِيدُ فِي‌ الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَهَ عَلَی‌' كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. [10]

 الرجوع الي الفهرس

القرآن یعتبر الملائکة واسطة التدبیر بین الله و عالم الخلق

 الملائكة‌ جمع‌ مَلَك‌، وهم‌ عبارة‌ عن‌ موجودات‌ خلقها الله‌ سبحانه‌ وجعلها وسائطاً بينه‌ وبين‌ هذا العالم‌ المشهود، وأوكل‌ إليها تدبير أُمور العالم‌ التكوينيّة‌ والتشريعيّة‌.

 وَقَالُوا اتَّخَـذَ الرَّحْـمَـ'نُ وَلَـدًا سُـبْحَـ'نَـهُ و بَلْ عِبَـادٌ مُّكْـرَمُـونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ و بِالْقَوْلِ وَهُم‌ بِأَمْرِهِ يَعْلَمُونَ. [11]

 وعبارة‌ جَاعِلِ الْمَلَـ'´نءِكَةِ رُسُلاً بملاحظة‌ أنّ الملائكة‌ جمع‌ محلّي‌ بالالف‌ واللام‌ تبيّن‌ أنّ جميع‌ أفراد ومجاميع‌ الملائكة‌ هم‌ رسل‌ ووسائط‌ بين‌ الخالق‌ وخلقه‌ في‌ إجراء الاوامر التي‌ تعهد إليهم‌، سواء في‌ ذلك‌ الاوامر التكوينيّة‌ أم‌ التشريعيّة‌.

 وعلي‌ هذا، فلا موجب‌ لتخـصيص‌ الآية‌ بالملائـكة‌ النازلـين‌ علي‌ الانبياء عليهم‌ السلام‌ والحاملين‌ للوحي‌ بخصوص‌ الاحكام‌ والشريعة‌؛ إذ مضافاً إلي‌ إطلاق‌ لفظ‌ رُسُل‌، فإنّ لدينا آيات‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ عبّرت‌ عن‌ الرسل‌ والوسائط‌ بين‌ الله‌ وخلقه‌ بغير تعبير الملائكة‌، مثل‌ آية‌:

 حَتَّي‌'´ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ. [12]

 وآية‌: إِنَّ رُسُلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ. [13]

 وآية‌: وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَ ' هِيمَ بِالْبُشْرَي‌' قَالُو´ا إِنَّا مُهْلِكُو´ا أَهْلِ هَـ'ذِهِ الْقَرْيَةِ. [14]

 و أَجْنِـحَة‌ جمع‌ جَنَاح‌، وهو من‌ الطائر بمـنزلة‌ اليد من‌ الاءنسـان‌، ليتوسّل‌ به‌ إلي‌ التحليق‌ في‌ السماء والنزول‌ إلي‌ الارض‌ والطيران‌ من‌ مكانٍ لآخر. وبناء علي‌ هذا، فإنّ الملائكة‌ مجهّزة‌ بقوي‌ وخصوصيّات‌ كالطائر الذي‌ يُحرّك‌ جناحيه‌، وهي‌ كذلك‌ تحلّق‌ من‌ السماء إلي‌ الارض‌ وتنتقل‌ من‌ مكان‌ لآخر بواسطة‌ هذه‌ القوي‌ والاجنحة‌.

 وقد سمّاه‌ القرآن‌ جناحاً لترتّب‌ القصد والغاية‌ من‌ الجناح‌ عليه‌، وهو الوصول‌ للهدف‌ والغاية‌؛ فلا يلزم‌ أن‌ يكون‌ من‌ سنخ‌ جناح‌ الطير ذا ريش‌ وزغب‌، إذ لا يستوجب‌ مجرّد إطلاق‌ لفظ‌ جناح‌ عليه‌ أكثر من‌ ذلك‌، ونظيره‌ في‌ ذلك‌ كلمات‌: العَرْش‌ و الكُرْسِي‌ّ و اللَّوْح‌ و القَلَم‌ وأمثالها الكثيرة‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌.

 ومعني‌ أُولِي‌´ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَيً وَثُلَـ'ثَ وَرُبَـ'عَ أنّ بعض‌ أصنافها مجهّز بقوّتَين‌ وقدرتَين‌ من‌ الحقّ تعالي‌، وبعض‌ بثلاث‌ قوي‌ وبعض‌ بأربع‌. وقوله‌ بعد ذلك‌ بلا فصل‌ يَزِيدُ فِي‌ الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ مُشعر بحسب‌ السياق‌ أنّ بعض‌ أصناف‌ الملائكة‌ مجهّز بأكثر من‌ أربع‌ قوي‌ بما أراد الله‌ لهم‌.

 وللاُستاذ آية‌ الله‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ الشريف‌ بيان‌ في‌ ذيل‌ تفسير هذه‌ الآية‌ الكريمة‌ المباركة‌ بعنوان‌: كَلاَمٌ فِي‌ المَلاَئِكَةِ نجد من‌ المناسب‌ إيراده‌ هنا:

 تكرّر ذكر الملائكة‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌، ولم‌ يذكر منهم‌ بالتسمية‌ إلاّ جِبرِيل‌ ومِيكَال‌؛ وما عداهما مذكور بالوصف‌، كَمَلَكِ المَوْتِ، و الكِرَامِ الكَاتِبِينَ و السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَة‌، و الرَّقِيب‌، و العَتِيد وغير ذلك‌.

 الرجوع الي الفهرس

جمیع الأمور و الحوادث هی تحت نظر و تدبیر الملائکة بأمر الله تعالی

 والذي‌ ذكره‌ الله‌ سبحانه‌ في‌ كلامه‌ ـوتشايعه‌ الاحاديث‌ السابقة‌ـ من‌ صفاتهم‌ وأعمالهم‌ هو أوّلاً: أ نّهم‌ موجودات‌ مكرمون‌، هم‌ وسائط‌ بينه‌ تعالي‌ وبين‌ العالم‌ المشهود، فما من‌ حادثة‌ أو واقعة‌ صغيرة‌ أو كبيرة‌ إلاّ وللملائكة‌ فيها شأن‌ وعليها ملك‌ موكّل‌ أو ملائكة‌ موكّلون‌ بحسب‌ ما فيها من‌ الجهة‌ أو الجهات‌، وليس‌ لهم‌ في‌ ذلك‌ شأن‌ إلاّ إجراء الامر الاءلهي‌ّ في‌ مجراه‌ أو تقريره‌ في‌ مستقرّه‌، كما قال‌ تعالي‌: لاَ يَسْبِقُونَهُ و بِالْقَوْلِ وَهُم‌ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. [15]

 وثانياً: أ نّهم‌ لا يعصون‌ الله‌ فيما أمرهم‌ به‌ فليست‌ لهم‌ نفسيّة‌ مستقلّة‌ ذات‌ إرادة‌ مستقلّة‌ تريد شيئاً غير ما أراد الله‌ سبحانه‌، فلا يستقلّون‌ بعمل‌ ولايغيّرون‌ أمراً حملهم‌ الله‌ إيّاه‌ بتحريف‌ أو زيادة‌ أو نقصان‌، قال‌ تعالي‌:

 لاَ يَعْصُونَ اللَهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. [16]

 وثالثاً: أنّ الملائكة‌ علي‌ كثرتهم‌ علي‌ مراتب‌ مختلفة‌ علوّاً ودنوّاً، فبعضهم‌ فوق‌ بعض‌، وبعضهم‌ دون‌ بعض‌، فمنهم‌ آمر مطاع‌، ومنهم‌ مأمور مطيع‌ لامره‌، والآمر منهم‌ آمر بأمر الله‌ حامل‌ له‌ الي‌ المأمور، والمأمور مأمور بأمر الله‌ مطيع‌ له‌، فليس‌ لهم‌ من‌ أنفسهم‌ شي‌ البتة‌، قال‌ تعالي‌:

 وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ و مَقَامٌ مَّعْلُومٌ. [17]

 وقال‌: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. [18]

 وقال‌: قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ. [19]

 و رابعاً: أ نّهم‌ غير مغلوبين‌، لا نّهم‌ إنّما يعملون‌ بأمر الله‌ وإرادته‌: وَمَا كَانَ اللَهُ لِيُعْجِزَهُ و مِن‌ شَيْءٍ فِي‌ السَّمَـ'وَ ' تِ وَلاَ فِي‌ الاْرْضِ. [20]

 وقد قال‌ الله‌ سبحانه‌: وَاللَهُ غَالِبٌ عَلَی‌'´ أَمْرِهِ. [21]

 وقال‌: إِنَّ اللَهَ بَـ'لِغُ أَمْرِهِ. [22]

 ومن‌ هنا، يظهر أنّ الملائكة‌ موجودات‌ منزّهة‌ في‌ وجودهم‌ عن‌ المادّة‌ الجسمانيّة‌ التي‌ هي‌ في‌ معرض‌ الزوال‌ والفساد والتغيّر، ومن‌ شأنها الاستكمال‌ التدريجي‌ّ الذي‌ تتوجّه‌ به‌ إلي‌ غايتها، وربّما صادفت‌ الموانع‌ والآفات‌ فحرمت‌ الغاية‌ وبطلت‌ دون‌ البلوغ‌ إليها.

 ومن‌ هنا يظهر أنّ ما ورد في‌ الروايات‌ من‌ صور الملائكة‌ وأشكالهم‌ وهيئاتهم‌ الجسمانيّة‌ إنّما هو بيان‌ تمثّلاتهم‌ وظهوراتهم‌ للواصفين‌ من‌ الانبياء والائمّة‌ عليهم‌ السلام‌، وليس‌ من‌ التصوّر والتشكّل‌ في‌ شي‌ء.

 ففرقٌ بين‌ التمثّل‌ والتشكّل‌، فتمثّل‌ الملك‌ إنساناً هو ظهوره‌ لمن‌ يشاهده‌ في‌ صورة‌ الاءنسان‌، فهو في‌ ظرف‌ المشاهدة‌ والاءدراك‌ ذو صورة‌ الاءنسان‌ وشكله‌، وفي‌ نفسه‌ والخارج‌ من‌ ظرف‌ الاءدراك‌ ملك‌ ذو صورة‌ ملكيّة‌.

 وهذا بخلاف‌ التشكّل‌ والتصوّر، فإنّه‌ لو تشكّل‌ بشكل‌ الاءنسان‌ وتصوّر بصورته‌ صار إنساناً في‌ نفسه‌ من‌ غير فرق‌ بين‌ ظرف‌ الاءدراك‌ والخارج‌ عنه‌، فهو إنسان‌ في‌ العين‌ والذهن‌ معاً. وقد تقدّم‌ كلام‌ في‌ معني‌ التمثّل‌ في‌ تفسير سورة‌ مريم‌.

 ولقد صدّق‌ الله‌ سبحانه‌ ما تقدّم‌ من‌ معني‌ التمثّل‌ في‌ قوله‌ في‌ قصّة‌ المسيح‌ ومريم‌:

 فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. [23]

 وأمّا ما شاع‌ من‌ الالسن‌:

 أَنَّ المَلَـكَ جِسْـمٌ لَطِيفٌ يَتَشَـكَّلُ بِأَشْـكَالٍ مُخْـتَلِفَةٍ إلاَّ الكَلْـبَ وَالخِنزيرَ؛ وَالجِنُّ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَتَشَكَّلُ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ حَتَّي‌ الكَلْبِ وَالخِنْزِيرِ.

 فممّا لا دليل‌ عليه‌ من‌ عقل‌ ولا نقل‌ من‌ كتاب‌ أو سُنّة‌ معتبرة‌؛ وأمّا ما ادّعاه‌ بعضهم‌ من‌ إجماع‌ المسلمين‌ علي‌ ذلك‌، فمضافاً إلي‌ منعه‌ لا دليل‌ علي‌ حجّيّته‌ في‌ أمثال‌ هذه‌ المسائل‌ الاعتقاديّة‌.[24]

القرآن الکریم ینسب الی الملائکة تدبیر الأمور

 ولقد أقسم‌ الله‌ سبحانه‌ في‌ مواضع‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌ بالملائكة‌ المأمورين‌ بإنجاز وظائف‌ خاصّة‌، كما فعل‌ في‌ الآيات‌ الاوائل‌ من‌ سورة‌ النازعات‌:

 وَالنَّـ'زِعَـ'تِ غَرْقًا * وَالنَّـ'شِطَـ'تِ نَشْطًا * وَالسَّـ'بِحَـ'تِ سَبْحًا * فَالسَّـ'بِقَـ'تِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَ ' تِ أَمْرًا. [25]

 ونلحظ‌ في‌ هذه‌ الآيات‌ أنّ الله‌ تعالي‌ قد بيّن‌ أنّ تدبير جميع‌ أُمور هذا العالم‌ المشاهد المحسوس‌ يحصل‌ بواسطة‌ هذه‌ الملائكة‌، فجميع‌ هذه‌ الصفات‌ من‌ النزع‌ و النشط‌ و السبح‌ و السبق‌ و التدبير هي‌ لنوع‌ معيّن‌ من‌ الملائكة‌ الذين‌ ينزلون‌ من‌ ساحة‌ الحقّ تعالي‌، فيكون‌ شأنهم‌ ومهمّتهم‌ في‌ مقامهم‌ تدبير وإدارة‌ أُمور هذا العالم‌.

 الرجوع الي الفهرس

تفسیر « النازعات غرقا » و أصناف الملائکة الموکلین بشئوون العالم

 ومع‌ أنّ معني‌ النَّازِعَات‌ و النَّاشِطَاتِ و السَّابِحَاتِ و السَّابِقَاتِ سيبدو لنا في‌ الوهلة‌ الاُولي‌ غير واضح‌ و لا مشخصّ، ومع‌ أنّ المفسّرين‌ قد ذكروا لها في‌ تفاسيرهم‌ معانٍ مختلفة‌، إلاّ أ نّنا نستطيع‌ إزالة‌ الاءبهام‌ والغموض‌ عن‌ الآية‌ واكتشاف‌ معناها بوضوح‌ حين‌ نلحظ‌ أُسساً ثلاثة‌ مهمّة‌:

 الاوّل‌: وضوح‌ معني‌ الْمُدَبِّرَ ' تِ أَمْرًا، أي‌ الملائكة‌ المدبّرين‌ للحوادث‌ والوقائع‌.

 والثاني‌: بلحاظ‌ ارتباط‌ المعني‌ والمراد بين‌ هذه‌ الطوائف‌ والمجاميع‌ الخمس‌ التي‌ بيّنت‌ صفاتها في‌ الآية‌.

 والثالث‌: بلحاظ‌ إلفاء التفريعيّة‌ الدالّة‌ علي‌ التراخي‌ في‌ بداية‌ الْمُدَبِّرَ ' تِ و السَّـ'بِقَـ'تِ، وعدم‌ الاءتيان‌ بها في‌ بداية‌ المجاميع‌ الثلاث‌ التي‌ سبقتها، أي‌ النَّـ'زِعَـ'تِ و النَّـ'شِطَـ'تِ و السَّـ'بِحَتِ.

 وبيان‌ ذلك‌ أنّ فاء التفريع‌ وردت‌ في‌ فالْمُدَبِّرَ ' تِ أَمْرًا فدلّت‌ علي‌ تفرّع‌ صفة‌ التدبير من‌ صفة‌ السبق‌، وهكذا الامر في‌ فالسَّـ'بِقَـ'تِ سَبْقًا التي‌ جاءت‌ مع‌ فاء التفـريـع‌ الدالّـة‌ علي‌ تفـرّع‌ صفة‌ السـبق‌ علي‌ صـفة‌ السَّـبْح‌ والسرعة‌.

 ونفهم‌ من‌ ذلك‌ أنّ هناك‌ مجانسة‌ خاصّة‌ بين‌ المعاني‌ المقصودة‌ من‌ هذه‌ الآيات‌ الثلاث‌، لا نّها تقول‌: السَّـ'بِحَـ'تِ سَبْحًا * فَالسَّـ'بِقَـ'تِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَ ' تِ أَمْرًا؛ ومفادها هو تدبيرها الاُمور بعد أن‌ سبقت‌ إليها، وكان‌ سبقها بعد أن‌ سبحت‌ وأسرعت‌ إليها في‌ وقت‌ النزول‌.

 وعليه‌ فإنّ مفاد السَّـ'بِحَـ'ت‌ و السَّـ'بِقَـ'تِ هي‌ نفس‌ الملائكة‌ الْمُدَبِّر ' ت‌ التي‌ وصفت‌ بهذه‌ الصفات‌ بلحاظ‌ كيفيّة‌ نزولها لتنفيذ ما أُوكل‌ إليها من‌ تدبير الاُمور.

 ويمكن‌ بنظرة‌ أوسع‌ اعتبار مجموع‌ هذه‌ الآيات‌ الثلاث‌ موافقاً لمفهوم‌ الآية‌ الشريفة‌ القائلة‌:

 لَهُ و مُعَقِّبَـ'تِ مِّن‌ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ و مِنْ أَمْرِ اللَهِ. [26]

 فالملائكة‌ المأمورون‌ بتدبير الاُمور للاشياء والحوادث‌ ينزلون‌، في‌ حالٍ تكون‌ معه‌ أسباب‌ وعلل‌ تلك‌ الاشياء والحوادث‌ قد تجمّعت‌ وتصارعت‌ بينـها للتأثـير في‌ وجودها و عدمها، وفي‌ بقائها و زوالها وفي‌ أحـوالها المختلفة‌، لكنّ الملك‌ المأمور بتدبير الامر المبرم‌ المحتوم‌ الاءلهي‌ّ المتعلّق‌ بها ينزل‌ بسرعة‌ فيسبق‌ بقيّة‌ الاسباب‌ ويتمّ ذلك‌ السبب‌ المقتضي‌ تبعاً للاءرادة‌ والقضاء الاءلهي‌ّ، كي‌ يتحقّق‌ في‌ النهاية‌ ما في‌ قضاء الحقّ تعالي‌ وأمره‌ المحتوم‌.

 والآن‌ وقد استبان‌ المراد من‌ هذه‌ الآيات‌ الثلاث‌ المشيرة‌ إلي‌ سرعة‌ الملائكة‌ في‌ نزولها لتنفيذ مهمّاتها، وسبقها في‌ تدبيرها، فينبغي‌ حمل‌ آيَتي‌: وَالنَّـ'زِعَـ'تِ غَرْقًا * وَالنَّـ'شِطَـ'تِ نَشْطًا علي‌ نزعها وخروجها من‌ موقف‌ الخطاب‌ إلي‌ مهمّتها وتدبير أمرها.

 فنـزوعها هو شروعـها في‌ الحـركة‌ والنزول‌ إلي‌ هدفـها وغايتـها، المتحقّق‌ بشدّة‌ وجديّة‌، ونشطها: خروجها من‌ ذلك‌ الموقف‌، كما أنّ سبحها هو سرعتها بعد الخروج‌، ويعقبه‌ سبقها لتنفيذ الامر، أي‌ تدبيره‌ بإذن‌ الحقّ تعالي‌.

 وعلي‌ هذا، فإنّ هذه‌ الآيات‌ الخمس‌ تمثّل‌ قسم‌ الحقّ تعالي‌ بالصفات‌ المختلفة‌ التي‌ تتلبّس‌ بها الملائكة‌ لتدبير أمر من‌ أُمور هذا العالم‌ المشهود، من‌ شروع‌ نزولها إلي‌ انتهاء أمر التدبير.

 وأمّا إطلاق‌ التدبير في‌ هذه‌ الآية‌ وعدم‌ تقييده‌ بشي‌ء، فمُشعر بأنّ المراد هو جميع‌ أقسام‌ التدبيرات‌ في‌ هذا العالم‌؛ و «أَمْرًا» إمّا تمييز أو مفعول‌ للمدبّرات‌. أي‌ أنّ الملائكة‌ مدبّرة‌ للامر أو لهجة‌ الامر، ومطلق‌ التدبير هو الشأن‌ المطلق‌ للملائكة‌، ولذا فإنّ المراد من‌ الْمُدَبِّرَ ' تِ أَمْرًا ينبغي‌ أن‌ يكون‌ مطلق‌ الملائكة‌.

 أمّا التعـبير عن‌ الملائـكة‌ بصـيغة‌ التأنـيث‌( في‌ قولـه‌: « وَالنَّ'زِعَ'ت‌ ») فلا إشكال‌ فيه‌، لانّ موصوفها عنوان‌ جماعة‌ وتأنيثها لفظي‌ّ، ويمكن‌ أن‌ يكون‌ باعتبار الروح‌ التي‌ تنزل‌ الملائكة‌ معها، كما في‌ قوله‌:

 يُنَزِّلُ الْمَلَـ'´نءِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَی‌' مَن‌ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ. [27]

 وقوله‌: يُلْقِي‌ الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَی‌' مَن‌ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ. [28]

 ولهذه‌ الآيات‌ مشابهة‌ تامّة‌ بالآيات‌ الاوائل‌ من‌ سورة‌ الصافّات‌:

 وَالصَّـ'´فَّـ'تِ صَفًّا * فَالزَّ ' جِرَ ' تِ زَجْرًا * فَالتَّـ'لِيَـ'تِ ذِكْرًا.

 وبالآيات‌ الاوائل‌ من‌ سورة‌ المرسلات‌: وَالْمُرْسَلَـ'تِ عُرْفًا * فَالْعَـ'صِفَـ'تِ عَصْفًا * وَالنَّـ'شِرَ ' تِ نَشْرًا * فَالْفَـ'رِقَـ'تِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَـ'تِ ذِكْرًا، التي‌ كانت‌ هي‌ الاخري‌ في‌ مجال‌ بيان‌ أوصاف‌ الملائكة‌ المأمورين‌ بأمر الله‌ سبحانه‌ والذين‌ هم‌ في‌ مقام‌ الامتـثال‌ والطاعة‌، باخـتلاف‌ أ نّها تتحدّث‌ فقط‌ عن‌ الملائكة‌ الحاملين‌ للوحي‌، بينما كانت‌ الآيات‌ مورد البحـث‌ في‌ مجال‌ وصف‌ مطلق‌ الملائكة‌ المـدبّرة‌ لاُمـور العالم‌، الذين‌ يتّصفون‌ في‌ تدبيرهم‌ بإذن‌ الله‌ بتلك‌ الصفات‌ التي‌ جري‌ ذكرها.

 وحاصل‌ البحث‌ هو أ نّه‌ يمكن‌ انطباق‌ الصفات‌ التي‌ أقسم‌ الله‌ سبحانه‌ بها في‌ آيات‌ سورة‌ النازعات‌ علي‌ صفات‌ الملائكة‌ في‌ سعيهم‌ وحركتهم‌ وامتثالهم‌ لاوامر ساحة‌ العزّ القدسيّة‌ للباري‌، الصادرة‌ إليهم‌ والمتعلّقة‌ بهم‌ في‌ تدبير أُمور هذا العالم‌ المشهود، ليقوموا بإذن‌ الحقّ تعالي‌ بتدبيرها.

 ولسماحة‌ آية‌ الله‌ العلاّمة‌ كلام‌ في‌ ذيل‌ تفسير هذه‌ الآيات‌ تحت‌ عنوان‌: كَلاَمٌ فِي‌ أَنَّ المَلاَئِكَةَ وَسَائِطٌ فِي‌ التَّدْبِير، نورده‌ هنا للمناسبة‌:

 الملائكة‌ وسائط‌ بينه‌ تعالي‌ وبين‌ الاشياء بدءاً وعوداً علي‌ ما يعطيه‌ القرآن‌ الكريم‌، بمعني‌ أ نّهم‌ أسباب‌ للحوادث‌ فوق‌ الاسباب‌ المادّيّة‌ في‌ العالم‌ المشهود قبل‌ حلول‌ الموت‌ والانتقال‌ إلي‌ نشأة‌ الآخرة‌ وبعده‌.

 أمّا في‌ العود، أعني‌ حال‌ ظهور آيات‌ الموت‌، وقبض‌ الروح‌، وإجراء السؤال‌، وثواب‌ القبر وعذابه‌، وإماتة‌ الكلّ بنفخ‌ الصور، وإحيائهم‌ بذلك‌، والحشر، وإعطاء الكتاب‌، ووضع‌ الموازين‌، والحساب‌، والسوق‌ إلي‌ الجنّة‌ والنار، فوساطتهم‌ فيها غنيّة‌ عن‌ البيان‌، والآيات‌ الدالّة‌ علي‌ ذلك‌ كثيرة‌ لاحاجة‌ إلي‌ إيرادها، والاخبار المأثورة‌ فيها عن‌ النبي‌ّ الاكرم‌ وأئمّة‌ أهل‌ البيت‌ عليهم‌ السلام‌ فوق‌ حدّ الاءحصاء. وكذا وساطتهم‌ في‌ مرحلة‌ التشريع‌ من‌ النزول‌ بالوحي‌ ودفع‌ الشياطين‌ عن‌ المداخلة‌ فيه‌، وتسديد النبي‌ّ وتأييد المؤمنين‌ وتطهيرهم‌ بالاستغفار.

 الرجوع الي الفهرس

وجود الملائکة له عنوان الواسطه بین الله و الخلق

 وأمّا وساطتهم‌ في‌ تدبير الاُمور في‌ هذه‌ النشأة‌، فيدلّ عليها ما في‌ مفتتح‌ هذه‌ السورة‌ من‌ إطلاق‌ قوله‌: وَالنَّـ'زِعَـ'تِ غَرْقًا * وَالنَّـ'شِطَـ'تِ نَشْطًا * وَالسَّـ'بِحَـ'تِ سَبْحًا * فَالسَّـ'بِقَـ'تِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَ ' تِ أَمْرًا بما تقدّم‌ من‌ البيان‌.

 وكذا قوله‌ تعالي‌: جَاعِلِ الْمَلَـ'´نءِكَةِ رُسُلاً أُولِي‌´ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَيً وَثُلَـ'ثَ وَرُبُـ'ع‌ الواردة‌ في‌ سورة‌ فاطر، الظاهر بإطلاقه‌ ـعلي‌ ما تقدّم‌ من‌ تفسيره‌ـ في‌ أ نّهم‌ خُلقوا وشأنهم‌ أن‌ يتوسّطوا بينه‌ تعالي‌ وبين‌ خلقه‌، ويُرسَلوا لاءنفاذ أمره‌ الذي‌ يستفاد من‌ قوله‌ تعالي‌ في‌ صفتهم‌: بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ و بِالْقَولِ وَهُم‌ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، [29] وقوله‌: يَخَافُونَ رَبَّهُم‌ مِّن‌ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، [30] وفي‌ جعل‌ الجناح‌ لهم‌ إشارة‌ إلي‌ هذه‌ الحقيقة‌.

 فلا شغل‌ للملائكة‌ إلاّ التوسّط‌ بينه‌ تعالي‌ وبين‌ خلقه‌ بإنفاذ أمره‌ فيهم‌، وليس‌ ذلك‌ علي‌ سبيل‌ الاتّفاق‌ بأن‌ يجري‌ الله‌ سبحانه‌ أمراً بأيديهم‌ ثمّ يجري‌ مثله‌ لا بتوسيطهم‌، فلا اختلاف‌ ولا تخلّف‌ في‌ سنّته‌ تعالي‌: إِنَّ رَبِّي‌ عَلَی‌' صِرَ ' طٍ مُّسْتَقِيمٍ؛ [31] وقال‌: فَلَن‌ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَهِ تَبْدِيلاً وَلَن‌ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَهِ تَحْوِيلاً.[32]

 ومن‌ الوساطة‌ كون‌ بعضهم‌ فوق‌ بعض‌ مقاماً، وأمر العالي‌ السافل‌ بشي‌ء من‌ التدبير، فإنّه‌ في‌ الحقيقة‌ توسّط‌ من‌ المتبوع‌ بينه‌ تعالي‌ وبين‌ تابعه‌ في‌ إيصال‌ أمر الله‌ تعالي‌، كتوسّط‌ ملك‌ الموت‌ في‌ أمر بعض‌ أعوانه‌ بقبض‌ روح‌ من‌ الارواح‌، قال‌ تعالي‌ حاكياً عن‌ الملائكة‌:

 وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ و مَقَامٌ مَّعْلُومٌ. [33]

 وقال‌: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. [34]

 وقال‌: حَتَّي‌'´ إِذَا فُزِّعَ عَن‌ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ. [35]

 ولا ينافي‌ هذا الذي‌ ذُكر من‌ توسّطـهم‌ بينه‌ تعالي‌ وبين‌ الحـوادث‌، أعني‌ كونهم‌ أسباباً تستند إليها الحوادث‌ استناد الحوادث‌ إلي‌ أسبابها القريبة‌ المادّيّة‌، فإنّ السـببـيّة‌ طولـيّة‌ لا عرضـيّة‌، أي‌ أنّ السـبب‌ القـريب‌ سبب‌ للحادث‌، والسبب‌ البعيد سبب‌ للسبب‌.

 الرجوع الي الفهرس

الملائکة هم واسطة محضه، و لیس لدیهم ای استقلال فی العمل

 كما لا ينافي‌ توسّطهم‌ واستناد الحوادث‌ إليهم‌ استناد الحوادث‌ إليه‌ تعالي‌ وكونه‌ هو السبب‌ الوحيد لها جميعاً علي‌ ما يقتضيه‌ توحيد الربوبيّة‌، فإنّ السببيّة‌ طوليّة‌ كما سمعت‌ لا عرضيّة‌، ولا يزيد استناد الحوادث‌ إلي‌ الملائكة‌ استنادها إلي‌ أسبابها الطبيعيّة‌ القريبة‌، وقد صدّق‌ القرآن‌ الكريم‌ استناد الحوادث‌ إلي‌ الحوادث‌ الطبيعيّة‌ كما صدّق‌ استنادها إلي‌ الملائكة‌.

 وليـس‌ لشـي‌ء من‌ الاسباب‌ استقـلال‌ قباله‌ تعالي‌ حتّي‌ ينقطـع‌ عنه‌، فيمنع‌ ذلك‌ استناد ما استند إليه‌ إلي‌ الله‌ سبحانه‌ ما يقول‌ به‌ الوثنيّة‌ من‌ تفويضه‌ تعالي‌ تدبير الامر إلي‌ الملائكة‌ المقرّبين‌، فالتوحيد القرآني‌ّ بنفي‌ الاستقلال‌ عن‌ كلّ شي‌ء من‌ كلّ جهة‌:

 لاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا وَلاَ مَوْتًا وَلاَ حَياةً وَلاَ نُشُورًا. [36]

 فمثل‌ الاشياء في‌ استنادها إلي‌ أسبابها المترتّبة‌ القريبة‌ والبعيدة‌ وانتهائها إلي‌ الله‌ سبحانه‌ بوجهٍ بعيد كالكتابة‌ التي‌ يكتبها الاءنسان‌ بيده‌ وبالقلم‌.

 فللكتابة‌ استناد إلي‌ القلم‌، ثمّ إلي‌ اليد التي‌ توسّلت‌ إلي‌ الكتابة‌ بالقلم‌، وإلي‌ الاءنسان‌ الذي‌ توسّل‌ إليها باليد وبالقلم‌، والسبب‌ بحقيقة‌ معناه‌ هو الاءنسان‌ المستقلّ بالسببيّة‌ من‌ غير أن‌ ينافي‌ سببيّته‌ استناد الكتابة‌ بوجه‌ إلي‌ اليد وإلي‌ القلم‌.

 ولا منافاة‌ أيضاً بين‌ ما تقدّم‌ أنّ شأن‌ الملائكة‌ هو التوسّط‌ في‌ التدبير وبين‌ ما يظهر من‌ كلامه‌ تعالي‌ أنّ بعضهم‌ أو جميعهم‌ مداومون‌ علي‌ عبادته‌ تعالي‌ وتسبيحه‌ والسجود له‌، كقوله‌:

 وَمَن‌ عِندَهُ و لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ. [37]

 وقوله‌: إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ و يَسْجُدُونَ. [38]

 وذلك‌ لجواز أن‌ تكون‌ عبادتهم‌ وسجودهم‌ وتسبيحهم‌ عين‌ عملهم‌ في‌ التدبير وامتثالهم‌ الامر الصادر عن‌ ساحة‌ العزّة‌ بالتوسّط‌، كما ربّما يومي‌ قوله‌ تعالي‌:

 وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي‌ السَّمَـ'وَ ' تِ وَمَا فِي‌ الاْرْضِ مِن‌ دَآبَّةٍ وَالْمَلَـ'´نءِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ. [39]

 الرجوع الي الفهرس

وظائف و شؤون الملائکة السماوتین فی تعبیرات القرآن الکریم

 كانت‌ هذه‌ أُمور راجعة‌ إلي‌ تفسير الآيات‌ الاوائل‌ لسورة‌ النازعات‌ وبيان‌ وظيفة‌ وشأنيّة‌ الملائكة‌ الموكّلين‌ بتمام‌ الاُمور، وأمّا بشأن‌ خصوص‌ الملائكة‌ الموكّلين‌ بأمر الوحي‌ وبيان‌ صفات‌ وكيفيّة‌ إلقاء الوحي‌، فقد ورد قسم‌ الله‌ تعالي‌ بهم‌ في‌ موضعَين‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌ غير المواضع‌ السابقة‌:

 أوّلهما: في‌ ابتداء سورة‌ الصافّات‌ حيث‌ يقول‌:

 وَالصَّـ'´فَّـ'تِ صَفًّا * فَالزَّ ' جِرَ ' تِ زَجْرًا * فَالتَّـ'لِيَـ'تِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَـ'هَكُمْ لَوَ ' حِدٌ. [40]

 وهذه‌ الآيات‌ التي‌ وردت‌ بالقسم‌ هي‌ أوّل‌ الآيات‌ الواردة‌ بالقسم‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌، ويحتمل‌ أن‌ يكون‌ المراد بهذه‌ الطوائف‌ الثلاث‌ المذكورة‌ طوائف‌ الملائكة‌ الذين‌ ينزلون‌ بالوحي‌ علي‌ النبي‌ّ الاكرم‌، والمأمورون‌ بتأمين‌ طريق‌ الوحي‌ وحفظـه‌ مصـوناً، ودفع‌ الشـياطين‌ عن‌ المداخـلة‌ في‌ الوحي‌، ثمّ إيصاله‌ إمّا إلي‌ مطلق‌ الانبياء أو إلي‌ خصوص‌ محمّدبن‌ عبدالله‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌، كما يستفاد من‌ قوله‌ تعالي‌:

 عَـ'لِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَی‌' غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَي‌' مِن‌ رَّسُولٍ فَإِنَّهُ و يَسْلُكُ مِن‌ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن‌ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَـ'لَـ'تِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَي‌' كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا. [41]

 وعليه‌، فسيكون‌ معني‌ الآيات‌ مورد البحث‌: أُقسم‌ بالملائكة‌ الذين‌ يصفّون‌ في‌ طريق‌ الوحي‌ صفّاً، فبالذين‌ يزجرون‌ الشياطين‌ ويمنعونهم‌ عن‌ المداخلة‌ في‌ الوحي‌ بعد صفّهم‌ صفّاً، فبالذين‌ يقومون‌ بعد زجر الشياطين‌ وطردهم‌ بتلاوة‌ الذكر علي‌ الانبياء أو بتلاوة‌ القرآن‌ علي‌ خاتم‌ الانبياء.

 ويؤيّد هذا التفسير تعبيره‌ عنه‌ بالتلاوة‌، ويؤيّده‌ أيضاً ما ورد في‌ هذه‌ السورة‌ بعد هذه‌ الآيات‌ من‌ رمي‌ الشياطين‌ بالشهاب‌ الثاقب‌.

 ولا ينافي‌ نزول‌ القرآن‌ بواسطة‌ هؤلاء الملائكة‌ المتعدّدين‌ نزوله‌ بواسطة‌ جبرائيل‌ وحده‌ في‌ قوله‌: مَن‌ كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ و نَزَّلَهُ و عَلَی‌' قَلْبِكَ. [42]

 وقوله‌: نَزَل‌ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ * عَلَی‌' قَلْبِكَ. [43]

 لانّ هذه‌ الصنوف‌ من‌ الملائكة‌ إنّما هم‌ أعوان‌ جبرائيل‌ في‌ إنزال‌ القرآن‌، فنزولهم‌ به‌ في‌ الحقيقة‌ هو نزوله‌. وقد قال‌ تعالي‌:

 فِي‌ صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي‌ سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ. [44]

 وقال‌ أيضاً: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ. [45]

 وقال‌ حكاية‌ عنهم‌: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. [46]

 فنوع‌ وأُسلوب‌ نزول‌ القرآن‌ بوساطة‌ الملائكة‌ وبوساطة‌ جبرائيل‌ كالتوفّي‌ وقبض‌ الارواح‌ الذي‌ يُنسب‌ أحياناً إلي‌ الملائكة‌، كما في‌ قوله‌ تعالي‌: حَتَّي‌'´ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا. [47]

 ويُنسب‌ أحياناً إلي‌ مَلَك‌ الموت‌ وهو رئيسهم‌، في‌ قوله‌ تعالي‌:

 قُلْ يَتَوَفَّـ'كُم‌ مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي‌ وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَي‌' رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ. [48]

 وثانيهما: في‌ بداية‌ سورة‌ المرسلات‌، فيقول‌:

 وَالْمُرْسَلَـ'تِ عُرْفًا * فَالْعَـ'صِفَـ'تِ عَصْفًا * وَالنَّـ'شِرَ ' تِ نَشْرًا * فَالْفَـ'رِقَـ'تِ فَرْقًا * فَالْمُلْـقِيَـ'تِ ذِكْـرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَـا تُوْعَـدُونَ لَوَ ' قِعٌ. [49]

 ويظهر من‌ هذه‌ الآيات‌ أيضاً؛ لوضوح‌ معني‌ فَالْمُلْقِيَـ'تِ ذِكْرًا وهو تلقين‌ الوحي‌، ولتفرّعه‌ بفاء التفريع‌ علي‌ فَالْفَـ'رِقَـ'تِ فَرْقًا من‌ الفصل‌ والتمييز، وهذه‌ بدورها مترتّبة‌ بفاء التفريع‌ علي‌ وَالنَّـ'شِرَ ' تِ نَشْرًا من‌ البسط‌ والنشر؛ علي‌ أنّ هذه‌ الصفات‌ الثلاث‌ هي‌ صفات‌ مجموعة‌ واحدة‌ من‌ الملائكة‌ النازلين‌ بالوحي‌ علي‌ النبي‌ّ أو علي‌ الانبياء.

 ولقرينة‌ اتّحاد السياق‌ بين‌ جميع‌ الآيات‌ فإنّ المراد من‌ المرسلات‌ عرفاً والعاصفات‌ عصفاً هذه‌ المجموعة‌ أيضاً. فهم‌ يرسلون‌ في‌ الوهلة‌ الاُولي‌ جماعات‌ متتابعة‌، فيسرعون‌ في‌ سيرهم‌ وحركتهم‌، فينشرون‌ الصحف‌ ويبسطونها، ويفرقون‌ بين‌ الحقّ والباطل‌، ويقرؤون‌ الصحف‌ المكرمة‌ الاءلهيّة‌ علي‌ الرسول‌ الاكرم‌ أو علي‌ الرسل‌ ويلقونها عليهم‌.

 ولهذا، فإنّ محطّ ومتعلّق‌ القسم‌ خصوص‌ ملائكة‌ الوحي‌ الذين‌ يتّصفون‌ بهذه‌ الصفات‌ الخمس‌.

 أمّا الآيات‌ التي‌ وردت‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ في‌ غير موارد القسم‌ لبيان‌ الاعمال‌ المختلفة‌ للملائكة‌ فكثيرة‌، منها ما ورد في‌ سورة‌ آل‌ عمران‌ مثلاً في‌ ذكر الملائكة‌ الثلاثة‌ آلاف‌ الذين‌ نزلوا في‌ غزوة‌ بدر الكبري‌ لنصرة‌ المسلمين‌ وإمدادهم‌، والتي‌ بيّنت‌ أ نّه‌ في‌ حال‌ صبر المسلمين‌ وتقواهم‌ فإنّ خمسة‌ آلاف‌ ملك‌ سينزلون‌ عليهم‌:

 إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن‌ يَكْفِيَكُمْ أَن‌ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالَـ'فٍ مِّنَ الْمَلَـ'´نءِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَي‌' إِن‌ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم‌ مِّن‌ فَوْرِهِمْ هَـ'ذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم‌ بِخَمْسَةِ ءَالَـ'فٍ مِّنَ الْمَلَـ'´نءِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَهُ إِلاَّ بُشْـرَي‌' لَكُمْ وَلِتَطْـمَنءِنَّ قُلُوبُـكُم‌ بِهِ وَمَا النَّصْـرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَهِ الْعَـزِيـزِ الْحَكِيمِ. [50]

 ولا منافاة‌ بين‌ نزول‌ ونصرة‌ الملائكة‌ الثلاثة‌ آلاف‌ في‌ هذه‌ الآية‌ مع‌ نزول‌ ألف‌ ملك‌ منهم‌ كما ورد في‌ سورة‌ الانفال‌، لانّ نزول‌ الالف‌ ملك‌ هنا قد قيّد بلفظ‌ مُرْدِفِينَ، أي‌ ألف‌ ملك‌ يردفهم‌ ملائكة‌ آخرون‌، وهي‌ دلالة‌ علي‌ أنّ الملائكة‌ نزلوا في‌ غزوة‌ بدر علي‌ هيئة‌ مجموعة‌ من‌ ألف‌ ملك‌ في‌ الوهلة‌ الاُولي‌، أردفهم‌ بعدهم‌ الالفان‌ الآخران‌؛ أمّا تعبير سورة‌ الانفال‌ فقد كان‌:

 إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي‌ مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَـ'نءِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَهُ إِلاَّ بُشْرَي‌' وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَهِ إِنَّ اللَهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. [51]

 وكذلك‌ فقد ورد في‌ قضيّة‌ إفشاء حفصة‌ بنت‌ عمر السرّ الذي‌ أوصاها رسول‌الله‌ بكتمانه‌، فباحت‌ به‌ إلي‌ عائشة‌، ثمّ أفشتاه‌ كلاهما، فكانتا عاصيتَين‌ لامر الرسول‌، أن‌ هدّدهما القرآن‌ إن‌ تظاهرا علي‌ الرسول‌ فإنّ الله‌ وجبرائيل‌ وأمير المؤمنين‌ سيحميانه‌ وينصرانه‌ عليهما، والملائكة‌ بعد ذلك‌ مُعين‌ في‌ هذا الامر:

 إِن‌ تَتُوبَآ إِلَي‌ اللَهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن‌ تَظَـ'هَرَا عَلَیْهِ فَإِنَّ اللَهَ هُوَ مَوْلَب'هُ وَجِبْرِيلُ وَصَـ'لِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَـ'´نءِكَةُ بَعْدَ ذَ ' لِكَ ظَهِيرٌ. [52]

 وقد ثبت‌ وجود الملائكة‌ ذوي‌ النفوس‌ المجرّدة‌ بالادلّة‌ العقليّة‌، فالمُثل‌ الاءفلاطونيّة‌ التي‌ أحياها المرحوم‌ صدر المتأ لّهين‌ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ وأثبت‌ وجودها إنّما هي‌ ملائكة‌ وَالْمُدَبِّرَ ' تِ أَمْرًا.

 الرجوع الي الفهرس

اختلاف کیفیة تمثل الملائکة باختلاف الأذهان

 يري‌ أهل‌ الكشف‌ والشهود الملائكة‌، بصورتهم‌ التمثّليّة‌، لانّ الملائكة‌ كما ذكرنا مخلوقات‌ مجرّدة‌ لا يمكنها التلبّس‌ بلباس‌ المادّة‌، خلافاً للجنّ والشيطان‌ اللذان‌ هما موجودان‌ مادّيّان‌ ناريّان‌ لهما شكل‌ وصورة‌، فهؤلاء الجنّ متشكّلون‌، أمـّا أُولئك‌ الملائكة‌ فمتمثّلون‌، أي‌ أ نّهم‌ يظهرون‌ في‌ القوي‌ الذهنيّة‌ للاءنسان‌ بصورة‌ مناسبة‌.

 ولقد أحاطت‌ حقيقة‌ جبرائيل‌، ذلك‌ الموجود المجرّد النوراني‌ّ، حين‌ ظهر لرسول‌ الله‌ علي‌ تلك‌ الصورة‌، بمشرق‌ العالم‌ وغربه‌، لكنّه‌ كان‌ يتمثّل‌ أحياناً بصورة‌ دِحْيَة‌ الكَلْبِي‌ّ، فكان‌ رسول‌ الله‌ يراه‌ في‌ تلك‌ الحال‌ علي‌ حقيقته‌، والآخرون‌ يرونه‌ ويتخيّلونه‌ دحية‌، في‌ حين‌ أ نّه‌ لم‌ يكن‌ دحية‌ بل‌ متمثّلاً بمثال‌ وصورة‌ دحية‌ في‌ أنظار الناظرين‌.

 يقول‌ ابن‌ الفارض‌ المصري‌ّ العارف‌ الجليل‌:

وَهَا دِحْيَةٌ وَافَي‌ الاَمِينَ نَبِيَّنَا         بِصُورَتِهِ فِي‌ بَدْءِ وَحْيِ النُّبُوَّةِ

أَجِبْرِيلُ قُلْ لِي‌: كَانَ دِحْيَةَ إذْ بَدَا         لِمُهْدِي‌ الهُدَي‌ فِي‌ هَيْئَةٍ بَشَرِيَّةِ

وَفِي‌ عِلْمِهِ عَنْ حَاضِرِيهِ مَزِيَّةٌ         بِمَاهِيَّةِ المَرْئِيِّ مِنْ غَيْرِ مِرْيَةِ

يَرَي‌ مَلَكاً يُوحِي‌ إلَيْهِ وَغَيْرُهُ         يَرَي‌ رَجُلاً يُدْعَي‌ لَدَيْهِ بِصُحْبَةِ [53]

 الجهة‌ الثالثة‌: قوله‌ بكلّ بساطة‌ أن‌ لا لزوم‌ لتكلّف‌ الاءنسان‌ في‌ رفضه‌ لآراء العلاّمة‌ الطـباطـبائي‌ّ، لانّ للعلاّمة‌ أُصـولاً مفروضة‌ ومسـلّمة‌ لهذا المدّعي‌ يكفي‌ لردّها أن‌ يرفض‌ الاءنسان‌ ـ كما فعل‌ كَانْت‌ ـ أُسس‌ ما وراء الطبيعة‌، وحينئذٍ سينهار بناؤه‌ ويتداعي‌.

 وكانت‌ عين‌ عباراته‌ هي‌:

 ونضيف‌ إلي‌ ذلك‌ بأنّ مسلّمات‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ ليست‌ هذه‌ الاُصول‌ المعدودة‌ المشهورة‌ بأي‌ّ وجه‌ من‌ الوجوه‌، فقد افترض‌ أيضاً أُسساً في‌ علم‌ المعرفة‌، مثل‌ أنّ الاءنسان‌ يمكنه‌ ـخلافاً لرأي‌ كانْت‌ـ أن‌ يقيم‌ فلسفة‌ ما وراء الطبيعة‌، وأن‌ يُثبت‌ فيها آراءً بالقطع‌ واليقين‌، وأنّ رأي‌ ما وراء الطبيعة‌ يمثّل‌ معني‌ وليس‌ بلا معني‌ ـكما يزعم‌ فلاسفة‌ المذهب‌ التحليلي‌ّ الجددـ وعلي‌ هذا يكفي‌ أن‌ يتبنّي‌ الشخص‌ آراء كانْت‌، أو حتّي‌ أقلّ من‌ ذلك‌ بأن‌ يتبع‌ مدرسة‌ أهل‌ الحديث‌، لتنهار مبانيه‌ وتسقط‌، ويتّضح‌ من‌ هذه‌ النماذج‌ والامثلة‌ جيّداً مزج‌ الآراء الخارجيّة‌ ـبما فيها الفلسفيّة‌ والتجريبيّة‌ـ مع‌ الآراء الدينيّة‌، وتركيب‌ هذين‌ الاثنين‌ لاءنشاء فهم‌ جديد. [54]

 والجـواب‌ علي‌ هذه‌ المقـولة‌ هو أنّ التـعامل‌ مع‌ المطـالب‌ والآراء الفلسفيّة‌ قبولاً أو رفضاً يختلف‌ عن‌ التعامل‌ مع‌ المأكولات‌ والمشروبات‌ التي‌ قد يسيغ‌ المرء أحياناً نوعاً منها، وقد يختار نوعاً آخر أحياناً أُخري‌.

 فالحكيم‌ يرتّب‌ مقدّمات‌ معيّنة‌ علي‌ أساس‌ المنطق‌ القويم‌ والبرهان‌ المتين‌ ليحصل‌ علي‌ نتيجة‌ ما، فيلزم‌ العالم‌ ويجبره‌ علي‌ قبول‌ رأيه‌ واستنتاجه‌؛ فما علاقة‌ كانْت‌ وديكارت‌ بهذا الامر؟! وما علاقة‌ الجهل‌ والعمي‌ حين‌ يتعلّق‌ الامر بالعلم‌ والبصيرة‌؟! وما فائدة‌ نسج‌ الخرافات‌ والاباطيل‌ أمام‌ سطوع‌ شمس‌ العقل‌ والدراية‌؟!

 وعلي‌ مخالفي‌ مقولة‌ الحكيم‌ أن‌ يخرجوا ما لديهم‌ في‌ جعبتهم‌ من‌ دفاع‌، وما يُخبّـئون‌ في‌ أكمام‌ أرديتـهم‌ من‌ ردود لاءبطال‌ مقـدّمات‌ برهانه‌، أي‌ إبطال‌ صغري‌ المسألة‌ أو كُبراها، أو التشكيك‌ في‌ قياسه‌ الاستثنائي‌ّ، فالغلبة‌ ستكون‌ لهم‌ إن‌ تمكّنوا من‌ ذلك‌، ولا اعتراض‌ لاحد في‌ الامر، كانْت‌ أم‌ غيره‌.

 أمّا عند العجز عن‌ التشكيك‌ في‌ الاُصول‌ العقليّة‌ والمقدّمات‌ البرهانيّة‌ المسلّمة‌ للحكيم‌، فما الذي‌ يمكن‌ أن‌ ينطوي‌ عليه‌ الحديث‌ عن‌ هذا أو ذاك‌، وأتباع‌ رأي‌ هذه‌ المدرسة‌ أو تلك‌، غير الاءقرار بالجهل‌ والاءغراء به‌؟! 

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

 الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الارجاعات:


[1] ـ مقالة‌ «بسط‌ وقبض‌ تئوريك‌ شريعت‌»، مجلّة‌ «كيهان‌ فرهنگي‌» العدد 54، تيرماه‌ 1367 شمسي‌ّ، رقم‌ ص‌ 15، العمود الثالث‌.

 [2] ـ «الميزان‌ في‌ تفسير القرآن‌» ج‌ ص‌ 72 إلي‌ 88.

 [3] ـ الآية‌ 164، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

 [4] ـ الآية‌ 32، من‌ السورة‌ 14: إبراهيم‌.

 [5]  يقول‌ في‌ أقرب‌ الموارد في‌ مادّة‌ مَخَرَ: تَمَخَّرَ وَاسْتَمْخَرَ الريح‌: استقبلها بأنفه‌. الماخرة‌ مؤنَّث‌ ماخر، ج‌: مواخر، الفُلك‌ المواخر: التي‌ تشقّ الماء مع‌ صوت‌.

 [6] ـ الآية‌ 14، من‌ السورة‌ 16: النحل‌.

 [7] ـ الآية‌ 12، من‌ السورة‌ 35: فاطر.

 [8] ـ الآيتان‌ 6 و من‌ السورة‌ 78: النبأ.

 [9] ـ الآية‌ 15، من‌ السورة‌ 16: النحل‌.

 [10] ـ الآية‌ من‌ السورة‌ 35: فاطر.

 [11] ـ الآيتان‌ 26 و 27، من‌ السورة‌ 21: الانبياء

[12].ـ الآية‌ 61، من‌ السورة‌ 6: الانعام‌.

  [13] ـ الآية‌ 21، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

 [14] ـ الآية‌ 31، من‌ السورة‌ 29: العنكبوت‌.

 [15] ـ الآية‌ 27، من‌ السورة‌ 21: الانبياء.

 [16] ـ الآية‌ من‌ السورة‌ 66: التحريم‌.

 [17] ـ الآية‌ 164، من‌ السورة‌ 37: الصافّات‌.

 [18] ـ الآية‌ 21، من‌ السورة‌ 81: التكوير.

 [19] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 23، من‌ السورة‌ 34: سبأ.

 [20] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 44، من‌ السورة‌ 35: فاطر.

 [21] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 21، من‌ السورة‌ 12: يوسف‌.

 [22] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ من‌ السورة‌ 65: الطلاق‌.

 [23] ـ ذيل‌ الآية‌ 17، من‌ السورة‌ 19: مريم‌.

 [24] ـ «الميزان‌ في‌ تفسير القرآن‌» ج‌ 17، ص‌ 9 و 10.

 [25] ـ الآيات‌ 1 إلي‌ من‌ السورة‌ 79: النازعات‌.

 [26] ـ صدر الآية‌ 11، من‌ السورة‌ 13: الرعد.

 [27] ـ صدر الآية‌ من‌ السورة‌ 16: النحل‌.

 [28] ـ ذيل‌ الآية‌ 15، من‌ السورة‌ 40: المؤمن‌.

 [29] ـ الآيتان‌ 26 و 27، من‌ السورة‌ 21: الانبياء.

 [30] ـ الآية‌ 50، من‌ السورة‌ 16: النحل‌.

 [31] ـ الآية‌ 56، من‌ السورة‌ 11: هود.

 [32] ـ الآية‌ 43، من‌ السورة‌ 35: فاطر.

 [33] ـ الآية‌ 164، من‌ السورة‌ 37: الصافّات‌.

 [34] ـ الآية‌ 21، من‌ السورة‌ 81: التكوير.

 [35] ـ الآية‌ 23، من‌ السورة‌ 34: سبأ.

 [36] ـ هذه‌ الجملة‌ ليست‌ عين‌ الآية‌ القرآنيّة‌، بل‌ اقتباس‌ من‌ الآية‌ من‌ السورة‌ 25: الفرقان‌، القائلة‌: وَاتَّخَذُوا مِن‌ دُونِهِ ءَالِهَةً لاَّ يَخْلُقونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَو'ةً وَلاَ نُشُورًا.

 [37] ـ الآيتان‌ 19 و 20، من‌ السورة‌ 21: الانبياء.

 [38] ـ الآية‌ 206، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

 [39] ـ «الميزان‌ في‌ تفسير القرآن‌» ج‌ 20، ص‌ 183 إلي‌ 185. والآية‌ هي‌ الآية‌ 49، من‌ السورة‌ 16: النحل‌.

 [40] ـ الآيات‌ 1 إلي‌ من‌ السورة‌ 37: الصافّات‌.

 [41] ـ الآيات‌ 26 إلي‌ 28، من‌ السورة‌ 72: الجنّ.

 [42] ـ صدر الآية‌ 97، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

 [43] ـ الآيتان‌ 193 و 194، من‌ السورة‌ 26: الشعراء.

 [44] ـ الآيات‌ 13 إلي‌ 16، من‌ السورة‌ 80: عبس‌.

 [45] ـ الآيتان‌ 165 و 166، من‌ السورة‌ 37: الصافّات‌.

 [46] ـ صدر الآية‌ 64، من‌ السورة‌ 19: مريم‌.

 [47] ـ الآية‌ 61، من‌ السورة‌ 6: الانعام‌.

 [48] ـ الآية‌ 11، من‌ السورة‌ 32: السجدة‌.

 [49] ـ الآيات‌ 1 إلي‌ من‌ السورة‌ 77: المرسلات‌.

 [50] ـ الآيات‌ 124 إلي‌ 126، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

 [51] ـ الآيتان‌ 9 و 10، من‌ السورة‌ 8: الانفال‌.

 [52] ـ الآية‌ من‌ السورة‌ 66: التحريم‌.

 [53] ـ «ديوان‌ ابن‌ فارض‌» التائيّة‌ الكبري‌، ص‌ 73، الابيات‌ 280 إلي‌ 283.

 [54] ـ مقالة‌ «بسط‌ وقبض‌ تئوريك‌ در شريعت‌»، مجلّة‌ «كيهان‌ فرهنگي‌»، العدد 54، تيرماه‌ 1367 شمسي‌ّ. رقم‌ ص‌ 15، العمود الثالث‌.

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

 الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com