|
|
الصفحة السابقةبحث تأريخيّ لسماحة العلاّمة في الاعتقاد بالصانع وتوحيدهوقد أورد سماحة الاُستاذ قدّس الله سرّه في تفسيره بحثاً تحت عنوان « بحث تأريخيّ » فيما يلي نصّه: القول بأنّ للعالم صانعاً ثمّ القول بأ نّه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكّري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتّي أنّ الوثنيّة المبنيّة علی الاءشراك، إذا أمعنا في حقيقة معناها وجدناها مبنيّة علی أساس توحيد الصانع، وإثبات شفعاء عنده ؛ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَي اللَهِ زُلْفَي'. [1] وإن انحرفت بعد عن مجراها، وآل أمرها إلي إعطاء الاستقلال والاصالة لآلهة دون الله. والفطرة الداعية إلي توحيد الاءله وإن كانت تدعو إلي إله واحد غير محدود العظمة والكبرياء ذاتاً وصفة ـ علی ما تقدّم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز غير أنّ أُلفة الاءنسان وأُنسه في ظرف حياته بالآحاد العدديّة من جانب، وبلاء الملّيّين بالوثنيّين والثنويّين وغيرهم لنفي تعدّد الآلهة من جانب آخر سجّل عدديّة الوحدة وجعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه. ولذلك تري المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديمة واليونان والاءسكندريّة وغيرهم ممّن بعدهم يعطي الوحدة العدديّة حتّي يصرّح بها مثل الرئيس أبي علیّ ابن سينا في كتاب « الشفاء »، وعلی هذا المجري يجري كلام غيره، ممّن بعده إلي حدود الالف من الهجرة النبويّة. وأمّا أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم علی التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العدديّة أيضاً، في عين أنّ هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامّة ؛ فهذا ما يتحصّل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة. فالذي بيّنه القرآن الكريم من معني التوحيد أوّل خطوة خطيت في تعلیم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أنّ أهل التفسير والمتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة والتابعين ثمّ الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث وكتب التفسير المأثورة منهم لا تري فيها أثراً من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، ولا بسلوك استدلاليّ. ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلاّ ما ورد في كلام الاءمام علی بن أبي طالب علیه أفضل السلام خاصّة. فإنّ كلامه هو الفاتح لبابها والرافع لسترها وحجابها علی أهدي سبيل وأوضح طريق من البرهان، ثمّ ما وقع في كلام الفلاسفة الاءسلاميّين بعد الالف الهجريّ، وقد صرّحوا بأ نّهم إنّما استفادوه من كلامه علیه السلام. وهذا هو السرّ في اختصارنا في البحث الروائيّ السابق علی نقل نماذج من غرر كلامه علیه السلام الرائق، لانّ السلوك في هذه المسألة وشرحها من مسلك الاحتجاج البرهانيّ لا يوجد في كلام غيره علیه السلام. ولهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفيّ مستقلّ لهذه المسألة، فإنّ البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلّفة من هذه المقدّمات المبيّنة في كلامه، لا تزيد علی ما في كلامه بشيء، والجميع مبنيّة علی صرافة الوجود وأحديّة الذات جلّت عظمته. انتهي كلام الاُستاذ العلاّمة. [2] وللفيلسوف المسلم الملاّ صدر الدين الشيرازيّ بحث تحت عنوان: فِي أَنَّ وَاجِبَ الوُجُودِ تَمَامُ الاَشْيَاءِ كُلُّ المَوْجُودَاتِ، وَإلیْهِ يَرْجِعُ الاُمُورُ كُلُّهَا. يقول فيه: هذا من الغوامض الاءلهيّة التي يستصعب إدراكه إلاّ علی من آتاه الله من لدنه علماً وحكمة، لكنّ البرهان قائم علی أنّ كلّ: بَسِيطُ الحَقِيقَةِ كُلُّ الاَشْيَاءِ الوُجُودِيَّةِ، إلاّ ما يتعلّق بالنقائص والاعدام. والواجب تعالي بسيط الحقيقة، واحد من جميع الوجوه، فهو كلّ الوجود كما أنّ كلّه الوجود. [3] وقد أثبت سماحة الاُستاذ العلاّمة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه هذه المسألة وبرهن قواعدها، وتعتبر من المسائل البديهيّة والاُصوليّة المبرهنة في علم الفلسفة والتوحيد عند تلامذته. وعلی أساس هذه القاعدة فقد نزّه الذات المقدّسة لساحة الواجب عزّ شأنه من الوحدة العدديّة ووصفه بالوحدة الحقّة الحقيقيّة التي تمثّل الوجود الصرف ووحدته الصرفة، وبهذه الطريقة ردّ علی شبهة ابن كمّونة. شرح العلاّمة قدّس سرّه لحقيقة معني الوحدة بالصرافةوقد بيّن معني الوحدة الصرفة بما يلي: المراد من الشيء المتّصف بالوحدة هو ذلك الشيء الذي يكون علی نحو من البساطة والمحوضة والصرافة، ويشتمل علی جميع معانيها ومفاهيمها ومصاديق محتوياتها، بحيث لو نظرنا إلي أيّ معني من معاني ذلك الشيء ومصاديقه، لوجدنا أ نّه لا يخرج عنه، بل هو في داخله، ويمكن القول بأ نّه: هُوَ هُو، خلافاً للشيء المتّصف بالوحدة العدديّة الذي يمكن تصوّر نظير وشبيه ومثيل له في خارجه. فمثلا، أنّ حقيقة معني الاءنسان ومفهومه، وهي النفس الناطقة، تحمل معني الصرافة، لانّ كلّ ما يمكن أن نتصوّره من هذا المفهوم والمعني والماهيّة يشير في ذاته إلي معني الاءنسانيّة المفروضة، ولا يوجد شيء خارجه. إنّ ما يمكننا فهمه من معني الحيوان الناطق، والشيء العاقل المتحرِّك بالاءرادة، والشيء المتعجِّب الباكي، وباختصار حقيقة الافراد كما في زيد وعمرو، عندما نتصوّر كلاّ منهم بادي ذي بدء بصورة إنسان، فسوف نري أ نّه تصوّر شامل ومستوعب وبسيط وهو ليس بخارج عن ذلك، فأمّا وحدة زيد فهي وحدة عدديّة. لا نّه يمكن افتراض عمرو وخالد مقابل ذلك سواء كان موجوداً في الخارج أم لم يكن. صِرفُ الوجود الذي لا أتمّ منه، كلّما فرضتَه ثانياً فإذا نظرت إليه فإذاً هو هوإنّ للوجود صرافة، وذلك لانّ كلّ معني من معانيه ومصداق من مصاديقه سواء كان شديداً أم ضعيفاً، كبيراً أم صغيراً، مجرّداً أم غير مجرّد متعيّناً أم غير متعيّن، ملكوتيّاً أم مُلكيّاً، عقليّاً أم نفسيّاً أم طبيعيّاً، كلّ ذلك يدخل في معني صرف الوجود. ولا نّنا أخذنا بنظر الاعتبار الوجود بِمَا هُوَ وُجُودٌ، فقد راعينا جميع تلك الملاحظات، وذلك بإسقاط الحدود الماهويّة. وهذا هو معني كلام مؤسّس « حكمة الاءشراق » من أنّ: صِرْفُ الوُجُودِ الَّذِي لاَ أَتَمَّ مِنْهُ، كُلَّمَا فَرَضْتَهُ ثَانِياً فَإذَا نَظَرْتَ إلیْهِ فَإذاً هُوَ هُوَ. وعلی هذا الاساس كان سماحة الاُستاذ يقول بـ « تشخّص الوجود ». وهذه المسألة أدقّ وأعمق وألطف وأعلی من مسائل وحدة الوجود، في باب توحيد الحقّ تعالي. كانت هذه مقتطفات من البحوث والدروس الشفهيّة للاُستاذ والتي كنّا نستفيد منها. جزاه الله عن الحقّ خير الجزاء. وأمّا ما كتبه في تعلیقة بحث الملاّ صدرا هنا لاءثبات بحثه ونظريّته فهو: وملخّص البرهان هو أنّ أيّ هويّة صحيحة يُسلب شيء منها، فإنّ القضيّة المستحصلة من ذلك هي الاءيجاب والسلب. وكلّ ما كان علی هذه الشاكلة، لابدّ أن يكون مركّباً من الاءيجاب ( ثبوته لنفسه ) والسلب ( نفي غيره عنه ). وينتج عن هذا الامر أنّ أيّة هويّة يُسلب شيء منها، هي هويّة مركّبة. والعكس العكس أي: أنّ جميع الذوات البسيطة الحقيقة لا يُسلب منها شيء. وإن شئت فقل: بَسِيطُ الحَقِيقَةِ كُلُّ الاَشْيَاءِ. ولا يجب أن نغفل بالطبع، من أنّ هذه القضيّة الحمليّة ( أي حمل الاشياء علی بسيط الحقيقة ) هي من قبيل حمل الشائع الصناعيّ. لانّ الامر في مسألة حمل الشائع ( كقولنا: زيد إنسان، وزيد قائم ) محمول يُحمل علی موضوعه بوجهيه الاءيجابيّ والسلبيّ والمتركّبة ذاته منهما معاً. وإذا حُمل شيء من الاشياء علی بسيط الحقيقة من جهة كونه مركّباً، ففي هذه الصورة يصدق علیه ذلك حتّي من جهته السلبيّة. وعلی هذا، سيكون مركّباً في حين أ نّنا قد فرضناه بسيط الحقيقة، وهَذَا خُلْفٌ. ولذا، فعلی المحمول علی صرف الوجود أن يمثّل الجهات الوجوديّة للاشياء وحسب، وإن شئت فقل: إنّه مشتمل علی جميع الكمالات، أو إنّه مهيمن علی جميع الكمالات. وعلی هذا المنوال يكون حمل المشوب علی الصرف، والمحدود علی المطلق. [4] وللحكيم المتأ لّه الحاجّ الملاّ هادي السبزواريّ أعلی الله درجته كذلك تعلیقة مفصّلة هنا لاءثبات هذا المرام، ومن جملة ما قال: لعلّ كلام الشيخ العطّار في « منطق الطير » يشير إلي هذا الامر: هم ز جمله پيش هم پيش از همه جمله از خود ديده وخويش ازهمه [5] صرف الوجود ينفي كلّ غيريّة سواهوأورد السيّد المحقّق الداماد أعلی الله مقامه في « التقديسات » ما يلي: وَهُوَ كُلُّ الوُجُودِ، وَكُلُّهُ الوُجُودُ، وَكُلُّ البَهَاءِ وَالكَمَالِ، وَكُلُّهُ البَهَاءُ وَالكَمَالُ. وَمَا سِوَاهُ عَلَی الاءطْلاَقِ لَمَعَاتُ نُورِهِ، وَرَشَحَاتُ وُجُودِهِ، وَظِلاَلُ ذَاتِهِ. وَإذْ كُلُّ هُوِيَّةٍ مِنْ نُورِ هُوِيَّتِهِ فَهُوَ الهُوَ الحَقُّ المُطْلَقُ، وَلاَ هُوَ عَلَی الاءطْلاَقِ إلاَّ هُوَ. [6] نعم، وعلی هذا الاساس، يقول محيي الدين بن عربي: سُبْحانَ الَّذي أظْهَرَ الاَشْيَاءَ وَهُوَ عَيْنُهَا. وأنشد الشيخ إبراهيم العراقيّ الهمدانيّ يقول: غيرتش غير در جهان نگذاشت لاجرم عين جمله اشيا شد [7] والبيت المذكور هو من جملة أبيات البند الثالث من إحدي ترجيعاته المشتملة علی أحد عشر بنداً، وجميع البنود المذكورة هي علی النحو التالي: آفتاب رخ تو پيدا شد عالم اندر تَفَش هويدا شد وام كرد از جمال تو نظري حسن رويت بديد وشيدا شد عاريت بستد از لبت شكري ذوق آن چون بيافت گويا شد [8] شبنمي بر زمين چكيد سحر روي خورشيد ديد ودر وا شد بر هوا شد بخاري از دريا باز چون جمع گشت دريا شد غيرتش غير در جهان نگذاشت لاجرم عين جمله اشيا شد نسبت اقتدار وفعل به ما هم از آن روي بود كو ما شد جام گيتي نماي او مائيم كه به ما هر چه بود پيدا شد تا به اكنون مرا نبود خبر بر من امروز آشكارا شد كه همه اوست هر چه هست يقين جان وجانان ودلبر ودل ودين [9]
أَعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحيم وَصَلَّي اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلی قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَليِّ العَظِيمِ
قَالَ اللَهُ الحَكِيمُ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ ( علی لسان النبيّ يوسف علی نبيّنا وآله وعلیه الصلاة والسلام مخاطباً صاحبَيه في السجن ): يَـ'صَـ'حِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَهُ الْوَ حِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ´ أَسْمَآءً ( بلا مسمّي ولا أصالة ولا واقعيّة ) سَمَّيْتُمُوهَا´ أَنتُمْ وَءَابَا´ؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَهُ بِهَا مِن سُلْطَـ'نٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُو´ا إِلاَّ´ إِيَّاهُ ذَ لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـ'كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. ( الآيتان 39 و40، من السورة 12: يوسف ). تفسير العلاّمة لآية: ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَهُ الْوَ ' حِدُ الْقَهَّارُقال سماحة أُستاذنا العلاّمة برّد الله مضجعه في تفسير هاتين الآيتين ما يلي: قوله تعالي: يَـ'صَـ'حِبَيِ السّـِجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَهُ الْوَ حِدُ الْقَهَّارُ. لفظة خَيْرٌ بحسب الوزن صفة من قولهم: خَارَ يَخِيرُ خِيَرَةً: إذَا انْتَخبَ وَاخْتَارَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ يَتَردَّدُ بَينَهُمَا، مِنْ حَيْثُ الفِعْلِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الاَخْذِ بِوَجْهٍ. فالخير منهما هو الذي يفضل علی الآخر في صفة المطلوبيّة فيتعيّن الاخذ به. ف خَيْرُ الفِعْلَيْنِ هو المطلوب منهما الذي يتعيّن القيام به، و خَيْرُ الشَّيْئَينِ هو المطلوب منهما من جهة الاخذ به ك خَيْرِ المَالَيْنِ من جهة التمتّع به و خَيْرِ الدَّارَيْنِ من جهة سكناهما و خَيْرِ الاءنْسَانَيْنِ من جهة مصاحبته، و خَيْرِ الرَّأْيَيْنِ من جهة الاخذ به، و خَيْرِ الاءلَهَيْنِ من جهة عبادته. ومن هنا ذكر أهل الادب أن الخير في الاصل « أخْيَر » أفعل تفضيل، والحقيقة أ نّه صفة مشبّهة تفيد بحسب المادّة ما يفيده أفعل التفضيل من الفضل في القياس. [10] وبما مرّ يتبيّن أن قوله: يَـ'صَـ'حِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَهُ الْوَ حِدُ الْقَهَّارُ إلي آخره، مسوق لبيان الحجّة علی تعيينه تعالي للعبادة إذا فرض تردّد الامر بينه وبين سائر الارباب التي تُدعي من دون الله، لا لبيان أ نّه تعالي هو الحقّ الموجود دون غيره من الارباب، أو أ نّه تعالي هو الاءله الذي تنتهي إليه الاشياء بدءاً وعوداً دونها، أو غير ذلك. فإنّ الشيء إنّما يسمّي خيراً من جهة طلبه وتعيينه بالاخذ به بنحو، فقوله: أَهُوَ خَيْرٌ أَمْ سَائِر الاَرْبَابِ، يريد به السؤال عن تعيّن أحد الطرفين من جهة الاخذ به، والاخذ بالربّ هو عبادته. ثمّ إنّه سمّي آلهتهم أرباباً متفرّقين، لا نّهم كانوا يعبدون الملائكة وهم عندهم صفات الله سبحانه أو تعيّنات ذاته المقدّسة التي تستند إليها جهات الخير والسعادة في العالم، فيفرّقون بين الصفات بتنظيمها طولاً وعرضاً ويعبدون كلاّ بما يخصّه من الشأن، فهناك إله العلم وإله القدرة وإله السماء، وإله الارض وإله الحُسن وإله الحبّ وإله الامن والخصب وغير ذلك، ويعبدون الجنّ وهم مبادي الشرّ في العالم، كالموت والفناء والفقر والقبح والالم والغمّ وغير ذلك، ويعبدون أفراداً، كالكمّلين من الاولياء والجبابرة من السلاطين والملوك وغيرهم، وهم جميعاً متفرّقون من حيث أعيانهم ومن حيث أصنامهم والتماثيل المتّخذة لهم المنصوبة للتوجّه بها إليهم. وقابل الارباب المتفرّقين بذكر الله عزّ اسمه ووصفه بالواحد القهّار، حيث قال: أَمِ اللَهُ الْوَ حِدُ الْقَهَّارُ. فالكلمة تفيد بحسب المعني خلاف ما يفيده قوله: أأرباب متفرّقون، لضرورة التقابل بين طرفي التردّد. فالله علم بالغلبة يراد به الذات المقدّسة الاءلهيّة التي هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه، ووجود لا يتطرّق الفناء والعدم إليه. والوجود الذي هذا شأنه لا يمكن أن يفرض له حدّ محدود ولا أمد ممدود، لانّ كلّ محدود فهو معدوم وراء حدّه، والممدود باطل بعد أمده، فهو تعالي ذات غير محدود، ووجود غير متناه بحدّ، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض له صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلي كونه تعالي محدوداً غير موجود في ظرف الصفة وفاقراً لا يجد الصفة في ذاته ولم يمكن أيضاً فرض المغايرة والبينونة بين صفاته الذاتيّة، كالحياة والعلم والقدرة، لانّ ذلك يؤدّي إلي وجود حدود في داخل الذات لا يوجد ما في داخل حدّ في خارجه، فيتغاير الذات والصفات ويتكثّر جميعاً ويحدّ. وهذا كلّه ممّا اعترفت به الوثنيّة علی ما بأيدينا من معارفهم. فممّا لا يتطرّق إليه الشكّ عند المثبتين لوجود الاءله سبحانه لو تفطّنوا أنّ اللَهَ سُبْحَانَهُ مَوْجُودٌ فِي نَفْسِهِ ثَابِتٌ بِذَاتِهِ لاَ مَوْجُودٌ بِهَذَا النَّعْتِ غَيْرُهُ، وأنّ ما له من صفات الكمال فهو عينه غير زائد علیه، ولا بعض صفات كماله صفات زائدة علی بعض. فهو علم وقدرة وحياة بعينه. فهو تعالي أحديّ الذات والصفات أي أ نّه واحد في وجوده بذاته، ليس قباله شيء إلاّ موجوداً به لا مستقلاّ بالوجود، وواحد في صفاته، أي ليس هناك صفة له حقيقيّة إلاّ أن تكون عين الذات فَهُوَ الَّذِي يَقْهَرُ كُلَّ شَيءٍ لاَ يَقْهَرُهُ شَيءٌ. والاءشارة إلي هذا كلّه هي التي دعته أن يصف الله سبحانه بالواحد القهّار، حيث قال: أَمِ اللَهُ الْوَ حِدُ الْقَهَّارُ، أي أ نّه تعالي واحد لكن لا واحد عدديّ إذا أُضيف إليه آخر صار اثنين، بل واحد لا يمكن أن يفرض قباله ذات إلاّ وهي موجودة به لا بنفسها، ولا أن يفرض قباله صفة له إلاّ وهي عينه وإلاّ صارت باطلة، كلّ ذلك لا نّه بحث غير محدود بحدّ ولا منته إلي نهاية. وقد تمّت الحجّة علی الخصم منه في هذا السؤال بما وصف الارباب بكونهم متفرّقين وإيّاه تعالي بالواحد القهّار، لانّ كون ذاته المتعالية واحداً قهّاراً يبطل التفرقة ـ أيّ تفرقة مفروضة بين الذات والصفات، فالذات عين الصفات والصفات بعضها عين بعض، فمن عبد الذات عبد الذات والصفات، ومن عبد علمه فقد عبد ذاته، وإن عبد علمه ولم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه ولا ذاته، وعلی هذا القياس. فإذا فرض تردّد العبادة بين أرباب متفرّقين وبين الله الواحد القهّار تعالي وتقدّس تعيّنت عبادته دونهم، إذ لا يمكن فرض أرباب متفرّقين ولا تفرقة في العبادة. نعم، يبقي هناك شيء وهو الذي يعتمد علیه عامّة الوثنيّة من أن الله سبحانه أجلّ وأرفع ذاتاً من أن تحيط به عقولنا أو تناله أفهامنا، فلا يمكننا التوجّه إليه بعبادته، ولا يسعنا التقرب منه بعبوديّته والخضوع له. والذي يسعنا هو أن نتقرّب بالعبادة إلي بعض مخلوقاته الشريفة التي هي مؤثّرات في تدبير النظام العالميّ، حتّي يقرّبونا منه ويشفعوا لنا عنده، فأشار علیه السلام في الشطر الثاني من كلامه، أعني قوله: مَا تَعْبُدُونَ دُونِهِ إِلاَّ´ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَا´ أَنتُمْ وَءَابَا´ؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَهُ بِهَا مِن سُلْطَـ'نٍ، إلي دفعه. تفسير العلاّمة لآية: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُو´ا إِلاَّ´ إِيَّاهُوعقّب علی الآية: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُو´ا إِلاَّ´ إِيَّاهُ: بدأ بخطاب صاحبيه في السجن أوّلاً ثمّ عمّم الخطاب للجميع، لانّ الحكم مشترك بينهما وبين غيرهما من عبدة الاوثان. ونفي العبادة إلاّ عن الاسماء، كناية عن أ نّه لا مسمّيات وراء هذه الاسماء، فتقع العبادة في مقابل الاسماء كلفظة إله السماء، و إله الارض، و إله البحر، و إله البرّ، و الاب، و الاُمّ، و ابن الاءله، ونظائر ذلك. وقد أكّد كون هذه الاسماء ليس وراءها مسمّيات بقوله: أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ، فإنّه في معني الحصر، أي لم يضع هذه الاسامي أحد غيركم، بل أنتم وآباؤكم وضعتموها، ثمّ أكّده ثانياً بقوله: مَآ أَنزَلَ اللَهُ بِهَا مِن سُلْطَـ'نٍ. والسلطان هو البرهان لتسلّطه علی العقول، أي ما أنزل الله بهذه الاسماء أو بهذه التسمية من برهان يدلّ علی أنّ لها مسمّيات وراءها، وحينئذٍ كان يثبت لها الاُلوهيّة، أي المعبدويّة، فصحّت عبادتكم لها. ومن الجائز أن يكون ضمير ( بها ) عائداً إلي العبادة، أي ما أنزل الله حجّة علی عبادتها بأن يثبت لها شفاعة واستقلالاً في التأثير حتّي تصحّ عبادتها والتوجّه إليها، فإنّ الامر إلي الله علی كلّ حال. وإليه أشار بقوله بعده: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ. وهو أعني قوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ، ممّا لا ريب فيه البتة، إذ الحكم في أمر ما لا يستقيم إلاّ ممّن يملك تمام التصرّف، ولا مالك للتصرّف والتدبير في أُمور العالم وتربية العباد حقيقة إلاّ للّه سبحانه، فلا حكم بحقيقة المعني إلاّ له. وهو أعني قوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ، مفيد فيما قبله وما بعده صالح لتعلیلهما معاً ؛ أمّا فائدته في قوله قبل: مَا´ أَنزَلَ اللَهُ بِهَا مِن سُلْطَـ'نٍ، فقد أظهرت آنفاً ؛ وأمّا فائدته في قوله بعد: أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُو´ا إِلاَّ´ إِيَّاهُ، فلا نّه متضمّن لجانب إثبات الحكم، كما أنّ قوله قبل: مَا´ أَنزَلَ اللَهُ بِهَا مِن سُلْطَـ'نٍ، متضمّن لجانب السلب. وحكمه تعالي نافذ في الجانبين معاً، فكأ نّه لمّا قيل: مَا´ أَنزَلَ اللَهُ بِهَا مِن سُلْطَـ'نٍ، قيل: فماذا حكم به في أمر العبادة ؟ فقيل: أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُو´ا إِلاَّ´ إِيَّاهُ ولذلك جيء بالفعل. ومعني الآية والله أعلم: ما تعبدون من دون الله إلاّ أسماء خالية عن المسميّات لم يضعها إلاّ أنتم وآباؤكم من غير أن ينزل الله سبحانه من عنده برهاناً يدلّ علی أنّ لها شفاعة عند الله أو شيئاً من الاستقلال في التأثير حتّي يصحّ لكم دعوي عبادتها لنيل شفاعتها، أو طمعاً في خيرها أو خوفاً من شرّها. وأما قوله: ذَ لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـ'كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ، فيشير به إلي ما ذكره من توحيد الله ونفي الشريك عنه، والقيّم هو القائم بالامر القويّ علی تدبيره أو القائم علی ساقه غير المتزلزل والمتضعضع، والمعني أنّ دين التوحيد وحده هو القويّ علی إدارة المجتمع وسوقه إلي منزل السعادة، والدين المحكم غير المتزلزل الذي فيه الرشد من غير غيّ، والحقّيّة من غير بطلان، ولكنّ أكثر الناس لاُنسهم بالحسّ والمحسوس وانهماكهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب واستقامة العقل، لا يعلمون ذلك، وإنّما يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة معرضون. أمّا أنّ التوحيد دين فيه الرشد ومطابقة الواقع فيكفي في بيانه ما أقامه علیه السلام من البرهان. وأمّا أ نّه هو القويّ علی إرادة المجتمع الاءنسانيّ، فلانّ هذا النوع إنما يسعد في مسير حياته إذا بني سنن حياته وأحكام معاشه علی مبني حقّ مطابق للواقع فسار علیها، لا إذا بناها علی مبني باطل خرافيّ لا يعتمد علی أصل ثابت. فقد بان من جميع ما تقدّم أنّ الآيتين جميعاً، أعني قوله: يَـ'صَـ'حِبَيِ السِّجْنِ إلي قوله: أَلاَّ تَعْبُدُو´ا إِلاَّ´ إِيَّاهُ، برهان واحد علی توحيد العبادة. محصله أنّ عبادة المعبود إن كانت لاُلوهيّته في نفسه ووجوب وجوده بذاته، فالله سبحانه في وجوده واحد قهّار لا يُتصوّر له ثانٍ ولا مع تأثيره مؤثّر آخر، فلا معني لتعدّد الآلهة. وإن كانت لكون آلهة غير الله شركاء له شفعاء عنده، فلا دليل علی ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه، بل الدليل علی خلافه، فإنّ الله حكم من طريق العقل وبلسان أنبيائه أن لا يعبد إلاّ هو. ردّ «الميزان» علی تفسيرَي «الكشّاف» و«البيضاويّ»وبذلك يظهر فساد ما أورده البيضاويّ في تفسيره تبعاً لـ « الكشّاف » أنّ الآيتين تتضمّنان دليلين علی التوحيد، فما في الاولي وهو قوله: ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَهُ الْوَ حِدُ الْقَهَّارُ، دليل خطابيّ وما في الثانية، وهو قوله: مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ´ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَا إلي آخره، برهان تامّ. قال البيضاويّ: وهذا من التدرّج في الدعوة والزام الحجّة بيّن لهم أوّلاً رجحان التوحيد علی اتّخاذ الآلهة علی طريق الخطابة، ثم برهن علی أنّ ما يسـمّونها آلهة ويعبدونها لا تسـتحقّ الاءلهيّة، فإنّ اسـتحقاق العبادة إمّا بالذات وإمّا بالغير، وكلا القسمين منتفي عنهما، ثمّ نصّ علی ما هو الحقّ القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه انتهي. ولعلّ الذي حداه إلي ذلك ما في الآية الاُولي من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان الخطابيّ وقد فاته ما فيها من قيد الواحد القّهار وقد عرفت تقرير ما تتضمّنه الآيتان من البرهان وأنّ الذي ذكره من معني الآية الثانية هو مدلول مجموع الآيتين دون الثانية فحسب. وربّما يقرّر مدلول الآيتين برهانين علی التوحيد بوجه آخر، ملخّصه أنّ الله الواحد الذي يقهر بقدرته الاسباب المتفرّقة التي تفعل بالكون ويسوقها علی تلائم آثارها المتفرّقة المتنوّعة بعضها مع بعض حتّي ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الاطراف، كما هو المشهود من وحدة النظام وتوافق الاسباب خير من أرباب متفرّقين تترشّح منها لتفرّقها ومضادّتها أنظمة مختلفة وتدابير متضادّة تؤدّي إلي انفصام وحدة النظام الكونيّ وفساد التدبير الواحد العموميّ. ثمّ الآلهة المعبودة من دون الله أسماء لا دليل علی وجود مسمّياتها في الخارج بتسميتكم، لا من جانب العقل ولا من جانب النقل، لانّ العقل لا يدلّ إلاّ علی التوحيد، والانبياء لم يؤمروا من جهة الوحي إلاّ بأن لا يُعبد إلاّ الله وحده انتهي. وهذا التقرير ـ كما تري ينزل الآية الاُولي علی معني قوله تعالي: لَوْ كَانَ فِيهِمَا´ ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللَهُ لَفَسَدَتَا [11]، ويعمّم الآية الثانية علی نفي أُلوهيّة آلهة إلاّ الله بذاتها، ونفي أُلوهيّتها من جهة إذن الله في شفاعتها. ويرد علیه: أوّلاً: أنّ فيه تقييداً لاطلاق قوله: القهّار، من غير مُقيّد، فإنّ الله سبحانه كما يقهر الاسباب في تأثيرها، يقهر كلّ شيء في ذاته وصفته وآثاره، فلا ثاني له في وجوده، ولا ثاني له في استقلاله في نفسه وفي تأثيره، فلا يتأتّي مع وحدته القاهرة علی الاءطلاق أن يفرض شيء يستقلّ عنه في وجوده، ولا أمر يستقلّ عنه في أمره. والاءله الذي يفرض دونه إمّا مستقلّ عنه في ذاته وآثار ذاته جميعاً، وإمّا مستقلّ عنه في آثار ذاته فحسب، وكلام الامرين محال، كما ظهر. و ثانياً: أنّ فيه تعميماً لخصوص الآية الثانية من غير معمّم، فإنّ الآية كما عرفت تنيط كونها آلهة بإذن الله، وحكمه كما ظاهر قوله: مَآ أَنزَلَ اللَهُ بِهَا مِن سُلْطَـ'نٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ إلي آخره. ومن الواضح أنّ هذه الاُلوهيّة المنوطة بإذنه تعالي وحكمه أُلوهيّة شفاعة لا أُلوهيّة ذاتيّة، أي أُلوهيّة بالغير، لا ما هو أعمّ من الاُلوهيّة بالذات وبالغير جميعاً. [12] نعم، فإنّ مسألة التوحيد في الوجود في وقتنا الحاضر أضحت من المسائل الشرعيّة المتقنة، والفلسفيّة المحكمة، والمسلّم بها بالمشاهدة القلبيّة. وتدور معظم بحوث القرآن حول هذا المحور. وقد قال الحقير يوماً لسماحة الاُستاذ العلاّمة قدّس الله سرّه: يبدو أنّ أغلب آيات القرآن قد ركّزت بحثها في موضوع وحدة وجود ساحة الحقّ تعالي ومسألة توحيده! فقال: ليس أغلبها ؛ بل جميع آيات القرآن تستند علی هذا الاساس ؛ إنّ قوام القرآن هو أصالة الحقّ والوجود والتوحيد وكلّ الاُمور تهتدي بهذا المبدأ. ولكن بالطبع فإنّ تصوّر هذه الحقيقة أمر صعب ؛ وما لم نكن متبحّرين في علم التفسير والحكمة وعلم العرفان الروحيّ، كما هو الحال مع أُستاذنا الفقيد سماحة العلاّمة أرواحنا فداه، فلن نستطيع الاهتداء إلي سرّ ذلك. وسنطوي صفحات العمر مع التخيّلات وأوهام النفس، ونقضي أيّامنا مقطوعي العلائق مع الله الواحد القهّار، القاهر في وحدته، والذي أفنت أحديّته كلّ الذوات فيه، فأضحي أحديُّ الذات، ونَقبُرُ مسرّات القلب والروح والنفس الناطقة في غيابة أجداث الجهالة بيد تراب العدم. وكانت المواضيع المهمّة لمحيي الدين بن عربي في كيفيّة وحدة الذات المقدّسة للحقّ تعالي شأنه علی درجة من التعمّق بحيث غدا علاء الدولة السمنانيّ عاجزاً عن إدراكها ؛ وبعد أن قارنها مع حاله ( أفكاره )، وألصق به مختلف التهم كالحلول والاتحاد، حتّي اتّهمه في النهاية بالظلم وأمره بالتوبة. أصبحت صبغة التوحيد في الوجود بصورة برهان بظهور محيي الدينوقد أوردنا في كتاب « الروح المجرّد » في ذكري الموحّد العظيم والعارف الكبير الحاج السيّد هاشم الموسويّ الحدّاد أفاض الله علینا من تربته، نبذة مختصرة من اعتراض علاء الدولة علی محيي الدين وجواب الاعتراض، [13] ورأينا من المناسب أن ندخل هذا البحث بشيء من الاءطناب: يقول جناب الفاضل نجيب مايل الهَرَويّ حول علاقة علاء الدولة بابن عربي: اكتست مسألة وحدة الوجود ـ وهي من أهمّ عقائد جمهور الصوفيّة بصبغة متميّزة ؛ وذلك مع ظهور ابن عربي ( المتوفّي سنة 638 ه ) في القرن السابع الهجريّ بشكل غدت معه المحور الرئيسيّ لآرائه. وقد سعي جاهداً في إرساء أُسسها، حتّي أ نّه قام بوضع مصطلحات جديدة في هذا المجال، إلي درجة اعتبر كلامه في باب تجلّي الصانع في المصنوع رمزاً واستعارة، ووقف الكثيرين أمامه عاجزين عن فهمه، فعمدوا إلي التفتيش عن ثغرات في كلامه لاءلصاق تهمة الحلول والاتّحاد به، والسعي إلي تكفيره. فكان علاء الدولة السمنانيّ أحد هؤلاء الذين وقفوا بوجه ابن عربي بشدّة وعنف، بل وقيل إنّه كفّره شفهيّاً وتحريريّاً.[14] وقد وسّع مفهوم اصطلاح «وحدة الشهود» في مقابل فكرة وحدة الوجود لابن عربي وأسهب. وجدير بالذكر أ نّه بسبب ما كان لابن عربي من شغف وولع بمسألة حبّ الله فقد أضفي جاذبيّة علی مسألة وحدة الاديان كذلك والتي كانت من المواضيع المهمّة لدي الصوفيّة قبل ذلك. وسعي إلي إماطة الستار الصوريّ عن الوحيّ ؛ وتأمّل كنهه وسبر غوره وبحث عن القاسم المشترك للمضامين الباطنيّة لجميع الاديان، في حين ركّز علاء الدولة جهوده، من خلال مواهبه في السير والسلوك والمعاملات الصوفيّة، علی أن يكون مرشداً لاصحابه ومريديه في تكفير أصحاب المذاهب والفرق الاُخري والتشنيع بهم والتنديد بآرائهم. والواقع أنّ علاء الدولة ظلّ حتّي أواخر حياته وبسبب مقتضيات عصره، يتعامل مع الوحي في صورته الظاهريّة، ولا شكّ أنّ هذه الحالة كانت السبب في عدم قدرته علی الوصول إلي كنه حقيقة كلام ابن عربي ؛ ممّا حدا به إلي أن يستنبط من كلام الوحدة الوجوديّة لابن عربي معني الاتّحاد والحلول. ولهذا السبب أقدم علی التنديد به، وخصّص الفصل الرابع من كتاب « العروة » في الردّ علیه. وكان يمنع أتباعه من الخوض في كلام ابن عربي في المجالس التي كان يقيمها، في حين أ نّه: أوّلاً: إنّ فكرة وحدة الشهود المقابلة لوحدة الوجود، والتي سعي علاء الدولة إلي أن يُضفي علیها رونقاً وبهاءً ؛ إنّما هي في الواقع ترادف التوحيد الاءلهيّ عن طريق الكشف والشهود العرفانيّينِ. ولا يمكن لهذا المعني بحال من الاحوال أن ينافي وحدة الوجود أو يناقضها. ثانياً: هناك فارق بين الوحدة، والاتّحاد والحلول،[15] في حين أنّ علاء الدولة وبدل أن يحمل كلام ابن عربي علی محمل وحدة الوجود، فقد حمله علی محمل الاتّحاد والحلول في كتابه «العروة». ثالثاً: وكما قال جامي: لقد غفل عن حقيقة أنّ الوجود قائم علی ثلاثة اعتبارات: أوّلها الوجود بشرط الشيء، وهو الوجود المقيّد، وثانيها الوجود بشرط لا شيء، وهو الوجود العامّ، وثالثها الوجود لا بشرط شيء، وهو الوجود المطلق. وأنّ ما بحثه ابن عربي من الوجود المطلق إنّما كان ذلك علی أساس الشرط الثالث، في حين حمل علاء الدولة كلام ابن عربي علی أ نّه محمول علی الوجود العامّ، ولهذا بالغ في ردّ ذلك واستنكاره له. [16] رسالة عبد الرزّاق الكاشيّ إلي علاء الدولة السمنانيّ في وحدة الوجوديقول الفاضل مائل الهرويّ، بعد أن أورد شرحاً عن لسان علاء الدولة يُشيد فيه بابن عربي وآخر تظهر فيه الازدواجيّة عند علاء الدولة حول ابن عربي بوضوح: بينما كانت المناظرات والمكاتبات التي جرت بين كمال الدين عبد الرزّاق الكاشيّ وعلاء الدولة حول هذا الموضوع تتّسم بتهجّم علاء الدولة بشدّة علی ابن عربي، حتّي أ نّه نُقل عن الاسفراينيّ قوله إنّ علاء الدولة اعتبر مطالعة مؤلفات ابن عربي مكروهة ومحرّمة. ولمّا كانت رسالة عبد الرزّاق الكاشيّ وجواب علاء الدولة علیها ترتبطان مباشرة بكتاب « العروة » ؛ وهما في الواقع نقدٌ علی « العروة » وعلی نقد « العروة »، فإنّنا سنكتفي بهذا القدر من المقدِّمة وذلك بنقل الرسالتين. وقد ذكر الهرويّ نصّ كلتا الرسالتين، أي رسالة عبد الرزّاق وجواب علاء الدولة علیها. ولمّا كانت جميع مسائل الرسالة تدور حول مواضيع عرفانيّة وحكميّة وما تحويه من روايات، وأ نّه يمكن استنتاج الكثير من المواضيع من خلال نمط وأُسلوب تفكير علاء الدولة من خلال جوابه علی الرسالة، لذا فسيكون بعيداً عن الاءنصاف أن لا نذكر النصّ الكامل للرسالة والجواب ونحرم أهل التحقيق والتدقيق والباحثين من أرباب التوحيد والعرفان للواحد الاحد عزّ شأنه وتعالت عظمته من الاستفادة من ذلك: رسالة عبد الرزّاق إلي علاء الدولة دامت تأييدات وتوفيقات وأنوار التوحيد والتحقيق من لَدُنِ الواحد الاحد، إلي الظاهر الابهر والباطن الانور مولانا الاعظم شيخ الاءسلام، حافظ أوضاع الشريعة، وقدوة أرباب الطريقة، مقيم سرادقات الجلال، ومقوّم أستار الجمال، علاء الحقّ والدين، وغوث الاءسلام والمسلمين ؛ وتعالت درجات ترقّيه في مدارج تَخَلَّقُوا بِأَخْلاَقِ اللَهِ. بعد تقديم خالص الدعاء، أقول: إنّ هذا الفقير لم يكن ليذكر أُستاذه دون تعظيم تامّ ؛ لكنّي، وحين مطالعتي لكتاب « العروة » فقد عثرتُ علی بعض البحوث التي لم تنسجم مع عقيدتي. وبعد ذلك، فقد كان الامير إقبال يقول في الطريق: إنّ حضرة الشيخ علاء الدولة لا يتّفق مع محيي الدين بن عربي في طريقة معالجته لموضوع التوحيد. فقال أحدهم: نعم، إنّ جميع من رأيتهم وسمعتهم من المشايخ كانوا علی هذا الرأي. وما وجدته في « العروة » لم يكن علی هذه الطريقة. فبالغوا في حثّي علی الكتابة في هذا الباب! فقال الداعي: ربّما لا يلقي ذلك استحسانه، بل قد يثيره. وقد قالوا إنّه بمجرّد وصول هذا الكلام إليه فإنّه سيثير غضبه، وقد يصل الامر به إلي أن يشنّع بذلك ويخطّأه إلي درجة التكفير. وقد يراني بعين درويش غريب، لم يكن لي كلام معه من قبل! فكونوا علی يقين أنّ ما كتبتُه إنّما كان نتيجة تحقيق لا نتيجة هوي نفسيّ ؛ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ! [17] لا يخفي أنّ كلّ ما لايستند إلي الكتاب والسنّة النبويّة، لا قيمة له لدي هذه الطائفة ؛ لانّ أفرادها يسلكون طريق المتابعة وتؤيّد هذا المعني آيتان: سَنُرِيهِمْ ءَايَـ'تِنَا فِي الاْفَاقِ وَفِي´ أَنفُسِهِمْ حَتَّي' يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَ نَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَ نَّهُ و عَلَی' كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ´ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ´ إِنَّهُ و بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ. [18] والناس علی ثلاث مراتب: الاُولي: مرتبة النفس ؛ وهذه الطائفة هم أهل الدنيا وأتباع الحواسّ، وأصحاب الحجاب، ومنكرو الحقّ. لا نّهم يجهلون الحقّ وصفاته، ويقولون إنّما القرآن كلام محمّد، وإنّ الله تعالي أمره قائلاً: قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقِ بَعِيدٍ. [19] ولو أنّ أحدهم آمن لفاز ؛ ونجا من الجحيم. الثانية: مرتبة القلب ؛ وأهل هذا المقام قد تجاوزوا هذه المرتبة وأضحت عقولهم صافية، ووصلوا إلي حيث يمكنهم الاستدلال بآيات الحقّ والتدبّر فيها باعتبارها أفعال وتصرّفات إلهيّة في مظاهر الآفاق والانفس، وتوصّلوا إلي معرفة صفات الحقّ وأسمائه ؛ لانّ الافعال، هي آثار الصفات، والصفات والاسماء هي مصادر الافعال. فهم يرون علم الحقّ وقدرته وحكمته بعين العقل الصافية من كلّ شائبة من شوائب الهوي، ويعثرون علی سمع الحقّ وبصره وكلامه في ذات النفس الاءنسانيّة وآفاق هذا العالم ويعترفون بالقرآن وحقيقته ؛ حَتَّي' يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَ نَّهُ الْحَقُّ. وأهل هذه الطائفة هم أصحاب البرهان، ويستحيل إيجاد خطأ في استدلالهم ؛ فقد تنوّرت عقولهم بنور القدس وباتّصالها بالواحد الاحد الذي هو محلّ تكاثر الاسماء حتّي صارت بصيرة، وتبصّرت بتجلّيات الاسماء والصفات الاءلهيّة، وانمحت صفاتها في صفات الحقّ ؛ فما تعرفه الطائفة الاُولي تلمسه هذه الثانية. ( وكلتاهما تتزكّيان بالنفس الناطقة بنور القلب ) ؛ لكنّ طائفة ذوي العقول تتخلّق بالاخلاق الاءلهيّة، وأمّا طائفة ذوي البصيرة فمتحقّقة بها. وعلی هذا، فمحال أن يصدر عنها سوء خلق، وهي تشمل الجميع بتسامحها كلّ حسب مرتبته. وَنَرْجُوا أَنْ نَكونَ مِنْهُمْ. ارجاعات [1] ـ من الآية 3، من السورة 39: الزمر. [2] ـ وقد قال الاُستاذ في تعلیقة علی ذلك: وللناقد البصير والمتدبّر المتعمّق أن يقضي عجباً ممّا صدر من الهفوة من عدّة من العلماء الباحثين حيث ذكروا أنّ هذه الخطب العلويّة الموضوعة في «نهج البلاغة» موضوعة دخيلة. وقد ذكر بعضهم أ نّها من وضع الشريف الرضيّ رحمة الله علیه، وقد تقدّم الكلام في أطراف هذه السقطة. وليت شعري كيف يسع للوضع والدسّ أن يتسرّب إلي موقف علميّ دقيق لم يقو بالوقوف علیه أفهام العلماء حتّي بعد ما فتح علیه السلام بابه ورفع ستره قروناً متمادية إلي أن وُفّق لفهمه بعد ما سِيَر في طريق الفكر المترقّي مسير ألف سنة، ولا أطاق حمله غيره من الصحابة ولا التابعون، بل كلام هؤلاء الرامين بالوضع ينادي بأعلی صوته إنّهم كانوا يظنّون أنّ الحقائق القرآنيّة والاُصول العالية العلميّة ليست إلاّ مفاهيم مبتذلة عامّيّة وإنّما تتفاضل باللفظ الفصيح والبيان البليغ. («الميزان في تفسير القرآن» ج 6، ص 103 إلي 105 ). [3] ـ «الاسفار الاربعة» ج 6، ص 110، الطبعة الحروفيّة. [4] ـ «الاسفار الاربعة»، ج 6، ص 110 و 111. [5] ـ يقول: «فهو، علی أيّة حال، سابق للجميع من بين الجميع، وهو يري أنّ الكلّ منه وهو من الكلّ». [6] ـ «الاسفار الاربعة» ج 6، ص 111؛ وفيما يخصّ ذكر لاَ هُوَ إلاَّ هُو فإنّه ينقل ذلك في «المنظومة» عن المحقّق الداماد والجديرة بالملاحظة؛ في ص 167، طبعة الناصريّ، إذ يقول: وَهَذَا إشَارَةٌ إلی مَسْأَلَةِ الكَثْرَةِ فِي الوَحْدَةِ، وَأَنَّ الوُجُودَ البَسِيطَ كُلُّ الوُجُودَاتِ بِنَحْوٍ أَعَلَی. كَمَا قَالَ أَرِسْطَاطَالِيسُ وَأَحْيَاهُ وَبَرْهَنَ عَلَیْهِ صَدْرُ الحُكَمَاءِ المُتَأَ لِّهِينَ (س). وَقَالَ السَّيِّدُ الدَّامَادُ (س) فِي التَّقْدِيسَاتِ: وَهُوَ كُلُّ الوُجُودِ، وَكُلُّهُ الوُجُودُ... إلي آخر ما ذكرناه في النصّ أعلاه. [7] ـ يقول: «لم تجعل غيّريَّته محلاّ للغير في هذا العالم، وقد صار يمثّل بذاته كلّ الاشياء». [8] ـ «الديوان الكامل للعراقيّ» ص 123، منشورات السنائيّ. يقول: «بانت شمس محيّاك فأُضيء كلّ العالم بوهجها. ولمّا اقتبس من جمالك نظرة ورأي حسن وجهك، هيّمه حبّك. واستعار شيئاً من شفاهك العذبة فلمّا تذوّق ذلك انحلّت عقدة لسانه ونطق بالبلاغة». [9] ـ يقول: «سقطت قطرة من الندي وقت السحر علی الارض، فلمّا رأت الشمس انفلقت. فأضحت بُخاراً من البحر تصاعد في الهواء، ولمّا جُمِعَت ثانية صارت بحراً. لم تجعل غَيّريَّته محلاّ للغير في هذا العالم، وقد صار يمثّل بذاته كلّ الاشياء. إنّ نسبة الاقتدار والفعل إلينا كانت بسبب أ نّه استحال «نحن». إنّنا مرآة تجلي عالمه، وبنا تجلّي كلّ ما كان. لم أكن أعلم حتّي الآن شيئاً فاتّضح عندي اليوم كلّ شيء. فهو كلّ ما موجود يقيناً، هو الروح والمحبوب والقلب والدين». «خير»: هو المنتخَب والمختار، وهو صفة مُشبَّهة وليس فعل تفضيل[10] ـ نري في أغلب الكتب أنّ كلمة خَيْر كانت في الاصل أخْيَر علی وزن أفعل من أوزان التفضيل، وهو غير صحيح. فكلمة خير صفة مشبّهة وليست من أفعل التفضيل. ويصرّ سماحة أُستاذنا العلاّمة علی هذا المعني، كما نلاحظ هنا من خلال بحوثه. وقد بيّن أكثر من هذا في تفسيره للآية 26، من سورة 3: آل عمران في «الميزان» ج 3، ص 132 إلي 134، بشكل مفصّل، ورأينا أ نّه من الاجدر إيراده هنا؛ قال في تفسير قوله تعالي: بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَی' كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: الاصل في معني الخير هو الانتخاب، وإنّما نسمّي الشيء خيراً لا نّا نقيسه إلي شيء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير، ولا نختاره إلاّ لكونه متضمّناً لما نريده ونقصده، فما نريده هو الخير في الحقيقة، وإن كنّا أردناه أيضاً لشيء آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة، وغيره خير من جهته، فالخير في الحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمّي خيراً، لكونه هو المطلوب إذا قيس إلي غيره، وهو المنتخب من بين الاشياء إذا أردنا واحداً منها وتردّدنا في اختياره من بينها. فالشيء كما عرفت إنّما يسمّي خيراً لكونه منتخباً إذا قيس إلي شيء آخر مؤثّراً بالنسبة إلي ذلك الآخر، ففي معناه نسبة إلي الغير، ولذا قيل: إنّه صيغة التفضيل وأصله أخْيَر. وليس بأفعل التفضيل، وإنّما يقبل انطباق معني التفضيل علی مورده فيتعلّق بغيره كما يتعلّق أفعل التفضيل؛ يُقال: زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو، و زَيْدٌ أَفْضَلُهُمَا. يُقال: زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْ عَمْرٍو، و زَيْدٌ خَيْرُهْمَا. ولو كان خير صـيغة التفضيل لجـري فيه ما يجـري علیه، ويُقال: خير وخيرة وأخيار وخيرات، كما يقال شيخ وشيخة وأشياخ وشيخات، فهو صفة مشبّهة. وممّا يؤيّده استعماله في موارد لا يستقيم معني أفعل التفضيل كقوله تعالي: قُلْ مَا عِندَ اللَهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَهْوِ (الآية 11، من السورة 62: الجمعة)، فلا خير في اللهو حتّي يستقيم معني أفعل، وقد اعتذروا عنه وعن أمثاله بأ نّه منسلخ فيها عن معني التفضيل، وهو كما تري. فالحقّ أنّ الخير إنّما يفيد معني الانتخاب، واشتمال ما يقابله من المقيس علیه علی شيء من الخير من الخصوصيّات الغالبة في الموارد. ويظهر ممّا تقدّم أنّ الله سبحانه هو الخير علی الإطلاق، لا نّه الذي ينتهي إليه كلّ شيء ويرجع إليه كلّ شيء، ويطلبه ويقصده كلّ شيء، لكنّ القرآن الكريم لا يطلق علیه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسني جلّت أسمائه، وإنّما يطلقه علیه إطلاق التوصيف، كقوله تعالي: وَاللَهُ خَيْرٌ وَأَبْقَي'. (الآية 73 من السورة 20: طه)، وكقوله تعالي: ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَهُ الْوَ حِدُ الْقَهَّارُ. (الآية 39 من السورة 12: يوسف). نعم، وقع الإطلاق علی نحو التسمية بالإضافة، كقوله تعالي: وَاللَهُ خَيْرُ الرَّ زِقِينَ. (الآية 11، من السورة 62: الجمعة)، وقوله: وَهُوَ خَيْرُ الْحَـ'كِمِينَ.(الآية 87، من السورة 7: الاعراف)، وقوله: وَهُوَ خَيْرُ الْفَـ'صِلِينَ. (الآية 57، من السورة 6: الانعام)، وقوله: وَهُوَ خَيْرُ النَّـ'صِرِينَ. (الآية 150، من السورة 3: آل عمران)، وقوله: وَاللَهُ خَيْرُ الْمَـ'كِرِينَ. (الآية 54، من السورة 3: آل عمران)، وقوله: وَأَنتَ خَيْرُ الْفَـ'تِحِينَ. (الآية 89، من السورة 7: الاعراف)، وقوله: وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـ'فِرِينَ. (الآية 155، من السورة 7: الاعراف)، وقوله: وَأَنتَ خَيْرُ الْوَ رِثِينَ. (الآية 89، من السورة 21: الانبياء)، وقوله: وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ. (الآية 29، من السورة 23: المؤمنون)، وقوله: وَأَنتَ خَيْرُ الرَّ حِمِينَ. (الآية 109، من السورة 23: المؤمنون). ولعلّ الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادّة الخير من معني الانتخاب، فلم يطلق إطلاق الاسم علیه تعالي صوناً لساحته تعالي أن يقاس إلي غيره بنحو الإطلاق وقد عنت الوجوه لجنابه؛ وأمّا التسمية عند الإضافة والنسبة، وكذا التوصيف في الموارد المقتضية لذلك فلا محذور فيه. والجملة، أعني قوله تعالي: بِيَدِكَ الْخَيْرُ، تدلّ علی حصر الخير فيه تعالي لمكان اللام وتقديم الظرف الذي هو الخبر؛ والمعني أنّ أمر كلّ خير مطلوب إليك، وأنت المعطي المفيض إيّاه. تمّ إلي هنا ما أردنا نقله من كلام سماحة الاُستاذ أرواحنا فداه. والحقّ أ نّه كان بحثاً علميّاً ووثائقيّاً، وأ نّه لمن الضروريّ فهم مثل هذه الاُمور الدقيقة من قبل مفسّري القرآن. وقد أورد أُستاذ العربيّة علی الإطلاق: جار الله الشيخ محمود الزمخشريّ في كتاب «أساس البلاغة» في مادّة «خير»، ما نصّه: خ ي ر ـ كان ذلك خِيَرَةً من الله، ورسولُ الله خِيَرَتُه من خَلْقِه. واخترتُ الشَّيءَ وتَخيَّرتُه واسْتَخَرْتُه واستخرْتُ اللهَ في ذلك فَخار لي، أي طَلبتُ منه خيرَ الامرينِ فاختارَه لي. قال أبو زبيد: نِعْمَ الكِرَامُ عَلَی مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ رَهْطُ امْرِيً خَارَهُ لِلدِّينِ مُخْتِارُ ويُقال: أنتَ عَلي المُتَخَيَّرِ، أي تَخيَّرْ ما شِئتَ، ولستَ علی المُتَخيَّرِ. قال الفَرزدَق: فَلَو كَانَ حَرِّيُّ بْنُ ضَمْرَةَ فِيَكُمُو لَقَالَ لَكُمْ لَسْتُمْ عَلَی المُتَخيَّرِ وهو مِن أهل الخَير والخِيرِ وهو الكَرَم. وهو كريم الخِير والخِيم وهو الطَّبيعة. وما أخْيرَ فلاناً. وهو رجلٌ خَيْرٌ، وهو من خيار النَّاس وأخيارهم وأخايرهم. وخَيّره بَين الامرين فتخيَّر. وخَايره في الخَطِّ مخايرةً، وتَخايروا في الخَطِّ وغيره إلي حَكَم. وخايرتُه فَخُرْتُهُ، أي كنتُ خيراً منه. [11] ـ صدر الآية 22، من السورة 21: الانبياء. [12] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 11، ص 177 إلي 180. [13] ـ «الروح المجرّد» ص 345 و 346، الطبعة الاُولي. [14] ـ أورد ابن حجر العسقلانيّ في كتاب «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» تحقيق محمّد سيّد جاد الحقّ، ج 1، ص 266، برقم 663، ترجمته «أي علاء الدولة» قائلاً: وَكَانَ يَحُطُّ عَلَی ابْنِ العَرَبِيِّ وَيُكَفِّرُهُ، وَكَانَ مَلِيحَ الشَّكْلِ حَسَنَ الخُلْقِ غَزِيرَ الفُتُوَّةِ كَثِيرَ البِرِّ. يَحْصلُ لَهُ مِنْ أَمَلاَكِهِ فِي العَامِ نَحْوُ تِسْعِينَ أَلْفَاً، فَيُنْفِقُهَا فِي القُرٌبِ... وَكَانَ أَوَّلاً قَدْ دَاخَلَ التَّتَارَ ثُمَّ رَجَعَ وَسَكَنَ تَبْرِيزَ وَبَغْدَادَ. وَمَاتَ فِي رَجَبٍ لَيْلَةَ الجُمعَةِ سَنَةَ 736. [15] ـ راجع كتاب: «التصوّف في الإسلام» ص 175؛ و«ابن عربي، حياته ومذهبه» ص 251 والصفحات اللاحقة، (التعلیقة). [16] راجع كتاب: «نفحات الاُنس» ص 554؛ و«طرائق الحقائق» ج 1، ص 324، (التعلیقة). [17] - ذيل الآية 76، من السورة 12: يوسف.
[18] ـ الآيتان 53 و 54، من السورة 41: فصّلت.
|
|
|