|
|
الصفحة السابقةالمستأذنون والمعذّرون في غزوة تبوكوقال في « إعلام الوري » : هذا الخبر تلقّته الاُمّة الإسلاميّة بالقبول؛ ورواه الشيعيّ والناصبيّ. وأجمعت الاُمّة علی قبوله علی اختلافها في النحل وتباينها في المذاهب[1] . ولمّا تمّت التعبئة العامّة ، وكان علیهم أن يقطعوا تلك المسافة الطويلة في الفيافي القاحلة والجوّ الحارّ. عرض بعض المنافقين الاثرياء مساعداتهم المإلیة للجيش الإسلاميّ. وفعلوا ذلك ليراهم الناس ، ويصل خبر إنفاقهم إلی رسولالله؛ وهكذا أرادوا عدم التحرّك ، والمحافظة علی أرواحهم من القتل. ونزلت هذه الآيات فيهم: قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَـ'سِقِينَ* وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـ'تُهُمْ إِلاَّ أَ نَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَو'ةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَإلی' وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـ'رِهُونَ* فَلاَتُعْجِبْكَ أَمْوَ ' لُهُمْ وَلآأَوْلَـ'دُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَهُ لَيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـ'فِرُونَ [2]. « يا أيّها النبيّ قل للمنافقين سواء أنفقتم رغبة أم قسراً ( وأنفقتم علی الجيش والحرب ودعاياتكم الكاذبة ) فلن يقبل منكم ذلك أبداً لا نّكم قوم فاسقون ( وإنفاقكم من منطلق الرياء!). ولا مانع من قبول نفقاتهم إلاّ أ نّهم كفروا بالله ورسوله ولايأتون الصلاة إلاّ وهم كسإلی غير راغبين. ولا ينفقون إلاّ وهم كارهون أيضاً [3]. فيا أيّها النبيّ لا يعجبك وفور أموالهم وكثرة أولادهم! إنّما يريد الله أن يعذّبهم بها ( ويبعدهم عن ساحة قربه ) في الحياة الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون ». وَيَحْلِفُونَ بِاللَهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـ'كِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ* لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَـ'رَ ' تٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْا إلیهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [4]. « إنّ المنافقين ( من أجل أن يخفوا نفاقهم ) يقسمون بالله أ نّهم منكم وما هم منكم لكنّهم يخافون من عظمة الإسلام وشوكته. لو وجد هؤلاء ملجأً أو مغارات أو مدّخلاً ( وعلموا أ نّهم يعيشون فيه مطمئنيّن وآمنين من نفوذ كلمة المسلمين والقرآن ورسول الله ) لتوجّهوا إلیه، ورفعوا العقبات من طريقهم بسرعة ، وانهزموا من هذه الساحة بقوّة وتحمّل للمقاومة ». وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُوا بِاللَهِ وَجَـ'هِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَئْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَـ'عدِينَ* رَضُوا بَأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ علی' قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ [5]. « وإذا أُنزلت سورة تدعوهم إلی الإيمان بالله ورسوله استأذنك الاثرياء المتمكنّون من المنافقين بأن لا يخرجوا معك. وقالوا لك: دعنا مع النساء والقاعدين بالمدينة ( ولا يخرجوا مع المقاتلين لقتال العدوّ والدفاع عن حريم الدين والناموس والشرف ) وطبع علی قلوبهم فهم لايفهمون ولايدركون ». إنّ المنافقين الذين استأذنوا رسول الله بالقعود هم عَبْدُاللَهِبْنُ أُبَيّين سَلُول، وَجَدُّبْنُ قَيْسٍ ، وأصحابهم ونظائرهم. قال الواقديّ: جاء ناس من المنافقين يسأذنون رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم من غير علّة ( وعيب ، أو فقر ومسكنة ) فأذن لهم؛ وكان المنافقون الذين استأذنوا بضعة وثمانين[6] . لَـ'كِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ و جَـ'هَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَـ'´نءِكَ لَهُمُ الْخَيْرَ ' تُ وَأُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* أَعَدَّ اللَهُ لَهُمْ جَنَّـ'تٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَنْهَـ'رُ خَـ'لِدِينَ فِيهَا ذَ ' لِكَ الْفَوْزُ الْعَظيِمُ [7]. وقال الواقـديّ: وجـاء المعـذّرون من الاعـراب فاعتـذروا إلیـه، فلميعذرهم الله عزّ وجلّ. هم نفر من بني غِفَار منهم خُفَافُ بْنُ إيمَاءبْنُ رَحْضَة. اثنان وثمانون رجلاً [8]. وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاْعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَهَ وَرَسُولَهُ و سَيُصيِبُ الَّذَينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ إلیمٌ [9]. « وجاء جماعة من الاعراب يعتذرون من الحرب، ويعرضون أعذارهم الحقيقيّة، أو جماعة لم يكن لهم عذر ثابت كما أهم لميعرضوا عذراً مشروعاً مقبولاً، من أجل أن يؤذن لهم بعدم التحرّك. والذين كذبوا الله ورسوله، قعدوا عن الخروج والقتال. سيصيب الذين كفروا منهم عذاب إلیم ». قال الشيخ الطبرسيّ في تفسير هذه الآية الكريمة:... أن يكون المراد المعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن. وإنّما ادغم التاء في الذال لقرب مخرجهما. أو أ نّه أراد المقصّرون من التعذير فالمعذّر المقصّر الذي يريك أ نّه معذور ولاعذر له. ففي الآية ثلاثة احتمالات: الاوّل: المقصّرون الذين يعتذرون وليس لهم عذر عن أكثر المفسّرين. الثاني: المعتذرون الذين لهم عذر. وهم نفر من بني غفار عن ابن عبّاس؛ قال: ويدّل علیه قوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَهَ وَرَسُولَهُ. فعطف الكاذبين علیهم. فدلّ ذلك علی أنّ الاوّلين في اعتذارهم صادقون. الثالث: وقيل: معناه الذين يتصوّرون بصورة أهل العذر وليسوا كذلك [10]. بَيدَ أنّ الاُستاذ العلاّمة الطباطبائيّ عدّ الاحتمال الثاني منجّزاً وقال: الظاهر أنّ المراد بالمعذّرين هم أهل العذر كالذي لايجد نفقة ولاسلاحاً بدليل قوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا - الآية. والسياق يدلّ علی أنّ في الكلام قياساً لإحدي الطائفتين إلی الاُخري، ليظهر به لؤم المنافقين وخسّتهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم، حيث إنّ فريضة الجهاد الدينيّة والنصرة للّه ورسوله هيّج لذلك المعذّرين من الاعراب وجاءوا إلی النبيّ يستأذنونه؛ ولميؤثّر في هؤلاء الكاذبين شيئاً [11]. فلهذا نزلت الآيات الآتية لبيان عدم معصية الضعفاء والمرضي وغيرالمتمكّنين مإلیاً، إذا كانوا مؤمنين وساروا علی نهج رسولالله: لَيْسَ علی الضُّعَفَآءِ وَلاَ علی الْمَرْضَي' وَلاَ علی الَّذِينَ لاَيَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا علی الْمُحْسِنِينَ مِن سَبيِلٍ وَاللَهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلاَ علی الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ علیهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ[12] . انهمار دموع البكّائين لعدم تمكّنهم من السفرجـاء في التفاسـير والتواريـخ أنّ هـؤلاء الاشـخاص الذين بكـوا لعدمتمكّنهم من السفر كانوا سبعة سُمّوا البكّائين. والروايات في أسمائهم مختلفة اختلافاً كبيراً [13]. قال علیّ بن إبراهيم في تفسيره: جاء البكّاؤون إلی رسولالله وهم سبعة: مِنْ بَنِي عَمْرِ بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، قد شهدوا بدراً لا اختلاف فيه؛ ومن بَنِي وَاقِف هَرَمِيُّ بْنُ عُمَيْر؛ ومن بَنِي جَارِيَة علیةُبْنُ يَزِيد، وهو الذي تصدَّق بعَرضه [14]. وذلك أنّ رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم أمر بصدقة؛ فجعل الناس يأتون بها. فجاء علیة ، فقال: يارسولالله! والله ما عندي ما أتصدّق به، وقد جعلت عَرضي حلاّ. فقال له رسولالله صلّيالله علیه وآله: قد قبل الله صدقتك. ومن بَنِي مَازِن أَبُو لَيْلَي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن كَعْب؛ ومن بَنِي سَلِمَة عَمْرُوبْنُ عَتَمَة؛ ومن بَنِي زُرَيْق سَلِمَةُ بْنُ صَخْر؛ ومن بَنِي سُلَيْم عِرْبَاضُبْنُ سَارَيَة السلميّ. هؤلاء جاؤوا إلی رسول الله يبكون فقالوا: يارسولالله! ليس بنا قوّة أن نخرج معك. فأنزل الله هذه الآية [15]. وقال الواقديّ بعد بيان أسماء البكّائين: ولمّا خرج البكّاؤون من عند رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم ، لقي يَاميِنُ بْنُ عُمَيْر أَبَا لَيْلَي المَازِنِيّ وَعَبْدَاللَهِبْنَ مُقَفَّلِ المُزَنِيّ ، وهما يبكيان. فقال: وما يبكيكما ؟ قالا: جئنا إلی رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم ليَحْملْنا؛ فلمنجد عنده ما يحملنا علیه؛ وليس عندنا ما ننفق به علی الخروج؛ ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم. فأعطاهما (يَامِينُ بْنُ عُمَيْر) ناضحاً له ، فارتحلاه. وزوّد كلّ رجل منهما صاعين [16] من تمر ، فخرجا مع رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم. وحمل العبّاسبن عبدالمطّلب منهم رجلين. وحمل عثمان منهم ثلاثة. وبالنتيجة خرج السبعة كلّهم مع رسولالله [17]. وتقدّم لنا الآيتان الآتيتان أعلی نموذج للتضحية في سبيل الله والفناء في إرادة النبوّة والولاية. وذلك في الترغيب والتحريض علی الجهاد ولزوم الإيثار والتضحية في طريق رسول الله ، وضرورة تحمّل المشاكل والمشقّات والجوع والعطش والدخول في أرض الكافرين وإنفاق القليل والكثير في سبيل الله: مَا كَانَ لاَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الاْعْرَابِ [18] أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَ ' لِكَ بِأَ نَّهُمْ لاَيُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَنَصَبٌ وَلاَمَخْمَصَةٌ فِي سَبيِلِ اللَهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَيَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَـ'لِحٌ إِنَّ اللَهَ لاَيُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَيُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [19]. وتجهّز الجيش للتحرّك نحو تبوك. وتوجّه من الرجال ثلاثون ألفاً في اثني عشر ألفاً من الخيول ، وخمسة عشر ألفاً [20] من الإبل. وكانت المدّة التي أمضوها حتّي وصلوا إلی تلك الارض عشرين يوماً. وبقي رسولالله هناك عشرة أيّام ونيّف[21] . واستمرّت المدّة عشرين يوماً ثمّ رجعوا. وكان دليل رسولالله إلی تبوك عَلْقَمَةُ بْنُ الفَغْوَاءِ الخُزَاعِيّ. ومضي رسولالله فوصل ذا خشب. ولمّا كان الجوّ حارّاً، لذا كان يبقي نهاره ويسير ليله. وكان يجمع من يوم نزل ذا خُشُب بين الظهر والعصر. يؤخّر الظهر ( عن وقت الزوال ) حتّي يُبرِد، ويعجّل العصر. ثمّ يجمع بينها. فكلّ ذلك فعله حتّي رجع من تبوك إلی المدينة [22]. وفاة أبي ذرّ الغفاريّ غريباً وحيداً بالربذة بعد أن نفاة عثمان إلیهاوكان أبو ذرّ الغِفَاريّ ( جُندُبُ بنُ جُنَادَة ) تخلّف عن رسولالله ثلاثة أيّام، وذلك أنّ جَمَلَه كان أعجف ( وكان يقوّيه بالطعام والعلف تلك الايّام. ثمّ جاء راكباً علیه مسافة، وأخيراً عجز الجمل عن المسير في منتصف الطريق ) فتركه أبو ذرّ وحمل ثيابه علی كتفه ، وشدّ أثقاله علی ظهره، ( وسار وحده ليلحق برسولالله ). ولمّا ارتفع النهار، نظر المسلمون إلی شخص مقبل، فقال رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم: كان أبو ذرّ. فقالوا: هو أبو ذرّ رحمه الله. قال رسول الله: أدركوه بالماء فإنّه عطشان! فأدركوه بالماء. ووافي أبوذرّ رسولالله ومعه إدَاوَة [23] فيها ماء. فقال رسول الله: يا أبا ذرّ! معك ماء وعطشت ؟! فقال: نعم يا رسول الله! بأبي أنت وأُمِّي انتهيت إلی صخرة وعلیها ماء السماء فذقته، فإذا هو عذب بارد فقلتُ: لا أشربه حتّي يشربه حبيبي رسولالله. فَقَالَ رَسُولُ اللَهِ: رَحِمَكَ اللَهُ! تَعِيشُ وَحْدَكَ، وَتَمُوتُ وَحْدَكَ وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، وَتَدْخُلُ الجَنَّةَ وَحْدَكَ! يَسْعَدُ بِكَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ يَتَوَلَّوْنَ غُسْلَكَ وَتَجْهِيزَكَ وَدَفْنَكَ [24]! ولمّا نفاه عثمان إلی الربذة [25] ، مات بها ابنه ذرّ. فوقف أبو ذرّ علی قبره فقال: رَحِمَكَ اللَهُ يَا ذَرُّ ، لَقَدْ كُنْتَ كَريِمَ الخُلْقِ بَارَّاً بِالوَالِدَينِ! وَمَا علیَّ فِي مَوْتِكَ مِنْ غَضَاضَةٍ؛ وَمَا لِي إلی غَيْرِ اللَهِ مِنْ حَاجَةٍ؛ وَقَدْ شَغَلَنِي الاهْتِمَامُ لَكَ عَنِ الاغْتِمَامِ بِكَ! لَوْلاَ هَوْلُ المُطَّلَعِ لاَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَكَانَكَ! فَلَيْتَ شِعْرِي مَا قَالُوا لَكَ ؟ وَمَا قُلْتَ لَهُمْ؟ ثُمَّ قَالَ: اللَهُمَّ إِنَّكَ فَرَضْتَ لَكَ علیهِ حَقَّاً وَفَرَضْتَ لِي علیهِ حُقُوقَاً فَإنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَهُ مَا فَرَضْتَ لِي علیهِ مِنَ الحُقُوقِ فَهَبْ لَهُ مَا فَرَضْتَ علیهِ مِنْ حُقُوقِكَ! فَإِنَّكَ أَوْلَي بَالحَقِّ وَالكَرَمِ مِنِّي! وكانت لابي ذرّ غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء يقال له: النُّقار[26] ، فماتت كلّها. فأصاب أبا ذرّ وابنته الفقر والعسر والجوع الشديد فماتت أهله. قالت ابنته: ياأبتِ! أصابنا الجوع ، وبقينا ثلاثة أيّام لم نأكل شيئاً! قال أبو ذرّ: يا بنيّة! قومي بنا إلی الرمل نطلب القَتّ [27] ( وهو نبت له حبّ ) فصرنا إلی الرمل، فلم نجد شيئاً. قالت البنت: فجمع أبي رملاً ، ووضع رأسه علیه ، ورأيت عينه قد انقلبت. فبكيت وقلت له: يا أبت! كيف أصنع بك، وأنا وحيدة ؟ فقال أبي: يا بنيّتي! لا تخافي، فإنّي إذا متّ جاءك مِن أهل العراق مَن يكفيك أمري. فإنّه أخبرني حبيبي رسولالله في غزوة تبوك، فقال: ياأباذرّ! تعيش وحدك، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنّة وحدك! يسعد بك أقوام من أهل العراق ، يتولّون غسلك وتجهيزك ودفنك! فإذا أنا متُّ فمدّي الكساء علی وجهي ، ثمّ اقعدي علی طريق العراق؛ فإذا أقبل ركب، فقومي إلیهم وقولي: هذا أبو ذرّ صاحب رسولالله قد توفّي. قال الراوي: فدخل إلیه قوم من أهل الربذة فقالوا: ياأباذرّ ماتشتكي ؟ قال: ذنوبي! قالوا: فما تشتهي ؟ قال: رحمة ربّي! قالوا: فهل لك بطبيب ؟! قال: الطبيب أمرضني. قالت ابنته: لمّا عاين أبي الموت ، سمعته يقول: مرحباً بحبيب أتي علی فاقة. لاأفلح من ندم. اللهمّ خنّقني خناقك ، فوحقّك إنّك لتعلم أ نّي أُحبّ لقاءك. قالت ابنته: فلمّا مات ، مددت الكساء علی وجهه ، ثمّ قعدت علی طريق العراق. فجاء نفر ، فقلت لهم: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ! هذا أبو ذرّ صاحب رسولالله قد توفّي. فنزلوا ومشوا يبكون فجاؤوا، فغسّلوه ، وكفّنوه ، ودفنوه. وكان فيهم مَالِكُ الاَشْتَرِ النَّخَعِيّ. روي أ نّه قال: دفنته في حلّة كانت معي قيمتها أربعة آلاف درهم [28]. قالت ابنته: كنت أُصلّي بصلاته ، وأصوم بصيامه فبينما أنا ذات ليلة نائمة عند قبره، إذ سمعته يتهجّد بالقرآن في نومي كما كان يتهجّد به في حياته [29]. فقلت: يا أبه! ماذا فعل بك ربّك ؟! فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ! قَدِمْتُ علی رَبٍّ كَريِمٍ؛ رَضِيَ عَنِّي وَرَضِيتُ عَنْهُ وَأَكْرَمَنِي وَحَبَانِي فَاعْمَلِي وَلاَتُغَرِّي[30] . وروي كبار الخاصّة والعامّة في كتبهم لقاء أبي ذرّ رسولالله في غزوة تبوك. وإخبار النبيّ باستشهاده وموته غريباً ، وتجهيزه، وتكفينه من قبل جماعة من أهل العراق[31] . وكان أبو ذرّ الغفاريّ من أعاظم صحابة النبيّ صلّيالله علیه وآله وسلّم. وقيل: ليس كمثله. مثل سلمان والمقداد بن الاسود الكنديّ أحد في الفقه والفضل [32]. قصّة أبي خيثمة ، ولحوقه برسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّموجاء في « تفسير علیّ بن إبراهيم » في ذيل قوله تعإلی: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاِعَدُّوا لَهُ و عُدَّةً [33] - الآية: وتخلّف عن رسولالله قوم من أهل ثبات وبصائر لميكن يلحقهم شكّ ولاارتياب؛ ولكنّهم قالوا: نلحق برسولالله. منهم أَبُو خَيْثَمَة. ثمّ ذكر قصّته [34]. ولكن لمّا ذكرها الواقديّ بصورة أكثر تفصيلاً لذلك ننقلها فيما يأتي: وكان أبو خَيْثَمَة قد تخلّف عن رسول الله. وكان لايُتّهم في إسلامه ولايُغمَص علیه؛ فعزم له علی ما عزم. فرجع بعد أن سار رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم عشرة أيّام ، حتّي دخل علی امرأتين له في يوم حارّ. فوجدهما في عريشين لهما. ( العريش حجيرة يستظلّ بها وهي شبه الخيمة. تصنع من خشب وورق وغيرهما ) قد رشّت كلّ واحدة منهما عريشها وبرّدت له فيه ماءً ، وهيّأت له فيه طعاماً. فلمّا انتهي إلیهما ، قام علی العريشين ، فقال: سُبْحَانَ اللَهِ! رَسُولُ اللَهِ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فِي الضَّحِّ [35] وَالرِّيحِ وَالحَرِّ يَحْمِلُ سِلاَحَهُ علی عُنُقِهِ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلاَلٍ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأَتَيْنِ حَسْنَاوَيْنِ مُقِيمٌ فِي مَالِهِ؛ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ. ثمّ قال: والله ، لا أدخل عريش واحدة منكما حتّي أخرج فألحق برسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم. فأناخ ناضحه وشدّ علیه قَتَبَه ، وتزوّد ، وارتحل. فجعلت امرأتاه تكلّمانه ولايكلّمهما؛ وسار حتّي أدرك عُمَيْرَ بْنَ وَهَبِ الجُمَحِيّ بوادي القري يريد النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم. فصحبه فترافقا، حتّي إذا دَنَوا من تبوك. قال أبو خَيْثَمَة: يا عُمَيْرُ! إنّ لي ذنوباً وأنت لاذنب لك! فلاعلیك أن تخلّف عنّي حتّي آتي رسول الله قبلك، فأعتذر إلیه وأتوب. ففعل عمير، فسار أبو خَيْثَمَة حتّي إذا دنا من رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم -وهو نازل بتبوك- قال الناس: هذا راكب الطريق. قال رسول الله: كن أبا خيثمة؛ فقال الناس: يارسولالله هذا أبو خيثمة. فلمّا أناخ أبو خيثمة ناضحه ، أقبل فسلّم علی النبيّ صلّيالله علیه وآله وسلّم. فقال رسولالله: أَوْلَي لَكَ [36] يَا أَبَا خَيْثَمَة. ثمّ أخبر رسول الله الخبر. فقال له رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم خيراً ودعا له [37]. ارجاعات [1] - «إعلام الوري بأعلام الهدي» تأليف أمين الاءسلام أبي عليّ، فضلبن حسن الطبرسيّ صاحب «مجمع البيان» ص 169؛ و«بحار الانوار» ج 6، ص 631، عن «إعلام الوري». [2] - الآيات 53 إلي 55، من السورة 9: التوبة. [3] - روي العلاّمة الخبير والمحدّث الجليل الشيخ عبد عليّبن جمعة العَرُوسيّ الحُوَيزيّ في تفسير «نور الثقلين» ج 2، ص 226 عن «أُصول الكافي» بسنده عن الاءمام الصادق عليه السلام قال: لا يضرّ مع الاءيمان عمل ولا ينفع مع الكفر عمل ألا تري أ نّه قال: «وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلاّ أ نّهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون». [4] - الآيتان 56 و 57، عن السورة 9: التوبة. [5] - الآيتان 86 و 87، من السورة 9: التوبة. [6] - «المغازي» ج 3، ص 995؛ و«السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 165؛ و«أعيان الشيعة» ج 2، ص 196، الطبعة الرابعة. [7] - الآيتان 88 و 89، من السورة 9: التوبة. [8] - «المغازي» ج 3، ص 995. [9] - الآية 90، من السورة 9: التوبة. [10] - «مجمع البيان» ج 3، ص 59. [11] - «الميزان» ج 9، ص 379 و 380. [12] - الآيتان 91 و 92، من السورة 9: التوبة. [13] - «الميزان» ج 9، ص 387؛ و«الكامل في التاريخ» ج 2، ص 277 و 278 [14] - جاء في «النهاية» لابن الاثير ج 3، ص 84 أنّ العَرض بالسكون المتاع. [15] - «تفسير القميّ» ص 268 و 269؛ وتفسير «نور الثقلين» ج 2، ص 252؛ و «الميزان» ج 9، ص 387 وكلاهما نقل عن تفسير القمّيّ؛ و«بحار الانوار» ج 6، ص 625 عن «تفسير القمّيّ». وأورد الواقديّ في «المغازي» أسماء البكّائين، فذكر عُلبة مكان عَلِيَّة، وعُتْبَة بدل عَتَمَة في ج 3، ص 994؛ وفي ص 1024 قال: غَنَمَة. وقال صاحب «السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 148 و 149: كان البكّاؤون من فقهاء الصحابة. ولم يعدّ القاضي البيضاويّ عِرباضبن سارية منهم؛ و«سيرة ابن هشام» ج 4، ص 945. [16] - الصاع مَنٌّ تبريزيّ تقريباً، أي في حدود ثلاثة كيلو غرامات. [17] - «المغازي» ج 3، ص 994. [18] - قال الجوهريّ: الاعرابيّ منسوب إلي الاعراب، وليس له مفرد. والمراد بالاعراب الناس الذين يعيشون في البادية ولا يتعلّمون الاحكام الشرعيّة. [19] - الآيتان 120 و 121، من السورة 9: التوبة. [20] - «السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 158. وذكر معظم المؤرّخين كالواقديّ في «المغازي» ج 3، ص 1002، أنّ الخيول كانت عشرة آلاف والاءبل مثلها. [21] - «السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 161. وقال: ذكر الحافظ الدمياطيّ أنّ رسولالله أقامفي تبوك عشرين ليلة. [22] - «المغازي» ج 3، ص 999. [23] - الاءداوة إناء صغير من جلد يصبّون فيه الماء، وجمعها أداوي. [24] - «بحار الانوار» ج 6، ص 625، عن «تفسير القمّيّ»؛ و«الكامل في التاريخ» ج 2، ص 280؛ و«أعيان الشيعة» ج 2، ص 198 الطبعة الرابعة؛ و«سيرة ابن هشام» ج 4، ص 950 و 951. [25] - لا خلاف بين المؤرّخين في نفي أبي ذرّ إلي الربذة. وذكر ابن أبي الحديد ذلك في شرحه، طبعة دار الاءحياء تحت الرقم 128: ومن كلامه عليه السلام لابي ذرّ الغفاريّ، ج 8، ص 252 إلي 262. [26] - نُقَار كغُراب، داء الماشية كالطاعون. [27] - القَتّ حبّ بّريّ يأكله أهل البادية بعد دقّه وطبخه. [28] - ذكر أبو نعيم وفاة أبي ذرّ الغفاريّ وتكفينه في «حلية الاولياء» ج 1، ص 169 و 170 بتفصيل آخر. [29] - التهجّد بالقرآن هو قراءته في سور صلاة الليل. فقد كانوا ينامون ويستيقظون. وإذا ما استيقظوا فإنّهم يصلّون عدداً من الركعات. وكانوا يتلون فيها بعد الفاتحة شيئاً من القرآن بصوت عالٍ جميل. ثمّ ينامون، ويستيقظون ثانية فيتلون القرآن في ركعات الصلاة علي نفس الوتيرة حتّي تتمّ إحدي عشرة ركعة وهي صلاة الليل. وكان رسولالله وأصحابه الابرار والائمّة الطاهرون عليهم السلام يتلون القرآن ليلاً علي الكيفيّة المذكورة. وإنّه لمشهد أخّاذ عجيب حقّاً. والآيات الواردة في سورة المزمّل تأمر بقراءة القرآن ليلاً بنفس الطريقة. رزقنا الله إن شاء الله وجميع إخواننا المؤمنين بالتأسّي بنبيّه الاكرم فإنّه أُسْوَةٌ حَسَنَة. وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَي'´ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا. (الشفاعة الكبري). (الآية 79، من السورة 17: الاءسراء). [30] - «تفسير عليّ بن إبراهيم» ص 270 و 271؛ وذكرها المجلسيّ في «بحار الانوار» ج 6، ص 776 و 777 طبعة الكمبانيّ، وأورد تخلّف أبي ذرّ في ص 624 منه. ونقل هذه القصّة مفصّلاً أيضاً في أوائل كتابه «عين الحياة»؛ و«تفسير الميزان» ج 9، ص 315. [31] - «المغازي» للواقديّ، ج 3، ص 1000 و 1001. وذكر الواقديّ أنّ ابن مسعود وجماعة من أهل العراق تولّوا غسله؛ و«السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 153 إلي 155؛ و«أُسد الغابة» ج 1، ص 302؛ وروي ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ج 1، ص 252 إلي 256 إسلام أبي ذرّ ووفاته مفصّلاً وقال: إنّ الذين قدموا من الكوفة كانوا عبداللهبن مسعود مع عدد منفضلاء أصحابه كحُجربن أدْبر، ومالك بن الحارث الاشتر، وفتي من الانصار؛ و«البداية والنهاية» ج 5، ص 8؛ و«الكامل في التاريخ» ج 2، ص 280؛ و«سيرة ابن هشام» ج 4، ص 951. [32] - قال المجلسيّ رضوان الله عليه في كتاب «عين الحياة» ص 2: «أبو ذرّ الغفاريّ من قبيلة غِفار، اسمه جُنْدُببن جُنَادة. وما يستفاد من أخبار الخاصّة والعامّة هو أنّ أحداً من الصحابة لميبلغ درجة سلمان الفارسيّ، وأبي ذرّ الغفاريّ، والمقدادبن الاسود الكنديّ في جلالة قدرهم وعظم شأنهم بعد المعصومين صلوات الله عليهم» *. وقال في ص 5 و 6: نقل أرباب السير المعتمدة أنّ أبا ذرّ توجّه إلي الشام في أيّام عمر، وأقام هناك حتّي زمان عثمان. ولمّا بلغته قبائح عثمان، بخاصّة إهانته وضربه عمّاربن ياسر، طفق يطعن في عثمان ويذمّه، وكان يشهّر به قادحاً فيه، ويتحدّث في قبائح أعماله. وعندما كان يشاهد ممارسات معاوية الشنيعة، كان يوبّخه ويقرّعه. ويحثّ الناس علي الانقياد لولاية الخليفة بالحقّ أميرالمؤمنين عليه السلام، ويعدّد مناقبه لاهل الشام. ورغّب كثيراً منهم في التشيّع. والمشهور أنّ الشيعة في الشام وجبل عامل الآن هم من بركات أبي ذرّ. وكتب معاوية إلي عثمان ينبّئه بحقيقة الحال ويعلمه أ نّه لو بقي في هذه البلدة أيّاماً أُخري، فإنّه سيزهّد الناس في عثمان فيرغبوا عنه. فأجابه عثمان أن إذا وصلك كتابي فاحمل أبا ذرّ علي مركب صعب، وأشخص معه دليلاً فظّاً يسوق مركبه ليلاً ونهاراً، حتّي يغلبه النوم فينسي ذكري وذكرك. ولمّا وصل الكتاب إلي معاوية، دعا أبا ذرّ، وأجلسه علي سنام بعير صعب بلاعظاء، وأوكل به رجلاً فظّاً عنيفاً. وكان أبو ذرّ طويلاً نحيفاً. وقد أخذ الشيب منه مأخذه يومئذٍ، وابيضّ شعر رأسه ووجهه، وضعف كثيراً. وساقه الدليل بعنف، وليس علي البعير رحل. وتقرّحت فخذاه من سير البعير سيراً صعباً بغيضاً، وتساقط لحمه ودخل المدينة مرهقاً متعباً مغموماً. وعندما أتوا به إلي عثمان، ونظر إليه ذلك الملعون، قال له: لاقرّت عين برؤيتك ياجُنْدُب! قال أبو ذرّ: سـمّاني أبي جُنْدُباً. وسـمّاني المصطفي صلّي الله عليه وآله وسـلّم عبدالله! قال عثمان: تزعم أ نّك مسلم، وتقول عنّا: إنّ الله فقير ونحن أغنياء. متي قلتُ هذا؟! قال أبو ذرّ: لمأقل هذا؛ ولكنّي أشهد أ نّي سمعت رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم قال: إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلاً، اتّخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودين الله تعالي دغلاً؛ ثمّ يخلّص الله تعالي منهم عباده ـ انتهي موضع حاجتنا من كلام العلاّمة المجلسيّ رضوانالله عليه. ولابدّ أن نعرف أنّ رجال العامّة من أصحاب التصانيف والتراجم لم يدّخروا وسعاً في بيان منزلة أبي ذرّ ومكانته. وأجمعوا علي أ نّه كان في الدرجة الاُولي بين الصحابة من حيث سبقه إلي الاءسلام وتقدّمه في الفقه والقرآن وزهده وصدقه وصراحة لهجته ووقوفه أمام الكفر والنفاق والانتهاك. وأ نّه كان من حواريّي مولي الموالي أميرالمؤمنين عليّبن أبي طالب عليه السلام، وشيعته الحقيقيّين المخلصين وأتباعه الثابتين وأنصاره المتفانين المتأهّبين. وترجم له ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ج 1، ص 252 إلي 256، وابن الاثير الجزريّ في بابين من كتابه: «أُسد الغابة»، الاوّل: باب الكني، ج 5، ص 186 إلي 188، والآخر: باب الاسماء، ج 1، ص 301 و 303. كما ترجم له برهان الدين الحلبيّ الشافعيّ في «السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 154 و 155. وقال هؤلاء في ترجمته: كان أبو ذرّ من الاقدمين في الاءسلام. وهو رابع أو خامس من أسلم. ولمّا سمع بخبر رسول الله، لم يكن في مكّة يومئذٍ، بل كان في بلدته في طائفة بني غِفار. فأسرع إليها بمجرّد سماعه الخبر، وتشرّف بالمثول بين يدي رسولالله، وأسلم. وبعد أن ذكروا نفيه إلي الربذة من قبل عثمان وموته هناك غريباً وحيداً، قالوا: روي عنه جمع من الصحابة. وكان من أوعية العلم المبرّزين في الزهد، والورع، والقول بالحقّ. سئل عليّ عليه السلام عنه، فقال: ذَلِكَ رَجُلٌ وَعَي عِلْمَاً عَجَزَ عَنْهُ النَّاسُ ثُمَّ أَوْكَأَ عَلَيْهِ وَلَمْيُخْرِجْ شَيْئَاً مِنْهُ. وروي عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم أ نّه قال: أَبُو ذَرٍّ فِي أُمَّتِي شَبيِهُ عِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ فِي زُهْدِهِ. وأخرج بعضهم عن رسول الله أ نّه قال: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَي تَوَاضُعِ عِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ فَلْيَنْظُرْ إِلَي أَبِي ذَرٍّ. ورُوي في حديث ورقاء وغيره عن أبي الزِّناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة أ نّه قال: قال رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم: مَا أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ وَلاَ أَقَلَّتِ الغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ. وروي هذا الكلام أيضاً من حديث أبي الدرداء. وروي إبراهيم التيميّ، عن أبيه، عن أبيذرٍّ أ نّه قال: كَانَ قُوتِي عَلَي عَهْدِ رَسُولِاللَهِ صَلَّياللَهُ عَلَيْهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ صَاعَاً مِنْ تَمْرٍ؛ فَلَسْتُ بِزَائِدٍ عَلَيْهِ حَتَّي أَلْقَي اللَهَ تَعَالَي. وحدّث الاعمش، عن شمر بن عطيّة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمنبن غَنْم، قال كنت عند أبي الدرداء فجاءه رجل (وهو عثمان) من المدينة. فسأله أبو الدرداء: أَيْنَ تَرَكْتَ أَبَا ذَرٍّ؟! فقال: إلي الربذة. فقال أبو الدرداء: إِنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ. لَوْ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَطَعَ مِنِّي عُضْوَاً لَمَا هِجْتُهُ لِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِـ انتهي ملخّصاً ما ذكرناه من عبارة «الاستيعاب» نصّاً. وقال ابن الجزريّ في «أُسد الغابة» ج 1، ص 301: كان أبو ذرّ أوّل من حيّا رسولالله بتحيّة الاءسلام. وقال في ج 5، ص 187: وتوفّي سنة إحدي وثلاثين أو اثنتين وثلاثين من الهجرة بالربذة. وصلّي الله عليه عبد الله بن مسعود. وجاء في «تفسير عليّ بن إبراهيم» في تفسير الآية: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ'قَكُمْ لاَتَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَتُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَـ'رِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ. والآية التي بعدها. وهما الآيتان 84 و 85، من السورة 2: البقرة: نزلت في أبي ذرّ رحمة الله عليه وعثمانبن عفّان، وكان سبب ذلك لمّا أمر عثمان بنفي أبي ذرّ إلي الربذة، دخل عليه أبو ذرّ، وكان عليلاً متوكّئاً علي عصاه، وبين يدي عثمان مائة ألف درهم قد حملت إليه من بعض النواحي، وأصحابه حوله ينظرون إليه، ويطمعون أن يقسمها فيهم. فقال أبو ذرّ: ما هذا المال ؟ فقال عثمان: مائة ألف درهم حملت إليّ من بعض النواحي، أُريد أضمّ إليها مثلها، ثمّ أري فيها رأيي. فقال أبو ذرّ: يا عثمان! أيّما أكثر مائة ألف درهم أو أربعة دنانير؟! فقال عثمان: بل مائة ألف درهم! قال أبو ذرّ: أما تذكر أنا وأنت وقد دخلنا علي رسول الله عشيّاً فرأيناه كئيباً حزيناً، فسلّمنا عليه، فلميردّ علينا السلام. فلمّا أصبحنا أتيناه، فرأيناه ضاحكاً مستبشراً، فقلنا له: بآبائنا وأُمهّاتنا! دخلنا إليك البارحة، فرأيناك كئيباً حزيناً، ثمّ عدنا إليك اليوم، فرأيناك فرحاً مستبشراً! قال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: نعم! كان قد بقي عندي من فيء المسلمين أربعة دنانير لمأكن قسّمتها، وخفت أن يدركني الموت وهي عندي. وقد قسّمتها اليوم واسترحت منها. فنظر عثمان إلي كعب الاحبار وقال: يا أبا إسحاق! ما تقول في رجل أدّي زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيئاً ؟ فقال (كعب الاحبار): لا، ولو اتّخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، ما وجب عليه شيء. فرفع أبو ذرّ عصاه، فضرب بها رأس كعب. ثمّ قال له: يا ابن اليهوديّة الكافرة! ما أنت والنظر في أحكام المسلمين؟ قول الله أصدق من قولك حيث قال: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَي' عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَي' بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ'ذَا مَا كَنَزْتُمْ لاِنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ. (الآيتان 34 و 35، من السورة 9: التوبة). فقال عثمان: يا أبا ذرّ، إنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك! ولولا صحبتك لرسولالله لقتلتك! فقال أبو ذرّ: كذبت يا عثمان! أخبرني حبيبي رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم فقال: لايقتلونك! وأمّا عقلي، فقد بقي منه ما أحفظ حديثاً سمعته من رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم فيك وفي قومك! فقال ] عثمان [: وما سمعت من رسول الله فيّ وفي قومي؟ قال ] أبو ذرّ [: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِذَا بَلَغَ آلُ أَبِي العَاصِ ** ثَلاَثيِنَ رَجُلاً، صَيَّرُوا مَالَ اللَهِ دُوَلاً؛ وَكِتَابَ اللَهِ دَغَلاً، وَعِبَادَهُ خَوَلاً؛ وَالفَاسِقِينَ حِزْبَاً وَالصَّالِحِينَ حَرْبَاً. فقال عثمان: يا معشر أصحاب محمّد! هل سمع أحد منكم هذا من رسولالله؟! فقالوا ( كلّهم ): لا، ما سمعنا هذا (من رسول الله)! فقال عثمان (لابي ذرّ): ادع عليّاً! فجاء أمير المؤمنين عليه السلام. فقال له عثمان: يا أبا الحسن! انظر ما يقول هذا الشيخ الكذّاب؟! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: مه يا عثمان! لا تقل: كذّاب، فإنّي سمعت رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم يقول: مَا أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ وَلاَ أَقَلَّتِ الغَبْرَاءُ عَلَي ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ. فقال أصحاب رسول الله: صدق عليّ. وقد سمعنا هذا من رسول الله! فبكي أبو ذرّ عند ذلك وقال: ويلكم! كلّكم قد مدّ عنقه إلي هذا المال، ظننتم أ نّي أكذب علي رسولالله؟ ثمّ نظر (أبو ذرّ) إليهم، فقال: من خيركم ؟! فقالوا: أنت تقول: إنّك خيرنا؟! قال: نعم! خلّفت حبيبي رسول الله في هذه الجبّة وهو عنّي راضٍ، وأنتم قد أحدثتم أحداثاً كثيرة؛ والله سائلكم عن ذلك؛ ولايسألني! فقال عثمان: يا أبا ذرّ! اسألك بحقّ رسول الله إلاّ ما أخبرتني عن شيء أسألك عنه. فقال أبو ذرّ: والله لو لم تسألني بحقّ محمّد رسول الله أيضاً لاخبرتك! فقال (عثمان): أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها؟! فقال (أبو ذرّ): مكّة حرم الله وحرم رسول الله أعبد الله فيها حتّي يأتيني الموت! فقال عثمان: لا، ولا كرامة لك. قال أبو ذرّ: المدينة حرم رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم! قال عثمان: لا، ولا كرامة لك. فسكت أبو ذرّ. فقال عثمان: أيّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها ؟! قال: الربذة التي كنت فيها علي غيردين الاءسلام! فقال عثمان: سر إليها! فقال أبو ذرّ: قد سألتني فصدقتك. وأنا أسألك فاصدقني! قال (عثمان): نعم! قال أبو ذرّ: لو بعثتني في بعث من أصحابك إلي المشركين، فأسروني، وقالوا: لانفديه إلاّ بثلث ما تملك! فهل تفعل ؟! قال: كنت أفديك! قال أبو ذرّ: فإن قالوا: لانفديه إلاّ بنصف ما تملك؟! قال (عثمان): كنت أفديك. قال أبو ذرّ: فإن قالوا: لا نفديه إلاّ بكلّ ما تملك! قال عثمان: كنت أفديك. قال (أبو ذرّ): الله أكبر، قال حبيبي رسول الله يوماً: يا أبا ذرّ وكيف أنت إذا قيل لك: أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها ؟ فتقول: مكّة حرم الله وحرم رسوله أعبد الله فيها حتّي يأتيني الموت. فيقال لك: لا، ولا كرامة لك! فتقول: فالمدينة حرم رسول الله. فيقال لك:لا، ولاكرامة لك! ثمّ يقال لك: فأيّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها ؟ فتقول: الربذة التي كنت فيها علي غير دين الاءسلام. فيقال لك: سر إليها! فقلت لرسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: وإنّ هذا لكائن؟ فقال: إي والذي نفسي بيده إنّه لكائن. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَهِ! أَفَلاَ أَضَعُ سَيْفِي هَذَا عَلَي عَاتِقِي فَأَضْرِبَ بِهِ قُدُمَاً قُدُمَاً. قَالَ: لاَ! اسْمَعْ وَاسْكُتْ وَلَو لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَهُ فِيكَ وَفِي عُثْمَانَ آيَةً. فَقُلتُ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَهِ ؟! فَقَالَ: قَولُهُ تَعَالَي: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ'قَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَتُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَـ'رِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ هَـ'´ؤُلآءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَـ'رِهِمْ تَظَـ'هَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالاءِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـ'رَي' تُفَـ'دُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـ'بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَ ' لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَـ'مَةِ يُرَدُّونَ إِلَي' أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَهُ بِغَـ'فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ـ الآيتان 84 و 85، من السورة 2: البقرة. («تفسير القمّيّ» ص 43 إلي 46 ). وروي محمّد بن يعقوب الكُلينيّ في «روضة الكافي» من ص 206 إلي 208 بسنده المتّصل عن أبي جعفر الخُثْعَمِيّ قال: قال: لمّا سيّر عثمان أبا ذرّ إلي الربذة (وكان قد نهي عن مشايعته وتوديعه) شيّعه أمير المؤمنين، وعقيل، والحسن، والحسين عليهم السلام، وعمّاربن ياسر رضيالله عنه. فلمّا كان عند الوداع، قال أميرالمؤمنين عليه السلام: يا أبا ذرّ! إنّك إنّما غضبت للّه عزّ وجلّ فارج من غضبت له! إنّ القوم خافوك علي دنياهم، وخفتهم علي دينك! فأرحلوك عن الفِناء (أو عن فناء دارهم أو دار رسولالله)، وامتحنوك بالبلاء! ووالله لو كانت السماوات والارض علي عبد رتقاً ثمّ اتقّي الله عزّ وجلّ جعل له منها مخرجاً! فلايؤنسك إلاّ الحقّ! ولايوحشك إلاّ الباطل! ثمّ تكلّم عقيل، فقال: يا أبا ذرّ! أنت تعلم أ نّا نحبّك؛ ونحن نعلم أ نّك تحبّنا! وأنت قد حفظت فينا ما ضيّع الناس إلاّ القليل! فثوابك علي الله عزّ وجلّ! ولذلك أخرجك المخرجون؛ وسيّرك المسيّرون! فثوابك علي الله عزّ وجلّ! فاتّق الله واعلم أَنَّ استعفاءك البلاء من الجزع، واستبطاءك العافية من اليأس! فدع اليأس والجزع، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل. ثمّ تكلّم ] الاءمام [ الحسن عليه السلام فقال: يا عمّاه! إنّ القوم قد أتوا إليك ما قد تري! وإنّ الله عزّ وجلّ بالمنظر الاعلي (مشرف علي جميع الخلق وعالِم بما يصدر عنهم وإنّه لايعزب عن علمه شيء من أُمورهم). فدع عنك ذكر الدنيا بذكر فراقها! وشدّة ما يرد عليك لرخاء ما بعدها! واصبر حتّي تلقي نبيّك صلّي الله عليه وآله وسلّم وهو عنك راضٍ إن شاء الله. ثمّ تكلّم (الاءمام) الحسين عليه السلام فقال: يا عمّاه! إنّ الله تبارك وتعالي قادر أن يغيّر ما تري وهو كلّ يوم في شأن. إنّ القوم منعوك دنياهم، ومنعتهم دينك! فما أغناك عمّا منعوك! وما أحوجهم إلي ما منعتهم! فعليك بالصبر! فإنّ الخير في الصبر، والصبر من الكرم؛ ودع الجزع، فإنّ الجزع لا يغنيك! ثمّ تكلّم عمّار رضي الله عنه فقال: يا أبا ذرّ! أوحش الله من أوحشك! وأخاف من أخافك! إنّه والله ما منع الناس أن يقولوا الحقّ إلاّ الركون إلي الدنيا والحبّ لها! إلاّ الطاعة مع الجماعة (حتّي لو كانت علي الباطل) والملك لمن غلب عليه! وإنّ هؤلاء القوم دعوا الناس إلي دنياهم فأجابوهم إليها، ووهبوا لهم دينهم فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. ثمّ تكلّم أبو ذرّ رضي الله عنه فقال: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته بأبي وأُميّ هذه الوجوه! فإنّي إذا رأيتكم ذكرت رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم بكم! ومالي بالمدينة شجن لاسكن غيركم! وإنّه ثقل علي عثمان جواري بالمدينة، كما ثقل علي معاوية بالشام. فآلي عثمان أن يسيّرني إلي بلدة فطلبت إليه أن يكون ذلك إلي الكوفة، فزعم أ نّه يخاف أن أُفسد علي أخيه *** الناس بالكوفة. وآلي بالله ليسيّرني إلي بلدة لاأري فيها أنيساً ولاأسمع بها حسيساً. وإنّي والله ما أُريد إلاّ الله عزّ وجلّ صاحباً؛ ومالي مع الله وحشة. حَسْبِي اللَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ وَصَلَّي اللَهُ عَلَي سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ. أمّا أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ خطبته في «نهج البلاغة» تحت الرقم 128 تمثّل كلامه لابي ذرّ عند التوديع. وذكرها ابن أبي الحديد وشرحها في الجزء الثامن من شرحه ص 252 إلي 262، طبعة دار الاءحياء. وقال: وقد روي هذا الكلام أبو بكر أحمدبن عبدالعزيز الجوهريّ في كتاب «السقيفة» عن عبد الرزّاق، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: لمّا أُخـرج أبو ذرّ إلي الربـذة، أمر عثمان، فنودي في الناس: ألاّ يكلّم أحد أبا ذرّ ولايشيّعه. وأمر مروانبن الحكم أن يخرج به. فخرج به. وتحاماه الناس إلاّ عليّبن أبي طالب عليه السلام، وعقيلاً، وحسناً، وحسيناً عليهما السلام، وعمّاراً. ثمّ عرض كلامهم واحداً واحداً لابي ذرّ، وكلام أبي ذرّ لهم بنفس العبارات التي نقلناها عن «روضة الكافي». وقال: لمّا أراد الحسن عليه السلام أن يكلّم أبا ذرّ ويودّعه، قال مروان: إيهاً ياحسن! ألا تعلم أنّ أميرالمؤمنين (عثمان) قد نهي عن كلام هذا الرجل. فإن كنت لاتعلم، فاعلم ذلك! فحمل عليّ عليه السلام علي مروان، فضرب بالسوط بين أُذُنَي راحلته، وقال: تنحّ! نحّاك الله إلي النار! فرجع مروان مغضباً إلي عثمان، فأخبره الخبر. فتلظّي عثمان علي عليّ عليه السلام. لمّا رجع عليّ عليه السلام ومن معه إلي المدينة، جاء عليّ عليه السلام إلي عثمان. فقال له عثمان: ما حملك علي ردّ رسولي، وتصغير أمري؟ فقال عليّ عليه السلام: أمّا رسولك، فأراد أن يردّ وجهي فرددته. وأمّا أمرك فلمأُصغّره! قال عثمان: أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذرّ؟ قال عليّ: أَوَ كلّما أمرت بأمر معصية، أطعناك فيه ؟ قال عثمان: أقِدْ مروان من نفسك! قال (عليّ): ممّ ذا ؟ قال عثمان: من شتمه! وجذب راحلته! قال (عليّ): أمّا راحلته فراحلتي بها. وأمّا شتمه إيّاي، فو الله لايشتمني شتمة إلاّ شتمتك مثلها، لاأكذب عليك! فغضب عثمان، وقال: لِمَ لا يشتمك مروان؟ كأ نّك خير منه؟! قال عليّ: إي والله، ومنك. ثمّ قام فخرج. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ـ ذكر الكلينيّ في «روضة الكافي» ص 297 و 298 إسلام أبي ذرّ. وجاء فيه ما نصّه: لمّا أسلم أبو ذرّ علي رسول الله، قال له رسول الله: انطلق إلي بلادك فإنّك تجد ابن عمّ لك قد مات وليس له وارث غيرك. فخذ ماله وأقم عند أهلك حتّي يظهر أمرنا». وورد في كتب تراجم العامّة أنّ أبا ذرّ مكث هناك إلي ما بعد غزوة الخندق. ثمّ أتي المدينة وأقام إلي جوار رسولالله حتّي وفاته؛ ولذلك لم يشترك في غزوة بدر، وأُحُد، والاحزاب. ** ـ أبو العاص جدّ عثمان بن عفّان ومروان بن الحكم؛ إذ إنّ عثمان هو ابن عفّانبن أبي العاصبن أُميّـةبن عبدشمس؛ ومـروان بن الحكـم بن أبـي الـعـاص بن أُميّـةبن عبدشمس. فلهذا كان عثمان ابن عمّ مروان. إنّ نفي عثمان أبا ذرّ الغفاريّ إلي الربذة، وضرب عمّار بن ياسر، وضرب عبداللهبن مسعود ضرباً أدّي إلي وفاته، كلّ ذلك من جرائم عثمان المكشوفة. لقد أشخص عثمان أبا ذرّ الغفاريّ إلي الربذة، وهو ذلك الصحابيّ العظيم الذي لم يبلغ أحد درجته بعد المعصومين أشخصه إلي هناك لقيامه بالاءرشاد وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. ومات أبو ذرّ في الربذة وليس له كفن. وكانت بنته قلقة عند وفاته، ماذا تفعل وهو بلا كفن. بينما كان هو وقومه من آل أبي العاص يبذّرون بيت المال ويبتزّون أموال المسلمين بلاحساب. وجاءت ترجمته في كتاب «أُسد الغابة» ج 3، ص 376 إلي 382. وكذلك وردت ترجمة الحكمبن أبي العاص في الكتاب نفسه: ج 2، ص 33 إلي 35. وقال مؤلّفه: أسلم الحكم يوم الفتح. وروي بسنده المتّصل عن قيسبن حبتر، عن بنت الحكم بن أبيّ العاص أ نّها قالت (لابيها) الحكم (يوماً): ما رأيت قوماً كانوا أسوأ رأياً وأعجز في أمر رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم منكم يابني أُميّة! فقال (الحكم): لاتلومينا يا بُنية! إنّي لا أُحدّثكِ إلاّ ما رأيت بعينيّ هاتين! والله ما نزال نسمع قريشاً تقول: يصلّي هذا الصابي (محمّد) في مسجدنا (المسجد الحرام). فتواعدوا له تأخذوه! فتواعدنا إليه، فلمّا رأيناه، سمعنا صوتاً ظننّا أ نّه مابقي بتهامة جبل إلاّ تفتّت علينا. فما عقلنا حتّي قضي صلاته، ورجع إلي أهله. ثمّ تواعدنا ليلة أُخري. فلمّا جاء، نهضنا إليه فرأيت الصفا والمروة التقتا إحداهما بالاُخري، فحالتا بيننا وبينه، فو الله ما نفعنا ذلك. وروي ابن الاثير أيضاً بسنده المتّصل الآخر عن نافع بن جُبَيربن مُطعِم، عن أبيه (أ نّه) قال: كنّا مع النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم، فمرّ الحكم بن أبي العاص، فقال النبيّ صلّيالله عليه وآله وسلّم: وَيْلٌ لاِمَّتِي مِمَّا فِي صُلْبِ هَذَا. والحكم طريد رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم. نفاه من المدينة إلي الطائف وخرج معه ابنه مروان. (وولد مروان في السنة الثانية أو الثالثة من الهجرة بالمدينة، ولمير النبيّ قطّ). وقيل: ولد بالطائف. وقد اختُلف في السبب الموجب لنفي رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم الحكم إلي الطائف. فقيل: كان يتسمّع سرّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم ويطّلع عليه من باب بيته. وإنّه هو الذي أراد رسول الله أن يفقأ عينه بِمدرَي في يده لمّا اطّلع عليه من الباب. وقيل: كان يحكي رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم في مشيته وبعض حركاته. وكان النبيّ يتكفّأ في مشيته. فالتفت يوماً فرآه يتخلّج في مشيته. فقال: كن كذلك. فلميزل يرتعش في مشيته من يومئذٍ. فذكره عبدالرحمنبن حسّانبن ثابت فيهجائهلعبدالرحمن ابنالحكم،فقال: إِنَّ اللَّعِينَ أَبُوكَ فَارْمِ عِظَامَهُ إَنْ تَرْمِ تَرْمِ مُخَلَّجَاً مَجْنُونَا يُمْسِي خَميصَ البَطْنِ مِنْ عَمَلِ التُّقَي وَيَظَلُّ مِنْ عَمَلِ الخَبِيثِ بَطِينَا ومعني قول عبد الرحمن: إنّ اللعين أبوك، فروي ابن خيثمة عن عائشة أ نّها قالت لمروانبن الحكم حين قال لاخيها عبدالرحمنبن أبي بكر لمّا امتنع من البيعة ليزيدبن معاوية بولاية العهد ما قال والقصّة مشـهورة: أَمَّا أَنْتَ يَا مَرْوَانُ فَأَشْـهَدُ أَنَّ رَسُـولَاللَهِ صَلَّياللَهُ عَلَيْهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ لَعَنَ أَبَاكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ. وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلي ذكرها؛ إلاّ أنّ الامر المقطوع به أنّ رسولالله صلّيالله عليه ] وآله [ وسلّم مع حلمه وإغضائه علي ما يكره، ما فعل به ذلك إلاّ لامر عظيم. ولميزل منفيّاً حياة النبيّ. فلمّا وُلّي أبو بكر الخلافة، قيل له في الحكم ليردّه إلي المدينة. فقال: ما كنت لاحلّ عقدة عقدها رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، وكذلك عمر. فلمّا وُلّي عثمان الخلافة، ردّه، وقال: كنت قد شفعت فيه إلي رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم، فوعدني بردّه. *** ـ يعني الوليد بن عتبة أخا عثمان لاُمّه. وكان عثمان ولاّه الكوفة. وذكر الزمخشريّ وغيره أ نّه صلّي بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً وقال: هل أزيدكم. «مرآة العقول». [33] - الآية 46، من السورة 9: التوبة. [34] - «تفسير القمّيّ» ص 296 و 270؛ وتفسير «الميزان» ج 9، ص 315 عن «تفسير القمّيّ». [35] - قال ابن الاثير في «النهاية» ج 3، ص 12: الضحّ: ضوء الشمس إذا استمكن من الارض. [36] - أولي لك كلمة تهديد ووعيد. والمعني: قاربك الشرّ فاحذر. وقيل: معناه: الوَيْلُ لَكَ. وقيل: أولاك الله ما تكرهه. [37] - «المغازي» ج 3، ص 998 و 999؛ وتفسير «مجمع البيان» ج 3، ص 79 طبعة صيدا؛ و«البداية والنهاية» ج 5، ص 7 و 8؛ و«تفسير القمّيّ» ص 270؛ وتفسير «الميزان» ج 9، ص 315، عن «تفسير القمّيّ»؛ و«السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 152؛ و«بحار الانوار» ج 6، ص 622 و 623؛ وكذلك في ص 625؛ و«الكامل في التاريخ» ج 2، ص 278؛ و«أعيان الشيعة» ج 2، ص 196، الطبعة الرابعة؛ و«سيرة ابن هشام» ج 4، ص 947 و 948؛ و«كتاب محمّد» ص 428. |
|
|