|
|
الصفحة السابقةقصّة أبي جلاس المنافق وتوبة مخشيّ بن حميّرالمؤرّخون قالوا: وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبيّ الاكرم صلّيالله علیه وآله وسلّم في تبوك. منهم: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِت ، والجُلاسُبْنُ سُوَيدبْن الصَّامِت، وَمَخْشِيُّبْنُ حُمَيْرِّ ، وَثَعْلَبَةُبْنُ حَاطِبْ. ( وعندما كانوا يسيرون ). فقال ثعلبة: تحسبون أنّ قتال بني الاصفر ( حرب الروم ) كقتال غيرهم ؟! والله لكأ نّا بكم غداً مقرّنين في الحبال! ( وكان يقول هذا ) إرجافاً برسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم وترهيباً للمؤمنين ( من القتال ). ( ثمّ ) قال وديعة: ما لي أري قُرّاءنا هؤلاء أوعَبنا بطون، وأكذَبنا ألسنةً، وأجبنَنا عند اللقاء ؟! وقال الجلاس ( بعده: انظروا ) هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منّا! والله لئن كان محمّد صادق، لنحن شرّ من الحمير! والله، لوددت أ نّي أُقاضي علی أن يُضرَب كلّ رجل منّا مائةَ جلدة ، وأ نّا ننفلت من أن ينزل فينا القرآن بمقالتكم! فقال رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم لعمّاربن ياسر: أدرك القوم فإنّهم قد احترقوا؛ فسلهم عمّا قالوا؛ فإن أنكرو، فقل: بلي، قد قلتم: كذا وكذا! فذهب إلیهم عمّار ، فقال لهم. فأتوا رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم يعتذرون إلیه. فقال وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، ورسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم علی ناقته، وقد أخذ بحَقَب ( الحزام الذي يشدّ به حقو البعير ) ناقة النبيّ صلّيالله علیه وآله وسلّم، ورجلاه تنسفان الحجارة ، وهو يقول: يارسولالله! إنّما كنّا نخوض ونلعب! ولميلتفت إلیه رسول الله صلّي الله علسه وآله وسلّم، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه: يَحْذَرُ المُنَـ'فِقُونَ أَن تُنَزَّلَ علیهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُو´ا إِنَّ اللَهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَنءِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَهِ وَءَايَـ'تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ* لاَتَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ'نِكُمْ إِن نَّعْفُ عَنْ طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَ نَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ[1] . قالوا: وكان عُمير ربيب جُلاس ، وهو أحد المؤمنين برسولالله. وعندما قال جُلاس: لَنحن شرّ من الحمير ، ردّ علیه عُمَير وقال له: فأنت شرّ من الحمار! ورسولالله الصادق وأنت الكاذب! وكان للجلاس دية في الجاهليّة علی بعض قومه ، وكان محتاجاً. فلمّا قدم رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم المدينة ، أخذها له فاستغني بها. ( وجاء الجُلاس عند رسول الله ، وحلف إنّه ما تكلّم بهذا الكلام الذي فيه كفر ). فأنزل الله علی نبيّه هذه الآية: يَحْلِفُونَ بِاللَهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَـ'مِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ( همّوا بقتل رسول الله ، أو إخراجه من المدينة، أو أيّ ضرب من ضروب الفساد والفوضي ) وَمَا نَقَمُوا إِلآ أَنْ أَغْنَـ'هُمُ اللَهُ وَرَسُولُهُ و مِنْ فَضْلِهِ ( في مقابل المحبّة والإخلاص المحض ) فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإَنْ يَتَوَلَّوا يُعَذِّبْهُمُ اللَهُ عَذَابًا إلیمًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَمَالَهُمْ فِي الاْرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَنَصيِرٍ [2]. وقال مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّر : قد واللهِ يا رسول الله قعد بي، ( ومنعني من الخيرات اسمي ) واسم أبي. قصّة نفاق زيد بن اللصيت وعشق ذي البجادين رسول اللهوكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشيّ بن حميّر -فسمّاه رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم عبد الرحمن أو عبدالله- وسأل الله عزّ وجلّ أن يقتل شهيداً ولا يعلم بمكانه ( شهيد مجهول أو بعبارة أفضل شهيد مجهول القبر ) فقتل يوم إلیمَامَة ، ولميوجد له أثر [3] . قالوا: وأمر رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم كلّ بطن من الانصار أن يتّخذوا لواءً وراية. وكان رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم قد دفع راية بني مالكبن النجّار إلی عُمَارة بْنِ حَزْمٍ. فأدرك رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم زَيْدُبْنُ ثَابِتٍ ، فأعطاه الراية. قال عُمارة: يارسولالله! لعلّك وجدتَ علیَّ! قَالَ: لاَ وَاللَهِ وَلَكِنْ قَدِّمُوا القُرْآنَ! وَكَانَ أَكْثَرَ أَخْذَاً لِلقُرْآنِ مِنْكَ! وَالقُرْآنُ يُقَدِّمُ وَإِنْ كَانَ عَبْدَاً مُجَدَّعَاً[4] . وعندما أصبح رسول الله في منزل من المنازل في طريق تبوك، ضلّت نَاقَتهُ القَصْوَاء. فخرج أصحابه في طلبها. وعند رسولالله عُمَارَةبْنِ حَزْمٍ -وهو عقبيّ بدريّ قتل يوم إلیمامة شهيداً- وكان في رحله زَيْدُبْنُ اللُّصَيْتِ أحد بني قَيْنُقَاع . كان يهوديّاً فأسلم ، ( ولكنّه ) نافق. وكان فيه خبث إلیهود وغِشّهم. وكان مُظاهراً لاهل النفاق. فقال زيد وهو في رحل عُمارة، وعُمارة عند النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم: إلیس محمّد يزعم أ نّه نبيّ، وأ نّه يخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته ؟! فقال رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم: إنّ منافقاً يقول: إنّ محمّداً يزعم أ نّه نبيّ، وأ نّه يخبركم بأمر السماء ، ولايدري أين ناقته! وإنّي والله ما أعلم إلاّ ما علّمني الله ، وقد دلّني علیه، وهي في الوادي في شِعب كذا وكذا -وأشار لهم إلیه- حبستها شجرة بزمامه، فانطلقوا حتّي تأتوا بها. فذهبوا فجاؤوا بها. فرجع عمارة إلی رَحله ، فقال: العجب من شيء ، حدّثناه رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم. أ نّها عن مقالة قائل أخبره الله عنه! قال: كذا وكذ، الذي قال زيد. قال: فقال رجل ممّن كان في رَحل عُمارة ، ولم يحضر رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم: زيد والله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علینا. ( وما إن سمع عُماره هذا الكلام قام ) وأقبل علی زيدبن اللُّصَيْت يَجَأُه في عنقه . ويقول: واللهِ ، إنّ في رَحلِي لَداهِية وما أدري . اخرج ياعدوّالله من رحلي! ( قيل: ) وكان الذي أخبر عمارة بمقالة زيد أخوه عَمْروبن حَزْم. وكان في الرحل مع رهط من أصحابه. والذي ذهب فجاء بالناقة من الشعب الحَارِثُبْنُ خَزَمَة الاَشْهَلِيّ؛ وجدها وزمامها قد تعلّق في شجرة. فقال زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْت : لكأ نّي لم أُسلم إلاّ إلیوم. قد كنت شاكّاً في مُحَمَّد ، وقد أصبحت وأنا فيه ذو بَصيرة. وأشهد أ نّه رسولالله. فزعم الناس أ نّه تاب . وكان خَارِجَةُبنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يُنكر توبته ويقول : لميزل فَسْلاً حتّي مات [5]. وقال رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم: إنّكم ستأتون غداً إن شاءالله عين تبوك! وإنّكم لن تنالوها حتّي يضحي النهار. فمن جاءها فلايمسّ من مائها شيئاً حتّي آتي. قال مُعَاذُ بْنُ جَبَل : فجئناها ( مع رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم ) وقد سبق إلیها رجلان، والعين مثل الزلال ، تَبِضّ بشيء من ماء ( تسيل قليلاً قليلاًلاً ). فسألهما ( رسولالله ): هل مَسِستُما من مائها شيئاً ؟! قالا: نعم! فسبّهما النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم وقال لهما ما شاء الله أن يقول. ثمّ غَرَفُوا بأيديهم قليلاً قليلاً ( بأمر النبيّ ) حتّي اجتمع في شَنّ ( قربة خلقة ) ، ثمّ غسل النبيّ فيه وجهَه ويديه ، ثمّ أعاده فيه، فجاءت العين بماء كثير، فاستقي الناس. ثمّ قال النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم لمعاذ: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن تري ما ها هنا قد مُلِي جِناناً [6]! وفاة ذي البجادين في تبوك ، وذهاب النبيّ إلی قبرهوكان عَبْدُ اللَهِ ذُو البِجَادَيْنِ من مُزَيْنَة ؛ وكان يتيماً لا مال له. قد مات أبوه فلميورثه شيئاً. وكان عمّه مَيِّلاً فأخذه وكفله حتّي كان قد أيسر، فكانت له إبل وغنم ورقيق. فلمّا قدم رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم المدينة، جعلت نفسه ( تشتاق إلی زيارة رسول الله ) ، وتتوق إلی الإسلام؛ ولايقدر علیه من عمّه، حتّي مضت السنون والمشاهد كلّه، فانصرف رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم من فتح مكّة راجعاً إلی المدينة. فقال عَبْدُ اللَهِ لعمّه: يا عمّ! قد انتظرت إسلامك فلاأراك تريد محمّداً! فائذن لي في الإسلام! فقال عمّه: والله لئن اتّبعت مُحَمَّدَاً ، لاأترك بيدك شيئاً كنت أعطيتكه إلاّ نزعته منك حتّي ثوبيك. فقال عَبْدُ العُزَّي وهو يومئذٍ اسمه: وأنا والله متّبع محمّداً ومسلم، وتارك عبادة الحجر والوثن. وهذا ما بيدي فخذه! فأخذ كلّ ما أعطاه، حتّي جرّده من إزاره. فأتي عبد الله أُمّه فقطعت بِجَادَاً لها باثنين ( البجاد كساء فيه خطوط )[7] فائتزر بواحد، وارتدي بالآخر. ثمّ أقبل إلی المدينة وكان بوَرِقَان ( جبل من رحمي المدينة ). فاضطجع في المسجد إلی السحر. ثمّ صلّي رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم الصبح. وكان رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم يتصفّح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إلیه، فأنكره. فقال: من أنت ؟ فانتسب له ، ( وقال: اسمي عبد العزّي. ) فقال رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم: أنت عَبْدُ اللَهِ ذُو البِجَادَيْنِ! ثمّ قال: انزل منّي قريباً. فجعله من أضيافه ، وكان يعلّمه القرآن حتّي قرأ قرآناً كثيراً. وكان (ذُو البِجَادَيْن) رجلاً صيّتاً ، فكان يقوم في المسجد، فيرفع صوته بالقراءة. فقال عمر: يا رسول الله ، ألا تسمع إلی هذا الاعرابيّ يرفع صوته بالقرآن حتّي قد منع الناس القراءة ؟! فقال النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم: دعه يا عمر! فإنّه خرج مهاجراً إلی الله ورسوله! ولمّا كان الناس يتجهّـزون إلی تبـوك ، جـاء إلی النبيّ وقـال: يارسولالله! ادع الله لي بالشهادة. قال رسول الله: أبلغني لِحاء[8] سمُرَة ( قشر شجرة سمرة ) فأبلغه لحاءَ سَمُرة. فربطها رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم علی عضده، وقال: اللَهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ دَمَهُ علی الكُفَّارِ! فقال: يارسولالله! ليسأردت هذا. قال النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم: ( يا ذا البجادين )! إنّك إذا خرجت غازياً في سبيل الله، فأخذتك الحمّي ، فقتلتك، فأنت شهيد! وَوَقَصَتْك دابّتك فأنت شهيد! لاتُبالِ بأيّةٍ كان! ولمّا نزلوا تبوكاً؛ وأقاموا بها أيّاماً ، توفّي عبدالله ذو البجادين. فكان بَلاَلُ بْنُ الحَارِثُ يقول: حضرتُ رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم، ومع بَلاَلُ المؤذِّن شُعْلَةٌ من نار عند القبر واقفاً بها. وإذا رسولالله صلّياله علیه وآله وسلّم في القبر ، وإذا أبو بكر، وعمر يدلِّيانه إلی النبيّ صلّيالله علیه وآله وسلّم وهو يقول: أدينا إلیّ أخاكما! ولمّا هيّأه رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم لشقّه ، قال: اللهمّ إنّي قد أمسيتُ عنه راضياً فارض عنه! فقال عَبْدُ اللَهِ بْنُ مَسْعُود : يا ليتني كنت صاحب اللحد [9]. وأقام رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم بتبوك عشرين ليلة يصلّي قصر، وهرقل يومئذٍ بحمص[10] . وقال رجل من بَنِي سَعْد بن هُذَيْم : جئت رسول الله صلّيالله علیه وآله وسلّم وهو جالس بتبوك في نفر من أصحابه ، وهو سابعهم، فوقفت، فسلّمت. فقال: اجلس! فقلت: يا رسول الله ، أَشْهَدُ أَن لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ؛ وَأَ نَّكَ رَسُولُاللَهِ. قال: أَفْلَحَ وَجْهَكَ. ثمّ قال: يابلال! أطعمنا! فبسط بلال نطِعاً ( بساط من الاديم ) ثمّ جعل يخرج من حَميتٍ[11] له، فأخرج خرجات بيده من تمر معجون بالسَّمن والاَقِط. ثمّ قال رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم! فأكلنا حتّي شبعنا. فقلت ( أنا ): يارسولالله! إن كنت لآكل هذا وحدي! قال رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم: الكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ [12] وَالمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعيٍ وَاحِدٍ . قال: ثمّ جئته من الغد متحيّناً لغدائه، لازداد في الإسلام يقيناً. فإذا عشرة نفر حوله. قال: هات! أطعمنا يابلال! فجعل بلال يخرج من جراب تمر بكفّه قبضة قبضة. فقال له رسولالله: أَخْرِجْ وَلاَتَخَفْ مِنْ ذِي العَرْشِ إقْتَارَاً! فجاء بلال بالجراب، فنثره. قال: فَحزرتُه مُدَّين. فوضع النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم يده علی التمر، ثمّ قال: كُلُوا بِاسْمِ اللَهِ! فأكل القوم ، وأكلت معهم. وكنت صاحبَ تمرٍ. قال: فأكلت حتّي ما أجد له مسلكاً. وبقي علی النِّطع مثل الذي جاء به بلال، كأ نّا لمنأكل منه تمرة واحدة. ثمّ عدتُ من الغد. وعاد نفر حتّي باتوا ، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلاً أو رجلين. فقال رسول الله: يا بلال أطعمنا. فجاء بلال بذلك الجراب بعينه أعرفه، فنثره. ووضع رسول الله يده علیه فقال: كُلُوا بِاسْمِ اللَهِ. فأكلنا حتّي نهلنا. ثمّ رفع بلال مثل الذي صبّ. ففعل مثل ذلك ثلاثة أيّام[13] . إرسال هرقل رجلاً للتحقيق في علامات النبوّةوكان هِرْقَل ( إمبراطور الروم ) قد بعث رجلاً من غسّان إلی النبيّ صلّيالله علیه وآله وسلّم فينظر إلی صفته وإلی علاماته، إلی حمرة في عينيه، وإلی خاتم النبوّة بين كتفيه ، وسأل فإذا هو لايقبل الصدقة. فوعي ( ذلك الرجل ) أشياء من حال النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم، ثمّ انصرف إلی هرقل، فذكر له ذلك. فعلم هرقل أ نّه نبيّ حقّ من الله. فدعا قومه إلی التصديق به. فأبوا حتّي خافهم علی ملكه. وهو في موضعه لميتحرّك، ولميزحف ( لقتال المسلمين ) . وكان الذي خبّر النبيّ صلّيالله علیه وآله وسلّم من بعثته أصحابه ودنوّه إلی أدني الشام باطلاً. ولميرد ذلك ولميهمّ به. وشاور رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم أصحابه في التقدّم فقال عمربن الخطّاب: إن كنت أُمرتَ بالمسير ، فسر! قال رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم: لو أُمرتُ به ما استشرتكم فيه! قال ( عمر ) : يا رسول الله! فإنّ للروم جموعاً كثيرة، وليسبها أحد من أهل الإسلام؛ وقد دنوت منهم حيث تري ، وقد أفزعهم دنوّك. فلو رجعت هذه السنة حتّي تري ، أو يحدث الله لك في ذلك أمراً [14]. وكان عبد الله بن عمر يقول: كنّا مع رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم بتبوك، فقام يصلّي من الليل. وكان يكثر التهجّد من الليل ( يفيق وينام ) ولايقوم إلاّ استاك. المعجزات التي ظهرت من رسول الله في غزوة تبوكوكان إذا قام يصلّي ، صلّي بفناء خيمته. فيقوم ناس من المسلمين فيحرسونه. فصلّي ليلة من تلك الليإلی. فلمّا فرغ ، أقبل علی من كان عنده، فقال: أُعْطِيتُ خَمْسَاً مَا أُعْطِيهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إلی النَّاسِ كَافَّةً، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلی قَوْمِهِ. وَجُعِلَتْ لِيَ الاَرْضُ مَسْجِدَاً وَطَهُورَ، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلاَةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعْظِمُونَ ذَلِكَ، وَلاَيُصَلُّونَ إِلاَّ فِي كَنَائِسِهِمْ وَالبِيَعِ. وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ آكُلُهَ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُحَرِّمُونَها. وَالخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ؟ هِيَ مَا هِيَ؟ هِيَ مَا هِيَ؟ ثَلاَثَاً. قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَهِ ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: قِيلَ لِي: سَلْ! فَكُلُّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ! فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لاَإلَهَ إِلاَّ اللهُ[15] . إنّ ما كان في غزوُة تبوك من المصاعب ، والمشاكل، والجوع، والعطش، وعدموجود الراحلة لجميع الجنود ، مع بُعد الطريق، وشدّة الحرّ في الصيف، كلّ ذلك أضفي علی هذه الغزوة طابعاً خاصّاً: وسمّي جيشها: جَيْشُ العُسْرَةِ[16] . واتُّخذ هذا الاسم من الآية الآتية: لَقَد تَّابَ اللَهُ علی النَّبِيِّ وَالْمُهَـ'جِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ علیهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [17]. ذكر الشيخ الطبرسيّ: نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّي همّ قوم بالرجوع ، ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه. قال الحَسَن: كان العشرة من المسلمين يخرجون علی بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك. وكان زادهم الشعير المُسَوَّس ، والتمر المُدَوَّد ، و الإهَالَةَ السَّخِنَة [18]. وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم. فإذا بلغ الجوع من أحدهم، أخذ التمرة فلاكها حتّي يجد طعمه، ثمّ يعطيها صاحبه، فيمصّه، ثمّ يشرب علیها جرعة من ماء كذلك حتّي يأتي علی آخرهم فلايبقي من التمرة إلاّ النواة[19] . وروي عن أبي سعيد الخدريّ أ نّه قال: أصبح رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم في طريقه إلی تبوك ، ولا ماء مع عسكره. فشكوا ذلك إلیه صلّيالله علیه وآله وسلّم وهو علی غير ماء. قال عَبْدُاللَهِبنُ أَبِي حَدْرَد: رأيت رسولالله استقبل القبلة فدعا ، ولا والله ما أري في السماء سحاباً. فما برح رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم يدعو حتّي أ نّي لانظر إلی السحاب تأتلف من كلّ ناحية. فما رام مقامه حتّي سحّت علینا السماء بالرواء. فكأ نّي أسمع تكبير رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم في المطر. ثمّ كشف الله السماء عنّا من ساعتها ، وإن الارض إلاّ غُدُرٌ يصبّ بعضها في بعض. فسقي الناس وارتووا عن آخرهم؛ وسمعت رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم يقول: أَشْهَدُ إنِّي رَسُولُاللَهِ. فقلت لرجل من المنافقين: وَيْحَكَ! أَبَعْدَ هَذَا شَيءٌ ؟ فَقَالَ: سَحَابَةٌ مَارَّةٌ. وهو أَوْسُبْنُ قَيْظِيّ. ويقال: زَيْدِبْنُ اللُّصَيْت [20]. يقول قَتَادَة ضمن حديث مفصّل عند الرجوع من تبوك أيضاً: كانت معي إداوَة فيها ماء و رَكْوَةٌ [21] لي أشرب فيها. وتوضّأ رسولالله من ماء الإداوة لصلاة الصبح، ففضل فضلة ، فقال: احْتَفِظْ بِمَا فِي الإدَاوَةِ وَالرَّكْوَةَ فَإِنَّ لَهَا شَأْنَاً. ثمّ صلّي بنا رسول الله صلاة الصبح ، فقرأ سورة المائدة. ثمّ ركب فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه. وقد كادت تقطع أعناق الرجال والخيل عطشاً. فدعا رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم بالرَّكوة، فأفرغ ما في الإداوة فيها. فوضع أصابعه علیها فنبع الماء من بين أصابعه. وأقبل الناس فاستقوا؛ وفاض الماء حتّي تَرَوّوا ، وأروَوْا خيلهم وركابهم. وكان في العسكر اثنا عشر ألف بعير ، ويقال: خمسة عشر ألف بعير، والناس ثلاثون ألف، والخيل عشرة آلاف. وذلك قول النبيّ صلّيالله علیه وآله وسلّم لابي قتادة: احْتَفِظْ بِمَا فِي الرَّكْوَةِ وَالإدَاوَةِ [22]. وروي ابن أبي سَبْرَة، عن موسي بن سعيد ، عن عِرْباضبْنِ سَارِيَة قال: كنت ألزم باب رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم في الحضر والسفر. وقال بعد شرح مفصّل لمعجزاته: كنّا حول قبّة رسول الله في ليلة من الليإلی ، وكان من عادة النبيّ أ نّه يتهجّد في الليل، فقام تلك الليلة يصلّي. فلمّا طلع الفجر، ركع ركعتي الفجر، وأذّن بلال وأقام، فصلّي رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم بالناس. ثمّ انصرف إلی فِناء قبّته ، فجلس وجلسنا حوله. وكنّا عشرة مع الفقراء الذين كانوا عنده. فقال ( رسول الله ) : هل لكم في الغَداء ؟ قال عِرباض: فجعلت أقول في نفسي: أيّ غداء ؟ فدعا بلالَ بالتمر ، فوضع يده علیه في الصحفة، ثمّ قال: كُلُوا بِاسْمِ اللَهِ. فأكلن، والذي بعثه بالحقّ حتّي شبعنا ، وإنّا لعشرة. ثمّ رفعوا أيديهم منها شبع، وإذا التمرات كما هي. قال رسول الله: لَوْلاَ أَ نِّي أَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي لاَكَلْنَا مِنْ هَذَا التَّمْرِ حَتَّي نَرِدَ المَدِينَةَ عَنْ آخِرِنَا. وطلع غُلَيِّمٌ من أهل البلد ، وأخذ رسول الله صلّيالله علیه وآله وسلّم التمرات بيده فدفعها إلیه. فولّي الغلام يلوكُهنَّ. فلمّا أجمع رسولالله المسير من تبوك ، أرمل الناس إرمالاً شديداً. فشخص علی ذلك الحال ، حتّي جاء الناس إلی رسول الله صلّيالله علیه وآله وسلّم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم ، فيأكلوها. فأذن لهم. فلقيهم عمربن الخطّاب وهم علی نحرها؛ فأمرهم أن يمسكوا عن نحرها ، ثمّ دخل علی رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم في خيمة له، فقال: أذنتَ للناس في نحر حَمولتهم يأكلونها ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: شَكَوا إلیَّ مَا بَلَغَ مِنْهُمُ الجُوعُ فَأَذِنْتُ لَهُمْ، يَنْحَرُ الرُّفْقَةُ البَعِيرَ وَالبَعِيرَيْنِ وَيَتَعَاقَبُونَ فِيمَا فَضَلَ مِنْ ظَهْرِهِمْ وَهُمْ قَافِلُونَ إلی أَهْلِيهِمْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَهِ! لاَ تَفْعَلْ! فَإنْ يَكُنْ للنَّاسِ فَضْلٌ مِنْ ظَهْرِهِمْ يَكُنْ خَيْرَاً؛ فَالظَّهْرُ إلیوْمَ رِقَاقٌ [23]. ولكن ادع بفضل أزوادهم ثمّ اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلتَ في منصرفنا من الحديبيّة حيث أرملنا ، فإنّ الله عزّ وجلّ يستجيب لك! فنادي منادي رسولالله: من كان عنده فضل من زاد فليأت به. وأمر رسولالله بالانطاع فَبُسِطت. فجعل الرجل يأتي بالمُدّ الدقيق، والسويق، والتمر. ويأتي الآخر بالقبضة من الدقيق ، والسويق، والتمر، والكِسَر. فيوضع كلّ صنفٍ من ذلك علی حِدَة. وكلّ ذلك قليل. فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق [24] حزراً. ثمّ قام النبيّ ، فتوضّأ ، وصلّي ركعتين ، ثمّ دعا الله عزّ وجلّ أن يبارك فيه. فكان أربعة من أصحاب النبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم يحدّثون جميعاً حديثاً واحد، حضروا ذلك وعاينوه: أَبُو هُرَيْرَة، وَأَبُو حُمَيْد السَّاعِدِيّ، وأَبُو زُرْعَة الجُهَنِيّ: مَعْبَدبْنُ خَالِد، وسَهْلُبْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيّ. قالوا: ثمّ انصرف رسولالله صلّي الله علیه وآله وسلّم، ونادي مناديه: هَلُمّوا إلی الطعام، خذوا منه حاجتكم! وأقبل الناس ، فجعل كلّ من جاء بوعاء ، ملاه. فقال بعضهم: لقد طرحتُ يومئذٍ كِسرة من خبز ، وقبضة من تمر. ولقد رأيت الانطاع تفيض؛ وجئت بجرابين فملات إحداهما سَويقاً ، والآخر خبز، وأخذت في ثوبي دقيقاً بمقدار ما يكفينا إلی المدينة. فجعل الناس يتزوّدون الزاد حتّي نهلوا عن آخرهم ، حتّي كان آخر ذلك أن أُخذت الانطاع ونُثر ما علیها. فجعل رسولالله صلّي الله علیه وآله وسلّم يقول وهو واقف: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إَلاَّ اللَهُ ، وَأَ نِّي عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَيَقُولُهَا أَحَدٌ مِنْ حَقِيقَةِ قَلْبِهِ إَلاَّ وَقَاهُ اللَهُ حَرَّ النَّارِ[25] . وفي ضوء هذا الحديث ، لنا مع عمر بحث كلاميّ. فنقول: عندما جاء الناس، واستأذنوا رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم في نحر إبلهم بسبب ما أصابهم من الجوع. وهم أيضاً قالوا له: أذن لنا رسولالله. فحينئذٍ كيف يحقّ له أن ينهاهم عن النحر ؟ إلیس أمره هذا أمراً في مقابل أمر رسولالله ؟ وهل يُبقي هذا الامر قيمة لامر رسولالله ؟ وهل يفوق هذا الامر المنبعث عن تفكيرك الذاتي بمصلحة الامر علی المصلحة التي أصدر رسولالله أمره علی أساسها ؟ وثانياً: ثمّ تأتي إلی رسول الله في خيمته وتقول له: لاتَفْعَلْ! وهذا الكلام يحمل طابع الامر، وقد جاء بعد الامر الذي أصدره رسولالله، وبعد أن انشغل الناس بنحر إبلهم [26]. وثالثاً: إنّ السبب الذي ذكرته في عدم النحر هو أنّ الإبل ضعيفة، وإنّ المسلمين لايحصلون علی نصيب وافر من لحمه، وينبغي الصبر حتّي تسمن، ويفاد من لحمها فائدة كبيرة. وهذا سبب عجيب جدّاً ، لانّ قيمة كلّ شيء تظهر عند الحاجة إلیه. ولانّ قيمة منّ من لحم الإبل عند المجاعة تفوق قيمة ثلاثمائة كيلوغرام منه عند الرخاء والسرّاء. وما هو المانع من نحر كلّ قافلة بعيراً أو بعيرين، فيشبع الجميع، ويزول الجوع. ورابعاً: إذا كنت تعرف النبيّ باستجابة الدعاء ، ورأيت البركة في طلبه، كما ذكرت مصداق ذلك في غزوة الحديبيّة ، فإنّ النبيّ نفسه هو الذي أمر بالنحر، وأمره في هؤلاء الناس أنفسهم. وهو الذي دعا وطلب من الله أن يعوّض الناس عن إبلهم المنحورة أضعافاً مضاعفة. وإنّ الطريق الذي يعطي فيهالله لايقتصر علی نفض الناس ما فضل من متاعهم في الانطاع، ودعاء رسولالله بالبركة فيه. إنّ الله يبارك من أيّ طريق شاء. وما من طريق خاصّ لفعله تعإلی بحيث لو سدّ ، فلا طريق غيره. فهذا تفكير خاطي. ألم تقرأ هذه الآية الكريمة الشريفة: وَمَن يَتَّقِ اللَهَ يَجْعَل لَّهُ و مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ علی اللَهِ فَهُوَ حَسْـبُهُ و´ إِنَّ اللَهَ بَـ'لِغُ أَمْـرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَهُ لِكُلِّ شَـيْءٍ قَدْرًا[27] . « كلّ من اتّقي الله ( وصان نفسه من الذنوب والاعمال غير المرضيّة ) فإنّ الله يجعل له مخرجاً ( من المشاكل والمصائب والحوادث والفتن والبلايا والمعاصي وشرّ الشيطان الرجيم ) ( بحيث إنّه لايصطدم بكلّ عقبة، والطريق ثابت له في المقصد والمراد الذي يتقدّم من أجله، وله مهرب من الشرور والآفات ) ويرزقه من حيث لايحتسب. ومن يتوكّل علی الله، فالله كافيه، ويبلغه أمره وتقديره ( ونفوذه وقدرته مع كلّ شيء يتعلّق به أمره من أجل تحقّقه ) وقد جعل الله لكلّ شيء قدراً ». ويستبين لنا من هذه الآيات أنّ الله ليس له طريق محدّد لإيصال الرزق وسائر الشؤون الجسميّة والروحيّة ، والملكيّة والملكوتيّة، والظاهريّة والباطنيّة، بل له طرق عديدة لانهاية لها لإنفاذ أمره ومراده. بل هو نفسه يوجد الطريق. ولذلك علی المؤمن الملتزم أن يتوكّل علیه، ويعتقده وكيلاً وكفيلاً له في كافّة شؤونه، ويفوّض إلیه لا إلی غيره نفسه. وحينئذٍ لايكفيه الله أمره فحسب، بل هو ذاته له، وهو كافيه. ونحن نعلم أنّ طلب المعجزة من النبيّ دائماً ، وإجباره علی إحداث أُمور خارقة عمل غير صحيح. وينبغي أن يكون طلب النبيّ ودعاؤه، وطلبه الاُمور غيرالعاديّة عند الضرورة وفي الظروف الاستثنائيّة. و إذا أراد نبيّ ما من الله باستمرار أن يرزقه رزقاً وافراً كثيراً من طرق غيرعاديّة وغيرطبيعيّة، فهذا مخالف للادب حتّي لو رزقه الله ذلك. فلهذا رأينا رسولالله قال في رواية عِرباض: لَوْلاَ أَ نِّي أسْتَحيي مِنْ رَبِّي لاَكَلْنَا مِنْ هَذَا التَّمْرِ حَتَّي نَرِدَ المَدِينَةَ عَنْ آخِرِنَا. وخامساً: لا نقرأ في هذه الرواية جملة صدّق فيها رسولالله عمر، أو أجابه في الاقلّ. وما نقرأه فحسب أنّ منادي رسولالله نادي... ولعلّ هذا المنادي كان من أعوانه، ولم يرد تضييع أمر عمر في عدمنحر الإبل، حتّي لو ضاع أمر النبيّ. فلهذا جعل النبيّ أمام أمر واقع، إذ بُسطتِ الانطاع، ونُفِضَ الفضل من المتاع ، وقُسر النبيّ علی الدعاء. صَلَّياللَهُ علیكَ يَارَسُولَاللَهِ! ولعلّ لسوء أدب عمر ما ورد في « السيرة الحلبيّة » [28] عن « صحيح مسلم » ، وفي « البداية والنهاية » عن البيهقيّ ، عن أحمد ، عن أبي معاوية، عن الاعمش، عن أبي صالح أو عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخُدريّ، إذ نقلوا هذه الرواية ولم يذكروا فيها نهي عمر الناسَ عن نحر الإبل. كما حذفوا نهيَ عمر رسولَالله، وأوردوا هذه العبارة مكانه: إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ. ارجاعات [1] - الآيات 64 إلي 66 من السورة 9: التوبة. [2] - الآية 74، من السورة 9: التوبة. وذكر الشيخ الطبرسيّ هذه القضيّة في «مجمع البيان» ج 3، ص 51 طبعة صيد، كأحد الاحتمالات المطروحة في تفسير الآية المباركة. وأوردها المجلسيّ في «بحار الانوار» ج 6، ص 626، عن «تفسير القمّيّ». [3] - «المغازي» للواقديّ، ج 3، ص 1003 إلي 1005؛ و«أعيان الشيعة» ج 2، ص 199، الطبعة الرابعة؛ و«سيرة ابن هشام» ج 4، ص 951 و 952. [4] - «المغازي» ج 3، ص 1003. [5] - «المغازي» ج 3، ص 1009 و 1010؛ و«البداية والنهاية» ج 5، ص 9؛ و«السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 153؛ و«بحار الانوار» ج 6، ص 629 عن «الخرائج والجرائح» للراونديّ؛ وكذلك أوردها في ص 632 من «الكافي»؛ و«الكامل في التاريخ» ج 2، ص 279 و 280؛ و«حبيب السير» ج 1، ص 399 و 400؛ و«سيرة ابن هشام» ج 4، ص 949 و 950. [6] - «المغازي» ج 3، ص 1012 و 1013. وحدث مثل هذه الواقعة عند الرجوع من تبوك. كما قال في ص 1039 من هذا الكتاب: عند الرجوع من تبوك كان بينها وبين وادي الناقة حجر أو جبل يخرج منه قدر ما يروي الراكبَيْن أو الثلاثة. فقال رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم: من سبقنا إلي ذلك المكان (الوَشل) فلا يستقينَّ منه شيئاً حتّي نأتي. فسبق إليه أربعة من المنافقين. ولمّا وصل رسولالله، قال: ألم أنهَكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثمّ نزل فوضع يده في الوَشَل حتّي اجتمع في كفّه منه ماء قليل، ثمّ نَضَحه، ثمّ مسحه بيده، ثمّ دعا بما شاءالله أن يدعو به، فانخرق الماء فشرب الناس ما شاءو، وَسَقَوا ما شاءوا. قال سلَمةبن سَلامةبن وَقش: قلت لوديعة بن ثابت (وهو أحد المنافقين الاربعة): ويلك! أبعد ما تري شيء؟ أما تعتبر؟! قال: قد كان يفعل مثل هذا من قبل؛ و«السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 155 و 162؛ و«بحار الانوار» ج 6، ص 632 عن «الكافي»؛ و«البداية والنهاية» ج 5، ص 12. [7] - قال ابن هشام في سيرته، ج 4، ص 172: البِجَادُ: الكِسَاءُ الغَيظ الجافي. [8] - جاء في «صحاح اللغة» ص 2480: الِّلحاء قِشر الشَّجَر. [9] - «المغازي» ج 3، ص 1013 و 1014؛ و«سيرة ابن هشام» ج 4، ص 954. [10] - «المغازي» ج 2، ص 1015. [11] - قال في «صحاح اللغة»ص 247: الحميت: الزق الذي لا شعر عليه، وهو للسمن. [12] - قال ابن الاثير في «النهاية» ج 4، ص 101: الامعاء جمع معي. وهي المصارين. والمصران هو المعي، وجمعها مصارين. [13] - «المغازي» ج 3، ص 1017 و 1018. وجاءت رسالة هرقل ورسول الله بنحو آخر يشبه ما ذكرناه، وذلك في «البداية والنهاية» ج 5، ص 15؛ و«السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 161. [14] - «المغازي» ج 3، ص 1018 و 1019؛ و «بحار الانوار» ج 6، ص 633 عن «الكافي» وجاء في هذه الرواية: وأسلم هرقل سرّاً منهم وامتنع من قتال النبيّ، ولميؤذن النبيّ لقتاله، فرجع؛ و«حبيب السير» ج 1، ص 400. [15] - «المغازي» ج 3، ص 1021 و 1022. وأخرج السيوطيّ ذيل هذا الحديث في «الجامع الصغير» ص 46 و 47 كالآتي: روي البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، عن جابر صحيح، قال: قال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: أُعطيت خمساً لميُعْطَهنَّ أحَدٌ مِنَ الانبياء قبلي: نُصِرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الارض مسجداً وطهور، فأيّما رجل من أُمّتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تُحَلّ لاحدٍ قبلي، وأُعْطِيتُ الشفاعة، وكان النبيّ يبعث إلي قومه خاصّة، وبُعثتُ إلي الناس كافَّةً. ويبدو أنّ هذا الحديث من حيث مفاد متنه أصحّ من الحديث المذكور سلفاً. لانّ الاشياء الخمسة فيه محدّدة ومعلومة. وأحدها: قوله: نصرتُ بالرعب. أي: أنّ أحد أسباب نصري وظفري هو إلقاءالله الرعب والخوف في قلوب أعدائنا. ولم ترد هذه الفقرة في رواية الواقديّ المشار إليها في «المغازي». وأمّا الشفاعة في هذا الحديث فهي الشيء الخامس الوارد في «المغازي»، إذ يقول رسولالله: فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلاّ الله. [16] - قال في «السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 147: ويقال لها: غزوة العَسِيرَة. ويقال لها: الفَاضِحَة، لا نّها أظهرت حال كثير من المنافقين. [17] - الآية 117، من السورة 9: التوبة. [18] - المسوّس هو الذي وقع فيه السوس. والسوس دود يقع في الطعام والصوف. والاءهالة بكسر الهمزة الشحم أو الشحم المقليّ. والسَّخَنَة بفتح السين والنون أي: المتغيّر الفاسد. [19] - «مجمع البيان» ج 3، ص 79؛ وذكره المجلسيّ أيضاً في «بحار الانوار» ج 6، ص 622، طبعة الكمبانيّ، عن تفسير «مجمع البيان»؛ وتفسير «الميزان» ج 9، ص 431 عن «مجمع البيان»؛ و«حبيب السير» ج 1، ص 399. [20] - «المغازي» ج 3، ص 1009؛ و«الكامل في التاريخ» ج 2، ص 279؛ و«سيرة ابن هشام» ج 4، ص 949؛ وكتاب «حياة محمّد» ص 429. [21] - الاءداوة إناء هرميّ الشكل من جلد يحفظ فيه الماء. و الركوة إناء من جلد يشرب فيه الماء. [22] - «المغازي» ج 3، ص 1040 و 1041؛ و«بحار الانوار» ج 6، ص 629 عن «الخرايج والجرايح» للراونديّ. [23] - وقال عمر مثلها لرسول الله أيضاً عندما أشخص أبا هريرة ليبشّر المؤمنين الحقيقيّين بالجنّة. وذكرها العلاّمة الامينيّ في «الغدير» ج 6، ص 175 و 176 عن «سيرة عمر» لابن الجوزيّ، ص 38، و«شرح ابن أبي الحديد» ج 3، ص 108 و 116، و«فتح الباري» ج 1، ص 184، في سياق قضيّة من القضايا فقال: قال رسول الله: ياأباهريرة! اذهب بنعليّ هاتين. فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه فبشّره بالجنّة! (قال أبو هريرة): فخرجت فكان أوّل من لقيت عمر، فقال: ما هذان النعلان؟ قلت: نعلا رسولالله بعثني بهما وقال: مَن لَقِيتَهُ يَشْهَدُ أَنْ لاَإلَهَ إلاَّ اللَهُ مُسْتَيقِنَاً بِهَا قَلْبهُ، بَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ. فضرب عمر في صدري فخررتُ لاءستي، وقال: ارجع إلي رسول الله! فأجهشت بالبكاء راجعاً. فقال رسولالله: ما بالك ؟ قلتُ: لقيتُ عمر فأخبرته بما بعثتني به، فضرب صدري ضربة خررتُ لاءستي، وقال: ارجع إلي رسول الله! فخرج رسول الله فإذا عمر فقال: ما حملك ياعمر علي ما فعلتَ؟ فقال عمر: أَنتَ بَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَة بِكَذَا؟ قال النبيّ: نعم! قال: فَلاَ تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَي أَنَ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيهَا فَيَتْرُكُوا العَمَلَ، خَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. فقال رسول الله: فَخَلِّهِم. [24] - قال في « القاموس المحيط » ج 3، ص 283 و 284، طبعة بيروت: « الفرق بفتح الفاء جمعها أفراق، وهو مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع أو ستّة عشر رطلاً»ـ انتهي. وعبارة ستّة عشر رطلاً هي تعبير آخر لعبارة: ثلاثة آصع، لانّ كلّ صاع أربعة أمداد. وكلّ مُدّ رطل وثلث الرطل، المدّ الواحد = 43 الرطل. فثلاثة آصع وهي اثنا عشر مدّاً تساوي ستّة عشر رطل، 16 = 43 * 12، وفي حسابنا (بالفارسيّة) إذا كان كلّ مدّ 750 غراماً تقريب، فإنّ الثلاثة آصـع التي اجتمعت عند رسـول الله تربو علي تسـعة كيلو غرامـات، ذلك أنّ 9 = 121000 * 750. [25] - «المغازي» ج 3، ص 1036 إلي 1039؛ و«بحار الانوار» ج 6، ص 629 عن «الخرايج والجرايح» للراونديّ. [26] - العجيب هنا أنّ العامّة تري أنّ هذا الحديث وأمثاله من فضائل عمر، وتقول: كان ذا رأي وهيبة وسداد إذ عمل رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم بقوله. وهذا خطأ كبير يتمثّل في أ نّهم لم يفهموا حقيقة معني ومفهوم النبوّة والعصمة. وأ نّهم خالوا مماشاته ومداراته في مثل هذه الاُمور، وخفض جناحه صلّي الله عليه وآله وسلّم، وصبره أمام تعنّتهم وتحكّمهم رغم إصرارهم علي مخالفة رأيه، ممّا يدلّ علي عظمته الروحيّة وأخلاقه الرحبة وحلمه وصفحه وخلقه العظيم الذي أثني عليه الله تعالي إذ قال: وَإِنَّكَ لَعَلَي' خُلُقٍ عَظيِمٍ، خالوا ذلك كلّه دليلاً علي صحّة عمل المنتهكين. وثمّة حديث آخر، كهذا الحديث، رواه محبّالدين الطبريّ في كتاب «الرياض النضرة» في كتاب فضائل عمر، ج 2، ص 83 و 84. قال: روي أبو هريرة فقال: «أتيت النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم فأعطاني نعليه وقال: إذهب بنعليّ هاتين، فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا اله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه فبشّره بالجنّة. (قال أبو هريرة) فكان أوّل من لقيته عمر، فقال: ما هاتان النعلان ياأباهريرة؟ فقلت: هاتان نعلا رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم بعثني بهما (وقال): من لقيته يشهد أن لاإله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه بشّره بالجنّة! فضرب (عمر) بيده بين ثديي فخررتُ (منها) لاءستي فقال لي: ارجع يا أبا هريرة! فرجعت إلي رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم فأجهشت بالبكاء وركبني عمر فإذا هو علي أثري. فقلت (لرسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم) لقيت عمر فأخبرته؛ بالذي بعثني به. فضرب بين صدري ضربة خررت لاءستي وقال: ارجع إلي رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم. (فقال رسول الله صلّيالله عليه وآله وسلّم لعمر): ما حملك يا عمر علي ما فعلت ؟ فقال: يا رسول الله! أبعثت أبا هريرة بنعليك (وقلت له): من لقي يشهد أن لا إله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه بشّرته بالجنّة؟! قال (النبيّ صلّيالله عليه وآله وسلّم): نعم. قال (عمر): لاَ تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلْ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهُمْ مَا يَعْمَلُونَ. فقال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: فخلّهم. وأخرجه أحمد ومسلم. ثمّ قال محبّالدين الطبريّ صاحب الكتاب: تقرير النبيّ عمله دليل علي صحّة رأيه واجتهاده-انتهي. أوّلاً: ينبغي أن نعدّ هذه الرواية علي فرض صحّتها من مثالب عمر. وعدّها العامّة من مناقبه. ثانياً: لا دلالة فيها علي صحّة رأي عمر واجتهاده أبداً. والامر كما ذكرناه. [27] - الآيتان 2 و 3، من السورة 65: الطلاق. [28] - «السيرة الحلبيّة» ج 3، ص 159؛ و«البداية والنهاية» ج 5، ص 9 و 10... قال: لمّا كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعةٌ. فقالوا: يا رسول الله! لو أذنت لنا فننحر نواضحنا فأكلنا وادّهنّا! فقال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: افعلوا. فجاء عمر، فقال: يارسولالله! إن فعلت، قلّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم وادع الله فيها بالبركة لعلّ الله أن يجعل فيها البركة - الحديث. |
|
|