|
|
الدرس السادس والعشرون بعد المائتين إلی الاربعين بعد المائتين:تقدّم الشيعة وتأسيسهم جميع العلوم من عهد الإمام الباقر إلی زمان الإمام العسكريّ عليهما السلام
بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ وصلّي الله علی محمّد وآله الطّاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلی العظيم عظمة الكلمات الآفاقيّة والانفسيّةقال الله الحكيم في كتابه الكريم: وَلَوْ أَ نَّمَّا فِي الاْرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ (بِيَدِ الكُتّاب) وَالْبَحْرُ يَِمُدُّهُ و بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرُ ( تكون حِبراً، ويريد الناس أن يحصوا كلمات الله وموجوداته فإنّهم لا يستطيعون، (لا نّه) مَا نَفِدَتْ كَلِمَـ'تُ اللَهِ إِنَّ اللَهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. [1] قال سماحة أُستاذُنا الاكرم العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير هذه الآية المباركة: والظاهر أنّ المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد. والكلمة هي اللفظ الدالّ علی معني. وقد أُطلق في كلامه تعإلی علی الوجود المفاض بأمره تعإلی. وقد قال: إِنَّما أَمْرُهُ و´إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ و كُنْ فَيَكُونَ.[2] وقد أُطلق علی المسيح عليه السلام الكلمة في قوله: وَكَلِمَتُهُ و´ أَلْقَـ'هَا إلی' مَرْيَمَ. [3] فالمعني: ولو جعل جميع أشجار الارض أقلاماً وأُخذ البحر وأُضيف إلیه سبعة أمثاله، وجُعل المجموع مداداً فكتب كلمات الله ـ بتبديلها ألفاظاً دالّة عليها ـ بتلك الاقلام من ذلك المداد لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات الله، لكونها غير متناهية. [4] ومع أنّ هذه الآية الكريمة الشريفة كانت في مقام عظمة وكثرة الكلمات الآفاقيّة والانفسيّة الإلهيّة المعبَّر عنها بعالم الكون والوجود، بَيدَ أنّ استعمال لفظ القلم للكتابة، والبحر مداداً لإحصاء موجودات العالم الزاخر بالاُبّهة والجلالة، والمليء بعجائب الخلقة وأسرارها اللامتناهية يجعلنا ندرك أهمّيّة القلم والكتابة بوضوح، ونقف علی عظمة وجلال وعمق أئمّة الشيعة والمجتمع الشيعيّ، إذ نهضوا بالامر منذ البداية وقاموا بتدوين السنّة النبويّة عملاً بكلام رسول الله صلّي الله عليه وآله، علی الرغم من الاجواء المشاكسة المناوئة. وكان أئمّة الشيعة روّاد مدرسة العلم والقلم والتدوين. ولم يتحفوا شيعتهم فقط بنور العلم، بل أتحفوا العالم الإسلاميّ كلّه، بل العالم البشريّ بجميع ملله ونحله. وقالوا وكتبوا وبثّوا شعاع العِلم في أقطار العالم عبر المحِبَرة والقلم والكتابة علی صفحات الورق الواسعة، والالواح، وجلود الحيوانات، وجريد النخل (العُسُب)، وعظام الجمال والابقار والاغنام. كلمات قصار للعلماء في عظمة القلم والكتابةويحسن بناـ قبل أن ندخل في الحديث حول تدوين آل محمّد عليهم السّلام وتصنيفهمـ أن نذكر مطالب رائعة أخّاذة للعالم النحرير الشيخ الحسين بن عبدالصمد عزّ الدين الحارثيّ الهمدانيّ العامليّ، الوالد الجليل لشيخنا الاعظم بهاء الدين العامليّ، نقلها في كتابه النفيس في الاخلاق، باب الكتابة. ثمّ ندخل في بحثنا. قال: قال بعض العلماء في مدح الكتب: الكُتُبُ بَسَاتينُ العُقَلإ. أي: أنّ جميع الناس غير العقلإ يظنّون أنّ الرياض والحدائق والبساتين تنحصر بالاراضي المفروشة بالورود والسنابل والرياحين والاُرجوان، في حين يري العقلإ أنّ رياضهم وحدائقهم الحقيقيّة التجوّل بين الكتب وتصفّحها والنظر في مطالبها البديعة المتنوّعة. وقال بعض البلغاء: الكِتَابُ وِعَاءٌ مَلِيٌّ عِلْمًا، وَظَرْفٌ مَلِيٌّ ظَرْفاً. وقال بعض الفصحاء: الكُتُبُ أَصْدافُ الحِكَمِ تَنْشَقُّ عَنْ جَوَاهِرِ الكَلِمِ. وقال بعضهم: الكِتَابُ بُسْتَانُ يُحْمَلُ فِي رُدْنٍ، [5] وَرَوضَةٌ تُقْلَبُ فِي حِجْرِ، يَنْطِقُ عَنِ المَوْتَي، وَيُتَرْجِمُ عَنِ الاَحْيَاءِ. وقال الشاعر: ولي جُلَسَاءٌ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُمْ ألِبَّاءُ مَأمونُونَ غَيْباً وَمَشْهَدا يُفيدُونَني مِنْ عِلْمِهِمْ عِلْمَ مَنْ مَضَي' وَعَقْلاً وَتَأديباً وَرأياً مُسَدَّدا فالحاصل: أنّ المرء يظهر في كتابه مكنون علمه، ويعبِّي فيه موقر رويّته وفهمه. فيتأتّي له فيه كثير ما لم يتأتَ علی لسانه، ولا يتيسّر له أن يعرب عنه ببلاغته وبيانه، لا نّه في الاغلب يكون منفرداً في خلوته، فيكون متفرّغاً لاستعمال بصيرته وفكرته. ولهذا قال بعض الحكماء: كِتَابُ المَرْءِ عُنْوانُ عَقْلِهِ وَلِسَانُ فَضْلِهِ. وقال بعض العلماء: لاَ يَزَالُ المَرْءُ تَحْتَ سِتْرٍ مِنْ عَقْلِهِ أَرْبَابِهَا: الهَديَّةُ، وَالكِتَابُ، وَالرَّسُولُ. وقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: عَقْلُ الكَاتِبِ قَلَمُهُ. وقال مسعدة: الاَقْلاَمُ مَطَايَا الفِطَنِ. وقال بعضهم: عُقُول الرِّجَالِ تَحْتَ أَسِنَّةِ أَقْلاَمِهِمْ. وعلی كلّ حال، فالحظّ من أكبر المهمّات الدينيّة والدنيويّة، وعليه مدار أكثر الاُمور الدنيّة والعليّة. ولهذا كانت الكتّاب سامتة الملك، وعمّار المملكة، وخزنة الاموال. وممّا يدلّ علی شرفه أنّ الله تعإلی أقسم ببعض أدواته وهو القلم، كما أقسم به في قوله تعإلی: ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. [6] وعدّده الله من نعمه في قوله تعإلی: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. [7] فوصف نفسه بأنّه عَلَّمَ بِالقلم، كما وصف نفسه بالكَرَم. وفي « منثور الحِكَم »: الدَّوَاتُ مِنْ أَنْفَعِ الاَدَوَاتِ، وَالحِبْرُ أَجْدَي مِنَ التِّبْرِ. وقال بعض الفضلإ: القَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَحُسْنُ الخَطِّ أَحَدُ الفَصَاحَتَيْنِ. وقال بعض الحكماء: صُورةُ الخَطِّ فِي الاَبْصَارِ سَوَاءٌ، وَفِي البَصَائِرِ بَيَاضٌ. وقال بعضهم: القَلَمُ رُوحُ إلیدِ، وَلِسَانُ الفِكْرِ. وقال أُقليدس: الخَطُّ هَنْدِسَةٌ رُوحَانِيَّةٌ وَإنْ ظَهَرتْ بِآلَةٍ جَسَدَانِيَّةٍ. وقال بعض العلماء: القَلَمُ صَانِعُ الكَلاَمٍ. وقال بعضهم: لَمْ أَرَ بَاكِياً أَحْسَنَ تَبَسُّماً مِنَ القَلَمِ. وقالوا: جَهْلُ الخَطِّ الزَّمَانَةُ الخَفِيَّةُ. وقال ابن مُقْلَةَ: لاَدِيَةَ عِنْدَنَا لِيَدٍ لاَ تَكْتُبُ. وقال ابن البوّاب: إلیدُ الَّتي لاَ تَكْتُبُ رِجْلٌ. وقال جعفر بن يحيي: الخَطُّ سِمْطُ الحِكْمَةِ، بِهِ تُفَصَّلُ شُذُورُهَا، وَيَنْتَظِمُ مَنْثُورُهَا. وقال ابن المُقَفّع: اللِّسَانُ مَقْصُورٌ علی الحَاضِرِ، وَالقَلَمُ علی الشَّاهِدِ وَالغَابِرِ. [8] وقال بعض العلماء: لاَ شَيْءَ أَفْضَلُ مِنَ القَلَمِ، لانَّّ مُدَّةَ عُمْرِ الإنسان لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ فِيهَا بِفِكْرِهِ مَا يُدْرِكُ بِقَلَمِهِ. وعن ابن عبّاس في قوله تعإلی: «أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» [9] يَعْني الخَطَّ. وعن مجاهد في قوله تعإلی: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ». [10] قَالَ: الخَطُّ. وأيضاً: «مَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِي خَيْرًا كَثِيرًا». يَعْنِي الخَطَّ. وقال بعض الحكماء: القَلَمُ وَالسَّيْفُ حَاكِمَانِ فِي جَمِيعِ الاَشْيَاء، وَلَوْ هُمَامَا قَامَتِ الدُّنْيَا. [11] أي: ينبغي إقامة العالم بالقلم والكتابة وبيان العلوم، وأيضاً بالسلطة العادلة الفاضلة. أجل، استبان ممّا ذكرناه أنّ الرسول الاكرم صلّي الله عليه وآله لم يحظر الكتابة، بل كان جادّاً في تدوين السُّنّة، وكان يأمر المؤهَّلين بالكتابة، ويأذن لمن يستأذن فيها. [12] روي الخطيب البغداديّ في كتاب « تقييد العلم » بسنده المتّصل عن فايد غلام عبيدالله بن أبي رافع، عن عبيدالله بن أبي رافع قَالَ: كَانَ ابنُ عَبَّاسٌٍ يَأْتِي أَبَا رَافِعٍ فَيَقُولُ: مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَوْمَ كَذَا؟! مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ يَوْمَ كَذَا؟! وَمَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَلْوَاحٌ يَكْتُبُ فِيهَا. [13] وروي بسنده المتّصل عن أبار: أبي حفص، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عبّاس قال: فَيِّدُوا العِلْمَ! وَتَقْييدُهُ كِتابُهُ. [14] وروي بسنده المتّصل الآخر عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس قال: خَيْرُ مَا قُيِّدَ بِهِ العِلْمُ الكِتَابُ. [15] كلام أبي سعيد في رواية الحديثوروي بسنده الآخر عن أبي المتوكّل قال: سألتُ أبا سعيد الخُدريّ عن التشهّد، فقال: التَّحِيَّاتُ، الصَّلَوَاتُ، الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَهِ وَ بَرَكَاتُهُ. السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَ علی عِبَادِ اللَهِ الصَّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ، وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ. قال أبو سعيد: وَ كُنَّا لاَ نَكْتُبُ إلاَّ القُرْآنَ وَالتَّشَهُّدَ. [16] نلحظ هنا أنّ أبا سعيد يقول: وكان دأبنا أَلاّ نكتب إلاّ القرآن والتشهّد، من جانب الآخر نجد في حديث يلي الحديث المتقدّم أنّ الخطيب يقول بعد روايته إيّاه عن أبي سعيد: وأبو سعيد هو الذي رُوي عنه أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله قال: لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي سِوَي القُرْآنِ، وَ مَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ! ونلحظ هنا من جهة أُخري أ نّه يخبر أ نّهم كانوا يكتبون التشهّد أيضاً مع القرآن. وهذا دليل علی أنّ المراد من النهي عن كتابة غير القرآن هو ما بيّناه سلفاً. أي: شيء يكون نظيراً للقرآن، فيُعرض الناس عن القرآن ويهتمّون به. بَيدَ أنّ أبا سعيد لمّا رأي نفسه آمناً من هذا الخطر، وشعر بالحاجة الماسّة إلی كتابة العلم، لم يَرَ في نفسه كراهة في كتابة العلم كما أنّ الصحابة لميكرهوا كتابة التشهّد. ولا يُلحظ بين التشهّد وغير التشهّد فرق عن كافّة العلوم في أ نّها جمعياً ليست قرآناً. والعلوم التي دوّنها الصحابة في كتبهم وأمروا بكتابتها كانت علی سبيل الاحتياط، كما أنّ كراهتهم الكتابة كانت كذلك. والله أعلم. الصحابة يكتبون جميع ما يسمعونه من النبيّ صلّي الله عليه وآلهوروي الخطيب أيضاً بسنده عن هُبَيرة بن عبدالرحمن، عن أبيه، أو عن رجل آخر أ نّه قال: كُنَّا إذَا أتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَ كَثُرْنَا عَلَيْهِ، أَخْرَجَ إلینَا مَجَالَّ[17] مِنْ كُتُبٍ، فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبٌ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَ قَرَأنَاهَا عَلَيْهِ. [18] وبعد أن ذكر الخطيب حديثين آخرين بهذا المضمون، أورد حديثاً آخر عن هُبيرة بن عبدالرحمن، عن أنس بن مالك: إنَّهُ كَانَ إذَا حَدَّثَ فَكَثُرَ النَّاسُ عَلَيْهِ لِلْحَدِيثِ، جَاءَ بِصِكَاكٍ [19] فَألْقَاهَا إلیهِمْ فَقَالَ: هَذِهِ أَحَادِيثُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَ كَتَبْتُهَا وَ عَرَضْتُهَا علی رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. [20] وروي أيضاً بسند آخر عن عبدالله بن المثنّي قال: حدّثني عمّاي النضر وموسي ابنا أنس عن أبيهما أنس: إنَّهُ أَمَرَهُمَا بِكِتَابَةِ الحَدِيثِ وَالآثَارِ عَنْ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَ تَعَلُّمِهَا. وَ قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا لاَ نَعُدُّ عِلْمَ مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِلْمَهُ عِلْماً. [21] ثمّ نقل الخطيب سبعة أحاديث أُخري عن أنس، وحديثاً عن أبي أُمامة الباهليّ. وبعد ذلك ذكر حديثاً يدلّ علی أنّ الصحابة كان دأبهم في زمن النبيّ صلّي الله عليه وآله أن يكتبوا جميع ما سمعوه من نبيّهم. فقد روي بسنده عن عبدالله بن عمرو أ نّه قال: أتيتُ النبيّ صلّي الله عليه وآله مع قومٍ أنا أصغرهم، فسمعته يقول: مَن كَذَبَ عَلَيَّ. قال إسحاق ] راوي الحديث [ وحسبتُه قال: مُتَعَمِّداً، فَلْيَتَبِّوأ مَقْعَدَهُ. فأقبلتُ علی صاحبي فقلتُ: كَيْفَ تَجْتَرونَ علی الحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَ قَدْ سَمِعْتُمْ مَا قَالَ؟! قَالُوا: يَا ابْنَ أُخْتِنَا! إنَّا لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئاً إلاَّ وَ هُوَ عِنْدَنَا فِي كِتَابٍ. [22] وذكر الخطيب هذا المضمون بسند آخر أيضاً، وفيه: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبِّوأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. [23] وبعد أن يُثبت الخطيب أنّ الكتابة كانت متداولة عند بعض الصحابة والتابعين، وهو لم يسمع كلامهم في منع الاُمّة منها، وفتح فصلاً في رواية التابعين وكتابتهم تحت عنوان « الرواية عن الطبقات الاُخري من التابعين في ذلك ». روي فيه بسنده عن أبي المليح، عن أيّوب أ نّه قال: يَعِيبُونَ عَلَيْنَا الكِتَابَ ثُمَّ تَلاَ: عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَـ'بٍ» [24] وروي بسنده أيضاً عن بَقِيَّة أ نّه كان يقول: ربّما سمع مِنّي أرطاة الحديث، ونحن نمشي في السوق، فيقول: أَمْلِهِ عَلَيَّ! فأقول: فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ؟ فيقول: أَوَ فِي غَيْرِ اللَهِ نَحْنُ؟! [25] وروي بسنده عن مَعْمَر قال: حدّثتُ يحيي بن أبي كثير بأحاديث فقال لي: اكتب لي حديث كذا وكذا! فقلتُ: إنَّا نَكْرَهُ أَنْ نَكْتُبَ العِلْمَ يَا أَبَا نَصْرٍ! فقال: اكْتُبْ لِي، فَإن لَمْ تَكُنْ كَتَبْتَ، فَقزدْ ضَيَّعْتَ؛ أَوْ قَالَ: عَجَزْتَ. [26] وجملة القول: استبان ممّا ذكرناه مفصّلاً في الجزء الرابع عشر من هذا الكتاب، وأعقبناه بشرح في الجزء الخامس عشر منه أنّ التدوين كان شائعاً غير محظور في عصر النبيّ صلّي الله عليه وآله. وبعده كان الخلاف فيه شديداً بين عمر وبعض الصحابة من جهة، وبين أميرالمؤمنين علیبن أبي طالب عليه السلام وبعض الصحابة الآخرين من جهة أُخري. فكان عمر يقول: إذا دُوِّنت السنّة فإنّ الناس يُقبلون عليها وينشغلون بقراءتها فيُهْجَر كتاب الله، أو تشتبه السنّة بالقرآن في التدوين ويحدث خلط بينهما. وكان أميرالمؤمنين عليه السلام يقول: لا خطر في ذلك أبداً. فتدوين السنّة منفصل عن تدوين القرآن. ولابدّ أن تُدَوَّن السنّة، وإلاّ يبقي القرآن بلا ترجمان وبلا بيان وتفسير. لهذا كان عليه السلام دائم الاشتغال في التدوين، وكان يأمر به مؤكِّداً. خلاف العامّة في صيغة التشهّدوقد قالوا، وكتبوا، ونشروا فلم يحدث خطر قطّ، وظلّت السنّة حيّةً صريحةً عند أتباعه وموإلیه. أمّا عند الطرف المخالف، حيث تُركت السُّنّة بلاتدوين، فإنّ الفقر العلميّ قد عمّ الارجاء. وبعد موت الصحابة ومجيء التابعين لم يكن هناك من ينقل السنّة للاُمّة، اللهمّ إلاّ محفوظات كان التابعون قد أخذوها من الصحابة، ومُنيت بضروب من الخطأ والخلط والنسيان بسبب طول المدّة. يضاف إلیه أ نّهم لمّا أجازوا النقل بالمعني في الاحاديث، ولم يكن هناك تدوين، فإنّهم نقلوا الموضوع الواحد بألفاظ متفاوتة، حتّي أنّ العامّة رووا التشهّد بتسعة ألفاظ، [27] واختلفوا في صلاة الميِّت ولم يعلموا كم تكبيرة واجبة فيها، [28] مع أ نّهم كانوا ملازمين للنبيّ صلّي الله وآله ويأتموّن به في الصفّ الاوّل. أو أ نّهم كانوا يصلّون نبيّهم علی موتي المسلمين مراراً. ولكن لمّا لم يكن هناك باعث علی الحفظ أو التدوين، أو أنّ الصَّفْقَ في الاَسْوَاقِ قد شغلهم، لذا لم يبق عندهم مجال لتنظيم شؤونهم العباديّة والدينيّة وضبطها وتثبيتها. أجل، لقد سلك العامّة وأهل السنّة مسلكهم، وقصّروا، بل تقاعسوا وتكاسلوا في أمر التدوين حتّي رأوا أنّ السيفَ قد سبق العَذَل، وأنّ سنّة رسول الله صلّي الله عليه وآله التي خالوا أ نّهم أُولو الامر عليها قد اندثرت. لهذا أُجبروا وفقاً لضرورة التأريخ علی اتّباع الشيعة في تدوين السنّة والتصنيف فيها. وقد تأخّر هذا الموضوع، كما رأينا أ نّهم قد اشتغلوا فيه إبّان منتصف القرن الثاني الهجريّ. أي: تأخّروا عن تدوين الكتب الاولي للسنة قرناً ونصف، لذلك تخلّف العامّة عن الخاصّة قرناً ونصف في تدوين السُّنّة والعلوم النبويّة. وقد أدّي هذا التخلّف والتأخير في التدوين وما نتج عنه من آثار سيّئة ذميمة إلی اختلاف مذاهب العامّة حتّي اضطرّوا إلی حصرها وتصفيدها في أربعة مذاهب. تدوين الشيعة الحديث اقتداءً بأئمّتهمقال العالم الخبير والباحث الجليل القدير آية الله السيّد عبدالحسين شرف الدين العامليّ: 1 ـ إنّ أُولي الالباب ليعلمون بالضرورة انقطاع الشيعة الإماميّة خلفاً عن سلف في أُصول الدين وفروعه إلی العترة الطاهرة. فرأيهم تَبَع لرأي الائمّة من العترة في الفروع والاُصول وسائر ما يؤخذ من الكتاب والسُّنّة أو يتعلّق بهما من جميع العلوم لا يعوّلون في شيء من ذلك إلاّ عليهم، ولايرجعون فيه إلاّ إلیهم، فهم يدنيون الله تعإلی، ويتقرّبون إلیه سبحانه بمذهب أئمّة أهل البيت، لا يجدون عنه حِوَلاً ولا يرتضون بدلاً. علی ذلك مضي سلفهم الصالح من عهد أميرالمؤمنين والحسن والحسين والائمّة التسعة من ذرّية الحسين عليه السلام إلی زماننا هذا. وقد أخذ الفروع والاُصول عن كلّ واحد منهم جمّ من ثقات الشيعة وحفّاظهم وافر، وعدد من أهل الورع والضبط والإتقان يربو علی التواتر. فرووا ذلك لمن بعدهم علی سبيل التواتر القطعيّ، ومن بعدهم رواه لمن بعده علی هذا السبيل. وهكذا كان الامر في كلّ خلف وجيل، إلی أن انتهي إلینا كالشمس الضاحية ليس دونها حجاب. فنحن الآن في الفروع والاُصول علی ما كان عليه الائمّة من آل الرسول، روينا بقضّنا وقضيضنا مذهبهم عن جميع آبائنا. وروي جميع آبائنا ذلك عن جميع آبائهم. وهكذا كانت الحال في جميع الاجيال إلی زمن النَّقِيَّينِ العَسْكَريَّينِ، وَالرِّضَائَيْنِ الجَوَادَيْنِ، وَالكَاظِمَيْنِ الصَّادِقِينِ، وَالعَابِدِينِ البَاقِرِينِ، وَالسِّبْطِينِ الشَّهِيدَيْنِ، وَ أَميرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ. أئمّة العامّة الاربعة من الناس العاديّين في أعصارهمفلا نحيط الآن بمن صحب أئمّة أهل البيت من سلف الشيعة، فسمع أحكام الدين منهم، وحمل علوم الإسلام عنهم. وإنّ الوسع ليضيق عن استقصائهم وعددهم. وحسبك ما خرج من أقلام أعلامهم من المؤلَّفات الممتعة التي لا يمكن استيفاء عدّها في هذا الإملاء! وقد اقتبسوها من نور أئمّة الهدي من آل محمّد صلّي الله عليه وآله وسلّم واغترفوها من بحورهم، سمعوها من أفواههم، وأخذوها من شفاههم. فهي ديوان علمهم، وعنوان حكمهم، أُلِّفت علی عهدهم فكانت مرجع الشيعة من بعدهم. وبها ظهر امتياز مذهب أهل البيت علی غيره من مذاهب المسلمين. فإنّا لا نعرف أنّ أحداً من مقلّدي الائمّة الاربعة مثلاً أَ لَّف علی عهدهم كتاباً في أحد مذاهبهم. وإنّما أ لّف الناس علی مذاهبهم فأكثروا بعد انقضاء زمنهم وذلك حيث تقرّر حصر التقليد فيهم، وقصر الإمامة في الفروع عليهم، وكانوا أيّام حياتهم كسائر مَن عاصرهم من الفقهاء والمحدّثين، لم يكن لهم امتياز علی من كان في طبقتهم. ولذلك لميكن علی عهدهم من يهتمّ بتدوين أقوالهم، اهتمام الشيعة بتدوين أقوال أئمّتها المعصومين ـ علی رأيها ـ فإنّ الشيعة من أوّل نشأتها لا تبيح الرجوع في الدين إلی غير أئمّتها، ولذلك عكفت هذا العكوف عليهم، وانقطعت في أخذ أخذ معالم الدين إلیهم. وقد بذلت الوسع والطاقة في تدوين كلّ ما شافهوها به، واستفرغت الهمم والعزائم في ذلك بما لا مزيد عليه، حفظاً للعلم الذي لا يصحّ ـ علی رأيها ـ عند الله سواه. وحسبك ممّا كتبوه أيّام الصادق عليه السلام تلك الاُصول الاربعمائة، وهي أربعمائه مصنَّف لاربعمائة مصنِّف، كتبت من فتاوي الصادق علی عهده. ولاصحاب الصادق غيرها هو أضعافها، كما ستستمع تفصيله قريباً إنشاءالله تعإلی. أمّا الائمّة الاربعة فليس لهم عند أحدٍ من الناس منزلة أئمّة أهل البيت عند شيعتهم، بل لم يكونوا أيّام حياتهم بالمنزلة التي تبوأوها بعد وفاتهم، كما صرّح به ابن خلدون المغربيّ في الفصل الذي عقده لعلم الفقه من مقدّمته الشهيرة. واعترف به غير واحد من أعلامهم. ونحن مع ذلك لا نرتاب في أنّ مذاهبهم إنّما هي مذاهب أتباعهم التي عليها مدار عملهم في كلّ جيل. وقد دوّنوها في كتبهم، لانّ أتباعهم أعرف بمذاهبهم، كما أنّ الشيعة أعرف بمذهب أئمّتهم الذي يدينون الله بالعمل علی مقتضاه، ولا تتحقّق منهم نيّة القربة إلی الله بسواهُ. 2 ـ وإنّ الباحثين ليعلمون بالبداهة تقدّم الشيعة في تدوين العلوم علی من سواهم، إذ لم يتصدّ لذلك في العصر الاوّل غير عليٍّ وأُولي العلم من شيعته. ولعلّ السرّ في ذلك اختلاف الصحابة في إباحة كتابة العلم وعدمها. فكرهها ـ كما عن العسقلانيّ في مقدّمة « فتح الباري » وغيره ـ عمربن الخطّاب وجماعة آخرون، خشية أن يختلط الحديث في الكتاب. وأباحه عليّ وخلفه الحسن السبط المجتبي وجماعة من الصحابة. وبقي الامر علی هذه الحال حتّي أجمع أهل القرن الثاني في آخر عصر التابعين علی إباحته. وحينئذٍ أ لّف ابن جريح كتابه في الآثار عن مجاهد وعطاء بمكّة. وعن الغزّإلی أ نّه أوّل كتاب صُنّف في الإسلام. والصواب أ نّه أوّل كتاب صنّفه غير الشيعة من المسلمين. وبعده كتاب معتمر بن راشد الصنعانيّ بإلیمن. ثمّ « موطّأ مالك ». وعن مقدّمة « فتح الباري » أنّ الربيع بن صبيح أوّل من جمع. وكان في آخر عصر التّابعين. وعلی كُلٍّ، فالإجماع منعقد علی أ نّه ليس لهم في العصر الاوّل تإلیف. أمّا عليّ وشيعته، فقد تصدّوا لذلك في العصر الاوّل. وأوّل شيءٍ دوّنه أميرالمؤمنين كتاب الله عزّ وجلّ. وأسهب السيّد شرف الدين هنا في الحديث عن قرآن أميرالمؤمنين، ومصحف فاطمة، [29] وصحيفة الديات التي دُوّنت بيده المباركة. وبعد ذلك ذكر مؤلّفي الشيعة في عصره كسلمان، وأبي ذرّ الغفاريّ علی ما نقل ابن شهرآشوب. كما ذكر أبا رافع، وعليّ بن أبي رافع، وعبيد الله بن أبي رافع، وربيعة بن سميع، وعبدالله بن الحرّ الفارسيّ، والاصبغ بن نباتة، وسُلَيم بن قيس الهلإلی. [30] تدوين الشيعة التابعين للحديثثمّ دخل في الحديث عن المؤلّفين من الطبقة الثانية، فقال: 3 ـ وأمّا مؤلِّفوا سلفنا من أهل الطبقة الثانية ـ طبقة التابعين ـ فإنّ مراجعتنا هذه لتضيق عن بيانهم. والمرجع في معرفتهم ومعرفة مصنّفاتهم وأسانيدها إلیهم علی التفصيل إنّما هو فهارس علمائنا ومؤلّفاتهم في تراجم الرجال. سطع ـ أيّام تلك الطبقة ـ نور أهل البيت، وكان قبلها محجوباً بسحائب ظلم الظالمين، لانّ فاجعة الطفّ فضحت أعداء آل محمّد صلّي الله عليه وآله وسلّم، وأسقطتهم من أنظار أُولي الالباب، ولفتت وجوه الباحثين إلی مصائب أهل البيت منذ فقدوا رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، واضطرّت الناس بقوارعها الفادحة إلی البحث عن أساسها، وحملتهم علی التنقيب عن أسبابها، فعرفوا جذرتها وبذرتها. وبذلك نهض أُول الحميّة من المسلمين إلی حفظ مقام أهل البيت والانتصار لهم، لانّ الطبيعة لبشريّة تنتصر بجبلّتها للمظلوم، وتنفر من الظالم. وكأنّ المسلمين بعد تلك الفاجعة ذخلوا في دور جديد، فاندفعوا إلی موالاة الإمام علیبن الحسين زين العابدين، وانقطعوا إلیه في فروع الدين وأُصوله، وفي كلّ ما يؤخذ من الكتاب والسنّة من سائر الفنون الإسلاميّة، وفزعوا من بعده إلی ابنه الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام. وكان أصحاب هذين الإمامين « العابِدَيْنِ الباقِرَين » من سلف الإماميّة أُلوفاً مؤلَّفة لا يمكن إحصاؤهم، لكن الذين دوّنت أسماؤهم وأحوالهم في كتب التراجم من حملة العلم عنهما يقاربون أربعة آلاف بطل، ومصنّفاتهم تقارب عشرة آلاف كتاب أو تزيد، رواها أصحابنا في كلّ خَلَفٍ عنهم بالاسانيد الصحيحة. وفاز جماعة من أعلام أُولئك الابطال بخدمتهما وخدمة بقيّتهما الإمام الصادق عليه السلام. وكان الحظّ الاوفر لجماعة منهم فازوا بالقِدح المعلی علماً وعملاً. فمنهم: أبو سعيد أبان بن تَغْلِب بن رِباح الجريريّ القاري الفقيه المحدِّث المفسِّر الاُصوليّ اللغويّ المشهور. كان من أوثق الناس. لقي الائمّة الثلاثة ( السجّاد، والباقر، والصادق عليهم السلام ) فروي عنهم علوماً جمّة، وأحاديث كثيرة. وحسبك أ نّه روي عن الصادق خاصّة ثلاثين ألف حديث، [31] كما أخرجه الميرزا محمّد في ترجمة أبان من كتاب « منتهي المقال » بالإسناد إلی أبان بن عثمان عن الصادق عليه السلام. وكان له عندهم حظوة وقدم. قال له الباقر عليه السلام، وهما في المدينة الطيّبة: اجْلِسْ في المَسْجِدِ وَأَفْتِ النَّاسَ! فَإنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَي فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ! وقال له الصادق عليه السلام: نَاظِرْ أَهْلَ المدينَةِ! فَإنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلُكَ مِنْ رُوَاتِي وَرِجَإلی! وكان إذا قدم المدينة تقوّضت إلیه الخلق، وأُخليت له سارية النبيّ صلّيالله عليه وآله. وقال الصادق عليه السلام لسليم بن أبي حبّة: إئْتِ أَبَانَ بْنَ تَغْلِبَ فَإنَّهُ سَمِعَ مِنِّي حَدِيثاً كَثِيراً! فَمَا رَوَي لَكَ فَارْوِهِ عَنِّي! وقال عليه السلام لابان بن عثمان: إنَّ أَبَانَ بْنَ تَغْلِبَ رَوَي عَنِّي ثَلاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ فَازوِهَا عَنْهُ. وكان إذا دخل أبان علی الصادق يعانقه ويصافحه، ويأمر بوسادة تثني له، ويُقبل عليه بكلّه. ولمّا نُعي إلیه قال عليه السلام: أَمَا وَاللَهِ لَقَدْ أَوْجَعَ قَلْبِي مَوْتُ أَبَانٍ. وكانت وفاته سنة إحدي وأربعين ومائة. ولابان روايات عن أنس بن مالك، والاعمش، ومحمّد بن المنكدر، وسَمّاك بن حرب، وإبراهيم النخعيّ، وفضيل بن عمرو، والحكم. وقد احتجّ به مسلم وأصحاب السنن الاربعة كما بيّناه، إذ أوردناه في المراجعة 16. ولا يضرّه عدم احتجاج البخاريّ به، فإنّ له أُسوةً بأئمّة أهل البيت، الصادق، والكاظم، والرضا، والجواد التقيّ، والهادي النقيّ، والحسن العسكريّ الزكيّ، إذ لم يحتجّ بهم، بل لم يحتجّ بالسبط الاكبر سيّد شباب أهل الجنّة. نعم، احتجّ بمروان بن الحكم، وعمران بن حطّان، وعكرمة البربريّ، وغيرهم من أمثالهم فَإنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلیهِ رَاجِعُونَ. ولابان مصنّفات ممتعة، منها كتاب تفسير « غريب القرآن الكريم » أكثر فيه من شعر العرب شواهد علی ما جاء في الكتاب الحكيم. وقد جاء فيما بعد عبدالرحمن بن محمّد الازديّ الكوفيّ، فجمع من كتاب أبان، ومحمّد بن السائب الكلبيّ، وابن روق عطيّة بن الحارث، فجعله كتاباً واحداً بيّن ما اختلفوا فيه، وما اتّفقوا عليه. فتارة يجيء كتاب أبان مفرداً، وتارةً يجيء مشتركاً علی ما عمله عبدالرحمن. وقد روي أصحابنا كلاّ من الكتابين بالاسانيد المعتبرة، والطرق المختلفة. ولابان كتاب « الفضائل »، وكتاب « صفّين ». وله أصل من الاُصول التي تعتمد عليها الإماميّة في أحكامها الشرعيّة، وقد روت جميع كتبه بالإسناد إلیه والتفصيل في كتب الرجال. منزلة أبي حمزة الثمالیّومنهم: أبو حمزة الثمإلی ثابت بن دينار. كان من ثقات سلفنا الصالح وأعلامهم، أخذ العلم عن الائمّة الثلاثة: الصادق، والباقر، وزين العابدين عليهم السلام. وكان منقطعاً إلیهم، مقرّباً عندهم. أثني عليه الصادق، فقال عليه السلام: أَبُو حَمْزَةَ فِي زَمَانِهِ مِثْلُ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ فِي زَمَانِهِ. وعن الرضا عليه السلام: أَبُو حَمْزَةَ فِي زَمَانِهِ كَلُقْمَانَ فِي زَمَانِهِ. له كتاب تفسير القرآن. رأيتُ الإمام الطبرسيّ ينقل عنه في تفسيره « مجمع البيان ».[32] وله كتاب « النوادر »، وكتاب « الزهد »، ورسالة الحقوق.[33] رواها عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام. وروي عنه دعاءه في السحر، وهو أسني من الشمس والقمر. وله رواية عن أنس، والشعبيّ. وروي عنه وكيع، وأبو نعيم، وجماعة من أهل تلك الطبقة من أصحابنا وغيرهم، كما بيّناه في أحواله في المراجعة 16. وهناك أبطال لم يدركوا الإمام زين العابدين، وإنّما فازوا بخدمة الباقرين الصادَقين عليهما السلام. ارجاعات [1] ـ الآية 27، من السورة 31: لقمان. [2] ـ الآية 82، من السورة 36: يس. [3] ـ الآية 171، من السورة 4: النساء. [4] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 16، ص 245. [5] ـ الرُّدْن في «أقرب الموارِد» بضمّ الراء أصل الكُمّ، وكانت العرب تضع فيه الدراهم والدنانير قال الحريريّ: إذا ثقل رُدني خفّ علی أن أكفُل ابني. [6] ـ الآية 1، من السورة 68: القلم. [7] ـ الآية 4، من السورة 96: العلق. [8] ـ في منتخبات «البيان والتبيين» للجاحظ، ص 179: علی القريب الحاضر، والقلم مطلق في الشاهِدِ والغائب. [9] ـ الآية 4، من السورة 46: الاحقاف. [10] ـ الآية 269، من السورة 2: البقرة. [11] ـ «نُور الحقيقة ونَور الحديقة» تإلیف الحسين بن عبدالصمد الهَمْدانيّ، من أحفاد الحارث الاعور الهَمْدانيّ، ولد سنة 915، وتوفّي سنة 985 ه. ص 107 إلی 110، الطبعة الاُولي، مطبعة سيّد الشهداء علیه السلام. إيران، قم. [12] ـ قال آية الله الخواجة نصير الدين الطوسيّ في كتاب «آداب المتعلّمين» من كتاب «جامع المقدّمات» ص 198، طبعة عبدالرحيم: وينبغي أن يستصحب (طالب العلم) دفتراً علی كلّ حال يطالعه، وقيل: من لم يكن الدفتر في كُمِّهِ لم يثبت الحكمة في قلبه. وينبغي أن يكون في الدفتر بياض ويستصحب المحبرة ليكتب ما يسمعه كما قال النبيّ صلّي الله علیه وآله لهلال بن يسار حين قرّر له العلم والحكمة: هَلْ مَعَكَ مِحبَرَةٌ؟! [13] ـ «تقييد العلم» للحافظ أبو بكر أحمد بن علی بن ثابت، الخطيب البغداديّ، صاحب «تاريخ بغداد» ص 91، الطبعة الثانية، نشر دار إحياء السنّة النبويّة. [14] ـ «تقييد العلم» ص 92. [15] ـ «تقييد العلم»، ص 92. [16] ـ «تقييد العلم» ص 93. من الجدير ذكره أن لا تفاوت بين العامّة والخاصّة في كيفيّة التشهّد، إلاّ أنّ الخاصّة يبدأون بالشهادتَين، ثمّ يِعقبونهما بالتحيّات والسلام. أمّا العهامّة فيفعلون بالعكس. [17] ـ مجالّ: بتشديد اللام، جمع مجلّة. والمجلّة (بالفتح»: الصحيفة فيها الحكمة، وكلّ كتاب. («القاموس» للفيروزآباديّ، ج 3، ص 361 ). [18] ـ «تقييد العلم» ص 93 إلی 95. [19] ـ الصكّ (بتشديد الكاف): الكتاب. وفي «النهاية» لابن الاثير ج 3، ص 43: وفي حديث أبي هريرة قال لمروان: أَحْلَلْتَ بَيْعَ الصِّكَاكِ. هي جمع صكّ وهو الكتاب. وذلك أنّ الاُمراء كانوا يكتبون للناس بأرزاقهم وأُعطياتهم كتباً فيبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها تعجّلاً ويعطون المشتري الصكّ ليمضي ويقبضه، فنهوا عن ذلك، لا نّه بيع ما لم يقبض. [20] ـ «تقييد العلم» ص 95. [21] ـ «تقييد العلم» ص 96. [22] ـ «تقييد العلم» ص 98. [23] ـ «تقييد العلم» ص 98. وللعالم المصريّ الواعي الشيخ محمود أبو ريّة كلام مفصّل حول هذا الموضوع في كتاب «أضواء علی السنّة المحمّديّة» ص 60، الطبعة الثانية. وفيه أنّ أحاديث الطائفة الاُولي المنقولة عن كبار الصحابة تخلو من كلمة متعمّداً. وقد أُدخلت تدريجا للحؤول دون افتراءاتهم علی النبيّ صلّي الله علیه وآله. [24] ـ «تقييد العلم» ص 11، وفي الهامش: مثله باللفظ من حمّاد بن زيد في «سنن الدارميّ» ج 1، ص 126؛ و«جامع بيان العلم» ج 1، ص 73. وفيهما: أيّوب عن أبي المليح: وكان أيّوب يكتب. انظر: «تاريخ دمشق» ج 3، ص 212. والآية هي: الآية 52، من السورة 20: طه. [25] ـ «تقييد العلم»، ص 110. [26] ـ «تقييد العلم»، ص 110. [27] ـ تحدّث الفقيه المصريّ المتنوّر الشيخ محمود أبو ريّة في كتابه المفيد «أضواء علی السنّة المحمّديّة» ص 82 إلی 86، الطبعة الثالثة، دار المعارف بمصر، عن اختلاف العلماء في جواز رواية الحديث بالمعني، لا باللفظ. وذكر صيغ التشهّدات في الصلاة وكانت من أهمّ الاُمور، وكان المسلمون يسمعونها كلّ يوم بلفظ رسول الله صلّي الله علیه وآله عدّة مرّات، ويحفظونها في أذهانهم. مضافاً إلی أنّ أحاديث عديدة قد وردت وفيها: أ نّنا ما كنّا نكتب حديثاً، بل كنّا نكتب قرآناً وتشهّداً. ومع ذلك فقد وردت كيفيّة التشهّد عند السنّة بتسعة طرق، وكلّهم ذكروا أنّ رسول الله صلّي الله علیه وآله كان يقرأه بصيغة واحدة فحسب، ويعلّمه الصحابة. وننقل فيما يأتي كلامه نصّاً لمزيد الاءطّلاع: صيغ التشهّدات تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُود: في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: علّمني رسول الله التشّهد وكفّي بكفّة كما يعلّمني السورة من القرآن: التَّحيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَواتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ علیكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَ رَحْمَةُ اللَهِ وَ بَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ علینَا وَ علی عِبَادِاللَهِ الصَّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ، وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ. وكذلك رواه أصحاب السنن. وفي رواية: ولقّنيه كلمة كلمة. وفي رواية: إذا قلت هذا، أو قضيت هذا فقد قضيتَ صلاتك! وقد اختاره أبو حنيفة وأحمد وأصحاب الحديث وأكثر العلماء. تشهّد ابن عبّاس: روي مسلم وأصحاب السنن عن ابن عبّاس، وكذلك روي الشافعيّ في «الاُمّ» قال: كان رسول الله يعلّمنا كما يعلّمنا السورة من القرآن فيقول: قولوا: التَّحيِّات المُبَارَكَاتُ الصَّلَواتُ الطَّيِّبَات لِلَّهِ. السَّلاَمُ علیكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَ رَحْمَةُ اللَهِ وَ بَرَكَاتُهُ. السَّلاَمُ علینَا وَ علی عِبَادِ اللَهِ الصَّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَهِ. تشهّد عمر بن الخطَّابِ: روي مالك في «الموّطأ» عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبدالرحمن بن عبدالقاري أ نّه سمع عمر بن الخطّاب وهو علی المنبر يقول: قولوا: التَّحِيِّاتُ الزَّاكِيَّاتُ لِلَّهِ. الطَّيِّباتُ الصَّلَواتُ لِلَّهِ. ورواية السرخيّ في «المبسوط»: التَّحِيِّياتُ النَّامِيَاتُ الزَّاكِيَاتُ المُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ. قال مالك: أفضل التشهّد تشهّد عمر بن الخطّاب، لانّ عمر قاله علی المنبر بمحضر من الصحابة فلم ينكروه علیه إجماعاً. ورواه أبو داود وابن مردويه مرفوعاً. تشهّد أبي سعيد الخُدْرِيّ: التَّحِيَّاتُ الصَّلَواتُ الطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ علیكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَ رَحْمَةُ اللَهِ وَ بَرَكَاتُهُ. السَّلاَمُ علینَا وَ علی عِبَادِاللَهِ الصَّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ، وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَهِ. قال أبو سعيد: وكنّا لا نكتب إلاّ القرآن والتشهّد!* تشهّد جابر: وفي حديث جابر المرفوع عند النسائيّ وابن ماجة والترمذيّ في «العلل» بلفظ: كَانَ رَسُولُ اللَهِ يُعَلِّمنا التَّشَهُّدَ كَما يُعَلِّمُنَا السَّورَةَ مِنَ القُرآنِ: بِاسْمِ اللَهِ، وَ بِاللَهِ التَّحِيَّاتُ... إلی آخره. وصحّه الحاكم. تشهّد عائشة: روي مالك في «الموّطأ» عن عائشة زوج النبيّ أ نّها كانت تقول إذا تشهّدت: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ. فتُسقط لِلَّهِ عقيب التَّحِيَّاتُ وَالصَّلَواتُ بخلاف ما في حديث عمرو ابن مسعود من إثباتهما، وهي مرفوعة. وزادت علی حديث عمر وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ. وكذلك تثبت هذه الزيادة في حديث أبي موسي مرفوعاً عند مسلم. تشهّد أبي موسي الاشعريّ: روي مسلم وأبو داود أنّ التشهّد عند أبي موسي: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَواتُ لِلَّهِ. وفيه: وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ.** تشهّد سَمُرَة بن جندب: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ وَالصَّلَواتُ وَالمُلْكُ لِلَّهِ... إلی آخره. تشهّد ابنِْ عُمَر: روي مالك في «الموّطأ» عن نافع، عن ابن عمر أ نّه كان يتشهّد فيقول: بِاسْمِ اللَهِ (في أوّله) التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الصَّلَواتُ لِلَّهِ السَّلاَمُ علی النَّبِيِّ بإسقاط (كاف الخطاب ولفظ أيّها)... إلی آخره. وقال فيه: فإذا قضي تشهّده وأراد أن يسلّم قال: السَّلاَمُ علی النَّبِيِّ وَ رَحْمَةُ اللَهِ وَ بَرَكَاتُهُ. السَّلاَمُ علینَا وَ علی عِبادِاللَهِ الصَّالِحِينَ. وهذه زيادة تكرير في التشهّد. ورواية السَّلاَمُ علی النَّبِيِّ التي جاءت في هذا التشهّد قد وردت في رواية البخاريّ عن ابن مسعود في باب الاستئذان فقد قال في آخره: وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وهو بين ظهرانينا. فلمّا قضي قلنا: السَّلاَمُ يعني علی النبيّ. وقال السُّبكيّ في «شرح المنهاج»: إن صحّ هذا عن الصحابة دلّ علی أنّ الخطاب في السلام بعد النبيّ غير واجب فيقال: السَّلاَمُ علی النَّبِيِّ. قال الحافظ: قد صحّ بلا ريب. قال عبدالرزّاق: أخبرنا ابن جريح، أخبرنا عطاء أنّ الصحابة كانوا يقرأون والنبيّ حيّ: السَّلاَمُ علیكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ. فلمّا مات قالوا: السَّلاَمُ علی النَّبِيِّ. وهذا إسناد صحيح. ولهذا الاختلاف*** قال القاضي: هذا يدلّ علی أ نّه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بعض التشهّدات المرويّة صحّ التشهّد. فعلی هذا يجوز أن يقال: أقلّ ما يجزي في التشهّد: التَّحيِّاتُ لِلَّهُ السَّلاَمُ علیكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَ رَحْمَةذ اللَهِ. السَّلاَمُ علینَا وَ علی عِبَادِ اللَهِ الصَّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ اللَهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ـ أَوْ: أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَهِ. هذه تسعة تشهدات **** وردت عن الصحابة وقد اختلفت ألفاظها، ولو أ نّها كانت من الاحاديث القوليّة التي رويت بالمعني لقلنا عسي! ولكنّها من الاعمال المتواترة التي كان يؤدّيها كلّ صحابيّ مرّات كثيرة كلّ يوم وهم يعدّون بعشرات الاُلوف. وممّا يلتف النظر أنّ كلّ صاحب تشهّد يقول: إنّ الرسول كان يعلّمه التشهّد كما يعلّمهم، وأنّ تشهّد عمر قد ألقاه من فوق منبر رسول الله، والصحابة جميعاً يسمعون فلم ينكر علیه أحد منهم ما قال، كما ذكر مالك في «الموطّأ». وممّا يلفت النظر كذلك أنّ هذه التشهّدات علی تباين ألفاظها وتعدّد صيغها وكثرة رواتها قد خلت كلّها من الصلاة علی النبيّ فكأنّ الصحابة كانوا ـ كما قال إبراهيم النخعيّ ـ يكتفون بالتشهّد والسلام علیك أيّها النبيّ ورحمة الله. ولقد اختلفت الائمّة في وجوب الصلاة علی النبيّ! في الصلاة المفروضة فأبو حنيفة وأصحابه لا يوجبونها فيها. وأمّا الشافعيّ فقد جعلها شرطاً! وفي «البحر الزاخر» لابن نجيم: وأمّا موجب الامر في قوله تعإلی: صَلُّوا علیهِ فهو افتراضها في العمر مرّة واحدة في الصلاة أو خارجها، لانّ الامر لا يقتضي التكرار وهذا بلا خلاف. وقد قال بذلك السرخيّ في «المبسوط» وابن همّام في شرح «فتح القدير»، والقسطلانيّ في «إرشاد الساري». وقال القاضي عيّاض في «الشفاء». وقد شذّ الشافعيّ فقال: من لم يصلّ علیه فصلاته فاسدة، ولا سلطان له في هذا القول ولا سنّة يتّبعها، وشنّع علیه في ذلك جماعة منهم الطبريّ والقشيريّ. وخالفه من أهل مذهبه الخطابيّ فقال: إنّها ليست بواجبة ولا أعلم له فيها قدوة. والتشهّدات المرويّات عن الصحابة لم يذكر فيها ذلك. أمّا حديث لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ علی فقد ضعّفه أهل الحديث. وحديث ابن مسعود مَنْ صَلَّي صَلاَةً لَمْ يُصَلِّ فِيهَا علی وَ علی أَهْلِ بَيْتِي لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ فقد قال الدار قطنيّ: إنّه مِن قول أبي جعفر محمّد الباقر بن علی بن الحسين. ونصّ قوله لَوْ صَلَّيْتُ صَلاَةً لَمْ أُصَلِّ فِيهَا علی النَّبِيِّ صَلَّي اللَهُ علیهِ ] وَالِهِ [ وَ سَلَّمَ وَ لاَ علی أَهْلِ بَيْتِهِ لَرَأيْتُ أَ نَّهَا لاَتَيِمُّ. كان هذا تفصيل كلام الشيخ محمود أبو ريّة. ومع أ نّه من العامّة إلاّ أ نّنا نلحظ كيف يضعضع أساس الاحاديث المنقولة عن العامّة. من هنا، فإنّ أحاديثهم لاتستند علی دعامة قويّة. وتحامل علیه محمّد عجّاج الخطيب وتهجّم في كتاب «السنّة قبل التدوين» ص 138 إلی 140، في سياق الاحاديث المنقولة بالمعني. وسمّاه مفترياً ومدّعياً بلا برهان. ونقل مطالب من كتاب «الانوار الكاشفة» ص 83 لمؤلّفه عبدالرحمن بن يحيي المعلّميّ إلیمانيّ الذي ألّفه ردّاً علی كتاب «الاضواء»، ومن كتاب «ظُلُمات أبي ريّة» لمحمّد عبدالرزّاق حمزة، ص 68 إلی 99، وقد ألّفه ردّاً علی الشيخ محمود أيضاً. وهذه المطالب لا تقاس بكلام أبي ريّة ومؤاخذاته أبداً. وما هي إلاّ هفوات لاتقيم برهاناً أمام استدلاله المتين علی أصل ضعف الاحاديث الواردة في «صحيح البخاريّ» و«صحيح مسلم» وسائر صحاح العامّة وسننهم ومسانيدهم. قال في هامش ص 138: افتتح أبو ريّة موضوعه هذا فقال: يحسب الذين لاخبرة لهم بالعلم، ولا علم عندهم بالخبرة أنّ أحاديث الرسول التي يقرأونها في الكتب، أو يسمعونها ممّن يتحدّثو بها قد جاءت صحيحة المبني محكمة التإلیف، وأنّ ألفاظها قد وصلت إلی الرواة مصونةً كما نطق النبيّ بها، بلا تحريف ولا تبديل، وكذلك يحسبون أنّ الصحابة ومن جاء بعدهم ممّن حملوا عنهم إلی زمن التدوين قد نقلوا هذه الاحاديث بنصّها كما سمعوها، وأدّوها علی وجهها كما لقنوها، فلم ينلها تغيّر ولا اعتراها تبديل، وممّا وقر في أذهان الناس أنّ هؤلاء الرواة قد كانوا جميعاً صنفاً خاصّاً بين بني آدم في جودة الحفظ وكمال الضبط وسلامة الذاكرة... ولقد كان ولا جرم لهذا الفهم أثر بالغ في أفكار شيوخ الدِين ـ إلاَّ مَنْ عَصَمَ رَبُّكَ ـ فاعتقدوا أنّ هذه الاحاديث في منزلة آيات الكتاب العزيز، من وجوب التسليم بها، وفرض الاءذعان لاحكامها، بحيث يأثم أو يرتدّ أو يفسق من خالفها، ويستتاب من أنكرها أو شكّ فيها. انظر: «أضواء علی السنّة المحمّديّة»، ص 54، ولا مجال للردّ علی فريته هذه هنا، وسيظهر لنا اهتمام النّقّاد والرواة وضبطهم في الفصول التإلیة من هذا الكتاب. ولقد أنعمتُ النظر كثيراً في جميع مطالبه المذكورة في كتابه الذي يربو علی خمسمائة صفحة فلم أعثر علی كلام رصين ومنطق محكم يمكن أن يصمد أمام منطق أبيريّة. وها أ نّي أترك الدور لكم فابحثوا وقفوا علی وهن كلامه! وأمّا التشهّدات التسعة التي نقلها محمّد عجّاج ثمانيةً خطأً، فإنّ الجواب الذي أتي به من عبدالرحمن إلیمانيّ في «الانوار الكاشفة في الردّ علی أبي ريّة» هو: هذه التشهّدات كلّها صحيحة وكان النبيّ يعلّم أصحابه التشهّد بألفاظ مختلفة، (ص 140 ). وقال في هامش هذه الصفحة بعد إشكال أبي ريّة علی تعدّد التشهّد (انظر: «أضواء علی السنّة» ص 63 ): إنّه يريد أن يشكّكنا حتّي فيما نتعبّد به وفيما ثبت متواتراً. والردّْ علی أبي ريّة وعلی دعواه في طيّ عبارته. فلو تجرّد وانطلق إلی أُفق أوسع من أُفُقه ما استغرب تعدّد هذه الصيغ ولا فتح علی المسلمين باب الشكّ والريبة ولا شكّك في الصحابة حفظة الشريعة وحرّاسها. أجل، إنّ بطلان جواب إلیمانيّ حول تعدّد ألفاظ التشهّد المُجزية كلّها، والتي أيّدها محمّد عجّاج، أمر واضح بيّن، ذلك أنّ الذي يستبين من سيرة العامّة وتأريخهم أ نّهم كانوا يرون أنّ تشهّداً خاصّاً واحداً مُجزٍ، وغيره باطل. فلهذا أخذ كلّ مذهب بتشهّد واحد بخصوصه. ولو قُدِّر أنّ مطلق التشهّد يكفي، وأنّ التشهّدات جميعها صحيحة ومُجزية عندهم، لما كان لهذا الصراع وجود موضوعيّ. وكلام عمر علی المنبر، وكلام أبي موسي الاشعريّ، وغيرهما يدلّ علی إلزام المأمومنين بتشهّد واحد كانوا يقرأونه وقد سمعوه من النبيّ، وغيره لايُجزي والصلاة به باطله. * ـ وكنّا لا نكتب إلاّ القرآن والتشهّد. «تقييد العلم» للخطيب البغداديّ، ص 93. ** ـ عن حطّان بن عبدالله الرقاشيّ قال: صلّيتُ مع أبي موسي الاشعريّ وبعد الصلاة قال: أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم؟! إنّ رسول الله خطبنا فبيّن لنا سُنَّنا، وعلمّنا صلاتنا وذكر التشهّد، فإذا هو التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَواتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ علیكَ... إلی آخره، «صحيح مسلم» ج 2، ص 13. *** ـ «المغني»؛ و«الشرح الكبير» ج 1، ص 575. **** ـ هذا ما أمكن إحصاؤه من التشهّدات ولم يتّفق أئمّة الفقه علی تشهّد واحد منها، بل اختلفوا فيها، فاختار أبو حنيفة وأحمد تشهّد ابن مسعود. واختار مالك تشهّد عمربن الخطّاب، واختار الشافعيّ تشهّد ابن عبّاس. ***** ـ «الشفاء» ج 2، ص 55. [28] ـ قال آية الله السيّد عبدالحسين شرف الدين العامليّ في كتاب «النصّ والاجتهاد» ص 212، المورد 27، الطبعة الثانية، في بيان مخالفات عمر لنصوص النبيّ صلّي الله علیه وآله: وذلك أنّ النبيّ صلّي الله علیه وآله كان يكبّر علی الجنائز خمساً، لكن الخليفة الثاني راقه أن يكون التكبير في الصلاة علیها أربعاً، فجمع الناس علی الاربع. نصّ علی ذلك جماعة من أعلام الاُمّة كالسيوطيّ (نقلاً عن العسكريّ) حيث ذكر أوليات عمر من كتابه «تاريخ الخلفاء»، وابن الشحنة، حيث ذكر وفاة عمر سنة 23 من كتابه «روضة المناظر» المطبوع في هامش «تاريخ ابن الاثير» وغيرهما من أثبات المتَّبعين. وحسبك ما في كتاب «الديمقراطيّة» لمؤلّفه الاُستاذ خالد محمّد خالد ممّا أوردناه آنفاً في مبحث الطلاق الثلاث فراجع. وقد أخرج الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم عن عبدالاعلی، قال: صلّيتُ خلف زيد بن أرقم علی جنازة فكبّر خمساً. فقام إلیه أبو عيسي عبدالرحمن بن أبي ليلي فأخذ بيده، فقال: أنسيتَ؟ قال: لا، ولكنّي صلّيت خلف أبي القاسم خليلي صلّي الله علیه وآله فكبّر خمساً، فلا أتركه أبداً ـ انتهي.* («مسند الإمام أحمد بن حنبل» ج 4، ص 370 ). قلتُ: وصلّي زيد بن أرقم علی سعد بن جبير المعروف بسعد بن حبته وهي أُمّه، وهو من الصحابة، فكبّر علی جنازته خمساً، فيما رواه ابن حجر في ترجمة سعد من إصابته. ورواه ابن قتيبة في أحوال أبي يوسف من معارفه. وكان سعد هذا جدَّ أبي يوسف القاضي. [29] ـ يُستفاد من كلام آية الله السيّد محسن الامين العامليّ أنّ فاطمة الزهراء علیها السلام كان لها خطّ، وأنّ مصحفها كان بخطّ بدها. قال في سياق مسائل طرحها: هل كانت السيّدة فاطمة علیها السلام، وسائر نساء العترة الطاهرة أُمّيّات أو لا!! وهل يقضي العقل بعصمتهنّ قولاً وفعلاً؟! الجواب: يظهر من بعض الاخبار أنّ السيّدة فاطمة علیها السلام لم تكن أُمّيّة، وذلك قول الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیهما السلام لبعض ولد الحسن علیه السلام لمّا أجاب الصادق عن مسألة غامضة سأله عنها أمير المدينة بأمر خليفة الوقت العبّاسيّ: من أين علمتَ هذا! قال: قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أُمِّكَ فَاطِمَةَ. ولعلّ المتتبّع يعثر علی غير هذا. أمّا سائر نساء العترة فيجوز أن يكون فيهنّ الاُمّيّة وغيرها. وحالهنّ في ذلك حال سائر نساء الاُمّة. أمّا العصمة فليست ثابتة لغير البضعة الزهراء علیها السلام. («معادن الجواهر ونزهة الخواطر» ج 1، ص 417، مسألة 5 ). [30] ـ تحدّثنا بصورة وافية عن كتب أميرالمؤمنين علیه السلام وشيعته المعاصرين له في الجزاء ( 14 ) من كتابنا هذا، الدرس 196 إلی 200، والدرس 201 إلی 210؛ وكذلك في ج ( 15 )، الدرس 211 إلی 225. [31] ـ نصّ علی ذلك أئمّة الفنّ كالشيخ البهائيّ في وجيزته، وغير واحد من أعلام الاُمّة. [32] ـ قال في الهامش: راجع من «مجمع البيان» تفسير قوله تعإلی: قُلْ لاَ أَسألكم علیه أجراً إلاّ المودّة في القُربي من سورة الشّوري' تجده ينقل عن تفسير أبي حمزة. [33] ـ و قد روي أصحابنا كتب أبي حمزة كلّها بأسانيدهم إلیه، و التفصيل في كتب الرجال. و اختصر سيّدنا الحجّة السيّد صدر الدين الموسويّ رسالة الحقوق، و طبعها كرسالة مختصرة ليحفظها نشء المسلمين. و قد أجاد إلی الغاية متّع الله المسلمين بجميل رعايته، و جليل عنايته. |
|
|