|
|
الصفحة السابقةانتقال المرض بواسطة النور... ومن النظريات التي قال بها جعفر الصادق وكشفت عن نبوغه العلميّ وإحاطته الواسعة بدقائق العلوم نظريّته المتعلّقة بانتقال بعض الامراض من المريض إلي السليم عن طريق الضوء. وذكر جعفر الصادق أنّ أمراضاً ينبعث منها ضوء، فإذا أصاب الضوء أحداً انتابته العلّة. ولابدّ من ملاحظة أنّ هذا القول لاينسحب علي العدوي بطريق الهواء أو الميكروب ( إذ لم تُكشف هذه الحقيقة في النصف الاوّل من القرن الثاني الهجريّ ) ، وإنّما ينصبّ هذا القول علي الضوء، وليس كلّ ضوء، بل الضوء الذي يشعّه المريض، فإذا أصاب سليماً أمرضه. وقد ذهب علماء الاحياء والطبّ إلي أنّ هذه النظريّة ضرب من الخرافة، اعتقاداً منهم بأنّ العامل الرئيس في انتقال المرض هو الميكروب أو الفيروس الذي ينتقل بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق الحشرات أو الماء أو الهواء الملوّث أو الاحتكاك المباشر بين المريض والسليم. وكان الاعتقاد السائد قبل اكتشاف الميكروب والفيروس أنّ الرائحة هي السبب الفعّال في انتقال المرض. ولهذا صرفوا اهتمامهم إلي الحيلولة دون انتقال الرائحة من المريض إلي السليم. أمّا ما ذهب إليه الصادق عليه السلام من أنّ الضوء المشعّ المنبعث من المريض هو الذي يتسبّب في نقل العدوي، فهو نظريّة لم يقل بها أحد في أيّ مرحلة من مراحل تأريخ الطبّ الطويل. وظلّت هذه النظريّة معدودة من الخرافات في رأي العلماء والباحثين إلي أن جاءت التجارب العلميّة المعاصرة معزّزةً لها ومُثبتة لصدق آراء جعفر الصادق، إذ إنّ بعض الاضواء إذا انتقلت من المريض إلي السليم فإنّها تُمرضه. وكشفت هذه الحقيقة لاوّل مرّة في الاتّحاد السوفييتيّ ( السابق ) . ففي مدينة « نوو ـ وو ـ سيبيرسك ) الواقعة في الاتّحاد السوفييتيّ، في سيبيـريا مركز من أهمّ مـراكـز البحـوث في العلـوم الكيمـيائيّة والطـبّيّة والبايـولـوجـيّة. وقد استطاع هذا المـركـز أن يثـبت أوّلاً: أنّ هنـاك مـن الامراض ما يُشعّ ضوءاً. ثانياً: أنّ هذا الضوء قادر في حدّ ذاته علي إصابة الخلايا السليمة وإيقاع المرض بها دون أدني احتكاك بين الخلايا المريضة والخلايا السليمة، ودون ميكروب أو فيروس ينتقل من الخلايا المريضة إلي الخلايا السليمة. أمّا الاُسلوب الذي اتّبعه العلماء في مركز نوو ـ وو ـ سيبيرسك في إجراء تجاربهم فكان علي النحو الآتي: اختار العلـماء مجـموعتـين من الخـلايا الموجـودة في كائـن حـيّ، وفصلوهما عن بعضهما فرأوا أنّ تلك الخلايا تشعّ أنواعاً من الفوتون[1] ... وبعد أن اختاروا تينك المجموعتين من الخلايا المتماثلة من كائن حيّ وجعلوهما في قسمين منفصلين، أدخلوا المرض علي مجموعةٍ منها ليتابعوا تأثير إشعاعه، فوجدوا أنّ الفوتون يشعّ من الخليّة المريضة أيضاً، وأنّ المرض يمنع الخليّة من الإشعاع. ثمّ انتقل العلماء إلي المرحلة الثانية من التجارب، فوضعوا الخلايا السليمة في حافظتين إحداهما « الكوارتز » واسمها الآخر « السليكا » ، والاُخري من الزجاج. ومعروفٌ أنّ من خواصّ الكوارتز مقاومته للاشعّة، فلا تخترقه إلاّ الاشعّة فوق البنفسجيّة، في حين أنّ من خواصّ الزجاج العادي أنّ فوتون أنواع الاشعّة يخترقه ما عدا الاشعّة فوق البنفسجيّة. وقد تبيّن للعلماء بعد انقضاء ساعات علي الخلايا السليمة الموجودة في الحافظتين أمام الخليّة المريضة أنّ ما كان منها في حافظة الكوارتز أُصيب بالمرض، أمّا الخلايا التي كانت في الحافظة الزجاجيّة فقد بقيت سالمة. ... وقد أُعيـدت هذه التجـارب علي أمراض مخـتلفة وعلي خـلايا متشابهة أو مختلفة طوال عشرين سنة، وبلغ عدد التجارب التي أُجريت خمسة آلاف، وذلك للتوصّل إلي رأي علميّ ثابت بالبرهان العلميّ المتكرّر وبدون أيّ تردّد في نتيجة التجارب. وقد تشابهت نتائج هذه التجارب، ودلّت بصورة قاطعة علي أنّ الخلايا المريضة تنبعث منها أشعّة مختلفة، منها الاشعّة فوق البنفسجيّة، وأنّ الخلايا السليمة إذا ما أصابتها أشعّة فوق البنفسجيّة صادرة عن خليّة مريضة ( لا أشعّة فوق بنفسجيّة أُخري ) ، انتقلت إليها نفس علّة الخليّة المريضة. وأنّ مرض تلك هو نفس مرض الخلايا المريضة. ولم يحدث في جميع التجارب التي استمرّت عشرين سنة أن تجاورت الخلايا السليمة والخلايا المريضة بحيث يقال إنّ عدوي الميكروب أو الفيروس انتقلت من هذه إلي تلك بالاحتكاك. فثبت للباحثين أنّ سبب انتقال العدوي هو الاشعّة فوق البنفسجيّة المنبعثة من الخليّة المريضة.... ... ويستشفّ من التجارب التي أجراها أُولئك العلماء أنّ خلايا جسم الإنسان كمحطّة الإرسال والاستقبال، تصدر عنها الاشعّة، كما أنّها تستقبل هذه الاشعّة وتسجّلها.... ... ولا ريب في أنّ النتائج التي أسفرت عنها هذه التجارب قد فتحت أمام علماء الاحياء والطبّ ميداناً جديداً يطرقونه لمعالجة الامراض.... ... وقد أُجريت تجارب علميّة مماثلة في الولايات المتّحدة الاميركيّة فجاءت نتائجها متّفقة مع ما انتهي إليه مركز الابحاث السوفييتيّة. ونشرت المجلاّت الطبّيّة والعلميّة نتائج هذه البحوث، كما وضع الدكتور « جون أُوت » كتاباً في هذا الموضوع. سُقنا هذا العرض لندلّل علي أنّ العلم الحديث قد جاء مؤكّداً للنظريّة التي دعا إليها جعفر الصادق في منتصف القرن الثاني للهجرة ومؤدّاها أنّ الضوء المنبعث من مرضٍ ما يتسبّب في إصابة الغير بالمرض، وهي النظريّة التي اعتبرت يومها من الخرافات البعيدة عن الواقع. فقد أقام العلم الحديث البرهان علي أنّ الاشعّة فوق البنفسجيّة المنبعثة من الخلايا المريضة تتسبّب في نقل الامراض إلي الخلايا السليمة. أمّا الاشعّة فوق البنفسجيّة المنبعثة من الشمس فهي لا تُصيب الإنسان أو الكائنات الحيّة بالمـرض إلاّ إذا وصلـت إلي جسـم الإنسان والحـيوان دون أن تمـرّ من الهواء،[2] أي دون أن يفصل بينها وبين الكائن الحيّ عائق مثل طبقة الهواء. ولولا هذه الطبقة الهوائيّة العازلة لهلكت الكائنات الحيّة. ولكن هذه الاشعّة نفسـها، بعد أن تمرّ بطـبقة الهـواء وتصل إلي الارض فإنّها لا تُمـرض أيّ كائن حيّ. وصفوة القول: أنّ التجارب البيولوجيّة والطبّيّة العلميّة الحديثة قد أثبتت صحّة نظريّة جعفر الصادق عليه السلام بعد ألف ومائتين وخمسين سنة. [3] علوم العوالم الاُخريعلوم العوالم الاُخري من الاسئلة التي سئل بها جعفر الصادق سؤال مفاده: مَن نستطيع أن نعدّه عالماً مطلقاً ؟ ومتي يشعر الإنسان أنّه تعلّم كلّ شيء ؟ قال جعفر الصادق للسائل: اجعل هذا السؤال قسمين واسألني عن كلٍّ منهما علي حدة ! لك أن تسـأل في القسـم الاوّل وهو: مَن نسـتطـيع أن نعـدّه عالماً مطلقاً ؟ فأقول في جوابك: لا عالم مطلق إلاّ الله. ومحال أن يكون أحد أبناء البشر عالماً مطلقاً. إذ إنّ العلم واسع إلي درجةٍ لا يستطيع المرء أن يعلم كلّ شيء فيه ولو عمّر آلاف السنين وكان مشتغلاً بتعلّمه طول المدّة المذكورة. ولعلّه يقف علي علوم هذا العالم كلّها بعد آلاف من السنين. ولكن هناك عوالم أُخري ما وراء هذا العالم، وفيها علوم، فمن تعلّم كافّة العلوم في هذا العالم ودخل تلك العوالم فهو جاهل. وما عليه إلاّ أن يبدأ بتعلّمها كي يقف عليها. فلا وجود لعالِمٍ مطلقٍ إلاّ الله وحده. ذلك أنّ الإنسان لا يستطيع أن يُلمّ بجميع العلوم أبداً. وسأل طلاّب جعفر الصادق القسم الثاني من السؤال فقالوا: متي يغني الإنسان بالعلم ؟ قال جعفر الصادق: أجبتُ عن سؤالكم في جوابي السابق وقلتُ: لو عمّر الإنسان آلاف السنين، وانهمك في تحصيل العلم، فلن يتسنّي له أن يتعلّم كافّة العلوم. إذن، لن يأتي زمان يشعر فيه الإنسان أنّه غني بالعلم، والذين يشعرون أنّهم استغنوا بالعلم هم جهلاء حقّاً، والجاهل يري نفسه مستغنياً عن العلم. وسئل جعفر الصادق عن القصد من علم العوالم الاُخري، فقال: ثمّة عوالم غير عالمنا الذي نعيش فيه، وهي أكبر منه، وفيها علوم تختلف عن علومه. وسئل عن عددها، فقال: لا يعلم ذلك إلاّ الله. وسئل: كيف يختلف علم العوالم الاُخـري وعلم هذا العالم ؟ أليـس العلم قابلاً للتعـلّم ؟ وما كان قابلاً للتعلّم كيف يمكن ألاّ يُعدّ من علوم هذا العالم ؟ قال جعفر الصادق: في العوالم الاُخري ضربان من العلم. أحدهما يُشبه علوم هذا العالم. وإذا ذهب إليها أحد فإنّه يستطيع أن يتعلّمها. أمّا بعـض العـوالم الاُخـري ففيـها علوم تعـجـز عقـول الناس عن إدراكـها. إذ لا يتسنّي فهمها بعقول الناس في هذا العالم. كان كلام جعفر الصادق هذا لغـزاً عند علماء الاجـيال المتـأخّـرة. فبعضهم لم يره مقبولاً وذكر أنّ ما قاله في هذا المجال لا مسوّغ له. ومن الذين امتروا فيه ابن الراونديّ الإصفهانيّ، فقد قال: إنّ عقل الإنسان يستطيع أن يدرك كلّ شيء من العلم سواء علوم هذا العالم، أم علوم العوالم الاُخري. بَيدَ أنّ تلاميذ جعفر الصادق قبلوا قول أُستاذهم وذهبوا إلي أنّ في بعض العوالم الاُخري علوماً يعجز البشر عن تعلّمها، لانّ فكره قاصر عن إدراكها. وتيسّـر اليوم فهم ما قاله جعفر الصادق في هذا الحقل بعدما فتحـت نظريّة أينشتَين في النسبيّة فصلاً جديداً لا عهد للاذهان به في الفيزياء، وبعدما تخطّت نظريّة وجود « مضادّ المادّة » حدودها النظريّة ودخلت مرحلة جديدة من العلم، وثبت للعلماء وجود « مضادّ المادّة » . ذلك أنّ في العالم المضادّ للمادّة قوانين فيزيائيّة هي غير القوانين الفيزيائيّة في عالمنا. وأكثر من ذلك قوانين المنطق والاستدلال فهي غير ما يستطيع عقلنا أن يضعها ويدركها. العالم المضادّ للمادّة عالم في داخل ذرّاته شحن الإلكترون موجب، وشحن البروتون « في نواة الذرّة » سالب. أمّا في عالمنا فعلي العكس، إذ إنّ شحن الإلكترون سالب، وشحن البروتون « في نواة الذرّة » موجب. لا يعلم أحد القوانين الفيزيائيّة السائدة في عالم يكون فيه شحن إلكترونات الذرّة موجباً، وشحن البروتونات سالباً. في منطقنا واستدلالنا الكلّ أعلي من الجزء. أمّا في ذلك فلعلّ الجزء أعلي من الكلّ، وفكرنا قاصر عن أن يفهم هذا الموضوع ويقبله. عندما نغمس جسماً ثقيلاً في الماء فإنّ داخل الماء يخفّ حسب القانون الذي اكتشفه أرخميدس. ولكن لو غمسناه في ذلك العالم في داخل الماء أو سائل آخر فلعلّه يثقل. وفي هذا العالم عندما نضغط علي نقطة من سائل في إناء فإنّ هذا الضغط يصل إلي كافّة النقاط في ذلك السائل حسب قانون باسكال. واستُفيد من هذا القانون في صنع مكابح زيتيّة لوسائط النقل، بخاصّة للثقيلة منها. وإذا ما ضغط السائق بقدمه علي دوّاسة المكبح التي تضغط علي الزيت قليلاً، وبلغ الضغط جميع نقاط الزيت، فإنّها تضغط علي عجلات الشاحنة ألف مرّة وتوقفها في لحظة واحدة. بَيدَ أنّ هذا القانـون الفيـزيائيّ لعلّه عديـم الاثر في العالم المضـادّ للمادّة، ولعلّ الضغط البالغ نقطة من السائل لا يصل إلي نقاطه الاُخري. إذا دخل شخص من هذا العالم إلي العالم المضادّ للمادّة؛ فلعلّه ينسجم تدريجيّاً مع قوانينه الفيزيائيّة التي تبدو له عجيبة وغير عاديّة كما ينسجم روّاد الفضاء مع انعدام الوزن عندما يدورون حول الارض بسفنهم الفضائيّة أو يضعون أقدامهم علي سطح القمر. ذلك أنّهم تمرّنوا علي انعدام الوزن في الارض قبل إرسالهم إلي الفضاء. أمّا الذي لا يستطيع أن يقبله الإنسان في العالم المضادّ للمادّة فهو الاشياء المغايرة لقوانين منطقه واستدلاله. فإذا رأي فيه أنّ الجزء أكبر من الكلّ، والناس لا يراعون القواعد الاصليّة في العمليّات الحسابيّة الاربع: الجمع والطرح والضرب والتقسيم، وشعر أنّ الحرارة فيه تجمّد الماء والبرودة تسبّب تبخيره بدون أن يكون خلاء، فإنّه لا يستطيع أن يدرك تلك الظواهر اللاعقليّة. هنا تبدو نظريّة جعفر الصادق القائلة بوجود علومٍ في بعض العوالم، لا يستطيع الإنسان أن يتعلّمها مقبولة....[4] ... النتيجة المأخوذة من البحث المتقدّم هي: أوّلاً: كان جعفر الصادق يري أنّ العلم غير محدود. ثانياً: وكان يذهب إلي أنّ في العوالم الاُخري علوماً لا يستطيع المرء أن يدركها بفكره الذي يدرك به علوم عالمه هذا. واليوم يتسنّي لنا أن نفهم، بعد النظريّة النسبيّة لاينشتَين، وبعد النظريّة المضادّة للمادّة التي ذكرنا بأنّها تخطّت الحدود النظريّة ودخلت مرحلة علميّة، بأنّ جعفراً الصادق قد عرض نظريّة صحيحة قبل اثني عشر قرناً ونصف القرن. [5] إنّ النماذج المذكورة الدالّة علي قطرة من بحر علوم أهل البيت عليهم السلام اللامتناهي تبيّن لنا أنّ علومهم نابعة من منهل لايبلغه الناس العاديّون، ولا يتيسّر الارتشاف منه إلاّ عن طريقهم عليهم السلام. وتعلّمنا أيضاً أ نّنا ينبغي ألاّ نقصّر في تطبيق التعاليم الإسلاميّة والعمل بإرشادات الدين المنجية مهما كان الامر، إذ إنّ لكلّ حكم حكمة ولكلّ أمرٍ فلسفة، وعصيانها يستتبع مضـاعفات تصـيبنا وربّما لا تعوَّض وقد تنسف أساس سعادتنا. نبتهل إلي الله تعالي في ختام البحث أن يوفّق عامّة المسلمين لاتّباع تعاليم القرآن الكريم بتوجيهات أهل بيت العصمة عليهم السلام، ويسدّد خطاهم انتهي. [6] جميع عناصر الهواء ضروريّة للتنفّسقال جعفر الصادق: الهواء مركّب من عناصر، وعناصره ضروريّة للتنفّس. وبعد أن فصل لافوازييه الاُوكسجين عن الغازات الاُخري، ودلّ علي أنّه سبب حياة الاحياء، ذهب العلماء إلي أنّ الغازات الاُخري في الهواء عديمة الفائدة في حفظ الحياة . وهذه النظريّة مخالفة لنظريّة جعفر الصادق الذي قال: إنّ جميع العناصر الموجودة في الهواء ضروريّة للتنفّس. وفي منتصف القرن التاسع عشر صحّح العلماء رأيهم في الاُوكسجين بعدما تبيّنوا أنّ هذا العنصر الهامّ اللازم لتنقية الدم واستمرار الحياة عند الإنسان ليس علي هذه الدرجة من الفائدة والنفع للكائنات الاُخري، إذ تبيّن أنّ هناك كائنات حيّة لا تقوي علي استنشاق الاُوكسجين الخالص فترة طويلة، لانّ خلايا أجهزتها التنفّسيّة تتأكسد وتتآكل بتفاعلها مع الاُوكسجين، أي: أنّ هذه الخلايا تحترق بفعل الاُوكسجين الخالص. والاُوكسجين في حدّ ذاته لا يحترق ولكنّه يساعد علي الاحتراق. فإذا تعرّض له جسم، وكان قابلاً للاحتراق، فإنّه يحترق. وإذا تنفّست الخلايا الموجودة داخل رئة الإنسان أو الحيوان الاُوكسجين الخالص فترة طويلة، احترقت هذه الخلايا، ومات الإنسان أو الحيوان. ولهذا يوجد الاُوكسجين في الهواء مختلطاً بغازات أُخري كفيلة بمنع أثره السيّي والضارّ والحؤول دون احتراق رئة الكائنات الحيّة نتيجة تنفّس الاُوكسجين الخالص. وبالوصول إلي هذه الحقيقة العلميّة صحّ ما ذهب إليه جعفر الصادق من أنّ الهواء مفيد للإنسان بمجموع أجزائه بما في ذلك أجزاؤه من الغازات الاُخري التي يوجد منها مقدار ضئيل فيه. ومن قبيل المثال، نذكر أنّ لغاز الاُوزون خواصّاً كيميائيّة مشابهة لخواصّ الاُوكسجين . وقوام جزيء [7] هذا الغاز ثلاث من ذرّات الاُوكسجين . وإذا كان الظاهر أنّ غاز الاُوزون لايقوم بدور هامّ في التنفّس فواقع الامر أنّ له أثراً فعّالاً في تثـبيت الاُوكسـجين عند دخوله الدورة الدمـويّة. أي: أنّه يحافظ علي الاُوكسجين في الدم ولا يدعه يذهب هباءً. وهذا يؤيّد ما ذهب إليه جعفر الصادق من أنّ الهواء ـ بكلّ أجزائه ـ ضروريّ للحياة. وهي حقيقة أُميط عنها اللثام منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومن خواصّ الغازات الموجودة في الهواء أنّها تمنع الاُوكسجين من الترسّب. ونحن نعلم أنّ الاُوكسجين غير مركّب في الهواء، بل هو مختلط بالغازات الاُخري، ولمّا كان أثقل الغازات الموجودة في الهواء فلابدّ أن يترسّب حسب القاعدة. وهو أمر لو حدث لجعل الاُوكسجين يملا سطح الارض إلي ارتفاع معيّن، ولاتّخذت الغازات الاُخري مكانها فوق الاُوكسجين، ولادّي هذا الخلل إلي احتراق جهاز التنفّس عند جميع الكائنات الحيّة، ولانقرضت هذه الكائنات. ولَمَا نما نبات، لانّ النبات يحتاج بدوره إلي الاُوكسجين ومعه الكاربون كالكائن الحيّ. ولو حدث هذا الخلل لباتت حياة النبات مهدّدة بأشدّ المخـاطر. غير أنّ وجود غازات أُخري مخـتلطة بالاُوكسـجين في الهواء يحول دون رسوبه، ويمدّ في حياة الإنسان والحيوان والنبات. وقد كان جعفر الصادق أوّل من فنّد القول بأنّ هناك عناصر أربعة، فقوّض هذه النظريّة من أساسها بعدما عاشت قرابة ألف سنة، وكان شابّاً يافعاً آنذاك، بَيدَ أنّه ذكر النظريّة المتعلّقة بالهواء بعد بلوغه سنّ الرُّشد وشروعه بالتدريس.[8] ومن الاشياء التي ذكرها جعـفر الصـادق حول ظهـور العالم نظـريّة القطبين المتضادّين التي ظهرت أهمّيّتها بعد القرن السابع عشر الميلاديّ عندما أثبت علم الفيزياء وجود هذين القطبين. والذين عاصروا الإمام ومن جاؤوا بعده ظنّوه قائلاً بما قال به القدماء من قبله من أنّ الشيء يُعرف بضدّه. ولكن ثبوت وجود القطبين المتضادّين في الفيزياء وما نعرفه اليوم من علوم الذرّة والإلكترونيّات قد قطعا بسلامة هذه النظريّة. لقد بدأنا الكلام بعلوم جعفر الصادق من الجغرافية والهيئة والفيزياء في مبحـث نشـأة الكون والعناصـر. ونواصل كلامنا في مبحـث الفيـزياء وسنصل منه إلي مباحث أُخري، ونقول: إنّ جعفراً الصادق قد تعرّض في الفيزياء لمسائل لم يتعرّض لها أحد، لا قبله ولا بعده إلي منتصف القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، والقرن العشرين. سبب شفّافيّة الاجسام أو كدورتهاومن ذلك مثلاً قانون الاجسام الصلبة. فقد صنّف تلك الاجسام إلي أجسام كدرة وأُخري مصقولة شفّافة، إذ قال: كلّ جسم صلب جامد يكون كدراً، وكلّ جسم جامد دافع يكون لمّاعاً وشفّافاً. وقال في الردّ علي سؤال: ما الذي يجذب ؟ إنّ الحرارة هي التي تجذب. وقد أصبحت هذه النظريّة في يومنا الحاضر قانوناً علميّاً في الكهرباء والفيزياء. أفليس ممّا يُدهش أن يكون القائل بهذه النظريّة منتمياً إلي النصف الثاني من القرن السابع الميلاديّ، والنصف الاوّل من القرن الثاني الهجريّ ؟ ولو سألنا في يومنا هذا مائة شخص كيف يكون من الاجسام الصلبة ما هو لمّاع وما هو كَدِر ؟ لما استطاع أحد منهم أن يجيب جواباً صحيحاً، أي: أن يقول لنا سبب كون الحديد كدراً والبلّور لمّاعاً وشفّافاً. يقول القانون الفيزيائيّ الحديث: إنّ كلّ جسم تصدر عنه أمواج وأشعّة حراريّة فيكون موصّلاً جيّداً للحرارة ( مُوصّل الحرارة ) وللامواج الإلكترونيّة ( موصّل الكهرباء والامواج المغنطيسيّة )[9] هو جسم كدر لا لمعان له. وإنّ الاجسـام التـي لا تنتـقل منـها الحـرارة بسـهولة ( أي: غير الموصّلة للحرارة ) ولا تنقل الامواج الإلكترونيّة ( عازلة ) هي أجسام شفّافة لمّاعة. ولم يتحدّث جعفر الصادق عن أمواج كهرومغناطيسيّة ( كهربائيّة مغناطيسيّة ) ولكنّه تحدّث عن الحرارة فحسب. وجاءت أقواله مطابقة لقوانين الفيزياء في يومنا هذا. وتقول القوانين الفيزيائيّة: إنّ سبب كدورة بعض الاجسام ( كالحديد ) هو أنّها تنقل الامواج الكهرومغناطيسيّة. وبعبارة جامعة: أنّها مُوصِّلة. في حين أنّ الاجسام التي لا توصل الحرارة أو توصّلها ببطء وتحول دون انتقال الامواج الكهرومغناطيسيّة تعتبر أجساماً عازلة، وتكون لمّاعة شفّافة. نجوم أسطع من الشمسوتقوم نظريّة جعفر الصادق في كدورة الاجسام أو صفائها علي أساس الجاذبيّة. ولمّا سئل عن سبب كدورة الاجسام أو صفائها قال: إنّ الجسم الممتصّ للحرارة كدر، والاجسام التي لا تمتصّ الحرارة شفّافة علي اختلاف مراتبها. ولا تقلّ نظريّة الجاذبيّة عند جعفر الصادق في أهمّيّتها عن نظريّته القائلة بوجود قطبين متضادّين. وهي تطابق قوانين الفيزياء الحديثة من حيث تعليل أسباب كدورة الاجسام الصلبة أو صفائها.[10] ذكرنا فيما سبق أنّه قلّ أن يكون هناك موضوع علميّ وليس لجعفر الصادق رأي ذو وزن فيه. وتدلّ بعض نظريّاته علي نبوغه العلميّ. ومن ذلك ما قاله في ضوء النجوم. ومؤدّاها أنّ بين النجوم التي نراها في الليل ما هو أضخم من الشمس، وإنّ لها من الاشعّة ما تضؤل أمامه الشمس وأشعّتها. إنّ المعلومات البشريّة المحدودة حول الكواكب تحول دون إدراك هذه الحقيقة في عصر جعفر الصادق وبعده إلي فترة أخيرة. وكان العلماء يظنّون أنّ ما قاله جعفر الصادق حول ضوء بعض النجوم بعيد عن العقل، ولا يمكن قبوله، ومحال أن تكون هذه النقاط الصغيرة المضيئة المعروفة بالنجوم شديدة الضياء بحيث يتضاءل أمامها ضوء الشمس. وثبت اليوم بعد مضيّ اثني عشر قرناً ونصف القرن علي عصر جعفر الصادق صحّة ما قاله ذلك الرجل العظيم، إذ تبيّن للعلماء أنّ هناك مجموعات من النجوم السواطع تتضاءل تلقاء حجمها وضيائها الشمس نفسها. ويطـلق علي هذه النجـوم المضـيئة اسم ( الكـوزرز ) [11] الواحـدة منها كوزار. وبعضـها يبـعد عن الارض بمقـدار تسـعة آلاف مليـون ( تسـعة مليارات ) سنة ضوئـيّة. وما يصل إلي المـراقب الفلكـيّة نهاراً وليـلاً مـن الامواج الصادرة عن هذه المجـموعات يقطع المسـافة الشاسـعة بين هذه المجموعات وبيننا في تسعة آلاف مليون سنة ضوئيّة. قلنا ( نهاراً وليلاً ) . ولعلّ البعض يتصوّر أ نّنا قد أخطأنا إذ لايمكن رؤية النجوم نهاراً، بَيدَ أنّ عدم رؤيتها نهاراً يعود إلي فترة لم يكن فيها مرقـب راديو تلسـكوبيّ. أمّا اليوم فإنّنا نشـهد مراقـب راديو تلسـكوبيّة ضخمة ترصد النجوم والانوار الساطعة المنبعثة منها حتّي في النهار، منها مرقب ( آرسي بوئه ) في جزيرة ( بورتوريكو ) والذي يبلغ قطره ثلاثمائة متر. [12] ويساوي الضوء المنبعث من بعض هذه الكوازر ضوء الشمس عشرة آلاف مليار مرّة. وهو رقم ليس فيه خطأ أو شطط. ووحدة قياس الضوء التي يستند إليها علماء الفلك في قياس ضوء النجوم هي ضوء الشمس. وللمرء أن يتصوّر الضخامة المتناهية لبعض المجموعات من الكوازر إذا كان ضوءها يعادل ضوء الشمس عشرة آلاف مليار مرّة. ولذا نقول بلا إغراق: إنّ ضوء الشمس ينحطّ أمامها ويصبح كضوء شمعة صغيرة. وإذا أردنا أن نجسّد عشرة مليارات ضعف الشمس، نقول: نكتب العدد ( 1 ) ونضع أمامه ستّة عشر صفراً. ورغبةً في رصد هذه المجـرّات الضـوئـيّة الضـخـمة التي اكتشـفت المجرّة الاُولي منها في سنة 1963 م ( وهناك أكثر من مائتي مجرّة قد اكتشفت حتّي الآن) فكّر العلماء في صنع مرقب فلكيّ سعة رصده كسعة رصد ثلاثين ألف متر ( ثلاثين كيلومتراً ) . نقول: إنّه كسـعة رصد ثلاثـين ألف متـر لاسـتحـالة صنـع مرقـب راديو تلسـكوب له هذه السـعة. وبالنظـر إلي استحالة ذلـك بدأ العـلماء يفكّرون في صنع مرقب كهربائيّ له هوائيّات قويّة ترتفع علي شكل حرف ( Y ) بحـيث تكون المسـافة بين كلّ رأس من رؤوس هذا الحـرف واحداً وعشرين كيلومتراً، وتتحرّك الهوائيّات بين المحاور الثلاثة ويتمّ التحكّم فيه إلكترونيّاً. ويبلغ طول الهوائيّات الثلاثة ( 21 ) كيلومتراً، ولها قدرة علي الرصد كما لو كانت سعة المرصد ثلاثين ألف متر، ويتمّ توجيه هذا الجهاز إلي الكوازر لمشاهدتها بمزيد من الدقّة. وقد اعتاد الفلكيّون منذ القرن الثامن عشر الميلاديّ علي اكتشاف كتل ضوئيّة في السماء. وكانت المسافة السحيقة التي تفصل هذه الاجرام المضيئة عنّا من الاُمور المألوفة التي لا تثير دهشة العلماء آنذاك. ولكن لمّا رأي علماء الفلك مجموعة الكوازر البعيدة في سنة 1963 م مستعينين بمرقب ( راديو تلسكوب ) آرسي بوئه في بورتوريكو، استولت عليهم الدهشة، لأنّها تبعد عنّا بمقدار ( 9 ) مليارات سنة ضوئيّة، في حين أنّ العالِم أينشتَين كان يعتقد بأنّ قطر العالَم ثلاثة مليارات سنة ضوئيّة. ولكي تستطيع الاذهان إدراك مدي ضخامة هذه المسافة الشاسعة نذكر أنّ الضوء يحتاج إلي سنة كاملة كي يقطع بسرعته الفائقة مسافة ( 9500 ) مليار كيلومتر. فإذا أردنا أن نعرف مقدار المسافة الحقيقيّة بين مجرّات الكوازر والارض، ضربنا ( 9500 ) مليار سنة في ( 9500 ) مليار كيلومتر. وبغضّ النظر عن ضخامة هذه المسافة التي يتعذّر علي العقل تصوّرها، فإنّ ممّا يزيد في حيرة علماء الفلك أنّ مجرّات الكوازر تطلق ضوءاً ساطعاً يساوي ضوء الشمس عشرة آلاف مليار مرّة، ولم يكتشف العلماء حتّي الآن كنه هذه الكوازر والعناصر التي تتركّب منها وتمكّنها من توليد كلّ هذه الحرارة والطاقة العجيبة. [13] ... قال جعفر الصادق: إنّ لبعض النجوم ضوءاً هو من الشدّة بحيث يتضاءل أمامه ضوء الشمس. وها هو العلم الحديث قد برهن علي صدق نظريّة جعفر الصادق، ودلّل علي أنّ لبعض النجوم من الاشعّة ما تتضاءل أمامه الشمس وأشعّتها. أفلا يُستخلص من ذلك أنّ رجلاً عاش في النصف الاوّل من القرن الثاني الهجريّ كان عبقريّاً في المباحث العلميّة، وأدرك حقيقةً أطّلعنا عليها اليوم ؟ وجود عوالم أُخريوثمّة سؤال قد يعنّ للباحـث هو: أين تقع مجـرّات ( الكوازر ) التي يبعد بعضها عن الكرة الارضـيّة بمسـافة تسـعة آلاف مليون سنة ضوئيّة ؟ هل تقع في مركز الكون أو في أوّله أو في نهايته ؟ [14] ... . قال جعفر الصادق: إنّ الكون لاينحصر في عالمنا وحده، وإنّما هناك عوالم أُخري. وها قد جاء العلم الحديث مبرهناً علي هذه النظريّة، وأقام الادلّة علي أنّ هناك آلافاً من العوالم والمنظومات الشمسيّة، وأنّها تفني وتزول ما عدا مجرّات الكوازر، فهي باقية علي الدوام....[15] وهذا يؤكّـد ما قاله جعـفر الصادق. وكلّما تقـدّم علم الفلـك عـرف الفلكـيّون أنّ عدد المجـرّات والمنظومات الشمسـيّة الموجودة في الكون هي أكثر ممّا كانوا يتصوّرون. حتّي أنّ عدد المنظومات الشمسيّة فيه تفوق العدد الذي ذكره أرخميدس لذرّات الكون قبل الميلاد بثلاثة قرون. كان أرخميدس يقول: إنّ عدد الذرّات المبعثرة في العالم هو عشرة مضروبة في نفسها 63 مرّة. وإنّ الذرّة هي أصغر أجزاء المادّة ولا تقبل التجزئة، ولهذا سمّيت بالجزء الذي لا يتجزّأ.... [16] من هنا، فإنّ أكثـر النظـريّات منطـقيّة حـول عدد العـوالم الكبـيرة والصغيرة هي نظريّة جعفر الصادق، إذ قال: إنّ العوالم الصغيرة والكبيرة لا يعرف عددها إلاّ الله، والمفهوم الآخر لهذه النظريّة هو أنّ الإنسان عاجز عن إحصائها.[17] ولقد سئل جعفر الصادق: متي خُلق العالم ؟ فكان ردّه: أنّ العالم خلقه الله، ولا سبيل إلي تحديد زمانه. وقيل له: أخبرنا تأريخ نشأته. فقال: لا سبيل إلي ذلك ! ... . ... وجملة القول: أنّ الشيعة تعتقد بأنّ جعفراً الصادق كان يعلم بتأريخ ذلك، لكنّه لم يُرد أن يخبر به لئلاّ يضطرب الناس. قال جعـفر الصـادق: إن سألتمـوني مادمتُ حيّاً ماذا كان قبل هذا العالم ؟ قلـتُ: كان العالم موجـوداً. وهذا يدلّ علي أنّه كان يعـتقد بأزليّة العالم.[18] أجل، هذه العلوم المبتكرة هي التي دفعت مؤلّفي الكتاب المذكور إلي القول في فصل مستقلّ: إذا ادّعينا أنّ النهضة العلميّة الاخيرة أوجدها جعـفر الصـادق فقد أصبـنا. وبه صرّح المسـتشـار عبد الحـليم الجـنديّ المصريّ في كتابه « الإمام جعفر الصادق » وذكر الدليل عليه. ذلك الإمام الذي دُهش المتقدّمون والمتأخّرون لمعرفته، وحاروا في ذلك، وثمّنوا منزلته الشامخة الرفيعة قلباً وفكراً وقولاً، وأقرّوا بإمامته المطلقة كحامٍ لدين النبيّ، وسند رصين للكتاب السماويّ. تعاقد أربعة من الزنادقة علي معارضة القرآنروي الشيخ أبو منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسيّ عن هشام بن الحكم أنّه قال: اجتمع ابن أبي العـوجاء، وأبو شاكر الديصـانيّ الزنـديق، وعبد الملـك البصـريّ، وابن المقـفّع عند بيـت الله الحـرام، يستهزئون بالحاجّ ويطعنون بالقرآن. فقال ابن أبي العـوجاء: تعالـوا ننقـض كلّ واحد منّا ربـع القـرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع ! نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلّه. فإنّ في نقض القرآن إبطال نبوّة محمّد، وفي إبطال نبوّته إبطال الإسلام وإثبات ما نحن فيه. فاتّفقوا علي ذلك وافتـرقوا. فلمّا كان من قابل اجتمعـوا عند بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أمّا أنا فمفكّر منذ افترقنا في هذه الآيـة: فَلَمَّا اسْـتَيْـَسُـوا مِنْهُ خَلَصُـوا نَجِـيًّا.[19] فما أقـدر أن أضـمّ إليـها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكّر فيما سواها. فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: يَـ'´أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ و´ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ و وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. [20] ولم أقدر علي الإتيان بمثلها ! فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللَهُ لَفَسَدَتَا.[21] لم أقدر علي الإتيان بمثلها. فقال ابن المقفّع: يا قوم ! إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: وَقِيلَ يَـ'´أَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَيَـ'سَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِـيَ الاْمْرُ وَاسْـتَوَتْ عَلَي الْجُـودِيِّ وَقِيلَ بُعْـدًا لِّلْقَوْمِ الظَّـ'لِمِينَ.[22] لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر علي الإتيان بمثلها. قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مرّ بهم جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، فقال: قُل لَّنءِنِ اجْتَمَعَـتِ الإنـسُ وَالْجِنُّ عَلَي'´ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـ'ذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. [23] فنظر القوم بعضهم إلي بعض، وقالوا: لَئِن كَانَ لِلإسْلاَمِ حَقِيقَةٌ لَمَا انْتَهَـتْ أَمْرُ وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ إلاَّ إلَي جَعْـفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَاللَهِ مَا رَأَيْنَاهُ قَطُّ إلاَّ هِبْنَاهُ وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُنَا لِهَيْبَتِهِ ! [24] ثمّ تفرّقوا مقرّين بالعجز. ونقل الشيخ الراونديّ هذه الرواية باختصار في « الخرائج والجرائح » ، كما رواها عنه الملاّ محسن الفيض الكاشانيّ في « الصافي » ، والملاّ عبد علي ابن جمعة في « نور الثقلين » ، والمجلسيّ في « بحار الانوار » .[25]
الإمام الصادق عليه السلام مؤسّس علم العرفانجعفر الصادق مؤسّس العلوم العرفانيّة في الإسلام جاء في كتاب « مغز متفكّر » أيضاً: أنّ وجـود العـرفان في دروس جعفر الصادق يلفت نظرنا إلي كيانه المعنويّ أكثر فأكثر ويدلّ علي أنّ لذوقه تجلّيات متنوّعة. إنّ مبادي العرفان منذ القرن الثاني الهجريّ الذي ظهر فيه العرفان لم تكن تزيد علي سلوك العارف وقوّة تخيّله وتأمّله. وإذا كان من آثار العرفان علي العارف تغيير أُسلوب حياته والتأثير في خلقه وسلوكه وأدبه، فلسـنا نشـكّ في أنّ جعـفراً الصـادق كان بهذا رائداً وإماماً للغـير. ولكن لا علاقة لهذا السلوك المعنويّ بالعلوم التجريبيّة والمادّيّة في الإسلام. وكان جعـفر الصـادق أوّل عالـم وخبـير في العلـوم التجـريبـيّة فـي الإسلام. وهو أوّل عالـم جمـع بين النظـريّة العلمـيّة والتجـربة العملـيّة، ولم يكن يقبل أو يؤيّد نظريّة في الفيزياء أو الكيمياء إلاّ بعد التحقّق منها بنفسه في التجربة العمليّة والاختبار. وعالم كهذا لا يهتمّ بعلوم نظريّة بحتة اهتمامه بالعلوم التجريبيّة، إذ لا يمكن قياس العرفان بتجربة فيزيائيّة أو كيميائيّة، ولا يتأتّي إلاّ بعد مدّة طويلة من ترويض النفس. وفي التأريخ الإسلاميّ أنّ جعفراً الصادق كان أوّل عالم تحدّث عن الفيزياء والكيمياء، فلا ينبغي أن يُبدي رغبةً في العرفان حسب القاعدة، لكنّه في طليعة العـرفاء والزهّاد، حتّي أنّ الزمخشـريّ المعـروف، بعدما أثني عليه ثناءً كريـماً في كتابه « ربيـع الابـرار » عـدّه من طلائـع العـرفـاء وزعمائهم. وكان العطّار النيسابوريّ صاحب « تذكرة الاولياء » يري أنّ الصادق رائد للعرفاء. ولكن شتّان بين ما سجّله الزمخشريّ، وبين ما أورده العطّار. فقيمة ما كتـبه الاوّل تفوق قيمة ما كتبه الثاني، إذ مضـافاً إلي أنّ بعـض الروايات في « تذكرة الاولياء » غير منظّمة من حيث تأريخ الوقوع،[26] إنّ الكاتب كان مغرماً متيّماً حين الكتابة، وكان عاشقاً للعرفان دون أن ينتبه إلي غلوّه في بعضها. تلامذة صابئة للإمام الصادق عليه السلاممن هنا، نقول: إنّه لم ينتبه إلي غلوّه، ولو كان فطن له لما غَلاَ، إذ كان يعـلم أنّ المبالغـة تقلّـل مـن قيـمة الكلام. وإذا وجـدت المبالغـة إلي التأريخ سبيلاً، فلا يتسنّي اعتباره تأريخاً. ويمكن القول: إنّ القلم في يد الزمخشـريّ قلـم مؤرّخ يتحـكّم فيه العقل والدقّة، أمّا القلـم في يد العطّـار فيتحكّم فيه الحبّ والعشق. وأيّاً كان الامر، فالصادق يعدّ في تأريخ العلوم الإسلاميّة من مؤسّسي علم العرفان أو أحد عرفاء العالم الإسلاميّ. وكان يحضر دروسه ويستفيد من علومه عدد من غير المسلمين أيضاً. فقد جاء في عدد من المصادر أنّ نفراً من الصابئة قرأوا عليه. والصابئة بآرائهم الدينيّة هم وسط بين المسيحيّة واليهوديّة، وكانوا يعدّون من الموحّدين. ومنهم من كان مشركاً، وبعد أن اتّسع نطاق الإسلام تظاهروا بالتوحيد كي يستطيعوا العيش مع المسلمين، إذ نعرف أنّ المسلمين كانوا لا يتعرّضون للموحّدين الذين يسمّونهم « أهل الكتاب » بأذيً. وكان مركزهم « حرّان » غرب بلاد ما بين النهرين ( العراق ) . وكان هذا المركـز يسـمّي قديماً عند الاُوروبّيّين بـ « كارْهْ » بسـكون الحـرفين الثالث والرابع. ومن عادات الذيـن كانوا يعبـدون الله منهم تعمـيد الطفل ( غسله ) بعد ولادته وتسميته. ... ويقول صاحـب كتاب « تذكـرة الاولياء » :[27] كانـت جمـيع الفرق تحضر درس الصادق وتنهل من نميره. ويقول الشـيخ أبو الحسـن الخـرقانـيّ [28] لقد استفاد كلٌّ من المسـلم والكافر من فضل الصادق عليه السلام وعلمه. ولا ندري هل كان تسامح الصادق مع غير المسلم راجعاً إلي عرفانه وزهده، أو أنّه كان ينظر إلي الاُمور بمنظار شامل. وكان يريد الخير والعلم للجميع. ولهذا فهو يسمح لمن حضر درسه بأن يستمع إليه ولو كان غير مسلم. ومن الثابت أنّ بين تلامذته من كان صابئيّاً. وذهب بعض الباحثين الاُوروبّيّين ـ كما في « دائرة المعارف الإسلاميّة » ـ إلي أنّ جابر بن حيّان ـ وهو من أشهر تلاميذ الصادق كان من الصابئة أيضاً. وكان الصابـئة في درس الصـادق أذكيـاء، وكانـوا يبـذلون قصـاري جهدهم لاستيعاب الدروس وفهمها، وتقدّموا في العلم، وبهذا استطاعوا وضع أُسس علميّة ثقافيّة للصابئة. وبموازنة ثقافة الصابئة قبل عهد الصادق وبعده نري فرقاً شاسعاً كالفرق بين النور والظلمة. وكان الصابئة قبل الصادق فئة متخلّفة لا تتجاوز معلوماتها معلومات البدو، حتّي الموحّدين منهم فإنّهم لم يكونوا يعرفون الكثير ولم يكن علمهم يتجاوز علم البدويّ من العرب. لكنّهم أصبحوا بعد الصادق أُولي ثقافة، واشتهر علماء منهم في « الطبّ » ، و « الفيزياء » ، و « الكيمياء » ، و « الهندسة » . ونقرأ أسماءهم اليوم في دوريّات المعارف والمعاجم. وإلي الصادق يُعزي الفضل في أنّ الصابئة الغارقة في الجهل والحرمان قد أصبحت طائفة متقدّمة متمدّنة اشتهر كثير من أبنائها في ميادين العلوم المتباينة، كما انتفع العالم بثقافتهم وعلمهم. وبفضل إشعاع مدرسة الصادق بقيت لهؤلاء القوم شخصيّتهم الخاصّة وكيانهم المستقلّ. القوم الذين لا يعرفون عن أنفسهم شيئاً ويجهلون تأريخهم وليس لهم ثقافة تميّزهم ورجال بارزون يعلونهم، ينقرضون. أمّا الذين لهم تأريخ ويعرفون عن أنفسهم الشيء الكثير ولهم رجال لامعون وثقافة تميّزهم فإنّهم لا ينقرضون. كما أنّ الصابئة لم ينقرضوا، ولهم وجودهم اليوم، وإنّ قلّ عددهم عمّا كان عليه سابقاً. وما زال البعض منهم يعيش في المنطقة نفسها « حرّان » . هناك إجماع بين الشيخ أبي الحسن الخرقانيّ، والزمخشريّ، والعطّار النيسابوريّ ( ومن الطبيعيّ أنّ العطّار كان بعد الخرقانيّ ) علي أنّ جعفراً الصادق هو قدوة العرفاء في التأريخ الإسلاميّ، ولا غرو أن يذكروه بعظيم الإجلال والاحترام والودّ. ويمكن أن نعدّ الشيخ أبا الحسن الخرقانيّ باحثاً تأريخيّاً أيضاً، لأنّه تناول جذر العرفان في مباحثه والتفت إلي أنّ العرفان كان موجوداً في الشرق قبل الإسلام.[29] وبسبب اتّساع علوم الإمام وضخامة مدرسته العلميّة وصفه الشيخ أبو زهرة المصريّ بأنّه أفضل من سقراط، ورآه وحيد عصره وملجأ علماء زمانه في أنواع العلوم وأقسامها. يقول الشيخ محمّد جواد مغنيّة: قال الشيخ أبو زهرة في كتاب « الإمام الصادق » : نشأ جعفر في مهد العلم ومعدنه. نشأ ببيت النبوّة الذي توارث علمها كابراً عن كابر. وعاش في مدينة جدّه رسول الله صلّي الله عليه وآله فتغذّي من ذلك الغرس الطاهر وأشرق في قلبه نور الحكمة بما درس، وما تلقّي، وبما فحص ومحّص. وكان قوّة فكريّة في عصره، فلم يكتف بالدراسات الإسلاميّة وعلوم القرآن والسنّة والعقيدة، بل اتّجه إلي دراسة الكون وأسراره، ثمّ حلّق بعقله الجبّار في سماء الافلاك، ومدار الشمس والقمر والنجوم، كما عني عناية كبري بدراسة النفس الإنسانيّة. وإذا كان التأريخ يقرّر أنّ سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلي الإنسان، فإنّ الإمام الصادق قد درس السماء والارض والإنسان وشرائع الاديان. وكان في علم الإسلام كلّه الإمام الذي يُرجع إليه. فهو أعلم الناس باختلاف الفقهاء، وقوله الفصل والعدل. وقد اعتبره أبو حنيفة أُستاذه في الفقه.[30] مراحل التشيّع وسبب التسمية بالمذهب الجعفريّ ذكر الشـيخ مغنـيّة ثلاث مراحل للتشـيّع وكيفـيّة تبلـوره وتمـذهبه بالمذهب الجعفريّ. الدور الاوّل:قال: والخلاصة أنّه بعد وفاة النبيّ اجتمع الانصار في سقيفتهم يتداولون فيما بينهم، لتكون الخلافة فيهم ولهم دون قريش. فقصدهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة الجرّاح، وتمكّنوا من صرف الخلافة عن الانصار إلي أبي بكر. وكان بنو هاشم في شغل بمصيبتهم وتجهيز الرسول. وعارض قوم من الاصحاب العارفين لحقّ عليّ، وأصرّوا علي أن تكون الخلافة له، ولكن القوّة كانت ضدّهم. فكفّوا عن المعارضة وأمسكوا وأظهروا التسليم، ولكنّهم بثّوا الدعوة لعليّ بين الناس، ونقلوا إلي الاجيال ما سمعوه من نصّ النبيّ علي عليّ. فالدعوة إلي التشيّع في هذا القرن كانت بسيطة ساذجة تماماً كالدعوة الإسلاميّة في هذا العهد لا فلسفيّة فيها، ولا شيء سوي حجج القرآن والسنّة النبويّة التي قبلها المسلمون الاوّلون، وآمنوا بها بدون جدال وتعليل وتأويل، ولا تعمّق في الشروح والتفاصيل، ولم يكن في هذا الدور فقه يعرف بفقه الشيعة، وآخر يعرف بفقه السنّة، ولذا لم يظهر أيّ فرق بين الشيعة وغيرهم إلاّ في مسألة الخلافة، وإمارة المؤمنين. وكان الشيعة في هذا الدور يعرفون بالتقوي والزهد، ومناهضة الظلم والظالمين، ومن هنا لاقوا من حكّام الجور ألواناً من التقتيل والتنكيل. الإمام الصادق عليه السلام يجيب عن الاسئلة العلميّة والشبهات الدور الثانييبدأ الدور الثاني بعصر الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ونعني به آخر الدولة الامويّة، حيث دبّ فيها الضعف، وأوّل دولة العبّاسيّين، حيث تنفّس الشيعة الصعداء بعد الايّام السود التي عاشوها مع الامويّين، وأصبحوا علي شيء من الحرّيّة والامن علي أرواحهم وأموالهم. وأُتيح لائمّة أهل البيت أن ينشروا تعاليمهم في هذه الفرصة والفرجة. فرواها الاُلوف، وتقبّـلها الملايـين إلي أن قام المنصـور، فوضـع في طريقـها العراقيل، وعاد الامر أشدّ وأسـوأ ممّا كان في عهد الامويّـين إبّان قوّتـهم وعظمتهم. ازدحـم الرواة والعـلماء ـ في هذه الفـترة ـ حـول الإمام الصـادق، وقصده الناس من كلّ قطر ينهلون من معينه، ويأخذون عنه شتّي العلوم والمعارف. ونقل الشـيخ مغـنيّة هنا مطالب من « أعيان الشـيعة » للسـيّد محسـن الامين، و « تأريخ الشيعة » للمظفّر. أمّا مطالب « الاعيان » فقد أوردناها في سياق الحديث. وأمّا مطالب المظفّر فقد ذكرها كالآتي: أحسن أيّام مرّت علي الشيعة هي الفترة التي امتزجت من أُخريات دولة بني مروان، وأُوليات دولة بني العبّاس، في اشتغال الامويّين بقتل بعضهم البعض، وفي انتقاض البلاد عليهم، وفي اشتغال بني العبّاس بالحروب مع المروانيّين تارة، واستتاب الامن أُخري. فانتهز الشيعة هذه الفرصة للارتواء من مناهل علم الإمام الصادق، فشدّوا الرحال إليه لاخذ أحكام الدين والمعارف عنه. إتاحة الفرصة للإمام الصادق عليه السلام من أجل بثّ العلمولقـد روي عنه في كلّ علم وفـنّ، كما تشـهد به كتـب الشـيعة، ولم تقتصر الرواية عنه علي الشيعة فحسب، بل روت عنه سائر الفرق كما تفصح بذلك كتب الحديث والرجال.... وصارت الشيعة في غضون هذه الفترة تنشر الحديث، وتجهر بولاء أهل البيت. وربا عددهم في مختلف الجهات. ولمّا قامت دعائم السلطان للمنصور، ضيّق علي الإمام الصادق، وأراد أن يقطع الاصل ليكون به جفاف الفرع.[31] لقد وافق عصر الإمام الصادق حركة فكريّة بلغت الغاية في نشاطها وانتشارها. وظهرت مقالات غريبة، وتيّارات أجنبيّة عن الإسلام تفشّت بين المسلمين، بخاصّة بين شبابهم بالنظر لاتساع رقعة الإسلام، وكثرة الفتـوحات التي فتحـها العـرب، واندماجـهم بالاُمم العـديـدة المتـباينة في ثقافاتها وأديانها. فكان الملحدون يلقون الشبهات، والمرجئة يساندون حكّام الجور، والمغالون يدعـون مع الله إلهاً آخراً، والخـوارج يكفّرون المسـلمين، والمتصوّفة يضلّلون ويراؤون، والمحدِّثون يضعون الاحاديث علي رسول الله، والمؤمنون يريدون إيماناً واعياً. فكان الشغل الشاغل لقادة الدين أن يدافعـوا عنه ويثـبتوا صحّة العقـيدة، ويفـنّدوا مزاعم المبطـلين، ويزيّفوا أقوالهم. وكانت مدرسة الإمام الصادق عليه السلام أوّل من شعر بهذا الخطر، وأسبق من عمل لدرئه ومناهضته، فأخذت علي نفسها الذبّ عن الحقّ وأهله، وحملت لواء الشريعة الإسلاميّة أُصولها وفروعها، وتصدّت لكلّ مهاجم ومعاند، وأعلنت حرباً لا هوادة معها علي الغلاة، [32] وناضلت ضدّ المعتزلة، والمتصوّفة، والمرجئة، والخوارج، والاشاعرة، وصحّحت لعلماء الكلام الذين حاولوا إثبات الدين كثيراً ممّا وقعوا فيه من الاخطاء. وجرت بين هؤلاء من جهة، وبين الإمام الصادق وتلاميذه من جهة مناظرات ومجادلات كان الفوز والنصر فيها لمدرسة الإمام. فأثبت بالبرهان أنّ أقوالهم تبتعد عن الحقّ بمقدار صدودها عن الإسلام وتعاليمه.[33] لذا اتّجهت الانظار إلي المعلّم الاكبر، وتشيّع له المفكّرون، وحفظوا أقواله ودوّنوها، واعتبروها الفصل بين الحقّ والباطل، وبين الاصيل والدخيل تماماً كأقوال جدّه الرسول صلّي الله عليه وآله. وكان من نتيجة هذه الفترة ومرافقتها لتلك الحركات الفكريّة أن عرف المذهب صافياً علي حقيقته في العقائد والتفسير، والاخلاق والفقه وأُصوله، وأخذ التشيّع معناه ومجراه في إطاره العلميّ أُصولاً وفروعاً. وقد كان المذهب في أشدّ الحاجة إلي هذا المتنفّس والمنطلق الذي صادف وجود الإمام، إذ لو أمكنت الفرصة ولم يوجد الإمام، أو وجد ولم تكن الفرصة ممكنة، أو تحقّق الامران ولم تكن تلك الحركات الفكريّة، لم يكن لنا هذا التراث الضخم في شتّي العلوم الإسلاميّة، خصوصاً الفقه، بل لم يكن هذا التقارب بين الشـيعة والسـنّة في أُصول الدين ومبادي التشريع. فالفضل في استقلال المذهب وتركيزه كما هو الآن يعود للإمام الصادق بعد أن أسعفته الظروف، ومهّدت له السبيل. ومن هنا أُطلق علي الشـيعة لفـظ الجعـفريّين، وعلي فقههم الفقه الجعفريّ. نحن نؤمن وندين بأنّ كلّ إمام من الائمّة الاثني عشر عنده علم الكتاب وسنّة الرسول بكاملهما. وأنّه أعلم أهل زمانه علي الإطلاق. ولكن العلم ليس بالسبب الكافي لبثّه ونشره ما لم تواكبه عوامل أُخري. وقد ساعد الإمام الصادقَ علي بثّ علومه ومعارفه العامل الحضاريّ من جهة، وفترة انتقال الحكم من الامويّين إلي العبّاسيّين من جهة ثانية، ووجود رواة ثقات كثيرين يؤمنون بالصادق ويحسنون الاخذ عنه من جهة ثالثة، حتّي ذهب بعض علماء الإماميّة إلي القول بتوثيق الاربعة آلاف راوٍ بدون استثناء. وقد يكون هناك عوامل أُخري خفيت علينا إلي جانب هذه العوامل التي استبانت لنا. وعلي أيّة حال، فإنّ هذه الاسباب مجتمعة لم تتوفّر لاحد من الائمّة غير الإمام الصادق. فقد كان للإمام عليّ حواريّون وأصحاب خلّص كميثم التمّار، وكميل بن زياد، وحجر بن عديّ، ومحمّد بن أبي بكر وغيرهم، ولكنّه مُنيَ في خلافته بالحروب والفتن الداخليّة. ولمّا انتقل إلي جوار ربّه عمل معاوية علي طمس آثاره، وقتل رجاله، والقضاء علي كلّ ما يمتّ إليه بسبب. أمّا عهد الحسنين والإمام السجّاد فهو عهد معاوية، وولده يزيد، وزياد، وابنه عبيد الله، وعبد الملك وشيطانه الحجّاج، عهد مذابح الشيعة ومجازرهم، واستشهاد أئمّتهم، عهد سمّ الحسن، ومذبحة مرج عذراء، ومأساة كربلاء، ووقعة الحَرَّة، وما إليها. أمّا الإمام الباقر فهو المؤسّس الاوّل لمدرسة ولده الصادق. فقد كان له أصحاب وتلاميذ من كبار التابعين وأعيان الفقهاء والمحدّثين يتحلّقون حوله للدرس في مسجد جدّه الرسول، ولكنّ الله سبحانه قد اختاره إليه قبل أن تبلغ هذه المدرسة الغاية في النموّ والازدهار، فقبض في خـلافة هشـام ابن عبد الملك، وهو ابن 57 سنة، فخـلفه ولده الإمام الصادق، وتوالـت علي مدرسته حظوظ وتوفيقات شتّي، حيث ربا عدد تلاميذها علي ما كانوا أيّام أبيه، وأصبح الذين يفدون إليها، ويهتدون بهديها يعدّون بالاُلوف. وبعد الإمام الصادق عادت الظروف إلي قسوتها، والحوادث إلي شدّتها علي الائمّة وشيعتهم، ولكن المذهب كان قد انتشر في كلّ قطر، وعرفت معالمه، وتركّزت أُسسه، وحُفِظَ ودُوّنَ، وعمل الناس به منذ أيّام الصادق، حتّي اليوم، وإلي آخر يوم. وبالتالي، فإنّ مذهب أهل البيت تبلور واتّخذ صورته واضحةً جليّةً، وثبتت أركانه ودعائمه في عهد الإمام الصادق، وأصبح للشيعة فقههم المستقلّ، وعلماؤهم ورواتهم المعروفون، وآراؤهم الخاصّة بالتوحيد والعدل وعصمة الانبياء وشفاعتهم، وبالجبر والاختيار، وما إلي ذلك. وتميّز مذهب التشـيّع عن بقيّة المذاهـب تميّـزاً تامّاً كما تميّـز مذهب المعتزلة عن مذهب الاشاعرة. أمّا أقوال بقيّة الائمّة الاطهار منذ الإمام الكاظم إلي نهاية الغيبة الصغري فهي إمّا تأكيد لاقوال الصادق، وإمّا متمّمة لبعـض أُصول المذهـب أو فروعه. أمّا رجالات الشـيعة في عهد الإمام الصادق وبعده فكان همّهم واهتمامهم حفظ تعاليمه، وتدوينها والدفاع عنها.[34] واليوم لا يرتوي تفسير الشيعة الاثني عشريّة وعلومهم فحسب من نمير الإمام الصـادق عليه السـلام، بل يرتـوي منه أيضـاً فقه السـبعيّة « الإسماعيليّة » وتفسيرهم وعلومهم علي كثرتهم ووفور عددهم. وما كتاب « دعائم الإسلام » للقاضي نعمان التميميّ المغربيّ إلاّ نموذج لذلك الفقه علي أساس روايات الإمام الصادق عليه السلام. لذلك فالمذهب الجعفريّ مذهب مشترك بين الطائفة الشيعيّة الاثني عشريّة الحقّة المحقّة والطائفة السبعيّة الإسماعيليّة التي أقامت مذهبها علي العدد سبعة، إذ ذهبت إلي أنّ إسماعيل ابن الإمام الصادق، الذي توفّي في حياة أبيه، هو إمامها السابع. لهذا تمييزاً بين هاتين الطائفتين أضاف العلماء الاعلام لفظ « الاثني عشريّة » بعد « الجعفريّة » وقالوا: الشيعة الجعفريّة الاثنا عشريّة. ارجاعات [1] ـ تسمّي ذرّة الضوء: الفوتون. [2] ـ مجلة «خواندنيها» العدد 84. السنة 33؛ و«مغز متفكّر جهان شيعه» مقتطفات من ص 348 إلي 353. [3] ـ مجلة «خواندنيها» العدد 85. السنة 33؛ و«مغز متفكّر جهان شيعه» ص 353. [4] ـ مجلة «خواندنيها» العدد 68. السنة 33؛ و«مغز متفكّر جهان شيعه» ص 245 إلي 249. [5] ـ مجلة «خواندنيها» العدد 68. السنة 33؛ و«مغز متفكّر جهان شيعه» ص 251. [6] ـ العدد 23 من كرّاسـة «حقايق علمـي در اسلام» مركـز النشـر في شـركـة فارس وخوزستان المساهمة، المكتب الدينيّ لمعامل سيمان وفارسيت. [7] ـ قال المترجم: الجزيء ( Le Mollecule ) هو أصغر وحدات العنصر أو المركّب وله جميع خواصّ العنصر. ولكنّه يفقد بعضاً من خواصّ المادّة متي قُسّم إلي أقسام أصغر. وتتجـلّي في الجُـزَيء الحالات الثلاث للمادّة، وهي الحالة الجامـدة، والسائلة، والغازيّة. فإذا اقتربت الجزيئات بعضها من بعض تكوّنت الحالة الجامدة. وإذا ابتعدت بفعل الحرارة تكوّنت الحالة السائلة. فإن ازداد ابتعادها تكوّنت الحالة الغازيّة أو البخار. ونذكّر بأنّ الجُزَيء هو غير الذرّة. [8] ـ «مغز متفكّر جهان شيعه» ص 71 و 72. [9] ـ الامواج الإلكتـرونيّة (الكهـرومغناطيسـيّة): هي الامـواج التي بواسطـتها نسـمع أصوات الإذاعة ونري صور الإذاعة المرئيّة (التلفاز)، والعلامات الإذاعيّة للعـوالم الاُخـري (كما ذكرت ذلك المجـلاّت العلمـيّة الاُوروبّيّة والاميـركيّة). وإذا قُدّر للبشـر ذات يـوم أن يتراسلوا ويتحادثـوا مع سكّان الكواكب الاُخـري فأكبر الاحتمالات أنّ ذلك سيتمّ عن طريق الموجات الكهرومغناطيسيّة.(م) [10] ـ «مغز متفكّر جهان شيعه» ص 125 و 126. [11] ـ هذه الكلمة اختصار لعبارة إنجليزيّة هي: Quasi Stellar radio sources ومعناها مصادر راديويّة شبيهة بالنجوم. [12] ـ تجسـيداً لضـخامة المرقب الراديـويّ التلسـكوبيّ، نقول: يبلـغ طول ساحة كرة القدم مائة متر تقريباً. ولذا تكون سعة رصد المرقب المذكور ثلاثة أضعاف الساحة المشار إليه. (م) [13] ـ «مغز متفكّر جهان شيعه» ص 360 إلي 363. [14] ـ «مغز متفكّر جهان شيعه» ص 365. [15] ـ «مغز متفكّر جهان شيعه» ص 366. [16] ـ «مغز متفكّر جهان شيعه» ص 366 و 367. [17] ـ «مغز متفكّر جهان شيعه» ص 368. [18] ـ «مغز متفكّر جهان شيعه» ص 369 و 370. [19] ـ الآية 80. من السورة 12: يوسف. [20] ـ الآية 73. من السورة 22: الحجّ. [21] ـ الآية 22. من السورة 21: الانبياء. [22] ـ الآية 44. من السورة 11: هود. [23] ـ الآية 88. من السورة 17: الإسراء. [24] ـ «الاحتجاج» ج 2. ص 142 و 143. طبعة النجف. [25] ـ «الخرائج» ص 242. الطبعة الرحليّة الحجريّة؛ و«تفسير الصافي» ج 1. ص 988 و 989. طبعة إسلامـيّة، في تفسـير قوله: قل لئن اجتمعـت؛ وتفسـير «نور الثقـلين» ج 3. ص 220 و 221؛ وفي موضـعين من «بحار الانـوار»: الاوّل: كتاب «معجـزات القرآن» ج 6. ص 246. طبعة الكمبانيّ، وج 17. ص 213. الطبعة الحديثة، والثاني: كتاب «الإمام جعفر الصادق عليه السلام» ج 11. ص 137 طبعة الكمبانيّ، وج 47. ص 117. الطبعة الحديثة. [26] ـ يسمّي تنظيم الوقائع من حيث تأريخ الوقوع باللاتينيّة (كرونولوجي) وهو أحد المعايير المهمّة لتحديد صحّة سرد الوقائع التأريخيّة وسقمها. [27] ـ صاحب هذا الكتاب هو فريد الدين محمّد العطّار النيسابوريّ الذي اشتهر بالشيخ فريد الدين. ولد سنة 540 ه واستشهد في هجوم المغول علي نيسابور سنة 618 ه. وجميع كتبه منظومة مثل «منطق الطير»، و«إلهي نامه»، و«أسرار نامه» وغيرها. وله كتاب منثور واحد هو «تذكرة الاولياء» في ترجمة العرفاء والصوفيّة العظام. (م) [28] ـ ولد الشيخ أبو الحسن الخرقانيّ في قرية خرقان من توابع بسطام سنة 352 ه. وأخذ الخرقة من الشيخ أبي العبّاس أحمد بن محمّد القصّاب الآمليّ. توفّي بخرقان ودفن بها سنة 425 ه. وله هذا الرباعي المشهور الذي يظنّ الناس أ نّه لعمر الخيّام النيسابوريّ: اسرار ازل را نه تو داني و نه من و اين حرف معمّا نه تو خواني و نه من اندر پس پرده گفتگوي من و تو چون پرده برافتد نه تو ماني و نه من يقول : «لا أنا ولا أنت نعرف أسرار الازل . ولا أنا ولا أنت نستطيع أن نقرأ هذا اللغز . حوارنا أنا وأنت خلف الستار، وإذا أُزيح الستار لا أنت تبقي ولا أنا». [29] ـ «مغز متفكّر جهان شيعه» ص 79 إلي 83. [30] ـ «الشيعة والتشيّع» ص 252 و 253. مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبنانيّ للطباعة والنشر، بيروت. [31] ـ إلي هنا كلام المظفّر الذي ذكره في «تاريخ الشيعة» ص 43 إلي 45. طبعة مكتبة بصيرتي في قم. [32] ـ قال في الهامش: ولا أُجافي الصواب إذا قلتُ: إنّ الإمام الصادق قرّب مسافة الخلف بين السنّة والشيعة في محاربته الغلاة، وإبطال الكثير من أقوال المعتزلة. [33] ـ تجد الكثير من هذه المناظرات في كتاب «الاحتجاج» للطبرسيّ، و«البحار» للمجلسيّ، وسائر كتب المناقب والفضائل. [34] ـ «الشيعة والتشيّع» ص 113 إلي 118.
|
|
|