بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة الامام / المجلد السابع / القسم الخامس :آیة التبلیغ

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

روايات‌ مشايخ‌ العامّة‌ في‌ آية‌ التبليغ‌

 وفيما يلي‌ عدد من‌ الاحاديث‌ والروايات‌ التي‌ أخرجها مشايخ‌ العامّة‌ وأعلامهم‌ في‌ كتبهم‌.

 فقد أخرج‌ الحافظ‌ ابن‌ عَسَاكِر الشافعي‌ّ بإسناده‌ عن‌ أبي‌ سَعيدٍ الخُدري‌ّ قال‌ نزلت‌ هذه‌ الآية‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ علی رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ يوم‌ غدير خمّ في‌ علی بن‌ أبي‌ طالبٍ. [1]

 وروي‌ الحافظ‌ الحاكم‌ الحَسْكاني‌ّ الحنفي‌ّ في‌ كتاب‌ « شواهد التنزيل‌ » ثماني‌ روايات‌ بثمانية‌ أسناد مختلفة‌ تنتهي‌ إلی‌ أبي‌ هُرَيرة‌، وأبي‌ إسحاق‌ الحميدي‌ّ ( الخدري‌ّ ـ خ‌ )، وابن‌ عبّاس‌، والحبري‌ّ، وقَيْس‌ بن‌ مَاصِر عن‌ عبدالله‌بن‌ أبي‌ أوفي‌، وزياد بن‌ المنذر أبي‌ الجارود، وجابربن‌ عبدالله‌ قالوا: الآية‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ نزلت‌ في‌ علیبن‌ أبي‌ طالب‌ عليه‌ السلام‌ يوم‌ عيد الغدير. وجاء في‌ بعضها أنّ النبي‌ّ رفع‌ يد علی حتّي‌ بان‌ بياض‌ إبطيهما فقال‌: أَلاَ مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعلی مَوْلاَهُ؛ اللَهُمَّ وَالِ مَن‌ وَالاَهُ! وَعَادِ مَن‌ عَادَاهُ. ثمّ قال‌: اللَهُمَّ اشْهَدْ!

 ومضمون‌ الرواية‌ التي‌ ينقلها عن‌ زياد بن‌ المنذر ( أبي‌ الجارود ) يماثل‌ تقريباً مضمون‌ الرواية‌ التي‌ ذكرناها أخيراً عن‌ « تفسير العيّاشي‌ّ » عن‌ أبي‌ الجارود.

 والحديث‌ الذي‌ يرويه‌ عن‌ الاعمش‌، عن‌ عبايه‌ بن‌ ربعي‌، عن‌ ابن‌ عبّاس‌، عن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ هو حديث‌ المعراج‌، إلی‌ أن‌ يقول‌ الله‌: وَإنِّي‌ لَمْ أَبْعَثْ نَبِيَّاً إلاَّ جَعَلْتُ لَهُ وَزِيراً، وَإنَّكَ رَسُولُ اللَهِ وَإنَّ عَلِيّاً وَزِيرُكَ!

 يقول‌ ابن‌ عبّاس‌: فهبط‌ رسول‌ الله‌؛ وكره‌ أن‌ يحدّث‌ الناس‌ بشي‌ء منها، إذ كانوا حديثي‌ عهد بالجاهليّة‌؛ حتّي‌ مضي‌ من‌ ذلك‌ ستّة‌ أيّام‌، فأنزل‌ الله‌: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَي‌ إلیكَ!

 واحتمل‌ النبي‌ّ هذا أيضاً؛ حتّي‌ كان‌ يوم‌ الثامن‌ عشر، فأنزل‌ الله‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ. فأمر رسول‌ الله‌ بلالاً حتّي‌ يؤذّن‌ في‌ الناس‌ أن‌ لا يبقي‌ غداً أحد إلاّ خرج‌ إلی‌ غدير خمّ. فخرج‌ رسول‌الله‌ والناس‌ من‌ الغد، فقال‌: أَيُّهَا النَّاسُ! إنّ اللَهَ أَرْسَلني‌ إلیكُم‌ بِرِسالَة‌، وَإنِّي‌ ضقت‌ بِهَا ذَرعاً مَخافَة‌ أن‌ تتّهموني‌ وتكذّبوني‌، حتّي‌ عاتبني‌ رَبِّي‌ فِيها بِوعيد أَنْزلَهُ علی بَعْدَ وعيد! ثمّ أخذ بِيَدِ علی بن‌ أبي‌ طالب‌ فرفعها حتّي‌ رأي‌ الناس‌ بياض‌ إبطيهما، ثمّ قال‌: أَيُهَا النَّاسُ! اللَهُ مَوْلاَي‌َ وَأَنَا مَوْلاَكُمْ! فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعلی مَوْلاَهُ! اللَهُمَّ وَالِ مَن‌ وَالاَهُ! وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ! وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ! وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ! فأنزل‌ الله‌ هذه‌ الآية‌: إلیوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. [2]

 يقول‌ الحاكم‌ الحَسْكاني‌ّ في‌ ذيل‌ الحديث‌ الذي‌ يرويه‌ عن‌ الحبري‌ّ: وطرق‌ هذا الحديث‌ مستقصاة‌ في‌ كتاب‌ «دُعَاء الهُدَاةِ إلی‌ أَدَاءِ حَقِّ المُوَالاَةِ» حول‌ ولاية‌ علی بن‌ أبي‌ طالب‌، ( من‌ تصنيفي‌ في‌ عشرة‌ أجزاء ).

 ويقول‌ المرحوم‌ السيّد ابن‌ طاووس‌: ومن‌ الذين‌ ألّفوا كتاباً في‌ حديث‌ الغدير: الحاكم‌ الحَسْكاني‌ّ الذي‌ سمّي‌ كتابه‌: «دُعَاءَ الهُدَاةَ إلی‌ أَدَاءِ حَقِّ المُوَالاَةِ». [3]

 يقول‌ جَلاَلُ الدِّين‌ السُّيُوطِي‌ّ الشَّافِعي‌ّ في‌ تفسير « الدرّ المنثور » قوله‌ تعإلی‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إلیكَ؛ الآية‌ أخرج‌ أبو الشيخ‌ عن‌ الحَسَن‌ أنّ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ ] وآله‌ [ وسلّم‌ قال‌: إنّ الله‌ بعثني‌ برسالة‌ فضقت‌ بها ذرعاً؛ وعرفت‌ أنّ الناس‌ مكذّبي‌، فوعدني‌ لاُبلّغنّ، أو ليعذّبني‌، فأنزل‌ ] هذه‌ الآية‌ [ يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ.

 وأخرج‌ عبد بن‌ حميد، وابن‌ جرير، وابن‌ أبي‌ حاتم‌، وأبو الشيخ‌ ] أيضاً [ عن‌ مجاهد قال‌: لمّا نزلت‌: بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ، قال‌ رسول‌الله‌: يا ربّ! إنّما أنا واحد! كيف‌ أصنع‌ يجتمع‌ علی الناس‌؟ فنزلت‌: وَإن‌ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رَسَالَتَهُ!

 وأخرج‌ ابن‌ أبي‌ حاتم‌، وابن‌ مردويه‌، وابن‌ عساكر، عن‌ أبي‌ سعيد الخُدري‌ّ أنّ الآية‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ نزلت‌ علی رسول‌الله‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ ] وآله‌ [ وسلّم‌ في‌ علی بن‌ أبي‌ طالب‌ يوم‌ غدير خمّ.

 وأخرج‌ ابن‌ مردويه‌ عن‌ ابن‌ مَسْعُود، قال‌: كنّا نقرأ علی عهد رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ إنَّ عَلِيَّاً مَوْلَي‌ المُؤْمِنِينَ. وَإن‌ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رَسَالَتَهُ و وَاللَهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. [4]

 يقول‌ الإمام الفخر الرازي‌ّ الشافعي‌ّ في‌ « التفسير الكبير »: والوجه‌ العاشر من‌ الوجوه‌ الواردة‌ في‌ شأن‌ نزول‌ آية‌ التبيلغ‌ هو أنـّها « نزلت‌ الآية‌ في‌ فضل‌ علیبن‌ أبي‌ طالب‌ عليه‌ السلام‌؛ ولمّا نزلت‌ هذه‌ الآية‌، أخذ ] رسول‌الله‌ [ بِيَدِ علی وقال‌: مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعلی مَوْلاَهُ! اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ. ولمّا لقيه‌ عمر رضي‌ الله‌ عنه‌ قال‌: هَنِيئاً لكَ يَاابْنَ أَبي‌ طَالِبٍ! أَصْبَحْتَ مَوْلاَي‌َ وَمَوْلَي‌ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ.

 وهو قول‌ ابن‌ عبّاس‌، والبراء بن‌ عازب‌، ومحمّد بن‌ علی. [5]

 ويقول‌ نظام‌ الدين‌ القمّي‌ّ النيسابوري‌ّ في‌ تفسيره‌: ثمّ أمرالله‌ رسوله‌ أن‌ لاينظر إلی‌ قلّة‌ المقتصدين‌، وكثرة‌ المعاندين‌، ولا يتخوّف‌ مكروههم‌، فقال‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ. وعن‌ أبي‌ سعيد الخُدري‌ّ أنّ هذه‌ الآية‌ نزلت‌ في‌ فضل‌ علیبن‌ أبي‌ طالب‌ رضي‌ الله‌ عنه‌ وكرّم‌ الله‌ وَجْهَه‌ يوم‌ غدير خمّ.

 فأخذ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ بيده‌ وقال‌: مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا علی مَوْلاَهُ. اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ؛ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ. فلقيه‌ عمر وقال‌: هنِيئاً لَكَ يَا ابْنَ أبي‌ طَالِبٍ! أَصْبَحْتَ مَوْلاَي‌َ وَمَوْلَي‌ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ! وهو قول‌ عبدالله‌بن‌ عبّاس‌، والبراء بن‌ عازب‌، ومحمّد بن‌ علی. [6]

 وجاء في‌ هذه‌ الرواية‌ عبارة‌ فَهَذَا علی مَوْلاَهُ بنحو خاصّ؛ و هَذَا التي‌ تشير إلی‌ شخص‌ خارجي‌ّ تدلّ علی التأكيد في‌ التعيّن‌ والتشخّص‌. وروي‌ عن‌ أبي‌ إسحاق‌ الثعلبي‌ّ النيسابوري‌ّ في‌ تفسيره‌: « الكَشْف‌ والبيان‌ » روايتان‌: الاُولي‌: عن‌ أبي‌ جعفر محمّد بن‌ علی الباقر عليه‌ السلام‌، وفيها أنّ معني‌ بَلِّغْ هو: بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ فِي‌ فَضْلِ علی. ولمّا نزلت‌ هذه‌ الآية‌، أخذ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ بِيَدِ علی وقال‌: مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعلی مَوْلاَهُ.

 الثانية‌: بسنده‌ عن‌ ابن‌ عبّاس‌ في‌ قوله‌ تعإلی‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ ـ الآية‌؛ قال‌: نزلت‌ هذه‌ الآية‌ في‌ علی. أمر الله‌ نبيّه‌ أن‌ يبلّغ‌ ولاية‌ علی؛ فأخذ رسول‌ الله‌ يد علی وقال‌: مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعلی مَوْلاَهُ، اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ. وقد نقل‌ صاحب‌ « الغدير » في‌ ج‌1، ص‌217 و218 هذين‌ الحديثين‌ في‌ كتابه‌ عن‌ الثعلبي‌ّ. وذكر مصادرهما كلّ من‌ ابن‌ البطريق‌ في‌ « العُمدة‌ » ص‌ 49، والسيّد ابن‌ طاووس‌ في‌ « الطرائف‌ »، والاربلي‌ّ في‌ « كشف‌ الغمّة‌ » ص‌ 94، وذكر الطبرسي‌ّ في‌ « مجمع‌ البيان‌ » ج‌ 2 ص‌ 223 الحديث‌ الثاني‌ عن‌ تفسير « الكشف‌ والبيان‌ »؛ والحديث‌ الاوّل‌ عن‌ ابن‌ شهرآشوب‌ في‌ « المناقب‌ » ج‌ 1 ص‌ 526. ونقل‌ أُستاذنا العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ رضوان‌ الله‌ عليه‌ ثلاث‌ روايات‌ عن‌ « تفسير الثعلبي‌ّ »: اثنتين‌ منها عن‌ الإمام الباقر عليه‌ السلام‌، وواحدة‌ عن‌ ابن‌ عبّاس‌. « الميزان‌ »، ج‌6، ص‌56 ).

 وذكر شهاب‌ الدين‌ السيّد محمود الآلوسي‌ّ الشافعي‌ّ البغدادي‌ّ في‌ تفسيره‌ قائلاً: زعمت‌ الشيعة‌ أنّ المراد بـ « ما أُنزل‌ إلیك‌ » خلافة‌ علی كرّم‌الله‌ وجهه‌. فقد رووا بأسانيدهم‌ عن‌ أبي‌ جعفر وأبي‌ عبدالله‌ رضي‌ الله‌ عنهما أنّ الله‌ تبارك‌ وتعإلی‌ أوحي‌ إلی‌ نبيّه‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ ] وآله‌ [ وسلّم‌ أن‌ يستخلف‌ عليّاً كرّم‌ الله‌ وجهه‌؛ فكان‌ رسول‌ الله‌ يخاف‌ أن‌ يشقّ ذلك‌ علی جماعة‌ من‌ أصحابه‌. فأنزل‌ الله‌ تعإلی‌ هذه‌ الآية‌ تشجيعاً له‌ بما أمره‌ بأدائه‌.

 وعن‌ ابن‌ عبّاس‌ رضي‌ الله‌ تعإلی‌ عنهما قال‌: نزلت‌ هذه‌ الآية‌ في‌ علی كرّم‌ الله‌ وجهه‌ حيث‌ أمر سبحانه‌ نبيّه‌ أن‌ أن‌ يخبر النّاس‌ بولاية‌ علی، فتخوّف‌ رسول‌ الله‌ أن‌ يقولوا: حابي‌ ابن‌ عمّه‌؛ وأن‌ يطعنوا في‌ ذلك‌ عليه‌. فأوحي‌ الله‌ تعإلی‌ إلیه‌ هذه‌ الآية‌؛ فقام‌ بولايته‌ يوم‌ غدير خمّ، وأخذ بيده‌، وقال‌: مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعلی مَوْلاَهُ، اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ.

 وأخرج‌ السيوطي‌ّ في‌ « الدرُّ المنثور » عن‌ أبي‌ حاتم‌، وابن‌ مردويه‌، وابن‌ عساكر راوين‌ عن‌ أبي‌ سعيد الخدري‌ّ قال‌: نزلت‌ هذه‌ الآية‌ علی رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ ] وآله‌ [ وسلّم‌ يوم‌ غدير خُمّ في‌ علی بن‌ أبي‌ طالب‌ كرّم‌ الله‌ وجهه‌.

 وأخرج‌ ابن‌ مردويه‌ عن‌ ابن‌ مسعود قال‌: كنّا نقرأ علی عهد رسول‌ الله‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ (إِنَّ عَلِيَّاً وَلِي‌ُّ المُؤْمِنِينَ) وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رَسَالَتَهُ.[7]

 وأخرج‌ شيخ‌ الإسلام‌ إبراهيم‌ بن‌ محمّد بن‌ مؤيِّد الحَمُّوئي‌ّ عن‌ مشايخه‌ الاربعة‌: برهان‌ الدين‌ أبي‌ الوفاء إبراهيم‌ بن‌ عُمَر بالإذن‌ في‌ الرواية‌؛ ومجدالدين‌ عبدالله‌ بن‌ محمود بن‌ مودود الموصلي‌ّ، بَدرالدين‌ محمّدبن‌ محمّدبن‌ أسعد البخاري‌ّ بالإجازة‌ في‌ الرواية‌، وعبدالحافظ‌بن‌ بَدْران‌ بالقراءة‌ عليه‌، ذلك‌ بإسنادهم‌ عن‌ أبي‌ هريرة‌ قال‌: قال‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ ] وآله‌ [ وسلّم‌: سمعت‌ في‌ الليلة‌ التي‌ أسري‌ بي‌ إلی‌ السماء فيها نداءً من‌ تحت‌ العرش‌: إِنَّ عَلِيَّاً رَايَةُ الهُدَي‌، وَحَبِيبُ مَنْ يُؤْمِنُ بِي‌؛ بَلِّغْ عَلِيَّاً (ذَلِكَ). فَلَمَّا نَزَلَ النَّبِي‌ُّ أُنْسِي‌َ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَهُ جَلَّ وَعَلاَ عَلَيهِ: «يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رَسَالَتَهُ و وَاللَهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وَاللَهُ لاَ يَهْدِي‌ الْقَوْمَ الْكَـ'فِرِينَ».[8]

 وقال‌ الشَّيخُ نُور الدِّينِ علی بْنُ مُحَمّد بْن‌ صَبَّاغ‌ المَالِكِي‌ّ: قال‌ الإمام أبو الحسن‌ الواحدي‌ّ في‌ كتابه‌ المسمّي‌ بـ « أسباب‌ النزول‌ »: يرفعه‌ بسنده‌ إلی‌ أبي‌ سعيد الخُدري‌ّ رضي‌ الله‌ عنه‌ قال‌: نزلت‌ الآية‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ يوم‌ غدير خمّ في‌ علی بن‌ أبي‌ طالب‌.

 ثمّ قال‌: قال‌ الشيخ‌ محيي‌ الدين‌ النووي‌ّ: غدير خُمّ ـبضمّ الخاء المعجمة‌ وتشديد الميم‌ مع‌ التنوين‌ـ اسم‌ لغَيْضَة‌ علی ثلاثة‌ أميال‌ من‌ الجحفة‌. عندها غدير مشهور يضاف‌ إلی‌ الغَيضَة‌ فيقال‌ ] له‌ [: غدير خُمّ. [9]

 وقال‌ مُحَمّد بن‌ طلحة‌ الشافعي‌ّ: زيادة‌ تقرير: نقل‌ الإمام أبو الحسن‌ علی الواحدي‌ّ في‌ كتابه‌ المسمّي‌ بـ « أسباب‌ النزول‌ » يرفعه‌ بسنده‌ إلی‌ أبي‌ سعيد الخُدري‌ّ رضي‌ الله‌ عنه‌ قال‌: نزلت‌ هذه‌ الآية‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ نزلت‌ في‌ علی بن‌ أبي‌ طالب‌ يوم‌ غدير خُمّ. [10]

 وروي‌ أبو الحسن‌ الواحدي‌ّ النيسابوري‌ّ بسنده‌ عن‌ الاعمش‌ وأبي‌ جحاف‌، عن‌ عطيّة‌، عن‌ أبي‌ سعيد الخدري‌ّ أنّ الآية‌: يَـ'´أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ نزلت‌ في‌ علی بن‌ أبي‌ طالب‌ يوم‌ غديرُ خمّ.[11]

 وقال‌ الشيخ‌ سليمان‌ القندوزي‌ّ الحنفي‌ّ في‌ تفسير يَـ'´أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ: أخرج‌ الثعلبي‌ّ عن‌ أبي‌ صالح‌، عن‌ ابن‌ عبّاس‌، وعن‌ محمّدبن‌ علی الباقر رضي‌ّ الله‌ عنهما أنـّهما قالا: نزلت‌ هذه‌ الآية‌ في‌ علی ] بن‌ أبي‌ طالب‌ [.

 وكذلك‌ الحَمُّوئي‌ّ في‌ « فرائد السِّمْطين‌ » أخرجه‌ عن‌ أبي‌ هريرة‌.

 وأيضاً المالكي‌ّ أخرج‌ في‌ « الفصول‌ المهمّة‌ » عن‌ أبي‌ سعيد الخُدري‌ّ قال‌: نزلت‌ هذه‌ الآية‌ في‌ علی في‌ غدير خُمّ. هكذا قال‌ الشيخ‌ محيي‌ الدِّين‌ النووي‌ّ. [12]

 وقال‌ السيّد علی بن‌ شهاب‌ الهمداني‌ّ في‌ المودّة‌ الخامسة‌ من‌ كتابه‌: «مَوَدَّةُ القُرْبَي‌»: عن‌ البراء بن‌ عازب‌ رضي‌ الله‌ عنه‌ قال‌: أقبلت‌ مع‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ في‌ حجّة‌ الوداع‌. فلمّا كان‌ بغدير خُمّ، نودي‌: الصَّلاَةَ جَامِعَةً. فجلس‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ تحت‌ شجرة‌ وأخذ بِيَدِ علی وقال‌: ألَسْتُ أَوْلَي‌ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟!

 قالوا: بَلَي‌ يا رَسُولَ اللَهِ! فقال‌: مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعلی مَوْلاَهُ؛ ثمّ قال‌: اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ! وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ. فلقيه‌ عمر بن‌ الخطّاب‌ فقال‌: هَنِيئاً لَكَ يَا علی بْنَ أَبي‌ طَالِبٍ أَصْبَحْتَ مَوْلَي‌ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ. وفيه‌ نزلت‌: يَـ'´أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ ـ الآية‌. [13]

 وذكر مير خواند: غياث‌ الدين‌ بن‌ همام‌ في‌ « حبيب‌ السير » عن‌ « كشف‌ الغمّة‌ » قائلاً: لمّا بلغ‌ شفيع‌ الاُمّة‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ غدير خمّ، وعُرف‌ أنّ الناس‌ سيفترقون‌ عن‌ موكبه‌ المبارك‌ بعد عبور المكان‌، ويذهبون‌ إلی‌ أوطانهم‌، واقتضت‌ الإرادة‌ الازليّة‌ أن‌ يطّلع‌ الناس‌ كلّهم‌ علی هذا الامر، نزلت‌ الآية‌: يَـ'´أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ في‌ استخلاف‌ علی والنصّ علی إمامته‌ و إِن‌ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رَسَالَتَهُ و وَاللَهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.[14]

 وقال‌ الشيخ‌ محمَّد عَبْدهُ المصري‌ّ رئيس‌ جامعة‌ الازهر: روي‌ ابن‌ أبي‌ حاتم‌، وابن‌ مردويه‌، وابن‌ عساكر عن‌ أبي‌ سعيد الخُدري‌ّ أنّ الآية‌: يَـ'´أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ نزلت‌ يوم‌ غدير خُمّ في‌ علیبنِ أبي‌ طالبٍ. [15]

 فهذا كلّه‌ بحث‌ إجمإلی‌ّ يدور حول‌ شأن‌ نزول‌ آية‌ التبليغ‌ عن‌ مصادر الشيعة‌ والعامّة‌؛ وقام‌ العلاّمة‌ الاميني‌ّ رحمة‌ الله‌ عليه‌ بالبحث‌، عن‌ مصادر العامّة‌ فقط‌. وتعرّض‌ إلی‌ شأن‌ نزول‌ الآية‌ المذكورة‌ بالتفصيل‌ نقلاً عن‌ ثلاثين‌ كتاباً معتبراً لمشايخ‌ العامّة‌ وحفّاظهم‌. [16]

 الرجوع الي الفهرس

بحث‌ في‌ مفاد آية‌ التبليغ‌

 وأمّا البحث‌ في‌ دلالة‌ آية‌ التبليغ‌، وارتباطها بقضيّة‌ الولاية‌، وبيان‌ مفادها المعبَّر عنه‌ بـ « فقه‌ الآية‌ » فهو كما يلي‌:

 تضمّ الآية‌ وجوهاً أدبيّة‌ تميّزها عن‌ غيرها، وهي‌:

 الاوّل‌: جاء الخطاب‌ إلی‌ رسول‌ الله‌ بعبارة‌: يَـ'´أَيُّهَا الرَّسُولُ أي‌ المُرْسَلْ ومُبلِّغ‌ الرسالة‌. فهي‌ قد خاطبته‌ بصفة‌ الرسالة‌؛ ولم‌يخاطَب‌ رسول‌الله‌ بهذه‌ الصفة‌ في‌ المواضع‌ الاُخري‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌ غير هذا الموضع‌. وموضع‌ آخر في‌ القرآن‌ في‌ الآية‌ 41 من‌ نفس‌ السورة‌ ( أي‌ سورة‌ المائدة‌ ) خوطب‌ النبي‌ّ فيه‌ بصفة‌ الرسالة‌، وهو قوله‌:

 يَـ'´أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي‌ الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَ ' هِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن‌ قُلُوبُهُمْ.

 بَيْدَ أَنّ مُخاطبته‌ بالنبوّة‌ من‌ خلال‌ قوله‌: يَـ'´أَيُّهَا النَّبِيُّ ( أيّها المنبّأ، المطّلع‌ علی عوالم‌ الغيب‌، إذ ذكره‌ بصفة‌ النَّبَأ والإنبَاء، وفي‌ ذلك‌ دلالة‌ علی مجرّد الاطّلاع‌ علی عالم‌ الغيب‌ ونزول‌ الوحي‌ بواسطة‌ جبرئيل‌) جاءت‌ في‌ ثلاثة‌ عشر موضعاً من‌ القرآن‌.

 ولمّا كان‌ الامر بالتبليغ‌ في‌ قوله‌: بَلِّغْ أمراً بإبلاغ‌ حكم‌ نازل‌ من‌ الله‌، فلهذا من‌ المناسب‌ أن‌ يخاطب‌ بكلمة‌ « رسول‌ » ليكون‌ مماثلاً للدليل‌ علی وجوب‌ تبليغ‌ مضمون‌ الآية‌، حتّي‌ ينبّه‌ نبيّه‌ علی أنّ مهمّة‌ رسول‌ الله‌ تبليغ‌ رسالته‌؛ وفقاً لما اضطلع‌ به‌ من‌ أعباء الرسالة‌ وتعهّد بالصمود أمام‌ كلّ ما يعتريها من‌ مشاقّ ومتاعب‌.

 الثاني‌: كلمة‌ بَلِّغْ التي‌ تحمل‌ الامر بالتبليغ‌، والتبليغ‌ عبارة‌ من‌ إيصال‌ الحكم‌ وإبلاغه‌ وإلقاء الحجّة‌، وهي‌ غير كلمة‌ قُلْ واقْرَأْ اتْلُ واذْكُرْ وذَكِّرْ وأمثالها التي‌ تدلّ علی القول‌ والقراءة‌ والتذكير. كما جاء في‌ الآيتين‌ 38 و39 من‌ السورة‌ 33: الاحزاب‌. مَا كَانَ علی النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَهُ لَهُ سُنَّةَ اللَهِ فِي‌ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَهِ قَدَرًا مَقْدُورًا* الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـ'لَـ'تِ اللَهِ وَيَخْشَوْنَهُ و وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَهَ وَكَفَي‌' بِاللَهِ حَسِيبًا.

 ومن‌ هذا المنطلق‌ فإنّ شأن‌ الرسالة‌ في‌ القرآن‌ هو الإبلاغ‌، وقد جاء ذلك‌ في‌ الآية‌ 99، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌، مَا علی الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ.

 الثالث‌: لم‌ يرد في‌ قوله‌: مَآ أُنزِلَ إلیكَ اسم‌ الشي‌ء النازل‌ وتحديده‌، بل‌ ورد القول‌ بالصفة‌ ليدلّ علی أهميّة‌ الامر وعظمته‌. ولمّا كان‌ مُرسَلاً من‌ الله‌، فليس‌ للنبي‌ّ حقّ في‌ تأخيره‌. وأيضاً نري‌ أنّ للنبي‌ّ عذراً في‌ بيانه‌ للناس‌.

 الرابع‌: القيد مِن‌ رَّبِّكَ يدلّ علی أنّ الله‌ رحيم‌ بك‌ وهو الكريم‌ والخالق‌ والمدبّر والهادي‌ لك‌، وكلّ شي‌ء يعود لك‌ تحت‌ قدرته‌. وقد أرسل‌ لك‌ هذا، فكيف‌ يكون‌ هناك‌ ترديد وتأمّل‌ وتروٍّ وتأخير؟

 الخامس‌: قوله‌: وَإِن‌ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ و وجاء في‌ بعض‌ القراءات‌: فَمَا بَلَّغْتَ رَسَالاَتِهِ يدلّ علی أهميّة‌ الحكم‌ المذكور، ومدي‌ التأكيد عليه‌. إذ هو علی درجة‌ من‌ الاهميّة‌ بحيث‌ لو لم‌ تقم‌ به‌ وحده‌، فكأنـّك‌ لم‌ تقم‌ بأي‌ّ رسالة‌ من‌ رسالات‌ الله‌ التي‌ حملتها وتعهّدت‌ بالقيام‌ بها!

 وجاءت‌ هذه‌ الفقرة‌ وهي‌ تحمل‌ طابع‌ التهديد لتُشعر بأهميّة‌ هذا الحكم‌ إلی‌ الحدّ الذي‌ لو لم‌ يصل‌ إلی‌ الناس‌، ولم‌ يُراعَ حقّ المراعاة‌، فكأنّ أي‌ّ حكم‌ من‌ أحكام‌ الله‌ لم‌ يصل‌ إلی‌ الناس‌ من‌ قبل‌ الرسول‌، وكأنّ أي‌ّ جزء من‌ أجزاء الدين‌ لم‌ يوضع‌ في‌ موضعه‌.

 ولابدّ أن‌ نعلم‌ بأنّ هذه‌ الجملة‌ شرطيّة‌. وهي‌ ليست‌ كسائر الجمل‌ الشرطيّة‌ المتداولة‌. إذ تستعمل‌ الجملة‌ الشرطيّة‌ عادة‌ عندما يكون‌ تحقّقها مجهولاً؛ ولذلك‌ فالجملة‌ الجزائيّة‌ تترتّب‌ علی تحقّق‌ الجملة‌ الشرطيّة‌. بَيدَ أنّ الملحوظ‌ هنا هو أنّ مقام‌ النبي‌ّ الاكرم‌ أشرف‌ وأرفع‌ وأجلّ من‌ أن‌ يحتمل‌ الله‌ منه‌ تبليغ‌ الحكم‌ وعدم‌ تبليغه‌، وهو القائل‌ جلّ من‌ قائل‌: اللَهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رَسَالَتَهُ. [17]

 فعلی هذا نري‌ أنّ هذه‌ الجملة‌ الشرطيّة‌ مفادها ومؤدّاها التهديد كما يبدو من‌ ملامحها؛ بَيدَ أنـّها في‌ الحقيقة‌ إعلان‌ لغير رسول‌ الله‌ يبيّن‌ لنا مدي‌ الاهميّة‌ التي‌ يتّسم‌ بها هذا الامر النازل‌، وعذر رسول‌ الله‌ في‌ تبليغه‌.

 السادس‌: قوله‌: وَاللَهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَهَ لاَ يَهْدِي‌ الْقَوْمَ الْكَـ'فِرِينَ. ويدلّ الشقّ الاوّل‌ من‌ الآية‌ علی أنّ النبي‌ّ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ كان‌ قلقاً خائفاً من‌ الناس‌ في‌ تبليغ‌ هذا الحكم‌؛ أمّا الشقّ الثاني‌ منها فهو بمنزلة‌ الجملة‌ التعليليّة‌ للجملة‌ الاُولي‌. ذلك‌ أنّ الله‌ يلجم‌ كافّة‌ الفئات‌ المعارضة‌، ولا يمكّنها من‌ بلوغ‌ الاسباب‌ التي‌ تستطيع‌ من‌ خلالها أن‌ تنازع‌ النبي‌ّ وتخاصمه‌، وتنهض‌ للإطاحة‌ بدينه‌ ونظامه‌. فيعطّل‌ تلك‌ الاسباب‌ ويبطلها. وبالتإلی‌ فإنّها لن‌ تفلح‌ في‌ منازعته‌ علی هذا الامر.

 ونري‌ هنا أوّلاً: أنّ الآية‌ ذكرت‌ العصمة‌ من‌ الناس‌ بصورة‌ مطلقةً، ولم‌يبيّن‌ لنا طبيعة‌ الانتهاكات‌ التي‌ يعصم‌ الله‌ نبيّه‌ من‌ مقترفيها، كإيذائه‌ جسديّاً بالقتل‌ أو السمّ، أو القتل‌ غيلة‌ ( الفتك‌ والاغتيال‌ )، أو النيل‌ من‌ سمعته‌ بالسبّ واللعن‌ والشتم‌ والافتراء والاتِّهام‌؛ أو مناوءته‌ بأسإلیب‌ أُخري‌ كتشويه‌ سمعة‌ النبوّة‌ وحرف‌ خطّها بالمكر والخدعة‌ والكيد والحيلة‌؛ وبصورة‌ عامّة‌، فإنّ الآية‌ سكتت‌ عن‌ بيان‌ ذلك‌. وهذا يفيد التعميم‌، إذ إنّ الله‌ يعصمه‌ من‌ كلّ ما شأنه‌ مسّ الدين‌ والإضرار به‌. وما يدلّ عليه‌ سياق‌ الآية‌ حتماً هو حدوث‌ فتنة‌ تؤدّي‌ إلی‌ انقلاب‌ أمر النبوّة‌ علی النبي‌ّ، وتضيّع‌ جهوده‌ في‌ رفع‌ لواء الدين‌ وإعلاء كلمة‌ التوحيد والعدل‌، وتعبيد الناس‌ لربّ العالمين‌.

 ثانياً: ذكرت‌ الآية‌ كلمة‌ « الناس‌ » مطلقة‌ لتدلّ علی أنّ سوادهم‌ يضمّ المؤمن‌ والمنافق‌ والذين‌ في‌ قلوبهم‌ مرض‌، فهم‌ خليط‌ لا تمييز بين‌ أجزائه‌.

 وعلی هذا، فلو قُدّر أن‌ يكون‌ هناك‌ خوف‌ من‌ الناس‌، فينبغي‌ أن‌ يُخاف‌ من‌ عامّتهم‌؛ والجملة‌ التعليليّة‌: إِنَّ اللَهَ لاَ يَهْدِي‌ الْقَوْمَ الْكَـ'فِرِينَ تشعر بهذه‌ النكتة‌.

 ثالثاً: ليس‌ المراد بالكافرين‌ هنا المشركين‌ أو إلیهود والنصاري‌، بل‌ الكفر هنا بمعناه‌ العامّ المتمثّل‌ بإخفاء الحقّ والتعتيم‌ عليه‌. كما جاء في‌ الآية‌ 97 من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَـ'لَمِينَ. إذ تدلّ علی هذا الضرب‌ من‌ ضروب‌ الكفر بالمعني‌ العامّ والمطلق‌؛ وكما سنلاحظ‌ أنّ المراد من‌ الكفر ليس‌ الاستكبار وإنكار أصل‌ الدين‌ الذي‌ يتحقّق‌ بالامتناع‌ عن‌ أداء الشهادتين‌؛ ذلك‌ لانّ الكفر بهذا المعني‌ لاينسجم‌ مع‌ مورد الآية‌، إلاّ أن‌ نقول‌ بأنّ المراد من‌ قوله‌: مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ هو مجموعة‌ الاحكام‌ والتعإلیم‌ الدينيّة‌، وهو مجانب‌ للصواب‌ كما سنقف‌ عليه‌.

 رابعاً: المراد من‌ عدم‌ هداية‌ الله‌، هو عدم‌ هدايتهم‌ في‌ كيدهم‌ ومكرهم‌؛ بحيث‌ إنّهم‌ لايظفرون‌ ببلوغ‌ أهدافهم‌ من‌ خلال‌ التشبّث‌ بالاسباب‌ الدنيويّة‌ الجارية‌؛ ولا تتحقّق‌ آمالهم‌ في‌ الشرّ والفساد، كما جاء في‌ الآية‌ 6، من‌ السورة‌ 63: المنافقون‌: إِنَّ اللَهَ لاَ يَهْدِي‌ الْقَوْمَ الْفَـ'سِقِينَ.

 و أمّا القول‌ بأنّ المراد من‌ عدم‌ الهداية‌، هو عدم‌ هدايتهم‌ إلی‌ الإيمان‌، فهو غير صحيح‌؛ لانـّه‌ يتنافي‌ مع‌ أصل‌ الدعوة‌ النبويّة‌ وتبليغها؛ إذ لامعني‌ أن‌ يقول‌ الله‌: يا نبيّنا! أُدع‌ الكافرين‌ إلی‌ الإسلام‌ وحكم‌ الله‌؛ وأنا لاأهديهم‌؛ ولا أدلّهم‌ علی سبيل‌ الإيمان‌ إلاّ عند إلقاء الحجّة‌!

 يضاف‌ إلی‌ ذلك‌ أنـّنا نري‌ رأي‌ العين‌ أنّ الله‌ لا يزال‌ يهدي‌ الكافرين‌؛ فيدخلون‌ في‌ الإسلام‌ فوجاً فوجاً، وقد وعد سبحانه‌ بهدايتهم‌، فقال‌ عزّ من‌ قائل‌: وَاللَهُ يَهْدِي‌ مَنْ يَشَاءُ إلی‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ( الآية‌ 213، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌ ).

 فاستبان‌ لنا ممّا تقدّم‌ أنّ المراد من‌ عدم‌ هداية‌ الكافرين‌ هو أنّ الله‌ يضيّق‌ عليهم‌ الخناق‌ ولايدعهم‌ أحراراً في‌ أداء مهامّهم‌ وتحقيق‌ مقاصدهم‌. ولايطلق‌ لهم‌ العنان‌ في‌ إطفاء نور الله‌ وتعطيل‌ أحكامه‌ النازلة‌ من‌ لدنه‌ باختدامهم‌ الاسباب‌ الدنيويّة‌ العامّة‌. ذلك‌ لانّ الكافرين‌ والظالمين‌ والفاسقين‌، بما يضمرون‌ من‌ سوء السريرة‌ وخبث‌ النيّة‌، يلجأون‌ إلی‌ أسباب‌ يبتغون‌ من‌ ورائها تغيير المسار الربّاني‌ّ، فينظرون‌ من‌ خلال‌ ذلك‌ بتحقيق‌ أمانيّهم‌ الباطلة‌ المتمثّلة‌ بمحو الدين‌ وكلمة‌ الحقّ. وفي‌ هذه‌ الحالة‌، نري‌ أنّ الله‌ سبحانه‌ يوصد الطريق‌ الذي‌ تجري‌ فيه‌ الاسباب‌ الصوريّة‌، فيحول‌ بينهم‌ وبين‌ الوصول‌ إلی‌ غاياتهم‌ ومسبّباتها. ذلك‌ لانّ سببيّة‌ الاسباب‌ بيده‌ جلّت‌ قدرته‌؛ فلن‌ تغلبه‌ الاسباب‌ التي‌ خلقها بيده‌ أبداً أبداً، وحاشا له‌ أن‌ يكون‌ مقهوراً ومغلوباً بها.

 علماً أن‌ هؤلاء قد يبلغون‌ أهدافهم‌ يوماً، ويصلون‌ إلی‌ ما يطمحون‌ إلیه‌ في‌ مدّة‌ قصيرة‌ ويستعلون‌ بخيلائهم‌ ويستكبرون‌، غير أنـّهم‌ سرعان‌ ما تُنكَّس‌ أعلامهم‌ ويحيق‌ بهم‌ مكرهم‌. وقد قال‌ جلّ من‌ قائل‌: وَلاَيَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّي‌ءُ إِلاَّ بِأهْلِهِ. [18]

 وقال‌: كَذَ ' لِكَ يَضْرِبُ اللَهُ الَحَقَّ وَالَباطِلَ فَأَمَّا الزَبَدَ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي‌ الاْرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ. [19]

 ومحصّل‌ ما ذكرنا هو أنّ قوله‌: إِنَّ اللَهَ لاَ يَهْدِي‌ الْقَوْمَ الْكَـ'فِرِينَ في‌ حكم‌ التعليل‌ والتفسير لقوله‌: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رَسَالَتَهُ؛ والمراد من‌ العصمة‌، حفظ‌ رسول‌ الله‌ من‌ الاضرار التي‌ تصل‌ إلیه‌ بدون‌ أن‌ يبلغ‌ هدفه‌، ويحقّق‌ طموحه‌ في‌ رفع‌ لواء، الحمد والتوحيد باتّهامه‌ بحبّ الدنيا، أو قتله‌ بدون‌ أن‌ تؤتي‌ البعثة‌ أُكلها.

 وأمّا إذا أردنا أن‌ نأخذ الآية‌ علی إطلاقها ونقول‌: إنّ الله‌ يحفظ‌ رسوله‌ من‌ كلّ سوء، فهو ما يتعارض‌ مع‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ والاحاديث‌ ومسيرة‌ التأريخ‌ المعلوم‌. وكم‌ عانت‌ وقاست‌ نفسه‌ الشريفة‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ من‌ أُمّته‌، سواء من‌ كفّارها، أم‌ منافقيها، أم‌ مؤمنيها؛ وكم‌ ذاق‌ من‌ الهموم‌ والآلام‌ التي‌ لا تتحملّها أي‌ّ نفس‌: إلاّ نفسه‌ الشريفة‌، حتّي‌ قال‌ في‌ الحديث‌ المشهور: مَا أُذِي‌َ نَبِي‌ٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ قَطُّ.

 فظهر ممّا عرضناه‌ أنّ مفاد الآية‌ في‌ غاية‌ الاهميّة‌؛ ولعلّ هذه‌ الآية‌ أهمّ الآيات‌ الواردة‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌. وهذه‌ الآية‌ هي‌ الآية‌ 67 من‌ سورة‌ المائدة‌؛ وسورة‌ المائدة‌ آخر سورة‌ نزلت‌ علی رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ في‌ المدينة‌. ونزلت‌ كلّها أو نزل‌ أكثر آياتها في‌ حجّة‌ الوداع‌، [20]وأصفق‌ المفسّرون‌ جميعهم‌ علی أنـّها من‌ السور المدنيّة‌؛ ذلك‌ لانـّهم‌ يسمّون‌ السور النازلة‌ بعد الهجرة‌: مدنيّة‌، مع‌ أنـّه‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ كان‌ مسافراً.

 بَيدَ أَنّ الملحوظ‌ هو أنّ آية‌ قد سبقت‌ هذه‌ الآية‌، وآية‌ جاءت‌ بعدها، وهما تتحدّثان‌ عن‌ أهل‌ الكتاب‌. وهذه‌ الآية‌ قد توسّطتهما. فالآية‌ السابقة‌ هي‌:

 وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَب'ةَ والإنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إلیهِمْ مِن‌ رَّبّـِهمْ لاَكَلُوا مِن‌ فَوْقِهِمْ وَمِن‌ تَحْتِ أَرْجُلِهِم‌ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ. ( الآية‌ 66 ).

 والآية‌ اللاحقة‌ هي‌: قُلْ يَـ'´أَهْلَ الْكِتَـ'بِ لَسْتُمْ علی' شَيْءٍ حَتَّي‌' تُقِيمُوا التَّوْرَب'ةَ وَالإنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إلیكُم‌ مِّنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم‌ مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ طُغْيَـ'نًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ علی الْقَوْمِ الْكَـ'فِرِينَ. (الآية‌ 68 ).

 فالآية‌ التي‌ هي‌ مثار بحثنا ( آية‌ التبليغ‌ ) تتوسّط‌ الآيتين‌؛ وهذا ما يستفرغ‌ العجب‌؛ ذلك‌ لانـّتا لا نلاحظ‌ أي‌ّ صلة‌ بينها وبين‌ ما سبقها ولحقها من‌ آيات‌، ومنها هاتان‌ الآيتان‌؛ ولا يمكن‌ القول‌ حقّاً: إنّ آية‌ التبليغ‌ تبليغ‌ بشأن‌ أهل‌ الكتاب‌. ولذلك‌ جاءت‌ في‌ تضاعيف‌ الآيات‌ التي‌ تحدّثت‌ عن‌ أهل‌ الكتاب‌.

 ذلك‌ أنـّنا أوّلاً: نلاحظ‌ أنّ الآيتين‌ اللتين‌ تتحدّثان‌ عن‌ أهل‌ الكتاب‌ لاتحملان‌ أكثر من‌ تعإلیم‌ عامّة‌ ودعوات‌ كلّيّة‌، فأنـّي‌ تكون‌ هناك‌ حاجة‌ إلی‌ آية‌ التبليغ‌ لتتوسّطهما بلهجتها الشديدة‌ الحادّة‌؟!

 ثانياً: نزلت‌ سورة‌ المائدة‌ في‌ المدينة‌ أُخريات‌ حياة‌ الرسول‌ الاعظم‌، وكان‌ الإسلام‌ حينئذٍ قد بلغ‌ ذروته‌ عزّةً وشوكةً؛ وكان‌ الكفّار والمشركون‌ وإلیهود والنصاري‌ في‌ الحضيض‌ مخذولين‌ منكوبين‌ بائسين‌. ولاسطوة‌ لهم‌ حتّي‌ تكون‌ هناك‌ حاجة‌ إلی‌ تبليغ‌ حكم‌ من‌ الاحكام‌ يخشي‌ رسول‌ الله‌ من‌ تبليغه‌، فيعده‌ الله‌ بالعصمة‌ والوقاية‌.

 ونجد إبّان‌ هجرة‌ الرسول‌ الاعظم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ إلی‌ المدينة‌، أنّ أهل‌ الكتاب‌ لاسيّما إلیهود قد بدت‌ منهم‌ العداوة‌ والبغضاء، وأنـّهم‌ آزروا كفّار قريش‌ في‌ الحروب‌؛ وتحالفوا معهم‌؛ وشكّلوا الاحزاب‌؛ فظهرت‌ قضيّة‌ بني‌ قُرَيْظَة‌، و بني‌ النَّضير، و بني‌ القَيْنقَاع‌، وبالتإلی‌ يهود خَيْبَر و فَدَك‌. وقد خُذل‌ هؤلاء أجمع‌ ولم‌ تقم‌ لهم‌ قائمة‌. يضاف‌ إلی‌ ذلك‌، أنّ الآية‌ لاتضمّ أمراً شديداً وحكماً حادّاً يرتبط‌ بإلیهود. علماً أنّ تعإلیم‌ قد وردت‌ في‌ مواضع‌ عديدة‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌، قد كانت‌ أشدّ وأمرّ وأثقل‌ علی إلیهود؛ ومع‌ ذلك‌ فإنّ أُسلوب‌ الخطاب‌ الموجّه‌ للنبي‌ّ لم‌ يكن‌ كأُسلوب‌ آية‌ التبليغ‌. من‌ جهة‌ أُخري‌ فإنّ النبي‌ّ العظيم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ قد كُلّف‌ بمهامّ أشدّ وأثقل‌ كتبليغ‌ التوحيد، وإلغاء عبادة‌ الاصنام‌ وقطع‌ دابرها من‌ الوسط‌ الذي‌ يعيش‌ فيه‌ كفّار قريش‌ ومشركو العرب‌. وكان‌ هؤلاء أكثر حرصاً من‌ إلیهود إراقة‌ الدماء، وأشدّ منهم‌ فظاظةً وغلظة‌. ومع‌ ذلك‌ نلحظ‌ أنّ الله‌ جلّ شأنه‌ لم‌ يهدّد نبيّه‌ في‌ تبليغهم‌ كما هدّده‌ في‌ هذه‌ الآية‌ موضع‌ البحث‌، ولم‌ يضمن‌ له‌ العصمة‌ في‌ ذلك‌ التبليغ‌ كما ضمن‌ له‌ فيها. والآيات‌ المتعلّقة‌ بأهل‌ الكتاب‌ في‌ هذه‌ السورة‌ تؤلّف‌ أغلب‌ آياتها؛ ومن‌ المؤكّد أنّ آية‌ التبليغ‌ قد نزلت‌ في‌ هذه‌ السورة‌، في‌ وقت‌ كانت‌ صولة‌ إلیهود مندحرة‌، وقد شملهم‌ الغضب‌ الإلهي‌ّ وعمّهم‌، إذ كانوا كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَهُ، فما جدوي‌ أن‌ تنزل‌ آية‌ التبليغ‌ بهذه‌ الخصوصيّة‌ فيهم‌ وفي‌ النصاري‌؟ فلقد كانوا حينئذٍ في‌ قبضة‌ الإسلام‌ محتمين‌ في‌ كنفه‌. علماً أنـّنا نري‌ أنّ يهود نجران‌ ونصاراها ـ وكانوا أكثر تعصّباً من‌ غيرهم‌ـ قد انصاعوا لدفع‌ الجزية‌ آنذاك‌؛ فما هو المعني‌ من‌ التهديد الإلهي‌ّ ـ إذَن‌ـ في‌ ظلّ تلك‌ الظروف‌ التي‌ كان‌ الإسلام‌ ماسكاً فيها بناصية‌ الاُمور، وأعنّتها بيده‌؟

 وعلی هذا فما ذكره‌ الفخر الرازي‌ّ، ومَن‌ تبعه‌ مِن‌ بعض‌ المفسّرين‌ الآخرين‌ من‌ العامّة‌ كمحمّد عَبْدهُ في‌ تفسير « المنار » [21] من‌ أنّ الآية‌ تتعلّق‌ بأهل‌ الكتاب‌ كما يفيده‌ سياق‌ الآيات‌ مجرّدٌ عن‌ التحقيق‌ وعارٍ من‌ المحتوي‌ الصحيح‌؛ والسبب‌ ـمضافاً إلی‌ ما ذكرـ هو أنّ إقحام‌ آية‌ في‌ سياق‌ آيات‌ أُخر لايقبل‌ المعارضة‌ مع‌ الدليل‌ القطعي‌ّ، والروايات‌ والاخبار المأثورة‌ عن‌ علماء العامّة‌ وكبارهم‌، المثبّتة‌ في‌ كتبهم‌، والمروّية‌ عن‌ كبار الصحابة‌ والتابعين‌. وأنـّي‌ لنا أن‌ ننفض‌ أيدينا عن‌ الدليل‌ القطعي‌ّ والحجّة‌ العقلائيّة‌ بمجرّد حفظ‌ السياق‌، في‌ حين‌ أنّ السياق‌ ليس‌ أكثر من‌ الظهور الإجمإلی‌ّ لاغير؟

 ومن‌ هذا المنطلق‌، لمّا أُحرج‌ كثير من‌ مخالفي‌ الولاية‌ من‌ العامّة‌، قالوا: إنّ آية‌ التبليغ‌ نزلت‌ في‌ مكّة‌ إبّان‌ البعثة‌ النبويّة‌؛ وإنّها ترتبط‌ بكفّار قريش‌؛ ولسان‌ حالها يقول‌: لاتترك‌ التبليغ‌! ولا تقصّر في‌ إيصال‌ الآيات‌ إلی‌ كفّار قريش‌! وإذا لم‌ تفعل‌ فكأنـّك‌ لم‌ تقم‌ بمهمّة‌ النبوّة‌ ولم‌ تؤدّ حقّها! والله‌ يحفظك‌ من‌ شرّ الكفّار! وهكذا، فهذه‌ الآية‌ مكّيّة‌ وقد جاءت‌ في‌ سورة‌ المائدة‌ المدنيّة‌.

 وهذا الكلام‌ أيضاً بعيد عن‌ التحقيق‌ للسببين‌ التإلیين‌: أوّلاً: أنّ الآيات‌ النازلة‌ في‌ بدء البعثة‌ لم‌ تعرف‌ بالشدّة‌ والحدّة‌ والتهديد، بل‌ كانت‌ مرنة‌ ليّنة‌، كقوله‌ جلّ من‌ قائل‌: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي‌ خَلَقَ إلی‌ آخر السورة‌ 96: العلق‌. وكقوله‌: يَـ'´أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* إلی‌ آخر السورة‌74؛ وكقوله‌: فَاسْتَقِيمُو´ا إلیهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ. [22]

 الرجوع الي الفهرس

لم‌ يكن‌ خوف‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ علی نفسه‌

 ثانياً: أنّ رسول‌ الله‌ لا يخشي‌ أحداً في‌ مقام‌ طاعة‌ الله‌ وتبليغ‌ أحكامه‌؛ ومقام‌ النبي‌ّ الاكرم‌ أشرف‌ وأجلّ من‌ أن‌ لا يضحّي‌ بنفسه‌ في‌ سبيل‌ الامر الإلهي‌ّ، ويضنّ بها في‌ طاعة‌ الله‌ ويرفض‌ أن‌ يسفك‌ دمه‌ فهذا الكلام‌ ـ والوجدان‌ شاهدـ تكذّبه‌ سيرته‌ الشريفة‌ التي‌ ترجمتها حياته‌ المباركة‌.

 يضاف‌ إلی‌ ذلك‌، أنّ ما نقله‌ الله‌ لنا عن‌ أنبيائه‌ يدحض‌ هذا الكلام‌ ويدفع‌ قول‌ القائلين‌ بأنـّهم‌ كانوا يخشون‌ ويخافون‌ من‌ الناس‌. فقد قال‌: سبحانه‌:

 مَّا كَانَ علی النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَهُ لَهُ و سُنَّةَ اللَهِ فِي‌ الَّذِينَ خَلَوْا مِن‌ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـ'لَـ'تِ اللَهِ وَيَخْشَوْنَهُ و وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَهَ وَكَفَي‌' بِاللَهِ حَسِيبًا. [23]

 فلابدّ أن‌ نعلم‌ أنّ النبي‌ّ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسائر الانبياء عليهم‌ السلام‌ في‌ ضوء هاتين‌ الآيتين‌ لا يعرفون‌ الخوف‌ والفزع‌ في‌ مقابل‌ المسؤوليّة‌ الإلهيّة‌ وتنفيذ الاوامر الصادرة‌ من‌ الذات‌ الاحديّة‌. فمقام‌ النبوّة‌ والاتّصال‌ بعالم‌ الغيب‌، والاُنس‌ بالموجودات‌ المجرّدة‌، والانوار البسيطة‌ والعقول‌ الكاملة‌، والملائكة‌ المقرّبين‌، والذات‌ والصفات‌ والاسماء الإلهيّة‌ لايدع‌ لهم‌ مجالاً للشغف‌ والولع‌ بالجسد المادّي‌ّ والقالب‌ الطبعي‌ّ والطبيعي‌ّ.

 ولهذه‌ الآية‌ ظهور يتجسّد في‌ أنّ النبي‌ّ لايعرف‌ الخوف‌ والحرج‌ تكوينيّاً؛ وكذلك‌ سنّة‌ الله‌ في‌ الانبياء الذين‌ خلوا، فإنّهم‌ أيضاً لم‌يعرفوا الحرج‌ والخوف‌ تكوينيّاً. وما يستدعيه‌ مقام‌ النبوّة‌ هو الشجاعة‌ ورباطة‌ الجأش‌ بحيث‌ إنّ حبّ وجاذبة‌ الله‌ اجتذبتهم‌ إلی‌ درجة‌ أن‌ غرقوا وانمحوا حيث‌ لايرون‌ إلاّ جمال‌ الله‌ وجلاله‌، ولايرون‌ لكائن‌ آخر أصالة‌ فيخافون‌ منه‌؛ وفي‌ ظلّ هذه‌ الاجواء لا يعرفون‌ جسداً وقالباً وسوءاً وضرراً وقتلاً وفتكاً وغير هذه‌ الاشياء، ولا يكترثون‌ بها؛ وليس‌ عندهم‌ إلاّ الله‌ وكفي‌ وَيَخْشَوْنَهُ و ولاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَهَ فحَسب‌. قد غشتهم‌ خشيته‌، وأحاطت‌ بهم‌ حتّي‌ جعلتهم‌ لا يبالون‌ بأحد ولا يخشونه‌ مهما كان‌.

 وقد حذّر الله‌ المؤمنين‌ وحظر عليهم‌ الخوف‌ من‌ الشيطان‌ وأوليائه‌، فقال‌ جلّ من‌ قائل‌: إِنـَّمَا ذَ ' لِكُمُ الشَّيْطَـ'نُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ و فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن‌ كُنتُم‌ مُّؤْمِنِينَ. [24]

 وقد أثني‌ الله‌ علی المؤمنين‌ الذين‌ أخافهم‌ الناس‌ فلم‌ يخافوا، فقال‌ جلّ شأنه‌: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ'نًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. [25]

 وكذلك‌ فليس‌ من‌ الصواب‌ أن‌ نقول‌: إنّ النبي‌ّ كان‌ يخاف‌ القتل‌، فيبطل‌ بالنتيجة‌ مفعول‌ الدعوة‌ إلی‌ الله‌؛ ويذهب‌ عطاء النبوّة‌ سدي‌؛ فعلی هذا كان‌ يرجي‌ القيام‌ بمهمّة‌ ما أُنزِلَ؛ لكي‌ لا تترتب‌ هذه‌ المفسدة‌ علی ذلك‌؛ وقد خاطبه‌ الله‌ تعإلی‌ بقوله‌: لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَي‌ءٌ. [26] لانّ الله‌ تعإلی‌ غير عاجز أن‌ يحيي‌ الإسلام‌ والدعوة‌ إلی‌ التوحيد عند مقتل‌ نبيّه‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ بسبب‌ آخر ووسيلة‌ أُخري‌ غير نبيّه‌ الكريم‌.

 أجل‌، فالمعني‌ الصحيح‌ لخوف‌ رسول‌ الله‌، الذي‌ يمكن‌ استنباطه‌ من‌ قوله‌: وَاللَهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ هو فقط‌ أنّ النبي‌ّ كان‌ يخاف‌ من‌ تبليغ‌ الامر أن‌ يتّهموه‌ تهمة‌ يذهب‌ معها أثر الدعوة‌ هباءً منثوراً، ولاتعوّض‌ جهوده‌ المحمودة‌ المباركة‌ في‌ الدعوة‌ والتبليغ‌. كأن‌ يقولوا مثلاً: هذه‌ ليست‌ نبوّة‌، بل‌ هي‌ حكومة‌ دنيويّة‌ ورئاسة‌ مادّيّة‌ وتحكّم‌ وتسلّط‌ علی الناس‌ في‌ زي‌ّ النبوّة‌ والرسالة‌ الظاهريّة‌. إنّه‌ أمر سقيم‌ أجوف‌، ودليله‌ أنـّه‌ لمّا شعر بدنوّ أجله‌، صمّم‌ علی أن‌ يورث‌ أعقابه‌ الرئاسة‌ كما يفعل‌ سلاطين‌ العالم‌ وحكّامه‌. ولمّا لم‌ يكن‌ له‌ ابن‌ يرثه‌، فقد نصب‌ صهره‌ خليفة‌ له‌.

 فهذه‌ التهمة‌ إن‌ أتت‌ أُكلها، فقد اندرس‌ أثر الدعوة‌ النبويّة‌ وعفي‌ وبطل‌ مفعول‌ الرسالة‌ وضاع‌ سدي‌.

 نعم‌، كان‌ هذا الاجتهاد والرأي‌ جائزين‌ بشأن‌ رسول‌ الله‌. وكان‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ مأذوناً في‌ ممارسة‌ هذا النهج‌ بلا خوف‌ يعتري‌ نفسه‌ الشريفة‌.

 الرجوع الي الفهرس

آية‌ التبليغ‌ لم‌ تنزل‌ في‌ أوّل‌ البعثة‌

 ومن‌ هنا يستبين‌ لنا أنّ قول‌ بعض‌ المفسّرين‌ إنّ الآية‌ نزلت‌ في‌ بدء البعثة‌ النبويّة‌ غير صحيح‌، لانّ النزول‌ في‌ بدء البعثة‌ يستساغ‌ فقط‌ عندما يكون‌ معني‌ العصمة‌ من‌ الناس‌ أنّ النبي‌ّ يماطل‌ في‌ إنجاز التبليغ‌ والدعوة‌ خوفاً علی نفسه‌ من‌ القتل‌. ولو قتل‌ حينئذٍ، فإنّ لواء الدعوة‌ ينكّس‌ تماماً. وهذا الاحتمال‌ لايصدق‌ علی الرسول‌ الاكرم‌، فالآية‌ ـإذَن‌ـ لم‌تنزل‌ في‌ بدء البعثة‌.

 يضاف‌ إلی‌ ذلك‌، أنّ الآية‌ لو كانت‌ نازلة‌ في‌ بداية‌ البعثة‌، لكان‌ المراد بقوله‌: مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ أصل‌ الدين‌ أو مجموعة‌ الاحكام‌ والمسائل‌ الدينيّة‌. فلا تعدّ هناك‌ مسألة‌ هامّة‌ خاصّة‌ حتّي‌ يساوي‌ عدم‌تبليغها عدم‌تبليغ‌ أصل‌ الرسالة‌. وفي‌ ضوء هذا الافتراض‌، فإنّ معني‌ قوله‌: وَإن‌ لَمْتَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رَسَالَتَهُ و، يتمثّل‌ في‌ القول‌: أَيُّها النَّبِيٌّ؟ بلغ‌ الدين‌، وإن‌ لم‌تفعل‌ ذلك‌؛ فما بلّغتَ الدين‌! وهذا كلام‌ خاطي‌.

 وقال‌ الفخر الرازي‌ّ رفعاً لهذا الإشكال‌: إنّ هذا خرج‌ علی قانون‌ قوله‌: «أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي‌ شِعْرِي‌»، ومعناه‌ أنّ شعري‌ قد بلغ‌ في‌ الكمال‌ والفصاحة‌ إلی‌ حيث‌ متي‌ قيل‌ فيه‌ إنّه‌ شعري‌ فقد انتهي‌ مدحه‌ إلی‌ الغاية‌ التي‌ لايمكن‌ أن‌ يُزاد عليها. فهذا الكلام‌ يفيد المبالغة‌ من‌ هذا الوجه‌.

 فكذا هيهنا: فإن‌ لم‌ تبلّغ‌ رسالته‌ فما بلّغت‌ رسالته‌؛ يعني‌ أنـّه‌ لايمكن‌ أن‌ يوصف‌ ترك‌ التبليغ‌ بتهديد أعظم‌ من‌ أنـّه‌ ترك‌ التبليغ‌. فكان‌ ذلك‌ تنبيهاً علی غاية‌ التهديد والوعيد.

 وهذا الكلام‌ الصادر عن‌ الإمام الرازي‌ّ غير صحيح‌؛ لانّ هذا الضرب‌ من‌ الصناعة‌ الشعريّة‌ في‌ الحالات‌ التي‌ يتحقّق‌ فيها حمل‌ الخبر علی ذلك‌ العنوان‌ صحيح‌ عندما يكون‌ بينها اختلاف‌ من‌ قبيل‌ اختلاف‌ العامّ والخاصّ أو المطلق‌ والمقيّد وأمثال‌ ذلك‌؛ وبهذا السياق‌ ندلّ علی اتّحاد المعنيين‌ في‌ القضيّة‌ الحمليّة‌، كشعر أبي‌ النَّجْم‌ الذي‌ يفيد أنّ شعره‌ هو شعره‌ الصادر عنه‌. أي‌: لايخال‌ أحد أنّ قريحته‌ الشعريّة‌ قد جفّت‌ ونضبت‌ فلاتبدع‌، أو أنّ نوائب‌ الدهر قد أرهقته‌ وأضنته‌، وعطّلت‌ قريحته‌ عن‌ إبداع‌ شعر كشعره‌ السابق‌. فشعره‌ إلیوم‌ من‌ حيث‌ الفصاحة‌ والبلاغه‌ كشعره‌ الذي‌ أنشده‌ أمس‌.

 ألا إنّ هذا اللون‌ من‌ التبرير لا يصحّ في‌ آية‌ التبليغ‌؛ لانـّه‌ بناءً علی افتراض‌ نزولها في‌ أوّل‌ البعثة‌، فإنّ رسالة‌ الرسول‌ الاعظم‌ التي‌ تمثّل‌ أصل‌ الدين‌ أو مجموعة‌ الاحكام‌ الدينيّة‌ كانت‌ أمراً واحداً لم‌ يعتره‌ التغيير والتبديل‌ والانحراف‌ حتّي‌ يقال‌: لو لم‌ تبلّغ‌ الرسالة‌؛ لو لم‌ تبلّغ‌ أصل‌ الرسالة‌! ذلك‌ لانّ المفروض‌ هو أنّ رسالة‌ رسول‌ الله‌ هي‌ أصل‌ الرسالة‌ التي‌ تمثّل‌ مجموعة‌ المعارف‌ الدينيّة‌.

 ومن‌ هنا يُستفاد أنّ الآية‌ لاتصلح‌ أن‌ تكون‌ نازلة‌ في‌ بدء البعثة‌. كما لايصلح‌ أن‌ يكون‌ مَآ أُنزِلَ إلیكَ هو أصل‌ الدين‌ أو مجموعة‌ معارفه‌ وأحكامه‌. ولهذا السبب‌ لا تصلح‌ الآية‌ أن‌ تكون‌ نازلة‌ في‌ وقت‌ آخر حتّي‌ آخر حياة‌ رسول‌ الله‌؛ فيما لو كان‌ المراد من‌ قوله‌: مآ أُنزِلَ إلیكَ مِن‌ رَّبِّكَ أصل‌ الدين‌ أو مجموعة‌ معارفه‌. لانّ الإشكال‌ ـمهما كان‌ـ واحد، وهو لزوم‌ اللغو في‌ كلام‌ الله‌ الذي‌ يعود مفاده‌ إلی‌ القول‌: لو لم‌ تبلّغ‌ أصل‌ الدين‌ أو مجموعة‌ أحكامه‌؛ فما بلّغت‌ أصل‌ الدين‌ أو مجموعة‌ أحكامه‌! ويضاف‌ إلی‌ ذلك‌ أنّ الإشكال‌ المتمثّل‌ بتهيّب‌ رسول‌ الله‌ وخوفه‌ علی نفسه‌ يظلّ قائماً في‌ هذه‌ الحالة‌، حتّي‌ لو لم‌ تكن‌ الآية‌ قد نزلت‌ في‌ بدء البعثة‌.

 واتّضح‌ ممّا قلنا أنّ المراد من‌ وجوب‌ تبليغ‌ النبي‌ّ في‌ هذه‌ الآية‌ لايمكن‌ ـ في‌ أي‌ّ حال‌ـ أن‌ يكون‌ أصل‌ الدين‌ أو مجموعة‌ معارفه‌، فلامناص‌ من‌ أن‌ نجعله‌ بعض‌ الدين‌. وفي‌ هذه‌ الحالة‌ أيضاً لو كان‌ معني‌ قوله‌: فَمَا بَلَّغْتَ رَسَالَتَهُ و هو تبليغ‌ بعض‌ الدين‌، فإنّ الإشكال‌ نفسه‌ يتكرّر. إذَن‌ لاحيلة‌ لنا إلاّ أن‌ نعتبر المراد من‌ الرسالة‌ هو الدين‌ كلّه‌ أو أصله‌؛ وفي‌ هذه‌ الحالة‌ يصبح‌ المعني‌ كالآتي‌:

 لو لم‌ تبلّغ‌ هذا الحكم‌ الخاصّ النازل‌ إلیك‌، فما بلّغت‌ أصل‌ الدين‌ أو مجموعة‌ أحكامه‌! وهذا المعني‌ صحيح‌ ومقبول‌، ويمكن‌ تبريره‌ بهذا الشكل‌ ككلام‌ أبي‌ النجم‌: شِعْرِي‌ شِعْرِي‌.

 الرجوع الي الفهرس

الحكم‌ المبلَّغ‌ ينبغي‌ أن‌ يكون‌ أمراً مهمّاً جدّاً

 و قال‌ البعض‌: لمّا كانت‌ معارف‌ الدين‌ وأحكامه‌ كلّها مترابطة‌ بحيث‌ إنّ الخلل‌ في‌ بعضها يبعث‌ علی الخلل‌ في‌ جميعها، لبساطة‌ أمر النبوّة‌ وكمال‌ الربط‌ والارتباط‌ في‌ شؤونها، بالاخصّ في‌ تبليغها؛ لذلك‌ من‌ الصحيح‌ أن‌ يقال‌: لو لم‌ تبلّغ‌ هذا الحكم‌، فما أدّيت‌ الرسالة‌! [27]

 وهذا المفاد صحيح‌، بَيدَ أنـّه‌ لا ينسجم‌ مع‌ ذيل‌ الآية‌، لانّ قوله‌: وَاللَهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَهَ لاَ يَهْدِي‌ الْقَوْمَ الْكَـ'فِرِينَ يدلّ علی أنّ جماعة‌ من‌ الكافرين‌ كانت‌ تهمّ بمخالفة‌ هذا الحكم‌ النازل‌؛ أو علی الاقلّ كان‌ يتوقّع‌ منها أن‌ تثب‌ لمخالفة‌ هذا الحكم‌ مخالفة‌ شديدة‌، وتستخدم‌ كلّ وسيلة‌ ممكنة‌ ما استطاعت‌ إلی‌ ذلك‌ سبيلاً؛ فتبطل‌ هذه‌ الدعوة‌؛ أو تعطّل‌ مفعولها فلاتعدّ لها فائدة‌ تذكر. وعندئذ يعد الله‌ نبيّه‌ أن‌ يحفظه‌ ويعصمه‌ من‌ كيدها، ويبطل‌ مكرها، ويحول‌ بينها وبين‌ أهدافها.

 وهذا المفاد من‌ ذيل‌ الآية‌ لا ينسجم‌ مع‌ أي‌ّ حكم‌ يمكن‌ فرضه‌ في‌ صدر الآية‌. لانّ أحكام‌ الإسلام‌ ومعارفه‌ مع‌ أنـّها ليست‌ علی درجة‌ واحدة‌ من‌ الاهمّيّة‌؛ فبعضها كالصلاة‌ التي‌ تعتبر عمود الدين‌، وبعضها كالدعاء عند رؤية‌ الهلال‌ في‌ الليلة‌ الاُولي‌ من‌ الشهر، وبعضها شديد كزنا المُحْصنة‌، وبعضها لايبلغ‌ تلك‌ الشدّة‌ كالنظر إلی‌ غير المحارم‌. والإخلال‌ بكلّ حكم‌ من‌ هذه‌ الاحكام‌ من‌ حيث‌ ترابطها وتماسكها إخلال‌ بأصل‌ الدين‌؛ إلاّ أنّ تهيّب‌ رسول‌ الله‌، والوعد بعصمته‌ في‌ التبليغ‌ لا ينسجمان‌ مع‌ أي‌ّ حكم‌ من‌ هذه‌ الاحكام‌ وأمثالها.

 وفي‌ ضوء ذلك‌، ينبغي‌ أن‌ تكون‌ الملازمة‌ بين‌ عدم‌ تبليغ‌ هذا الحكم‌ الخاصّ النازل‌، وبين‌ عدم‌ تبليغ‌ أصل‌ الدين‌ وعدم‌ أداء الرسالة‌ بصورة‌ عامّة‌ تبعاً للاهمّيّة‌ الكامنة‌ في‌ هذا الحكم‌، بحيث‌ إنّه‌ لو أهمل‌ فكأنّ الشريعة‌ قد أُهملت‌ وأُبطلت‌ أحكامها ومعارفها ودفنت‌ بين‌ طيّات‌ النسيان‌. فكأنّ هذا الحكم‌ بمنزلة‌ الروح‌ التي‌ تنفخ‌ الحياة‌ في‌ جسد الشريعة‌ وأحكام‌ الدين‌ فتحييها وتبعث‌ فيها الشعور بالحسّ والحركة‌. ومن‌ هنا يمكننا استنتاج‌ دلالة‌ الآية‌ علی أنّ الله‌ قد أمر نبيّه‌ أمراً وأرسل‌ حكماً يكتمل‌ به‌ الدين‌، وتتمّ به‌ الشريعة‌ إذ تبلغ‌ درجتها المتوقّعة‌ لها؛ وترسو به‌ سفينة‌ النجاة‌ في‌ مرفأها المحدّد لها. ويُنتظَر حينئذٍ أن‌ يعارض‌ الناس‌، ويقلبوا أمر النبوّة‌ علی النبي‌ّ، ويشوّهوا وجه‌ الشريعة‌، بحيث‌ تُنسَفُ دعائم‌ الدين‌ التي‌ أرساها الرسول‌ الاكرم‌ بيده‌، وتُهَشَّمُ أركانه‌ وأجزاؤه‌؛ وكان‌ النبي‌ّ العظيم‌ يدرك‌ هذه‌ المسألة‌، ويتفرّس‌ في‌ وجوه‌ القوم‌ ما هم‌ عازمون‌ عليه‌، ويخشي‌ من‌ ظهور هذه‌ اللقطة‌ علی مسرح‌ الاحداث‌. فلهذا كان‌ يرجي‌ تبليغ‌ هذا الحكم‌ الذي‌ يمثّل‌ روح‌ الدين‌، ويؤجّله‌ من‌ وقت‌ إلی‌ آخر ريثما يتاح‌ الظرف‌ المناسب‌ والجوّ الهادي‌ المساعد، فيصدع‌ به‌ مبلّغاً أمرالله‌ حتّي‌ لاتذهب‌ جهوده‌ ومساعيه‌ أدراج‌ الرياح‌.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ «تفسير الدرّ المنثور» ج‌ 2، ص‌ 298. طبعة‌ دار المعرفة‌، بيروت‌.

[2] ـ «شواهد التنزيل‌» ج‌ 1، ص‌ 187 إلي‌ 193، الحديث‌ رقم‌ 243 إلي‌ 250، طبعة‌ مؤسّسة‌ الاعلمي‌ّ، بيروت‌؛ وروي‌ الطبرسي‌ّ في‌ تفسير «مجمع‌ البيان‌» (طبعة‌ صيدا ج‌ 2، ص‌ 223 ) حديثين‌ من‌ هذه‌ الاحاديث‌ عن‌ «شواهد التنزيل‌» بإسناده‌ عن‌ ابن‌ أبي‌ عُمَير وابن‌ عبّاس‌.

[3] ـ «شواهد التنزيل‌» ج‌ 1 ص‌ 190.

[4] ـ تفسير «الدرّ المنثور» ج‌ 2، ص‌ 298.

[5] ـ تفسير «مفاتيح‌ الغيب‌» المشتهر بـ «التفسير الكبير»، ج‌ 3، ص‌ 636، الطبعة‌ الاُولي‌، طبعة‌ شركة‌ الصحافة‌ العثمانيّة‌.

[6] ـ تفسير «غرائب‌ القرآن‌ ورغائب‌ الفرقان‌» ج‌ 6، ص‌ 129، الطبعة‌ الاُولي‌ 1381 ه، طبعة‌ مطبعة‌ مصطفي‌ البابي‌ الحلبي‌ّ، مصر.

[7] ـ تفسير «روح‌ البيان‌» ج‌ 6، ص‌ 192 و 193، طبعة‌ دار الطباعة‌ المنيريّة‌.

[8] ـ «فرائد السمطين‌ في‌ فضائل‌ المرتضي‌ والبتول‌ والسبطين‌» ج‌ 1، ص‌ 158.

[9] ـ «الفصول‌ المهمّة‌» ص‌ 27 الطبعة‌ الحجريّة‌، و ص‌ 24 و 25 طبعة‌ النجف‌. قال‌ في‌ «مراصد الاطّلاع‌» ج‌ 1، ص‌ 482: خُمّ، قيل‌: رَجلٌ. وقيل‌: غَيْضَة‌. وقيل‌: مَوضعٌ تصبّ فيه‌ عينٌ. وقيل‌: بئر قريب‌ من‌ المَيْثَب‌، حفرها مُرَّة‌ بن‌ كعب‌، نُسب‌ إلي‌ ذلك‌ غدير خمّ، وهو بين‌ مكّة‌ والمدينة‌؛ قيل‌: علي‌ ثلاثة‌ أميال‌ من‌ الجُحفة‌. وقيل‌: علي‌ ميل‌. وهناك‌ مسجد للنبي‌ّ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌.

[10] ـ «مطالب‌ السئول‌ في‌ مناقب‌ آل‌ الرسول‌» ج‌ 2، ص‌ 16، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[11] ـ «أسباب‌ النزول‌» ص‌ 150؛ و «الفصول‌ المهمّة‌» لابن‌ صبّاغ‌ ص‌ 27؛ و«الميزان‌» ج‌ 6، ص‌ 60.

[12] ـ «ينابيع‌ المَوَدّة‌» ج‌ 1، ص‌ 120، طبعة‌ إسلامبول‌ سنة‌ 1301 ه.

[13] ـ كتاب‌ «مودّة‌ القربي‌» وجاء الحديث‌ كلّه‌ في‌ الجزء الاوّل‌ من‌ «ينابيع‌ المودّة‌»، المودّة‌ الخامسة‌، ص‌ 249. طبعة‌ إسلامبول‌.

[14] ـ «حبيب‌ السير» طبعة‌ حيدري‌ مع‌ مقدّمة‌ همائي‌، ج‌ 1، ص‌ 411. علماً أنّ تأريخ‌ «حبيب‌ السير» من‌ الكتب‌ المعتبرة‌. وقال‌ صاحب‌ «كشف‌ الظنون‌» ج‌ 1، ص‌ 419: هذا الكتاب‌ من‌ الكتب‌ المفيدة‌ والمعتبرة‌. وعدّه‌ حسام‌ الدين‌ في‌ كتابه‌ «مَرَافض‌ الرَّوافِض‌» من‌ الكتب‌ المعتبرة‌. ونقل‌ عنه‌ أبو الحَسَنات‌ الحنفي‌ّ في‌ كتابه‌ «الفوائد البهيّة‌» كثيراً، وعدّه‌ من‌ الكتب‌ المعتبرة‌.

[15] ـ «تفسير المنار» ج‌ 6، ص‌ 463.

[16] ـ «الغدير» ج‌ 1، ص‌ 214 إلي‌ 223.

[17] ـ الا´ية‌ 124، من‌ السورة‌ 6: الانعام‌.

[18] ـ الا´ية‌ 43، من‌ السورة‌ 35: فاطر.

[19] ـ الا´ية‌ 17، من‌ السورة‌ 13: الرعد.

[20] ـ «الإتقان‌» الطبعة‌ الاُولي‌، ج‌ 1، ص‌ 23. أخرج‌ عن‌ محمّد بن‌ كعب‌، عن‌ طريق‌ أبي‌ عبيد: أنّ سورة‌ المائدة‌ نزلت‌ في‌ حجّة‌ الوداع‌ بين‌ مكّة‌ والمدينة‌.

[21] ـ تفسير «مفاتيح‌ الغيب‌» ج‌ 3، ص‌ 636؛ و«تفسير المنار» ج‌ 6، ص‌ 467.

[22] ـ الا´ية‌ 6، من‌ السورة‌ 41: حم‌ السجدة‌.

[23] ـ الا´يتان‌ 38 و 39، من‌ السورة‌ 33: الاحزاب‌.

[24] ـ الا´ية‌ 175، من‌ السورة‌ 3، آل‌ عمران‌.

[25] ـ الا´ية‌ 173، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

[26] ـ الا´ية‌ 128، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

[27] ـ «تفسير الجواهر» للطنطاوي‌ّ، ج‌ 3، ص‌ 201. طبعة‌ مصطفي‌ البابي‌ الحلبي‌ّ بمصر، الطبعة‌ الثانية‌؛ نقلاً بالمعني‌ لا بالنصّ.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com