|
|
الصفحة السابقةالبدن ءالة رقيّ النفس و تكاملهالقد منّ الله علينا بالعقل و العلم و القدرة، و وهبنا الاعضاء و الجوارح من العين و الاذن و الايدي و الارجل، ليمكننا بواسطتها ان نعمل شيئاً في كلّ لحظة فنطوي درجةً نحو الكمال، و نحوز في النتيجة مرتبة يوم القيامة. و لو مات الانسان و خسر قواه هذه، فانّ نفسه لن تترقّي و لن تتعالي أبداً. يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: وَ لَو لاَ الآجالُ الَّتِي كَتَبَ اللَهُ عَلَيْهِمْ، لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقَاً الی الثَّوَابِ، وَ خَوْفَاً مِنَ الْعِقَابِ. [1] و مفاد هذا الكلام يرجع الی انّ علّة عدم التحليق الی العالم الاعلي، عدم حلول الحين و الاجل المعهود الذي عيّنه الله لكمال الافراد وصلاحهم، و في هذه الحال فانّ الحياة أفضل من الموت. و علی كلّ حال فانّ الدنيا محلّ اكتساب مكارم الاخلاق، و نيل الفضيلة والكمال، و مادام الانسان حيّاً فان عليه ان يعرف قدر نفسه، ومادامت أنفاسه تتردّد فان عليه ان يقول «لا اله الاّ الله»، فاذا انقطع النَفَس انقطعت معه القدرة علی تلفّظ حرف واحد. كنونت كه چشم است اشكي ببار زبان در دهانت عذري بيار كنون بايدت عذر تقصير گفت نه چون نفس ناطق ز گفتن بخفت غنيمت شمار اين گرامي نَفَس كه بي مرغ قيمت ندارد قفس [2] كان أخونا المتوفّي المرحوم الحاج هادي الابهري مريضاً، و كنّا نسعي كثيرا لمعالجته و مداواته، فقال لاحد رفقائنا يوماً: انني سأرحل، وهذا السيد محمّد حسين يعلم أيضاً انّني سأرحل، لكنّه يسعي بهذه الجهود كي يمكنني قول كلمة «لا اله الاّ الله» واحدة أكثر. و هو كلام صحيح جداً، فتلفّظ كلمة «لا اله الاّ الله» واحدة أكثر هو أيضاً في يدالله، و سيتّضح بعد قولها انّ الاجل لم يكن قدحان قبلها، و انّ الارادة الازليّة للحضرة الربوبيّة لم تكن قد تعلّقت بالموت بعدُ، بيدَ انّ هذا لا يسلب الاختيار، و علی الانسان ـ مادام مختاراًـ أن يسعي لقول «لا اله الاّ الله». إنّ الانسان يرتحل و ينتقل من هذا العالم الی ذلك العالم، فيجد نتيجة كلّ عمل قام به في هذه الدنيا مُحضراً ثابتاً، فالذين يقولون: مَن ـ تري ـ ذهب الی الآخرة ليأتي بالخبر أنّ هناك جنّة و ناراً، و أنّ هناك حورالعين، و مالك جهنّم و خازن الجنّة؟! فاسعد ايّها السيّد بهذه الدنيا فهذه الامور بأجمعها خرافات لفقّها الانبياء ليمكنهم السيطرة علی البشر المتمرّد المتعدّي، و ليقرّوا العدالة الإجتماعية في المجتمعات! هذا المنطق هو منطق الافراد السطحيين قصيري النظر، و ذلك أوّلاً: إنّ حسّ المسؤولية فيالانسان العاقل المختار يعدّ جزء من فطرته وطينته، و لا علاقة له بالانبياء، و هذا العالم لم يُخلق عبثاً أو باطلاً، و هذا النظام العجيب منطبق علی الحقّ، كما انّ الانسان جزء من هذا العالم الواسع العجيب، فاختياره يحدّده و يضعه في عالم التكوين علی مغترق طريقي الخير و الشرّ، و هذا هو معني إلتزام الانسان و مسؤوليته، شأنه في ذلك شأن كلّ موجود من موجودات نظام الخلقة، بل وكلّ ذرّة من ذرّاته. أمّا إخراج الانسان من هذا الامر العام و عدّه مهملاً و مخلوقاً عبثاً، وتقديمه علی أنّه خُلق بلا هدف و غاية، فلا يعني الاّ توجيه ضربة وتفتيت و سحق أساس هذا العالم مرجعها إنكار أساس المبدأ و أصالة عالم الوجود. و ثانياً: إنّ انكار الوحي و عدم إمكان الارتباط بعالم الغيب، و انكار عالم ماوراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) أمر فقد اليوم رونقه بين المفكّرين، وصار لجامعات العالم السبل الكفيلة بالوصول الی هذه الحقائق هم في صدد طيّها و انتهاجها، كما انّ الاقتراب من الحكمة الالهيّة و العرفان الربوبيّ يفتح نافذة أمل لإشعاع نور الحقيقة علی قلوبهم. و لقد بُرهن في الحكمة المتعالية بالبراهين القاطعة علی وجود عوالم الغيب و الملكوت، بحيث لم تبق مجالاً للشك و الاعتراض في مدرسة الفكر و التعقّل. إخبار الرسول الامين بعوالم ما بعد الموتو لقد ذهب نبينّا الاكرم صلي الله عليه و آله الی المعراج و أخبر عن جميع مشاهداته العجيبة في أحوال الجنّة و النار و الافراد المعذّبين و المنعّمين، و لا نعرف أحداً أصدق لهجة من النبيّ، فليس ما قاله الاّ الحق الصريح الذي أخبرنا به و نبّأنا عنه. و بغضّ النظر عن ذلك، فانّ النبيّ حين ذهب و رأي و أخبر بالخبر اليقين، فانّه لم يرَ ذلك بالعين الماديّة، لانّ العين الحسيّة الماديّة يمكنها فقط أن تلحظ الاجسام و آثارها، لا أن تري عالم المعني و الصور المعنويّة، كما انّ ادراك الجنّة و جهنّم و أحوالها و خصائصها في المراحل والمنازل المختلفة، و ادراك عالم القدس يحتاج الی عين القلب و البصيرة. و عليه فانّ اولئك القائلين بأنّ أحداً لم يذهب فيخبر عمّا هناك، يقصدون انّ أحداً من الموتي لم يعد ليصف لنا بلسانه ما شاهده بأمّ عينيه، و هو منطق خاطيء. و لو افترضنا انّ ميّتاً قد عاد، فانّه سيصف ما شاهده بعين قلبه و بصيرته، كما انّ لسانه حين يتكلّم فانمّا يحكي عن لسان قلبه. فمن المحال للميّت أن تري عينه الحسيّة الواقعة في رأسه ليجييء بالخبر، و لذلك فانّ الميّت لو جاء فتكلّم و أخبر، فانّ من المسلّمأنّه قدشاهد ما شاهد بعين قلبه و بصيرته، فهو يتكلّم عن لسان القلب بلسان الحسّ، و هذا المعني صادق علی الانبياء العظام و نبيّنا الاكرم صلّي الله عليه و آله، لانّم ذهبوا و أخبروا بما عاينوا. كما انّ المعراج يعني الحركة و السفر من عالم البرزخ هذا و عالم القيامة و الاسماء و الصفات الالهيّة و الورود في حرم الحضرة الكبريائيّة و حريم مقام العزّ و العظمة. و ليس معراج رسول الله صلّي الله عليه و آله أمراً يعتريه الشكّ و الترديد. و ثالثاً: قولهم انّ أحداً لم يذهب ليأتي بالخبر؛ و هذه الجملة ليست كافية في مقام الاستدلال لرفع المسؤوليّة عن الإنسان، كما انّها لا تدع الانسان حرّاً طليقاً ليفعل ما يحلوله. و ذلك لانّ أحداً لم يذهب ليأتي بالخبر، لا أنّ أحداً قد ذهب ليأتي بالخبر أنه ليس هناك من شيء، و بين هذين المعنيين فارق كبير. فلو كان أحدٌ ما قد ذهب و جاء بالخبر أن ليس هناك من جنّة و لا نار لكان ذلك كافياً، لكنّ عدم ذهاب أحد و عدم جلب الخبر لا يدّل علی عدم وجود تلك الاُمور، لانّ من المحتمل في مقام الإمكان أن تكون اُمور كهذه موجودة في الواقع، و مع ذلك فانّ من ذهب أو رحل عن الدنيا لم يأتِ بالخبر عنها. لقد ذهب أباؤنا و أمّهاتُنا و أرحامنا و أصدقاؤنا و لم يأتوا بخبرٍ ما، لا عن وجود تلك الاُمور و لا عن عدمها، فمن أين سيُعلم أنّها ليست موجودة حقّاً؟ و لهذا فانّ أصل تحقّق القيامة و الحساب و الكتاب أمر ممكن، كما أنّ الدليل و البُرهان لم يقم علی عدمه، فبأيّ مجوّز عقلي يحقّ للإنسان ان يري نفسه متروكاً و مهملاً؟! كلام أبي علی سينا في وجوب جعل المسموعات ممكنةً لحين إقامة البُرهان العقلييقول أبوعلي سينا: كُلَّمَا قَرَعَ سَمْعَكَ مِنَ الْغَرَائِبِ فَذَرهُ فِي بُقْعَةِ الإمْكَانِ مَا لَمْ يَذُدكَ عَنْهُ قَائِمُ الْبُرهَانِ. [3] و باعتبار إمكان تحقّق القيامة هنا ـ ناهيك عن ان الصادق الشاهد، و المصدّق المؤيّدَ رسولنا الاكرم و نبينّا الاعظم صلّي الله عليه و آله يخبر عن هذا التحقّق و الوقوع ـ فانّ نفس الاحتمال منجّز، و دفع الضرر المحتمل من مستقلاّت العقل. لقد كان للامام الصادق عليه السلام كلامٌ ضمن بحث مع رجل ملحد من الدهريين يُنكر وجود خالق عالم قادر حيّ لهذه الدنيا، توصّل الامام فيه الی اثبات المعاد و وجود الحساب و الجزاء و أفحم ذلك الدهري. ثم قال الامام عليه السلام لذلك الرجل ذي النزعة المادّية: إن يكن الامر كما تقول ] بأن الا وجود لله و لا للمعاد و الجزاء [ ـوليس كما تقول ـ نجونا و نجوتَ، و إن يكن الامر كما نقول ] بأنّ هناك إلهاً و معاداً و جزاءً [ ـ و هو كما نقول ـ نجونا و هلكتَ. [4] و لا مناص أمام رفع هذا الاحتمال من الالتزام في الاعمال و السلوك و العقائد الحسنة. و رابعاً: لقد شاهد كلٌّ منا في حياته حلماً عن شخص متوفّي بيّن فيه حاله قليلاً أو كثيراً، و كثيراً ما يحصل ان يُخبر اُولئك عن أمور لم يكن لاحد علم بها، كأن يقول مثلاً: انّ علی ديناً بمبلغ كذا للشخص الفلاني الذي يسكن المحلّة الفلانية، فأدّوه عنّي. و حين يُراجع ذلك العنوان يتّضح انّه كان مديوناً فعلاً بنفس المبلغ بلا زيادة و لانقصان. و كثيراً ما يحدث أن يكون نفس الشخص الدائن لا يعلم بذلك الامر، ثم يستبين له ذلك بمراجعة دفاتره و حساباته. ثم يري ذلك الشخص في النوم فيقول: لقد استرحتُ. و يُبدي شكره و امتنانه من الشخص الذي أدّي عنه دينه. هذه هي الارتباطات التي تقوم بها نفس الإنسان مع عالم المثال، فتكتسب أموراً منه امّا في النوم أو الصحو و تجلبها معها الی عالم الحسّ هذا. و ما أكثر ما وجد أفرادٌ ذوو ضمير مشرق و طويّة سليمة نزيهة في عالم الصحو المحض ارتباطاً مع عالم البرزخ، فتكلّموا مع الارواح ثم بيّنوا لنا حساب عالم القبر الذي هو عالم البرزخ. و هؤلاء الافراد قد حازوا أوّلاً مقام العدالة و التقوي و الصدق بحيث لا يرد احتمال كذبهم و لو بنسبة واحد في المليون. و ثانياً فانّ هؤلاء الافراد ـ بالرغم من قلتّهم و نُدرتهم نسبةً الی عامّة الناس ـ الاّ انّهم في حدّ أنفسهم أفراد غير قلائل. و ثالثاً: ان كيفية اخبارهم متشابهة بلحاظ بيان الواقع، فقد بيّن كلٌّ منهم ـ بصور و أشكال مختلفة ـ قصصاً عن ستار الغيب ذلك. قصّة المرحوم المحدّث القميّ في وادي السلام في النجف الاشرفانّ المرحوم المحدّث القمّي صاحب التأليفات النافعة مثل سفينة البحار و الكني و الالقاب و غيرها، لاشكّ في ورعه و تقواه و صدقه بين أهل العلم قاطبة، و قد نقل أفراد موثّقون عنه بلا واسطة انّه قال: ذهبتُ يوماً الی وادي السلام في النجف الاشرف لزيارة أهل القبور و أرواح المؤمنين، فسمعتُ فجأة من بعيد رغاء بعير يريدون كيّه، و كان يهدر ويئنّ بحيث كانت أرض وادي السلام تهتزّ من صراخه، فقصدتُ نحوه لاسنتقذه، و حين اقتربتُ من مصدر الصوت رأيت أن ليس في الامر من بعير!! كانت هناك جنازّة جيء بها لتدفن، و كان ذلك الصراغ يتعالي منها، الاّ ان الافراد القائمين بأمر الدفن لم يكن لديهم اطلاّع علی ذلك أبداً، فكانوا مشغولين بعملهم في هدوء و برود. لقد كانت هذه الجنازة بلا ريب لرجل ظالم متعدّ ناله في أوّل وهلة من ارتحاله عقوبة كهذه، اي انّه قد خاف و فزع قبل الدفن و قبل عذاب القبر من مشاهدة الصور البرزخيّة، فكان يئنّ و يضجّ بالصراخ. قصّة المرحوم ءاية الله الگلبايگاني في مقبرة «تخت فولاد» أصبهانكان للمرحوم آية الله السيد جمال الدين الگلبايگاني رضوان الله عليه مطالب كثيرة من هذا القبيل، و كان من العلماء و مراجع التقليدالاجلاء في النجف الاشرف و من التلامذة المبرزين للمرحوم آية اللهالنائيني، و كان في علمه و عمله حديث الخاصّة، و قد كان في عظمة قدره و كرامة منزلته و نزاهة نفسه مورد تصديق الجميع، فليس هناك من محلّ للشكّ في كلامه، كما كان حائزاً علی المقام الاعلي في مراقبة النفس و الاجتناب عن الاهواء النفسيّة. و كان لجيرانه حكايات عن أصوات مناجاته و بكائه، و كانت الصحيفة المباركة السّجاديّة مقابله دوماً في غرفة الخلوة، ينشغل بقرائتها حالما يفرغ من المطالعة، و كانت ءاهاته حرّي و دموعه جارية فيّاضة، وكلامه مؤثّراً و قلبه مفعماً بالإخلاص. و قد عاش ما يزيد علی تسعين سنة، حيث انقضي علی رحيله حتي الآن تسع عشرة سنة. و قد درس في فترة شبابه في اصبهان، و كان رفيق المرحوم ءاية الله الحاج حسين البروجردي في الدرس و المباحثة، فكان ءاية الله البروجردي يكتب له الرسائل و يستعين به بالنسبة الی بعض المسائل الغامضة و الحوادث الواقعة، سواءً في الاُوقات التي كان فيها في بروجرد، أو الاوقات التي عاش فيها في قم. و كان الحقير قد تشرّف بالذهاب الی النجف الاشرف للتحصيل والدراسة لمدة سبع سنوات، فكنت أتردّد علی منزله مرّة أو مرّتين اسبوعيّاً فأجلس عندة ساعة من الزمن، و مع انّه كان من أهل التقيّة والكتمان لدرجة كبيرة، الاّ انّه كان ينقل لي مطالب عن وارداته القلبيّة في مدّة عمره، سواءً في أصبهان أو في النجف، و كانت مطالب يُخفيها حتّي عن خوّاصه و المقرّبين اليه. و كان منزله يقع في محلّة الحويش، و لديه غرفة صغيرة تقع أعلي الدار يقضي فيها أوقاته. و كان يقصّ علی من وارداته و مكاشفاته، أو عن حالاته و مقاماته حين كنت أتشرّف بالمثول عنده، فاذا ما سمع صوت أقدام تصعد السلّم قطع حديثه و اشتغل ببحث علميّ أو فقهيّ ليخال للقادم انّنا كنّا مشغولين في هذه المدّة بالمذاكرة و البحث العلمي، و كان يفعل ذلك حتّي لو كان الوارد من أخصّ خواصّه. كان يقول: درستُ أوان شبابي في أصبهان درس الاخلاق و السير والسلوك عند استاذين كبيرين: المرحوم الآخوند الكاشي و جهانگيرخان، و كانا معلّميّ في هذا المجال. و كانا قد أمراني بالذهاب ليالي الخميس و الجمعة خارج أصبهان والتفكّر في مقبرة «تخت فولاد» قدراً في عالم الموت و الارواح، وبالعبادة قدراً آخر ثم العودة صباح اليوم التالي. و هكذا فقد اعتدتُ علی الذهاب ليالي الخميس و الجمعة للتجوال والتفكّر ساعة أو ساعتين بين القبور، استريح بعدها عدّة ساعات، ثم أنهض لصلاة الليل و المناجاة، ثم أصليّ صلاة الصبح و أعود الی أصبهان. و كان يقول: كانت ليلة من ليالي الشتاء، و كان الهواء بارداً جداً، والثلج يتساقط من السماء، و كنتُ قد جئتُ من أصبهان الی مقبرة (تخت فولاد) للتفكّر في أرواح وادي ذلك العالم و ساكنيه، و ذهبتُ الی احدي الغرف و أردتُ فتح منديلي لاتناول لقيمات من الطعام فأنام بعدها الی منتصف الليل و أنهض لاشتغل بأعمالي و عبادتي حسب الطريقة التي أُمرتُ بها. و في تلك الاثناء طرُق باب المقبرة، و كانوا يريدون إدخال جنازة لاحد أرحام صاحب المقبرة جاءوا بها من أصبهان، علی أن يقوم قاريء القرءان ـ و هو المسؤول عن المقبرة ـ بالتلاوة عليها حتّي يعودوا صباحاً لدفنها. و هكذا فقد وضع اولئك الجماعة الجنازة و ذهبوا و انشغل قاريء القرءان بالتلاوة. و حصل بمجرّد أن فتحت المنديل و أردتُ الانشغال بتناول الطعام أن شاهدتُ ملائكة العذاب و قد جاءوا و شرعوا بالتعذيب. (و أنقل هنا عين عبارة المرحوم): كانوا ينهالون علی رأسه بدبابيس ناريّة بحيث يتصاعد لهب النار الی السماء، و كانت صرخات هذا الميّت تتصاعد كأنّ جميع هذه المقبرة العظمية كانت تتزلزل منها. و لا أعلم أيّ صنف من العاصين كان، أكان من الحكّام الظالمين الجائرين ليستحقّ العذاب علی ذلك النحو؟ كان ذلك يحدث و قاريء القرءان يجلس في هدوء عند الجنازة مشغولاً بالتلاوة لا يعلم شيئاً من ذلك أبداً. و كنتُ قد تداعيتُ عند مشاهدة ذلك المنظر، فكان بدني يهتزّ و يرتجف، و وجهي يشحب و يصفرّ، و كنتُ أشير الی صاحب المقبرة أنّ: إفتح الباب فأنا أريد الذهاب؛ فلا يفهم ذلك، حاولت أن أقول ذلك فكان لساني محتبساً في فمي لا يقوي علی الحركة. ثم أفهمته أخيراً: إفتح مغاليق الباب فأنا أريد الذهاب. قال: ايّها السيّد، انّ الجّو بارد، و قد غطّي الثلج الارض، و هناك ذئاب في الطريق ستفترسك. و عبثاً حاولتُ إفهامه أن لا طاقة لي علی البقاء، فلم يكن ليدرك ما أعنيه، فاضطررتُ الی أن أجرّ نفسي الی باب الغرفة ففتحته بنفسي و خرجت. و من انّ المسافة من هناك الی أصبهان لم تكن بعيدة الاّ انّي قطعتها في غاية المشقّة حيث سقطت علی الارض عدّة مرّات، ثم جئت الی غرفتي فسقطت مريضاً اسبوعاً كاملاً. و كان المرحوم الآخوند الكاشي و جهانگيرخان يأتيان الی غرفتي لتطييب خاطري، و كانا يُعطياني الدواء وكان جهانگيرخان يُنضج اللحم المقدّد (الكباب) فيطعمنيه بالإكراه، حتّي استرجعت قوّتي شيئاً فشيئاً. و ينبغي أن نسأل منكري المعاد هنا: أهذه الاُمور أيضاً تقبل الإنكار؟! الصور البرزخيّة: كان المرحوم السيد جمال يقول: حين تشرّفتُ بالمجيء من أصبهان الی النجف الاشرف كنت أري الناس مدّة في صورهم البرزخيّة في هيئة الوحوش و الحيوانات و الشياطين، حتي سئمتُ من كثرة المشاهدة، فتشرّفت يوماً بزيارة الحرم المطهّر و سألتُ أميرالمؤمنين عليه السلام أن يسلب تلك الحال منّي فلا طاقة لي بها، فاستجاب لي أميرالمؤمنين عليه السلام و صرت أري الناس بعد ذلك في هيئتهم العاديّة. لقاء ءاية الله الگلبايگاني مع الارواح في وادي السلامو كان يقول أيضاً: ذهبتُ مرة في يوم حارّ الی وادي السلام لقراءة الفاتحة لاهل القبور و لارواح المؤمنين، و كان الجوّ قائضاً حارّاً جداً فلجأتُ الی طاق كانوا قد بنوه علی أحد القبور و جلستُ في ظلّه، ثم خلعتُ عمامتي و عباءتي لاستريح هنيئة و أعود، فشاهدت في تلك الحال جماعة من الموتي بملابس متهرّئة رثّة و هيئة قذرة جدّاً و هم يتّجهون نحوي ويطلبون الشفاعة منّي: انّ وضعنا سيّء و صعب، فاسأل الله أن يعفَو عنّا! فنهرتُهم و قلت: انّكم لم تُصغوا الی كلّ ما قيل لكم في الدنيا، و ها أنتم تطلبون العفو حين قُضي الامر، فاذهبوا أيّها المستكبرون! و كان يقول: كان اولئك الموتي من شيوخ العرب الذين عاشوا عيشة مستكبرة في الدنيا، و كانت قبورهم في اطراف القبر الذي جلستُ عنده. لقاء المرحوم ءاية الله الگلبايگاني بحوريّات الجنّةو كان يقول: كنتُ جالساً يوماً ما، فوردتُ فجأة في روضة مجللّة في غاية العظمة ذات مناظر تخلب الالباب، و كان حصي أرضها يستهوي الافئدة، و أشجارها مفعمة بالطراوة و الغضارة، و النسائم المنعشة تهبّ خلالها. فوردت تلك الروضة و ذهبت مباشرة الی وسطها فشاهدت حوضاً مترامي الاطراف مليئاً بالماء الرقراق البرّاق، و كان ماؤه صافياً بحيث كان الحصي في قعره ظاهراً للعيان. و كان لهذا الحوض حافّة جلست عليها فتيات حسان لم تَرَ العينُ مثلهنّ يجلسن بأبدان عارية حول هذا الحوض و هنّ يلعبن بالماء و يُمسكن بحافة الحوض بيد و يُهلن باليد الاخري ماء الحوض علی حافّته. و كانت تترأسهنّ فتاة أكبر منهنّ تفوقهنّ جلالاً و جمالاً، فكانت تُنشد الشعر فيرددّنه بعدها و يُجِبنَ عليه. و كانت تترنّم بصوت عال بقصيدة طويلة تقرأها فقرة فقرة، و كانت كلّ فقرة من فقرات القصيدة خطاباً الی الله تعالي أن: لِمَ أهلكتَ قومَ عاد، و لِمَ أهلكتَ قومَ ثمود، و لِمَ أغرقتَ الفراعنةَ في اليمّ، و... و باعتبار انّ كلّ فقرة من هذا الشعر كانت ترجع الی قوم معيّنين، فقد كانت تلكم الفتيات يقلن جميعاً: بأيّ علّة؟ و لايّ سبب؟ و هكذا فقد كانت تلك الفتاة الرئيسة تذكر اعتراضاتها، و الفتيات الباقيات يؤيّدن كلامها في أجوبتهنّ. و كنتُ قد وردتُ ذلك المكان لكني شاهدتُ ان جميع تلكم الفتيات أجنبيّات عنّي، لذا فقد عدُت في حركتي حول الحوض من حيث أتيت وغادرتُ تلك الروضة. لقد كان المرحوم السيد جمال تلميذاً و تابعاً مؤمناً من أتباع القرآن الكريم، و كان شخصاً تربّي بعدّة وسائط علی منهج رسول الله صلّي الله عليه و آله، ولكن باعتبار حصول هذه المكاشفة لديه قبل وصوله الی مقام الكمال الروحي، حيث لم تكن مسألة هلاك قوم عاد و ثمود و نوح بأيدي العوامل الغيبيّة قد حُلّت بعدُ في سرّ وجوده، فقد تجلّي ذلك في عالم المعني علی هيئة اعتراض حوريّات الجنّة، و بغير ذلك فلا معني للإعتراض في عالم المعني و التجرّد، إذ أنّ جميع أهل الملا الاعلي منهمكون في تسبيح وتقديس وجود و صفات و أفعال الحضرة الاحديّة. و من دواعي الفرح انّ ذلك المرحوم قد شاهد ان تلكم الحوريّات كُنّ أجنبيّات عنه، و هو بشارة روحيّة بأنه سيعبر هذا المنزل الذي هو محلّ الشبهة و الاعتراض، و سيصل الی منزل التسبيح و التقديس المطلق، كما تجلّي هذا المعني فعلا في المكاشفات التي حصلت له أواخر عمره، رحمة الله عليه رحمةً واسعة. أقيمة كلام الله و بيانات رسوله أضعف من كلمات السيّد جمال و أمثاله و أقصر تعبيراً؟! ما أفضل ما بيّنه الله جلّ و عزّ في سورة القيامة (75)، الآيات 22 ـ 40: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * الی رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وجوهٌ غضّة طريّة ناظرة الی الجمال الخالد لخالقها، تتطلّع الی تجليّاته فتجده في تلك التجليات. وَ وُجُوهٌ يَؤْمِئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلُ بِهَا فَاقِرَةٌ. و هناك في نفس الوقت وجوه مغمومة حزينة عابسة، يحيط بها الحزن و الكدر و الغمّ. كَلاَّ إذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي * وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَ ظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ * وَ التَفَّتِ السَّاقُ بالسَّاقِ * الی رَبِّكَ يَؤمَئِذٍ المَسَاقُ. كلاّ، ليس أبداً كما يتصورّون أو يظنّون، فيُنكرون يوم القيامة. بل إذا بلغت روح الانسان صدره و ارتطمت بعظام ترقوته و حلقومه في آخر أنفاسه الإنسانيّة، فانّه سيُقال له: من الذي يشفيك، و من الذي يعطيك دعاءً و تعويذة و يكتب له رُقية؟ ءانذاك حين ستكون يداه قد قصرت عن فعل أيّ شيء، و يكون أمله قد انقطع، و رأي الفراق قريباً، و التصقت ساقاه ببعضهما فلا قدرة له بعدُ علی الحراك. او حين تلتفّ حال الاحتضار و سكرات الموت هذه التي تمثّل حال أُفول البدن، بساق الآخرة، اي طلوع عالم الغيب. أو حين يكون ملائكة الرحمة او الغضب قد التفّوا عليه و تقاطروا عليه بكثرة فساقوا بينهم هذا العبد الی مقصده و غايته. ذلك الوقت هو وقت الحركة و السوق الی ربّك أيّها النبيّ. فَلاَ صَدَّقَ وَ لاَ صَلَّي * وَ لَكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّي * ثُمَّ ذَهَبَ الی أَهْلِهِ يَتَمَطَّي * أَولَي لَكَ فَأَوْلَي * ثُمَّ أَوْلَي لَكَ فَأَوْلَي. وهذه الآيات نزلت في شأن أبي جهل الذي كان يسخر بالنبيّ صلّي الله عليه و آله، و بدعوته للصلاة و الزكاة، و يعد يوم الجزاء من الاساطير والخرافات. تقول الآيات: لم يكن يتصدّق و لا يصلّي، بل كان يُنكر الله و يكذّب بيوم القيامة، و يُعرض عن حقائق العالم و عن كلام الله و رسول. ثم كان يذهب الی أهله من عند رسول الله باستكبار و خُيلاء، فيفتخر عندهم بالتجاسر علی رسول الله صلي الله عليه و آله و سلّم. بلي ان جهنّم أولي به و أجدر، نار جهنّم أولي به من أي شيء آخر. أَيَحْسَبُ الإنِسَـ'نُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًي * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَي * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّي * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَي * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـ'دِرٍ علی أَنْ يُحْيِيَ الْمَوتَي. أيخيّل الإنسان أنّه خُلق مُهملاً ملهيّاً عنه، فلا مسؤولية و لا التزام له أمام عالم الخلقة؟ أَوَلَم يكن أصل هذا الإنسان من منيّ يُمني و يُراق؟ ثم انّه صار في رحم أمّه في هيئة علقه، ثم صوّره ربّه في شكل و هيئة معينة ذي أعضاء و جوارح و حواسّ، و سّواه بالغرائز و الملكات، ذلك الربّ الذي جعل من الانسان الزوجين الرجل و المرأة. أفلا يستطيع ربّ قادر كهذا أن يُحيي الموتي فيُجازيهم علی أعمالهم و سلوكهم؟ و قد ورد في رواية انّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان يُكثر تلاوة هذه الآية: أَيَحْسَبُ الإنسَـ'نُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًي. فتجري دموعه غزيرةً من عينيه، وكان يكررّها كلمّا قرأها. لقد كان أميرالمؤمنين عليه السلام مطّلعاً علی ماوراء هذا الستار، فهو إمامٌ عالمٌ بالسرّ و الخفيات، مشهودٌ لديه عالم الغيب و الشهادة. يكتب ابن حجر الهيثمي المكّي: فَلَمّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ يَفْطُرُ علی لَيْلَةً عِنْدَ الْحَسَنِ وَ لَيْلَةً عِنْدَ الْحُسَيْنِ وَ لَيْلَةً عِنْدَ عَبْدِاللَهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَ لاَ يَزِيدُ علی ثَلاَثِ لُقَمٍ وَ يَقُولُ: أُحِبُّ أَن أَلْقَي اللَهَ وَ أَنَا خَمِيصٌ. [5] إخبار أميرالمؤمنين عليه السلام عن شهادتهفَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي قُتِلَ فِي صَبِيحَتِهَا علی بنُ أَبِي طَالِبٍ أَكْثَرَ الْخُرُوجَ وَالنَّظَرَ الی السَّمَاءِ، فَقَالَ: مَا كَذَبْتُ وَ مَا كُذِبْتُ، وَ اِنَّهَا هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدْتُ. [6] بلي، هذه الليلة هي ليلة الوصال، ليلة لقاء المحبوب و زيارته، كانت حال الامام منقلبة كثيراً تلك الليلة، و كان انقلاب حال الإمام و تغيّره نابعاً من سعة نفسه و عظمة قابليّته و رحابته، فقد كانت سعته تشمل جميع الموجودات لانّ الإمام قلب العالم، فكلّ موجود يحصل علی إفاضة الوجود من ذات الخالق المقدّسة بوسيلته و واسطته، لذا فانّ رحلته هذه ستكون بمثابة هزّة لجميع الموجودات الارضيّة و السماويّة، و سيحصل الانقلاب علی اثرها في سرّ كلّ موجود، و هذا هو معني انقلاب حال الإمام وقت رحيله. كانت ملامح و سيماء أميرالمؤمنين عليه السلام و طلعته المنيرة حاكية عن ظهور جميع الموجودات، و كان قلبه المبارك ينبض بضربات قلب جميع الموجودات. لقد كانت سعة أمثال الهيدجي و أمثال الطالقاني بقدر سعة وجودهم وظرفيّته، فاذا امتلأكأسهم طفح و فاض فلم يعد يسعهم تمالك أنفسهم من الفرح و الجذل لكنّ سعة أميرالمؤمنين و ظرفيّته كانت تزيد علی السماوات و الارض و علی جميع قلوب البشر و قلوب الجنّ و الملك فهو الحائز لجميع مقامات الملك و الملكوت، كما انه يجسّد مقام الولاية الكليّة الالهيّة و المتصرّف في عالم الإمكان، لذا فانّ حركةً كهذه ستوجد هزّةً و زلزلة في عالم الوجود. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـ'واتِ وَالاْرْضَ، وَ سِعَةُ السموات و الارض لاتُقاس بسِعة عرش الله، و عرش الله قلب المؤمن. و أيّ مؤمن؟! أميرالمؤمنين عليه السلام الذي يمثّل ثمرة عالم الخليقة و نتيجة وعُصارة الخلق و جوهرة الوجود. كان أميرالمؤمنين يريد الرحيل، الرحلة المطلقة نحو الحبيب، فما الذي حدث في تلك الليلة؟ و ما التقدير الذي قدّره اللَه سبحانه فيها؟ وبأيّ صورة يريد استقبال وزيره و خليفته الوحيد علی الارض و فخر بني آدم أجمع؟ ما حال الحوريّات و ملائكة السماء؟ و ما هذه الضجّة والغوغاء لدي طيور السماء و حيتان البحر و دوابّ الارض؟ لِمَ تبكي الصخور بدل الدموع الجارية دماً؟ ما حال الانبياء العظام و المرسلين وكيف ينتظرون قدوم علی؟ و ما هو حال رسول الله صلّي الله عليه وآله؟ سخن سربسته گفتي با حريفان خدا را زين معمّا پرده بردار [7]
بسم اللَه الرحمن الرحيم و الحمد لله ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم و صلّي الله علی محمد و ءاله الطاهرين و لعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن الی يوم الدين
(اُلقيت هذه المطالب في اليوم الرابع من شهر رمضان المبارك) الموت و النوم ينتميان الی مقولةٍ واحدة باختلاف الشدّة و الضعفقال اللَه الحكيم في كتابه الكريم: اَللَهُ يَتَوَفَّي الاْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَي' عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الاْخْرَي' إِلَي' أَجَلٍ مُسَمَّيً إِنَّ فِي ذ'لِكَ لآيَـ'تٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [8]. هذه الآية المباركة صريحة في انّ الموت و النوممنجنسواحد و انّهما يمتلكان حكماً واحداً، فاللَه سبحانه هو الذي يتوفّي الانفس عند الموت و عند النوم كليهما، فيمسك بروح من حان أجله و يُرسل روح من لم يحن أجله بعدُ عند استيقاظه من نومه. و هي مسألة تستحقّ التأمّل الوافر. أوّلاً: لبيانه أخذ الروح المشترك بين النوم و الموت بلفظ التوفّي وليس بلفظ القبض، لانّ معني التوفّي: الاخذ بتمام المعني، بينما يعني القبض الاخذ و السلب؛ فاللَه سبحانه يأخذ الروح بحقيقة الاخذ والسلب في حال الموت و النوم، لكنّه في حال الموت يزيد علی هذا الاخذ و القبض فيسلب الروح و لا يُعيدها، بينما يكتفي بالتوفّي في حال النوم ثمّ يعيد الروح و يطلقها عند الإستيقاظ. و قد ورد التعبير بلفظ التوفّي في آية أخري وردت في شأن النوم: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضي' أَجَلٌ مُسَمَّي ثُمَّ اِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. و ثانياً: انّ ما يتوفّاه اللَه سبحانه هو أرواح الآدمييّن، يَتَوَفَّي' الاْنْفُسَ، والنفس هي الروح. و عليه فانّ روح الإنسان تنتقل حال الموت و النوم من بدن الانسان و من هذا العالم الی عالمٍ آخر. يستقرّ بدن الانسان عند النوم علی الارض في حين تسير روحه في عوالم أخري ثمّ تعود. و يستقرّ بدن الانسان عند الموت علی الارض أو تحتها و تنتقل روحه الی عوالم أخري فلا تعود،يشهدعليهذاالمعني انّ التعبير جاء في هذه الآية بلفظ يَتَوَفَّاكُمْ؛ كما ان نفس الانسان هي حقيقته التي يعبّر عنها في المحاورات و المحادثات ب «أنا» و «أنت» و«هو» و «نحن» و «أنتم» و «هم»، فإن قال أحد: أنا فعلت كذا و قلتُ كذا؛ فانّ المراد بلفظ «أنا» روحه و نفسه لا بدنه؛ و حقيقة أنا و أنت و هو و «كُمْ» وغيرها من الضمائر العربيّة هي الروح التي يتوفّاها اللَه و يقبضها عند الموت. و الشاهد الآخر قوله في الآية 6، من السورة 84: الانشقاق: يَـ'أَيُّهَا الإنْسَـ'نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلي' رَبِّكَ كَدْحًَا فَمُلـ'َقِيهِ فهذا الخطاب موجّه الی حقيقة الانسان أي روحه، و ليس موجّهاً اليبدنه. و لقد خلق اللَه سبحانه الروح من عالم التجرّد و وهبها البدن لاستكمال القوي، كي تتمكّن من الحركة في هذا العالم و تتجّه دوماً ـ بعد طيّ العوالم الاخري ـ الی اللَه سبحانه فتنال مقام لقاء حضرته. و الشاهد الآخر انّ اللَه سبحانه يخاطب أهل جهنّم في الآية 112، من السورة 23: المؤمنون. قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ¥ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعَادِّينَ ¥ قَالَ إنْ لَبِثْتُمْ اِلاَّ قَلِيلاً لَوْ اَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. [9] فقد عُبّر في هذه الآيات عن الحياة و العيش في الارض بلفظ اللبث الذي يمتلك معني التوقّف و الإقامة المؤقّتة، و هو ما يصدق علی من يطوي طريقاً طويلاً ثمّ يتوقّف أثناء الطريق فيمكث قليلاً. كما لو انّ الانسان يأتي الی هذا العالم من عالم آخر فيلبث فيه و يتوقّف مدّة ثمّ يرحل عن هذا العالم و يُهاجر، و هو ما يصدق علی الروح و النفس الآدميّة التي كانت في عوالم الذرّ ثمّ جاءت الی عالم المادّة فارتدت لباس المادّة علی الارض، ثمّ خلعت هذا اللباس و تركته مرتحلة نحو عالم البرزخ والقيامة. انّ الروح تخلع لباس البدن المتهرّي فترتدي الخلعة الالهية أو تبتلي بالعقاب جزاء أعمالها. لذا فانّ التعبير عن توقّف الروح في الدنيا بلفظ اللبث في هذه المحاورات تعبيرٌ صحيح، امّا لو كان الخطاب موجّهاً لإنسان قوامه بدنه فهو يفني بفناء بدنه و موته، فلا ينبغي آنذاك التعبير بلفظ اللبث و التوقّف، بل ينبغي استخدام لفظ السكن و الإقامة و أمثالها. الموت تطهير و تزكية للإنسانيروي الصدوق في كتاب «معاني الاخبار» عن محمّد بن القاسم المفسّر، عن أحمد بن الحسن الحسيني عن الامام الحسن بن علی العسكري عليه السلام قال: دخل علی بن محمّد عليه السلام علی مريض من أصحابه و هو يبكي و يجزع من الموت، فقال له: يا عبداللَه تخاف من الموت لانّك لا تعرفه، أرأيتك إذا اتّسختَ و تقذّرتَ و تأذّيتَ من كثرة القذر الوسخ عليك و أصابك قروح و جرب و علمتَ أنّ الغسل في حمّام يُزيل ذلك كلّه أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك أو ما تكره أن لا تدخله فيبقي ذلك عليك؟ قال: بلي يا ابن رسول اللَه قال: فذاك الموت هو ذلك الحمّام و هو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك و تنقيتك من سيّئاتك فإذا أنت وردتَ عليه و جاوزتَه فقد نجوتَ من كلّ همّ و غمّ و أذي، و وصلتَ الی كلّ سرور و فرح، فسكن الرجل و استسلم و نشط و غمض عين نفسه ومضيلسبيله.[10] و كذلك يروي المرحوم الصدوق في «معاني الاخبار» بنفس السند عن الإمام علی النقيّ عليه السلام أنّه قال: قيل لابي محمّد الجواد محمّد بن علی بن موسي صلوات اللَه عليهم: ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ قال: لانّهم جهلوه فكرهوه ولو عرفوه و كانوا من أولياء اللَه عز و جل لاحبّوه و لعلموا أنّ الآخرة خيرٌ لهم من الدنيا، ثمّ قال عليه السلام: يا أباعبداللَه ما بال الصبيّ و المجنون يمتنع من الدواء المنقي لبدنه و النافي للالم عنه؟ قال: لجهلهم بنفع الدواء. قال: والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً إنّ من استعدّ للموت حقّ الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المتعالج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدّي اليه الموت من النعيم لاستدعوه و أحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات و اجتلاب السّلامات. [11] و كذلك يروي في نفس الكتاب عن محمّد بن القاسم المفسّر الجرجاني، عن أحمد بن الحسن الحسيني عن الحسن بن علی الناصري، عن أبيه، عن محمّد بن علی الجواد عليه السلام قال: قيل لعليّ بن الحسين عليهما السلام: ما الموت؟ قال: للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، و فكّ قيود و أغلال ثقيلة، و الاستبدال بأفخر الثياب و أطيبها روائح و أوطي المراكب، و آنس المنازل، و للكافر كخلع ثياب فاخرة، و النقل عن منازل أنيسة، و الاستبدال بأوسخ الثياب و أخشنها، و أوحش المنازل وأعظم العذاب [12]. الموت هو نوم ثقيل، و النوم هو موت خفيفلقد كان القصد من ذكر هذه الروايات بيان أنّ الروح حيّة بعد الموت معذّبة أو منعّمة، أشبه بالحلم الذي يراه الإنسان في النوم فهو امّا مسرور برؤية المناظر الخلاّبة أو مغموم بمشاهدة المناظر المرعبة المحيّرة، فكلاهما ينبع من مقولة و أساس واحد. يشهد علی هذا الامر انّه يروي عن كتاب معاني الاخبار بنفس السند الاخير الذي ذُكر، عن الامام محمّد النقي عليه السلام أنّه سُئل عن حقيقة الموت فقال: هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة الاّ أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه الاّ يوم القيامة، فمن رأي في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره و من أصناف الاهوال ما لا يقادر قدره؟ فكيف حال فرح في النوم و وجل فيه؟ هذا هو الموت فاستعدّوا له [13]. فهذه الرواية صريحة في ان النوم و الموت كلاهما واحد، غاية الامر انّ الموت أعمق و أثقل بقدرٍ ما، بينما النوم أخفّ و أكثر سطحيّة. و لذا يمكن القول أنّ الموت هو نوم ثقيل، و انّ النوم هو موتٌ خفيف سطحيّ. و علی هذا الاساس فقد ورد في مصباح الشريعة، طبع «مركز نشر كتاب» طهران 1379 ه ق، الباب 44، ص 29: قال الصادق عليه السلام: إنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَ اسْتَدِلَّ ] به [ علی الْمَوْتِ الَّذِي لاَ تَجِدُ السَّبِيلَ إلَيالإنْتِبَاهِ فِيهِ وَ الرُّجُوعِ الی إصْلاَحِ مَا فَاتَ عَنْكَ. و كذلك روي في الجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 189 شركة مكتبة و مطبعة مصطفي البابي الحلبي بمصر، الطبعة الرابعة، عن رسول اللَه صلي الله عليه و آله و سلّم: النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَ لاَ يَمُوتُ أَهْلُ الْجَنَّةِ. و رواه في كنوز الحقائق، ص 143، بهذه العبارة: النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لاَ يَنَامُونَ وَ لاَ يَمُوتُونَ. لقد تحيّر جميع فلاسفة العالم و حكماؤه الكبار في ماهيّة حقيقة النوم، كما انّهم متحيّرون في ماهيّة الموت، فلم يستطع أحد منهم حتّي الآن أن يدرك أسرار النوم و يكشف الستار عنه، كما لم يستطع أحدهم أن يدرك أسرار الموت و يصل الی حقيقته. و الفارق الذي يمكن وضعه بين هذين الاثنين أنّ البدن يسكن حال النوم فتقلّ فعاليّته و أعماله التي يقوم بها، فيقلّ جريان الدمّ و ترتاح الاعصاب و تسترخي بدرجة أكبر، و ينبض القلب و تعمل سائر الاعضاء الرئيسيّة و الثانويّة و الجوارح و الامعاء بدرجة أخفّ و تستمر في عملها، ويفقد البدن من حرارته الی حدّ معيّن، لذا يكثر إصابة الإنسان بالبرد حال النوم، و يتوجّب عليه لذلك تدثير نفسه بدثار وعظاء، لكن الامر ليس كذلك حال الاستيقاظ، فَلِمَ يكون ذلك؟ ذلك لان الروح تقلل علاقتها و رابطتها بالبدن حال النوم، لكنها لا تقطع تلك العلاقة و الرابطة،بل تبقي تلك العلاقة باقية اجمالاً، لذا فانّ البدن يقوم بأعماله بواسطة هذا القدر من العلاقة الاجماليّة. امّا عند الموت فانّ الروح تقطع علاقتها و رابطتها بالبدن كليّاً و تنصرف الی عالم التجرّد المحض المطلق. و كما انّ الروح تتحرّك حال النوم الی عالم التجرّد عموماً، و هو نفسه عالم الملكوت الاسفل و عالم الصورة و المثال، فيرقد البدن عليالارض؛ فكذلك تتحرك الروح عند الموت الی ذلك العالم أو الی الملكوت الاعلي و عالم المعني و عالم النفس فتترك البدن و تدعه و شأنه. لذا فانّ النوم هو الموت لعدّة ساعات، كما أنّ الموت هو النوم الدائمي المستمر، و لا فرق هناك بين الموت لعدّة سنوات أو لعدّة مئات من السنين أو لعدّة آلاف منها؛ كما لا فرق هناك بين النوم لدقيقة واحدة أو لساعة واحدة أو لعدّة ساعات.
و كما قد لوحظ انّ هناك حالات متفاوتة لدرجات النوم، فالبعض ينامون نوماً
خفيفاً بحيث يستيقظون لادني صوت أو حركة، بينما ينام البعض الآخر نوماً
ثقيلاً، و البعض الآخر نوماً أثقل بحيث لا توقظهم الحركات الشديدة و هدير
الطائرات و صوت الرعد، فانّ بعض الناس لهم موت خفيف، فهم يُبعثون و
يهاجرون بمجرّد الدعوة الی مقام عزّ و يمكن القول اجمالاً بعبارة اخري انّ الانسان ينام حال حياته وعيشه نوماً مؤقّتاً و قصيراً ثمّ يستيقظ، و لكنّه ينام حال موته نوماً طويلاً ثم يستيقظ بعده و يُبعث حيّاً. تمثيل نوم الإنسان و موته بالمراحل المختلفة لدودة القزّ، و التشابه بینهما
انّ
دودة القزّ و المراحل المختلفة التي تمرّ عليها تبعث علی الدهشة و لقد كان للحقير علاقة زمن الصبا بتربيتها، فكنت أربّي مقداراً منها في المنزل في فصل الربيع لسنوات طويلة. بيوض هذه الدودة بيضاء اللون أكبر قليلاً من بذور الخشخاش، و حالما تبدأ شجرة التوت باخراج البراعم في فصل الربيع فانّ هذه البيوض تفقس عن ديدان سوداء صغيرة بضخامة رأس الدبّوس و بطول عدّة مليمترات، فتخرج من تلك البيوض و تقتات علی أوراق التوت فتكبر تدريجاً، ثمّ تمر بمرحلة السبات الذي يستغرق يومين كاملين، واضعةً أرجلها عند نومها علی الارض و رافعةً رأسها و أيديها، فهي لا تتحرّك و لاتأكل أبداً. و اذا ما حرّكناها فانها ستبدي حركات ضئيلة لا يُعلم منها الاّ انّها لا تزال علی قيد الحياة.
ثم تستيقظ من سباتها بعد يومين فتغيّر جلدها و تُلقي جلدها السابق و تخرج
منه بجلد جديد و بدن جديد طريّ، و تكون في هذه الحالة أكبر ثم تسبت ثانية فتقضي يومين كاملين بنفس المنوال السابق، وتستيقظ بعد ذلك فتبدّل جلدها من جديد و تتّجه نحو أوراق التوت ببدن أكثر طراوة و نشاطاً. ثم تنشغل بالتغذية عدّة أيّام و تمرّ بعد ذلك بحالة السبات و النوم وتستيقظ بعد يومين كاملين و تغيّر جلدها و تبدو هذه المرّة بشكل يختلف كثيراً عن السابق، فتكون مفاصل بدنها قد اتّضحت و تميّزت، و صار رأسها مميّزاً شاخصاً، و صار شكل أيديها و أرجلها معلوماً واضحاً، حتّيانّ شكل ورود الهواء و خروجه من رئتها الواقعة قرب ظهرها الذي هو بمنزلة العمود الفقريّ للإنسان صار مشهوداً و معلوماً حال التنفّس. و تنشغل هذه الدودة بتناول الغذاء، فتمضغ أوراق التوت بصوت يشبه صوت المنشار الدقيق، و تمرّ عليها عدّة أيّام علی هذا المنوال، ثم ترقد هذه الحشرة المعصومة من جديد كالسابق و تستيقظ و تبدّل جلدها فيتّضح الآن انّ الحشرة قد بلغت مرحلة بلوغها و صار لونُها أبيضاً تماماً يميل الی الزُرقة، و سمكها بقدر سمك حبّة من الحمّص أو نواة تمر، وطول قامتها سبعة أو ثمانية سانتمترات و تستمر بتناول الغذاء حتي تبلغ مرحلة كمالها. و ها هي الآن تريد توديع هذه الحياة، فتصنع هذه الحشرة لنفسها قبراً، و تنتابها حالة الموت تدريجيّاً خلال صنعها لهذا القبر، ثمّ تغلب عليها سكرات الموت فيصيبها الدوار و الاعياء. و ليس قبرها الاّ شرنقتها التي تحوكها من لعابها، ذلك اللعاب الشبيه بخيط متّصل دائميّ تخرجه من فيها. و هذا القبر يعد ضروريّاً لها، لانّها إن لم تُخفِ نفسها فيه فان النملة التي تُعدّ من أشد أعدائها ستقطّعها في الوهلة الاولي و تجرّها الی بيتها، كما ان العصافير ستبتلعها في لقمة واحدة فتُنهي أمرها، و قد تُسحق تحت الايدي و الاقدام. و هي تبني هذه الشرنقة أو القبر بين أغصان شجرة التوت، أو في نفس الصندوق أو الوعاء الذي وُضعت فيه، تبنيها بحجم ظريف و لطيف يري الانسان نفسه محتاجاً له فيفيد منه علی هيئة حرير يعدّ منه ملابسه. انّ هذه الحشرة تقوم عندما تنتابها سكرات الموت و حين يحين موتها بافراز لعاب فمها فتحوكه علی بدنها و تلفّه عليه، و تستمرّ في ذلك الی مدّة يوم كامل تقريباً تصبح فيه هذه الشرنقة محيطةً بها بشكل كامل، و تبدأ هذه الدودة بالتناقص في الطول تدريجاً حتي تصبح قامتها عند انتهاء حياكة الشرنقة تقارب ثلث قامتها الاصليّة. و حين تكمل حياكة الشرنقة فان الحشرة ترقد في داخلها رقوداً طويلاً لمدّة عشرين يوماً، لكنّ هذه الحشرة لم تعد خلال هذه المدّة بشكل دودة، فقد التفّت علی نفسها و انقبضت و انغرس رأسها و أيديها و أقدامها في جسمها، و قصرت طولاً الی حدّ لم يعد لها أيّ شبه مع تلك الدودة السابقة، فقد صار طولها الآن يعادل سانتيمتراً واحداً، فاذا شُقّت الشرنقة شوهدت هذه الحشرة أشبه بحبّة لوبياء محترقة، أو كبيضةالنحل، متيبّسة وميّتة بما في الكلمة من معني. هذه الحشرة لا تشبه الاّ موجوداً ميّتاً جامداً، بيد انّها ليست ميّتة، فما هو ـ يا تري ـ السير الذي تطويه في شرنقتها؟ و ما هي الحركات الموجودة في جوهر وجودها التي تجذّبها كلّ لحظة من مرحلة الی أخري وتحوّلها من حال الی آخر و ترتقي بها بشكل متواصل أعلي المدارج في مقام السير التكاملي لوجودها، حتي تصبح حيّة بشكل تدريجي و تنهض من سباتها الثقيل فتشقّ قبرها بلعاب فمها و تخرج من الشرنقة أو القبر فتحضر صحراء المحشر.
و ما أعجب ما اتّخذت من شكل! و ما أغرب ما تباينت ملامحها! فلقد استحالت
تلك الدودة الطويلة فراشةً لها جناحان كبيران فوقهما جناحان آخران صغيران،
و صار لها عينان برّاقتان متلالئتان كعيون الفراشة، و قرنان كقرني الفراشة.
و صارت الآن أقدامها التي كانت في مؤخرّتها أسفلَ رأسها، و استحالت بطنها
كبطن الفراشة تنقسم الی قسمين أعلاهما ضخم و سميك و أسفلهما نحيف. و لقد صار
بدنها و أجنحتها فسبحان اللَه! ما الامر؟ و أيّ موجود هذا؟ و أيّ تطوّر و تكامل هذا؟ هذا هو أحد أمثلة و نماذج الموت و تطوّراته و البعث و النشور، بالرغم من انّ الحالات التي بينّاها لهذه الحشرة ليست مثالاً للموت بل مجرّد تشبيه، و ذلك لانّ جميع المراحل التي طوتها هذه الدودة كانت متعلّقة بأجمعها بعالم الطبع و المادّة، و لم تتّصل بعالم البرزخ و الصورة بسبيل، بيد انّه تشبيه مفيد للغاية لتطوّرات الانسان و موته و حياته اللاحقة. و هو تشبيه يستحقّ التأمّل و العناية لمراحل موت الانسان و رقوده في القبر و فقدانه تماماً لشكله و هيئته الاولي، و فناء العيون و الآذان والجوارح، و للإشارة الی ان هذه التغييرات لا تدلّ علی فقدان الحياة. فهذا الانسان سيحضر يوم القيامة في هيئة اخري و شكل آخر، هو الصورة و الهيئة الواقعيّة لنفسه الناطقة، غاية الامر انّ قيامة هذه الدود كانت بعد عشرين يوماً و قيامة الإنسان أبعد من ذلك. و كما انّ هذه الدودة قد رقدت ثمّ استيقظت، فكذلك الانسان يرقد ثم يستيقظ، و كما ان هذه الدودة ماتت ثمّ بُعثت، فكذلك الانسان يموت ثم يُبعث. و من أجل ايضاح هذا المطلب فلابد من تقديم إيضاح سهل، مع اننا نسعي لتكون المطالب التي نذكرها في هذا المجال بسيطةً سهلة الإدراك. ثلاث مراحل وجوديّة للإنسان: الطبع و المادّة، الذهنوالبرزخ،الروحوالنفسان الانسان يمتلك مراحلاً ثلاثاً، الاولي: بدنه الذي يعبّر عنه بعالم الطبع و المادّة. و الثانية: القوي الفكريّة و التخيّليّة التي يعبّر عنها بعالم المثال و الصورة. و الثالثة: روحه و نفسه التي يعبّر عنها بعالم النفس. فهذه المراحل الثلاث غير منفصلة عن بعضها، بل متّصلة و متداخلة. فهي ليست كمثل حبّة من الحمص نضعها جنب حبّة من اللوبياء، و لا كمثل ملعقة نضعها داخل كوب و نضع الكوب داخل وعاء، بل لا انفكاك للبدن عن الصورة و لا للصورة عن الروح، البدن مندكّ في الصورة و الصورة مندكّة في النفس. تشبيه: انّ الجوزة الواحدة او حبّة اللوز الواحدة تمتلك جسماً، و تمتلك زيتاً، و تمتلك عصارة، فالمرحلة الاولي هي جسمها الذي يمثّل هيكلها، و المرحلة الثانية: الزيت الذي ليس خارجاً عن الجسم، بل منتشر مبثوث في جميع أعضاء و أجزاء هذا الجسم و له حكم روحه. و المرحلة الثالثة: الجوهر و العصارة الذي ليس منفصلاً هو الآخر عن الزيت، بل منتشر في جميع ذرّات الزيت و له حكم روحه. بيد أنّ هذا التشبيه يتفاوت مع مورد بحثنا في اندكاك البدن في الصورة، و الصورة في النفس في جهتين: الاولي: انّ العصارة و الجوهر في حبّة اللوز مندكّة في الزيت، والزيت مندكّ في حبّة اللوز، في حين أن الامر معكوس في مورد البحث، فالجسم مندكّ في الصورة و المثال، و المثال مندكّ في النفس. و الجهة الثانية: انّ العصارة في حبّة اللوز هي داخل الزيت حقيقةً، والزيت داخل أجزاء الحبّة حقيقةً؛ أمّا في مورد البحث فليس في الامر تداخل؛ بل ان للروح إحاطة بالمثال و شمول له، و للمثال إحاطة بالبدن وشمول له، لكننا نقول من باب ضيق التعبير بانّ البدن داخل في المثال والمثال داخل في النفس. و علی كلّ حال فاننا نقول في هذا التشبيه بأنّ بدن الانسان يشبه حبّة اللوز، و عالم المثال و الصورة في الانسان كزيت اللوز، كما ان عالم نفس الانسان و روحه كجوهر اللوز و عُصارته. اننا نري جميعاً بدن الانسان ـ الذي هو طبعه و مُلكه ـ و نحسّ به، أمّا مثاله الذي هو عالم ذهنه فمجرّد يمثّل عالم ملكوته الاسفل، كما انّ نفسه التي هي روحه لها تجرّد أكثر، فهي تمثّل عالم ملكوته الاعلي. ان روح الانسان و نفسه الناطقة لا تخضع للتغيّر و التبدّل منذ ولادته الی زمن رحيله، بل تبقي معه فتحدّد معالم شخصيّته الإنسانيّة، بيد انّها تمتلك تكاملاً يرتقي بها من مراحل الاستعداد و القابليّة الی مرحلة التعيّن والفعليّة. إنّ عالم ذهن الانسان و مثاله، الذي يُدعي أيضاً بعالم البرزخ، لا يتغيّر و لا يتبدّل بل يطوي مراحل من مراحل التكامل. علی انّ بدن الانسان في حال تغيّر و تبدّل دائميّ، فهو يفقد كلّ يوم أجزاء منه و يضيف الی نفسه أجزاء جديدة أخري، حيث يقوم الغذاء بتعويض الاجزاء المنحلّة و التالفة من الجسم، و عليه لذلك ان يصل اليتلك الاجزاء فيملا مكان الاجزاء التالفة و يرمّمها. و حين ينام الانسان فانّه يريح بدنه علی الارض، لكنّ عالم مثاله وذهنه لا يرقد علی الارض، بل يبقي متيقّظاً متحرّكاً يحلّ المسائل الفكريّة و يقوم بالعبادة و بالمجادلات و المنازعات، و بالنكاح، و يحلّق فيالسماء و يسبح في البحر و يقوم بآلاف الاعمال بصور مختلفة نعبّر عنها بالحلم و الرؤيا. و هكذا نراه يصبح في بعض الاحلام عصبيّاً و منزعجاً ينازع و يقاتل و الخوف و الحيرة تملا كيانه، كما نره في بعضها الآخر مستغرقاً في السرور و الانبساط ليّناً مسالماً الی أبعد الحدود. ثمّ ينهض من النوم فيخيّل اليه انّ بدنه قد قام بتلك الاعمال و انّه قد حلّق فعلاً بهذا البدن الترابيّ و نازع و جادل و قاتل و قام بالاسفار الطويلة. فيستفسر من رفيقه و صاحبه الذي كان صاحياً: ما الذي فعلتُ؟ و أين ذهبتُ؟ و كم شخصاً قتلتُ؟ و ما المباهج التي تمتّعتُ بها؟ فيقول رفيقه في جوابه: لا شيء، لا شيء مطلقاً، فقد كان بدنك مطروحاً علی الارض بلا حراك، و لم يبدر منك أبداً أي حركة و لا كلام. بلي، لم يقم بدنه بتلك الاعمال، و لم يرتجل لسانه اللحميّ تلك الخُطب، كما لم تشاهد عيناه الظاهريّتان القابعتان في فجوتي رأسه مناظر الحلم العجيبة المدهشة، و لا سمعت أذناه اللتان قوامها اللحم و العظم تلك الاصوات و ذلك الهدير و الضوضاء. الافعال التي يفعلها الإنسان النائم في حال الرؤيا و الموت، يفعلها ببدنه المثاليلقد كانت روحه تتحرك في عالم النوم ببدنه الملكوتي و المثالي، وكان بدنه المثالي و الصوري يجترح هذه الاعمال، و لا علاقة في الامر أبداً بالبدن المادي اللحميّ. و كذلك فانّ الاعمال التي يقوم بها الانسان حال الصحو و الاستيقاظ انّما تقوم بها روحه بصورتها الملكوتيّة تلك، غاية الامر انّ عالم الطبع قوي و عالم المثال ضعيف، لذا فانّ الروح لا تقوي علی انجاز جميع الاعمال التي ترغب في انجازها بواسطة البدن، و تمنع غلبةُ عالم الطبع الروحَ من كثير من رغباتها. علی أنّ هذه الروح تقوم بصورتها المثاليّة حال الصحو والاستيقاظ بالكثير من الاعمال، فتحرّك جسد الانسان و بدنه في متابعتها، مثل جميع الاعمال التي يقوم بها البدن. و لكنّها أيضاً تقوم بالكثير من الاعمال مستغنيةً عن البدن؛ و فقط تقوم بها في هيئتها المثالية، كما يحصل حين يكون المرء جالساً فيتحرّك بقواه الذهنيّة الی مكّة المكرّمة، فيحرم في الميقات، و يدخل مكّة فيطوف و يصلّي صلاة الطواف، ثمّ يسعي بين الصفا و المروة، و يقصّر و يقوم بأعمال الحج من الاحرام و الوقوف بعرفات و المشعر و الهدي و رمي الجمار و الحلق و باقي المناسك ثمّ يعود الی حيث كان، و قد قام بجميع هذه الاعمال بصورته الملكوتية حال الصحو، و لم يتحرّك بدنه خلالها من مكانه أبداً. و ذلك لان أفراد الناس يقومون حال اليقظة بصرف اهتمامهم الحقيقي الی بدنهم فلا يستطيعون انجاز جميع اعمال النفس بهذا البدن، أمّا في عالم النوم فيصبح الاهتمام و العناية بالبدن أضعف، فتدرك روح الانسان حقيقتها بصورتها المثالية بدون ملاحظة البدن المادي، و تقوم بجميع الاعمال التي تشاءها في قالب المثال و الصورة. في حال الصحو و اليقظة تكون الغلبة للتوجه الی البدن و صرف الاهتمام اليه، لذا يخال للانسان انّ البدن هو حقيقته، امّا في حال النوم فانّ الغلبة للاهتمام بالصورة و القالب المثالي، لذا يتصوّر الانسان انّ حقيقته هي تلك الصورة و البدن المثالي. و حين تتصوّرون حال اليقظة انكم تذهبون الی مكّة، بينما تجلسون هنا، فانكم قد تصوّرتم مكّة و قيامكم بالمناسك، أمّا في عالم النوم فانكم قد ذهبتم بأنفسكم الی مكّة، و ذلك لان الصورة المثالية في النوم هي حقيقة الانسان، و لم يكن الامر انّكم كنتم هنا فتصوّرتم الذهاب الی مكّة خارج وجودكم. و علی هذا الاساس فانّ الانسان يمكنه القيام بأعمال مهمّة في عالم النوم يعجز عنها في عالم اليقظة، لانّه يحاول أن يفعل ذلك حال اليقظة ببدنه الماديّ فلا تسعفه القدرة علی فعل ما يشاء، امّا عند النوم فانّه يُلقي ببدنه المادي و يفعل أفعاله ببدنه الصوري و المثالي الذي يفوق البدن الماديّ قدرته آلاف المرّات، فيجترح الاعاجيب، و يحلّق في السماء، ويجتاز من المشرق الی المغرب في لحظة واحدة، و يسبح في المحيط الاطلسي فيعبره، و يخترق الجدار، و ينفذ من فتحة صغيرة ضيّقة بقدر الاصبع، و يختم القرآن في لحظة واحدة، و أمثال هذه الامور التي يعجز عن فعلها حال الصحو و اليقظة. كما انّ الانسان يخلع بدنه كليّاً عند الموت فيصبح تجرّده آنذاك أقويو روحه أكثر تحرّراً و قدرة، لذا تصبح أعماله أعجب، فيصير بإمكانه أن يقوم في لحظة واحدة باكتساب العلم بجميع الجهات من عوالم الطبيعة و كيفيّاتها، و ان يمرّ علی جميع أهله و عشيرته فيطلّع عليأحوالهم، و أن يقبل جميع الهدايا التي يرسلها اليه أصدقاؤه و أرحامه علی هيئة خيرات و مبرّات تظهر بصورة رحمة و نور يمثل غذاءه المعنوي الذي يتمتّع به، كما يمكنه ان يفوز بالعلوم الكليّة الالهيّة، و ان يطّلع عليحالات نفوس الناس و علی اوضاع أهل جهنّم و أهل الجنّة و كيفيّة الوقوف و الحساب و الميزان بالنسبة لهم. و نظير هذه الإحاطة العلميّة تحصل لاولياء اللَه في هذه الدنيا حال حياتهم و يقظتهم، و كثيراً ما أمكن حصول ذلك لسالكي طريق اللَه الذين لم يصلوا بعد الی مقام التجرّد المطلق، و ذلك بصورة الحال في النوم او في اليقظة لا بعنوان ملكة مستديمة. ارجاعات [1] ـ من جملة فقرات الخطبة 191 في نهج البلاغة، و هي الخطبة المعروفة بخطبة همام. [2] ـ تفسير روح البيان، طبع دار السعادة، 1330، في عشر مجلدّات، المجلّد الثاني، ص 219. يقول الشاعر: فلتذرف الدمع سخيناً مادمتَ تمتلك أعيناً، و لتعتذر مادام لسانك يدور في فمك. الآن عليك أن تعتذر عن تقصيرك، لا أن تدخرّ ذلك ليومٍ تخمد فيه نفسك الناطقة و يُلجمها الخرس. فاغتنم هذه الانفاس الثمينة الغالية، لانّ القفص الفارغ بلا طائر لا قيمة له. [3] ـ هذه عبارة الشيخ المعروفة التي نُقلت عنه في الكثير من الكتب، و المراد بالاءمكان هنا الاحتمال العقلي لا الاءمكان الذاتي. يقول الحكيم السبزواري في شرح المنظومة، ص 46 ضمن شرح غرر «المعدوم لا يُعاد بعينه»: و معني الاءمكان خلاف الاعتقاد الجازم، اعني احتمال في مثل قولهم «ذر في بقعة الامكان» ما موصولة «لم يذده» أي لم يدفعه «قائم البرهان» اشارة الی جواب دليل آخر اقناعي لهم، و هو انّ الاصل فيما لا دليل علی امتناعه و وجوبه هو الاءمكان كما قال أحد الحكماء: «كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان». و للشيخ الرئيس عبارة في آخر كتاب الاشارات بعد بيان جميع الاشارات، تحت عنوان نصيحة، يقول فيها «ايّاك أن يكون تكيّسك و تبرّوك عن العامّة، هو أن تنبري مُنكراً لكلّ شيء، فذلك طيش و عجز، و ليس الخرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعد جليّته دون الخرق في تصديقك ما لم يقم بين يديك بيّنة؛ بل عليك الاعتصام بحبل التوقّف، و إن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك، ما لم تتبهن استحالته لك؛ فالصواب أن تسرح أمثال ذلك الی بقعة الامكان، ما لم يذدك عنه قائم البرهان). و قد ورد هذا الكلام في الصفحة الاخيرة من الاءشارات، الطبعة الحجريّة. و في الصفحة 159 و 160 من المجلد الرابع للاءشارات، الطبعة المصريّة الحديثة الثانوية. [4] ـ الاحتجاج للطبرسي، ج 2، ص 336 [5] ـ الصواعق المحرقة، ص 80. [6] ـ الصواعق المحرقة، ص 80. [7] ـ يقول: لقد تكلّمت مع خصومك بإبهام و غموض، فباللهِ عليك لو كشفتَ عنه الغطاء! [8] ـ الآية 42 من السورة 39: الزمر. [9] ـ الآية 60 من السورة 6: الانعام. [10] ـ معاني الاخبار ص 290. [11] ـ معاني الاخبار ص 290. [12] ـ معاني الاخبار ص 289. [13] ـ معاني الاخبار ص 289 الحديث باب معني الموت. طبع جامعة المدرسين في الحوزة العلمية قم المقدسة. |
|
|