|
|
الصفحة السابقةرؤيا عجيبة لاحد الارحام ذات دلالات كثيرة علی عالم الغيبحُلم و رؤيا في زمن قصيرلقد ذهب أحد رفقائنا و أصدقائنا و ممّن يمتّ الينا بالقرابة ـ و كان له حال جيدة ـ قبل عشرين سنة تقريباً الی مشهد المقدّسة لزيارة الاعتاب المباركة لعليّ بن موسي الرضا عليه السلام، فبقي هناك يومين أو ثلاث وعاد بعدها، فقصّ في عودته رؤيا عجيبة رآها هناك. قال: لم أدخل الحرم عند ورودي بل وقفت بأدب اليجانب باب الحرم فسلّمتُ و قلتُ في نفسي: لا ينبغي لي أن أدخل الحرم وأنا الذي لم أعرف الامام و حقّه معرفة حقيقيّة، حتّي يقضي الإمام حاجتي فيعرّفني بحقّه و حقّ ربّه. كانت ليلة الجمعة، و كان الجوّ بارداً جدّاً فغلبني النوم منتصف الليل في أحد الاروقة الواقعة الی خلف الرأس المبارك قريباً من محلّ حفظ الاحذية، فرأيت في عالم الرؤيا انّ الإمام قد جاء فطرق برأس اصبع رجله علی عدّة مرّات قائلاً: قُمْ، قُمْ و اعمل، فالامر لا يتمّ بلا عمل. فألقيت بنفسي علی قدمي الإمام لِلثمهما، فانحني كالمستحيي و أمسكني من تحت كتفيّ فلم يدعني أفعل ذلك و قال: ما هذه الاعمال؟ ثم نهضتُ و ذهبتُ الی صحن «گوهرشاد» فتوضّأت و لففت عباءتي علی جسدي في أحد ايوانات المسجد و انشغلت بقراءة دعاء كميل، ثمّ غلبني النوم وسط الدعاء فرأيت في النوم كأنّ شخصاً له لحية حمراء بلون الحنّاء قد جاء قربي فلاطفني كثيراً و قال: أتريد أن نذهب للتجوال معاً؟ قلت: بلي، أنا جاهز! فتحرّكنا سويّاً فدار بي حول الكرة الارضيّة في تحليق فوق جميع المدن بحيث كنتُ أري جميع أفراد تلك المدن و أعرف محسنهم من مسيئهم، ثم عبرنا البحار و المحيطات و ذهبنا لزيارة قبر الرسول الاكرم والصدّيقة الكبري و أئمة البقيع عليهم الصلوة و السلام، ثمّ عرّجنا لزيارة النجف الاشرف و كربلاء المشرّفة و أئمة الكاظمين و سامراء عليهم السلام. و كان ذلك الرجل يقرأ لي في كلّ مشهد متن الزيارة و ينقل لي مطالب عجيبة، و كان دائماً مشغولاً بالكلام معي اثناء الطريق، فكنت أسأله كثيراً عن حالات العظماء و الارحام و عن عاقبة أمرهم فيجيبني علی ذلك، كما كنت أسأله عن حالات الكثير من الموتي من الاجداد و الارحام و العظماء فيجيب علی أسئلتي واحداً تلو الآخر. ثم أخذني الی السماء فتشرّفنا بلقاء الملائكة و أرواح الانبياء والاولياء، و تجوّلنا في الجنّة و شاهدنا أنواع النعم فيها، فكانت أشياء تستحيل علی الوصف، ثمّ عبرنا في طرفة عين علی جهنّم و شاهدنا كيفيّة عذابها الذي لا يوصف. ثم قال لي بعد هذا السير و التجوال: أتريد الرجوع؟ قلتُ: نعم! فعدنا سويّاً و وردنا مسجد «گوهرشاد» فقال لي و هو يريد الإنصراف: لقد استغرق كلّ هذا التجوال و السير خمس دقائق. قلتُ: خمس دقائق فقط؟! قال: لقد قلتُ خمس دقائق لئلاّ يغمرك الفزع، و الاّ فانّها لم تستغرق خمس دقائق بل حصلت في آنٍ واحد و لحظة واحدة، فليس هناك من زمان و لا من ساعة و لا من دقيقة! ثمّ انّه ودّعني في منتهي البشارة و الرحمة و ذهب، فقلت: أين تذهب؟ انّ لدي عمل معك. قال: يجب أن أذهب، و سآتي اليك ان شاء اللَه كلّما استدعي الامر ذلك. قلتُ: لقد أريتني الكثير من العجائب و الغرائب في هذا الزمن القصير و أخذتني الی كثير من نقاط الارض و العالم العلويّ! قال: لا عجب في الامر، ثمّ ودّع و ذهب. ثم استيقظتُ و نظرتُ الی ساعتي فرأيتُ انني أغفيت خمس دقائق، و من ثم شرعت بقراءة بقيّة دعاء كميل. لقد كانت هذه الرؤيا في درجة من الغرابة، كما ان مطالبها شيّقة وطويلة لدرجةٍ لا يمكن معها ذكرها، و اجمالاً فقد كان هذا الشخص ينقل رؤياه هذه لنا طيلة ثلاثة أيّام، فيأتي صباحاً و يقصّ علينا الی قرب الظهر حيث نذهب الی المسجد، ثمّ يأتي بعد الظهر فينقل بقيّته الی قرب الغروب حيث نستعدّ للذهاب الی المسجد، و هكذا علی هذا المنوال الی ثلاثة ايّام استغرقها نقل رؤياه. و لقد كان هذا الحلم عجيباً لدرجة ان الحقير نقله الی آية اللَه جمال السالكين و زين الفقهاء و المجتهدين و آية الحقّ و اليقين الشيخ محمّد جواد الانصاري الهمداني رضوان اللَه عليه حين تشرّفت عنده في تلك الايّام التي كنت أحضر لديه، فتعجّب من ذلك و قال: انّ هذه الرؤيا لا يوجد لها نظير أو يعزّ نظيرها في هذا العصر، و يتّضح منها أنّ من رآها شخص يتمتّع بقابليّة و استعداد فذّ. عجيب هو عالم الارواح، فأين هي الارواح يا تري؟ و ماذا تفعل؟ و ما هي العلاقات و الارتباطات التي تمتلكها؟ ما الامر يا الهي؟! انّ دودة القزّ تقضي في الشرنقة عدّة أيّام ثم تخرج علی هيئة فراشة، فنقول انّها ماتت ثمّ بُعثت. بيد انّ الامر ليس كذلك. فهذه الحشرة منذ ان دخلت الشرنقة فنامت، لا تغتذي طعاماً و لا تريم حراكاً، فهي كاملاً في قالب و شكل مخلوقٍ ميّت، الاّ انّها مشغولة في ذاتها و جوهرها بالسير و الترقي و التكامل، لها في كلّ لحظة سير تتخطّيفيه عالماً معيّناً و ترد عالماً جديداً آخر، حتي تخرج علی هيئة فراشة بأجنحة عجيبة و عيون برّاقة لامعة. سعة الاطّلاع حال التجرّد و خلع المادّةو هكذا حال الانسان، فالارواح التي تموت لا تعدم، بل هي حيّة بأجمعها، و ما دامت مع البدن المادي فانّ سيرها و تكاملها كان بواسطة ذلك البدن، ذلك البدن الذي يمنع من السير الخارق للعادة و من الاعمال العجيبة المدهشة، امّا بعد الموت فليس هناك من بدن، و لا حجاب للزمان و المكان و المادّة، لذا فانّ الارواح القويّة تفعل الاعاجيب بمجرّد إرادتها. اليوم هو الخامس من شهر رمضان، و لنا جميعاً الرغبة في تقديم طعام الافطار عند الغروب، ولو تمكّنّا لبسطنا مائدة بين مشرق العالم ومغربه فندعو اليها جميع المؤمنين و المؤمنات، بيد اننا عاجزون عن ذلك، لاننا لا نستطيع ايصال دعوتنا الی جميع الصائمين في العالم، و لا نمتلك المال الكافي لذلك، و لا نستطيع الحركة بين المشرق و المغرب، وليس لدينا مائدة بهذا الطول. امّا حين يرحل الانسان من الدنيا فيترك حجاب الزمان و المكان والمادّة و العلائق، و يتحرّر من قيود و حدود عالم الطبع و المادّة، فانّه سيتمكّن من فعل إطعام كهذا بكلّ سهولة و يُسر، بتلك السهولة و اليسر الذي استطعنا به الآن تقديم هذا الافطار في نيّتنا و تصوّرنا. هذا الامر و أمور عجيبة أخري تحصل جميعاً بواسطة تسلّط الروح في عوالم التجرّد التي تفعل فيها كلّ ما تشاء بمجرّد إرادتها لذلك، و خاصّة الارواح الطيّبة الطاهرة التي وصلت الی مقام الاخلاص، فانّ اللَه سبحانه يمنّ عليها بقدرات لا يمكن وصفها. لقد كان للعلاّمة الطباطبائي: الحاج السيد محمّد حسين التبريزي، الاستاذ العظيم القدر الذي يدين القرن العلمي الحاضر لخدماته و أفكاره السامية ولفضله و كماله، و العالم الجليل الذي استطاع بالهزّة العلمية التي أوجدها في الحوزة العلمية ايجادَ نهضة علمية فيها، و الذي قام بتعريف طلاب العلوم الدينية من خلال تدريس التفسير و الحكمة علی حقائق المعارف الالهيّة، والذي كان الوحيد الذي وضع الحجر الاساس لحصن مكين متين وأساس رصين لدحر الكفر و الردّ علی الملحدين، صاحب تفسير الميزان و الكتب النفيسة الاخري، و استاذ الحقير في التفسير و الاخلاق و الفلسفة و الهيئة القديمة؛ أخ في تبريز اسمه الحاج السيد محمدحسن الهي الطباطبائي، كان هو الآخر عالماً جليلاً و متّقياً زاهداً عابداً و معلّماً للاخلاق و المعارف الالهيّة و مربّياً للنفوس الصالحة يسوقها الی مقام الامن و حرم الامان الالهي. و قد رحل منذ عدّة سنوات و التحق بعالم البقاء و الخلود، و علی اثر شدّة العلاقة التي كانت للسيّد الاستاذ بأخيه فقد أصيب في عزاءه به بمرض قلبي. و كان السيد الاستاذ يقول: كان لاخي في تبريز تلميذ يدرّسه الفلسفة، و كان ذلك التلميذ يقوم بإحضار الارواح، فاستطاع أخي بواسطة تلميذه ذاك الاتّصال بالكثير من الارواح. و إجمال ذلك انّ التلميذ كان يرغب في دراسة الفلسفة قبل ان يرتبط بأخي، فقام لهذا السبب باحضار روح أرسطو و طلب منه القيام بتدريسه، فقال أرسطو في جوابه: خُذ كتاب اسفار المولي صدرا و اذهب الی الحاج السيد محمّد حسن الهي فادرس! و هكذا قام هذا التلميذ بشراء كتاب الاسفار و جاء اليه فنقل له قول أرسطو (الذي عاش قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة)، فقال في جوابه: أنا مستعدّ لتدريسك، و لا مانع لديّ في الامر. و هكذا صار التلميذ يأتي نهاراً الی محضر أخي فيدرس لديه. و كان المرحوم يقول: لقد ارتبطنا بواسطة هذا التلميذ بالكثير من الارواح و طرحنا عليها الاسئلة، و كان بعضها يتضمّن الاسئلة المستعصية في الحكمة، و التي كنّا نطرحها علی المؤلفين أنفسهم، فقد كنّا نسأل افلاطون الحكيم ـ مثلاً ـ عن المشكلات و المبهمات الموجودة في عباراته، و نستفسر عن مشكلات الاسفار من المولي صدرا. و قد اتصلنا بافلاطون مرّة فقال: انّ عليكم أن تعرفوا قدر أنفسكم في انكم تتمكّنون من قول «لا اله إِلاّ اللَه» علی الارض، فلقد كانت الوثنيّة و عبادة الاصنام طاغية في زماننا فلم نكن نقدر علی التلفّظ ب «لا اله إِلاّ اللَه» مرّة واحدة. و كان هذا التلميذ قد أحضر أرواح الكثير من العلماء و سأل منهم أسئلة عجيبة و مستعصية، بحيث ان ذلك التلميذ لم يسبق له العلم بتلك الامور أصلاً، و لم يكن ذلك التلميذ الذي كان يدرس الفلسفة ليفهم او يمتلك قدرة إدراك المسائل الغامضة التي كان يطرحها السيّد الهي علی لسان تلميذه علی معلّمي هذا الفن من الارواح و يحصل علی جوابها، لكنّ السيّد الهي كان يفهم أقوالهم التي يسمعها علی لسان التلميذ. و كان يقول: لقد أحضرنا أرواح الكثير من العلماء و طرحنا عليها الاسئلة إِلاّ انّنا لم نستطع حتّي الآن احضار روح نفريْن، أحدهما روح المرحوم السيّد ابن طاوس و الاخري روح المرحوم السيّد مهدي بحرالعلوم رضوان اللَه عليهما، و كان هذان الشخصان قد قالا: نحن وقف خدمة أميرالمؤمنين عليه السلام و لا مجال لنا للنزول أبداً. عتب والد العلاّمة الطباطبائي بواسطة الارتباط بعالم الغيبو كان العلاّمة الطباطبائي يقول: و كان من الامور المحيّرة العجيبة حين وصلت الينا رسالة من أخينا في تبريز كتب فيها انّ هذا التلميذ قام باحضار روح أبينا و سأله أسئلة فأجاب عنها، ثمّ قال ضمن حديثه: انني عاتب عليكم في انّكم لم تشركوني في ثواب التفسير الذي كتبتموه. و كان يقول: لم يكن ذلك التلميذ يعرفني أو يعلم شيئاً عن تفسيري، كما انّ أخي لم يتكلّم عنّي أمامه بشيء، و لم يكن لاحد غير اللَه و غيري علم بأنّي لم أُشرك أبي في ثواب التفسير، حتّي انّ أخي لم يكن ليعلم بذلك، فقد كان ذلك من الامور المرتبطة بقلبي و نيّتي. و لم تكن مسألة عدم إشراكي لابي في ثواب التفسير عائدة الی شحّي أو بخلي بذلك، بل لتردّدي في مدي قيمة الاعمال التي أفعلها حتّي أُسهم أبي فيها، فلم اكن لاري في نفسي القابلية و اللياقة في الخدمة (و للعلم فانّ تفسير الميزان تفسير لم يسبق له نظير من صدر الاسلام حتّي الآن من جهة ترابط الآيات و البيانات القرآنية، و قد قلتُ يوماً في محضره: انّ القلم قد استرسل في بعض مواضع هذا التفسير فربط الآيات ببعضها بحيث لا يمكن الاّ أن نقول انّ التأييدات الالهية و الإلهامات السبحانيّة قد أجرت ذلك آنذاك علی فكركم و لسانكم و قلمكم، و لا محمل للامر علی شيء آخر، و اذا ما جري تدريس هذا التفسير في الحوزات العلميّة و ربيّت به الافكار، فستتّضح قيمة هذا التفسير بعد مائتي سنة. لاحظوا مدي تواضع و جلالة هذا الرجل الذي كتب تفسيراً بهذه الكيفيّة فصار يعدّ في زمن حياته جزءاً من أصول معارف الشيعة لا يستغني عنه العلماء و الكبار في جميع الدنيا، حين يقول: فما الذي عملنا يا تري؟ و أيّ عمل مهمٍ أنجزناه حتّي الآن؟) و كان يقول: وصلت رسالة أخي بيدي، فانفعلت كثيراً و غمرني الخجل، فقلتُ: يا الهي! إن كان تفسيري مقبولاً لديك و مستحقّاً للثواب فانّي أهدي ثوابه الی روح أبي و أمّي. و لم أكن قد أرسلتُ الی تبريز بعدُ جواب رسالة أخي لاعلمه بهذا الامر، حين وصلت بعد أيّام رسالة من أخي يقول فيها: لقد تحدثنا مع أبي فكان سعيداً و قال: أطال اللَه عمره و أيّده، فلقد أرسل السيّد محمدحسين هديّتنا. و لا يخفي أنّنا نقلنا قصّة احضار الارواح بنيّة الاستشهاد بها فقط في أمر تجرّد النفس و بقاء الروح بعد خلع المادة و البدن العنصري، لا بقصد تأييد جواز هذا العمل، بالرغم من انّه لا ترديد هناك في صحّة هذا العمل و في امكان الارتباط و التكلّم مع الارواح مجملاً، لكنّ هذا المعني لا يُنافي عدم التجويز الشرعي لجهات معيّنة عند الشارع المقدّس، كما هو الامر في علم الموسيقي الذي يعدّ من فروع العلوم الرياضيّة و لا شكّ و لا ترديد في صحّته و آثاره الواقعيّة المترتّبة عليه، كإدخال الغم أو الفرح أو الإضحاك أو الإبكاء، و التسبب بخفّة النفس أو ثقلها، و أحياناً الخلع و اللبس؛ لكنّ الشارع المقدّس قد حرّمه للمفاسد التي تترتّب علی هذا العلم الصحيح، وكمثل علم السحر و الارتباط مع الجنّ و تسخير نفوس الشمس و القمر والزهرة و عطارد و سائر الكواكب التي حرّمها الشارع و سدّ باب الإفادة من هذه الطرق للمفاسد المتضمّنة فيها، و مع وجود واقعيّتها و حقيقتها المشهودة إجمالاً من آثارها. فهكذا الامر في علم إحضار الارواح الذي هو شعبة من الكهانة، والذي مُنع و حُرّم في الشرع الانور، و كان الاستاذ العلاّمة الطباطبائي مدّ ظلّه يؤمن بهذا الرأي و يسير وفقه.
و قد حصل يوماً حين كان الحقير يشتغل بالتحصيل في النجف الاشرف أن ذهبت
لزيارة اهل القبور في وادي السلام، و كان ذلك عصر يوم الخميس فكنت
أتجوّل بين القبور حين التقيت بالمرحوم آية اللَه الحاج الشيخ آقا بزرگ
الطهراني، و هو من العلماء البارزين و من الزهّاد و العابدين والمتخصّصين في
فنّ الحديث و الرجال، و كان استاذاً للحقير في هذين الفنيّين، كما انّه
صاحب كتاب «الذريعة الی تصانيف الشيعة»، الإرتباط بالارواح في عالم النومقصة رؤيا أبی المرحوم ءاية الله الشيخ أقا بزرگ الطهراني بشأن زوجتهالتقيت بسماحته في وادي السلام فسلّمت عليه، و كنّا نقرأ الفاتحة ونسير حتّي وصلنا الی موضع مسطّح مربّع الشكل مبنيّ بالطابوق و قد نُصبت عليه قطع رخام تشير الی القبور داخله، فقال: تعال لنقرأ الفاتحة هنا، فهذا قبر أبي و أمّي و خالي و البعض الآخر من أرحامي. فجلسنا وقرأنا الفاتحة لكلٍّ منهم، ثمّ نقل رواية حاصلها انّ من يذهب عصر يوم الخميس عند قبر أمّه و أبيه فيستغفر لهما فانّ اللَه عزّ و جل يفيض عليقلبيهما أطباقاً من نور و يُدخل السرور عليهما و يقضي حاجات هذا الشخص، فانّ ارحام الانسان ينتظرون هديةً تُرسل اليهم عصر يوم الخميس، لذا تراني أترقّب طوال الاسبوع مجيي عصر يوم الخميس كي آتي هنا فأقرأ الفاتحة لهم. ثمّ نهضنا و سرنا فقال أثناء الطريق: كنتُ صبيّاً صغيراً و كان منزلنا في طهران في منطقة «پامنار»، و كانت أيّام قلائل قد انقضت علی وفاة جدّتي (أمّ أبي)، و كانت مجالس الترحيم قد عُقدت لاجلها ثمّ اختتمت. و حصل يوماً أن كانت والدتي قد أعدّت طبيخ الكرز الاحمر (آلبالو پلو) في المنزل، فمرّ سائل في الزقاق يسأل شيئاً، و كانت والدتي تعمل في المطبخ حين طرق سمعها صوت السائل، فأرادت إعطاءه شيئاً من الطعام و اهداء ثواب ذلك الی روح جدّتي (أم زوجها) التي رحلت حديثاً، بيد انّه لم يكن هناك إناء نظيف في متناول يدها لتضع فيه الطعام، و كانت في عجلة من أمرها تخشي أن يمرّ السائل علی باب المنزل و ينصرف، فصبّت مقداراً من ذلك الطبيخ في آنية الحمّام التي كانت في متناول يدها وقدّمته الی السائل، و لم يكن لاحد علم بهذا الامر. و في منتصف الليل من ذلك اليوم استيقظ والدي من نومه فأيقظ والدتي و سألها: ماذا فعلتِ اليوم؟ أجابت والدتي: لا أعلم. قال: رأيت الآن والدتي في عالم الرؤيا فقالت: انّني عاتبة عليزوجة ولدي، فقد أراقت اليوم ماء وجهي أمام الموتي، لانّها أرسلت طعامي في آنية الحمّام، فما الذي فعلته؟ قالت أمّي: فكّرتُ مليّاً فلم يخطر علی ذهني شي، ثمّ تذكّرت فجأة انّني أعطيت السائل هذا الطعام بقصد اهداء ثوابه الی روح المتوفّاة حديثاً فكان طعام تلك المرحومة في ذلك العالم. و لانّه قد قدّم علی هيئة غير مستحسنة الی السائل، فقد أُخذ علی تلك الهيئة في عالم الملكوت الی والدة زوجي فعتبت عليّ. لقد اشتكت المتوفّاة لانّ طعامها الذي كان في صورته الملكية علی هيئة طبيخ الكرز الاحمر المقدّم الی السائل، و في صورته الملكوتيّة علی هيئة طبق من النور قُدّم اليها و قد صبّ في آنية الحمام، فكانت إهانة السائل اهانة الی روح المتوفي. إنّ أيّ احسان يريد الإنسان فعله ينبغي ان يقوم به مع غاية الاحترام و التجليل للسائل و الفقير و مع رعاية توقير الفقير و إكرامه. كما أنّ أي عمل يفعله الانسان في سعة و عن اختيار بحيث يمكن ان يكون ذلك العمل نافعاً له ينبغي ان يفعله في حياته، امّا اذا قضي الامر فلم يعد يسعه فعل شيء فانّه سيفقد القدرة علی أن يبدّل اناء طعامه الملكوتي من آنية الحمام فيتناوله في إناء بللوري. هذه الاحلام هي جميعاً دروس للعظة و الاعتبار، و يسعي هذا الحقير كي تكون الحكايات و المشاهدات في النوم او اليقظة التي انقلها في هذه المجالس من درس المعاد منقولة عن أشخاص ثقاة أجلاّء أدركتُ محضرهم و سمعتها منهم شفاهاً، و ان تكون مطالب و أمور وقعت في زمننا هذا، لا مطالب منقولة عن كتب و مؤلّفات كبار المؤلفين السابقين والتي تبدّلت لطول المدّة و مرور الزمن من المعاينة الی الخبر، و من المشاهدة و الاثر الی القول و الكلام، و من المسلّم انّ تأثير آثار حيّة فعليّة كهذه سيكون أعمق و أشدّ في النفس، و أفضل في ترغيب الغافلين للاستعداد للموت و لاصلاح العمل. يروي محمّد بن ادريس الحلّي في مستطرفات كتاب السرائر عن كتاب أبي القاسم بن قولويه رحمه اللَه عن الامام الصادق عليه السلام انّه قال: بلغ أميرالمؤمنين عليه السلام موتُ رجلٍ من أصحابه، ثمّ جاء خبر آخر انّه لم يمت، فكتب اليه: بسم اللَه الرحمن الرحيم، امّا بعد فانّه قد كان أتانا خبرٌ ارتاع له إخوانُك، ثمّ جاء تكذيب الخبر الاوّل فأنعم ذلك سرورنا. و انّ السرور يوشك ] علی [ الانقطاع يبلغه عمّا قليل تصديق الخبر الاوّل. فهل أنت كائن كرجل قد ذاق الموت و عاين ما بعده يسأل الرجعة فأُسعف بطلبته، فهو متأهّب دائب ينقل بأسره من ماله الی دار قراره لا يري انّ له مالاً غيره، و اعلم انّ الليل و النهار لم يزالا دائبين في قصر الاعمال و إنفاذ الاموال و طيّ الآجال. هيهات هيهات قد صبحا عاداً و ثموداً و قروناً بين ذلك كثيراً، فأصبحوا لا يبليهما قد أمرا به مستعدان لمن بقي بمثل ما أصابا فيه من مضي. و اعلم انّما أنت نظير إخوانك و أشباهك مثلك كمثل الجسد قد نزعت قوّته فلم يبق الاّ حشاشة نفسه ينتظر الداعي. فنعوذ باللَه ممّا نعظ به ثمّ نقصر عنه. خطبة أميرالمؤمنين عليه السلام في شأن الموت؛ و معني «اِنَّ وَرَاءَكُمُ لسَّاعَةَتَحْدُوكُمْ»و من كلامٍ لاميرالمؤمنين عليه السلام: فَاِنَّ الْغَايَةَ أَمَامَكُمْ، وَ اِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ، تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَاِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَ [2] وَّلِكُمْ آخِرُكُمْ [3]. و كما يحدو سائقو الظّعن بالجمال في الطرق البعيدة والصحارياللاهبة كي تطوي هذه المسافات و لا تحسّ بطول الطريق حتّي يصلون بها أخيراً الی مقصدها و يحطّون برحالها علی الارض؛ فانّ أميرالمؤمنين عليه السلام يشبّه الاجل بحُداء الحادي الذي يحدو بالانسان من خلفه دوماً ليوصله الی هذا المنزل. تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، يقول: انّ أرواح الانبياء و الائمّة و الاولياء والمنزّهين قد رحلت جميعاً فاختارت منازلها في الجنّة، و لقد استقرّت أرواح المخلصين و المقرّبين في مقصدها، و وصلت القافلة الی منزلها. فيا عباد اللَه، ما تعلّلكم؟ انّ ثقل الاوزار و العلائق الماديّة و الشهوات المتكاثرة قد انقض ظهوركم و أخرّكم عن السير و أضجركم و تقاعد بكم عن الحركة. فتخفّفوا منها و ألقوها! اقطعوا أساس العلائق و جذورها! تحفّفوا لتلحقوا بقافلتكم قافلة الرحمة و لقاء اللَه و لا تتخلّفوا عنها. فَاِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ؛ يقول: انّ القيامة لن تقوم، و البعث و الحشر لن يحصل ما لم يلحق المتأخّرون بالمتقدّمين، و انّكم انّما عجزتم عن اللحاق بأرواح المنزّهين و المخلصين بسبب أوزاركم و قبائحكم، فهم يترقّبون قدومكم و ينتظرونكم، فاسعوا في اللحاق بقافلة الطيّبين والطاهرين بأعمالكم الحسنة و أخلاقكم الحميدة، و ملكاتكم الفاضلة وعقائدكم السليمة، و أنهوا انتظار اولئكم و ترقّبهم لكم، و لو افترض انّكم عمّرتم في الدنيا طويلاً فانّ عمركم هذا إن اقترن بسلامة قلبكم و طويّتكم وبحسن أخلاقكم و معاملتكم في حياتكم، فانّ أرواحكم ستتعلّق بالعالم العلوي و الملا الاعلي، و ستصل الی مقام الطهارة و القرب، و تلتحق بأرواح المخلصين و المنزّهين. يقول السيّد الرضيّ رحمة اللَه عليه جامع نهج البلاغة في ذيل هذه الخطبة: أقول: إنّ هذا الكلام لو وُزن بعد كلام اللَه سبحانه و بعد كلام رسول اللَه صلّي اللَه عليه و آله و سلم بكلِّ كلامٍ لمال عليه راجحاً و برَّز عليه سابقاً. فأمّا قوله عليه السلام « تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا » فما سُمع كلامٌ أقلَّ منه مسموعاً و لا أكثر محصولاً. و ما أبعدَ غورَها من كلمة و أنقع نطفتها من كلمة [4]! ما أكثر ذكر أميرالمؤمنين عليه السلام للموت، و ما أكثر ما كان يلفت اليه أصحابه، و يرتجل الخطب بشأنه في الملا العام، يقول السيد الرضي رحمة اللَه عليه: و من كلامٍ له عليه السلام كان كثيراً ما ينادي به أصحابه [5]: تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ، وَ أَقِلُّوا الْعُرْجَةَ عَلَيالدُّنْيَا وَ انْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ، فَاِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَؤُوداً، وَمَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً، لاَبُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا، وَ الْوُقُوفِ عِنْدَهَا. وَاعْلَمُوا أنَّ مَلاحِظَ الْمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَانِيَةٌ، وَ كَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَ قَدْ نَشِبَتْ فِيكُمْ وَ قَدْ دَهَمَتْكُمْ فِيهَا مُفْظِعاتُ الاْمُورِ، وَ مُعْضِلاَتُ الْمَحْذُورِ. فَقَطِّعُوا عَلاَئِقَ الدُّنْيَا، وَ اسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَي [6]. و يقول ابن حجر الهيثمي المكّي في (الصواعق المحرقة): وَ سُئِلَ علی وَ هُوَ علی الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَي (رِجَالٌ صَدَقْوا مَا عَاهَدُوا اللَهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَي نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [7]، فَقَالَ: اَللّ'هُمَّ غَفْراً، ه'ذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِيَّ وَ فِي عَمّي حَمْزَةَ وَ في ابنِ عَمِّي عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَرْثِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَأَمَّا عُبَيْدَةُ فَقَضَي' نَحْبَهُ شَهِيداً يَوْمَ بَدْرٍ، وَحَمْزَةُ قَضَي' نَحْبَهُ شَهِيداً يَوْمَ أُحُدٍ، وَ أَمَّا أَنَا فَأَنْتَظِرُ أَشْقَاهَا يَخْضِبُ هَذِهِ مِنْ ه'ذِهِ ـ وَ أَشَارَ بِيَدِهِ اِلَي' لِحْيَتِهِ وَ رَأْسِهِ ـ عَهْدٌ عَهِدَهُ الی حَبِيبِي أَبُوالْقَاسِمِ صَلّي' اللَهُ عليه ] و آله [ وَ سَلَّمَ [8].
بسم اللَه الرحمن الرحيم و الحمد لله ربّ العالمين و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم و صلّي الله علی محمد و ءاله الطاهرين و لعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن الی يوم الدين (أُلقيت هذه المطالب في اليوم السادس من شهر رمضان المبارك) قال اللَه الحكيم في كتابه الكريم: قُلْ يَتَوَفَّـ'كُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ اِلَي' رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [9] ينسب اللَه جلّ و عزّ في هذه الآية المباركة قبض أرواح الناس اليعزرائيل ملك الموت، كما ينسب ذلك الی نفسه مباشرة في الآية الشريفة التي جري البحث في شأنها مفصّلاً في المجلس السابق. في نسبة قبض الروح الي' اللَه و الي' ملك الموت و للملائكة: اَللَهُ يَتَوَفَّي' الاْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [10]. كما انّه ينسب قبض الروح في آية اخري لا الی ملك خاص معيّن، بل الی الملائكة: وَ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّي' إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [11]. و يقوم في آية رابعة بنسبة السلام و التحيّة الی الملائكة الذين يقومون بقبض أرواح الطيّبين و المخلَصين: الَّذيِنَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [12]. و يذكر في آية اخري في نفس السورة انّ الظالمين و الجائرين يعمدون الی المسالمة مع الملائكة حين يأتون لقبض أرواحهم، كما يعمدون الی إنكار أعمالهم و قبائحهم التي ارتكبوها، و لكن بلا جدوي: الَّذيِنَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَي' إِنَّ اللَهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [13]. و بعد أن يُجيبهم الملائكة بهذا الخطاب، يخاطبونهم من جديد قائلين: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـ'لِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَي' الْمُتَكَبِّرِينَ [14]. و كما يُلاحظ في هذه الآيات فانّ قبض الروح قد نُسب في بعض هذه الآيات الی اللَه سبحانه، و في بعض الی ملك الموت، كما نسب في البعض الآخر الی الملائكة الذين يقبضون بطريقة معينة أرواح الطيّبين و المخلصين، و يقبضون بطريقة أخري أرواح الظالمين و الجائرين. فما الذي يفيده الجمع بين هذه الآيات؟ إنْ كان اللَه يقوم بنفسه بقبض الروح فما الذي يفعله عزرائيل و سائر الملائكة؟ و إن كان ذلك من فعل عزرائيل لوحده فما هو عمل باقي الملائكة؟ و ما معني نسبة هذا الفعل الی الذات المقدّسة للربّ جلّ و عزّ؟ و اذا كان ذلك من فعل الملائكة،فما هو عمل ملك الموت؟ و ما الذي تعنيه نسبة قبض الروح الی اللَه هنا أيضاً؟ تلك مسئلة ينبغي إلقاء الضوء عليها، و ذلك لانّه علاوة علی عدم وجود تناقض في القرآن الكريم، فانّ هذه الآيات تبيّن أصلاً مهمّاً من أصول التوحيد المتقنة. فعل ملك الموت و ملائكة قبض الارواح هو عين فعل اللَه تعالی'و لإيضاح هذا المعني نقول: انّ الدين الاسلامي المقدّس قائم عليأساس التوحيد، التوحيد في الذات، التوحيد في الصفات، و التوحيد في الافعال؛ فالتوحيد في الذات يعني أن ليس هناك في جميع عوالم الوجود الاّ وجوداً مستقلاً واحداً قائماً بالذات، و ذلك الوجود يعود للذات المقدّسة لمفيض الوجود و واهبه جلّ و علا، امّا باقي الموجودات فليس وجودها الاّ وجود ظلّي و تبعيّ و معلول و ناقص و ممكن. امّا التوحيد في الصفات فانّه يعني أنْ ليس هناك في جميع عوالم الوجود الاّ علم مطلق واحد و حياة مطلقة واحدة و قدرة مطلقة واحدة؛ و كذلك الامر في سائر الصفات، و انّ هذه الصفات مختصّة بالذات المقدّسة للحيّ القديم العالم القدير، كما انّ الصفات التي تشاهد في باقي الموجودات من العلم و القدرة و الحياة هي جميعها من اشعاع علم و قدرة و حياة واجب الوجود، و ليست مستقلّة بنفسها، بل انّ نسبتها الی الصفات الالهيّة كنسبة الظلّ الی الشاخص، و في حكم الإشعاع المضيء من مصدر النور و القدرة و العلم و الحياة. أفعال الموجودات عين فعل الله بنسبتينو كذلك الامر في التوحيد في الافعال الذي يعني أن ليس هناك في جميع عوالم الوجود إِلاّ فعل واحد مستقل قائم بالذات، و انّ جميع الافعال التي تصدر من الموجودات الممكنة هي جميعاً إشعاع ذلك الفعل المستقلّ بالذات، القائم بوجود واجب الوجود. كما ان تلك الافعال في نفس الوقت الذي تمتلك النسبة الی الممكنات، فانّها تمتلك أيضاً النسبة الی الخالق جلّ و عز. اي انّ الفعل الذي يصدر من الموجودات هو ظهور و طلوع من فعل الربّ عزّ و جل، فذلك العمل متعلّق حقيقة باللَه سبحانه، فهو يظهر و يطلع في ذلك الموجود بأمر اللَه و إذنه، و علی هذا الاساس فانّ الظهور يجد النسبة أيضاً الی ذلك الموجود. و لذلك فانّ الفعل الذي يقع من موجود معيّن، و الذي ينسب الی ذلك الموجود، هو في حقيقة الامر و واقعه منسوب الی اللَه سبحانه، غاية الامر انّ هاتين النسبتين ليستا في عرض بعضهما، بل هما في طول بعضهما. و ذلك لانّ أيّا من اللَه تعالي و ذلك الموجود لم ينجز ذلك الفعل بصورة مستقلّة، كما انّهما لم يشتركا في فعله سويّاً، بل انّ ذلك الفعل قد صدر و ظهر أوّلاً و بالذات من مصدر الفعل و الوجود، و هو الذات المقدّسة للَه تعالَي، ثمّ ظهر و نشأ في هذا المورد ثانياً و بالعرض. و قد قال الحكيم السبزواري في هذا الشأن: فَالْكُلُّ بِالذَّاتِ لَهُ دِلاَلَة حَاكِيَةٌ جَمَالَهُ جَلاَلَه وَ كُلُّ جُزْئِيٍّ مِنَ الاْسْمَا وُضِعْ وَضْعَاً إِلهِيّاً لِمَعْني مَا صُنِعْ إذْ عَرَضُ الدِّلاَلَةِ الْعَرْضِيَّة تَزُولُ لاَ الذَّاتِيَّةُ الطُّولِيَّة [15] يقول: انّ جميع الموجودات هي ذاتاً آيات و مرايا لذات الحقّ، دالّةٌ علی وجوده و حاكية عن جماله و جلاله، و انّ كلّ واحد من الموجودات والاسماء الجزئيّة له دلالة علی ذاته بالوضع الالهي و الواقعي، لا بالدلالة الوضعيّة و التصنّعيّة، و سبب ذلك انّ الدّلالة إن كانت عرضيّة فانّها ستفني خلافاً للدلالة الطوليّة الناشئة من العلّة و المعلوليّة و الموجودة بالذات الموجودة في حاقّ وجوده. و لذا ينبغي القول بانّ ملك الموت الذي يمثّل مرآة للدلالة عليالذات المقدّسة للربّ الودود، و سائر ملائكة قبض الارواح الذين يمثّلون مرآةً لملك الموت، لهم الاتّحاد جميعاً مع الذات المقدّسة للباري تعالي شأنه العزيز، أي انّ لهم العينيّة معها، و ليس هناك انفصال و بينونة يمكن تصوّرها بينهم و بينها في مقام الفعل. انّ فعل قبض الارواح ينشأ و يظهر من الذات المقدّسة للخالق عزّ وجلّ، ثمّ يظهر في الوهلة الاولي في مرآة وجود ملك الموت، ثمّ يطلع ويظهر منه الی الملائكة الآخرين حسب اختلاف درجاتهم و مراتبهم حتّييصل أخيراً الی مجموعة الملائكة الذين هم أخفف منهم في جميع الدرجات و سعة الوجود. و لانّ هذه الافعال تقع طوليّاً لا عرضيّاً بالنسبة الی أحدها الآخر، فانّها جميعاً في الحقيقة فعل واحد، لذا فانّ ذات الخالق المقدّسة مستقلّة في فعل قبض الارواح و لا يمكن أبداً افتراض مساعد أو معين في هذا العمل بالرغم من انّ هذا الفعل يحصل علی يد ملك الموت وعلي يد سائر الملائكة التابعين له. و بناءً علی هذا الاساس العام، يُشاهد انّ القرآن الكريم حين يبحث في موضوعات كمثل موت الموجودات و حياتها و رزقها، و مثل الحوادث السماويّة و الارضيّة، فانّه ينسبها بوضوح الی عللها السفليّة أو العلويّة في نفس الوقت الذي ينسبها فيه الی ذات الخالق المقدّسة التي يعدّها وحيدة متفرّدة في هذه الافعال لا شريك لها[16]. فنراه في مسألة الخلقة مثلاً ينسب الی الانسان كثيراً من أفعاله في عين الحال التي ينسبها الی ذات اللَه المقدّسة: وَ اللَهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ[17]. و يقول في آية أخري: ذ'لِكُمُ اللَهُ رَبُكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ فَاعْبُدُوهُ [18]. و في آية ثالثة: قُلِ اللَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَ هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [19]. و كذلك فانّ الآية 62، من السورة 39: الزمر، و الآية 62، من السورة 40: غافر، و الآية 24، من السورة 59: الحشر، لها دلالة مشابهة علی ما ذكر. و هكذا الامر في موضوع المِلكيّة و المَلِكية؛ فمع انّه ينسب مُلك جميع الموجودات و مِلكها بشكل خالص محض الی اللَه سبحانه، كمثل قوله: ولِلَهِ مُلْكُ السَّم'واتِ وَ الاْرْضِ وَ مَا فِيهِنَّ [20]. و الكثير من الآيات القرآنية التي استعمل فيها تعبير وَ لِلَهِ مَا فِي السَّم'واتِ وَ الاْرْضِ؛ لكنّه في نفس الوقت ينسب المِلك والمُلك مرّة الی آل ابراهيم: فَقَدْ ءَاتَيْنَا آلَ ابْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ ءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [21] وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وَ ءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطَابِ[22] وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [23] وَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَهُ عَلَيْكَ [24]. كيفيّة ظهور نور الفعل الالهيّ في مظاهر عالم الإمكان و نشأة الموجوداتو من هذا القبيل الآيات التي نبحث عنها، و التي نسب فيها قبض الروح الی اللَه سبحانه و نسبها أيضاً الی ملك الموت و سائر ملائكة قبض الارواح، تماماً كمثل الشمس التي تنعكس متلالئةً في مرآة كبيرة، ثمّ تشعّ من تلك المرآة الی مرايا صغيرة كثيرة، حيث انّ النور و الاشعاع مختصّ أوّلاً و بالذات بالشمس، ثمّ ينتسب ثانياً و بالعرض الی هذه المرايا. انّ الإرادة الازليّة للحقّ تعالي تظهر في ملك الموت، ثمّ تظهر منه في كلّ واحد من ملائكة قبض الارواح حسب اختلافهم في قبض روح المؤمن و الكافر و المنافق و العادل و الفاسق، و الذين يختلفون في أشكالهم وصورهم. فهذه الظهورات تقع في طول بعضها، و لا تجتمع في عرض بعضها فتقبض الروح مستقلّة أو مجتمعة. كما انّ ملك الموت يمثّل مظهر اسم الْقَابِض او الْمَيت، بينما يمثّل الملائكة الآخرون المظاهر الجزئيّة لهذا الإسم. ينقل الشيخ الطبرسي(ره) رواية مفصّلة في كتاب (الاحتجاج) عن زنديق جاء الی أميرالمؤمنين عليه السلام و قدّم مجموعة من الإشكالات ومن جملتها انّ هناك في القرآن الكريم اخباراً و أموراً يناقض بعضها بعضاً، فإن أجبتني عليها دخلتُ في دينكم. و كان من جملة اعتراضاته ادّعاؤه وجود تناقض في آيات توفّي الارواح و قبضها و فاعلها. يقول: أجد اللَهَ يقول: قُلْ يَتَوَفّي'كم مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [25]. و في موضع آخر يقول: اَللَهُ يَتَوَفَّي' الاْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [26]. الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ[27]، و ما أشبه ذلك فنسب قبض الروح الی نفسه في بعضها، و الی ملك الموت في بعض، و الی الملائكة في البعض الآخر [28]. فأجابه الإمام: فأمّا قوله: اَللَهُ يَتَوَفَّي' الاْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا و قوله يَتَوَفّي'كم مَلَكُ الْمَوْتِ)، (وَ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا)، (وَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ؛ فهو تبارك و تعالي أجلّ و أعظم من أن يتولّي ذلك بنفسه، و فعل رسله وملائكته فعله، لانّهم بأمره يعملون، فاصطفي جلّ ذكره من الملائكة رسلاً و سفرةً بينه و بين خلقه، و هم الذين قال اللَه فيهم: اَللَهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النَّاسِ [29]. فمن كان من أهل الطاعة تولّت قبض روحه ملائكةُ الرحمة، و من كان من أهل المعصية تولّت قبض روحه ملائكةُ النقمة، و لملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة و النقمة، يصدرون عن أمره، و فعلهم فعله، وكلّ ما يأتون منسوب اليه. و علی هذا كان فعلهم فعل ملك الموت، و فعل ملك الموت فعل اللَه، لانّه يتوفّي الانفس علی يد من يشاء و يعطي و يمنع و يُثيب و يُعاقب علی يد من يشاء، و انّ فعل أمنائه فعله: وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَهُ [30]. كيفيّة قبض ملك الموت أرواح أفراد كثيرين في لحظة واحدةو علينا أن نري الآن كيفيّة قبض الروح، و كيف يتمكّن ملك الموت من قبض أرواح أفراد كثيرين في نفس الوقت، مع انّ بعضهم يقع في المشرق و البعض الآخر في المغرب فقد يغرق جمع كثير في البحر ويموتون في لحظة واحدة، و قد ينهار جبل عليهم أو يسيخون في الارض عند حدوث زلزلة، او يموتون برياح سامّة تهبّ عليهم، أو بصاعقة من السماء؛ فكيف ـ يا تري ـ يخطف ملك الموت أرواح هذه النفوس جميعاً مع إمكان تجاوزها للآلاف أو الملايين أحياناً؟ الإجابة علی ذلك، اوّلاً. اننا نشاهد في الامور الماديّة انّ هناك إمكاناً لصدور أفعال مختلفة من مبدأ و مصدر واحد، بدون أدني تغيير أو تفاوت في زمن وقوعها. فالشمس التي تتحرك في السماء مثلاً لها حركة واحدة و نور واحد، لكنّها و هي ترسل الی الارض نوراً واحداً، تضيء في نفس الوقت آلاف البيوت و الاوكار و الشوارع و المحلاّت و القري و المدن، كما تضيء الصحاري و الجبال و البحار. فهذه الإضاءة التي حصلت في كلّ واحد من هذه البيوت و الاعشاش و الاوكار تختلف عن تلك الحاصلة في البيت والعشّ الآخر، و تتميّز عنها بحدود و مواصفات خاصّة، فالنور الذي حصل في هذا البيت هو غير النور الذي حصل في البيت الآخر، لانّه يمثّل حصّة خاصّة من شعاع الشمس بينما يمثّل الآخر حصّة خاصّة أخري، في حين انّ الشمس كانت واحدة في كلّ الاحوال، كما انّ الاشعّة التي ترسلها اليالارض واحدة. تمثيل قبض ملك الموت و أعوانه أرواح الخلائق بمحطّة الطاقة الكهربائيّةو توضّح لنا قصّة الامواج الكهربائيّة و الضوئيّة هذه المسألة بشكل واضح و جليّ، فالمرسلة التي تقع في احدي زوايا العالم تُرسل بحركتها الكهربائية النور و الصوت و تنشره في العالم، فيمكن لجميع الافراد عليسطح الارض علی اختلاف تواجدهم، سواءً في الجوّ أو الصحراء أو علی قمم الجبال، سماع ذلك الصوت بجهاز خاصّ يدعي بجهاز الاستقبال، كما يمكنهم مشاهدة تلك الصورة التي ولدت علی هيئة أمواج اثر الحركة الكهربائيّة في الهواء، و ذلك عند تمركزها في جهاز الاستقبال ذلك. السادس ولقد كان المتكلّم واحداً و كان فعله واحداً و خطبته و كلامه واحداً، و كان يقرأ القرآن الكريم، لكنّ الملايين من نفوس البشر كانوا يستفيدون من ذلك. اي انّ من الممكن أن يطلع ذلك الفعل الواحد و يظهر ـ مع الاحتفاظ بوحدته و تفرّده ـ في مئات الملايين من الممرّات و السبل فيجعل الجميع يفيدون منه و يتمتّعون به. و هكذا الامر في محطّة الطاقة الكهربائية التي ترسل طاقة كهربائية واحدة عبر سلك مفتول واحد الی المدينة،ثم تنشعب هذه الطاقة عبر أجهزة تبديل تدعي بالمحوّلات تبدّل الطاقة العالية القويّة الی طاقة أضعف، ثم تمرّ بمحوّلات أضعف تقع في طريق المدينة تقوم بتحويلها الی طاقة أضعف يمكن الإفادة منها في البيوت و في الاجهزة الحراريّة والميكانيكيّة، فيمكن بواسطة هذا النوع من المحوّلات تبديل الطاقة العالية العظيمة لهذه المحطّة و البالغة 000/50 قولتاً الی 220 قولتاً او 110 قولتاً، أو حتّي الی 6، 4 و 2 قولتاً في الاجهزة الصغيرة و مصابيح النوم. أو يمكن أن يقال: كيف يمكن لسلك مفتول واحد متّصل بمحطّة الطاقّة ان يضيء كلّ هذه البيوت و يشغّل كلّ هذه المعامل و يحرّك في لحظة واحدة جميع الاجهزة الموجودة فيها؟ كيف يمكن أن يحصل جريان التيار الكهربائي في جميع هذه الاشياء بإشارة واحدة و بوصل مفتاحٍ واحد؟ انّ أحداً لا يمكنه أن يتساءل عن ذلك، لانّ الفعل فعل واحد جريتبديله بواسطة هذه الاجهزة من قوّي الی ضعيف، فارتدي لباس الكثرة، و ظهر في قوالب كثيرة متعدّدة. و هكذا فانّ الملَك الالهيّ الاعظم الذي يمتلك وظيفة قبض الارواح واسمه عزرائيل له حكم مصدر الطاقة و معدنها و حكم الشمس و أشعتها الواحدة في عنان السماء، و هو اسم اللَه «الْمَيِتْ» و «الْقَابِض»، كما انّ اسرافيل الذي ينفخ الحياة في الابدان و يفيض الارواح علی الموجودات هو اسم اللَه «المُحْيِي»، و كما انّ جبرائيل الذي يفيض العلوم هو اسم اللَه «الْعَلِيم» و «الْبَصِير» و «الْخَبِير»، و كما انّ ميكائيل المسؤول عن ايصال الرزق هو اسم اللَه «الرَّزَّاق» و «الرَّازِق». ثم يتشعّب ذلك الإسم الكلّي بواسطة ملائكة أصغر الی وحدات، ثم بواسطة ملائكة ينقسم ذلك الاسم الصغير و الجزئي الی وحدات أصغر حتّي يصل الی كلّ واحد من الملائكة الجزئيين الذين يُعهد لهم مهمّة خاصّة لامرٍ معيّن من الإحياء و الإماتة والتعليم و إيصال الرزق. و لقد صار في يومنا هذا؛ و بواسطة هذه الاجهزة العجيبة و إرسال النور و الصوت و أمثالها الی النقاط القصيّة؛ أمرُ ادراك كيفيّة عمل الملائكة بسيطاً و ميسوراً للافهام، امّا في ذلك الزمان الذي كان ينبغي فيه اشعال الفانوس بقدح الاحجار ببعضها أو بواسطة الكبريت، ممّا كان يوجب توهّج الفوانيس الواحد تلو الآخر، فقد كان تصوّر هذه المعاني أمراً بعيداً و صعباً علی الإدراك و الفهم. و يقال هذه الايّام انّهم في صدد اختراع أجهزة يمكنهم بواسطتهم توجيه نور الشمس خلال الليل من نصف الكرة الارضيّة المضيء الينصفها المظلم و جعل الناس يستغنون في ظلمة الليل عن المصباح الكهربائي حين يتبدّل الليل المظلم الی نهار مضيء. فهم يعمدون في هذه الطريقة الی بناء محطّات متعدّدة في نقاط الارض المختلفة يأخذون من خلالها نور الشمس الذي يجاورها فيحوّلونه الی المحطّة التي تقرب منها و يسوقونه بهذه الطريقة الی النقاط البعيدة، و في هذه الحال فانّ كلاًّ من هذه المحطّات التي تنصب في نقاط الارض المختلفة بفواصل معيّنة يقوم بإضاءة أطرافها الی الشعاع المتّصل بشعاع المحطّات الاخري، كما انّه يقوم علاوة علی ذلك باستلام النور من الشمس مباشرة أو من المحطّات التي تسبقه فينقله الی المحطّات التي تأتي بعده. و نتيجة لذلك فانّ نصف الكرة المعتم سيستحيل في الليالي المظلمة مضيئاً. و في بحثنا هذا فانّ ملك الموت له حكم تلك المحطّة القويّة و ملائكة قبض الارواح في حكم المحطّات التي تقع في وسط الطريق، و هو جواب بسيط و واضح و قابل لادراك العموم. عدم التضادّ أو التزاحم في عالم المعاني و المجرّداتو أمّا الجواب الآخر فانّ عمل ملك الموت ليس فعلاً مادّياً لانّه موجود مجرّد و معنوي، و أساساً فليس هناك تشابه بين المعني و التجرّد مع المادّة و آثارها و أحكامها. و كما أشير في الايّام السابقة فانّ قبض الروح يحصل من باطن الإنسان لا من ظاهره، فملك الموت انّما يقوم بقبض روح الآدمي، كما انّ عزرائيل نفسه موجود ملكوتيّ يخطف الروح و يسلبها بقوّة ملكوتيّة ومعنويّة لا بقوّة ماديّة. و من باب المثال: حين اتكلّم معكم الساعة فتسمعون کلامی جميعاً وتدركونه، هل يوجد هناك تزاحم بين ادراككم و تعقّلكم مع ادراك رفيقكم و تعقّله؟ أهناك تضادّ بينها؟ هل يمكن القول كيف يكون المعني الواحد قابلاً لإدراك آلاف الناس في آنٍ واحد. بلي، لو شئت الجلوس في هذا المكان الخاصّ، و شاء كلٌّ منكم الجلوس فيه في نفس الوقت لكان ذلك محالاً، لان هذا المكان أمر ماديّ له سعة موجود ماديّ واحد بقدره، اما القوّة المفكّرة و المتخيّلة و الحافظة فليست ماديّة، و لا مانع هناك من القاء معنيً واحد لافراد متعدّدين. و اذا افترض انّ كلامي قد أذيع الی جميع الدنيا بواسطة مكبّر الصوت هذا، فانّ جميع أفراد البشر سيدركونه، و لن يكون هناك مصادمة و لا تضادّ بين ادراك و فهم كلّ منهم مع ادراك و فهم الآخرين. و لذلك فانّه لا يتصوّر أبداً ايّ تناف أو تضادّ بين فعل الحقّ عزّ وجل و بين فعل ملك اموت و سائر الملائكة، باعتبار انّ ذلك الفعل ليس فعلاً ماديّاً، بل هو فعل واحد يظهر و يبرز في المرايا و النوافذ المختلفة بحيث تعكسه كلّ واحدة منها الی الاخري. يقول الحكيم السبزواري في كيفيّة حصول التكثّر حسب طريقة الاشراقيّين: كيفيّة طلوع و ظهور نور واجب الوجود في ملائكة قبض الارواحقبض الارواح: وَ هكَذَا سَوَانِحُ الاْنْوَارِ تَضَاعَفَتْ لِمَبْلَغٍ مِكْثارِ عَلَيْهِ قِسْ بِوَسَطٍ وَ غَيْرِه شُهُودَ كُلٍّ وَ شُرُوقَ نُورِه إذْ لاَ حِجَابَ فِي الْمُفَارِقَاتِ وَ اِنَّمَا اخْتَصَّ الْمُقَارِنَاتِ فَكَانَ فِي كُلٍّ جَمِيعُ الصُّور ِ كُلٌّ مِنَ الْكُلِّ كَمَجْلَي' الآخَرِ [31] و بهذا الطريق و الكيفيّة فانّ الانوار السانحة؛ مثل نور وجود ملك الموت الذي يستمدّ من حضرة نور الانوار فيتجلّي فيه؛ ستتكثّر في المراتب النازلة بشكل مضاعف. و علی هذا الاساس و الكيفيّة ينبغي ملاحظة إشراقات الانوار التي تظهر في المراتب الاوطأ، و المشاهدات التي تقوم بها من الانوار العالية و الموجودات المجرّدة القاهرة. و دليل ذلك انّه ليس هناك في الموجودات المجرّدة حجابٌ للمادّة وآثارها مثل الزمان و المكان، و هي ليست محجوبة عن بعضها لانّ الحجاب مختصٌّ بالموجودات الماديّة و آثارها. و لذلك فانّه سينعكس في كلّ واحد من الموجودات المجرّدة جميع صور الموجودات المجرّدة الاخري، فيكون كلّ واحد منها في حكم المرآة بالنسبة للآخرين. و قد روي الشيخ الصدوق في كتاب «من لا يحضره الفقيه» عن الامام الصادق عليه السلام قال:
قِيلَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلامُ: كَيْفَ تَقْبِضُ الاْرْوَاحَ وَ
بَعْضُهَا فَقَالَ: أَدْعُوهَا فَتُجِيبُني. قَالَ: فَقَالَ مَلَكُ الموتِ عَلَيْهِ السَّلامُ: اِنَّ الدُّنْيَا بَيْنَ يَدَيَّ كَالْقَصْعَةِ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ يَتَنَاوَلُ مِنْهَا مَا شَاءَ؛ وَ الدُّنْيَا عِنْدِي كَالدِّرْهَمِ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ يُقَلِّبَهُ كَيْفَ يَشَاءُ [32]. و روي كذلك في نفس الكتاب انّه سُئل الصادق عليه السلام عن قول اللَه عزّ و جل «اَللَهُ يَتَوَفَّي' الاْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا»، و عن قول اللَه عزّ و جل «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ»، و عن قول اللَه عزّ و جل «الَّذيِنَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ» و عن قول اللَه عزّ و جل «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا»، و عن قوله عزّ و جلّ «وَلَوْ تَرَي' إذْ يَتَوَفَّي' الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِّكَةُ»، و قد تموت في الساعة الواحدة في جميع الآفات ما لا يحصيه إلاّ اللَه عزّ و جل فكيف هذا؟ فقال: إن اللَه تبارك و تعالي جعل لملك الموت أعواناً من الملائكة يقبضون الارواح، بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس يبعثهم في حوائجه، فَتَتَوفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَ يَتَوَفَّاهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مَعَ مَا يَقْبض هُوَ، وَ يَتَوَفَّاهَا اللَهُ عَزَّ وَ جَل مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ [33]. و يستفاد من هذه الرواية انّ ملك الموت يقبض أرواح البعض بدون توسّط الاعوان من الملائكة، بل يتصدّي بنفسه لقبض أرواح هؤلاء؛ و سنتحدّث عن هذا الموضوع في خاتمة هذا المجلس إن شاء اللَه تعالي. و ينقل الشيخ الصدوق عليه الرحمة في كتاب «التوحيد» رواية عن أحمد ابن الحسن القطّان، عن أحمد بن يحيي، عن بكر بن يداللَه بن حبيب، عن أحمد بن يعقوب بن مطهر، عن محمد بن الحسن بن عبدالعزيز الاحدب الجند بنيسابور، قال: وجدتُ في كتاب أبينجطّة: حدّثنا طلحة بن يزيد، عن عبيداللَه بن عُبيد، عن أبي معمر السعداني، انّ رجلاً أتيأميرالمـؤمنين علی بن أبيطالب عليه السلام فقال: يا أميرالمؤمنين إنّي قد شككتُ في كتاب اللَه المُنْزَلْ قال له عليه السلام: ثكلتك أمك و كيف شككت في كتاب اللَه المنزل؟ قال: لانّي وجدتُ الكتاب يكذّب بعضُه بعضاً فكيف لا أشكّ فيه. فقال علی بن أبيطالب عليه السلام: انّ كتاب اللَه ليصدّق بعضه بعضاً و لايكذّب بعضه بعضاً، و لكنّك لم تُرزق عقلاً تنتفع به، فهاتِ ما شككتَ فيه من كتاب اللَه عزّ و جل. فشرع الرجل ببيانها و أميرالمؤمنين عليه السلام يجيب عليها واحداً بعد الآخر، و هذه الرواية مفصّلة جداً و طويلة نُقلت بأجمعها في كتاب توحيد الصدوق، الطبع الحيدري، من ص 96 الی ص 254. الاّ اننا اقتطعنا منها موضع حاجتنا المتعلّق بإدّعاء التناقض و التنافي في آيات قبض الروح، نذكره هنا:
فقال عليه السلام: و أمّا قوله: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ الی رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»، و قوله
«اَللَهُ يَتَوَفَّي الاْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا»، ارجاعات [1] ـ الشيخ هو أب زوجة ابن خالي، و ذلك لانّ اقا الميرزا محمّد الطهراني صاحب كتاب مستدرك البحار رحمة اللَه عليه هو خال أبي، و كان ولده الميرزا مهدي شريف عسكري الطهراني قد تزوّج بابنة المرحوم الشيخ آقا بزرگ. [2] ـ كتاب السرائر، الطبعة الحجريّة، باب المستطرفات، ص 20 من هذا الباب. [3] ـ الخطبة 21 من نهج البلاغة ج 1، ص 58، شرح محمّد عبده ط مصر. [4] ـ شرح نهج البلاغة محمّد عبدة، ط مصر، ص 59. [5] ـ المصدر السابق ص 418. [6] ـ المصدر السابق ص 418، الخطبة 202. [7] ـ الآية 23، من السورة 33: الاحزاب. [8] ـ الصواعق ص 80. [9] ـ الآية 11، من السورة 32: السّجدة. [10] ـ الآية 42 من السورة 39: الزمر. [11] ـ الآية 61 من السورة 6: الانعام. [12] ـ الآية 32 من السورة 16: النحل. [13] ـ الآية 28 من السورة 16: النحل. [14] ـ الآية 29، من السورة 16: النحل. [15] ـ المنظومة السبزواريّة، غرر في تكلّمه تعالي، ط ناصري، ص 177 و 178. [16] ـ لمزيد من الاطلاع يمكن الرجوع الی تفسير الميزان طبعة الآخوندي، المجلّد الاوّل، ص 72 تحت عنوان «تصديق القرآن لقانون العليّة العامّة»، و ص 406 من نفس المجلّد تحت عنوان «كلام في استناد مصنوعات الإنسان الی اللَه سبحانه». [17] ـ الآية 96، من السورة 37: الصافات. [18] ـ الآية 102، من السورة 6: الانعام. [19] ـ الآية 16، من السورة 13: الرعد. [20] ـ الآية 120، من السورة 5: المائدة. [21] ـ الآية 54، من السورة 4: النساء. [22] ـ الآية 20، من السورة 38: ص. [23] ـ الآية 3، 24، 25 و 36، من السورة 4: النساء. و الآية 71، من السورة 16: النحل. والآية 6، من السورة 23: المؤمنون، و... و... [24] ـ الآية 50، من السورة 33: الاحزاب. [25] ـ الآية 11، من السورة 32: السجدة. [26] ـ الآية 42، من السورة 39: الزمر. [27] ـ الآية 32، من السورة 16: النحل. [28] ـ «الاحتجاج»، طبع النجف، مطبعة النعمان س 386، المجلّد الاوّل، ص 364. [29] ـ الآية 75، من السورة 22: الحجّ. [30] ـ الآية 30، من السورة 76: الدهر؛ و الآية 29، من السورة 81: التكوير. [31] ـ شرح المنظومة السبزواريّة، طبع ناصري، ص 190 و 191. [32] ـ «من لا يحضره الفقيه»، باب غسل الميّت، طبع النجف، ج 1، ص 80. [33] ـ «من لا يحضره الفقيه»، باب غسل الميّت، طبع النجف، المجلّد الاوّل، ص 82. |
|
|