|
|
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلیّ العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَـ'هُمْ وَنَادَوْا أَصْحَـ'بَ الْجَنَّةِ أَن سَلَـ'مٌ علیكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ. [1] تشير هذه الآية الكريمة إلی موقف الاعراف وإلي أصحاب الاعراف الذين يقفون في عرصات القيامة بين الجنّة والنار، فيهيمنون علیهما معاً، ويفصلون بين السعداء والاشقياء. وبما أنّ وقوع الآية في سياق آيات تتحدّث عن طبيعة تخاطب أصحاب الجنّة وأصحاب النار، وتتعرّض لذكر منزلة أصحاب الاعراف، فمن الضروريّ أن نتعرّض أوّلاً لذكر تلك الآيات، ثمّ نعرّج للبحث في جوانبها المختلفة. تفسير إجماليّ لآيات الاعرافأمّا الآيات، فقد وردت علی النحو التالي: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَآ أُولَـ'ئِكَ أَصْحَـ'بُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـ'لِدُونَ. وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَـ'رُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَب'نَا لِهَـ'ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلآ أَنْ هَدَب'نَا اللَهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُو´ا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. وَنَادَي'´ أَصْحَـ'بُ الْجَنَّةِ أَصْحَـ'بُ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَهِ علی الظَّـ'لِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالاْخِرَةِ كَـ'فِرُونَ. وَبَيْنَهُمَا ( بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار ) حِجَابٌ وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاَّ ( من أصحاب الجنّة وأصحاب النار ) بِسِيمَب'هُمْ وَنَادَوْا أَصْحَـ'بَ الْجَنَّةِ أَن سَلَـ'مٌ علیكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـ'رُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـ'بِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّـ'لِمِينَ. وَنَادَي'´ أَصْحَـ'بُ الاْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَیـ'هُمْ قَالُوا مَآ أَغْنَي' عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَـ'´ؤُلآءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَهُ بِرَحْمَةٍ ( كيف شملتهم رحمته، فسكنوا الجِنان؟ ثمّ يخاطب أصحاب الاعراف أصحاب الجنّة هؤلاء فيقولون لهم: ) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ علیكُمْ وَلآ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ. وَنَادَي'´ أَصْحَـ'بُ النَّارِ أَصْحَـ'بَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا علینَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَهُ قَالُو´ا إِنَّ اللَهَ حَرَّمَهُمَا علی الْكَـ'فِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَو'ةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَـ'هُمْ كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـ'ذَا وَمَا كَانُوا بِـَايَـ'تِنَا يَجْحَدُونَ. [2] وقد لاحظنا في هذه الآيات التي وردت في ذكر الاعراف أنّ لفظ الاعراف قد ورد في موضعين فقط، وأنّ أصحاب الاعراف ورجال الاعراف ـالذين تكرّر ذكرهم في عدّة مواضع علی هيئة ضمائرـ قد انحصر ذكرهم في هذه الآيات دون غيرها. ومن خلال التأمّل في دقائق هذه الآيات يستفاد أنّ الاعراف يمثّل فاصلاً وحجاباً يفصل بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار، وأنّ هذا الحجاب ذودرجات ومراتب تتربّع علی قمّتها النفوس القدسيّة المهيمنة علی الجنّة والنار، فتعرف أصحاب الجنّة وأصحاب النار كلاّ بسيماهم. ولقد ارتقت تلك النفوس في مراتب الخُلوص والقُرب، وخطت في الاُفق العالي بحيث هيمنت علی طائفتي أصحاب الجنّة وأصحاب النار، وأشرفت علی الجنّة والنار وأخضعتهما لدائرة نفوذها وهيمنتها. فأصحاب تلكم النفوس هم الذين يقولون لاصحاب الجنّة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ؛ وهم الذين يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَب'هُم، ومنهم المؤذّن في قوله: أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَهِ علی الظَّـ'لِمِينَ؛ وهم الفاعل في خطاب: وَنُودُو´ا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ. وهم الذين يتلقّون أصحاب الجنّة ويبشّرونهم بالخلود، والذين يؤاخذون أصحاب النار ويناقشونهم الحساب ويقولون لهم: مَآ أَغْنَي عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كَنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ؛ ويقولون لهم: أَهَـ'´ؤُلآءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالَهُمُ اللَهُ بِرَحْمَةٍ. وهناك طائفة من الناس تقف في الدرجات السفلي من الاعراف، وهم شيعة تلك النفوس القدسيّة المخلَصة وأتباعها، وهم محسوبون من طائفة تلك النفوس، كما يعدّ جيش السلطان جزء حكومته، إلاّ أنّ أُولئكم الشيعة والاتباع لم يدخلوا الجنّة مباشرة بسبب الاخطاء والذنوب التي بدرت منهم. وتقف هذه الطائفة بين الجنّة والنار مترقبة لفيض الرحمة والشفاعة، وتنتظر نيل جواز العبور علی الصراط، علی أمل هطول الرحمة ونزول الفيض وصولاً إلی دخولهم الجنّة. وأفراد هذه الطائفة هم الذين يسلّمون علی من سبقهم إلی الجنّة فيقولون: سَلَـ'مٌ علیكُمْ؛ وهم الذين إذا ما صُرفت أبصارهم تلقاء الظالمين من أصحاب النار، قالوا: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّـ'لِمِينَ. وقد سبق أن برهنّا في موارد عديدة ـمن دورة العلوم والمعارف الإسلاميّة، ما كان منها في « معرفة الإمام » أم « معرفة المعاد » ـ علی أنّ عباد الحقّ المخلَصين لايحضرون في الحشر للسؤال والحساب: فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ[3]. وأنّ مقامهم هو المقام الاعلی والاسني والاشرف، وأنّ حساب الاُمم علیهم وفي أيديهم. ومادام أُولئكم هم الفائزون بمقام الفناء في الله، والنائلون لمقام البَقَاءِ بَعْدَ الفَنَاء ومنزلة جَمْعُ الجَمْعِ، فهم ـإذاًـ أعلی من الجنّة والنار، وهم الواقفون في مرتبة الحجاب الاقرب، والمهيمنون علی كلا الفريقين، والمتطلّعون إليهم من الاُفق الاعلی؛ يعرفون كلاّ بسيماهم، ويعيّنون لكلٍّ مقامه ودرجته. تفسير تفصيليّ لآية الاعرافهذا هو إجمال ما استفدناه من آيات الاعراف، ونشرع الآن بِحَوْلِ اللَهِ وَقُوَّتِهِ في البحث القرآنيّ الدقيق من خلال تفسير الآية بالآية، مستشهدين خلال ذلك بنماذج من الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة التي تدعم هذه الحقيقة وتؤيّدها، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العلیِّ العَظِيمِ. وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَب'هُمْ. يطلق لفظ الاعراف علی أعالي السور، كما يُطلق علی التلال الرمليّة الصحراويّة التي تتشكّل من خلال عصف الرياح وهبوبها. ونظراً لورود كلمة الاعراف في هذه الآية بعد كلمة: حجاب، فيحتمل أن يكون المعني الاوّل للاعراف هو المراد، إلاّ أنّ وجود رجال علی الاعراف ممّا يدعم المعني الثاني ويقوّيه. بَيدَ أ نّه ليس ثمّة منافاة بين هذين المعنيين في الآية المباركة، لانّ معني الحجاب هو: مَا يَحْجُبُ شَيئاً عَنْ شَيْءٍ. ولذا يمكن القول: إنّ لهؤلاء الرجال الواقفين علی الاعراف مقام رفيع يجعلهم يهيمنون علی أصحاب الجنّة وعلی أصحاب النار ويطلّعون علی مقامَي الجنّة والنار معاً. ولذا، فقد كَانُوا علی الاَعْرَافِ ليعرفوا كلاّ بسيماهم، لانّ الاشتقاق اللغويّ للاعراف من عَرَفَ يَعْرِفُ مَعْرِفَةً وَعِرْفَاناً. وقد وصف الله تعالي الاعراف في القرآن الكريم ـفي الآية13، من السورة57: الحديدـ بصفة سور، وعبّر عن تخاطب أصحاب الجنّة وأصحاب النار بتحاور المنافقين والمنافقات مع المؤمنين والمؤمنات؛ وهو ـكما نريـ يمثّل بيان أمر واحد وحقيقة واحدة بعنوانينِ وتعبيرينِ. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَـ'فِقُونَ وَالْمُنَـ'فِقَـ'تُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ و بَابُ بَاطِنُهُ و فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَـ'هِرُهُ و مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ. [4] وقد ورد في ذيل آية الاعراف: وَنَادَي'´ أَصْحَـ'بُ النَّارِ أَصْحَـ'بَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا علینَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَهُ قَالُو´ا إِنَّ اللَهَ حَرَّمَهُمَا علی الْكَـ'فِرِينَ. ونلحظ من خلال مقارنة الآية الواقعة في سورة الاعراف مع نظيرتها في سورة الحديد أنّ مقولة المنافقين: انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ومقولة المؤمنين في جوابهم: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا هما نفس مقولة أصحاب النار لاصحاب الجنّة بحقيقتها، والجواب الذي يسمعونه منهم: أَنْ أَفِيضُوا علینَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَهُ قَالُو´ا إِنَّ اللَهَ حَرَّمَهُمَا علی الْكَـ'فِرِينَ. الحجاب والسور بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار هما شيء واحدومن هنا، فإنّ السور الذي ضُرب بين المنافقين والمؤمنين هو نفس الحجاب والاعراف الفاصل بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار، وإنّ ما ورد في آية سورة الحديد من جعل المنافقين وراء باب هذه السور عائد إلی اشتراك أمرهم مع المؤمنين في الظاهر، نظراً لكونهم منافقين يُبطنون الكفر. لذا، فإنّ باب هذا السور الذي باطنه وحقيقته الإيمان سيمثّل الرحمة، أمّا ظاهره فيجسّد العذاب. وسوف لن ينتفع المنافقون ـالذين لايعلمون عن الحقيقة شيئاًـ من باطن الباب الذي يمثّل الرحمة، وستنحصر استفادتهم بظاهر الإسلام الذي تلبّسوا به في الدنيا، ذلك الظاهر الذي يتجلّي في المحشر في هيئة العذاب. وحاصل المعني هو أنّ السور والحجاب هما شيء واحد، إلاّ أ نّه ذووجهينِ: ظاهريّ وباطنيّ. أمّا ظاهره فالعذاب؛ وأمّا باطنه فالرحمة. وسيحظي الذين أدركوا باطنه بالفوز بعاقبة الإيمان والحقيقة؛ أمّا الذين اكتفوا بظاهره ولم يعلموا عن باطنه شيئاً، فلن ينتفعوا من حقيقة الإيمان والعقيدة الطاهرة، لا نّهم ما آمنوا إلاّ حفظاً لمصالحهم الشخصيّة لاغير، وهؤلاء هم الذين سيرزحون في العذاب أمام ظاهر هذا السور وهذا الباب. ولو اخترقت أنظار هذه الطائفة الظاهر إلی الباطن، لبلغوا النعيم الإلهيّ ولشملتهم رحمة الحقّ تعالي، لكنّهم قنعوا بظاهر السور، فحُرِموا من الاستفادة من باطنه. فالسور والحجاب شيء واحد إذاً، وله ظاهر وباطن، والاختلاف إنّما يكمن في درك المؤمنين والكافرين وفهمهم له؛ كحالهم في دار الدنيا تماماً، حيث كان الطريق الذي ينبغي علیهم طيّه إلی الله تعالي واحداً، فطواه المؤمنون باستقامة، فصاروا يخطون في الصراط المستقيم؛ أمّا الكفّار فقد انحرفوا في طيّه عن سواء السبيل. لقد كانوا سواء، فاختلفوا في استقامة النفوس وانحرافها، وفي الإرادة الحسنة والاختيار الحسن، والإرادة السيّئة والاختيار السيّي. ونري أ نّه ورد في الآية: يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَي' وَلَـ'كِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الاْمَانِيُّ حَتَّي' جَآءَ أَمْرُ اللَهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَهِ الْغَرُورُ، [5] ( للدلالة علی ) أنّ المنافقين قد شاركوا المؤمنين في دار الدنيا في جميع الجوانب الطبيعيّة والمزايا المادّيّة، حيث كانوا يعيشون علی أرض واحدة وينحدرون من نفس الابوين والعشيرة، ويتناولون طعاماً واحداً، ويُنجزون نفس الاعمال ويتمتعون بنفس العمر؛ فليسثمّة تمايز فيما بينهم من الناحية الطبيعيّة إذاً؛ أمّا في النوايا والاهداف والاخلاق والدوافع المعنويّة فهم مختلفون تماماً، فاستدعي ذلك سوق الكفّار إلی جهنّم، وهدي المؤمنين إلی الجنّة. الطريق إلی الله واحد، لكنّ البعض يطويه باستقامة والبعض الآخر بانحراففالصراط واحد، وهو الطريق الذي يتوجّب علی الإنسان طيّه تجاه الله تعالي. أمّا المؤمنون فيطوون الصراط المستقيم، لكنّ الكافرين والمنافقين والمسيئين إنّما يسلكون الصراط المنحرف المعوجّ. وقد ورد قبل آية الاعراف، قوله تعالي: وَنَادَي'´ أَصْحَـ'بُ الْجَنَّةِ أَصْحَـ'بَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَهِ علی الظَّـ'لِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالاْخِرَةِ كَـ'فِرُونَ. الطريق إلی الله واحد، لكنّ البعض يسلكه باستقامة وصدق، بينما البعض الآخر يسلكه بانحراف وزيغ، وهو بذاته الحقيقة الواحدة لسور الاعراف وحجابه، حيث يلتفت البعض إلی باطن السور الذي يمثّل الرحمة، ويلتفت البعض الآخر إلی الظاهر الذي يجسّد النقمة والنكبة. وقد تكرّر هذا المطلب في القرآن الكريم تصريحاً وتلميحاً، كقوله تعالي: يَعْلَمُونَ ظَـ'هِرًا مِّنَ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَةِ هُمْ غَـ'فِلُونَ. [6] حيث يتّضح ـبقرينة المقابلة التي جعلت الآخرة مقابل ظاهر الحياة الدنياـ أنّ المقصود بالآخرة هو باطن الحياة الدنيا. فهناك حياة واحدة لاغير، وهي حياة ذات ظاهر وباطن؛ وظاهرها هذه الحياة البهيميّة، أي حياة الشهوة والوهم والغفلة عن المقرّ الابديّ وعن الحياة الإنسانيّة الابديّة المعنويّة، أمّا باطنها فهو الحياة الإنسانيّة المعنويّة والروحيّة والعقليّة المتلازمة مع الوعي بأنّ كلا هاتين الصورتين اللتين تعكسان جانبي هذه الحياة الواحدة ستتجلّيان بعد الموت. وكقوله تعالي: أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي´ أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَهُ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّي وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآيءِ رَبِّهِمْ لَكَـ'فِرُونَ. [7] أي أ نّهم لو تأمّلوا بنظر الحقّ في خلق السماوات والارض، ولاحظوه مع الحقّ والاجل المسمّي، لجسّد لهم الصراط الفكريّ المستقيم الراسخ. أمّا لو تطلّعوا إليه بنظر الباطل المقترن بإنكار لقاء الله، لمثّل لهم سبيل الانحراف الفكريّ. وكقوله تعالي: وَالَّذِينَ كَفَرُو´ا أَعْمَـ'لُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمَـَانُ مَآءً حَتَّي'´ إِذَا جَـآءَهُ و لَمْ يَجِـدْهُ شَـيْئًا وَوَجَـدَ اللَهَ عِندَهُ و فَوَفَّب'هُ حِسَابَهُ. [8] السبيل إلی الله تعالي واحد، أمّا الكافر فيري السراب ماءً، وأمّا المؤمن فيري الماء علی حقيقته؛ ثمّ يسير الكافر والمؤمن إلی غايتيهما، فيبقي الاوّل ظمآناً ويُجزي علی غفلته ووهمه، وينهل الثاني ريّاً رويّاً. العيش علی أمل لقاء الله تعالي سعادة، وبدون ذلك الامل جحيموكقوله تعالي: فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّي' عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا * ذَ ' لِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَي'. [9] وهو قول صريح في أنّ العيش في دار الدنيا إذا اقترن بقصر الهمّة علی البهيميّة والمراتب المتنزّلة من العيش والمعاشرة، كان عين الضلال والإعراض عن ذكرالله تعالي، أمّا لو اقترن بجعل لقاء الله هدفاً ومقصداً، وبالتعالي عن هذه المراتب المتدنّية، كان عين الاهتداء. وكقوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَ نُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَـ'تِنَا غَـ'فِلُونَ * أُولَـ'ئِكَ مَأْوَي'هُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. [10] الذي يبيّن أنّ الركون إلی ظاهر الحياة الدنيا والاكتفاء بها دون رجاء لقاءالله، إنّما هو ركون إلی النار. وفي المقابل فإنّ العيش المقترن برجاء لقاءالله، وعدم الاعتماد علی أُمور الدنيا الزائلة، والالتفات إلی آياتالله ودرايتها، هو السعادة والجنّة. والآيات الواردة في هذا الشأن كثيرة، لكنّ الآية التالية أكثر صراحة من غيرها: أَلَمْ تَرَ إلی الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ. [11] وقد ذكرنا سابقاً أنّ المراد من النعمة هنا الولاية. والولاية هي السبيل إلی الله تعالي. ويقابلها الكفر، وهو إغلاق طريق العبوديّة. ومن هنا، فإنّ البوار والهلاك هما غاية ونهاية سير مثل هؤلاء الافراد الجامدين علی الظاهر والمعرضين عن الباطن، لانّ مصير الظاهر إلی الفناء والفساد، أمّا الباطن فيمتاز بالثبوت والرسوخ والخلود. كما يقول تعالي: وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُو´ا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ. [12] ويقول: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ. [13] ويقول: لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا. [14] ويقول: لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّ ' بًا. [15] ومن هنا، فإنّ غاية المؤمنين تتمثّل في مقعد الصدق والحقّ، حيث لا لغو ولا كذب ولا باطل، خلافاً لغير المؤمنين. وإجمالاً، فإنّ أصحاب مقامات الاعراف العالية هم المهيمنون علی الجنّة والنار والمتصرّفون في السعداء والاشقياء. وباعتبار علمنا بعدم مشابهة تلكم التلال للتلال الرمليّة الطبيعيّة، لانّ الارض لنتكون يومذاك علی هيئتها الحاليّة، بل ستكون أرضاً لا ارتفاع فيها: وَيَسْـَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لاَّتَرَي' فِيهَا عِوَجًا وَلآ أَمْتًا. [16] فيكون المراد بأصحاب الاعراف، أصحاب المنزلة الرفيعة قياساً إلی أهل المحشر الذين هم أهل الجمع. وأصحاب الاعراف ليسوا من المُحضرين، لانّهم من المخلَصين الذين آمنهم الله من الصعق ونفخ الصور ومن فزع ذلك اليوم. أمّا مقامهم فالحجاب الذي ينطوي علی رحمة وسعت كلّ شيء وهيمنت علی النار المستولية علی أهلها ويمكن استيحاء هذا المعني من قوله تعالي: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَهِ علی الظَّـ'لِمِينَ؛ وذلك أ نّه لميقل فَأَذَّنَ بَيْنَهُمْ مُؤَذِّنٌ، لانّ الظاهر في العبارة الاُولي عدم كون المؤذّن منهم، بل هو مسيطر علیهم. خلافاً للعبارة الثانية الظاهرة في أنّ المؤذّن منهم. صفات أصحاب الاعراف وخصائصهم النفسانيّةوأصحاب الاعراف هم الحاكمون يوم القيامة علی الجنّة والنار معاً، وهم الذين يُحاسبون أصحاب النار ويؤاخذونهم؛ وآية الاعراف صريحة في هذا الامر: وَنَادَي'´ أَصْحَـ'بُ الاْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَب'هُمْ قَالُوا مَآ أَغْنَي' عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَـ'´ؤُلآءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَهُ بِرَحْمَةٍ. ثمّ يوجّه أصحاب الاعراف أمرهم لاصحاب الجنّة أنّ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ علیكُمْ وَلآ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ. وأصحاب الاعراف هم أصحاب الروح الذين يؤذن لهم وللملائكة في الكلام يوم القيامة، فيتكلّمون بالصواب. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـ'ئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـ'نُ وَقَالَ صَوَابًا. [17] لا نّهم اكتسبوا الإيمان والعلم بالكتاب من خلال وحي الروح الذي هو موجود أفضل من جميع الملائكة. وَكَذَ ' لِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَـ'بُ وَلاَ الإيمَـ'نُ.[18] وهم الذين يحكمون يوم القيامة بخسران الذين خسروا أنفسهم وأهليهم: وَتَرَي'هُمْ يُعْرَضُونَ علیهَا خَـ'شِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُو´ا إِنَّ الْخَـ'سِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُو´ا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ.[19] وعلی الرغم من أنّ ظاهر الآية هو أنّ المؤمنين هم الذين يحكمون بهذا الحكم بعنوان قضاء وحكومة، إلاّ أنّ هذا الامر مختصّ بالمتّصفين بصفات أصحاب الاعراف، حيث يعدّ هذا الحكم من جملة وظائفهم. وأصحاب الاعراف هم الذين أُعطوا العلم والإيمان، وهم الذين يجيبون علی ادّعاء المجرمين بأ نّهم لم يلبثوا غير ساعة، فيخاطبونهم: لقد لبثتم في كتاب الله إلی يوم البعث: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَ ' لِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيْمَـ'نَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَـ'بِ اللَهِ إِلَي' يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـ'ذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـ'كِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ. [20] لقد أخطأ المجرمون في ظنّهم، لا نّهم قيّدوا أنفسهم في الدنيا وقصروا أبصارهم وانتباههم علی الساعات التي انهمكوا فيها بالافكار الشيطانيّة والهواجس النفسانيّة واللذائذ الحيوانيّة البهيميّة، ولميوسّعوا أُفق أفكارهم وأبصارهم أبعد من ذلك، بحيث يتطلّعون إلی ما قبل مجيئهم إلی الدنيا، وإلي ما بعد رحيلهم عنها، وليدركوا ـ بحسب السيطرة علی الزمانـ هذا الامد المتطاول والمدّة المديدة. فهم لم يشاهدوا إلاّ الساعة الفعلیة التي سرعان ما تأتي وتمرّ، فصاروا يُقسِمون يوم الحشر أن: ما لبثنا في الدنيا غير ساعة. أجل، لو قايسنا بين فترة الحياة الدنيويّة وبين الدهر، لكانت مدّة الدنيا ضئيلة وقليلة جدّاً، ولامكن القول حقّاً بأ نّها ليست أكثر من ساعة واحدة. إلاّ أنّ أُولئك المجرمين لم يقصدوا بمقولتهم هذه النسبة، وإلاّ لصدق قولهم. ونري أ نّهم لم يقصدوا بقولهم هذا الامر، لذا فقد عوتبوا علی كلامهم، وعدّ قولهم بأ نّهم لم يلبثوا غير ساعة إفكاً وكذباً. لكن عمر الإنسان ـ كما سبق أن ذكرنا ـ لا يمثّل ـقياساً إلی امتداد الزمان والدهرـ إلاّ ساعة واحدة؛ قال تعالي: كَأَ نَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُو´ا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ. [21] وقال تعالي: قَـ'لَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعَـآدِّينَ * قَـ'لَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَ نَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.[22] يقول عزّ وجلّ: لو أ نّكم اطّلعتم علی حياتكم الابديّة، لعلمتم أنّ مكثكم في الدنيا كان قليلاً جدّاً ولو استغرق سنين عديدة. وعلی أيّة حال، فقد يكون خطاب أهل العلم والإيمان للمجرمين: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَـ'بِ اللَهِ إِلَي' يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـ'ذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـ'كِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. إشارة إلی قوله تعالي: وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَي'´ أَجَلٍ مُّسَمًّي لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. [23] وإشارة إلی الآية: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَي'´ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّي عِندَهُ. [24] وقد أوردنا في بداية بحث « معرفة المعاد » ـفي المجلس الثاني من الجزء الاوّلـ بحثاً في الاجل والاجل المسمّي الواردينِ في الآية الكريمة: مَا خَلَقْنَا السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَميًّ، واتّضح أنّ الاجل المسمّي هو أجل ثابت عند الله تعالي، وأ نّه هو الجانب الملكوتيّ الثابت لهذا الاجل. ومن هنا، فإنّ أصحاب العلم والإيمان ( وهم أصحاب الاعراف ) قد تحدّثوا في خطابهم للمجرمين عن ذلك الجانب الملكوتيّ وعن تعيين الاجل المسمّي، وأ نّهم خاطبوهم: لمّا كان لبثكم وانقضاء ذلك اللبث أمرين مسلّمينِ، فهذا هو يوم البعث، لكنّكم كنتم لا تعلمون بهذا التحديد وهذا الاجل الملكوتيّ، وكنتم لا ترون الاجل المسمّي حاكماً علی الاجل ومحيطاً به، ولا تعلمون: إِنَّ السّاعةَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هِيَ أقْرَبُ، ولاتعلمون: إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَـ'فِرِينَ؛ ولذلك فقد كنتم في جهل وغفلة؛ وها قد علمتم أنّ هذا هو يوم القيامة، يوم البعث والحشر. وينبغي أن لا ننسي القول بأنّ هذا الادّعاء الخاطي من المجرمين بأ نّهم لميلبثوا غير ساعة، وظهور بطلان هذا الادّعاء، وأمثال هذه الاختلافات الناجمة عن المخاصمات بين المستضعفين والمستكبرين، والمجادلات التي يذكر القرآن وقوعها بين الذين اتَّبَعوا والذين اتُّبِعوا، والمشاجرات التي تنشب بينهم يوم القيامة حول المسائل الدنيويّة، فيحاول كلّ منهم التنصّل عن الذنب ورميه علی عاتق غيره؛ كلّ ذلك لايتنافي مع ما مرّ سابقاً من أنّ يوم القيامة هو يوم تجلّي الحقائق وإزالة الحجب وإظهار السرائر، لانّ كشف الحقائق وتجلّيها بما لايمكن إنكارها، إنّما يحصل بدرجات متفاوتة. فقد يحصل الكشف لدي البعض بصورة كاملة، بينما يحصل لدي البعض الآخر بصورة إجماليّة، ويوجد هذا الاختلاف في جميع شؤون القيامة. الروايات الدالّة علی أنّ الاعراف هو موقف العارفينوتنقسم الروايات الواردة في هذا الباب إلی عدّة أقسام بلحاظ المضمون والموضوع: الاوّل: الروايات الدالّة علی أنّ لفظ الاعراف يتضمّن المعرفة والعرفان؛ وربّما نشأ أساس هذا النوع من تعبير الآية القرآنيّة الكريمة: وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَب'هُمْ. وقد عُدّ الوقوف علی الاعراف في هذه الآية خاصّاً بمن يعرفون الناس بسيماهم، فيما لو أرجعنا الضمير « هُمْ » إلی « كُلاًّ »؛ أو بالعلامات الموجودة في سيمائهم فيما لو أرجعنا الضمير « هُمْ » إلی « رِجَال ». ويمكن أن نقول بأن الضمير راجع إلی « كلاًّ » وإلي « رجال » علی حدٍّ سواء، إذ لا إشكال في ذلك من الناحية الادبيّة، كما أ نّه لا ضير في إرجاع الضمير إلی جامع بين شيئين مذكورين في عبارة. جاء في « تفسير مجمع البيان »: وذكر أنّ بكر بن عبدالله المزنيّ قال للحسن: بلغني أ نّهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم. فضرب الحسن يده علی فخذه وقال: هؤلاء قوم جعلهم الله علی تعريف أهل الجنّة والنار، يميّزون بعضهم عن بعض. والله لا أدري لعلّ بعضهم معنا في هذا البيت. وقيل إنّ الاعراف موضع عالٍ علی الصراط علیه حمزة والعبّاس وعلیّ وجعفر يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه ومُبغضيهم بسواد الوجوه؛ عن الضحّاك عن ابن عبّاس، رواه الثعلبيّ بالإسناد في التفسير؛ ثمّ قال: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ علیهِ السَّلاَمُ: هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ علیهِمُ السَّلاَمُ؛ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ عَرَفَهُمْ وَعَرَفُوهُ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ إلاَّ مَنْ أَنْكَرَهُمْ وَأَنْكَرُوهُ.[25] وفي « تفسير العيّاشيّ » عن هِلقام، عن أبي جعفر ( الباقر ) علیه السلام قال: سألتُه عن قول الله: وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَب'هُمْ؛ ما يعني بقوله: وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ؟ قال: ألستم تعرفون علیكم عرفاء علی قبايلكم ليعرفون مَن فيها مِن صالح أو طالح؟ قلتُ: بلي. قال: فنحن أُولئك الرجال الذين يعرفون كلاّ بسيماهم. [26] وروي العيّاشـيّ عن زاذان، عن سـلمان قال: سـمعتُ رسولالله صلّيالله علیه وآله وسلّم يقول لعلیّ أكثر من عشر مرّات: يَا علیُّ! إنَّكَ وَالاَوْصِيَاءَ مِنْ بَعْدِكَ أَعْرَافٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ عَرَفَكُمْ وَعَرَفْتُمُوهُ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ إلاَّ مَنْ أَنْكَرَكُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ.[27] كما روي العيّاشيّ عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر ( الباقر ) علیه السلام في هذه الآية: وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَب'هُمْ؛ قال: يا سعد! هم آل محمّد علیهم السلام؛ لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه، ولايدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه. [28] وروي عن الثماليّ، قال: سئل أبو جعفر ( الباقر ) علیه السلام عن قولالله: وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَب'هُمْ؛ فقال أبوجعفر: نَحْنُ الاَعْرَافُ الَّذِينَ لاَ يُعْرَفُ اللَهُ إلاَّ بِسَبَبِ مَعْرِفَتِنَا؛ وَنَحْنُ الاَعْرَافُ الَّذِينَ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ عَرَفَنَا وَعَرَفْنَاهُ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ إلاَّ مَنْ أَنْكَرَنَا وَأَنْكَرْنَاهُ. وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَهَ لَوْ شَاءَ أَنْ يُعَرِّفَ النَّاسَ نَفْسَهُ لَعَرَّفَهُمْ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَنَا سَبَبَهُ وَسَبِيلَهُ وَبَابَهُ الَّذِي يُؤْتَي مِنْهُ. [29] وفي « بصائر الدرجات » عن محمّد بن الحسين، عن موسيبن سعدان، عن عبدالله بن قاسم، عن بعض أصحابه، عن سعد الإسكاف، قال: قلتُ لابي جعفر علیه السلام: قوله عزّ وجلّ: وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَب'هُمْ؛ فقال: يا سعد! إنّها أعراف لايدخل الجنّة إلاّ مَن عرفهم وعرفوه، وأعراف لايدخل النار إلاّ مَن أنكرهم وأنكروه، وأعراف لايعرف الله إلاّ بسبيل معرفتهم. فَلاَ سَوَاءٌ مَا اعْتَصَمَتْ بِهِ المُعْتَصِمَةُ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ النَّاسِ ذَهَبَ النَّاسُ إلی عَيْنٍ كَدِرَةٍ يَفْرُغُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَمَنْ أَتَي آلَ مُحَمَّدٍ أَتَي عَيْناً صَافِيَةً تَجْرِي بِعِلْمِ اللَهِ لَيْسَ لَهَا نَفَادٌ وَلاَ انْقِطَاعٌ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَهَ لَوْ شَاءَ لاَرَاهُمْ شَخْصَهُ حَتَّي يَأْتُوهُ مِنْ بَابِهِ، لَكِنْ جَعَلَ اللَهُ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ الاَبْوَابَ الَّتِي يُؤْتَي مِنْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـ'كِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَي' وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَ ' بِهَا». [30] وقد أورد فرات بن إبراهيم الكوفيّ في تفسيره نظير هذه الروايات في أصحاب الاعراف عن الاصبغ بن نباتة وعن حبّة العرنيّ، عن أميرالمؤمنين علیه السلام.[31] كما أوردها الشيخ الصدوق في « معاني الاخبار » عن الإمام الباقر، عن أمير المؤمنين علیه السلام. [32] كما أورد نظير ذلك علیّبن إبراهيم في تفسيره. [33] وأورده الكلينيّ عن الإمام الصادق علیه السلام في كلام ابن الكوّاء مع أمير المؤمنين علیه السلام. [34] أمير المؤمنين علیه السلام هو المؤذّن بلعنة الله علی الظالمينالثاني: الروايات الدالّة علی أنّ المؤذّن بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار بأن لعنة الله علی الظالمين، هو أميرالمؤمنين علیه السلام. فقد روي الطبرسيّ عن أبي القاسم الحسكانيّ بإسناده عن محمّد ابن الحنفيّة، عن أميرالمؤمنين علیه السلام، قال: أَنَا ذَلِكَ المُؤَذِّنُ. كما روي الحسكانيّ بإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس، قال: إنَّ لِعلیٍّ فِي كِتَابِ اللَهِ أَسْمَاءً لاَ يَعْرِفُهَا النَّاسُ؛ قَوْلُهُ: «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ» فَهُوَ المُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ، يَقُولُ: أَلاَ لَعْنَةُ اللَهِ علی الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِوَلاَيَتِي وَاسْتَخَفُّوا بِحَقِّي. [35] وروي العيّاشيّ عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام، في قوله: «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَهِ علی الظَّـ'لِمِينَ»؛ قَالَ: المُؤَذِّنُ أَمِيرُالمُؤْمِنِينَ علیهِ السَّلاَمُ. [36] وروي الكلينيّ عن الحسين بن محمّد، عن المعلی بن محمّد، عن الوشّاء، عن أحمدبن عمر الحلاّل، قال: سألتُ أبا الحسن الرضا علیه السلام عن قوله تعالي: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَهِ علی الظَّـ'لِمِينَ؛ قال: المؤذّن أميرالمؤمنين علیه السلام. [37] رجال الاعراف هم أئمّة أهل البيتالثالث: الروايات الدالّة علی أنّ الرجال الواقفين علی الاعراف هم أئمّة آل محمّد علیهم السلام. فقد روي الصفّار في « بصائر الدرجات » عن أحمد بن محمّد، عن ابنمحبوب، عن أبي أيّوب، عن بُريد العجليّ، قال: سألتُ أبا جعفر علیه السلام عن قول الله: «وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَب'هُمْ»، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي هَذِهِ الاُمَّةِ، وَالرِّجَالُ هُمُ الاَئِمَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ. قُلْتُ: فَمَا الاعْرَافُ؟ قَالَ: صِرَاطٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَنْ شَفَعَ لَهُ الاَئِمَّةُ مِنَّا مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُذْنِبِينَ نَجَا، وَمَنْ لَمْ يَشْفَعُوا لَهُ هَوَي. [38] كما روي في « بصائر الدرجات » عن بعض الاصحاب، عن محمّدبن الحسين، عن صفوان، عن ابن مُسكان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر ( الباقر ) علیه السلام في قول الله تعالي: «وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَب'هُمْ»؛ قَالَ: الاَئِمَّةُ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ فِي بَابٍ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ علی سُورِ الجَنَّةِ، يَعْرِفُ كُلُّ إمَامٍ مِنَّا مَا يَلِيهِ. قَالَ رَجُلٌ: مَا مَعْنَي مَايَلِيهِ؟ قَالَ: مِنَ القَرْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إلی القَرْنِ الَّذِي كَانَ. [39] وأورد العيّاشيّ في تفسيره عن مسعدة بن صدقة، عن جعفربن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، عن أمير المؤمنين علیهم السلام، قال: أَنَا يَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَوَّلُ السَّابِقِينَ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَنَا قَسِيمُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَا صَاحِبُ الاَعْرَافِ. [40] وهذه الطوائف الثلاث من الروايات متّفقة في الدلالة علی أنّ رجال الاعراف هم أئمّة أهل البيت من آل محمّد علیهم السلام. الرابع: الروايات الدالّة علی أنّ الواقفين علی الاعراف هم الائمّة من محمّد مع أتباعهم من المذنبين الذين يرجون في حقّهم العفو والشفاعة والرحمة، كالرواية الواردة في « تفسير علیّ بن إبراهيم » عن أبيه، عن ابن محبوب، عن أبي أيّوب، عن بريد، عن أبي عبدالله ( الصادق ) علیه السلام، قال: الاعراف كثبان بين الجنّة والنار، والرجال الائمّة صلوات الله علیهم، يقفون علی الاعراف مع شيعتهم وقد سيق المؤمنون إلی الجنّة بلاحساب، فيقول الائمّة لشيعتهم من أصحاب الذنوب: انظروا إلی إخوانكم في الجنّة قد سيقوا ( سبقوا ـ خ ) إليها بلا حساب، وهو قوله تبارك وتعالي: سَلَـ'مٌ علیكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ. ثمّ يقال لهم: انظروا إلی أعدائكم في النار، وهو قوله: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـ'رُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـ'بِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّـ'لِمِينَ * وَنَادَي'´ أَصْحَـ'بُ الاْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَب'هُمْ، في النار فـ قَالُوا مَآ أَغْنَي' عَنكُمْ جَمْعُكُمْ، في الدنيا، وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ. ثمّ يقولون ( والضمير عائد للائمّة ) لمن في النار من أعدائهم: أهؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تحلفون في الدنيا أن لا ينالهم الله برحمة؟ ثمّ يقول الائمّة لشيعتهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ علیكُمْ وَلآ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ؛ ثمّ: نَادَي'´ أَصْحَـ'بُ النَّارِ أَصْحَـ'بَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا علینا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَهُ. [41] وقال المرحوم الصدوق في كتابه « العقائد »: اعتقادنا في الاعراف أ نّه سور بين الجنّة والنار، وعلیه رجلان يعرفون كلاّ بسيماهم. والرجال هم النبيّ صلّي الله علیه وآله وأوصياؤه علیهم السلام. ولا يدخل الجنّة إلاّ مَن عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلاّ مَن أنكرهم وأنكروه. وعند الاعراف: المرجون لامرالله، إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب علیهم. [42] الموقوفون عند الاعراف هم الذين لم يصدر الحكم بحقّهمالخامس: الروايات الدالّة علی أنّ الواقفين علی الاعراف هم المذنبون والخاطئون الذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم، ولميصدر في حقهم الحكم النهائيّ. فقد أورد العيّاشيّ عن الطيّار، عن أبي عبدالله ( الصادق ) علیه السلام؛ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ أَصْحَابُ الاَعْرَافِ؟ قَالَ: اسْتَوَتِ الحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ؛ فَإنْ أَدْخَلَهُمُ اللَهُ الجَنَّةَ فَبِرَحْمَتِهِ، وَإنْ عَذَّبَهُمْ لَمْ يَظْلِمْهُمْ. [43] وروي علیّ بن إبراهيم، قال: سُئِلَ العَالِمُ علیهِ السَّلاَمُ عَنْ مُؤْمِنِي الجِنِّ، أَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ؟ فَقَالَ: لاَ؛ وَلَكِنَّ لِلَّهِ حَظَائِرُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُ فِيهَا مُؤْمِنُو الجِنِّ وَفُسَّاقُ الشِّيعَةِ. [44] وقال سعدي الشيرازيّ في هذه الطائفة: اي سير ترا نان جوين خوش ننمايد معشوق منست آنكه به نزديك تو زشتاست حوران بهشتي را دوزخ بود أعراف از دوزخيان پرس كه أعراف بهشت است [45] وحاصل مجموع الروايات بلحاظ جمع الدلالة بينها، هو أنّ الاعراف مكان وسور بين الجنّة والنار، له درجات إلی الاعلی ودركات إلی الاسفل، يقف الائمّة علیهم السلام في درجاته العلیا، أمّا في قاعدته ودرجاته السفلي فيقف الشيعة وأفراد من الفسّاق الذين لم يُبتّ في أمرهم بعدُ. وفي الحقيقة فإنّ كلّ إمام يقف علی الاعراف مع أُمّته التي لم يصدر الحكم النهائيّ في أمرها. وبطبيعة الحال، فإنّ الذروة من مقام الاعراف هي مقام رفيع ومنيع لايبلغه أحد ولا يرقي إلی ذراه أيّ نسر مهما حلّق وارتفع، لانّ ذلك المقام مختصّ بالحاكمين علی الجنّة والنار وبالمهيمنين علی أصحاب الجنّة وأصحاب النار، فهم الواقفون في ذلك الاُفق المبين والمقام الجليل ويعرفون كلاّ بسيماهم، ويعيّنون لكلّ واحد من أصحاب الجنّة مقامه في درجاتها الثمان، ويوزّعون أصحاب النار علی دركاتها السبعة. وتنطبق جميع هذه الروايات مع مضامين الآيات التي ذكرناها، فقد ذكرت الآيات رجال الاعراف بصفاتهم، وبيّنت أنّ ذلك المقام لايناله إلاّ المقرّبون من الحضرة الاحديّة من أئمّة أهل البيت علیهم السلام. كما ورد في الآيات ـكما شاهدناـ خصائص طائفة لم تدخل الجنّة بعد، تلك المنتظرة علی أمل أن تشملها رحمة ربها لدخول الجنّة. إلاّ أنّ هناك نكتة ينبغي التطرّق إليها في هذا المجال، وهي: أين يقع مقام الصدّيقة الكبري فاطمة الزهراء سلام الله علیها؟ وهل تقف علی الاعراف أم في درجات أدني منها؟ ليس هناك من شكّ في أنّ مقامها المقدّس مماثل لمقام أبنائها من أئمّة أهل البيت، وتكمن علّة عدم تصريح هذه الروايات بوقوف الزهراء علی الاعراف في أنّ ضعفاء العقول يتخيّلون أنّ الاعراف تلّ يماثل تلال الدنيا، وأنّ ارتقاء تلك المخدّرة لذلك التلّ ممّا يتنافي ومقام الحياء والعصمة. وقد ورد في بعض الروايات التي استشهدنا بها سابقاً أنّ الزهراء علیها السلام تمتلك مقاماً في المحشر وفي سائر المشاهد الاُخري يماثل مقام الائمّة، وأنّ تلك المخدّرة تحضر عند الشخص المحتضر، إلاّ أنّ اسمها ـمع كلّ ذلكـ لم يرد في الروايات إجلالاً لها، وخاصّة في الروايات التي تقصر أفهام العامّة عن إدراكها، لا نّهم لا يعلمون أ نّه ليس ثمّة عنوان للاُنوثة مقابل الذكورة في مقام الاعراف الرفيع الذي يسمو علی الجنّة والحجاب الاقرب، وأنّ هذه العناوين تتعلّق بالاعراف السفلي والجنّة والنار؛ لذا فقد انطوي اسمها المقدّس في عنوان الرجال في الآية المباركة: وَعلی الاْعْرَافِ رِجَالٌ، تماماً كما انطوي اسمها المقدّس ـ بلا أدني ريبـ في عنوان « الرجال » الوارد في آية النور المباركة: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ و يُسَبِّحُ لَهُ و فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ'رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَهِ وَإِقَامِ الصَّلَو'ةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَو'ةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَـ'رُ. [46] ولا يسعنا المجال للتوسّع في إعلام أخلاّء الروح وإخوة الإيمان عن جلالة مقام هذه المرأة التي أضحت فخر آلاف الانبياء والائمّة، وغدت شفيعة الانبياء من ذوي العزم وشفيعة الصدّيقين والشهداء، فقد كانت سرّ رسولالله، وسلالة النبوّة وجوهرها. ولقد كان رسول الله يقبّل يدها ويُجلسها مكانه ويتردّد علی بيتها باستمرار، وكان إذا عاد من سفر أو غزوة فأوّل ما يذهب إلی بيتها لرؤيتها. مقامات الصدّيقة الكبري سلام الله علیهاوَ(صَلَواتُ اللَهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ وَجَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ) علی الجَوْهَرَةِ القُدْسِيَّةِ فِي تَعَيُّنِ الإنْسِيَّةِ. صُورَةِ النَّفْسِ الكُلِّيَّةِ، جَوَادِ العَالَمِ العَقْلِيَّةِ، بَضْعَةِ الحَقِيقَةِ النَّبَويَّةِ، مَطْلَعِ الاَنْوارِ العَلَوِيَّةِ، عَيْنِ عُيُونِ الاَسْرَارِ الفَاطِمِيَّةِ. النَّاجِيَةِ المُنْجِيَةِ لِمُحِبِّيهَا عِنَ النَّارِ، ثَمَرَةِ شَجَرَةِ اليَقِينِ، سَيِّدَةِ نِسَاءِ العالَمِينَ. المَعرُوفَةِ بِالقَدْرِ، المَجْهولَةِ بِالقَبْرِ، قُرَّةِ عَيْنِالرَّسُولِ، الزَّهْرَاءِ البَتُولِ علیهَا الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. [47] أُمُّ أَئِمَّةِ العُقُولِ الغُرِّ بَلْ أُمُّ أَبِيهَا وَهْوَ عِلَّةُ العِلَلْ رُوحُ النَّبِيِّ فِي عَظِيمِ المَنْزِلَه وَفِي الكِفَاءِ كُفْوُ مَنْ لاَ كُفْوَ لَه تَمَثَّلَتْ رَقِيقَةُ الوُجُودِ لَطِيفَةٌ جَلَّتْ عَنِ الشُّهُودِ تَطَوَّرَتْ فِي أَفْضَلِ الاَطْوَارِ نَتِيجَةُ الاَدْوَارِ وَالاَكْوَارِ تَصَوَّرَتْ حَقِيقَةُ الكَمَالِ بِصُورَةٍ بَدِيعَةِ الجَمَالِ فَإنَّهَا الحَوْرَاءُ فِي النُّزُولِ وَفِي الصُّعُودِ مِحْوَرُ العُقُولِ يُمَثِّلُ الوُجُوبُ فِي الإمْكَانِ عَيَانُهَا بِأَحْسَنِ البَيَانِ فَإنَّهَا قُطْبُ رَحَي الوُجُودِ فِي قَوْسَيِ النُّزُولِ وَالصُّعُودِ وَلَيْسَ فِي مُحِيطِ تِلْكَ الدَّائِرَهْ مَدَارُهَا الاَعْظَمُ إلاَّ الطَّاهِرَهْ [48]
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلیّ العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلی الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّي'´ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَ ' بُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـ'مٌ علیكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـ'لِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ و وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـ'مِلِينَ * وَتَرَي الْمَلَـ'ئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـ'لَمِينَ.[49] يقول أميرالمؤمنين علیه السلام في عاقبة التقوي وأثرها: وَاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ يَتَّقِ اللَهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الفِتَنِ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ، وَيُخَلِّدُهُ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، وَيُنَزِّلُهُ مَنْزِلَ الكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ، ظِلُّهَا عَرْشُهُ وَنُورُهَا بَهْجَتُهُ، وَزُوَّارُهَا مَلاَئِكَتُهُ، وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ، فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللَهِ فِي داره! رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَه. حتّي يصل في خطبته إلی قوله علیه السلام: وَأَزَارَهُمْ مَلاَئِكَتَهُ، وَأَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً، وَصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَي لُغُوباً وَنَصَباً، ذَ ' لِكَ فَضْلُ اللَهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ. [50] للّه الحمد وله المنّة أن وفّقنا لنبلغ في بحث مسائل المعاد إلی هذه الغاية والمحطّة، وهي محطّة الجنّة. وهذا البحث من النفاسة والدقّة واللطافة بمكان، لا نّه بحث في المحطة الحقيقيّة للإنسان وملجئه وموطنه الاصليّ الامين. بَيدَ أ نّه، وكما قال أُستاذنا: سماحة آية الله العلاّمة الطباطبائيّ، فإنّ « ما ورد من الآيات والروايات فيها أوسع من مجال هذه الرسالة، فقد وردت في كتاب الله تعالي في وصف الجنّة ما يقرب من ثلاثمائة آية، وذكرها مطّرد في جميع سور القرآن إلاّ عشرين سورة هي سورة الممتحنة والمنافقين وثمان عشرة سورة من السور القصار. » [51] لكنّنا سنشرع في البحث بشأنها بحول الله وقوّته بحسب ما يقدّر لنا. وعلینا الآن أن نري أين محلّ الجنّة. يستفاد من الآية التي ذكرناها في بداية البحث، التي وردت علی لسان أصحاب الجنّة الذين يقولون عند ورودهم الجنّة في مقام حمد الحقّ والثناء علیه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ و وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ. أنّ هناك ارتباطاً خاصّاً بين الارض وبين الجنّة. وربّما كانت مقولتهم: صَدَقَنَا وَعْدَهُ، إشارة إلی الآية المباركة: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّـ'لِحُونَ. [52] ومعني الوراثة أن يملك المرء شيئاً قد ملكه غَيرُه قبله، بانتقال ذلك المُلك إليه، فهو انتقال من السلف إلی الخلف. فلابدّ في مفاد الميراث من وجود شيء ثابت ( تركة )، وشخص يتصرّف بذلك الشيء بعد أن كان في حيازة شخص آخر، ويكون ذلك الخلف بديلاً للسلف في التصرّف. وكان مقتضي سياق هذه الآية بياناً لصدق الوعد، أن تقول: أَوْرَثَنَا الاَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْهَا، أو تقول: أَوْرَثَنَا الجَنَّةَ نَتَبَوَّأُ مِنْهَا. [1] ـ الآية 46، من السورة 7: الاعراف. [2] ـ الآيات 42 إلي 51، من السورة 7: الاعراف. [3] ـ الآيتان 127 و 128، من السورة 37: الصافّات. [4] ـ الآية 13، من السورة 57: الحديد. [5] ـ الآية 14، من السورة 57: الحديد. [6] ـ الآية 7، من السورة 30: الروم. [7] ـ الآية 8، من السورة 30: الروم. [8] ـ الآية 39، من السورة 24: النور. [9] ـ الآيتان 29 و 30، من السورة 53: النجم. [10] ـ الآيتان 7 و 8، من السورة 10: يونس. [11] ـ الآيتان 28 و 29، من السورة 14: إبراهيم. [12] ـ الآية 2، من السورة 10: يونس. [13] ـ الآية 55، من السورة 54: القمر. [14] ـ الآية 25، من السورة 56: الواقعة. [15] ـ الآية 35، من السورة 78: النبأ. [16] ـ الآيات 105 إلي 107، من السورة 20: طه. [17] ـ الآية 38، من السورة 78: النبأ. [18] ـ الآية 52، من السورة 42: الشوري. [19] ـ الآية 45، من السورة 42: الشوري. [20] ـ الآيتان 55 و 56، من السورة 30: الروم. [21] ـ الآية 35، من السورة 46: الاحقاف. [22] ـ الآيات 112 إلي 114، من السورة 23: المؤمنون. [23] ـ الآية 14، من السورة 42: الشوري. [24] ـ الآية 2، من السورة 6: الانعام. [25] ـ تفسير «مجمع البيان» ج 2، ص 423، طبعة صيدا. [26] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 2، ص 18. [27] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 2، ص 18. [28] - نفس المصدر السابق. [29] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 2، ص 19. [30] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 336، عن «بصائر الدرجات». [31] ـ «تفسير فرات» ص 46. [32] ـ «معاني الاخبار» ص 59، طبعة المطبعة الحيدريّة. [33] ـ «تفسير القمّيّ» ص 694. [34] ـ «أُصول الكافي» ج 1، ص 184، الطبعة الحروفيّة. [35] ـ «مجمع البيان» ج 2، ص 422، طبعة صيدا؛ و«بحار الانوار» ج 8، ص 331. [36] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 1، ص 355؛ ووردت هذه الرواية في «تفسير البرهان» ج 2، ص 17؛ و«تفسير الصافي» ج 1، ص 578. [37] ـ «أُصول الكافي» ج 1، ص 426. [38] ـ «بصائر الدرجات» ص 146. [39] ـ «بصائر الدرجات» ج 10، ص 500، باب 16، حديث 19. [40] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 2، ص 17 و 18. [41] ـ «تفسير عليّ بن إبراهيم» ص 216 و 217. [42] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 340، نقلاً عن «العقائد». [43] ـ «تفسير العيّاشيّ» ج 2، ص 18؛ و«بحار الانوار» ج 8، ص 337. [44] ـ «تفسير القمّيّ» ص 622. [45] ـ «كلّيّات سعدي» ص 23، طبعة فروغي «گلستان». يقول: «لا يُبهجك قرص الشعير أيّها الشبعان الممتلي، فما يبدو لديك قبيحاً هو معشوقي. وبينما حور الجنان يحسبن الاعراف جحيماً، لو نشدتَ عنه الجهنّميّون تعالوا: بل هو الجنّة». [46] ـ آلآيتان 36 و 37، من السورة 24: النور. [47] ـ من الصلوات المعروفة لمحيي الدين بن عربي التي قام الملاّ محمّد صالح الموسويّ الخلخاليّ بترجمتها وشرحها، فطُبعت في كتيّب بالحجم الجيبيّ الصغير باسم «شرح المناقب» ص 171 و 172. [48] ـ «الانوار القدسيّة» لآية الله الشيخ محمّد حسين الاءصفهانيّ الكمبانيّ، ص 31. [49] ـ الآيات 73 إلي 75، من السورة 39: الزمر. [50] ـ «نهج البلاغة» شرح الشيخ محمّد عبده، الخطبة 181، ص 347 إلي 349، طبعة مصر. [51] ـ «رسالة الإنسان بعد الدنيا» مخطوطة، ص 68. |
|
|