بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد العاشر / القسم الخامس: باب الجنة، جهنم و اهل جهنم

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

المقامات‌ المختلفة‌ لانبياء الله‌ وأوليائه‌ في‌ الجنّة‌

 وجاء في‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ الكريمة‌ أنّ الانبياء يفضّل‌ بعضهم‌ علی‌ البعض‌ الآخر؛ قال‌ تعالي‌:

 تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ علی‌' بَعْضٍ. [1]

 وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّنَ علی‌' بَعْضٍ. [2]

 وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ و مَقَامٌ مَّعْلُومٌ. [3]

 وعلی‌ هذا الاساس‌ فإنّ الانبياء والائمّة‌ وأولياء الله‌، مع‌ كلّ خلوصهم‌ وتقرّبهم‌، ومع‌ امتلاكهم‌ مقام‌ التوحيد والعرفان‌ الإلهي‌ّ، فلكلّ واحد منهم‌ منزلةً خاصّة‌ ومقاماً خاصّاً. وما أحلي‌ وأروع‌ مقولة‌ الحكماء حين‌ قالوا: الطُّرُقُ إلی اللَهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِ الخَلاَئِقِ. أي‌ أنّ كلّ فرد يسير إلی الله‌ تعالي‌ في‌ طريق‌ نفساني‌ّ خاصّ به‌.

 لذا، فإنّ منازل‌ الجنّة‌ ستكون‌ مختلفة‌ أيضاً، وسيحتلّ كلّ امري‌ٍ منزلاً ومقاماً خاصّاً به‌.

 وبناءً علی‌ هذا الاساس‌ فقد جاء في‌ الرواية‌ أنّ رسول‌ الله‌ صلّي‌الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌، قال‌: نحن‌ في‌ جنّة‌ عدن‌، وهي‌ في‌ وسط‌ الجنان‌، وسائر الانبياء حولنا في‌ الجنان‌. [4]

 روي‌ الصدوق‌ في‌ « العيون‌ » بإسناده‌ عن‌ التميميّ، عن‌ أبي‌ الحسن‌ ( الرضا ) علیه‌ السلام‌، عن‌ آبائه‌ علیهم‌ السلام‌، أنّ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ قال‌: وَسَطُ الجَنَّةِ لِي‌ وَلاِهْلِ بَيْتِي‌. [5]

 وأورد علی‌ّ بن‌ إبراهيم‌ في‌ تفسيره‌ لذيل‌ الآية‌ 107، من‌ السورة‌ 18: الكهف‌: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـ'تُ الْفِردَوْسِ نُزُلاً؛ قال‌: نزلت‌ في‌ أبي‌ ذرّ والمقداد وسلمان‌ الفارسي‌ّ وعمّار ابن‌ياسر؛ جعل‌ الله‌ لهم‌ جنّات‌ الفردوس‌ نزلاً، أي‌ مأوي‌ ومنزلاً.[6]

 وروي‌ الصدوق‌ في‌ « الخصال‌ » بسنده‌ عن‌ ابن‌ عبّاس‌، قال‌ خَطَّ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ خِطَطٍ فِي‌ الاَرْضِ. قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟

 قُلْنَا: اللَهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

 فَقَالَ: أَفْضَلُ نِسَاءِ الجَنَّةِ أَرْبَعٌ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّي‌ اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ. [7]

 وروي‌ المفيد في‌ « المجالس‌ » عن‌ ابن‌ قولويه‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ سعد، عن‌ ابن‌ عيسي‌، عن‌ سعيد بن‌ جناح‌، عن‌ عبدالله‌ بن‌ محمّد، عن‌ جابربن‌ يزيد، عن‌ أبي‌ جعفر علیه‌ السلام‌، عن‌ آبائه‌ علیهم‌ السلام‌، عن‌ رسول‌الله‌ صلّي‌الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌، قال‌:

 الجَنَّةُ مُحَرَّمَةٌ علی‌ الاَنْبِيَاءِ حَتَّي‌ أَدْخُلُهَا، وَمُحَرَّمَةٌ علی‌ الاُمَمِ كُلِّهَا حَتَّي‌ يَدْخُلُهَا شِيعَتُنَا أَهْلَ البَيْتِ. [8]

 وروي‌ الصدوق‌ في‌ « الخصال‌ » بإسناده‌ عن‌ أبي‌ عبدالله‌ ( الصادق‌ ) علیه‌ السلام‌، قال‌:

 قَالَ النَّبِي‌ُّ صَلَّي‌ اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَي‌ خَلَقَ فِي‌ الجَنَّةِ عَمُوداً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، علیهِ سَبْعُونَ أَلْفَ قَصْرٍ، فِي‌ كُلِّ قَصْرٍ سَبْعُونَ أَلْفَ غُرْفَةٍ، خَلَقَهَا اللَهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُتَحَابِّينَ وَالمُتَزَاوِرِينَ فِي‌ اللَهِ. [9]

 الرجوع الي الفهرس

الطرق‌ المختلفة‌ باتّجاه‌ الجنّة‌

 ولمّا علمنا بأنّ كلّ صفة‌ من‌ الصفات‌ الحسنة‌، وكلّ فعل‌ من‌ الافعال‌ الحميدة‌ هو سـبيل‌ إلی الجنّة‌ فسـنصل‌ إلی أنّ الطرق‌ إلی الجنّة‌ لاتعدّ ولاتحصي‌.

 وبهذه‌ القرينة‌، فلمّا كانت‌ الصفات‌ السيّئة‌ والافعال‌ الذميمة‌ طرقاً إلی النار، فإنّ طرق‌ النار ستكون‌ كثيرة‌ أيضاً.

 الرجوع الي الفهرس

كلّ عمل‌ للخير هو باب‌ إلی الجنّة‌

 ومن‌ هنا، فأبواب‌ الجنّة‌ الثمانية‌ هي‌ عنوان‌ عامّ وجامع‌ للجنّة‌، كما أنّ الابواب‌ الإحدي‌ والسبعين‌ هي‌ عبارة‌ عن‌ الطرق‌ الجامعة‌ التي‌ تقود الناس‌ إلی الجنّة‌، وإلاّ فإنّ أفراد الناس‌ يمتلكون‌ سبلاً كثيرة‌ خارجة‌ عن‌ العدّ والحصر.

 يروي‌ الشيخ‌ الطوسي‌ّ في‌ « الامالي‌ » عن‌ عدّة‌ من‌ الاصحاب‌، عن‌ أبي‌المفضّل‌، عن‌ جعفر بن‌ محمّد بن‌ جعفر، عن‌ أيّوب‌ بن‌ محمّد، عن‌ سعدبن‌ مسلمة‌، عن‌ الإمام‌ جعفر بن‌ محمّد، عن‌ آبائه‌، عن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌، قال‌:

 قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إنَّ السَّخَاءَ شَجَرَةٌ مِنْ أَشْجَارِ الجَنَّةِ، لَهَا أَغْصَانٌ مُتَدَلِّيَةٌ فِي‌ الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ سَخِيَّاً تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَسَاقَهُ ذَلِكَ الغُصْنُ إلی الجَنَّةِ.

 وَالبُخْلُ شَجَرَةٌ مِنْ أَشْجَارِ النَّارِ، لَهَا أَغْصَانٌ مُتَدَلِّيَةٌ فِي‌ الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ بَخِيلاً تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَسَاقَهُ ذَلِكَ الغُصْنُ إلی النَّارِ.[10]

 ويروي‌ الصدوق‌ في‌ « الامالي‌ » عن‌ ابن‌ ماجيلويه‌، عن‌ عمّه‌، عن‌ البرقي‌ّ، عن‌ أبيه‌، عن‌ محمّد بن‌ سـنان‌، عن‌ المفضّـل‌ بن‌ عمر، عن‌ أبي‌عبدالله‌ علیه‌ السلام‌، قال‌: ( ثمّ يذكر الحديث‌ إلی أن‌ يصل‌ إلی قوله‌: )

 وَعلیكُمْ بِتِلاَوَةِ القُرْآنِ! فَإنَّ دَرَجَاتِ الجَنَّةِ علی‌ عَدَدِ آيَاتِ القُرْآنِ، فَإذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، يُقَالُ لِقَارِيِ القُرْآنِ:

 اقْرَأْ وَارْقَ، فَكُلَّمَا قَرَأَ آيَةً رَقَي‌ دَرَجَةً ـ الحديث‌. [11]

 كما يروي‌ الصدوق‌ في‌ « الامالي‌ » عن‌ أبيه‌، عن‌ سعد، عن‌ سلمة‌بن‌ الخطّاب‌، عن‌ محمّد بن‌ ليث‌، عن‌ جابر بن‌ إسماعيل‌، عن‌ أبي‌ عبدالله‌ علیه‌ السلام‌، عن‌ أبيه‌ علیه‌ السلام‌، قال‌: إنّ رجلاً سأل‌ علی‌ّبن‌ أبي‌ طالب‌ عن‌ قيام‌ الليل‌ بالقرآن‌، فقال‌ له‌ ( ثمّ يذكر الصدوق‌ كلام‌ الإمام‌ إلی أن‌ يصل‌ إلی قوله‌ علیه‌ السلام‌: )

 وَمَنْ صَلَّي‌ لَيْلَةً تَامَّةً تَالِياً لِكِتَابِ اللَهِ رَاكِعاً وَسَاجِداً وَذَاكِراً، أُعْطِي‌َ مِنَ الثَّوَابِ مَا أَدْنَاهُ يَخْرُجُ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَيُكْتَبُ لَهُ عَدَدَ مَا خَلَقَ اللَهُ مِنَ الحَسَنَاتِ وَمِثْلَهَا دَرَجَاتٌ، وَيَثْبُتُ النُّورُ فِي‌ قَبْرِهِ، وَيُنْزَعُ الإثْمُ وَالحَسَدُ مِنْ قَلْبِهِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيُعْطَي‌ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَيُبْعَثُ مِنَ الآمِنِينَ.

 وَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَي‌ لِمَلاَئِكَتِهِ: مَلاَئِكَتِي‌! انْظُرُوا إلی عَبْدِي‌، أَحْيَي‌ لَيْلَةً ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي‌! أَسْكِنُوهُ الفِرْدَوْسَ، وَلَهُ فِيهَا مِائَةُ أَلْفِ مَدِينَةٍ، فِي‌ كُلِّ مَدِينَةٍ جَمِيعُ مَا تَشْتَهِي‌ الاَنْفُسُ وَتَلَذُّ الاَعْيُنُ وَمَا لاَ يَخْطُرُ علی‌ بَالٍ، سِوَي‌ مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ الكَرَامَةِ وَالمَزِيدِ وَالقُرْبَةِ.[12]

 كما يروي‌ في‌ « الامالي‌ » عن‌ علی بن‌ الحسين‌ بن‌ شاذويه‌ المؤدِّب‌، عن‌ محمّدبن‌ عبدالله‌ بن‌ جعفر بن‌ جامع‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ يعقوب‌ بن‌ يزيد، عن‌ محمّدبن‌ أبي‌ عمير، عن‌ أبان‌ بن‌ عثمان‌، عن‌ أبان‌ بن‌ تغلب‌، عن‌ أبي‌جعفر ( الباقر )، عن‌ أبيه‌ علی‌ّ بن‌ الحسين‌، عن‌ أبيه‌ الحسين‌ بن‌ علی‌ّ سيّدالشهداء، عن‌ أبيه‌ علی‌ّ بن‌ أبي‌ طالب‌ سيّد الاوصياء، قال‌: قال‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌:

 مَنْ صَلَّي‌ علی‌َّ وَلَمْ يُصَلِّ علی‌ إلی لَمْ يَجِدْ رِيحَ الجَنَّةِ؛ فَإنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. [13]

 ويلزم‌ هنا أن‌ نذكّر بأنّ جنّة‌ القيامة‌ هي‌ جنّة‌ صوريّة‌ ذات‌ حور وغلمان‌ وأشجار وأثمار، وأنّ ما ذكرناه‌ من‌ أنّ جنّة‌ القيامة‌ هي‌ طلوع‌ عالم‌ النفس‌ من‌ العوالم‌ الثلاثة‌: الطبع‌ والمثال‌ والنفس‌، وأنّ الإنسان‌ يصل‌ إلی مقام‌ الفناء في‌ الله‌ فلا يبقي‌ غير الفناء شي‌ء إلاّ ذات‌ الحقّ سبحانه‌ وتعالي‌، هي‌ أُمور صحيحة‌ ومحفوظة‌ في‌ مواضعها؛ إلاّ أنّ موقف‌ الجنّة‌ هو موقف‌ البقاء بعد الفناء، حيث‌ لا تتنافي‌ التجلّيات‌ النفسانيّة‌ هناك‌ مع‌ الاستيلاء والغلبة‌ والسيطرة‌ علی‌ عالمَي‌ الصورة‌ والطبع‌.

 ونذكّر توضيحاً، بأنّ نفس‌ الإنسان‌ تعبر ـ بلا شكّ ـ من‌ عالم‌ الطبع‌ وعالمَي‌ الصورة‌ والمثال‌ من‌ خلال‌ حركتها إلی الله‌ تعالي‌ وتحقّق‌ معني‌ إِنَّا إِلَيْهِ رَ ' جِعُونَ؛ ثمّ إنّها تندكّ وتفني‌ في‌ ذات‌ الحضرة‌ الاحديّة‌، فيكون‌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَ ' حِدِ الْقَهَّارِ لا سواه‌. هناك‌ عالم‌ الفناء الذي‌ تفني‌ فيه‌ جميع‌ الموجودات‌، وعالم‌ لا اسم‌ له‌ ولا رسم‌ ولا صورة‌ ولاشكل‌ ولاعذاب‌ فيه‌ ولا ثواب‌؛ ولا إنسان‌ فيه‌ ولا حيوان‌ ولا جانّ ولانبي‌ّ ولامَلَك‌، حتّي‌ أنّ ملك‌ الموت‌ ستقبض‌ روحه‌ بأمرالله‌ تعالي‌. ثمّ إنّ الموجودات‌ تحصل‌ علی‌ البقاء ببقاء الحقّ جلّ وعلا، فتعود النفوس‌ في‌ عالم‌ البقاء من‌ جديد، وتحصل‌ علی‌ آثار وخواصّ وميزات‌، ويصل‌ الدور إلی الثواب‌ والعقاب‌، وإلي‌ السؤال‌ والحساب‌ والكتاب‌ والعرض‌ والجزاء والصراط‌ والميزان‌ وتطاير الكتب‌، وإلي‌ المنبر والوسيلة‌ والحمد، وإلي‌ الجنّة‌ والنار في‌ خاتمة‌ المطاف‌. هناك‌، حيث‌ تبقي‌ الموجودات‌ ببقاء الحقّ وتخلّد، وحيث‌ طلوع‌ عالم‌ النفس‌ في‌ آثاره‌ وخصوصيّاته‌.

 فَرِيقٌ فِي‌ الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي‌ السَّعِيرِ. [14]

 وقد بحثنا مفصّلاً في‌ مبحث‌ المعاد الجسمانيّ ( في‌ المجلس‌ التاسع‌ والثلاثين‌، الجزء السادس‌ ) عن‌ كيفيّة‌ حصول‌ الفناء في‌ الله‌، ثمّ البقاء بالله‌ تعالي‌؛ وَلِلَّهِ الحَمْدُ وَلَهُ المِنَّةُ.

 ومن‌ المناسب‌ في‌ هذا المجال‌ أن‌ نختتم‌ بحث‌ الجنّة‌ بخُطبة‌ من‌ خطب‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ في‌ أوصاف‌ الجنّة‌ أوردها في‌ ذيل‌ خُطبة‌ له‌ في‌ عجائب‌ خلقة‌ الطاووس‌، قال‌ فيها:

 فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا، لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إلی الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا، وَلَذَهِلْتَ بِالفِكْرِ فِي‌ اصْطِفَافِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي‌ كُثْبَانِ المِسْكِ علی‌ سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا، وَفِي‌ تَعلیقِ كَبَائِسِ [15] اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي‌ عَسَالِيجِهَا وَأَفْنَانِهَا، وَطُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي‌ غُلْفِ أَكْمَامِهَا، تُجْنَي‌ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي‌ علی‌ مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا، وَيُطَافُ علی‌ نُزَّالِهَا فِي‌ أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالاَعْسَالِ المُصَفَّقَةِ، وَالخُمُورِ المُرَوَّقَةِ؛ قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الكَرَامَةُ تَتَمَادَي‌ بِهِمْ حَتَّي‌ حَلُّوا دَارَ القَرَارِ، وَأَمِنُوا نُقْلَةَ الاَسْفَارِ.

 فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا المُسْتَمِعُ بِالوُصُولِ إلی مَا يَهْجُمُ علیكَ مِنْ تِلْكَ المَنَاظِرِ المُونِقَةِ، لَزَهَقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إلَيْهَا، وَلَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي‌ هَذَا إلی مُجَاوَرَةِ أَهْلِ القُبُورِ اسْتِعْجَالاَ بِهَا.

 جَعَلَنَا اللَهُ وَإيَّاكُمْ مِمَّنْ سَعَي‌ بِقَلْبِهِ إلی مَنَازِلِ الاَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ. [16]

 الرجوع الي الفهرس

 

الدرس‌ الحادي‌ والسبعون‌:

 في‌ جهنّم‌ وبداية‌ نشأتها

 

بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلی‌ّ العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علی‌ محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علی‌ أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُو´ا إلی جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّي‌'´ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَ ' بُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ علیكُمْ ءَايَـ'تِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـ'ذَا قَالُوا بَلَي‌' وَلَـ'كِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ علی‌ الْكَـ'فِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُو´ا أَبْوَ ' بَ جَهَنَّمَ خَـ'لِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَي‌ الْمُتَكَبِّرِينَ. [17]

 يقول‌ سيّد العارفين‌ وسيّد الساجدين‌ علی بن‌ الحسين‌ زين‌ العابدين‌ علیه‌ السلام‌ في‌ دعائه‌ في‌ نافلة‌ الليل‌ مناجياً ساحة‌ الربّ ذي‌ الجلال‌:

 اللَهُمَّ إنِّي‌ أَعُوذُ بِكَ مِنْ نَارٍ تَغَلَّظْتَ بِهَا علی‌ مَنْ عَصَاكَ، وَتَوَعَّدْتَ بِهَا مَنْ صَدَفَ عَنْ رِضَاكَ. وَمِنْ نَارٍ نُورُهَا ظُلْمَةٌ، وَهَيِّنُهَا أَلِيمٌ، وَبَعِيدُهَا قَرِيبٌ؛ وَمِنْ نَارٍ يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَيَصُولُ بَعْضُهَا علی‌ بَعْضٍ؛ وَمِنْ نَارٍ تَذَرُ العِظَامَ رَمِيماً، وَتَسْقِي‌ أَهْلَهَا حَمِيماً.

 وَمِنْ نَارٍ لاَ تُبْقِي‌ علی‌ مَنْ تَضَرَّعَ إلَيْهَا، وَلاَ تَرْحَمُ مَنِ اسْتَعْطَفَهَا، وَلاَ تَقْدِرُ علی‌ التَّخْفِيفِ عَمَّنْ خَشَعَ لَهَا وَاسْتَسْلَمَ إلَيْهَا؛ تَلْقَي‌ سُكَّانَهَا بِأَحَرِّ مَا لَدَيْهَا مِنْ أَلِيمِ النَّكَالِ وَشَدِيدِ الوَبَالِ.

 وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَقَارِبِهَا الفَاغِرَةِ أَفْوَاهَهَا، وَحَيَّاتِهَا الصَّالِقَةِ بِأَنْيَابِهَا، وَشَرَابِهَا الَّذِي‌ يُقَطِّعُ أَمْعَاءَ وَأَفْئِدَةَ سُكَّانِهَا، وَيَنْزِعُ قُلُوبَهُمْ.

 وَأَسْتَهْدِيكَ لِمَا بَاعَدَ مِنْهَا وَأَخَّرَ عَنْهَا.

 اللَهُمَّ صَلِّ علی‌ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَجِرْنِي‌ مِنْهَا بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ، وَأَقِلْنِي‌ عَثَرَاتِي‌ بِحُسْنِ إقَالَتِكَ، وَلاَ تَخْذُلْنِي‌ يَا خَيْرَ المُجِيرِينَ، إنَّكَ تَقِي‌ الكَرِيهَةَ، وَتُعْطِي‌ الحَسَنَةَ، وَتَفْعَلُ مَا تُرِيدُ، وَأَنْتَ علی‌ كُلِّ شَي‌ءٍ قَدِيرٌ ـالدعاء. [18]

 إنّ الآيات‌ القرآنيّة‌ الشريفة‌ التي‌ تتحدّث‌ عن‌ جهنّم‌ وشؤونها تزيد ـ كما يقول‌ آية‌ الله‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ مدّ ظلّه‌ـ علی‌ الآيات‌ التي‌ تتحدّث‌ عن‌ الجنّة‌؛ فقد ورد في‌ القرآن‌ الكريم‌ ما يقرب‌ من‌ أربعمائة‌ آية‌ تتحدّث‌ عن‌ جهنّم‌، يُضاف‌ إلی ذلك‌ أ نّه‌ ليس‌ مِن‌ سورة‌ من‌ سور القرآن‌ إلاّ وفيها ذِكر من‌ جهنّم‌، إمّا تصريحاً أو تلويحاً، عدا اثنتي‌ عشر سورة‌ من‌ السور القصار. [19]

 الرجوع الي الفهرس

كيفيّة‌ نشوء جهنّم‌

 وإجمالاً، يفيد مجموع‌ هذه‌ الآيات‌ بأنّ أصحاب‌ النار محرومون‌ من‌ الحياة‌ الابديّة‌ الحقيقيّة‌ لعالم‌ الآخرة‌. وينبغي‌ أن‌ نري‌ الآن‌، لِمَصار الحرمان‌ نصيب‌ أصحاب‌ النار؟ وما هي‌ جهنّم‌ عموماً؟ ومن‌ أين‌ نشأت‌؟ وما هي‌ بداية‌ نشأتها؟ ولِمَ صار ظهورها في‌ عالم‌ الباطن‌ والحقيقة‌ في‌ هيئة‌ النار؟

 نجد أنفسنا مجبرين‌ في‌ بياننا لهذا الامر علی‌ إيراد مقدّمة‌؛ وهي‌ أنّ جميع‌ عالم‌ الوجود بأرجائه‌ وسعته‌، من‌ المُلك‌ والملكوت‌ وعالم‌ الارواح‌ والعقول‌ والطبيعة‌ إنّما يمثّل‌ تجلّيات‌ الحقّ سبحانه‌ وتعالي‌ وظهوراته‌ التي‌ أوجدها من‌ كَتم‌ العدم‌ والفناء المحض‌، وخلع‌ علیها رداء الوجود، فصار لكلّ واحد من‌ هذه‌ المخلوقات‌ـ في‌ حال‌ كونه‌ عين‌ ظهور الحقّ وتجلّيه‌ـ مرتبة‌ خاصّة‌ ودرجة‌ وماهيّة‌ يمتاز بها عمّن‌ سواه‌.

 فللإنسان‌ ـ مثلاً ـ حدود معيّنة‌ جعلته‌ أن‌ يكون‌ إنساناً، فهو يختصّ بالعقل‌ والشعور والنفس‌ الناطقة‌ وغرائزه‌ المميّزة‌ التي‌ امتاز بها عن‌ غيره‌ من‌ سائر الموجودات‌ من‌ الحيوان‌ والجماد والنبات‌ والعقول‌ المفارقة‌ والارواح‌ المجرّدة‌ القدسيّة‌، ولولا هذه‌ الخصوصيّة‌ لما كان‌ الإنسان‌ إنساناً.

 وكذا الامر بالنسبة‌ إلی سائر الموجودات‌ التي‌ لولا خصائصها الوجوديّة‌، لما كان‌ لها من‌ وجود معيّن‌، ولطبق‌ الكون‌ وجودٌ واحد بحت‌ بسيط‌، لاتشخّص‌ فيه‌ ولا تميّز.

 وهذه‌ الماهيّات‌ المختلفة‌ التي‌ تحدّد المراتب‌ الوجوديّة‌ للموجودات‌ هي‌ سبب‌ امتياز الموجودات‌ عن‌ بعضها وظهور تجلّي‌ الحقّ تعالي‌؛ وكلُّ من‌ هذه‌ الماهيّات‌ مطيع‌ ومنقاد في‌ مقامه‌ ومرتبته‌، وساكن‌ ضمن‌ الحدّ المعيّن‌ لوجوده‌ وفقاً للامر التكوينيّ للحقّ سبحانه‌ وتعالي‌؛ وهي‌ بأسرها ثابتة‌ في‌ ذواتها ووجوداتها وفي‌ حجب‌ ماهيّاتها.

 بَيدَ أنّ أفراد البشر والجانّ من‌ بين‌ جميع‌ المخلوقات‌ يمتلكون‌ ـبالإضافة‌ ماهيّتهم‌ وامتيازهم‌ الوجودي‌ّـ خصوصيّة‌ تميّزهم‌ عن‌ باقي‌ المخلوقات‌، وهي‌ حسّ النزعة‌ الاستقلاليّة‌ والاستكبار ونزعة‌ الـ « أنا » التي‌ توجد لدي‌ أفراد البشر بدرجة‌ أكبر، ولدي‌ أفراد الجانّ بدرجة‌ أضعف‌. وهذا الحسّ يجعل‌ الإنسان‌ يري‌ نفسه‌ أعلی‌ وأفضل‌ وأكرم‌ ممّا هي‌ علیه‌، ويجعله‌ ينسب‌ إلی نفسه‌ أفضل‌ الصفات‌ وأعلاها، كالعلم‌ والقدرة‌ والحياة‌ وما يتفرّع‌ منها، ويجعله‌ يعتبر نفسه‌ مركزاً لتلك‌ الكمالات‌ ومصدرها، ناسياً الحقّ تعالي‌ نسياناً تامّاً.

 وهذا الحسّ هو حجاب‌ عظيم‌، لا نّه‌ خلاف‌ متن‌ الواقع‌ والحقيقة‌، وهو حجاب‌ خيالي‌ّ موهوم‌ وليس‌ أصيلاً كسائر الموجودات‌. هو ذلك‌ الحجاب‌ الذي‌ حاول‌ سلب‌ صفات‌ الحقّ، الواحد تلو الآخر، لينسبها كذباً وزوراً إلی نفسه‌ وعدّها من‌ صفاته‌.

 لقد خلق‌ اللهُ الشيطان‌ وأودعه‌ خصّيصة‌الكبر والاستكبار، أمّا النفوس‌ البشريّة‌، فقد امتلكت‌ هذه‌ الخاصّيّة‌ من‌ خلال‌ انقيادها للشيطان‌ واتّباعها له‌ اختياراً، فَخُيّل‌ إليها ـ من‌ ثمّ ـ أ نّها عظيمة‌. فصارت‌ هذه‌ النظرة‌ منشأ لجميع‌ الخيالات‌ الفاسدة‌ والافكار الباطلة‌ والاعمال‌ الذميمة‌، وأضحت‌ منشأ العقائد السيّئة‌ والملكات‌ الخبيثة‌، وغدت‌ باعثاً علی‌ ابتعاد تلك‌ النفوس‌ ونأيها عن‌ الحقّ تعالي‌. ويخالف‌ هذا السير التشريعي‌ّ المنحرف‌ للسنّة‌ التكوينيّة‌ ولمتن‌ الواقع‌.

 الرجوع الي الفهرس

خلق‌ الشيطان‌ علی‌ أساس‌ المصلحة‌

 لقد كان‌ خلق‌ الشيطان‌ قائماً علی‌ أساس‌ المصلحة‌، ولولا ذلك‌ لما خلقه‌ الله‌ تعالي‌. فالشيطان‌ هو مأمور للّه‌ سبحانه‌ في‌ حكم‌ المفتّش‌ الدقيق‌ الذي‌ يحجز مَن‌ تدنّس‌ بغشّ عالم‌ الطبيعة‌ ولوث‌ النفس‌ الامّارة‌ ويصدّه‌ عن‌ أن‌ يخطو في‌ حرم‌ الله‌ عزّ وجلّ.

 أمّا المنزّهون‌ المطهّرون‌، فليس‌ للشيطان‌ علیهم‌ من‌ سبيل‌ وفقاً للآية‌ الكريمة‌: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. [20]

 وأمّا من‌ استكبر ممّن‌ يسبقون‌ ربّهم‌ بالقول‌، ومن‌ الذين‌ سرقوا صفات‌الله‌ العلیا وأسماءه‌ الحسني‌ فنسبوها إلی أنفسهم‌، فسيعترضهم‌ الشيطان‌ ويصدّهم‌ عن‌ الورود في‌ حرم‌ الله‌ الذي‌ هو محلّ الخلوص‌.

 ولولا الشيطان‌، لما وجد عالم‌ النزول‌ والطبع‌، ولما وجد كلّ هذا الاختلاف‌؛ فقد كان‌ الشيطان‌ سبب‌ نزول‌ آدم‌ إلی هذا العالم‌، وكان‌ من‌ قبل‌ في‌ الجنّة‌، وهي‌ جنّة‌ عالم‌ الذرّ وجنّة‌ القابليّة‌، وكان‌ الإنسان‌ في‌ تلك‌ الجنّة‌ غيرقابل‌ للتكامل‌ والرقيّ، شأنه‌ في‌ ذلك‌ شأن‌ الملائكة‌. ثمّ إنّ الشيطان‌ تسبب‌ في‌ هبوط‌ آدم‌ إلی هذا العالم‌، وفي‌ حركته‌ ومجاهدته‌ ونشدانه‌ للحقّ، وسعيه‌ لتدارك‌ ما فات‌، حتّي‌ ارتقي‌ في‌ نهاية‌ المطاف‌ بقدم‌ المجاهدة‌ من‌ أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، فوصل‌ بإرادة‌ الحيّ القيّوم‌ إلی أَعلی‌ علیينَ، وأضحي‌ أشرف‌ من‌ الملائكة‌، واكتسب‌ جميع‌ هذه‌ الفضائل‌ والدرجات‌.

 وجميع‌ هذه‌ الاُمور هي‌ من‌ فوائد خلق‌ الشيطان‌، وقد تحقّقت‌ إثر ذلك‌ الخلق‌، علی‌ الرغم‌ من‌ أنّ الشيطان‌ ملعون‌ رجيم‌ باعتبار كونه‌ حجاباً؛ لانّ من‌ مستلزمات‌ مثل‌ هذا الحجاب‌ الذي‌ يحجب‌ ويبعّد، أن‌ يكون‌ منفوراً ملعوناً.

 بَيدَ أنّ علینا أن‌ لا ننسي‌ المصلحة‌ في‌ خلق‌ الشيطان‌، وأن‌ لانعدّه‌ مخلوقاً مستقلاّ عن‌ حكومة‌ الحقّ تعالي‌، ولا نتوهّم‌ أ نّه‌ فعّالٌ لما يشاء في‌ أعماله‌، لانّ هذا التصوّر هو عين‌ الشرك‌، وهو تصوّر لضعف‌ سلطان‌ الحضرة‌ الربوبيّة‌.

 لقد خلق‌ الله‌ تعالي‌ الإنسان‌ مريداً مختاراً؛ ومن‌ لوازم‌ هذا الاختيار أن‌ يتمكّن‌ من‌ اختيار الاعمال‌ الحسنة‌ أو السيّئة‌؛ أمّا تسلّط‌ الشيطان‌ وإغواؤه‌ فيحصلان‌ بالدعوة‌ إلی القبائح‌ والترغيب‌ فيها، وذلك‌ من‌ أجل‌ أن‌ يمتاز الإنسان‌ المجاهد الذي‌ لا يتزلزل‌، فيصل‌ إلی مقام‌ الكمال‌ والفعلیة‌؛ فيمتاز ـفي‌ المقابل‌ـ الإنسان‌ المنقاد خلف‌ الهوي‌ والهوس‌؛ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن‌ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَي‌' مَنْ حَيَّ عَن‌ بَيِّنَةٍ. [21]

 ولولا ذلك‌ ما امتاز الحسن‌ عن‌ السيّي‌، ولا الجميل‌ عن‌ القبيح‌، ولطلب‌ الجميع‌ إقحام‌ أنفسهم‌ في‌ مقام‌ أولياء الله‌ وهيئتهم‌، ولحاولوا التربّع‌ علی‌ أريكة‌ القُرب‌.

 وتتّضح‌ بهذا البيان‌ الإجابة‌ علی‌ جميع‌ الإشكالات‌ الإبليسيّة‌ السبعة‌ ويتجلّي‌ أمر بطلانها. [22]

 أجل‌، فالاستكبار والعُجب‌ هما اللذان‌ يبعثان‌ علی‌ انحراف‌ الإنسان‌ عن‌ علّة‌ التكوين‌ ويصرفانه‌ عن‌ جادّة‌ الاستقامة‌، حيث‌ يجعلانه‌ يري‌ نفسه‌ أعلی‌ ممّا هي‌ علیه‌ في‌ أصالة‌ الحقيقة‌؛ وينبغي‌ علی‌ مثل‌ هكذا شخص‌ أن‌ يُلقي‌ في‌ جهنّم‌ ليصلاها ويحترق‌ بلظاها. ومَن‌ ـ ياتري‌ـ يجد في‌ نفسه‌ القدرة‌، غير الحقّ وآثار الحقّ وصفاته‌، ليحسب‌ أ نّه‌ يمتلك‌ بذاته‌ شيئاً بصورة‌ مستقلّة‌؟!

 الرجوع الي الفهرس

جهنّم‌ مثوي‌ المتكبّرين‌

 وقد ورد في‌ الآية‌ التي‌ ذكرناها في‌ مطلع‌ البحث‌ عبارة‌: فَبِئْسَ مَثْوَي‌ الْمُتَكَبِّرِينَ؛ وجهنّم‌ هي‌ مثوي‌ المتكبّرين‌ ومقرّهم‌.

 لقد عصي‌ الشيطان‌ أمر ربّه‌ في‌ السجود لآدم‌ والتواضع‌ أمامه‌، وطغي‌ واستكبر وكفر، بينما امتثلت‌ الملائكة‌ لذلك‌ الامر بأجمعها؛ تقول‌ الآية‌34، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌: إِلآ إِبْلِيسَ أَبَي‌' وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـ'فِرِينَ.

 وتقول‌ الآية‌ 74، من‌ السورة‌ 38: ص‌: إِلآ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـ'فِرِينَ.

 وتقول‌ الآية‌ 75، من‌ السورة‌ 38: ص‌: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ.

 لقد ملا العُجب‌ والغرور إبليس‌ في‌ مقابل‌ حضرة‌ الحقّ تعالي‌، فنسب‌ الوجود إلی نفسه‌، وقال‌: أَنا خَيْرٌ مّـِنْهُ؛ [23] خلقتني‌ من‌ نار وخلقته‌ من‌ طين‌. وبما أنّ النار ترتفع‌ إلی الاعلی‌ وتستكبر، فقد رأي‌ إبليس‌ نفسه‌ خيراً من‌ الطين‌. وهذا الاستكبار هو الذي‌ سبب‌ نزول‌ الخطاب‌ إلی إبليس‌.

 قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن‌ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّـ'غِرِينَ. [24]

 ولقد تسبّب‌ الاستكبار في‌ هبوط‌ الشيطان‌ من‌ الجنّة‌ وصيّره‌ جهنّميّاً ملعوناً طريداً منفوراً، لأ نّه‌ قد اعتبر نفسه‌ ذا أثر في‌ قبال‌ الحقّ عزّ وجلّ، وهو ذنب‌ عظيم‌ لايُغتفر.

 كما أنّ هذا الكبر والتكبّر والاستكبار يستدعي‌ ابتعاد الإنسان‌ المسـتمرّ عن‌ الجنّة‌ واقترابه‌ من‌ جهنّم‌ ومن‌ عالم‌ البُعد، إذ ينزع‌ بنفسـه‌ علی‌الدوام‌ إلی الباطل‌، ويمنّيها بالاوهام‌ والاُمور الاعتباريّة‌، ويهجر الحقائق‌ ويبتعد عنها، فيغرق‌ في‌ عالم‌ الوهم‌ والخيال‌ ويعيش‌ فيه‌ حتّي‌ كأنه‌ يحسب‌ أن‌ ليس‌ في‌ عالم‌ الخارج‌ والوجود المطلق‌ وذات‌ حضرة‌ الحي‌ّ القيّوم‌ ذي‌ الجلال‌ والإكرام‌ من‌ أحد سوي‌ وجوده‌ هو، بل‌ ويصل‌ به‌ الامر إلی إنكار الحقّ وجحوده‌ والاستهزاء برسله‌، وإذا ما طرق‌ سمعه‌ قول‌ الحقّ أعرض‌ واستكبر ونأي‌ بجانبه‌؛ يقول‌ تعالي‌ في‌ مواخذة‌ اليهود الذين‌ كانوا يتمرّدون‌ علی‌ أوامر الانبياء:

 أَفَكُلَّمَا جَآءَ كُمْ رَسُولُ بِمَا لاَ تَهْوَي‌'´ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ. [25]

 وقد ورد أنّ الكفّار يُخاطَبون‌ يوم‌ القيامة‌: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُو´ا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَـ'تِي‌ تُتْلَي‌' علیكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ. [26]

 وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـَايَـ'تِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ أُولَـ'ئِكَ أَصْحَـ'بُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ'لِدُونَ. [27]

 فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي‌ الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَهَ الَّذِي‌ خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّمِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِـَايَـ'تِنَايَجْحَدُونَ.[28]

 وَقَالَ مُوسَي‌'´ ( حين‌ أراد فرعون‌ قتله‌ ) إِنِّي‌ عُذْتُ بِرَبِّي‌ وَرَبِّكُم‌ مِّن‌ كُلِّ مُتَكَبِّـرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ.[29]

 كَذَ ' لِكَ يُضِلُّ اللَهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَـ'دِلُونَ فِي‌´ ءَايَـ'تِ اللَهِ بِغَيْرِ سُلْطَـ'نٍ أَتَیـ'هُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَ ' لِكَ يَطْبَعُ اللَهُ علی‌' كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ. [30]

 الرجوع الي الفهرس

لا يستكبر مَن‌ هو عند الله‌

 هذا من‌ جهة‌؛ ومن‌ جهة‌ أُخري‌ فإنّ الله‌ تعالي‌ يمدح‌ في‌ كثير من‌ آيات‌ القرآن‌ الكريم‌ مَن‌ لا يستكبرون‌ ولا يتمرّدون‌ عن‌ طاعته‌ وعبادته‌ عزّ وجلّ ولايبغون‌ علوّاً في‌ الارض‌؛ كقوله‌ تعالي‌:

 ذَ ' لِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ. [31]

 وكآية‌: إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّـِحُونَهُ و وَلَهُ و يَسْجُدُونَ. [32]

 وآية‌: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِـَايَـ'تِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ. [33]

 وحاصل‌ المطلب‌ هو أنّ حسّ الاستكبار والتمرّد والعجب‌ والغرور وحبّ الذات‌ ممّا لا يستند علی‌ أصالة‌ الواقع‌، وإنّما ينشأ من‌ النفس‌ الامّارة‌ بالسوء، ومن‌ الحجاب‌ الغليظ‌ الذي‌ يحجب‌ العبد عن‌ الله‌ تعالي‌ إثر غواية‌ الشيطان‌.

 ولمّا كان‌ إبليس‌ مخلوقاً من‌ النار، فسيكون‌ هذا الحجاب‌ من‌ نار، وسيكون‌ المحجوب‌ بهذا الحجاب‌ قد سار مسار إبليس‌ واشترك‌ معه‌؛ كما سيكون‌ المحجوب‌ ناريّاً إثر اتّحاده‌ وانسجامه‌ مع‌ هذا الكيان‌ الناري‌ّ. وحين‌ يتجلّي‌ هذا الحجاب‌ يوم‌ القيامة‌ في‌ هيئة‌ النار، فإنّ العبد سيعذّب‌ في‌ تلك‌ النار ويخلّد فيها.

 وممّا يثير العجب‌ أنّ الله‌ تعالي‌ يسأل‌ في‌ هيئة‌ استفهامٍ تقريري‌ّ:

 أَلَيْسَ فِي‌ جَهَنَّمَ مَثْوًي‌ لِلْمُتَكَبِّرِينَ. [34]

 كما يجزم‌ بأنّ من‌ يستكبر عن‌ عبادته‌ سيدخل‌ جهنّم‌ ذليلاً صاغراً:

 إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتِي‌ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ. [35]

 إنّ كلّ ذنب‌ واعتداء علی‌ الحقوق‌، وتجاوز علی‌ النواميس‌ والاعراض‌ والاموال‌، وقتلٍ للنفوس‌ البريئة‌، ناشي‌ من‌ الاستكبار.

 وبصورة‌ عامّة‌، فإنّ الفساد في‌ الارض‌ ينشأ من‌ حسّ الغرور الذي‌ يصدّ الإنسان‌ عن‌ التسليم‌ والانقياد مقابل‌ الحقّ، ويجعل‌ بصره‌ وبصيرته‌ ينزعان‌ إلی الباطل‌، ويقضي‌ علی‌ حسّ الاتّعاظ‌ وقبول‌ النصح‌ في‌ وجوده‌؛ فإن‌ نصحه‌ أحد شمخ‌ بأنفه‌ واحتوشته‌ العزّة‌ بالإثم‌ الناشئة‌ من‌ العجب‌ والغرور، ونسجَ حول‌ نفسه‌ آلاف‌ الخيوط‌ العنكبوتيّة‌ وقبع‌ في‌ شرنقة‌ من‌ الانفة‌ والكبر مدفوعاً بالعزّة‌ بالإثم‌ والتعلّق‌ بالمجاز والباطل‌. أفليس‌ هذا من‌ جهنّم‌ وممّا يليق‌ بجهنّم‌؟!

 وَمِنَ النَّاسِ (كالاَخْنَسِ بْنِ شُرَيق‌ أحد المنافقين‌ ) مَن‌ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ و فِي‌ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَهَ علی‌' مَا فِي‌ قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ.

 وَإِذَا تَوَلَّي‌' سَعَي‌' فِي‌ الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ.

 وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ و جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ. [36]

 بلي‌، فجهنّم‌ نار مسجّرة‌ للمتكبّرين‌ والعصاة‌ المتمرّدين‌ علی‌ الحقّ؛ وهي‌ قرينةُ هذا الكبر والعجب‌ في‌ أيّ لباسٍ ظهرا. والشرك‌ بالله‌ تعالي‌ هو من‌ أوضح‌ مصاديق‌ الاستكبار، وهو اعتبار شي‌ءٍ ما مؤثّراً في‌ قباله‌ عزّ وجلّ، والقول‌ لذلك‌ الشي‌ء بتأثير مستقلّ في‌ عالم‌ الوجود.

 وأي‌ّ ذنبٍ أعظم‌ من‌ أن‌ يقف‌ امرؤ أمام‌ هذه‌ الشمس‌ التي‌ قد ملات‌ العالم‌ بنورها، ومنحت‌ جميع‌ عالم‌ الوجود رداء وجوده‌ ودوامه‌، والتي‌ تفيض‌ هذا الوجود والثبات‌ علی‌ الكون‌ في‌ كلّ لحظة‌ من‌ لحظاته‌، وتمنحه‌ قدرة‌ وحياة‌ وعلماً، والتي‌ منّت‌ علی‌ المخلوقات‌ ـبرحمتها العامّة‌ـ بالسمع‌ والبصر وآلاف‌ أُخري‌ من‌ الإحساسات‌ التي‌ لا تنقطع‌؛ نعم‌، يقف‌ أمامها فيعتبر أنّ له‌ أو لموجودٍ آخر غيره‌ استقلالاً وأثراً، فيُنزّل‌ اللهَ تعالي‌ عن‌ إطلاق‌ وجوده‌ وعدم‌ تناهي‌ صفاته‌ وأسمائه‌، ويحطّ من‌ شأنه‌ في‌ عالم‌ تخيّله‌، وينسب‌ إليه‌ ما لا يليق‌ به‌!

 الرجوع الي الفهرس

منشأ وأساس‌ الاستكبار من‌ الشرك‌ بالله‌ تعالي‌

 ونري‌ أنّه‌ حيثما وجد فرعٌ من‌ الاستكبار، وجد معه‌ الشرك‌ بالله‌ عزّ وجلّ، لكنّ درجات‌ ذلك‌ الشرك‌ تتفاوت‌ فيما بينها، فبينما يبتلي‌ بعض‌ الناس‌ بالشرك‌ الجلي‌ّ، نري‌ الغالبية‌ قد ابتليت‌ بالشرك‌ الخفي‌ّ.

 إنّ الله‌ تعالي‌ عظيم‌، والعظمة‌ رداؤه‌، لانّ كلّ عظمةٍ متصوّرة‌ إنّما هي‌ لمحة‌ من‌ عظمته‌، ولانّ ما نسبت‌ ذاته‌ القدسيّة‌ إلی نفسها من‌ عظمة‌، حقيق‌ بها.

 هُوَ اللَهُ الَّذِي‌ لآ إِلَـ'هَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَـ'مُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. [37]

 وما أسمي‌ نداء « الله‌ أكبر » وما أعظم‌ معناه‌ حين‌ يجعل‌ جميع‌ مراتب‌ الكبر والكبرياء مختصّة‌ بذات‌ الله‌ القدسيّة‌، وحين‌ يصرّح‌ ـ إضافة‌ إلی ذلك‌ـ بأ نّه‌ تعالي‌ أكبر وأعلی‌ من‌ كلّ ما يوصَف‌.

 وعلی‌ هذا الاساس‌ فقد ورد في‌ سورة‌ المدثّر التي‌ نزلت‌ أوائل‌ بعثة‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌: يَـ'´أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. [38]

 ولا تقلّ عنها روعة‌ وغني‌ المعني‌ الآية‌ الاخيرة‌ من‌ السورة‌ 17: الإسراء: وَقُلِ ( والخطاب‌ للنبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي‌ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن‌ لَّهُ و شَرِيكٌ فِي‌ الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن‌ لَّهُ و وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا.

 الرجوع الي الفهرس

لا سبيل‌ للمشركين‌ والكفّار إلاّ إلی جهنّم‌

 إنّ روح‌ الاستكبار موجودة‌ في‌ المشرك‌ بمقدار شركه‌؛ ولابدّ لهذا الشرك‌ من‌ الاحتراق‌ في‌ نار جهنّم‌.

 إِنَّ اللَهَ لاَ يَغْفِرُ أَن‌ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَادُونَ ذَ ' لِكَ لِمَن‌ يَشَآءُ. [39]

 وَإِذْ قَالَ لُقْمَـ'نُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ و يَـ'بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. [40]

 وَمَن‌ يُشْرِكْ بِاللَهِ فَقَدِ افْتَرَي‌'´ إِثْمًا عَظِيمًا. [41]

 وَمَن‌ يُشْرِكْ بِاللَهِ ( فكأنّما سقط‌ من‌ إنسانيّة‌ فأضحي‌ في‌ دار البوار ) فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي‌ بِهِ الرِّيحُ فِي‌ مَكَانٍ سَحِيقٍ.[42]

 أي‌ إنّما يقاس‌ وجود الإنسان‌ وقيمته‌ بالتوحيد وأصالة‌ الواقع‌ وواقع‌ الاصالة‌؛ وإذا عميت‌ بصيرة‌ الإنسان‌ أو أصابها الحول‌ فلم‌ يعد الإنسان‌ يري‌ عالم‌ الوجود بالعين‌ الموحِّدة‌، فإنّه‌ لن‌ يكون‌ حينذاك‌ إنساناً. ومن‌ الجلي‌ّ أ نّه‌ سيُعدم‌ السبيل‌ إلی الرشد والرقي‌ّ، وأنّ سيره‌ سيصبح‌ سير البُعد والنأي‌، وأ نّه‌ سيصل‌ في‌ خاتمة‌ المطاف‌ إلی مظاهر البُعد المتمثّلة‌ في‌ جهنّم‌ المستعرة‌.

 ومعلومٌ أنّ هذا الشخص‌ بإفساده‌ إنسانيّته‌ وخنق‌ نطفة‌ تكامله‌ وبصيرته‌، سيكون‌ من‌ أسوأ الخلائق‌ وأكثرهم‌ شرّاً.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ( كاليهود والنصاري‌ الذين‌ لم‌ يؤمنوا بنبي‌ّ الإسلام‌ ) مِنْ أَهْلِ الْكِتَـ'بِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي‌ نَارِ جَهَنَّمَ خَـ'لِدِينَ فِيهَآ أُولَـ'ئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ.[43]

 وسيكون‌ الكفّار من‌ أصحاب‌ النار بنفس‌ الاساس‌ الذي‌ صار به‌ المشركون‌ من‌ أصحابها، لانّ عدم‌ انقياد الكفّار أمام‌ سطوع‌ نور التوحيد من‌ ملامح‌ رسالة‌ نبي‌ّ الإسلام‌ ذي‌ الشأن‌ العظيم‌، وأمام‌ الدعوة‌ إلی توحيد الواحد الاحد الصمد الذي‌ لم‌ يلد ولم‌ يولد و لم‌ يكن‌ له‌ كفواً أحد، ليس‌ له‌ من‌ عنوان‌ إلاّ عنوان‌ الاستكبار والتجبّر؛ اللهمّ إلاّ الكفّار الذين‌ كانوا يرومون‌ الحقّ، لكنّ سبيل‌ وصولهم‌ إلی الحقيقة‌ وإلي‌ الإسلام‌ والإيمان‌ بمحمّدٍ المصطفي‌ حبيب‌ الله‌ كان‌ مسدوداً في‌ وجوههم‌ باستضعافهم‌ من‌ قبل‌ الحكّام‌، فسيعدّ أمثال‌ هؤلاء من‌ المستضعفين‌، وسيعاملون‌ وفقاً للآية‌ الواردة‌ بهذا الصدد.

 أمّا الذين‌ لم‌ يخضعوا لظلمٍ واستضعاف‌، ثمّ اختاروا بمشيئتهم‌ ديناً غير الإسلام‌، دون‌ أن‌ يكونوا في‌ صدد البحث‌ عن‌ الحقّ، أو أن‌ يبحثوا عنه‌ بالقدر الكافي‌، فبقوا في‌ نهاية‌ المطاف‌ محرومين‌ من‌ نور الإسلام‌، فسيحرم‌ هؤلاء من‌ النور في‌ عقبات‌ عالم‌ الآخرة‌، وسيُبتلون‌ بأنواع‌ الانحراف‌ والضياع‌ والتيه‌، فلا يجدون‌ أمامهم‌ من‌ سبيل‌ يسلكونه‌ غير سبيل‌ جهنّم‌.

 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـ'لِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا وَكَانَ ذَ ' لِكَ علی‌ اللَهِ يَسِيرًا. [44]

 الرجوع الي الفهرس

جهنّم‌ مثوي‌ الكفّار والمنافقين‌

 أجل‌، إنّ جهنّم‌ مثوي‌ الكفّار والمعاندين‌ الذين‌ يسترون‌ الحقّ عناداً.

 أَلْقِيَا ( والخطاب‌ للملَكينِ اللذين‌ يشهد أحدهما يوم‌ القيامة‌ علی‌ الاعمال‌، ويسوق‌ الآخر النفس‌ إلی المحشر ) فِي‌ جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي‌ جَعَلَ مَعَ اللَهِ إِلَـ'هًا ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي‌ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. [45]

 ووفقاً لهذا الميزان‌، فإنّ المنافقين‌ أيضاً سيُحشرون‌ إلی جهنّم‌، لانّ المنافقين‌ يُبطنون‌ الكفر ويظهرون‌ الإسلام‌ من‌ أجل‌ حفظ‌ مصالحهم‌، بالانتفاع‌ من‌ بيت‌ المال‌ والغنائم‌، والاستفادة‌ من‌ الاحكام‌ الاجتماعيّة‌ الإسلاميّة‌.

 ولذلك‌ فقد تساوق‌ ذكر المنافقين‌ الذين‌ يظهرون‌ الإسلام‌ في‌ كثير من‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ مع‌ ذكر الكفّار، فعدّوا بأسرهم‌ من‌ أصحاب‌ النار، كما في‌ الآية‌ 140، من‌ السورة‌ 4: النساء: إِنَّ اللَهَ جَامِعُ الْمُنَـ'فِقِينَ وَالْكَـ'فِرِينَ فِي‌ جَهَنَّمَ جَمِيعًا.

 والآية‌ 68، من‌ السورة‌ 9: التوبة‌: وَعَدَ اللَهُ الْمُنَـ'فِقَِينَ وَالْمُنَـ'فِقَـ'تِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـ'لِدِينَ فِيهَا.

 والآية‌ 73، من‌ نفس‌ السورة‌: جَـ'هِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـ'فِقِينَ وَاغْلُظْ علیهِمْ وَمَأْوَي'هُمْ جَهَنَّمُ.

 ويمكن‌ الاستنتاج‌ ممّا قيل‌ بأنّ كلّ استهزاءٍ بآيات‌ الله‌ عزّ وجلّ وإهانةٍ واستصغارٍ لانبيائه‌ وأئمّته‌ ونواميسه‌ ومقرّبي‌ ساحة‌ قدسه‌ سيوجب‌ دخول‌ النار. فَوَيْلٌ يَوْمَنـءِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي‌ خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَي‌' نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَـ'ذِهِ النَّارُ الَّتِي‌ كُنتُم‌ بِهَا تُكَذِّبُونَ. [46]

 وتبعاً لنفـس‌ الاسـاس‌ فقد أُوعد صـاحب‌ كلّ ظلم‌ وتجاوز علی‌ الحقوق‌، وكلّ طغيان‌ وتمرّد بالنار:

 هَـ'ذَا وَإِنَّ لِلطَّـ'غِينَ لَشَرَّ مَـَابٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَـ'ذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَءَاخَرُ مِن‌ شَكْلِهِ أَزْوَ ' جٌ * هَـ'ذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ. [47]

 وَمَن‌ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن‌ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَي‌' وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّي‌' وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيرًا. [48]

 الرجوع الي الفهرس

من‌ موجبات‌ جهنّم‌: قتل‌ المؤمن‌ عمداً، والفرار من‌ الزحف‌

 كما توعّد الله‌ تعالي‌ في‌ قرآنه‌ الكريم‌ بجهنّم‌ علی‌ كثير من‌ الاعتداءات‌ علی‌ الحقوق‌ وعلی‌ كثير من‌ الذنوب‌، كقتل‌ المؤمن‌ عن‌ عمد:

 وَمَن‌ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ و جَهَنَّمُ خَـ'لِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَهُ علیهِ وَلَعَنَهُ و وَأَعَدَّ لَهُ و عَذَابًا عَظِيمًا. [49]

 وتوعّد بجهنّم‌ وبغضبٍ من‌ الله‌ علی‌ الفرار من‌ الزحف‌ خلال‌ الجهاد مع‌ الكفّار: يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الاْدْبَارَ * وَمَن‌ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِِذٍ دُبُرَهُ و´ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مَتَحَيِّزًا إِلَي‌' فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَهِ وَمَأْوَب'هُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. [50]

 كما توعّد بجهنّم‌ علی‌ بعض‌ المعاصي‌ والذنوب‌ الاُخري‌. روي‌ الصدوق‌ في‌ كتاب‌ « الامالي‌ » عن‌ أبيه‌، عن‌ سعد، عن‌ ابن‌ عيسي‌، عن‌ ابن‌ فضّال‌، عن‌ ابن‌ بُكير، عن‌ زرارة‌، عن‌ أبي‌ جعفر ( الباقر ) علیه‌ السلام‌، قال‌:

 لمّا أُسري‌ برسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌، لم‌ يمرّ بخلقٍ من‌ خلق‌ الله‌ إلاّ ورأي‌ منه‌ ما يحبّ من‌ البشر واللطف‌ والسرور به‌، حتّي‌ مرّ بخلقٍ من‌ خلق‌ الله‌ فلم‌ يلتفت‌ إليه‌ ولم‌ يقل‌ له‌ شيئاً فوجده‌ قاطباً عابساً، فقال‌: ياجبرائيل‌! ما مررتُ بخلق‌ من‌ خلق‌ الله‌ إلاّ رأيتُ البِشر واللطف‌ والسرور منه‌ إلاّ هذا، فمن‌ هذا؟ قال‌: هذا مالك‌ خازن‌ النار، هكذا خلقه‌ ربُّه‌. قال‌: فإنّي‌ أُحبّ أن‌ تطلب‌ إليه‌ أن‌ يُريني‌ النار؛ فقال‌ له‌ جبرائيل‌ علیه‌ السلام‌: إنّ هذا محمّد رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ وقد سألني‌ أن‌ أطلب‌ إليك‌ أن‌ تريه‌ النار. قال‌: فَأَخْرَجَ لَه‌ عُنقاً منها فرآها، فلمّا أبصرها لم‌يكن‌ ضاحكاً حتي‌ قبضه‌ الله‌ عزّ وجلّ. [51]

 وجاء في‌ « أمالي‌ الشيخ‌ » أنّ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ كتب‌ في‌ رسالته‌ لاهل‌ مصر في‌ وصف‌ نار يوم‌ القيامة‌ يقول‌:

 قَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَحَرُّهَا شَدِيدٌ، وَشَرَابُهَا صَدِيدٌ، وَعَذَابُهَا جَدِيدٌ، وَمَقَامِعُهَا حَدِيدٌ، لاَ يَفْتُرُ عَذَابُهَا، وَلاَ يَمُوتُ سَاكِنُهَا. دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ، وَلاَ تُسْمَعُ لاِهْلِهَا دَعْوَةٌ ـ الخبر. [52]

 الرجوع الي الفهرس

 

الدرس‌ الثاني‌ والسبعون‌:

 في‌ أصحاب‌ جهنّم‌ ودركاتها

 

بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلی‌ّ العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علی‌ محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علی‌ أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَ ' زِينُهُ و فَأُولَـ'ئِكَ الَّذِينَ خَسِرُو´ا أَنفُسَهُمْ فِي‌ جَهَنَّمَ خَـ'لِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـ'لِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـ'تِي‌ تُتْلَي‌' علیكُمْ فَكُنتُم‌ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ علینَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ'لِمُونَ * قَالَ اخْسَـُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ و كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي‌ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّ ' حِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّي‌'´ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي‌ وَكُنتُم‌ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي‌ جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُو´ا أَ نَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ. [53]

 نشاهد في‌ هذه‌ الآيات‌ الكريمة‌ أنّ أصحاب‌ جهنّم‌ يجعلون‌ علّة‌ تكذيبهم‌ بآيات‌ الله‌ تعالي‌ في‌ شقاوتهم‌ وغلبة‌ الضلال‌ الذي‌ جعلهم‌ يختارون‌ السيّي‌ دون‌ الحسن‌. كما نشاهد في‌ كثير من‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ أ نّها تعتبر علّة‌ دخول‌ أصحاب‌ النار فيها هو تحقّق‌ وثبوت‌ الكلمة‌ الإلهيّة‌ في‌ شأنهم‌. كما في‌ الآية‌ 96، من‌ السورة‌ 10: يونس‌:

 إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ علیهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ.

 والآية‌ 33، من‌ السورة‌ 10: يونس‌: كَذَ ' لِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ علی‌ الَّذِينَ فَسَقُو´ا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ.

 والآية‌ 6، من‌ السورة‌ 40: غافر: وَكَذَ ' لِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ علی‌ الَّذِينَ كَفَرُو´ا أَ نَّهُمْ أَصْحَـ'بُ النَّارِ.

 والآية‌ 71، من‌ السورة‌ 39: الزمر: قَالُوا ( والضمير عائد لاصحاب‌ النار الذين‌ يجيبون‌ علی‌ سؤال‌ خازن‌ النار عن‌ علّة‌ سوقهم‌ إلی جهنّم‌، وسؤاله‌ إيّاهم‌: ألم‌ يأتكم‌ رسلٌ يحذّرونكم‌ لقاء يومكم‌ هذا؟) بَلَي‌' وَلَـ'كِنْ حَقَّتْ كَلِمَتُ الْعَذَابِ علی‌ الْكَـ'فِرِينَ.

 والآية‌ 19، من‌ السورة‌ 39: الزمر: أَفَمَنْ حَقَّ علیهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن‌ فِي‌ النَّارِ.

 الرجوع الي الفهرس

العذاب‌ والنار كلمة‌ حقّت‌ من‌ قِبَل‌ الله‌ تعالي‌

 وهكذا الامر في‌ كثير من‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ الكريمة‌ الاُخري‌ التي‌ تحدّثت‌ عن‌ مخالفة‌ الاُمم‌ السالفة‌ لانبيائها وتمرّدها وتجرّؤها علیهم‌، وعن‌ العذاب‌ الذي‌ أصاب‌ تلك‌ الاُمم‌ في‌ الدنيا فأهلكها، وعن‌ العذاب‌ الاُخروي‌ّ من‌ خلال‌ نصيبهم‌ في‌ دخول‌ جهنّم‌ في‌ خاتمة‌ المطاف‌، وعن‌ أن‌ كلمة‌ العذاب‌ قد حقّت‌ علی‌ تلكم‌ الاُمم‌؛ كما في‌ سور فصّلت‌ والاحقاف‌ ويس‌.

 وأكثر منها صراحة‌ ووضوح‌، الآية‌ 13، من‌ السورة‌ 32: التنزيل‌: وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَب'هَا وَلَـ'كِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي‌ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةَ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

 وهي‌ آية‌ ذات‌ مضمون‌ رفيع‌ يمكن‌ أن‌ يستخلص‌ منه‌ ألف‌ كتاب‌ في‌ الحكمة‌، لما فيها من‌ تبيان‌ لكيفيّة‌ الخلق‌، والإرادة‌ والمشيئة‌، وربط‌ الحادث‌ بالقديم‌، وهو نفس‌ ظهور نور التوحيد وإشراقه‌ علی‌ عالم‌ الإمكان‌.

 وقد روي‌ المرحوم‌ الشيخ‌ الصدوق‌ في‌ هذا الشأن‌ في‌ كتاب‌ « ثواب‌ الاعمال‌ » عن‌ محمّد بن‌ الحسن‌، عن‌ محمّد بن‌ الحسن‌ الصفّار، عن‌محمّد ابن‌يحيي‌، عن‌ أحمد بن‌ معروف‌، عن‌ محمّد بن‌ حمزة‌، قال‌:

 قال‌ أبو عبد الله‌ ( الصادق‌ ) علیه‌ السلام‌: مَنِ اشْتَاقَ إلی الجَنَّةِ وَإلَي‌ صِفَتِهَا فَلْيَقْرَأ الوَاقِعَةَ؛ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إلی صِفَةِ النَّارِ، فَلْيَقْرَأْ سَجْدَةَ لُقْمَانَ. [54]

 وكما نعلم‌ أنّ سورة‌ السجدة‌ لا تمتلك‌ خصوصيّة‌ معيّنة‌ بلحاظ‌ تفصيل‌ العذاب‌، اللهمّ إلاّ هذه‌ الآية‌ الكريمة‌ التي‌ ذكرناها؛ أمّا فيما عدا ذلك‌، فإنّ كثيراً من‌ السور القرآنيّة‌ تشتمل‌ علی‌ تفاصيل‌ أكثر لجهنّم‌ وخصائصها.

 أجل‌، فهذه‌ الآية‌ تبيّن‌ بوضوح‌ أنّ الله‌ تعالي‌ إذا أراد أن‌ يهدي‌ كلّ فرد من‌ أفراد البشريّة‌ بالهداية‌ التكوينيّة‌ أو الهداية‌ التشريعيّة‌، وبإرادة‌ الصلاح‌ والسعادة‌، لهداه‌ إلی السعادة‌ وإلي‌ كمال‌ فعلیة‌ الجمال‌. لكنّه‌ عزّ وجلّ لم‌ يشأ ذلك‌، لا نّه‌ قد أراد أن‌ يكون‌ الناس‌ مختارين‌؛ وذلك‌ الاختيار هو عين‌ اختيار الله‌ وضمن‌ اختياره‌ عزّ وجلّ؛ فهو الذي‌ شاء أن‌ يدخل‌ الناس‌ الجنّة‌ أو جهنّم‌ بهذه‌ الكيفيّة‌ المعهودة‌.

 فإرادة‌ الله‌ ومشيئته‌ إذاً تتمثلان‌ في‌ سير الناس‌ بقدم‌ المجاهدة‌، وفي‌ كونهم‌ مكلّفين‌؛ فمن‌ طوي‌ سبيل‌ السعادة‌ والتقرّب‌ بحُسن‌ اختياره‌، فإنّه‌ سيدخل‌ الجنّة‌ وينال‌ لقاء الله‌ ورضوانه‌. ومن‌ طوي‌ سبيل‌ الشقاء والبُعد بسوء اختياره‌، ابتلي‌ بجهنّم‌ وتبعاتها.

 الرجوع الي الفهرس

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ الآية‌ 253، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[2] ـ الآية‌ 55، من‌ السورة‌ 17: الاءسراء.

[3] ـ الآية‌ 164، من‌ السورة‌ 37: الصافّات‌.

[4] ـ لم‌ أعثر علي‌ هذه‌ الرواية‌ بهذه‌ اللفظ‌، فاكتفيتُ بترجمتها من‌ المتن‌.(م‌)

[5] ـ «عيون‌ أخبار الرضا» ص‌ 257، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[6] ـ «تفسير القمّي‌ّ» ص‌ 407، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[7] ـ «الخصال‌» ج‌ 1، ص‌ 96، باب‌ الاربعة‌، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[8] ـ «الامالي‌» للمفيد، ص‌ 45، المجلس‌ الثامن‌.

[9] ـ «الخصال‌» ج‌ 2، ص‌ 171؛ باب‌ «ما فوق‌ الالف‌»، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[10] ـ «الامالي‌» للطوسي‌ّ، ص‌ 302، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[11] ـ «الامالي‌» للصدوق‌، ص‌ 216، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[12] ـ «الامالي‌» للصدوق‌، ص‌ 176.

[13] ـ «الامالي‌» للصدوق‌، ص‌ 120.

[14] ـ الآية‌ 7، من‌ السورة‌ 42: الشوري‌.

[15] ـ كبائس‌ جمع‌ كِباسة‌، وهو العذِق‌ التامّ بشماريخه‌ ورُطبه‌.(م‌)

[16] ـ «نهج‌ البلاغة‌» ج‌ 1، ص‌ 310 و 311، الخطبة‌ 163، طبعة‌ عبده‌، مصر.

[17] ـ الآيتان‌ 71 و 72، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[18] ـ الدعاء الثاني‌ والثلاثون‌ من‌ «الصحيفة‌ الكاملة‌ السجّاديّة‌».

[19] ـ «رسالة‌ الإنسان‌ بعد الدنيا» ص‌ 71 من‌ النسخة‌ الخطّيّة‌.

[20] ـ الآيتان‌ 82 و 83، من‌ السورة‌ 38: ص‌.

[21] ـ الآية‌ 42، من‌ السورة‌ 8: الانفال‌.

[22] ـ أجاب‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ مدّ ظلّه‌ العالي‌ في‌ تفسير «الميزان‌» ج‌ 8، ص‌ 43 إلي‌ 58، أوائل‌ سورة‌ الاعراف‌، علي‌ ستّة‌ من‌ هذه‌ الاءشكالات‌ بصورة‌ كافية‌. وهذه‌ الاءشكالات‌ هي‌ التي‌ وردت‌ في‌ «روح‌ المعاني‌» عن‌ شارح‌ الاناجيل‌ الاربعة‌، ضمن‌ مناظرة‌ دارت‌ بين‌ إبليس‌ والملائكة‌ بعد قضيّة‌ آدم‌. وقال‌ الآلوسيّ بعدها: قال‌ الفخر الرازيّ: إنّه‌ لو اجتمع‌ الاوّلون‌ والآخرون‌ من‌ الخلائق‌ فحكموا بتحسين‌ العقل‌ وتقبيحه‌ فإنّهم‌ لم‌يجدوا من‌ هذه‌ الاءشكالات‌ مخلصاً، وكان‌ الكلّ لازماً.

[23] ـ الآية‌ 11، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[24] ـ الآية‌ 13، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[25] ـ الآية‌ 87، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[26] ـ الآية‌ 31، من‌ السورة‌ 45: الجاثية‌.

[27] ـ الآية‌ 36، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[28] ـ الآية‌ 15، من‌ السورة‌ 41: فصّلت‌.

[29] ـ الآية‌ 27، من‌ السورة‌ 40: غافر.

[30] ـ الآية‌ 34 والآية‌ 35، من‌ السورة‌ 40: غافر. وقد وردت‌ هاتان‌ الآيتان‌ بعدقوله‌ تعالي‌ (في‌ النصف‌ الاوّل‌ من‌ الآية‌ 34 ): وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَـ'تِ فَمَازِلْتُمْ فِي‌ شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُم‌ بِهِ حَتَّي‌'´ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن‌ يَبْعَثَ اللَهُ مِن‌ بَعْدِهِ رَسُولاً.

 وينبغي‌ الالتفات‌ إلي‌ أنّ لفظ‌ «كلّ» في‌ الآية‌ الشريفة‌ مقدّم‌ علي‌ لفظ‌ «قلب‌» وليس‌ مؤخّراً عنه‌، وأنّ لفظ‌ الآية‌ قد كان‌ «علي‌ كلّ قلب‌ متكبّر» وليس‌ «علي‌ قلب‌ كلّ متكبّر». ولو تأخّر لفظ‌ «كلّ»، لصار معناه‌ أنّ الله‌ تعالي‌ يختم‌ علي‌ قلب‌ جميع‌ الافراد المتكبّرين‌، لكنّ الآية‌ سـتبقي‌ مبهمة‌، إذ لن‌ يكون‌ معلوماً مدي‌ شـمول‌ هذا الختم‌ لجميع‌ أقسـام‌ قلب‌ كلّ متكبّر، فقد يشمل‌ الختم‌ بعض‌ أقسام‌ القلب‌ دون‌ بعضها الآخر. أمّا الآية‌ ـوقد ورد لفظ‌ «كلّ» حسب‌ البيان‌ الذي‌ ذكرناه‌ـ لا يتبيّن‌ بتأخير ذلك‌ اللفظ‌. ولهذه‌ النكتة‌ الدقيقة‌ قُدّم‌ لفظ‌ «كلّ»، حيث‌ ستكون‌ الآية‌ أشمل‌ وأعمّ بلحاظ‌ أجزاء الموضوع‌.

[31] ـ الآية‌ 82، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌. والآية‌ في‌ معرض‌ الخطاب‌ للنبي‌ّ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌، وقد سبقها قوله‌ تعالي‌: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم‌ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُو´ا إِنَّا نَصَـ'رَي‌'.

[32] ـ الآية‌ 206، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[33] ـ الآية‌ 15، من‌ السورة‌ 32: السجدة‌.

[34] ـ الآية‌ 60، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[35] ـ الآية‌ 60، من‌ السورة‌ 40: غافر.

[36] ـ الآيات‌ 204 إلي‌ 206، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[37] ـ الآية‌ 23، من‌ السورة‌ 59: الحشر.

[38] ـ الآيات‌ 1 إلي‌ 3، من‌ السورة‌ 74: المدّثّر.

[39] ـ الآية‌ 48، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[40] ـ الآية‌ 13، من‌ السورة‌ 31: لقمان‌.

[41] ـ الآية‌ 48، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[42] ـ الآية‌ 31، من‌ السورة‌ 22: الحجّ.

[43] ـ الآية‌ 6، من‌ السورة‌ 98: البيّنة‌.

[44] ـ الآيتان‌ 168 و 169، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[45] ـ الآيات‌ 24 إلي‌ 26، من‌ السورة‌ 50: ق‌.

[46] ـ الآيات‌ 10 إلي‌ 13، من‌ السورة‌ 52: الطور.

[47] ـ الآيات‌ 55 إلي‌ 59، من‌ السورة‌ 38: ص‌.

[48] ـ الآية‌ 115، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[49] ـ الآية‌ 93، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[50] ـ الآيتان‌ 15 و 16، من‌ السورة‌ 8: الانفال‌.

[51] ـ «الامالي‌» للصدوق‌، ص‌ 357 و 358، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[52] ـ «الامالي‌» للطوسي‌ّ، ص‌ 18، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[53] ـ الآيات‌ 103 إلي‌ 111، من‌ السورة‌ 23: المؤمنون‌.

[54] ـ «ثواب‌ الاعمال‌» ص‌ 66، الطبعة‌ الحجريّة‌. والمراد من‌ سجدة‌ لقمان‌ هو سورة‌ «الم‌ تنزيل‌» (وتدعي‌ بسورة‌ «السجدة‌») وهي‌ السورة‌ الثانية‌ والثلاثون‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌، وتقع‌ بعد سورة‌ لقمان‌، لذا فقد دُعيت‌ بسجدة‌ لقمان‌ تمييزاً لها عن‌ السور القرآنيّة‌ الثلاث‌ التي‌ تحتوي‌ علي‌ سجدة‌.

 الرجوع الي الفهرس

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com