بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد الثانی / القسم الثانی: معنی الولایة و آثارها، معنی الزهد فی التعبیر القرآنی، صفات اولیاء الله

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

اشتياق‌ سيّد الشهداء و أصحابه‌ للموت‌ من‌ أجل‌ إعلاء كلمة‌ الحقّ

 هناك‌ في‌ تلك‌ الجنّة‌ نورٌ محض‌، و حريّة‌ محضة‌، و راحة‌ محضة‌ خالصة‌ لايشوبها شي‌ء؛ أمّا في‌ الدنيا فإنّ أي‌ّ راحة‌ للإنسان‌ مشوبة‌ بنوع‌ من‌ الاذي‌ و التكدير، السلامةُ مشوبة‌ بالمرض‌، و الراحة‌ مخلوطة‌ بالمتاعب‌، والنور مشوب‌ بالظُلْمَة‌، و الامان‌ ممزوج‌ بالقلق‌، و الطمأنينة‌ توأم‌ مع‌ الاضطراب‌ و التشويش‌. لكنّ جميع‌ هذه‌ الجهات‌ التي‌ تسبب‌ تنغيص‌ العيش‌ منتفية‌ في‌ الجنّة‌، و ليس‌ هناك‌ إلاّ الراحة‌ الخالصة‌ و النور المحض‌. لذلك‌ فإنّ الإنسان‌ لن‌ يرضي‌ بالعودة‌ إلی‌ الدنيا، و لن‌ يقبل‌ باستبدال‌ تلك‌ الراحة‌ و فراغ‌ البال‌ و الاُنس‌ و الاُلفة‌ بالعليّين‌ بالمنغّصات‌ و بالمعاشرة‌ مع‌ أهل‌ السجّين‌. قال‌ أصحاب‌ سيّد الشهداء عليه‌ و عليهم‌ السّلام‌: «لن‌ نرجع‌ عمّا عقدنا عليه‌ العزم‌». و كان‌ الإمام‌ صلوات‌ الله‌ عليه‌ قد قال‌ لهم‌:

 ألاَ و انِّي‌ قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ، فَانطَلِقُوا جَمِيعاً فِي‌ حِلٍّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي‌ ذِمَامٌ، هَذا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلاً.[1]

 فقال‌ كلّ واحد من‌ أهله‌ الهاشمييّن‌ و أصحابه‌ شيئاً في‌ جوابه‌ وأظهروا الخجل‌ ] من‌ عجزهم‌ أن‌ يقدّموا غير أرواحهم‌ فداءً له‌ [، و نهض‌ من‌ جملتهم‌ زهير بن‌ القين‌ فَقَالَ: وَاللهِ لَودَدْتُ أَنـِّي‌ قُتِلْتُ ثُمَّ نُشْرِتُ ثُمَّ قُتِلْتُ حَتَّي‌' أُقْتَل‌ هَـ'كَذَا أَلْفَ مَرَّةٍ وَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَدْفَعُ بِذَلِكَ الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِكَ وَ عَنْ أَنْفُسِ هَؤلاءِ الْفِتْيَانِ مَنْ أَهْلِ بَيْتِكَ.[2]

 و لقد كانوا يتسابقون‌ يوم‌ عاشوراء في‌ الحرب‌ دفاعاً عن‌ سبط‌ النبي‌ّ، فقد صارت‌ الحياة‌ لديهم‌ مرّة‌ كالعلقم‌، و صارت‌ أبدانهم‌ تضيق‌ بأرواحهم‌ الكبيرة‌، و كان‌ بعضهم‌ يتوسّل‌ كي‌ يُسمح‌ له‌ بالبراز إلی‌ الحرب‌.

 الرجوع الي الفهرس

مقتل‌ عابس‌ بن‌ شيب‌ الشاكريّ يوم‌ عاشوراء

 يقول‌ الطبريّ في‌ تأريخه‌:

 فَوَقَفَ عَابِسٌ أَمَامَ أَبِي‌ عَبْدِ اللَهِ عليه‌ السَّلامُ وَ قَالَ: مَا أَمْسَي‌' علی' ظَهْرِ الاْرْضِ قَريبٌ وَ لاَ بَعِيدٌ أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ. وَ لَوْ قَدَرْتُ أَنْ أَدْفَعَ الضَّيْمَ عَنْكَ بِشَي‌ءٍ أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي‌ لَفَعَلْتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَشْهَدُ أَنِّي‌ علی' هُداكَ وَ هُدَي‌' أَبِيكَ، وَ مَشَي‌' نَحْوَ الْقَومِ مُصلِتَاً سَيْفَهُ وَ بِهِ ضَرْبَةٌ علی' جَبِينِهِ فَنَادَي‌': أَلاَ رَجُلَ! فَأَحْجَمُوا عَنْهُ لاِنـَّهُمْ عَرَفُوهُ أَشْجَعَ النَّاسِ. فَصَاحَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: إرْضَخُوهُ بِالْحِجَارَةِ! فَرُمِي‌ بِهَا. فَلَمَّا رَأي‌' ذَلِكَ أَلْقَي‌' دِرْعَهُ وَمِغْفَرَهُ وَ شَدَّ علی' النَّاسِ وَ أنـّه‌ لَيَطْرُدُ.[3] أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ تَعَطَّفُوا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَقُتِلَ، فَتَنَازَعَ ذَوو عِدَّةٍ فِي‌ رَأسِهِ، فَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: هَذا لَمْ يَقْتُلْهُ وَاحِدٌ. وَ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ.[4]

 الرجوع الي الفهرس

اشتياق‌ سيّد الشهداء للقاء الله‌ و رسوله‌، و خطبته‌ للدعوة‌ إلی‌ لقاء الله‌

 و كان‌ الوجود المقدّس‌ لسيّد الشهداء عاشقاً للموت‌! فلقد قال‌ في‌ خطبة‌ أوردها في‌ مكّة‌ المكرّمة‌ لمّا عزم‌ علی الخروج‌ إلی‌ الكوفة‌:

 وَ مَا أولهني‌ إلی‌ أسلافي‌ اشتياق‌ يعقوب‌ إلی‌ يوسف‌![5]

 و حين‌ اعترض‌ الحرّ بن‌ يزيد الرياحيّ و جيشُهُ الحسينَ عليه‌ السلام‌ فمنعوه‌ عن‌ متابعة‌ المسير، حتّي‌ أنـّهم‌ منعوه‌ عن‌ العدول‌ و الانحراف‌ في‌ مسيره‌؛

 فَقَامَ الْحُسَيْنُ خَطِيبَاً فِي‌ أَصْحَابِهِ فَحَمِدَ اللهَ وَ أَثْني‌' عَلَيْهِ وَ ذَكَرَ جَدَّهُ فَصَلّي‌' عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:

 إنّه‌ قَدْ نَزَلَ بِنَا مِنَ الاْمْرِ مَا قَدْ تَرَونَ؛ وَ إنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَ تَنَكَّرَتْ وَ أَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا وَاسْتَمَرَّتْ جَذَّاءَ،[6] وَ لَمْ تَبْقَ مِنْهَا اِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإنَاءِ، وَ خَسِيسُ عَيشٍ كَالْمَرْعَي‌' الْوَبِيلِ؛ أَلاَ تَرَوْنَ إلَي‌' الْحَقِّ لاَ يُعْمَلُ بِهِ، وَ إلَي‌' الْبَاطِلِ لاَ يُتَناهي‌' عَنْهُ؛ لِيَرْغَبِ الْمُؤمِنُ فِي‌ لِقَاءِ رَبِّهِ مُحِقَّاً،[7] فَإنِّي‌لاَ أَرَي‌' الْمَوتَ إلاَّ سَعَادَةً وَالْحَيو'ةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إلاَّ بَرَمَاً.[8]

 الرجوع الي الفهرس

 

المجلس‌ التاسع‌:

ليس‌ علی أولياء الله‌ خوف‌ و لاحزن‌ و لاسكرات‌ موت‌

 

بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ

(مطالب‌ أُلقيت‌ في‌ اليوم‌ التاسع‌ من‌ شهر رمضان‌ المبارك‌)

الحمد لله‌ ربّ العالمين‌ و لا حول‌ و لا قوّة‌ إلاّ باللَه‌ العليّ العظيم‌

و صلَّي‌ اللهُ علی محمّد و آله‌ الطَّاهرين‌

و لعنة‌ اللَه‌ علی أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی‌ قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

 قال‌ اللهُ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 ألآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَي‌' فِي‌ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَ فِي‌ الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَـ'تِ اللهِ ذَ ' لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

 هذه‌ الآيات‌ الكريمة‌ هي‌ الآيات‌ 62 ـ 64 من‌ سورة‌ يونس‌، السورة‌ العاشرة‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌، و هي‌ آيات‌ ينبغي‌ التوقّف‌ عندها و التأمّل‌ فيها.

 «أولياء» جمع‌ ولي‌ّ؛ وَلي‌، يَلِي‌، وِلاَيَةً وَ وَلاَيَةً. و الولاية‌ بمعني‌ امتلاك‌ المشيئة‌ و الإرادة‌ و الاختيار، و لازمها الهيمنة‌ و التصرّف‌ في‌ جميع‌ الشؤون‌ بحيث‌ لايبقي‌ للشخص‌ الخاضع‌ للولاية‌ أي‌ّ مشيئة‌ و إرادة‌ واختيار.

 و وَلِي‌ّ علی وزن‌ فعيل‌ بمعني‌ والِي‌، و هو أيضاً بمعني‌ مُوَلّي‌ عَلَيه‌، لذا فإنـّه‌ يستعمل‌ في‌ اسم‌ الفاعل‌ كما يستعمل‌ في‌ اسم‌ المفعول‌؛ فيُطلق‌ علی من‌ يمتلك‌ مقام‌ الولاية‌ و علی المهيمن‌ و صاحب‌ الاختيار و المتصرّف‌ في‌ جميع‌ الشؤون‌ لفظ‌ ولي‌ّ، كما يُطلق‌ نفس‌ اللفظ‌ علی من‌ يخضع‌ لولاية‌ ذلك‌ الفرد فيسلّم‌ له‌ جميع‌ إرادته‌ و اختياره‌ و يخضع‌ لاءشرافه‌ و هيمنته‌.

 الرجوع الي الفهرس

 معني‌ الولاية‌ و آثارها

 و بناءً علی ذلك‌ يُطلق‌ اسم‌ الولي‌ّ علی الذات‌ المقدّسة‌ للخالق‌ عزّوجلّ، كما في‌ الآية‌ 257 من‌ سورة‌ البقرة‌:

 اللَهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم‌ مِنَ الظُّلُمَـ'تِ إلی‌ النُّورِ.

 كما يُطلق‌ علی أُولئك‌ الافراد الذين‌ يضعون‌ أنفسهم‌ تحت‌ اختيار الله‌ و إرادته‌، و يعتبرونه‌ المهيمن‌ المتصرّف‌ في‌ جميع‌ أُمورهم‌، كما في‌ هذه‌ الآية‌:

 أَلآ إنَّ أَوْلِيَآءَ اللَهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.

 فإنّ المقصود بأولياء الله‌ الافراد الذين‌ تنصّلوا تماماً من‌ جميع‌ شوائب‌ اختيارهم‌ الذاتي‌ و أوكلوا إرادتهم‌ و اختيارهم‌ و وجودهم‌ بجميع‌ شؤونه‌ إلی‌ الذات‌ المقدّسة‌ للحيّ الازليّ، و اعتبروه‌ المتصرّف‌ فيهم‌ والمالك‌ لاءرادتهم‌. إنّ جميع‌ الموجودات‌ خاضعة‌ للاءرادة‌ و الاختيار التكوينيّ للخالق‌ سبحانه‌، لا يُستثني‌ من‌ هذا القانون‌ العامّ حتّي‌ الذرّة‌ الواحدة‌ التي‌ لاتبصرها العين‌، لكنّ البحث‌ في‌ الولاية‌ التشريعيّة‌، أي‌فهم‌ وإدراك‌ هذا المعني‌ بدرجة‌ الحسّ و الوجدان‌ أنْ لا حقّ لولاية‌ غير ذات‌ القيّوم‌ الابديّ. و كلّ مَن‌ يدرك‌ هذا الناموس‌ و القانون‌ العامّ و يري‌ وجوده‌ و سائر وجود الموجودات‌ مندكّاً في‌ إرادة‌ و اختيار القيّوم‌، و يضع‌ نفسه‌ وجداناً تحت‌ إرادة‌ و اختيار كهذه‌، يُدعي‌ بـ «ولي‌ّ الله‌».

 الرجوع الي الفهرس

كيفيّة‌ تجلّي‌ صفات‌ الله‌ تعالی في‌ أوليائه‌

 و سرّ إدراك‌ هذه‌ الدرجة‌ و الوصول‌ إليها أنّ البعض‌ من‌ المؤمنين‌ ينال‌ مقام‌ القرب‌ من‌ الله‌ إِثْرَ الطاعة‌ و ترك‌ المعصية‌، و يفوزون‌ بمقام‌ كمال‌ الاخلاق‌، لانّ محبّة‌ الله‌ ستلتهب‌ في‌ قلوبهم‌ يوماً بعد آخر، و تمنّي‌ الوصول‌ لمقام‌ القرب‌ و العزّة‌ سيشتعل‌ في‌ كيانهم‌، فتحترق‌ جميع‌ الصفات‌ الرذيلة‌ والاخلاق‌ الذميمة‌ و تفني‌ كما يحترق‌ ما يفضل‌ من‌ الاشواك‌ والاعشاب‌، حتّي‌ يستقرّوا أخيراً في‌ حدود المحبّة‌.

 و من‌ الواضح‌ أنّ من‌ آثار المحبّة‌ ظهور أخلاق‌ المحبوب‌ في‌ وجود المحبّ، و كلّما زادت‌ درجة‌ الشوق‌ و المحبّة‌ زاد معه‌ هذا التخلّق‌ بالاخلاق‌ الإلهيّة‌، حتّي‌ ينمحي‌ من‌ صفحات‌ أنفسهم‌ كلّ أثر للتلوّث‌ و يُزال‌ كلّ قشر من‌ قشور الانانيّة‌، بحيث‌ لا يتمكنوا حتّي‌ عقد نيّة‌ سيّئة‌ في‌ ذواتهم‌، وبحيث‌ لاتخطر في‌ أذهانهم‌ أي‌ّ خاطرة‌ سيّئة‌، و ذلك‌ لانّ أصل‌ النفس‌ قد طهر و تمّت‌ تصفيته‌ و تنقيته‌.

 فإذا شملتهم‌ العناية‌ و التوفيق‌ الربّاني‌ في‌ هذه‌ المرحلة‌ رَقَوْا إلی‌ مقام‌ أعلی و نالوا مقام‌ أسماء الخالق‌ و صفاته‌ و إدراك‌ أسمائه‌ الكلّيّة‌ و صفاته‌ العامّة‌ في‌ جميع‌ الموجودات‌.

 و إن‌ أعانَتهم‌ العناية‌ الازليّة‌ بعد هذه‌ المرحلة‌ فقدّموا وجودهم‌ مقابل‌ الخالق‌ و عظمته‌ و قدرته‌ و جماله‌ و جلاله‌، و عبروا من‌ مقام‌ التوكّل‌ والتفويض‌ إلی‌ مقام‌ الرضا و التسليم‌، فيكون‌ الله‌ هو المختار في‌ أمورهم‌، و لا يكون‌ لهم‌ بعد ذلك‌ اختيار و لا إرادة‌، بل‌ تكون‌ الذات‌ المقدّسة‌ للحقّ تعإلی‌ هي‌ المتصرّفة‌ في‌ وجودهم‌ و شؤونهم‌، فأُولئك‌ هم‌ الذين‌ يُقال‌ لهم‌: «أَوْلِيَآءُ اللَهِ» أُولئكم‌ الافراد همُ الذين‌ يفيدون‌ من‌ درجات‌ القوة‌ العلاّمة‌ والعقل‌ النظريّ (العلميّ)، أي‌ العقل‌ الهيولائيّ و العقل‌ بالمَلَكة‌ و العقل‌ بالفعل‌ و العقل‌ المستفاد، و الذين‌ رقوا إلی‌ أعلی درجاته‌ و عبروا المراحل‌ الثلاث‌ السابقة‌، فصارت‌ علومهم‌ و معارفهم‌ تُفاض‌ عليهم‌ من‌ الذات‌ المقدّسة‌ للحضرة‌ الاحديّة‌ بواسطة‌ العقل‌ الفعّال‌، أو أن‌ يكونوا قد تخطّوا العقل‌ الفعّال‌ و عبروا مراتب‌ العقول‌ فصاروا يأخذون‌ علومهم‌ بلا واسطة‌ من‌ ذات‌ الحقّ كالعقل‌ الاوّل‌ بسبب‌ اندكاكهم‌ فيه‌. كما أنـّهم‌ فازوا بالمرحلة‌ الاخيرة‌ من‌ مراتب‌ القوّة‌ العمّالة‌ و العقل‌ العمليّ، و هي‌ التجلية‌ و التخليّة‌ والتحلية‌ و الفناء، و تحقّق‌ في‌ وجودهم‌ المراحل‌ الثلاث‌ التي‌ تسبقها.

 و طبقاً للآيات‌ المباركة‌ للقرآن‌ الكريم‌ التي‌ بُيّنت‌ فيها خصائص‌ أولياء الله‌، و التي‌ ربّما سنتحدّث‌ عن‌ بعضها عند الحاجة‌ في‌ المباحث‌ التالية‌، فإنّ الشيطان‌ لايمتلك‌ سلطاناً علی أولياء الله‌، فهو قد يأسَ منهم‌ إذ أوكلوا إرادتهم‌ و اختيارهم‌ إلی‌ الله‌، فصارت‌ الذات‌ المقدّسة‌ للحقّ تعإلی‌ تقود الإرادة‌ و الاختيار في‌ وجودهم‌؛ فكيف‌ يتصوّر مع‌ ذلك‌ أن‌ يتغلّب‌ الشيطان‌ علی إرادة‌ الله‌ و اختياره‌ فيمكنه‌ خداعَهم‌؟

 إنّ أمل‌ الشيطان‌ ينصبّ علی أُولئك‌ الذين‌ يمكنه‌ التصرّف‌ فيهم‌ ودعوتهم‌ إلی‌ الشهوات‌ و الغفلات‌، و جعلهم‌ غافلين‌ عن‌ الله‌ سبحانه‌، أمّا مَن‌ تخطّي‌ وجوده‌ في‌ سبيل‌ الله‌ و أوكل‌ أنانيّته‌ إلی‌ ربّه‌، و جعل‌ اختياره‌ مندكّاً في‌ اختيار الله‌ تعالي‌، فلمس‌ و تحقّق‌ معني‌ «وَ مَا تَشَآءُونَ إلاَّ أَن‌ يَشَآءَاللَهُ». [9]

 و أقرّه‌ في‌ سويداء قلبه‌، فصار يري‌ بعين‌ الله‌، و يسمع‌ بأُذن‌ الله‌، وينطق‌ بلسان‌ الله‌، و يبطش‌ بيد الله‌، فلم‌ يبقَ شي‌ء منه‌ في‌ عالم‌ الوجود ليتصرّف‌ به‌ الشيطان‌. و قد ورد في‌ الحديث‌ القدسي‌ّ أنّ الله‌ سبحانه‌ يقول‌:

 وَ مَا يَتَقَرَّبُ إلَيَّ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي‌ بِشَي‌ءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ؛ وَ إِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إلی‌ بِالنَّوَافِلِ حَتَّي‌' أُحِبُّهُ، فَإذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي‌ يَسْمَعُ بِهِ، وَ بَصَرَهُ الَّذِي‌ يُبْصِرُ بِهِ، وَ لِسَانَهَ الَّذِي‌ يَنْطِقُ بِهِ، وَ يَدَهُ الَّتِي‌ يَبْطِشُ بِها، إنْ دَعَانِي‌ أَجَبْتُهُ، وَ إنْ سَأَلَنِي‌ أَعطَيْتُهُ.[10]

 الرجوع الي الفهرس

كلام‌ الخواجه‌ نصيرالدين‌ الطوسيّ في‌ «شرح‌ الإشارات‌» في‌ صفات‌ العرفاء

 يقول‌ الخواجه‌ نصير الدين‌ الطوسيّ (ره‌) في‌ الفصل‌ التاسع‌ عشر من‌ النَمَط‌ التاسع‌ من‌ «شرح‌ الإشارات‌»:

 إنَّ الْعَارِفَ إذَا انْقَطَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَاتَّصَلَ بِالْحَقِّ، رَأَي‌' كُلَّ قُدْرَةٍ مُسْتَغْرِقةً فِي‌ قُدْرَتِهِ الْمَتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْمُقدُوراتِ، وَ كُلَّ عِلْمٍ مُسْتَغْرِقَاً فِي‌ عِلْمِهِ الَّذِي‌ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ شَي‌ءٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَ كُلَّ إرَادَةٍ مُسْتَغْرِقَةً فِي‌ إرَادَتِهِ الَّتِي‌ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَأبَّي‌' عَلَيْهَا شَي‌ءٌ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ.

 بَلْ كُلُّ وُجُودٍ وَ كُلُّ كَمَالِ وجودٍ فَهُوَ صَادِرٌ عَنْهُ فَائِضٌ مِنْ لَدُنْهُ. صَارَ الْحَقُّ حِينَئذٍ بَصَرَهُ الَّذِي‌ بِهِ يُبْصِرُ، وَ سَمْعَهُ الَّذِي‌ بِهِ يَسْمَعُ، وَ قُدْرَتَهُ الَّتِي‌ بِهَا يَفْعَلُ، وَ عِلْمَهُ الَّذِي‌ بِهِ يَعْلَمُ، وَ وُجُودَهُ الَّذِي‌ بِهِ يُوجَدُ.

 فَصَارَ الْعَارِفُ حِينَئذٍ مُتَخَلِّقَاً بِأَخْلاَقِ اللَهِ تَعإلی‌ بِالْحَقِيقَةِ.[11]

 و باعتبار أنّ أباعلی يقول‌ في‌ نفس‌ النَمَط‌ في‌ الفصل‌ الواحد والعشرين‌:

 اَلْعَارِفُ هَشٌّ بَشٌّ،[12] بَسَّامٌ، يُبَجِّلُ الْصَّغِيرَ مِنْ تَوَاضُعِهِ كَمَا يُبَجِّلُ الْكَبِيرَ وَ يَنْبَسِطُ مِنَ الْخَامِلِ مِثْلَ مَا يَنْبَسِطُ مِنَ النَّبِيهِ.

 وَ كَيْفَ لاَيَهِشُّ وَ هُوَ فَرْحَانٌ بِالْحَقِّ، وَ بِكُلِّ شَي‌ءٍ، فَإنَّهُ يَري‌' فِيهِ الْحَقَّ؟ وَ كَيْفَ لاَ يُسَوِّي‌، وَالْجَمِيعُ عِنْدَهُ سَواسِيَّةٌ، أَهْلُ الرَّحْمَةِ قَدْ شُغِلُوا بِالْبَاطِلِ؟[13]

 فيقول‌ المرحوم‌ الخواجه‌ نصير الدين‌ في‌ شرح‌ هذه‌ الفقرات‌:

 وَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ، أَعْنِي‌ الْهَشَاشَةَ الْعَامَّةَ وَ تَسْوِيَةَ الْخَلْقِ فِي‌ النَّظَرِ، أَثَرانِ لِخُلْقٍ وَاحِدٍ، يُسَمّي‌' بِالرِّضَا، وَ هُوَ خُلْقٌ لاَ يَبْقَي‌' لِصَاحِبِهِ إنْكَارٌ علی' شَي‌ءٍ، وَ لاَ خَوْفٌ مِنْ هُجُومِ شَي‌ءٍ، وَ لاَ حُزْنٌ علی' فَوَاتِ شَي‌ءٍ، وَ إلَيْهِ أَشَارَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَ رِضْوَانٌ مِنَ اللَهِ أَكْبَرُ؛ وَ مِنْهُ تَبَيَّنَ تَأوِيلُ قَوْلِهِمْ: خَازِنُ الْجَنَّةِ مَلَكٌ اسْمُهُ رِضْوَانٌ.[14]

 الرجوع الي الفهرس

لا سلطان‌ للشيطان‌ علی أولياء الله‌

 أجل‌، فلانّ أولياء الله‌ قد قطعوا جذور ولايتهم‌ بالشيطان‌ و ارتبطوا بالله‌ سبحانه‌، لذلك‌ فليس‌ للشيطان‌ قدرة‌ للتصرّف‌ في‌ قواهم‌ المتخيّلة‌. يقول‌ سبحانه‌ في‌ الآيتين‌ 99 و 100 من‌ سورة‌ النحل‌:

 إِنَّهُ و لَيْسَ لَهُ سُلْطَـ'نٌ علی الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ علی' رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـ'نُهُ و علی الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ و وَالَّذِينَ هُم‌ بِهِ مُشْرِكُونَ.

 و يقول‌ في‌ الآية‌ 82 و 83 من‌ السورة‌ ص‌:

 فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.

 «المخلَصُون‌» هم‌ أولياء الله‌، و من‌ صفاتهم‌ و خصائصهم‌ طيّهم‌ سكرات‌ الموت‌ و عالم‌ القبر و البرزخ‌ و عالم‌ الحشر و النشر و القيامة‌ والصراط‌ و الميزان‌ و العرض‌ و السؤال‌ و الجنّة‌ و النار في‌ هذه‌ الدنيا، وتخطّيهم‌ جميع‌ هذه‌ المراحل‌ فيها.

 فلم‌ يكونوا ـ بغير ذلك‌ العبور ـ ليصلوا إلی‌ مقام‌ الولاية‌ الملازم‌ لمقام‌ الخلوص‌ و في‌ هذه‌ الحالة‌ فليس‌ هناك‌ من‌ معنيً للعذاب‌ عند الموت‌ أو بعده‌.

 فالعذاب‌ الذي‌ يراه‌ الإنسان‌ عند سكرات‌ الموت‌ أو في‌ القبر أو في‌ سؤال‌ منكر و نكير، أو في‌ البرزخ‌ المثالي‌، أو في‌ القيامة‌ الكبري‌ عند الحشر و العرض‌ و السؤال‌ و الصراط‌ و الميزان‌ و الجحيم‌، إنـّما يراه‌ نتيجة‌ أعماله‌ السيّئة‌ التي‌ اجترحها، و التي‌ قام‌ بها باتّباعه‌ السي‌ّء لنفسه‌ الامّارة‌ بالسوء.

 أمّا أولياء الله‌ الذين‌ و صلوا إلی‌ مرحلة‌ عالية‌ من‌ الطهارة‌ و النزاهة‌، فمن‌ المحال‌ أن‌ يصدر منهم‌ عمل‌ قبيح‌ و سيّء. فقد حاسبوا أنفسهم‌ في‌ الدنيا، و راجعوا صحائف‌ أعمالهم‌ فيها، و وضعوا أقدامهم‌ علی طريق‌ التزكية‌ و التهذيب‌، و عبروا من‌ عالم‌ الصورة‌ و المثال‌، و تخطّوا النفس‌ والقيامة‌ الكبري‌، فارتبطوا مع‌ الملائكة‌ السماويين‌ و مع‌ الارواح‌ المطهّرة‌ للانبياء و الائمّة‌ عليهم‌ السلام‌، و وصلوا إلی‌ معدن‌ العظمة‌ و العلم‌ و القدرة‌ والحياة‌، أي‌ إلی‌ الذات‌ المقدّسة‌ للحقّ جلّ و علا، فوصلوا إلی‌ مرحلة‌ من‌ الوجدان‌ و التحقّق‌ بحيث‌ لا يطرأ عليهم‌ هناك‌ خوفٌ و لا حزن‌:

 أَلاَ إنَّ أَوْلِيآءَ اللَهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.

 إنّ الخوف‌ و الحزن‌ ينشآن‌ لدي‌ الإنسان‌ من‌ شي‌ء قد تعلّق‌ به‌ ويحتمل‌ فقدانه‌ في‌ المستقبل‌، فهو يخشي‌ ضياعه‌ من‌ يده‌، و الخوف‌ والحزن‌ ينشآن‌ من‌ شي‌ء تعلّق‌ به‌ الإنسان‌ قبلاً ثمّ فقده‌، فهو محزون‌ مغموم‌ لفقده‌.

 كما أنّ جميع‌ أفراد البشر بالنظر لابتلائهم‌ بالعلائق‌ المادّيّة‌ والاعتبارات‌ الحيويّة‌ الدنيويّة‌ و بناء حياتهم‌ علی أساس‌ من‌ المصالح‌ الشخصيّة‌ و الاُمنيات‌ الخياليّة‌، فإنـّهم‌ يعيشون‌ دوماً في‌ خوف‌ و حزن‌، حيث‌ لا تنقضي‌ عليهم‌ أيّ لحظة‌ إلاّ و أحاطهم‌ فيها الاضطراب‌ و الحيرة‌ من‌ جهة‌، و الحزن‌ و الغمّ من‌ جهة‌ أُخري‌، و إذا ما صرفوا أذهانهم‌ عن‌ ذلك‌ أحياناً بسبب‌ بعض‌ المشاغل‌ و الاعمال‌، فإنّ ذلك‌ الخوف‌ و الحزن‌ سيكمن‌ في‌ نفس‌ الوقت‌ في‌ أذهانهم‌ ليبرز من‌ جديد بمجرّد ارتفاع‌ الموانع‌ فيجعل‌ الإنسان‌ في‌ محنة‌ و مرارة‌.

 و هكذا فإنّ الإنسان‌ لن‌ يستطيع‌ بأيّ وجه‌ أن‌ يفعل‌ شيئاً لاستئصال‌ أساس‌ مادّة‌ الخوف‌ و الحزن‌ من‌ وجوده‌ ليعيش‌ دوماً في‌ سرور و ابتهاج‌، وجميع‌ اللذائذ و دواعي‌ الانشراح‌ التي‌ يُتمتع‌ بها في‌ الدنيا يفعلها الإنسان‌ لسبب‌ واحد هو صرف‌ نفسه‌ عن‌ ذلك‌ الهمّ و الغمّ، و بمجرّد ارتوائه‌ من‌ تلك‌ اللذة‌ فإنّ ذلك‌ الخوف‌ و الحزن‌ المختفي‌ سيطفو من‌ جديد في‌ شعوره‌ فيُزعجه‌ و يُقلقه‌.

 و علّة‌ هذا الامر أنّ للإنسان‌ علائق‌ في‌ عالم‌ الحيو'ة‌ الدنيا و معيشته‌، وباعتبار دوران‌ عالم‌ الدنيا علی محور المادّة‌ و الطبع‌، و لانّ المادّة‌ دائماً في‌ شُرف‌ التغيّر و التحوّل‌ و الحدوث‌ و الفساد، لذا فإنّ العلائق‌ القلبيّة‌ للإنسان‌ ستكون‌ هي‌ الاُخري‌ عُرضة‌ لهذا التغيّر و التبدّل‌، فيغوص‌ الإنسان‌ بفقدان‌ ما يحبّ في‌ عالم‌ الحزن‌، و يلفّه‌ الخوف‌ و القلق‌ من‌ احتمال‌ فقدانه‌ في‌ المستقبل‌.

 أمّا أولياء الله‌ الذين‌ وصلوا مرحلة‌ الخلوص‌، فقد نفضوا أيديهم‌ من‌ هذه‌ العلائق‌، فلم‌ يَعُدْ تغيّر الزمان‌ و المكان‌ و الآثار الاُخري‌ للمادّة‌ ليؤثّر في‌ أفكارهم‌.

 لا أن‌ يكونوا قد خرجوا من‌ الدنيا بأبدانهم‌ و صانوا أنفسهم‌ من‌ تلاعب‌ الحوادث‌ المؤلمة‌، بل‌ أنـّهم‌ قد أخرجوا قلوبهم‌ من‌ محبّةِ الدنيا، ونصبوا خيامهم‌ في‌ حرم‌ القدس‌ و حريم‌ الامان‌ الإلهي‌، و حطّوا رحالهم‌ في‌ ذلك‌ الفِناء.

 أُولئكم‌ الذين‌ التحقوا من‌ الجزئيّة‌ بالكلّيّة‌، و نزحوا من‌ عالم‌ الغرور إلی‌ الحقّ، والتحقوا من‌ الاُمور المنقضية‌ المتصرّمة‌ إلی‌ الابديّة‌، فأخرجوا قلوبهم‌ من‌ العالَمين‌ و شدّوا رحالهم‌ و وردوا في‌ بحر عظمة‌ و قدرة‌ الحقّ جلّ و علا، فصاروا بمنزلة‌ البحر، و صار وجودهم‌ واسعاً و عبروا الحدود والمحدوديّة‌.

 و لو اغترف‌ أحد من‌ البحر غَرفة‌ أو أضاف‌ اليه‌ قليلاً من‌ الماء لما تأثّرت‌ كميّة‌ الماء و لا كيفيّتة‌، أمّا لو أُضيف‌ ذلك‌ القدر من‌ الماء إلی‌ قَدَر محدود، كقربةٍ أو قدح‌، أو أُنقص‌ منه‌ ذلك‌ القدر، لكانت‌ الزيادة‌ والنقصان‌ فيه‌ مشهودتين‌ ظاهرتين‌.

 و مادام‌ الإنسان‌ يهبط‌ نفسه‌ متسافلاً في‌ حدود عالم‌ الطبع‌ و المادّة‌، ومادام‌ يحصر علاقاته‌ و ارتباطاته‌ فيها، فإنّ وجوده‌ سيكون‌ أشبه‌ بوعاء صغير محدود، بحيث‌ إذا أصابته‌ فاجعة‌ كفقدان‌ زوجةٍ أو ولدٍ أو مالٍ أو عشيرةٍ أو أقارب‌ أو جاهٍ و اعتبار، فإنّه‌ يري‌ نفسه‌ محزوناً خائفاً بظهور علائم‌ تُنذر بفقدهم‌ في‌ المستقبل‌. أولياء الله‌ هم‌ وحدهم‌ الذين‌ أخرجوا أنفسهم‌ من‌ جميع‌ مراحل‌ و منازل‌ الطبع‌ و المادّة‌ و آثارها و تعلّقاتها، فسافروا إلی‌ عالم‌ التجرّد و الملكوت‌، و صاروا كالبحر، و صار وجودهم‌ متعدّد الجوانب‌، بحيث‌ لم‌ يعد يظهر فيهم‌ تزلزل‌ أو تغيّر بفقدان‌ هذه‌ الاُمور في‌ الماضي‌ أو باحتمال‌ فقدانها في‌ المستقبل‌، و لم‌ يعد الخوف‌ و الحزن‌ يرتسم‌ علی طلعتهم‌ و سيماهم‌. و هذا هو معني‌ سعة‌ النفس‌ و خروجها من‌ المحدوديّة‌، السعة‌ التي‌ بيّنها العلی الاعلی في‌ القرآن‌ الكريم‌، و التي‌ دعاها أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ في‌ تفسيره‌ الكلام‌ الإلـ'هي‌ بمعني‌ الزهد:

 الرجوع الي الفهرس

معني‌ الزهد في‌ تعبير القرآن‌ الكريم‌

 الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: لِّكَيْلاَ تَأسَوْا علی' مَا فَاتَكُمْ وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَـ'كُمْ.

 وَ مَنْ لَمْ يَأْسَ علی' الْمَاضِي‌، وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالآتِي‌ فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ.[15]

 مَن‌ هم‌ أولياء الله‌؟ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ، أي‌ الذين‌ آمنوا وتمسّكوا بالتقوي‌ سابقاً، أي‌ الذين‌ آمنوا و عملوا علی الدوام‌ علی أساس‌ ذلك‌  الإیمان فصاروا متّقين‌؛ ذلك‌  الإیمان و التقوي‌ سبباً لاءيمانٍ و تقوي‌ أفضل‌، و صارت‌ كلّ درجة‌ من‌ درجات‌  الإیمان و التقوي‌ سبباً دائماً يبعث‌ علی شدّة‌ و قوّة‌ الاُخري‌ حتّي‌ يصل‌  الإیمان فعلاً إلی‌ أعلی درجاته‌ و تصير درجات‌ التقوي‌ السابقة‌ باعثاً علی ظهور إيمان‌ كهذا.

 ورد في‌ الآيتين‌ 10 و 11 من‌ سورة‌ الصفّ:

 يَـا'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ علی' تِجَـ'رَةٍ تُنْجِيكُم‌ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَهِ وَ رَسُولِهِ.

 و جاء في‌ الآية‌ 136 من‌ سورة‌ النساء:

 يَـا'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآ ءَامِنُوا بِاللَهِ وَ رَسُولِهِ.

الرجوع الي الفهرس

البشري‌ لاولياء الله‌ هي‌ غير البشري‌ للآخرين‌  

 و يتّضح‌ أنّ للاءيمان‌ درجات‌ و مراتب‌، و أنـّه‌ ينبغي‌ الارتقاء من‌ مراتبه‌ الاُولي‌ لنيل‌ درجاته‌ العالية‌، و أنّ هذا  الإیمان غير  الإیمان السابق‌،  الإیمان الذي‌ استأصل‌ كلّيّاً الشرك‌ بالله‌ من‌ زوايا القلب‌ و أدّي‌ إلی‌ طلوع‌ نور التوحيد بتمام‌ معني‌ الكلمة‌ في‌ القلب‌ و الوجدان‌، و بناءً علی هذا المعني‌ قال‌ سبحانه‌:

 الَّذينَ ءَامَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ (و لم‌ يقل‌: الَّذينَ ءَامَنُوا وَ اتَقَّواْ).

 لَهُمُ الْبُشري‌' فِي‌ الْحَيَو'ةِ الدُّنَيا وَ فِي‌ الاْخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلَمَـ'تِ اللهِ ذَ ' لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

 لهم‌ البُشري‌ في‌ هذه‌ الدنيا بالاُمور الحقيقيّة‌، بسكِينة‌ الخاطر والطمأنينة‌، و باطمئنان‌ القلب‌، و بالتمتّع‌ و التنعّم‌ بالمواهب‌ الإلهِيّة‌ والإفادة‌ الحقّة‌ من‌ المواهب‌ الإلهِية‌، فهم‌ يُبشّرون‌ بالرضوان‌، و باللقاء والاُنس‌ بأرواح‌ الانبياء و الائمّة‌ و الملائكة‌، و بالوصول‌ إلی‌ الاسماء والصفات‌ الكلّيّة‌ للخالق‌، و يبشّرون‌ بلقاء الحضرة‌ الاحديّة‌ و الفناء في‌ ذات‌ الله‌ المقدّسة‌، و بطلوع‌ مقام‌ التوحيد بتمام‌ مراتبه‌ و درجاته‌؛ كما يبشّرون‌ في‌ الآخرة‌ بالجنّة‌ و الخلود و المغفرة‌ و العبور من‌ الصراط‌، وبالنعيم‌ و الكوثر والشفاعة‌ و اللحوق‌ بأرواح‌ الانبياء و مصاحبة‌ الاطهار والسابقين‌، و بمقام‌ أمن‌ و سلام‌ و جمال‌ الباري‌ تعإلی‌ شأنه‌.

 و من‌ جهة‌ أُخري‌' يقول‌ في‌ الآية‌ 30، من‌ السورة‌ فصّلت‌ (السجدة‌):

 إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَهُ ثُمَّ اسْتَقَـ'مُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَـ'ئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي‌ كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.

 و هذه‌ البشارة‌ لا تعطي‌ للافراد ـ الذين‌ ثبتوا علی  الإیمان ـ في‌ الدنيا، بل‌ تعطي‌ لهم‌ عند الموت‌، لذا فإنّها ليست‌ كمثل‌ الآية‌ مورد البحث‌ «أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ».

 و ذلك‌ لانّ البشارة‌ إنـّما تتعلّق‌ بأمر حتميّ الوقوع‌، أمّا حين‌ تتعلّق‌ بأمر يحتمل‌ تحقّقه‌ أو عدم‌ تحقّقه‌ فلا يُقال‌ لها بشارة‌.

 و علی سبيل‌ المثال‌ فلو كانت‌ زوجة‌ إنسان‌ حاملاً بطفل‌ يمكن‌ أن‌ يكون‌ ولداً أو بنتاً، فلا يُقال‌ له‌: نبشّركم‌ بولد أنعم‌ الله‌ عليكم‌ به‌؛ أمّا حين‌ يولد الولد فعلاً فإنـّه‌ يقال‌ له‌: نبشّركم‌ أنّ الله‌ قد منّ عليكم‌ بولد ذكر.

 و هكذا حال‌ الإنسان‌، فما دام‌ لم‌ يصل‌ بعدُ إلی‌ مرحلة‌ الولاية‌ أو إلی‌ مرحلة‌ الموت‌، فإنّ طريقه‌ ليس‌ باتّجاه‌ واحدٍ مُعيّن‌، بل‌ إنّه‌ سيكون‌ علی الدوام‌ في‌ منازعة‌ لاختيار الحسن‌ أو السيّء، و السعادة‌ أو الشقاء، و الجنّة‌ أو النار؛ و عليه‌ فإنّ البشارة‌ بدخول‌ الجنّة‌، أو البشارة‌ بإزالة‌ الخوف‌ والحزن‌ والغمّ و القلق‌ بالنسبة‌ إليه‌ ستكون‌ بلا معني‌.

 إنّ البشارة‌ لاولياء الله‌ الذين‌ استقرّوا في‌ حرم‌ السكون‌ الإل'هِي‌ّ، والذين‌ شدّ الخوف‌ و الحزن‌ رحالهما عن‌ أعماق‌ كيانهم‌ ستكون‌ بشارة‌ صحيحة‌، سواءً كانت‌ البشارة‌ في‌ الدنيا أو في‌ الآخرة‌؛ و لمّا أصبح‌ شأنهم‌ ثابتاً حيث‌ لا رجعة‌ فيه‌، و لم‌ يعد للشيطان‌ فيهم‌ مطمع‌ بعد ورودهم‌ في‌ عالم‌ الخلوص‌.

 أمّا بالنسبة‌ لغير أولياء الله‌، فإنـّهم‌ مهما امتلكوا  الإیمان، و مهما ثبتوا علی إيمانهم‌ هذا و خطوا في‌ هذا المجال‌ بقدم‌ راسخة‌، إلاّ أنـّهم‌ ـ في‌ الوقت‌ نفسه‌ ـ لم‌ يصلوا بعدُ إلی‌ مقام‌ الخلوص‌، و لم‌ يتبدّل‌ حالهم‌ إلی‌ السعادة‌ المحضة‌، و لم‌ يتخطّوا بعدُ أمر اختيار الخير أو الشرّ، فلم‌ يزل‌ احتمال‌ السعادة‌ و الشقاء، و دخول‌ الجنّة‌ أو النار أمراً ممكناً في‌ المستقبل‌. لذا فإنّ البشارة‌ في‌ الدنيا لا معني‌ لها بالنسبة‌ إليهم‌، و ينبغي‌ القول‌ بناءً علی هذه‌ القرينة‌ أنّ بشارة‌ الملائكة‌ لهم‌ ستكون‌ عند الموت‌، أي‌ حين‌ يخرجون‌ من‌ الاختيار فيتبدّل‌ الطريق‌ المزدوج‌ أمامهم‌ إلی‌ طريق‌ واحد لا عودة‌ فيه‌.

 و الشاهد الآخر علی أنّ هذه‌ البشارة‌ لهم‌ ستكون‌ عند الموت‌ ما جاء في‌ الآية‌ الشريفة‌:

 وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي‌ كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.

 أي‌ أبشروا بالجنّة‌ التي‌ وُعدتم‌ بها في‌ الدنيا، و باعتبار أنـّهم‌ في‌ حال‌ الموت‌ أو قريباً من‌ الموت‌، فإنّ الدنيا تُعدّ منقضية‌ بالنسبة‌ إليهم‌، لذا يُقال‌ لهم‌ كُنتم‌ تُوعدون‌.

 أمّا بالنسبة‌ لاولياء الله‌ فإنـّهم‌ قد بُشّروا في‌ الدنيا، لانـّهم‌ و صلوا فيها إلی‌ مقام‌ الولاية‌ فأزيل‌ عنهم‌ الخوف‌ و الحزن‌، أُولئكم‌ عباد متميّزون‌ عن‌ سائر العباد، عبادٌ خُتموا بخاتم‌ ولاية‌ الله‌ فصار أحدهم‌ يُدعي‌ بـ (ولي‌ّ الله‌)؛ و هذا المعني‌ من‌ الولاية‌ قد جري‌ بيانه‌ بدقّة‌ في‌ الكثير من‌ آيات‌ القرآن‌ الكريم‌، كالآيتين‌ 173 و 174 من‌ سورة‌ آل‌ عمران‌ اللتان‌ عبَّرتا عن‌ الولاية‌ بالنعمة‌:

 الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَـ'نًا وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللَهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَهِ وَ فَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُو´ءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَهِ وَاللَهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.

 الرجوع الي الفهرس

قصّة‌ غزوة‌ حمراء الاسد و المنّ بالولاية‌

 و إجمال‌ القصّة‌ كالآتي‌:

 لمّا انتهت‌ غزوة‌ أُحد و عاد رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ مع‌ أصحابه‌ إلی‌ المدينة‌، وانصرف‌ المسلمون‌ الجرحي‌ إلی‌ بيوتهم‌ للاستراحة‌ ولتضميد جراحهم‌، أرادَ النبي‌ّ أن‌ يُرهب‌ المشركين‌ و يُريهم‌ من‌ نفسه‌ وأصحابه‌ قوّة‌ و سطوة‌ لئلاّ يطمع‌ المشركون‌ فيهم‌ و يرون‌ أنّ الاحري‌ بهم‌ مهاجمة‌ المدينة‌ المنوّرة‌ لقتل‌ رسول‌ الله‌ و أسر المسلمين‌؛ فندب‌ أصحابَه‌ الذين‌ اشتركوا في‌ غزوة‌ أُحد للخروج‌ في‌ طلب‌ المشركين‌.

 و كان‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ قد أُصيب‌ في‌ غزوة‌ أُحد بثمانين‌ جراحة‌، كان‌ معظمها بليغاً بحيث‌ احتاج‌ إلی‌ ضماد و إلی‌ وضع‌ فتائل‌ في‌ الجروح‌، و كانت‌ الجراح‌ تغطّي‌ بدنه‌ الشريف‌، و كان‌ قد انصرف‌ هو الآخر إلی‌ منزله‌ و انهمك‌ بتضميد جراحه‌ حين‌ دوّي‌ في‌ المدينة‌ منادي‌ رسول‌ الله‌ يندب‌ مُجاهدي‌ أُحد للخروج‌ في‌ طلب‌ المشركين‌.

 و لم‌ يدّخر المسلمون‌ وسعاً عن‌ تلبية‌ دعوة‌ رسول‌ الله‌ علی ما بهم‌ من‌ التعب‌ و النصب‌ من‌ الحرب‌، فاستعدّوا لملاحقة‌ الكفّار، و عقد رسول‌ الله‌ اللواء لاميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ و سلّمه‌ ايّاه‌، ثمّ توجّه‌ مع‌ أميرالمؤمنين‌ والمسلمين‌ إلی‌ حَمْراء الاسد ـ و هي‌ من‌ المدينة‌ علی بُعد ثمانية‌ أميال‌ ـ.

 و كان‌ مشركو قريش‌ من‌ الجانب‌ الآخر قد بلغوا الرَّوْحَاء ـ و هي‌ من‌ المدينة‌ علی ثلاثين‌ أو أربعين‌ ميلاً ـ، فلبثوا فيها و تأسّفوا لعدم‌ قتلهم‌ النبي‌ّ في‌ هذه‌ الغزوة‌، و كانوا يقولون‌: لاَ مُحَمَّدَاً قَتَلْتُمْ وَ لاَ الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ؛ وكانوا يستعدّون‌ لمهاجمة‌ المدينة‌ و يتشاورون‌ في‌ هذا الامر.

 فمرّ معبد الخُزاعيّ علی رسول‌ الله‌ في‌ حمراء الاسد، و كانت‌ خُزاعة‌ ـ مسلمهم‌ و كافرهم‌ ـ عيبة‌ رسول‌ الله‌ بتهامة‌، و صفقتهم‌ معه‌ لا يخفون‌ عنه‌ شيئاً، و معبد يومئذٍ مشرك‌، فقال‌: يا محمّد (صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌) و الله‌ لقد عزّ علينا إصابتك‌ في‌ قومك‌ و أصحابك‌، و لوددنا أنّ الله‌ كان‌ أعفاك‌ منهم‌. ثمّ خرج‌ من‌ عند رسول‌ الله‌ حتّي‌ لقي‌ أبا سفيان‌ و مَن‌ معه‌ بالروحاء، و كانوا قد أجمعوا علی الرجوع‌ إلی‌ رسول‌ الله‌ و قالوا: قد أصبنا حدّ أصحابه‌ و قادتهم‌ و أشرافهم‌ ثمّ رجعنا قبل‌ أن‌ نستأصلهم‌. فلمّا رأي‌ أبوسفيان‌ معبداً قال‌: ما وراك‌ يا معبد؟

 قال‌: محمّد قد خرج‌ في‌ أصحابه‌ يطلبكم‌ في‌ جمعٍ لم‌ أرَ مثله‌ قطّ يتحرّقون‌ عليكم‌ تحرّقاً.

 قال‌: ويلك‌ ما تقول‌؟ قال‌: فأنا والله‌ ما أراك‌ ترتحل‌ حتّي‌ تري‌ نواصي‌ الخيل‌.

 قال‌: فوالله‌ لقد أجمعنا الكرّة‌ عليهم‌ لنستأصلهم‌.

 قال‌ معبد: فأنا والله‌ أنهاك‌ عن‌ ذلك‌.

 فثني‌ ذلك‌ أبا سفيان‌ و من‌ معه‌ و فضّل‌ الانصراف‌ و الفرار إلی‌ مكّة‌، وقطع‌ وعداً لنعيم‌ بن‌ مسعود الاشجعيّ أن‌ يعطيه‌ أموالاً كثيرة‌ علی أن‌ يذهب‌ فيثبّط‌ محمّداً و أصحابه‌ عنهم‌، و أن‌ يُخبرهم‌ أنّ أباسفيان‌ و من‌ معه‌ قد أعدّوا العدّة‌ و هم‌ يتأهّبون‌ لمهاجمة‌ المدينة‌ لقتل‌ محمّد و أصحابه‌ وأسر فتيانهم‌ و استئصال‌ شأفتهم‌.

 و كان‌ نعيم‌ بن‌ مسعود من‌ منافقي‌ المدينة‌ ممّن‌ أسلم‌ ظاهراً، فأتي‌ المدينة‌ فخوّف‌ المسلمين‌ و سعي‌ في‌ تثبيط‌ عزائمهم‌ و فلّ هممهم‌ بكلماته‌ المخيفة‌، و في‌ تحذيرهم‌ و تخويفهم‌ من‌ سطوة‌ المشركين‌ من‌ أجل‌ صرفهم‌ عن‌ مهاجمة‌ الكفّار، إلاّ أنّ كلامه‌ لم‌ يُثمر شيئاً، فقد بقي‌ رسول‌ الله‌ وأميرالمؤمنين‌ عليهما السلام‌ مع‌ الاصحاب‌ الجرحي‌ راسخي‌ العزم‌، متوكّلين‌ علی ربّهم‌ قائلين‌: حَسْبُنا اللهُ وَ نِعْمَ الْوَكيل‌.

 الرجوع الي الفهرس

درجة‌ الولاية‌ و مقامها ملازم‌ لمقام‌ التوحيد

 و علی أثر هذا التفاني‌ و التضحية‌، و لتنصّلهم‌ من‌ إرادتهم‌ و اختيارهم‌ أمام‌ العدوّ و لتوكّلهم‌ علی ربّهم‌ و تفويضهم‌ أنفسهم‌ إليه‌، فقد أمسك‌ الله‌ زمام‌ تدبيرهم‌ بيده‌ و زاد من‌ إيمانهم‌ و أنعم‌ عليهم‌ بنعمته‌ و هي‌ مقام‌ الولاية‌:

 الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَـ'نًا وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللَهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ.

 و المقصود بـ «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ» أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ حامل‌ لواء الحرب‌؛ و كانت‌ الجراح‌ تغطّي‌ بدنه‌؛ مع‌ أصحاب‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ الاوفياء الصادقين‌. و المقصود بـ «النَّاسُ»: نعيم‌ بن‌ مسعود الاشجعيّ المنافق‌ المعروف‌. «اِنَّ النَّاسَ» أي‌ أبوسفيان‌ و مَن‌ معه‌، «قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» لمحاربتكم‌ و استئصالكم‌ «فَاخْشَوْهُمْ» و هابوهم‌ وانصرفوا عن‌ مقاتلتهم‌، «فَزَادَهُمْ إيمَانًا» و قوّةً و صلابة‌ «وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللَهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ» و هو المتصرّف‌ في‌ أُمورنا بإرادته‌ و اختياره‌.

 فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَهِ وَ فَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُو´ءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَهِ وَاللَهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.

 و لقد نصرالله‌ نبيّه‌ في‌ ذلك‌ الحال‌ بدون‌ أن‌ يمسّه‌ و من‌ معه‌ سوء من‌ عدوّهم‌ أو من‌ الجراح‌ التي‌ أصابتهم‌ في‌ غزوة‌ أُحد، فانقلبوا إلی‌ المدينة‌ بعافية‌ و رباطة‌ جأش‌ و قوّة‌ قلب‌ و إيمان‌ و فضل‌ و شرف‌ و شهرة‌ بين‌ الناس‌، و بإرعاب‌ قلوب‌ المشركين‌.[16]

 و بالطبع‌ فإنّ نعمة‌ الولاية‌ هذه‌ لم‌ تُوهب‌ لجميع‌ الصحابة‌ الذين‌ تحرّكوا مع‌ رسول‌ الله‌ إلی‌ حمراء الاسد، بل‌ خُصّ بها الافراد الذين‌ قالوا في‌ سرّهم‌ «حَسْبُنَا اللَهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ»، و يشهد علی هذا المعني‌ قوله‌ في‌ الآية‌ التي‌ سبقت‌ هذه‌ الآية‌:

 الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلهِ وَ الرَّسُولِ مِن‌ بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوا أَجْرٌ عَظِيمٌ.

 و يُلاحظ‌ هنا أنّ هذا الاجر العظيم‌ قد عيّن‌ لخصوص‌ أهل‌ الإحسان‌ والتقوي‌، و هم‌ الذين‌ و صفتهم‌ الآيات‌ التي‌ نتذاكر بها بأنـّهم‌ الذين‌ قالوا حَسْبُنَا اللهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ في‌ ذلك‌ الموقع‌ الشاقّ الحسّاس‌، و الذين‌ فوّضوا أنفسهم‌ لربّهم‌ و جعلوا إرادتهم‌ و اختيارهم‌ مندكّة‌ في‌ إرادة‌ الله‌، و هذا هو معني‌ الولاية‌.

 و قد ورد نظير هذا التعبير في‌ آخر آية‌ من‌ سورة‌ الفتح‌، حيث‌ بيّن‌ الله‌ سبحانه‌ هناك‌ صفات‌ الافراد التابعين‌ للنبيّ مفصّلاً، و يقول‌ في‌ آخرها:

 وَعَدَ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ مِنْهُمْ مَّغْفِرَةً وَ أَجْرًا عَظِيمًا.

 و من‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ الدالّة‌ علی معني‌ الولاية‌، الآيات‌ 27 ـ 29 من‌ سورة‌ إبراهيم‌:

 يُثَبِّتُ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي‌ الْحَيـو ' ةِ الدُّنْيَا وَ فِي‌ الاْخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَهُ الظَّـ'لِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَهُ مَا يَشَآءُ * أَلَمْ تَرَ إلی‌ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَهِ كُفْرًا وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئسَ الْقَرَارُ.

 و المراد بالقول‌ الثابت‌ هنا كلمة‌ التوحيد الثابتة‌ في‌ الدنيا و في‌ الآخرة‌ لانّ كلّ ما عدا التوحيد متزلزل‌، و كلّ ما عداه‌ قابل‌ للتغيير، و قابل‌ للترديد و التأمّل‌.

 أمّا القول‌ الثابت‌ في‌ الدنيا و الآخرة‌ فلا يقبل‌ التغيير، و هذه‌ الدرجة‌ من‌ التوحيد التي‌ تصبح‌ ظاهرة‌. تتلازم‌ مع‌ فقدان‌ اختيار الشخص‌ و إيكاله‌ أمره‌ بيد ربّ الارباب‌، وهذا هو معني‌ الولاية‌.

 ثمّ يقول‌: ألَم‌ تَرَ أُولئك‌ الذين‌ لم‌ يقبلوا هذه‌ الولاية‌ و هي‌ نعمة‌ الله‌، و لم‌ يقبلوا التوحيد، فاعتمدوا في‌ النتيجة‌ علی أنانيّتهم‌ و شخصيّتهم‌، و أبوا أن‌ يجعلوا خالق‌ العالمين‌ مدبّر أُمورهم‌، فكفروا في‌ النهاية‌ بالله‌ تعإلی‌ وبدّلوا تلك‌ النعمة‌ كفراً، فصار مقرّ هؤلاء و امثالهم‌ المستكبرين‌ دار البوار و جهنّم‌ المحرقة‌ التي‌ يصلونها.

 و عليه‌ فإنّ جميع‌ الافراد الذين‌ يمتلكون‌ مقام‌ الولاية‌ بعيدون‌ عن‌ تلاعب‌ الشيطان‌ بهم‌ و سلطانه‌ عليهم‌ و متخطّون‌ لمراحل‌ سكرات‌ الموت‌ والقبر و البرزخ‌ و القيامة‌، فقد طووا جميع‌ هذه‌ المراحل‌ في‌ الدنيا إثر مجاهدتهم‌ للنفس‌ الامّارة‌، و سيكون‌ مأواهم‌ عند الموت‌ في‌ الجنان‌ الموعودة‌ من‌ قبل‌ الربّ الودود بلا حساب‌ و لا كتاب‌.

يقول‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ في‌ علامات‌ و أوصاف‌ أولياء الله‌:

 إِنَّ أوْلِياءَ الله‌ [17] هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَي‌' بَاطِنِ الدُّنْيَا إذَا نَظَرَ النَّاسُ إلَي‌' ظَاهِرِهَا، وَاشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا، فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَن‌' يُمِتَهُمْ، وَ تَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ سَيَتْرُكُهُمُ، وَ رَأَوْا اسْتِكْثَارَ غَيْرِهِمْ مِنْهَا اسْتِقْلاَلاً، وَ دَرْكَهُمْ لَهَا فَوْتَاً، أَعْدَاءُ مَا سَالَمَ النَّاسُ، وَ سِلْمُ مَا عَادَي‌' النَّاسُ، بِهِمْ عُلِمَ الْكِتَابُ وَ بِهِ عُلِمُوا، وَ بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَ بِهِ قَامُوا، لاَ يَرَوْنَ مَرْجُوَّاً فَوْقَ مَا يَرْجُونَ، وَ لاَ مَخُوفَاً فَوْقَ مَا يَخَافُونَ.[18]  الرجوع الي الفهرس

خطبة‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ في‌ خصائص‌ و صفات‌ أولياء الله‌

 و كذلك‌ ورد له‌ عليه‌ السلام‌ كلامٌ في‌ نهج‌ البلاغة‌ في‌ تفسير الآية‌ المباركة‌:

 رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ'رَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَن‌ ذِكْرِ اللهِ، [19] حين‌ تلي‌ هذه‌ الآية‌، فقال‌: إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الذِّكْرَ جَلاَءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ،[20] وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ. وَ مَا بَرِحَ لِلَهِ ـ عَزَّتْ آلاَ'ؤُهُ ـ فِي‌ الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ وَ فِي‌ أَزْمَانِ الْفَتَراتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي‌ فِكْرِهِمْ، وَ كَلَّمَهُمْ فِي‌ ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَة‌ فِي‌ الاْسْمَاعِ وَالاْبْصَارِ وَ الاْفْئِدَةِ. يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَهِ، وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ بِمَنْزِلَةِ الاْدِلَّةِ فِي‌ الْفَلَوَاتِ. مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إلَيْهِ طَرِيقَهُ، وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَ مَنْ أَخَذَ يَمِينَاً وَ شِمَالاً ذَمُّوا إلَيْهِ الطَّرِيقَ، وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ.

 وَ إنَّ لِلذِّكْرِ لاَهْلاً أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلاً فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنهُ يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ، وَ يَهْتِفُونَ، وَ يَهْتِفُونَ بالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَهِ فِي‌ أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ. و يَأمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأتَمِرُونَ بِهِ، وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَنْهُ، فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُنْيَا إلی‌ الآخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا، فَشَاهَدُوا مَاوَرَاءَ ذَلِكَ.

 فَكَأَنَّما اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي‌ طُولِ الإقَامَةِ فِيهِ، وَ حَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهمِ عِدَاتِهَا، فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لاِهْلِ الدُّنْيَا، حَتَّي‌' كَأنـَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لا يَرَي‌' النَّاسُ، وَيَسْمَعُونَ مَا لاَ يَسْمَعُونَ.

 فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي‌ مَقَاوِمِهِمُ الْمَحُمودَةِ، وَ مَجَالِسِهُمْ الْمَشُهودَةِ، وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ، وَ فَرغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَنْ كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ أُمُرِوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا، أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فِيها.

 وَ حَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَارِهِمْ ظُهُورَهُمْ، فَضَعُفُوا عَنِ الاسْتِقْلاَلِ بِهَا، فَنَشَجُوا نَشِيَجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيبَاً. يَعُجُّونَ إلی‌ رَبِّهِمْ مِنْ مَقَاوِمِ نَدَمٍ وَاعْتِرافٍ، لَرَأَيْتَ أَعْلاَمَ هُدَيً، وَ مَصَابِيحَ دُجَيً، قَدْ حَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَئِكَةُ، وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ فِي‌ مَقَامٍ اطَّلَعَ اللَهُ عَلَيْهِمْ فيه‌ فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ.

 يَتَسَنَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ، رَهَائِنُ فَاقَةٍ إلَي‌' فَضْلِهِ، وَ أُسَارَي‌' ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ، جَرَحَ طُولُ الاْسَي‌' قُلُوبَهُمْ، وَ طُولُ الْبُكَآءِ عُيُونَهُمْ.

 لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إلَي‌' اللَهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ، يَسْألُونَ مَنْ لاَ تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ وَ لاَ يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونِ.

 فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَإنَّ غَيْرَهَا مِنَ الاْنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ.[21]

 والحقّ أنّ كلام‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ هذا في‌ حالات‌ أولياء الله‌ هو كتاب‌ حكمة‌ يحتاج‌ بيانه‌ إلی‌ كتاب‌ مبسوط‌، كما يتّضح‌ جليّاً من‌ التأمّل‌ في‌ فقراته‌، كيف‌ أنّ أولياء الله‌ يتوجّهون‌ إلی‌ الجنّة‌ مباشرة‌ بلا حساب‌ ولامناقشة‌ و لا سكرات‌ موت‌ و لا أهوال‌ قبر و لا برزخ‌ و لا قيامة‌، فقد صرفت‌ عنهم‌ كلّ هذه‌ الاُمور، لانـّهم‌ تجاوزوا جميع‌ هذه‌ العقبات‌ في‌ الدنيا.

 الرجوع الي الفهرس

كلام‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ في‌ شأن‌ أخ‌ له‌ في‌ الله‌

 كما يقول‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ في‌ وصف‌ حال‌ الصحابي‌ّ الكبير عثمان‌ بن‌ مظعون‌. [22]

 كَانَ لِي‌ فِيمَا مَضَي‌' أَخٌ[23] فِي‌ اللَهِ، وَ كَانَ يُعْظِمُهُ فِي‌ عَيْنِي‌ صِغَرُ الدُّنْيَا فِي‌ عَيْنِهِ، وَ كَانَ خَارِجَاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ، فَلاَ يَشْتَهِي‌ مَا لاَ يَجِدُ، وَ لاَ يُكْثِرُ إذَا وَجَدَ.

 وَ كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتَاً، فَإنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَ نَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ.

 وَ كَانَ ضَعِيفَاً مُسْتَضْعَفَاً فَإنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابً [24] وَصِلُّ وَادٍ، لايُدْلِي‌ بِحُجَّةٍ حَتّي‌' يَأتِيَ قِاضِياً.

 وَ كَانَ لاَ يَلُومُ أَحَدَاً عَلَيْ ما يَجِدُ الْعُذْرَ فِي‌ مِثْلِهِ حَتَّي‌' يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ.

 وَ كَانَ لاَ يَشْكُو وَجَعَاً إلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ. وَ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَقُولُ، وَ لاَ يَقُولُ مَا لاَ يَفْعَلُ. وَ كَانَ إذَا غُلِبَ [25] علی' الْكَلامِ لَمْ يُغْلَبْ علی' السُّكُوتِ.

 وَ كَانَ علی' مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ علی' أَنْ يَتَكَلَّمَ. وَ كَانَ إذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَيَّهُمَا أَقْرَبُ إلَي‌' الْهَوَي‌' فَخَالَفَهُ.

 فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخَلائِقِ فَالْزَمُوهَا وَ تَنَافَسُوا فِيهَا؛ فَإنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِير.[26]

 و هذه‌ الفقرة‌ من‌ كلام‌ أميرالمؤمنين‌ شبيهة‌ بكلام‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ القائل‌:

 وَ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ.[27]

 و يُستنتج‌ من‌ مجموع‌ هذه‌ المطالب‌ التي‌ ذُكرت‌ في‌ شأن‌ أولياء الله‌ أنـّهم‌ أفراد أوكلوا كلّ ثرواتهم‌ الوجوديّة‌ إلی‌ الله‌ سبحانه‌ و صاروا في‌ مرتبة‌ التسليم‌ الكلّيّ، و فوّضوا إليه‌ تعاليْ وجودهم‌ واختيارهم‌ حقّاً، فصاروا في‌ هذه‌ المرتبة‌ و الدرجة‌ مصونين‌ من‌ جميع‌ الحالات‌ التي‌ تعتري‌ الشخص‌ المحتضر، كما صاروا في‌ أمان‌ من‌ جميع‌ مراحل‌ السؤال‌ و عذاب‌ القبر والعرض‌ و عذاب‌ يوم‌ القيامة‌.

 الرجوع الي الفهرس

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ «الإرشاد» للمفيد، الطبعة‌ الحجرّية‌ سنة‌ 1285، ص‌ 250.

[2] ـ «الإرشاد» للمفيد، الطبعة‌ الحجريّة‌ سنة‌ 1285، ص‌ 251.

[3] ـ ضبط‌ في‌ بعض‌ النسخ‌ بلفظ‌ «يَكْرُدُ» و هو أيضاً بمعني‌ «يَطْرُدُ».

[4] ـ «تاريخ‌ الطبريّ»، طبع‌ مصر 1385 هـ، ص‌ 338 و 339.

[5] ـ «اللهوف‌» للسيّد ابن‌ طاووس‌، ص‌ 53.

[6] ـ و روي‌ حذّاء، أي‌ مُسرعة‌.

[7] ـ عدّ البعض‌ «ليرغب‌» فعل‌ أمر، و اعتبروه‌ مجزوماً إلاّ أنـّه‌ كُسِرَ لالتقاء ساكنين‌، فيكون‌ المعني‌ علی ذلك‌: علی المؤمن‌ ـ و الحال‌ هذه‌ ـ أن‌ يرغب‌ في‌ لقاء ربّه‌ محقّاً.

[8] ـ «اللهوف‌»، الطبعة‌ الحجريّة‌، ص‌ 69.

[9] ـ الآية‌ 30، من‌ السورة‌ 76: الإنسان‌؛ و الآية‌ 29، من‌ السورة‌ 81: التكوير.

[10] ـ أورد هذا الحديث‌ في‌ كتاب‌ «كلمة‌ الله‌» ص‌ 68، و قال‌ في‌ ص‌ 519 من‌ نفس‌ الكتاب‌ في‌ أصل‌ هذا الحديث‌: أوّلاً أورده‌ البرقيّ في‌ «المحاسن‌» عن‌ عبدالرحمن‌ بن‌ حمادة‌، عن‌ حنان‌ بن‌ سدير، عن‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌. و ثانياً ورد في‌ كتاب‌ «الكافي‌» لمحمّدبن‌ يعقوب‌ الكلينيّ، المجلّد الثاني‌، ص‌ 352 بثلاثة‌ أسناد، الاوّل‌: رواه‌ عن‌ أبي‌ علی الاشعريّ، عن‌ محمّد بن‌ عبد الجبار و عن‌ محمّد بن‌ يحيي‌، عن‌ أحمد بن‌ محمّد بن‌ عيسي‌، رويا كلاهما عن‌ ابن‌ فضال‌، عن‌ علی بن‌ عقبة‌، عن‌ حماد بن‌ بشير، عن‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌، عن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌. و الثاني‌: رواه‌ عن‌ جماعة‌ من‌ أصحابنا، عن‌ أحمد بن‌ محمّد ابن‌ خالد البرقيّ، عن‌ إسماعيل‌ بن‌ مهران‌، عن‌ أبي‌ سعيد القمّاط‌، عن‌ أبان‌ بن‌ تغلب‌، عن‌ الباقر عليه‌ السلام‌. و الثالث‌: رواه‌ عن‌ عدّة‌ من‌ أصحابنا، عن‌ سهل‌ بن‌ زياد، عن‌ الحسن‌ بن‌ محبوب‌، عن‌ هشام‌ بن‌ سالم‌، عن‌ المعلی بن‌ خنيس‌، عن‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌، عن‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌.

و قد ورد هذا الحديث‌ في‌ كتب‌ كثيرة‌، ورواه‌ العامّة‌ بألفاظ‌ مختلفة‌.

 يقول‌ المرحوم‌ الحاج‌ الميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ رضوان‌ الله‌ عليه‌ في‌ كتاب‌ «لقاء الله‌»: هذا الحديث‌ القدسي‌ّ متّفق‌ عليه‌ بين‌ جميع‌ أهل‌ الإسلام‌.

 و قد أورده‌ الغزاليّ في‌ «إحياء العلوم‌» كتاب‌ المحبّة‌ و الشوق‌ لله‌، المجلّد الرابع‌، ص‌ 263، و عدّه‌ العراقيّ في‌ هامش‌ تلك‌ الصفحة‌ من‌ حديث‌ البخاريّ عن‌ أبي‌ هريرة‌.

[11] ـ «شرح‌ الإشارات‌» بوعلی سينا، طبع‌ مصر، المجلّد الرابع‌، ص‌ 97 و 98؛ والطبعة‌ الحجريّة‌، 16 صفحة‌ قبل‌ آخر الكتاب‌.

[12] ـ الهشّ: الرخو اللين‌ من‌ كلّ شي‌ء. خبزة‌ هشّة‌: رخوة‌ المكسر. و يقال‌: فلانٌ هشّ المكسر، أي‌ سهل‌ الجانب‌ فيما يطلب‌ عنده‌ من‌ الحوائج‌.. وفلان‌ هشّ الوجه‌ أي‌ طلق‌ المحيّا.. و فَرَسٌ هشّ العنان‌ أي‌ خفيف‌ العنان‌؛ و أنا به‌ هشّ بشّ أي‌ فرح‌ مسرور «المنجد». وقد فسّر الخواجة‌ نصير «هشّ و بشّ» بـ «طلق‌ الوجه‌ طيّب‌».

[13] ـ «شرح‌ الإشارات‌»، بوعلی، طبع‌ مصر، المجلد الرابع‌، ص‌ 101 و 102؛ و الطبعة‌ الحجريّة‌ 15 صفحة‌ قبل‌ نهاية‌ الكتاب‌.

[14] ـ «شرح‌ الإشارات‌» بوعلی سينا، طبع‌ مصر، المجلّد الرابع‌، ص‌ 101 و 102؛ والطبعة‌ الحجريّة‌ 15 صفحة‌ قبل‌ نهاية‌ الكتاب‌.

[15] ـ «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌»، باب‌ الحكم‌، طبعة‌ محمّد عبده‌، مصر، ص‌ 238.

[16] ـ نقله‌ كثير من‌ المفسّرين‌، و من‌ جملتهم‌ «تفسير الميزان‌» المجلّد الرابع‌، ص‌ 65 ـ 77؛ تفسير مجمع‌ البيان‌، طبع‌ صيدا، المجلّد الاوّل‌، ص‌ 538 ـ 541؛ «تفسيرالبرهان‌» الطبعة‌ الحجريّة‌، المجلّد الاوّل‌، ص‌ 201؛ «تفسير أبي‌ الفتوح‌ الرازيّ» طبع‌ مظفري‌، المجلّد الاوّل‌، ص‌ 687 ـ 691، و طبع‌ إسلامي‌ تحقيق‌ آية‌ الله‌ الشعرانيّ، المجلّد الثالث‌، ص‌ 254 ـ 260؛ «تفسير بيان‌ السعادة‌» الطبعة‌ الحجريّة‌، ص‌ 171 و 172؛ «تفسير الصافي‌» طبع‌ إسلامي‌، المجلّد الاوّل‌، ص‌ 314 ـ 316؛ و «بحار الانوار» الطبعة‌ الكمباني‌، المجلّد السادس‌، ص‌ 506.

 كما نقله‌ كثير من‌ المؤرّخين‌، و من‌ جملتهم‌ الواقديّ في‌ كتاب‌ «المغازي‌»، تحقيق‌ مارسدن‌ جونس‌، المجلّد الاوّل‌، ص‌ 334 ـ 340؛ «روضة‌ الصفا»، المجلّد الثاني‌ تحت‌ عنوان‌ ذكر غزوة‌ حمراء الاسد و وقائع‌ السنة‌ الرابعة‌؛ «تاريخ‌ الخميس‌ في‌ أحوال‌ أنفس‌ نفيس‌» المجلّد الاوّل‌، ص‌ 447 ـ 449؛ «تاريخ‌ الطبريّ» طبع‌ مصر، مطبعة‌ الاستقامة‌ 1357 هجريّة‌، المجلّد الثاني‌ ص‌ 211 ـ 213؛ و «منتهي‌ الآمال‌» الطبعة‌ الرحليّة‌، علميّة‌ إسلاميّة‌، المجلّد الاوّل‌، ص‌ 47.

[17] ـ يقول‌ ابن‌ أبي‌ الحديد في‌ «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌»، المجلّد العشرون‌ في‌ الطبعة‌ ذات‌ العشرين‌ مجلّداً، ص‌ 438؛ و في‌ طبعة‌ الاُفست‌ ذات‌ المجلّدات‌ الاربعة‌: المجلّد الرابع‌، ص‌ 474: هذا ] أي‌ التعبيرات‌ التي‌ وصف‌ بها أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ أولياء الله‌ [ يصلح‌ أن‌ تجعله‌ الإماميّة‌ شرح‌ حال‌ الائمّة‌ المعصومين‌ علی مذهبهم‌، لقوله‌ «فوق‌ ما يرجون‌، بهم‌ علم‌ الكتاب‌ و به‌ علموا»؛ و أمّا نحن‌ فنجعله‌ شرح‌ حال‌ العلماء العارفين‌، و هم‌ أولياء الله‌ الذين‌ ذكرهم‌ عليه‌ السلام‌، لمّا نظر الناس‌ إلی‌ ظاهر الدنيا و زخرفها من‌ المناكح‌ و الملابس‌ والشهوات‌ الحسيّة‌، نظروا إلی‌ باطن‌ الدنيا فاشتغلوا بالعلوم‌ و المعارف‌ و العبادة‌ و الزهد في‌ الملاذّ الجسمانيّة‌.

 أقول‌: ليس‌ هناك‌ من‌ لزوم‌ في‌ أن‌ تعدّ الإماميّة‌ هذه‌ الصفات‌ منحصرة‌ في‌ الائمّة‌ الطاهرين‌، بالرغم‌ من‌ اتّصافهم‌ عليهم‌ السلام‌ بها و تحلّيهم‌ بشروطها علی أتمّ وجه‌ و أكمله، فقد وُجد و يوجد الكثير من‌ شيعتهم‌ و أتباعهم‌ المخلصين‌ ممّن‌ تنطبق‌ عليهم‌ هذه‌ المواصفات‌، و ممّن‌ وصلوا إلی‌ مرحلة‌ المخلَصين‌ و قطعوا كلّ أمل‌ لديهم‌ إلاّ في‌ الله‌ تعالي‌، و ممّن‌ عرفوا بالقرآن‌ و كانوا حُماته‌ حقّاً، لذا فإنّ ما نسبه‌ ابن‌ أبي‌ الحديد إلی‌ ذوق‌ الإماميّة‌ ومسلكهم‌ يبقي‌ محلّ إشكال‌ و إيراد.

[18] ـ «نهج‌ البلاغة‌»، أواخر باب‌ الحكم‌، طبعة‌ محمّد عبدة‌، مصر، ص‌ 237.

[19] ـ الآية‌ 37، من‌ السورة‌ 24: النور.

[20] ـ ضبطها ابن‌ أبي‌ الحديد بالفتح‌.

[21] ـ «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌»، طبعة‌ محمد عبده‌ مصر، المجلّد الاوّل‌ ص‌ 446 ـ 448؛ و «شرح‌ النهج‌» للملاّ فتح‌ الله‌ الكاشيّ، ص‌ 361 ـ 363، الخطبة‌ 250.

[22] ـ أورد كبار أهل‌ الحديث‌ و التاريخ‌ و التراجم‌ ترجمة‌ عثمان‌ بن‌ مظعون‌ و شرح‌ أحواله‌، و نذكر هنا ما أوردته‌ ثلاثة‌ كتب‌ في‌ ترجمته‌ (كما أنّ ابن‌ حجر العسقلانيّ ذكر ما ننقله‌ في‌ كتاب‌ «الإصابة‌»، المجلّد الثاني‌، ص‌ 457 ):

 الاوّل‌: من‌ كتاب‌ «الطبقات‌» لابن‌ سعد، المجلّد الثالث‌، ص‌ 393.

 الثاني‌: من‌ كتاب‌ «الاستيعاب‌»، المجلّد الثالث‌، ص‌ 1053.

 الثالث‌: من‌ كتاب‌ «أُسد الغابة‌»، المجلّد الثالث‌، ص‌ 385.

 و الخلاصة‌ فقد كان‌ عثمان‌ بن‌ مظعون‌ أحد أصحاب‌ رسول‌ الله‌ الكبار الاوفياء، و قد آمن‌ في‌ مكّة‌ المكرّمة‌ برسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ بعد ثلاثة‌ عشر نفر، و هاجر الهجرتين‌ إلی‌ الحبشة‌ وا لمدينة‌، و كان‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ قد آخي‌ بينه‌ و بين‌ أبي‌ الهيثم‌ ابن‌ التَّيَّهان‌. حضر غزوة‌ بدر، ثمّ توفّي‌ في‌المدينة‌ في‌ شهر شعبان‌ لثلاثين‌ شهراً من‌ هجرة‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌، و هو أوّل‌ مَن‌ توفّي‌ من‌ المهاجرين‌ في‌ المدينة‌. و قد اختار رسول‌ الله‌ أرض‌ بقيع‌ الغرقد لدفن‌ المؤمنين‌، فكان‌ أوّل‌ مَن‌ دُفن‌ فيها عثمان‌ بن‌ مظعُون‌. ثمّ أمر رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و اًله‌ أن‌ تدفن‌ ابنته‌ زينب‌ (أو رقيّة‌) قرب‌ قبره‌، ثم‌ خاطب‌ ابنته‌ المتوفّاة‌ حديثاً بقوله‌:

 إلحقي‌ بسَلَفِ الصالح‌ عثمان‌ بن‌ مظعون‌.

 و قال‌ عن‌ ولده‌ الصغير ابراهيم‌ حين‌ توفّي‌:

 ادفنوه‌ جنب‌ سلفنا الصالح‌ عثمان‌ بن‌ مظعون‌.

 و قال‌ حين‌ مرّ علی جنازة‌ عثمان‌ بن‌ مظعون‌: ï ïذهبتَ و لم‌ تلبّس‌ منها بشي‌ء. (عبارة‌ الطبقات‌).

 و خرجتَ منها و لم‌ تلبّس‌ منها بشي‌ء. (عبارة‌ أُسد الغابة‌).

[23] ـ اختلف‌ شُرّاح‌ النهچ‌ في‌ المُشار إليه‌ بـ (الاخ‌)؛ يقول‌ ابن‌ ميثم‌ البحرانيّ في‌ا لمجلّد الخامس‌ من‌ شرح‌ النهج‌، ص‌ 390، و الملاّ فتح‌ الله‌ الكاشيّ ص‌ 581: إنّ المراد به‌ أبوذر الغفاريّ. و قال‌ بعضٌ: إنّ المراد به‌ عثمانُ بن‌ مظعون‌. و يقول‌ ابن‌ ابي‌ الحديد في‌ المجلّد 19 ص‌ 183 و 184 من‌ الشرح‌:

 قال‌ قومٌ: هو رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌، واستبعده‌ قومٌ لقوله‌ (و كان‌ ضعيفاً مستضعفاً)، فإنّ النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌، لا يُقال‌ في‌ صفاته‌ مثل‌ هذه‌ الكلمة‌. و قال‌ قوم: هو أبوذر الغفاريّ؛ وا ستبعده‌ قوم‌ لقوله‌ «فإن‌ جاء الجدُّ فهو ليثٌ عادٍ و صلُّ وادٍ»، فإنّ أباذر لم‌ يكن‌ من‌ الموصوفين‌ بالشجاعة‌ و المعروفين‌ بالبسالة‌. و قال‌ قوم‌: هو المقداد بن‌ عمرو المعروف‌ بالمقداد بن‌ الاسود، و كان‌ من‌ شيعة‌ علی عليه‌ السلام‌ المخلصين‌، و كان‌ شجاعاً مجاهداً حسن‌ الطريقة‌، و قد ورد في‌ فضله‌ حديثٌ صحيحٌ مرفوع‌. و قال‌ قوم‌: إنـّه ليس‌ بإشارة‌ إلی‌ أخٍ معيّن‌، و لكنّه‌ كلام‌ خارج‌ مخرج‌ المثل‌، و عادة‌ العرب‌ جارية‌ بمثل‌ ذلك‌، مثل‌ قولهم‌ في‌ الشعر «فقلتُ لصاحبي‌» و «يا صاحبي‌»؛ ثمّ يقول‌: و هذا عندي‌ أقوي‌ الوجوه‌.

 و أمّا في‌ شرح‌ نهج‌ البلاغة‌ للخوئيّ، فقد نقل‌ الشارح‌ آقا ميرزا محمّد باقر كمره‌اي‌ في‌ كلامه‌: هذه‌ العبارة‌ عن‌ ابن‌ أبي‌ الحديد، و أضاف‌: إنّ ابن‌ ميثم‌ قد أضاف‌ عثمان‌ بن‌ مظعون‌ إلی‌ الجماعة‌ المحتملين‌ الذين‌ ذُكروا، ثمّ قال‌: و إذا ما صحّ احتمال‌ ابن‌ أبي‌ الحديد فإنّ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ ينبغي‌ عدّه‌ مبتكر فنّ كتابة‌ القصّة‌ الحديثة‌ (الفنّ الرومانطيقي‌) والروايات‌ التمثيليّة‌.

 أقول‌: لم‌ أجد زيادة‌ عثمان‌ بن‌ مظعون‌ في‌ شرح‌ ابن‌ ابي‌ الحديد، لا في‌ طبعة‌ الاُفست‌ بيروت‌ ذات‌ العشرين‌ مجلّداً، و لا في‌ الطبعة‌ ذات‌ المجلّدات‌ الاربع‌ ج‌ 4، ص‌ 379.

[24] ـ أورده‌ في‌ نسخة‌ نهج‌ البلاعة‌ للملاّ فتح‌ الله‌ بلفظ‌ «وليثٌ غادٍ» أي‌: غاضب‌ مُسرع‌، و قال‌: و قد رُوي‌ أيضاً بلفظ‌ «و ليثٌّ عادٍ» بالعين‌ المهملة‌ المشتقّة‌ من‌ عدد، و قد رواه‌ ابن‌ ابي‌ الحديد أيضاً بالعين‌ المهملة‌. أمّا في‌ «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌» لابن‌ ميثم‌ البحرانيّ و لمحمّد عبده‌ فقد روياه‌ بلفظ‌ «ليثُ غابٍ».

[25] ـ ورد في‌ نسخة‌ ابن‌ ميثم‌ و ابن‌ أبي‌ الحديد و الملاّ فتح‌ الله‌ و شرح‌ الخوئيّ الذي‌ أتمّه‌ الكمره‌اي‌: «و كان‌ إذا غُلِبَ علی الكلام‌ لم‌ يُغْلَبْ علی السكوت‌»؛ أمّا في‌ شرح‌ النهج‌ لمحمّد عبدة‌ فقد أورد هذين‌ الفعلين‌ علی صيغة‌ المعلوم‌: «و كان‌ إذا غَلَبَ علی الكلام‌ لم‌ يَغْلِبْ علی السكوت‌». إلاّ أنّ الرواية‌ الاُولي‌ أنسب‌.

[26] ـ «شرح‌ نهج‌ البلاغة‌» عبدة‌، طبع‌ مصر، المجلّد الثاني‌، ص‌ 205 و 206.

[27] ـ أورد الغزاليّ هذا الحديث‌ في‌ «إحياء العلوم‌» الباب‌ العشرين‌، من‌ آفات‌ اللسان‌، المجلّد الثالث‌، ص‌ 141.

 و أصل‌ الحديث‌: «ذروني‌ ما تركتكم‌ فإنّما هلك‌ مَن‌ كان‌ قبلكم‌ بكثرة‌ سؤالهم‌ ï ïواختلافهم‌ علی أنبيائهم‌، ما نهيتُكم‌ عنه‌ فاجتنبوه‌ و ما أمرتُكم‌ به‌ فأْتوا منه‌ ما استطعتم‌». وقال‌ زين‌ الدين‌ العراقيّ في‌ هامش‌ الصفحة‌ في‌ كتاب‌ «المغني‌ عن‌ حمل‌ الاسفار في‌ الاسفار»: و هو تخريج‌ قام‌ به‌ لاحاديث‌ إحياء العلوم‌: هذا الحديث‌ متّفق‌ عليه‌ من‌ طريق‌ أبي‌ هُريرة‌.

 الرجوع الي الفهرس

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com