|
|
الصفحة السابقة
بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ الحمد لله ربّ العالمين و لاحول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم و صلَّي اللهُ علی محمّد و آله الطَّاهرين و لعنة اللَه علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين (مطالب ألقيت في اليوم الرابع عشر من شهر رمضان المبارك)
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ * تُؤْتِي´ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رِبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيو'ةِ الدُّنْيَا وَ فِي الاْخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَهُ الظَّـ'لِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَهُ مَا يَشَآءُ.[1] لقد ذُكر سابقاً أنّ الإنسان حين يرحل عن الدنيا فإنّ عالمه ونشأته سيَتبدّلان، فهذا العالم عالمٌ تمتزج فيه السعادةُ و الشقاء، والحقّ والباطل، و الصّدق و الكذب، و الخلوص و التلوّث؛ أمّا ذلك العالم فعالمُ الصدق المحض و الحقيقة و الواقعيّة المحضة.
و إذا ما حصل
هناك أحياناً تدليس و تلبيسٌ في هذا العالم، فإنـّه لن يكون ممكناً هناك،
إذ ستظهر حقيقة الاشياء هناك كما هي، فلايمكن إنّ ذوات و ملكات الإنسان و أخلاقه و أعماله التي سار عليها في الدنيا ستتجلّي و تتمثّل هناك في صورتها و هيئتها الواقعيّة، فلا يكون هناك اختلافٌ بين الظاهر و الباطن، لكأنّ البواطن و الخفايا صارت جميعها ظاهرةً لا باطنَ لها، أو كأنّها بواطن لا ظاهر لها، أي أنـّها حقيقة واحدة لاغير. كما أنّ سبيل سعادة أيّ إنسان أو شقائه في هذه الدنيا إلی حين موته ليس مشخّصاً أو محدّداً، ولكن بمجرّد موت الإنسان فإنّ سبيله و طريقه سيصبح مباشراً إمّا إلی الجنّة أو إلی النار، إمّا إلی السعادة أو إلی الشقاء. تجلّي الإنسان في البرزخ في صورة ملكوتيّةإنّ الموجودات التي سيشهدها الإنسان في ذلك العالم ستتجلّي له في صورها الواقعيّة، و هكذا فإنّ الاعمال التي قام بها الإنسان ستتجلّي له في صورها الواقعيّة الملكوتيّة البرزخيّة، كما أنّ الملكات التي اكتسبها في الدنيا و الاخلاق التي تحلّي بها ستكون مشهودةً له هناك في صورة واقعيّة ملكوتيّة. يُضاف إلی ذلك أنّ أفراد الإنسان أنفسهم سيتمثّلون و يتشكّلون في صورهم الواقعيّة، و سيخرجون في قوالبهم الصوريّة المثاليّة. و قد علمنا من الروايات التي ذُكرت فيالعديد من المجالس الاخيرة في شأن أعمال الإنسان التي تتجسّم له في عالم البرزخ، بما فيها أعماله الحسنة أو الخبيثة؛ إنّ صورة جميلة ذات قوام فاتن و حديث جذّاب ستتجسّم له ـ مثلاً ـ فيقول لها الإنسان: من أنت؟ فإنـّي لم أرَ من قبلُ صورة أجمل منك و لا أطيب رائحةً ولاأحسن لباساً؟ فتجيبه: أنا عملك الصالح الذي قمتَ به في الدنيا، فأنا معك إلی يوم الجزاء! و قد تتجسّم له صورة قبيحة كريهة و مُنفّرة تبعث علی الاشمئزاز والتقزّز و الضجر بسبب قبحها و رائحتها الكريهة، فيقول لها الإنسان: من أنت؟ فإنـّي لم أشاهد من قبلُ صورةً بهذا القبح و الكراهة و النفور، و لم أشمّ من قبل كمثل رائحة عفونتك؟ فتجيبه: أنا عملك القبيح الكريه الذي قمتَ به في الدنيا، فأنا معك إلی يوم القيامة! ارتباط الملكوت مع أشكال الموجودات و صورهاإنّ الإنسان يمكنه في هذه الدنيا أن يُدرك أنّ الاعمال التي تصدر منه لها و جهان: الاوّل الوجه الظاهر، و هو متن العمل وجسده و هيكله، والثاني: الوجه الباطن، و هو روح العمل؛ أي الاختيار و الخلوص و النيّة الطاهرة و التقرّب إلی الربّ المتعال، أو ـ لا سامح الله ـ السُمعة و الرياء وحبّ الظهور و التظاهر الخاطي و التعدّي؛ تلك النيّات التي يقوم الإنسان بعمله علی أساسها. فيمكن للإنسان أن يصلّي في هذه الدنيا، إلاّ أنـّه قد يصلّي لربّه، كما أنـّه قد يصلّي حبّاً للظهور، و يمكن أن يقوم بذلك بنيّتين مختلفتين؛ لذا فإنّ روح الصلاة ستكون مزدوجة بينما يبقي هيكل الصلاة، أي العمل الظاهريّ واحداً. علی أنـّه ليس لاحد غير عالِم الغيبِ عِلْمٌ بروح الاعمال وباطنها، فقد يمكن أن يصلّي الإنسان فلا يُدرك رفيقه الذي يقف إلی جواره هل أدّي هذه الصّلاة خالصةً لوجه الله الكريم، أو أقامها لباعثٍ وداعٍ آخر. و قد يصوم أو يزكّي أو يُقيم جسراً أو يبني مسجداً أو ينشر كتاباً، تلك الاعمال التي تستلفت الانظار بظاهرها، إلاّ أنّ أحداً لايعلم بباطنها، فقد يكون فَعَلَ هذه الاعمال من أجل رضا الله سبحانه، و قد يكون أنجزها حبّاً للجاه و الشهرة. لقد كان ظاهر العمل جيّداً و جميلاً، إلاّ أنّ له باطنين مختلفين ومتعارضين، فإن كان قد فعله لله تعإلی و في سبيله، فإنـّه سيكون عملاً مؤدّياً إلی التقرّب و ذا باطن حسن و محبوب، و سيجعل ذلك الباطن الحَسنُ الممدوحُ روحَه خفيفةً مُبتهجةً، و سيبعث الراحة في نفسه، وسيرفع الحجب الظلمانيّة والنورانيّة عنه، فيوصله شيئاً فشيئاً إلی حريم أمن الله وأمانه. أمّا إذا كان قد قام به لغير وجه الله تعالي، فإنّ باطن هذا العمل سيكون فاسداً و مهلكاً؛ و بدلاً من أن يسوقه إلی الجنّة فإنـّه سيدنيه إلی جهنّم، لانـّه رياء و الرياء حرام، الرياء عبادة أصنام وعبادة إنسان و شرك بالله، و سيبعث هذا العمل الخمولَ في روحه و الملل و التعب في نفسه، وسيحدّ من قدرته علی التحليق في فضاء عالم القُدس، و يُبعده شيئاً فشيئاً عن حريم القُرب، ثمّ يجرّه فيالنتيجة إلی مَظهر عالم البُعد: (جهنّم). و بنفس الدرجة التي يحسّ بها الإنسان في هذه الدنيا بالملل و الوهن و الضجر من العمل القبيح، و بالبهجة و اللذة من العمل الحسن المقبول؛ فكذلك الامر في عالم البرزخ، حيث يزداد ظهور المخفيّات و انكشاف السرائر، و حيث يسقط قالب المادّة فتظهر الصور البرزخيّة للاعمال التي قام بها الإنسان تبعاً إلی روحها الملكوتيّة، و حيث يتجلّي للإنسان كلّ عمل بما يتناسب وذلك العالم؛ فسيكون أثر بواطن الاعمال أكثر بالآف المرّات، وسيجد الإنسان هذه الآثار القويّة و هي تُمسك بتلابيبه. و لذلك فإنـّنا إذا ما أغضينا عن ظاهر الذنب و هيكل العمل، فإنّ باطن وروح الكذب و الزنا و الغشّ في المعاملة و الغضب و الشهوة في غير موضعها، والبخل و الحسد و الحقد و العبوديّة لغير الحقّ ستُعلن وجودها بحقائقها وواقعيّاتها. كما أنّ الاعمال الصالحة من الصلاة و الزكاة و إعانةالفقراء والتواضع للحقّ والعزّة و الشرف و الحياء و العصمة و العبوديّة للمعبود المطلق ستكون ـ هي الاُخري ـ موجودة بواقعياتها و حقائقها. لكأنّ العالم يتبدّل و هيكله يتقوّض، و كأنّ تلك الاعمدة والاسس التي شُيّدَ عليها ذلك العالم أعمدة عجيبة غير الاعمدة والاسس التي شُيّد عليها هذا العالم، و كأنّ فضاء ذلك العالم فضاء آخر غير هذا الفضاء. إنّ الافراد الذين يعيشون في هذه الدنيا هم جميعاً في هيئة إنسانيّة، إلاّ أنّ أخلاقهم تتباين و تختلف مع بعضها، و قد أدّي ذلك الاختلافُ في الاخلاق و الملكات، و التفاوتُ في الغرائز إلی اختلاف في الاشكال والصور. و هذه المسألة من أدقّ مسائل العلوم الإلهيّة و كيفيّة نزول الوحدة في عالم الكثرة. بحيث أنـّنا لو فرضنا أنّ العلوم المادّيّة ستترقّي بحيث يمكنها كشف علاقات المادّة مع المعني، فإنـّه سيُمكن في تلك الحال، من ملاحظة الاشكال المختلفة للانبياء و الائمّة و أولياء الله، الوقوف علی حقيقة مقام بواطنهم، و سيمكن من الاشكال و السيماء و الملامح المختلفة لكلّ فرد من الافراد، الوقوفُ علی غرائزه و ملكاته وأخلاقه. حيث أنّ هذا المعني ثابت للانبياء و الائمّة و أولياء الله الذين يتعرّفون علی أخلاقيّات وملكات أيّ فرد من ملاحظته ومشاهدته مرّةً واحدة، و يمكن القول حقّاً إنّ هذه معجزة للقرآن الكريم حيث يقول: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ و وَالْمُؤمِنُونَ.[2] كما أنّ اختلاف أشكال الحيوانات و صورها مبنيّ ـ هو الآخر ـ علی اختلاف غرائزها و ملكاتها و صفاتها، فأحدها علی هيئة القطّة، و الآخر بشكل الكلب، و آخر بصورة الثعلب، و آخر بشكل الذئب، و آخر بشكل الاسد، و آخر علی هيئة الفيل، وهكذا سائر أصناف الحيوانات من الوحوش و الزواحف والحشرات و الطيور في السماء و الاسماك في البحار، حتّي الذبابة و البعوضة و أمثالها. عالم الطبع نزول لعالم الملكوتو هذا الاختلاف ناشي من اختلاف كميّة و كيفيّة غرائزها وصفاتها، فقد أدّي اختلاف و كيفيّة نظامها و هيكلها الروحيّ والملكوتيّ إلی اختلاف كيفيّة صورها و أشكالها و اختلاف الكميّة و الكيفيّة في بدنها المادّيّ و جسمها الطبيعيّ، بحيث تشكّل البدن الطبيعيّ لكلّ حيوان؛ والذي له نوع من الاتّحاد مع نفس ذلك الحيوان؛ بالشكل النازل لنفس ذلك الحيوان. فإذا ما ارتقينا بسلّم المعرفة من بدن حيوانٍ ما، فإنـّنا سنصل إلی نفسه الملكوتيّة فنلاحظ و نشاهد تلك النفس كما هو حقّه، كما أنّنا لو أُرينا النفس الملكوتيّة لحيوانٍ ما لم يسبق لنا مشاهدة شكله الظاهريّ وبدنه الجسمانيّ والطبيعيّ، لاستطعنا ـ عند وجود قوّة المعرفة ـ أن نرسم ونصف الشكل الظاهريّ لذلك الحيوان كما هو حقّه. مقطع من القصيدة المشهورة للميرفندرسكي في اتّحاد العالم العلويّ و السفليّو لربّما كانت أشعار القصيدة المعروفة للفيلسوف و العارف الجليل المرحوم الميرفندرسك تفيد معنيً عأمّاً يشمل هذه المسألة مورد البحث، حيث يقول: چرخ با اين اختران نغز و خوش و زيباستي صورتي در زير دارد آنچه در بالاستي صورت زيرين اگر بر نردبان معرفت بر رود بالا همان با أصل خود يكتاستي اين سخن را در نيابد هيچ وَهم ظاهري گر أبونصرستي و گر بوعلی سيناستي جان اگر نه عارض استي زير اين چرخ كبود اين بدنها نيز دائم زنده و برپاستي هر چه عارض باشد او را جوهري بايد نخست عقل بر اين دعوي ما شاهد گوياستي ......................... هر كه فاني شد به او يابد حياتي جاودان ور به خود افتاد كارش بي شك از موتاستي اين گهر در رمز دانايان پيشين سفتهاند پي برد بر رَمزها هر كسي كه او داناستي زين سخن بگذر كه اين مهجور اهل عالم است راستي پيدا كن و اين راه رو گر راستي هر چه بيرونست از ذاتت نيايد سودمند خويش را كن ساز اگر امروز اگر فرداستي ......................... نفس را چون بندها بگسيخت يابد نام عقل چون به بي بندي رسد بند دگر برجاستي گفت دانا نفس ما را بعدِ ما حشر است و نشر هر عمل كامروز كرد او را جزا فرداستي گفت دانا نفس ما را بعد ما باشد وجود در جزا و در عمل آزاد و بي همتاستي گفت دانا نفس را آغاز و انجامي بود گفت دانا نفس بي انجام و بي مَبداستي ......................... نفس را اين آرزو در بند دارد در جهان تا ببند آرزوئي بند اندر پاستي خواهشي اندر جهان هر خواهشي را در پياست خواهشي بايد كه بعد از وي نباشد خواستي [3] إنّ القطّة التي تلاحظونها بهذا الشكل و الهيئة، صارت كذلك بسبب امتلاكها صورة ملكوتيّة خاصّة. بحيث أنـّنا لو أردنا أن نلبّس تلك الصورة الملكوتيّة بلباس المادّة لما كانت شيئاً غير شكل القطّة و هيئتها هذه. كما أنّ الصورة الملكوتيّة للكلب هي الافتراس و الغضب والوفاء، مضافاً إليها احترام الغنيّ و عضّ الفقير؛ لذا فإنّ لباسه المادّيّ و الجسميّ الطبيعيّ بهذا الشكل و الهيئة. لانّ الدبّ قد أُهبط من ذلك العالم فإنـّه صار في هيئة وصورة كهذه التي يمتلكها. وانظروا إلی الشاة، و تطلّعوا في عيني هذا الحيوان، فإنـّهما سيحكيان عالماً من سلامة نفسه و سريرته، لذا فإنّ أكل لحمه جائز في الإسلام. أمّا الخنزيز، الحيوان الذي يتبع الشهوات بلا عفّة و لا عصمة، فإنّ صورته الروحانيّة هكذا؛ و لانّ تناول لحمه سيسبّب انتقال تلك الملكات والاخلاق إلی الشخص الآكل، فقد حُرّم الاستفادة والاكل من لحمه في الشريعة الإسلاميّة. و علی أساس هذا المعيار و المناط، فإنّ المحرّمات في الإسلام لايمكن عدّها منوطة فقط بالاشياء التي تسبّب ضرراً جسميّاً، فالضرر الروحيّ و انتقال الخصائص المعنويّة للمأكول إلی الآكل أعلی من الضرر الجسميّ و أبعد أثراً. إنّ الجواد يتمتّع بالصفاء و الوفاء روحيّاً، كما أنّه نجيب في ذاته، وقد تشكّل في هذا الشكل و الهيئة؛ فانظروا إلی عينيه فإنـّكم ستجدون فيهما عالَماً من المعاني السَكِينة و الصبر والتحمّل. أمّاالحرباء و الضبّ الذي قد تكونوا شاهدتموه في الصحاري، فإنّ الحقد و الحسد و البغضاء تبدو جليّة في عينيه، وذلك العِناد الذي يُلاحظ فيه مشهودٌ في عينيه بشكل كامل. أمّا الإنسان فمعجون بديع أُودع فيه جميع هذه الغرائز والصفات، فإذا تبعَ العقل و قهر جميع غرائزه و ملكاته و طوّعها لهذه الملكة القدسيّة، فإنـّه سيتصوّر في عالم البرزخ بصورة الإنسان الحقيقيّة. أمّا إذا قهر عقله و نَكَبَهُ و تبع ميوله و رغباته النفسانيّة، و إذا ما اقتفي أثر غضبه و شهوته و قواه الوهميّة، فإنـّه سيُحشر علی هيئة الحيوان الذي كانت تلك الصفة فصلاً مميّزاً له. و ذلك لانّ إنسانيّة الإنسان بالعقل و القوّة الناطقة، و الفصل المميّز للإنسان تلك المَلَكة الإلـ'هيّة العاقلة، و ما لم يصل الإنسان بنفسه إلی هذا المقام، و ما لم يصل بنفسه إلی مقامه الواقعيّ، أي الإنسانيّة، فإنـّه سيقف ـ شئتَ أم أبيتَ ـ في صفّ و رتبة أوطأ من الإنسان، أي في صفّ الشياطين أو الحيوانات، و سيحرز وجوده في عالم البرزخ في الصورة البرزخيّة لذلك الشيطان أو ذلك الحيوان. إراءة الباقر و الصادق عليهما السلام لابي بصير الصور الملكوتيّة للحجّاجروي محمّد بن الحسن الصفّار في كتاب «بصائر الدرجات» عن محمّد ابن الحسين، عن عبدالله بن جبلّة، عن علی بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: حججتُ مع أبي عبدالله عليه السلام، فلمّا كنّا في الطواف قلتُ له: جُعلتُ فداك يا ابن رسول الله يَغْفِرُ اللَهُ لِهَذَا الْخَلْقِ؟ فقال: يا أبا بصير إنّ أكثر مَن تري قردة و خنازير. قال: قلتُ له: أرينهم. قال: فتكلّم بكلمات ثمّ أمرّ يده علی بصري فرأيتهم قردةً و خنازير فهالني ذلك، ثمّ أمرّ يده علی بصري فرأيتهم كما كانوا في المرّة الاُولي. ثمّ قال: يَا أَبَا مُحَمَّد أَنْتُمْ فِي الْجَنَّةِ تُحْبَرُونَ وَ بَيْنَ أَطْبَاقِ النَّارِ تُطْلَبُونَ فَلاَ تُوجَدُونَ، وَاللَهِ لاَ يَجْتَمِعُ فِي النَّارِ مِنْكُمْ ثَلاَثَةٌ لاَ وَاللَهِ وَ لاَ إثْنَانِ لاَ وَاللَهِ وَ لاَ وَاحِدٌ. [4] و[5] نقل أحد أصدقائنا ـ و كان ذا ضمير صاف ـ أنّ شخصاً من أهل المراقبة و التفكّر كان جالساً في زاوية من صحن الإمام الرضا عليه السلام غارقاً في بحر من التفكير و التأمّل، فانتابته فجأةً حالة فشاهد الصور الملكوتيّة للافراد الذين كانوا في الصحن المطهّر فرأي عجباً! كانت صوراً مختلفة قبيحة تبعث علی الاذي، صوراً لبعض أنواع الحيوانات، و كان بعضها صوراً تحكي عن تركيب من عدد من الحيوانات؛ و كان يتفحّص الناس مليّاً فلا يجد بين هذا الجمع ملامح إنسان، اللهم إلاّ لحلاّق كان جالساً في زاوية من الصحن و قد فتح حقيبته و انشغل بحلاقة شعر رأس شخص ما، فقد شاهد أنـّه كان لوحده في صورة الإنسان و هيئته. فعجل له من بين الجمع، و كان يجلس في الصحن قريباً منه، فسلّم عليه وقال: ما الامر أيّها السيّد؟ ضحك الحلاّق و قال: لا تعجب أيـّها السيّد، خُذ المرآة وانظر إلی نفسك! فنظر إلی نفسه في المرآة، و شاهد أنّ وجهه ـ هو الآخر ـ في هيئة حيوان، فرمي بالمرآة إلی الارض في غضب. قال الحلاّق: اذهب أيـّها السيّد و أصلح نفسك، فالمرآة لاذنب لها؟ روي فخر الشيعة في علم التفسير و الحديث: علی بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره الشريف في أوّل سورة الإسراء في مقام بيان كيفيّة المعراج، مسلسلاً و بسند صحيح عن أبيه إبراهيم[6] بن هاشم، عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، روايةً مفصّلة في حدود عشرة صفحات تشتمل علی مطالب عالية و تعليميّة، ونأتي هنا بعدّة فقرات منها لمناسبتها لبحثنا.[7] قال رسول الله صلّي الله عليه و آله:... ثمّ مضيتُ فإذا أنا بقومٍ بين أيديهم موائد من لحم طيّب و لحمٍ خبيث يأكلون الخبيث و يدعون الطيّب، فقلتُ: من هؤلاء يا جبرئيل؟ مشاهدة رسول الله الصور الملكوتيّة لافراد الاُمّة ليلة المعراجفقال: هؤلاء الذين يأكلون الحرام و يدعون الحلال و هم من أُمّتك يامحمّد... ثمّ مضيتُ فإذا أنا بقومٍ لهم مشافر كمشافر الإبل يُقرض اللحمُ من جنوبهم و يُلقي في أفواهمم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون. ثمّ مضيتُ فإذا أنا بقوم تُرضخ رؤوسهم بالصّخور، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء. ثمّ مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ تُفذفُ النارُ في أفواههم و تخرج من أدبارهم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامي ظلماً إنـّما يأكلون في بطونهم ناراً و سيصلون سعيراً. ثمّ مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ يريدُ أحدُهم أن يقوم فلا يقدرُ مِن عِظم بطنه، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ فإذا هم مثل آل فرعون يُعرضون علی النار غدوّاً و عشيّاً يقولون: ربنّا متي تقوم الساعة. قال: ثمّ مضيتُ فإذا أنا بنسوانٍ معلّقات بثديهنّ. فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء اللواتي يورّثن أموالَ أزواجهنّ أولادَ غيرِهم. [8] و قد وردت في القرآن الكريم آيات لها دلالة واضحة علی تجسّم الاعمال في صورها الملكوتيّة، إحداها الآية العاشرة من سورة النساء.[9] الروايات الواردة في ظهور الاعمال في صورها الملكوتيّة فيالبرزخ والقيامةوالروايات التي وردت عن رسول الله صلّي الله عليه وآله و عن الائمّة عليهم السلام و العائدة إلی ظهور حقيقة الاعمال و بروزها سواءً في عالم البرزخ أو في عالم القيامة كثيرة و جمّة، و نكتفي بذكر عدّة روايات قصيرة منها كنموذج علاوةً علی ما ذُكر سابقاً. روي الغزاليّ في «إحياء العلوم» عن رسول الله صلّي الله عليه و آله: اِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَ'مَةِ ـ الحديث. [10] اَلْجَنَّةُ قِيعَانٌ وَ إنَّ غِرَاسَهَا لاَ إلَـ'هَ إلاَّ اللَهُ. و يروي الغزاليّ أيضاً عن رسول الله صلّي الله عليه و آله: اَلْغَضَبُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ. [11] و يروي أيضاً عن رسول الله صلّي الله عليه و آله: مَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَكَأَنَمَّا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَجَهَنَّمَ[12] و ظاهر العبارة أنـّها رواية. و يقول في التعليقة: حديثٌ متّفقٌ عليه، عن أُمّسلمة عن رسول الله صلّي الله عليه و آله، لكنّ المصنّف لم يصرّح بكونه حديثاً كتاب «المُغني عن حمل الاسفار في الاسفار في تخريج ما في الإحياء من الاخبار» للحافظ زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقيّ. و يروي أيضاً عن رسول الله صلّي الله عليه و آله: إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا! قِيلَ: وَ مَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَجالِسُ الذِّكْرِ.[13] و روي كذلك عن رسول الله صلّي الله عليه و آله أنـّه قال لـ (عبَادَة بن الصَّامِت) حين أرسله لجمع الصدّقات: اتَّقِ اللَهَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، لاَ تِجِيء يَوْمَ الْقِيَ'مَةِ بِبَعِيرٍ تَحْمِلُهُ علی' رَقَبَتِكَ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٍ لَهَا تُؤاجٌ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَهِ؟ أَهَكَذَا يَكُونُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَهُ. قَالَ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَعْمَلُ علی' شَيءٍ أَبَداً. [14] و كان رسول الله يريد إفهام عبادة أنّ أحداً إذا ما ظلم الناس في أخذ الصّدقات فتقاضي منهم أكثر من الحدّ المعيّن، أو إذا أخذ الصدقة ممّن ليس عليه صدقة، فإنّ عمله سيكون يوم القيامة علی هيئة بعير أو بقرة أو شاة يحملها علی رقبته رغاء أو خوار و تؤاج [15] علی التوالي. و كذلك يروي عن رسول الله صلّي الله عليه و آله: رِيحُ الْوَلَدِ مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ.[16] نفقة الملائكة في أبنية الجنّة تسبيح المؤمن و تكبيره و تحميده و تهليلهو أكثر من جميع هذه الروايات وضوحاً و جلاءً، رواية يرويها علیبن إبراهيم القمّيّ في مقدّمة تفسيره عن أبيه، عن حمّاد، عن الصادق عليه السلام: قال النبيّ صلّي الله عليه و آله: لَمَا أُسْرِيَ بِي إلَي' السَّمَاء ِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا قِيعَاناً يَقَقَاً[17]، وَ رَأَيْتُ فِيهَا مَلاَئِكَةً يَبْنُونَ لِبْنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَ لِبْنَةً مِنْ فِضَّةٍ وَ رُبَّمَا أَمْسَكُوا. فَقُلْتُ لَهُمْ: مَا لَكُمْ رُبَّمَا بَنَيْتُمْ وَ رُبَّمَا أَمْسَكْتُمْ؟ فَقَالُوا: حَتَّي' تَجِيئَنَا النَّفَقَةُ. قُلْتُ: وَ مَا نَفَقَتُكُمْ؟ قَالُوا: قَوْلُ الْمُؤمِنِ فِي الدُّنْيَا سُبْحَانَ اللَهِ وَالْحَمْدُ لِلِهِ وَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ وَاللَهُ أَكْبَرُ؛ فَإذَا قَالَ بَنَيْنَا وَ إذَا أَمْسَكَ أَمْسَكْنَا.[18] كما أنّ اغتياب المؤمن كأكل لحمه ميتاً. [19] وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ.[20] المؤمن هو الكلمة الطيّبة و الشجرة التي تؤتي أُكُلهاكلّ حين بإذن ربّهاو لنأتي الآن إلی تفسير الآية التي عنونّاها في مطلع البحث: اَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ. فانظر كيف يضرب الله مثل الكلمة الطيّبة للروح المنزّهة الطاهرة ولروح المؤمن! إنّ جميع الموجودات هي كلمة الله، غاية الامر أنـّها تختلف وتتباين باختلاف سعة أو ضيق ماهيّة وجودها. به نزد آنكه جانش در تجلّي است همه عالم كتاب حقّ تعإلی است عَرَض اِعراب و جوهر چون حروفست مراتب همچو آيات وقوفست از و هر عالمي چو سورة خاص يكي زان فاتحه ديگر چو اخلاص[21] فالموجود الواحد هو كلمة حسنة، كلمة طيّبة، و كلمة رفيعة، وهذه الكلمات هي أسماء و صفات ذي الجلال التي تجلّت في أفراد الإنسان بحسب سعتهم و ظرفيّتهم المختلفة، فصار كلُّ فرد من أفراد الإنسان مظهر اسم أو أسماء منه. و مثل المؤمن الطاهر المنزّة المطهّر الطيّب الذي طوي مرحلة عالَم الإخلاص، و وضع قدمه في عالم الخلوص فصار من المخلَصين، كمثل الشجرة الطيّبة أصلُها و جذورها راسخةٌ ضاربةٌ في الارض، إلاّ أنّ فرعها و أفنانها مترامية في عنان السماء. تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا. فالمؤمن الذي وصل درجة الإيقان، و الذي تجلّت فيه حال الطمأنينة و السَكِينة، أصله ثابت و هو الارتباط بربّه، ذلك لانّ المؤمن له عهد مع الله، و عهده هو ارتباطه، و هو أصالته وجذوره. أمّا فروعه التي طبّقت آفاق المُلك و الملكوت و التي تؤتي ثمارها كلّ حين، فتفيض من عالم القدس علی هذا العالم، و تصبح واسطة للخير والرحمة و البركة، فتُروي فواكُهُها المعطّرة اللذيذة جميع ذوات الإمكان المستقّرين في درجات الكثرة و تُشبعهم وتُبهجهم. إنّ المؤمن سيطوي بقدمٍ راسخة جميع المنازل في جميع المراحل العبور من هذا العالم، عند سكرات الموت، و عند سؤال منكر و نكير ومبشّر و بشير، و خلال إقامته في عالم البرزخ، وفي الحشر و مواطن القيامة من العَرْض و السؤال و الحساب و الميزان و الصراط و الجزاء وتطاير الكتب و غيرها؛ و سيستقرّ في طمأنينة فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. [22] وما ذلك إلاّ لارتباطه بالله سبحانه، و لانّ ينبوع قلبه يرتوي من مركز ينبوع العلوم والاسرار الإلـ'هيّة، فيهب جميع الموجودات الخير والرحمة والبركة من ينابيع الحكمة التي يجريها الباري المنّان من قلبه علی لسانه. وَيَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ لَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. و ليس المؤمن شجرةً في الحقيقة، بل إنّ الله سبحانه يمثّله بهذه الشجرة الثابتة الاصيلة المحمّلة بالثمار و الطافحة بالفائدة، وهذا المثال من أجل أن يُدرك الناس مقام عظمة المؤمن الذي حظي بهذا الفوز العظيم إثر الطاعة للاوامر الإلـ'هيّة. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ. أمّا مثل الإنسان الكافر المنكر المُعاند، الإنسان الظالم المتعدّي المتجاوز، الذي لم يُحرم لوحده من وجوده فقط، بل أوجب كذلك محروميّة أبناء نوعه من الماء المعين لنبع الحقيقة الزلال؛ فهو كالشجرة الخبيثة المنكرة التي اجتثّت و اقتُلعت من الارض، فجذورها ملقاة علی الارض لا ارتباط لها بأصلها ومبدئها، و لا مسند لها تستند عليه. إنّ الرجل الكافر الظالم الذي لا ارتباط له بعالم السرّ والخفيّات كمثل هذه الشجرة اليابسة بلا فائدة و بلا ارتباط بمصدر الغذاء و الارتواء. و هؤلاء هم الافراد الذين لم يطهّروا بواطنهم، و الذين تتلوّن أعماقهم بأنواع الرذائل و الصفات القبيحة الذميمة، و هم المتردّدون المتلوّنون في الاُمور، المتردّدون في شكّهم و ريبهم بشأن ذات القيّوم، والمتكبّرون المغرورون المُعجبون بأنفسهم مقابل أبناء نوعهم، الشاكّون في الحقائق و الاُمور الاصيلة، والمعتمدون علی الامور الواهية التي لاأساس لها. و هؤلاء مهما كان لهم في دنياهم و أُمورهم الاجتماعيّة من شخصيّة و اعتبار و جاه و شوكة و نفوذ كلمة و قدرة، إلاّ أنـّهم في عالم الواقع و في ميزان تقييم الحقائق و الواقعيّات تافهون فارغون لا وزن لهم و لا فكر ولاأصالة. أتْبَاعُ كُلِ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَأوا إلَي' رُكْنٍ وَثِيقٍ. [23] لانـّهم فصموا حبل ارتباطهم بربّهم، فلم يلجأوا إلی ركنٍ مكين يعتمدون عليه، و لم تشرق قلوبهم بنور العلم، فهم ـ لذلك ـ سيميلون مع كلّ ريح حيث مالت. يُثَبّـِتُ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيو'ةِ الدُّنْيَا وَفِي الاْخِرَةِ. إنّ الله جلّت عظمته يثبّت بالقول الثابت أُولئك الذين آمنوا، أي الذين وجدوا حبل ارتباطهم بربّهم، و الذين صار لهم نزوع إلی تلك الذات المقدّسة؛ يثبّتهم في الحياة الدنيا و في العليا، أي دار الجزاء. و القول الثابت هو الكلمة الطيّبة، و هو الارتباط بالربّ الودود. فالله سبحانه يثبّت هؤلاء بالقول الثابت في جميع العوالم؛ في الدنيا، و في سكرات الموت، و في النشئات التي تلي ذلك؛ كي يطووا هذا الطريق بقدم ثابتة و إرادة راسخة و قلب قويّ و فكرٍ مُضاء. روح المؤمن هي الكلم الطيِّب، و العمل الصالح هوالذي يرفعهإلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّـ'لِحُ يَرْفَعُهُ.[24] و الكلم الطيّب هو الروح الطاهرة المنزّهة ترتفع إلی الخالق سبحانه، و العمل الصالح هو الذي يرفعها إلی حيث مقام العزّة، إلی حيث العزّة المطلقة؛ إذ يقول قبل هذه الجملة: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً. علی طالب العزّة أن يعلم أنّ جميع درجات العزّة و مراتبها منحصرة اختصاصاً بالربّ سبحانه، إنّ الكلمة الطيّبة في الآية مورد البحث، و التي كان لها أصل ثابت و فاكهة و أُكل دائم، هي الكلم الطيّب الذي يرتفع إلی الله سبحانه فيَصل إلی مقام العزّة المطلقة، كما ورد في المناجاة الشعبانيّة: إلَـ'هِي وَأَلْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ فَأَكُونَ لَكَ عَارِفَاً وَ عَنْ سِوَاكَ مُنْحَرِفاً.[25] العمل الصالح كالبنزين الذي يسبّب حركة طائرة الروح إلی فضاء عالم القدس، العالم الذي فيه حياة بلا موت، و عزّة بلا ذلّ، و غنيً بلا فقر. و إذن فالقول الثابت الذي ثبّت الربّ العلی الاعلی المؤمنين به هو النزوع و الارتباط الذي أقرّه بينهم و بين ذاته المقدّسة، وهو موجب للعمل الصالح، والعمل الصالح بدوره موجب لحركة الكلمة الطيّبة و روح المؤمن الطاهرة إلی عالم القدس، و هذه الحركة هي حركة الإنسان في صورة إنسان واقعيّ؛ والله يعلم كم يبلغ لذّة و بهجة و نور و سرور و حبور،هذا الإنسان الذي يذهب في صورته الإنسانيّة تلك إلی مضيّفه الباري تعإلی شأنه. كما أنّ من آثارها المعيّة و الرفقة مع الارواح المقدّسة لاولياء الله والابرار الاخيار و الصالحين و الشهداء والانبياء، وستكون حقيقتها التحقّق بمقام: إنّ الله لايهدي الظالمين في نهجهم إلی عالم النور و السرورلاَ يَسَعُنِي أَرْضِي وَ لاَ سَمَآئِي بَلْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤمِن بِي. [26] وَيُضِلُّ اللَهُ الظَّـ'لِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَهُ مَا يَشَآءُ. أمّا الظالمون فإنّ الله سبحانه لا يهديهم في نهجهم إلی عالم النور والسرور، بل إنّ سبيل أُولئكم وفق رغباتهم و ميولهم النفسيّة باتّجاه الظلمة و الضلال. لانّ نفوسهم لا تحكي عن صورة النفس الإنسانيّة، فإنـّه لاسبيل لها إلی مقام الإنسانيّة بل ينحصر طريقها بذلك العالم الذي وضعت نفسها الهيولائيّة علی صورته؛ فإن كانت أنفسهم صورةً للشيطان فإنـّها ستتّجه إلی عالم الشيطان، أو كانت صورة للحيوان فإنـّها ستتّجه إلی ذلك العالم، و سيضيع اسمها و ينطمس و تبطل صفاته و موجوديّتها و فعليّتها في مقام الإنسان و في عالم الإنسان. وَ مَا ظَلَمَهُمُ اللَهُ وَلَـ'كِنْ كَانُو´ا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. [27] و في سورة آلعمران، الآية 117 بهذه العبارة: وَ مَا ظَلَمُهُمُ اللَهُ وَلَـ'كِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. ذَ ' لِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَهَ لَيْسَ بِظَلَّـ'مٍ لِّلْعَبِيدِ. [28] ثمّ إنّ هؤلاء يُخاطبون بأنّ هذه النتائج السلبيّة، و جهنّم الموقدة، وتغيّر الصورة الإنسانيّة و مسخها إلی صورة إبليس والحيوان كانت مسبّبة عن ذلك النهج و الاُسلوب القبيح و السلوك اللامرضيّ الذي قدّمتموه معكم، و ليس الله سبحانه بظلاّم لعباده. لقد كانت المحادثات التي وردت في كثير من الروايات التي تطرّقت إلی أمر الحديث مع الافراد بعد موتهم؛ سواءً أُولئكم الذين شاهدهم الائمّة الاطهار عليهم السلام بأنفسهم و تحدّثوا معهم، أو الذين أروهم للآخرين، أو الافراد الآخرون الذين حدث أن شاهدوا الموتي و تحدّثوا معهم أحياناً؛ بأجمعها محادثات مرتبطة بعالم البرزخ المثال، و كانت لقاءات ومصادفات حدثت في مكاشفات صوريّة و مثاليّة، و كانوا قد شاهدوا أُولئكم الموتي في صور عاديّة أحياناً، كما شاهدوهم في صور برزخيّة نورانيّة أو ظلمانيّة أحياناً أُخري. روي الشيخ المفيد في «الاختصاص» بسنده المتّصل عن إدريس بن عبدالله قال: سمعتُ أبا عبدالله ] الصادق [ عليه السلام يقول: بينا أنا و أبي متوجّهين إلی مكّة و أبي قد تقدّمني إلی موضع يُقال له ضجنان[29]، إذ جاء رجل في عنقه سلسلة يجرّها فأقبل علیفقال: اسقني اسقني، فصاح به أبي: لا تسقه لا سقاه الله. قال: و في طلبه رجلٌ يتبعه، فجذب سلسلته جذبةً طرحه بها في أسفل دركٍ من النار. [30] و قد روي الشيخ المفيد في «الاختصاص» مضمون هذه الرواية بأربع أسناد أُخري عن الإمام محمّد الباقر و الإمام جعفر الصادق عليهماالسلام، ويتّضح من إحدي هذه الروايات أنّ نظير هذه القضيّة قد اتّفقت للاءمام الباقر حين كان ذاهباً مع أبيه زينالعابدين عليهماالسلام إلی مكّة.[31] و قد روي الشيخ محمّد بن الحسن الصفّار في «بصائر الدرجات» عن محمّد بن عيسي، عمّن أخبره، عن عباية بن ربعة الاسديّ قال: دخلتُ علی أميرالمؤمنين عليه السلام و عنده رجل رثّ الهيئة و أميرالمؤمنين عليه السلام مُقبلٌ عليه بكلمة (يكلّمه خل)، فلمّا قام الرجل قلتُ: ياأميرالمؤمنين عليه السلام، مَن هذا الذي يشغلك عنّا؟ قال: هذا وصيّ موسي عليه السلام. [32] قدوم شمعون وصيّ موسي إلی صفّين في صورته البرزخيّةو روي الشيخ المفيد في «المجالس» بسنده المتّصل عن قيس غلام أميرالمؤمنين عليه السلام قال: إنّ عليّاً أميرالمؤمنين عليه السلام كان قريباً من الجبل بصفّين، فحضرت صلاة المغرب، فأمعن بعيداً ثمّ أذّن، فلمّا فرغ من أذانه إذا رجل مقبل نحو الجبل، أبيض الرأس و اللحية و الوجه، فقال: السلام عليك ياأميرالمؤمنين و رحمة الله و بركاته، مرحباً بوصيِّ خاتم النبيّين، و قائد الغرِّ المحجِّلين، و الاغرِّ الميمون، و الفاضل الفائز بثواب الصِّدِّيقين، وسيِّد الوصيِّين. فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: وَ عَلَيْكَ السَّلاَمُ كيف حالك؟ فقال: بخير، أنا منتظر روح القدس، و لا أعلم أحداً أعظم في الله عزّوجلّ اسمُهُ بلاءً، و لا أحسن ثواباً منك، و لا أرفع عند الله مكاناً. اصبر يا أخي علی ما أنت فيه حتّي تلقي الحبيب، فقد رأيت أصحابنا ما لا قوا بالامس من بني إسرائيل، نشروهم بالمناشير، و حملوهم علی الخشب، ولو تعلم هذه الوجوه التَّربة الشَّايهة ـ و أومأ بيده إلی أهل الشام ـ ما أُعِدَّ لهم في قتالك من عذاب و سوء نكال لاقصروا، و لو تعلم هذه الوجوهُ المبيضَّة ـو أومأ بيده إلی أهل العراق ـ ماذا لهم من الثَّواب في طاعتك لودَّت أَنـَّها قرّضت بالمقاريض، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَ رَحْمَةُ اللَهِ وَ بَرَكَاتُهُ. ثمّ غابَ من موضعه. فقام عَمَّارُ بْنُ يَاسِر، وَ أَبُو الهَيْثَمِ بْنِ التَيِّهَان، وَ أَبُو أَيُّوب الاْنْصَارِيّ، وَ عِبَادَةُ بْنُ الصَّامِت وَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِت، وَ هَاشِمُ الْمِرقَال. في جماعة من شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام ـ و قد كانوا سمعوا كلام الرجل ـ فقالوا: ياأميرالمؤمنين من هذا الرجل؟ فقال لهم أميرالمؤمنين عليه السلام: هذا شَمْعُون ] بن حمون الصفا [ وصيّ عيسي عليه السلام، بعثه الله يصبّرني علی قِتال أعدائه. فَقَالُوا له: فِدَاكَ ءَاَبَاؤُنَا وَ أُمَّهَاتُنَا وَاللَهِ لَنَنْصُرَكَ نَصْرَنَا لِرَسُولِ اللَهِ صَلَّي' اللَهُ عَلَيْهِ وَ آلهِ وَ لاَ يَتَخَلَّفُ عَنْكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاْنْصَارِ إلاَّ شَقِيٌّ! فقال لهم أميرالمؤمنين عليه السلام معروفاً. [33] و كان لهؤلاء الافراد مجاهدات عظيمة في حرب صفّين، حيث قُتل معظمهم فيها، مثل عمّار، و هاشم المرقال، و خزيمة، و عبادة، و أبو أيّوب، الذين كانوا من خواصّ أصحاب الإمام و أنصاره الاوفياء. و هؤلاء الافراد من جملة أُولئك النفر المائة الذين بايعوا أميرالمؤمنين عليه السلام و عاهدوا علی أن لا يُغمدوا سيوفهم عن قتالٍ حتّي يُقتلوا. و كان آخرهم أويس القرنيّ. و حكاية شهادة هؤلاء الطيّبين الطاهرين وا لعاشقين الذين أعطوا كلّ ما لديهم، و هؤلاء العُبّاد الناسكين الذين يُعدّون من حواريي الإمام، و جميعهم من أصحاب رسول الله؛ حكاية عجيبة إلی الحدّ الذي يبهت و يحيّر كلّ إنسان ذي وجدان و حميّة. و يرفع معاوية المصاحف علی رؤوس الرماح في منتهي الحيلة والمكر بمعونة من عمرو بن العاص و إشارةٍ منه، و يعدّ نفسه مسلماً تابعاً للقرآن، فيحكّم القرآن في الامر. و يُثير تلك الفتنة و الاضطراب في جيش العراق، و يوقع ذوي الظواهر المقدّسة في الحيرة و يجعلهم أحياناً أسري سوء الظنّ. أمّا عمّار بن ياسر فقد كان من أُولئك الذين لم تتزلزل عزائمهم، و كان ينادي: و الله لو هزمونا حتّي بلغنا سَعَفَات هَجَر، [34] و لو سيطروا علی جميع هذه البلاد العريضة، لبقينا علين يقيننا بأنّا علی الحقّ و أنّهم علی الباطل. لقد رسخ الإیمان بالله في سويداء قلب عمّار و رفقائه في الجهاد، بحيث أنّ الدنيا لو تظافرت بأجمعها و شاءت إسقاط أو زعزعة أمثال هؤلاء الرجال الصادقين، ليوث التوحيد، بالاجواء المفتعلة و بالخدع التي تنطلي علی العوامّ، فإنـّها لن تحصد إلاّ الخُسران المبين. لذا يأتي قطب عالم الإمكان و محور الولاية و مركز الحقّ و الحقيقة: أميرالمؤمنين عليه السلام فيذرف دموع الرحمة في عزائهم و مأتمهم، ويتأوّه حين يتذّكر أبطال عالم اليقين أُولئكم ويتمنّي الموت لِلُقياهم ورؤيتهم. خطبة أميرالمؤمنين في مسجد الكوفة في الاُسبوع الذياستُشهد فيهففي خطبة خطبها في مسجد الكوفة قبل أسبوع من شقِّ مفرقه المبارك بضربة ابن مُلجم المُراديّ، يقول في آخرها: اَلاَ إنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلاً وَ أَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً وَ أَزمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللَهِ الاْخْيَارُ وَ بَاعُوا قَلِيلاً مِنَ الدُّنْيَا لاَ يَبْقَي' بِكَثِيرٍ مِنَ الاْخِرَةِ لاَ يَفْنَي'. مَا ضَرَّ إخْوَانُنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ وَ هُمْ بِصِفِّينَ أَنْ لاَ يُكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً! إلی أن يقول: أيْنَ إخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكَبُوا الطَّرِيقَ وَ مَضَوا علی' الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارُ وَ أَيْنَ ابْنُ التَّيِّهانِ وَ أَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ وَ أَيْنَ نُظَراؤُهُمْ مِنْ إخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا علی' الْمَنِيَّةِ وَ أُبْرِدَ بِرُؤسِهِمْ إلَي' الْفَجَرَةِ. ثمّ وضع يده علی لحيته المقدسة الشريفة و بكي طويلاً ثمّ قال: أوَّهْ علی' إخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوا الْقُرآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَ تَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوا السُّنَةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ؛ دُعُوا لِلْجَهَادِ فَأَجَابُوا وَ وَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ. [35] و علی كلّ حال فإنّ هؤلاء الرجال الكرام الذين يخاطبهم الإمام ب«أوّه علی إخواني» قد كانوا هم الكلمة الطيّبة التي تؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها؛ و هم الذين ينثرون علی الدوام الثمار اللذيذة الطريّة للحياة المعنويّة في عالم الوجود علی جميع المستعدّين، و ذلك بنظر رحمة الله سبحانه والفيض الذي كان يُفيضه عليهم، و هو ما عُبّر عنه «بِإِذْنِ رِبِّهَا». كما أنـّهم بالنسبة لنا الكلمة الطيّبة، لانّ ذكرهم و فكرهم وتأريخهم و نهج حياتهم، و زهدهم و عبادتهم و انقيادهم وتسليمهم لاءمامهم، ومحبّتهم و ودّهم و إيثارهم كان كلّه ـ بعد قرون أربعة عشر ـ المحيي والمُلهم لحياتنا و نهجنا، كما أنـّهم كانوا النماذج البارزة و المضيئة لطريقتنا و خطّ سيرنا، و أخيراً فهم الهادون لوجودنا إلی الوطن الاصلّي للاءيمان و إلی مقرّ الإيقان. إنّ قطرات الدموع هذه التي تنساب الآن علی وجناتكم قد ارتبطت ببرزخ أُولئكم، فهي تري سرّها متّصلاً و مرتبطاً بهم، وهي تلك الثمرة التي أُوتيت في سمائهم الملكوتيّة بإذن ربّهم فتنعّمنا بها، و ها نحن جالسون علی مأدبتهم ننعم بهذه المائدة السماويّة. و لقد كان كلّ واحد من أنصار سيّد الشهداء عليه السلام كلمةً طيّبة أضاءت بقدرها و سعتها سماء التوحيد و الإيثار، فملاتها نوراً و حرارة بثمرات حياتهم الطافحة بالبركة. شهادة مسلم بن عوسجة و بطولته في أرض كربلاءو كان من أصحابه عليه السلام مُسّلِمُ بْنُ عَوْسَجَة، الشيخ القاري للقرآن و فقيه أهل الكوفة، و كان رجلاً شجاعاً و فاضلاً فقيهاً قارئاً، و كان وكيل مسلم بن عقيل في الكوفة، و كان مدلّهاً بمقام الولاية، فأعطي روحه و كلّ ما لديه لهذه المدرسة المباركة. و كان يوم عاشوراء أحد أبطال جيش الحسين بن عليّ سيّد الشهداء عليه السلام، ثمّ يستشهد الحُرُّ بْنُ يَزِيدِ الرِّيَاحِيّ، وَ عَبْدُ اللَهِ بن وَهَبْ، و بُرَيْر بن خُضَيْر و رجلان آخران، فيتقدّم أحد أصحاب سيّد الشهداء إلی الميدان، و اسمه نَافِعُ بنُ هِلاَل، و كان رجلاً شجاعاً، فخرج لمبارزته أحد قادة جيش عمربن سعد، و اسمه مزاحم بن حريث، فأرداه نافع بضربة واحدة من سيفه. و عندما شاهد هذا المنظر عَمْرو بنُ الحَجَّاج الزُبَيْدِيّ، و هو أحد قادة جيش عمر بن سعد، و كان مأموراً مع أربعة آلاف نفر بالمحافظة علی شريعة الفرات، صرخ بأعلی صوته، لايبرزن إلی هؤلاء أحد، فهم ليوث الآجام الشجعان، و قد وضعوا قلوبهم علی أكفّهم و وطنّوا أنفسهم علی الموت. أولم تروا كيف قضي هذا علی صاحبنا بضربةٍ واحدة؟ إنـّكم لو بارزتموهم رجلاً لرجل لافنوكم جميعاً، ولكن إذا كنتم عليهم يداً واحدة فأحطتم بهم فإنـّكم ستقتلونهم جميعاً بغير قتالٍ بسيف أو برمح ولكن رمياً بالحجارة. فكونوا يداً واحدة و حاصروهم من كلّ صوب! فقال عُمَرُ بنُ سعد: صدقت! الرأيُ ما رأيت. و أرسلَ إلی الناس يعزم عليهم: ألاّ يبارزنّ رجلٌ منكم رجلاً منهم. ثمّ دنا عمرو بن الحجّاج في أربعة آلاف فارس من ميمنة سيّد الشهداء، و تقدّم عمر بن سعد بقلب جيشه، فصار متعيّناً علی أصحاب الإمام أن يواجهوا هجوم ثلاثين ألف نفر؛ و حسب قولهم فإنـّهم لو رموا بالحجارة لسحقوا جميع الانصار. و لقد دافع أصحاب الإمام دفاعاً لا نعلم عن خصوصاته، إلاّ أنـّهم إجمالاً ترجّلوا عن جيادهم فصاروا صفّاً فولاذيّاً مرصوصاً فأوقعوا برماحهم فقط الفزع و الرعب في نفوس الاعداء. ثمّ إنـّهم اقتتلوا ساعة، فثارت لشدّة الجِلاد غبرة طبّقت الآفاق فلا يري فيها أحدٌ أحداً، ثمّ عاد عمر بن سعد إلی مقرّه و رجع عمر بن الحجّاج، فما انجلت الغبرة إلاّ و مُسْلِم بنْ عَوْسَجَة صريعاً علی الارض و به رمق، فأسرع الحسين إليه و التفت إليه و قال له: فَمِنْهُم مَّن قَضَي' نَحْبَهُ و وَ مِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً. [36] vارجاعات [1] ـ الآيات 24 إلی 27، من السورة 14: إبراهيم. [2] ـ الآية 105، من السورة 9: التوبة. [3] ـ يقول: «إنّ هذا الفَلَك بهذه النجوم الجميلة الرائعة له صورة و نفس مستورة تكمن خلف ظاهره. و إذا ما ارتقت تلك الصورة السفلي بسلّم المعرفة فإنـّها ستكون واحدة مع أصلها. و هذا الكلام لا يرقي إليه أيّ وَهم ظاهريّ، سواءً كان من أبي نصر ] الفارابيّ [ أو أبي علی بن سينا. إنّ الروح لو لم تكن عارضاً تحت هذا الفلك الازرق، لكانت الابدان حيّةً قائمة دوماً. لذا فإنّ كلّ عارض يجب أن يُسبق بجوهرٍ ينتهي إليه، و العقلُ علی مدّعاها شاهدٍ ناطق. كلُّ مَن فَني فيه ] في الله [ وجد حياةً خالدة، أمّا من تهاوي في نفسه و داخله فمن الموتي بلا شبهة. و لقد صاغ العلماء القدامي هذه الجوهرة في صياغة رمزية و سيصل إلی سرّها من كان عالماً. ودَعْ عنك هذا الكلام الذي هجره أهل العالم، و جِدِ الحقيقة و اسلك هذا الدرب إن كنت صادقاً. إنّ كلّ ما تعدّي ذاتك لن ينفعك شيئاً، فأصلح نفسك إنِ اليومَ أو غداً. إنّ النفسَ حين تكسر القيودَ ستُسمّي بالعقل، و حيث تتحرّر من القيود فسيبقي هناك قيد آخر. قال العالم: إنّ نفوسنا ستذهب بعدنا للحشر و النشر، و إنّ ما عملتُه النفسُ اليومَ سيكون جزاءَها غداً قال العالم *: إنّ نفوسنا ستوجد و تبقي من بعدنا، و ستكون طليقة في الجزاء و في العمل و بلا ندّ. قال العالم: إنّ النفس لها مبدأ و منتهي، و قال العالم: إنّ النفس لا أوّلَ لها و لا آخر. إنّ هذا الامل يقيّد النفس في هذا العالم، و مادمت علی قيد الامل فرجلك مقيّدة ï ïو كلّ طلب في العالم سيعقبه طلب آخر، و ينبغي أن يكون هناك طلب ليس بعده من طلب!» * يُشير بقوله (قال العالِم) إلی آراء مختلفة طرحها بعض العلماء. (م) [4] ـ «بصائر الدرجات»، الطبعة الحجريّة، ص 75؛ و «بحار الانوار»، الطبع الكمباني، أحوال الإمام الصادق عليه السلام، المجلّد الحادي عشر، ص 126؛ و في الطبعة الحروفيّة ج 47، ص 79، نقلاً عن «بصائر الدرجات». [5] ـ و قد أورد ابن شهرآشوب نظير هذه الواقعة عن أبي بصير و الإمام محمّد الباقر عليه السلام في «المناقب»، الطبعة الحجريّة، المجلّد الثاني، ص 276: قال أبو بصير للباقر عليه السلام: ما أكثر الحجيج وأعظم الضجيج؟ فقال: بل ما أكثر الضجيج و أقلّ الحجيج؟ أتحبّ أن تعلم صدق ما أقوله و تراه عياناً؟ فمسح علی عينيه ودعا بدعوات فعاد بصيراً فقال: انظر يا أبا بصير إلی الحجيج! قال: فنظرتُ فإذا أكثر الناس قردة و خنازير و المؤمن بينهم كالكوكب اللامع في الظلماء. فقال أبوبصير: صدقتَ يا مولاي ما أقلّ الحجيج و أكثر الضجيج. ثمّ دعا بدعوات فعاد ضريراً. فقال أبوبصير في ذلك، فقال عليه السلام: ما تحلنا عليك يا أبابصير و إن كان الله تعإلی ما ظلمك إنـّما خار لك و خشينا فتنة الناس بنا وأن يجهلوا فضل الله علينا و يجعلونا أرباباً من دون الله و نحن له عبيد لا نستكبر عن عبادته و لا نسأم من طاعته و نحن له مسلمون. و قد نقل المجلسيّ هذه الرواية في «بحار الانوار»، ج 46 ص 261 من الطبعة الحروفيّة عن «المناقب». [6] ـ كان السابقون يعدُّون الروايات التي تنتهي إلی إبراهيم بن هاشم حسنة كالصحيحة، و كانوا يعلّلون ذلك بأنّ القميّين لم يوثّقوه، إلاّ أنّ المتأخّرين أثبتوا وثاقته و صحّة روايته بالشواهد و الادلّة؛ و يراجع لهذا المطلب «قصص العلماء» للتنكابنيّ، أحوال الشيخ البهائيّ، ص 177 من الطبعة الحجريّة. [7] ـ أورد المصنّف ترجمةً لبعض فقرات الرواية، و قد عمدنا إلی المجيء بنصّ فقرات الرواية.(م) [8] ـ «تفسير علی بن إبراهيم»، الطبعة الحجريّة، ص 370 و 371. [9] ـ إنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـ'مَي' ظُلْماً إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. و قد عُبّر في هذه الآية الكريمة عن أكل مال اليتم ظلماً بأكل النار، و يقول بتحديدٍ وحصر: إنَّمَا يَأكلونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ] و إنـّما تُفيد الحصر [. و الموضوع الآخر في سورة التوبة، الآيتان 34 و 35: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ أللَهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَي' عَلَيْهَا فِي نَارٍ جَهَنَّمَ فَتُكْوَي' بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لاِنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ. و كما يُلاحظ في هذه الآية الكريمة، فقد عُدّ الذهب و الفضّة المحميّان اللذان يُكوي بهما هؤلاء عينَ تلك الذخائر و الكنوز التي كانوا يكنزونها في الدنيا. [10] ـ «إحياء العلوم» المجلّد 3، ص 219. [11] ـ المصدر السابق، ج 4، ص 22. [12] ـ المصدر السابق، ج 4، ص 79. [13] ـ المصدر السابق، ج 1، ص 30. [14] ـ «إحياء العلوم»، ج 2، ص 121. [15] ـ و يمكن أن يكون المراد بالبعير أو البقرة أو الشاة الضاجّة بأصواتها في هذه الرواية الاموال التي يأتي بها الناس إلی الحكّام أو العاملين علی الصدقات لاستمالة قلوبهم من أجل أن يُخفّفوا عليهم و يتغاضوا عن بعض ما عليهم من الصدقات يشهد علی ذلك ï ïالرواية التي وردت في «إحياء العلوم»: روي أبوحميد الساعديّ أنّ رسول الله صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم بعث والياً علی صدقات الازد، فلمّا جاء إلی رسول الله صلّي الله عليه ] وآله [ أمسك بعض ما معه و قال: هذا لكم و هذا لي هديّة. فقال عليه السلام: ألا جلستَ في بيت أبيك و بيت أُمّك حتّي تأتيك هديّتك إن كنتَ صادقاً؟ ثمّ قال: مإلی أستمعمل الرجلَ منكم فيقول هذا لكم و هذا لي هديّة، ألا جلس في بيت أمّه ليُهدي له! والذي نفسي بيده لا يأخذ منكم أحدٌ شيئاً بغير حقّه إلاّ أتي الله يحمله. فلا يأتينّ أحدكم يوم القيـ'مة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر. ثمّ رفع يديه حتّي رأيت بياض أُبطيه ثمّ قال: اللّهمّ هل بلّغتُ؟ [16] ـ «إحياء العلوم»، ج 2، ص 194. [17] ـ اليقق: البيضاء الناصعة البياض. [18] ـ «تفسير علی بن إبراهيم»، الطبعة الحجريّة، ص 20. [19] ـ هناك رواية في تفسير آية سورة النبأ: «يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاْتُونَ أَفْوَاجاً» عنالبراء بن عازب تقول: كان معاذ بن جبل جالساً قريباً من رسول الله صلّي الله عليه وآله ï ï وسلّم فسأل معاذ من رسول الله عن آية «يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاْتُونَ أَفْوَاجاً» و عن باقي الآيات، فأجابه رسول الله: يا معاذ سألتَ عن عظيمٍ من الامر. ثمّ أرسل عينيه ثمّ قال: تحشر عشرة أصناف من أُمّتي أشتاتاً قد ميّزهم الله تعإلی من المسلمين و بدّل صورهم، فبعضهم علی صورة القردة، و بعضهم علی صورة الخنازير، و بعضهم منكّسون أرجلُهم من فوق ووجوهُهم من تحت ثمّ يُسحبون عليها، و بعضهم عميٌ يتردّدون، و بعضهم بُكمٌ لايعقلون، و بعضهم يمضغون ألسنتهم يسيل القيح من أفواههم لعاباً يتقذّرهِم أهل الجمع، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم، و بعضهم مصلّبون علی جذوع من نار، و بعضهم أشدّ نتناً من الجيف، و بعضهم يلبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم؛ فأمّا الذين علی صورة القردة فالقتّات من الناس، و أمّا الذين علی صورة الخنازير فأهل السُّحت، و أمّا المنكّسون علی رؤوسهم فأكلة الرِّبا، و العمي: الجائرون في الحكم، و الصمّ البكم: المُعجبون بأعمالهم، و الذين يؤذون الجيران، و المصلّبون علی جذوع من نار فالسعاةُ بالناس إلی السلطان، و الذين هم أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتمتّعون بالشهوات و اللذّات و يمنعون حقَّ الله في أموالهم، و الذين يلبسون الجباب فأهل التجبّر و الخُيلاء. و قد جري في هذه الرواية الشريفة بيان خصائص الصور الملكوتيّة لاهل الكبائر، وخاصّة أُولئك الذين يحضرون في المحشر علی هيئة القردة و الخنازير. و قد أورد غالبيّة المفسّرين هذه الرواية في تفسير آية (فتأتون أفواجاً)؛ و من جملتهم الزمخشريّ في «الكشّاف» ج 2، ص 518؛ و الطبرسيّ في «مجمع البيان»، ج 5، ص 423؛ و أبوالفتوح الرازيّ، طبع مظفري، ج 5، ص 462؛ و الإمام الفخر الرازيّ، ج 8، ص 423 و 434؛ و «الدرّ المنثور»، ج 6، ص 307؛ و تفسير «الصافي» ص 555؛ و تفسير «البرهان» ج 2، ص 1169؛ و تفسير «روح البيان»، ج 10، ص 299؛ و أورده المرحوم المجلسيّ في «البحار»، الطبعة الحروفيّة، ج 7، ص 89، في باب صفة المحشر، نقلاً عن «مجمع البيان». [20] ـ الآية 12، من السورة 49: الحجرات. [21] ـ يقول: «إنّ العالَم بأرجائه عند مَن نفسه و ذاته في تجلٍّ و ظهور، يمثّل كتاباً للحقّ تعالي. العَرَض فيه كالإعراب، و الجوهر كحروف الكتاب؛ كما أنّ المراتب و الدرجات كآيات الوقوف و علاماته. كلّ عالمٍ فيه كمثل سورة معيّنة، أحدهما كالفاتحة، و الآخر كالإخلاص». [22] ـ الآية 55، من السورة 54: القمر. [23] ـ «نهج البلاغة»، باب المواعظ و الحكم، ص 172 من ج 2، طبعة عبدة، مصر. [24] ـ الآية 10، من السورة 35: فاطر. [25] ـ «الإقبال» الطبعة الحجريّة، ص 687. [26] ـ و قد وردت في رسالة «مرصاد العباد»، طبع (بنگاه ترجمه و نشر كتاب)، الصفحات 208 و 274 و 613 بهذه العبارة: لا يسعني أرضي و لا سمائي و إنـّما يسعني قلب عبدي المؤمن. [27] ـ الآية 33، من السورة 16: النحل. [28] ـ الآية 182، من السورة 3: آل عمران؛ و الآية 51، من السورة 8: الانفال. [29] ـ ضَجَنان ـ بالتحريك ـ جبل بتهامة. (م) [30] ـ «الاختصاص»، الطبعة الرصاصيّة، ص 275 إلی 277؛ و «بصائر الدرجات» الطبعة الحجريّة، ص 80 و 81. [31] ـ «الاختصاص»، الطبعة الرصاصيّة، ص 275 إلی 277؛ و «بصائر الدرجات» الطبعة الحجريّة، ص 80 و 81. [32] ـ «بصائر الدرجات» الطبعة الحجريّة، ص 80. [33] ـ «المجالس» للمفيد، الطبعة الرصاصيّة، النجف ص 60 إلی 62. [34] ـ المُراد بسعفات هجر بساتين النخيل في المدينة أو اليمن. و ذكر في القاموس (هَجَر) بفتحتين. [35] ـ «نهج البلاغة» عبدة، طبع مصر ـ ص. 343 و 344 و الملاّ فتح الله، الطبعة الحجريّة، ص 318 ـ 319. [36] ـ الآية 23، من السورة 33 الاحزاب.
|
|
|