|
|
الصفحة السابقةبِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ الحمد لله ربّ العالمين ولا حول ولا قوة إلاّ باللَه العلی العظيم وصلَّي اللهُ علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللَه علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين (مطالب أُلقيت في اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك)
جنّة آدم وجنّة البرزخ جنّتان دنيويّتانقال الله الحكيم في كتابه الكريم: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُو´ءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ و´ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَهُ نَفْسَهُ و وَاللَهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ.[1] إنّ الإنسان الذي يرحل عن الدنيا يرد جنّة أو جهنّماً تدعيان بالجنّة وبجهنّم البرزخيّتين، وهما أضعف بكثير من جنّة القيامة وجهنّمها، ومن ثمّ فقد جاء التعبير في بعض الروايات الواردة بأنـّهم ـ في عالم القبر والبرزخـ يفتحون باباً للمتوفّي إلی جنّته الخاصّة بالقيامة، أو إلی جهنّمه الخاصّة بالقيامة. وبنفس ميزان التذاذ الإنسان بفتح ذلك الباب، وبالتطّلع إلی المناظر البديعة المدهشة، أو اضطرابه وانزعاجه من رؤية الدخان والنار والسعير والزقّوم والحميم والثعابين والافاعي؛ فإنّ هذه الجنّة البرزخيّة أو جهنّم البرزخيّة هما مثالان وأثران من القيامة بنفس الميزان والقدر، حيث اكتسبا ـ علی هذا الاساس ـ موجوديتّهما التابعة للجنّة أو لجهنّم. وقد دُعيت هذه الجنّة في بعض الروايات بجنّة الدنيا، كما عبّر المرحوم المجلسيّ رضوان الله علیه في كتاب المعاد من «بحار الانوار» عنهما بجنّة الدنيا وجهنّم الدنيا، وعقد باباً في هذا العنوان. والعلّة في ذلك أنّ عالم البرزخ من تتمّة عالم الدنيا، لذا فقد عُبّر أيضاً عن الجنّة التي كان فيها آدم أبو البشر بجنّة الدنيا، لانـّها من مقدّمات الدنيا ومتّصلة بها وباعثة علی الاستعداد والتهيّؤ للقدوم إليها. روي الصدوق في «العيون» بسنده عن الحسن بن بشّار، عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام: قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ جَنَّةِ آدَمَ، فَقَالَ: جَنَّةٌ مِنْ جَنَّاتِ الدُّنْيَا تَطْلُعُ علیهِ فِيهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ جَنَّاتِ الْخُلْدِ مَا خَرَجَ مِنْهَا أَبَداً. [2] وأورد الكلينيّ نظير هذه الرواية في «الكافي» عن علیّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن البزنطيّ، عن الحسين بن ميسّر، عن الإمام الصادق علیه السلام. [3] وأورد في «تفسير علیّ بن إبراهيم» ذيل الآية: وَقُلْنَا يَـا'ادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، عن أبيه مرفوعاً قال: سُئِلَ الصَّادِقُ عَنْ جَنَّةِ آدَمَ مِنْ جَنَّاتِ الدُنْيَا كَانَتْ أَمْ مِنْ جِنَانِ الآخِرَةِ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مِنْ جَنَّاتِ الدُّنْيَا تَطْلُعُ فِيهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ؛ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ جَنَّاتِ الآخِرَةِ مَا أُخْرِجَ مِنْهَا أَبَداً. [4] ثمّ إنّ البرزخ ينقضي ويتصرّم ويُنفخ في الصور، فيذهب الإنسان إلی جنّة القيامة. تجسّد الملكات في القبر وفوائد العمل الصالحإنّ الإنسان الذي يرد البرزخ، يرده بموجوديّته وفعلیته، فقد كانت مَلكاته وشخصيّته مختفية مستترة في هذه الدنيا، أمّا البادي للعيان فيها فظاهره وظاهر أعماله وسيرته. لكنّ هذه المخفيّات ستجد درجة من الظهور في عالم البرزخ، فتتجلّي أعماله وتتمثّل بصورة ملكوتيّة، وتظهر فيالبرزخ مع الإنسان ملكاته التي أثّرت في شخصيّته. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ علی' يَدَيْهِ يَقُولُ يَـ'لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَـ'وَيْلَتَي' لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَـ'نُ لِلإنْسَـ'نِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَـ'رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـ'ذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا. [5] ويتّضح في هذه الآيات التي عبّرت عن الشيطان بالخذول المضلّ، وعبّرت في الوقت نفسه عن فلان بالمضلّ عن الذكر والقرآن، أنّ فلاناً كان محلّ ظهور الشيطان والنفس الامّارة، وكان ـ في نهاية الامر ـ مركزاً ومحوراً لتجلّيات نفسه. وفي الحقيقة والمعني ـ إذَن ـ فإنّ الإنسان يتذمّر من نفسه ويعتب علی موجوديّته، فتلك الشخصيّة هي التي تسبّبت في انصباب جميع المصائب والابتلاءات والامتحانات علی الإنسان، وهي التي كانت محوراً لقبول أو رفض السعادة وكلام الحقّ. وهذا هو ذلك القرين الذي كان الإنسان يرغب لو كان بينهما بُعد المشرقين، والذي عبّر عنه بتعبير: وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّي'هَا. أو هو تلك النفس الملكوتيّة الرحمانيّة الجميلة البديعة السريعة الإدراك ومحلّ اللطف ومركز المحبّة وترشّح الخيرات التي عبّر عنها بتعبير: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّيـ'هَا. إنّ هذه النفس ستلازم الإنسان الذي يذهب في القبر وتكون قرينه، فيسألها: من أنت فإنّي لم أر مثلك بهاءً ومحبّة وأُنساً؟ فتجيب: أنا عملك، أنا ثمرة سيرتك وسلوكك، أنا تجلّي ملكاتك وسجاياك وشخصيّتك. لقد قدمتُ معك هنا من الدنيا، وسأكون معك إلی يوم القيامة، وحين ستقوم من قبرك سأرد معك إلی المحشر وأحضر في ساحة العرض ومقام العدل الإلهيّ. يروي الصدوق في «الامالي» بسنده المتّصل عن العلاء بن محمّدبن فضل، عن أبيه، عن جدّه قال: قال قيس بن عاصم: وفدتُ مع جماعة من بني تميم إلی النبيّ صلّي الله علیه وآله، فدخلتُ وعنده الصلصال ابنالدلهمس،فقلت: يا نبيّ الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنّا قومٌ نعبر فيالبرية. فَقَالَ رَسُولُ اللَهِ: يَا قَيْسُ، إِنَّ مَعَ الْعِزِّ ذُلاّ، وَإنَّ مَع الْحَيَاةِ مَوْتاً، وَإِنَّ مَعَ الدُّنْيَا آخِرَةً، وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً، وَعلی كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً، وَإِنَّ لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثَوَاباً، وَلِكُلِّ سَيِّئَةٍ عِقَاباً، وَلِكُلِّ أَجَلِّ كِتَاباً، وَإِنَّهُ لاَبُدَّ لَكَ يَاقَيْسُ مِنْ قَرِينٍ يُدْفَنُ مَعَكَ وَهُوَ حَيُّ، وَتُدْفَنُ مَعَهُ وَأَنْتَ مَيِّتٌ. فَإِنْ كَانَ كَرِيماً أَكْرَمَكَ، وَإِنْ كَانَ لَئِماً أَسْلَمَكَ؛ ثُمَّ لاَ يُحْشَرُ إِلاَّ مَعَكَ، وَلاَ تُبْعَثُ إِلاَّ مَعَهُ، وَلاَ تُسْأَلُ إِلاَّ عَنْهُ؛ فَلاَ تَجْعَلُهُ إِلاَّ صَالِحاً. فَإِنَّهُ إِنْ صَلُحَ أَنَسْتَ بِهِ، وَإِنْ فَسَدَ لاَ تَسْتَوْحِشُ إِلاَّ مِنْهُ، وَهُوَ فِعْلُكَ. فقال (قيس): يا نبيّ الله أُحبّ أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به علی من يلينا من العرب وندّخره، فأمر النبيّ صلّي الله علیه وآله من يأتيه بِحسّان [6] (بن ثابت)، قال (قيس): فَأقبلتُ أفكّر فيما أشبه هذه العظة من الشعر فاستتبّ لي القول قبل مجيء حسّان، فقلتُ: يارسولالله قد حضرتني أبيات توافق ما تريد، فقلتُ: تَخَيَّرْ خَلِيطاً مِنْ فِعَالِكَ إِنَّمَا قَرِينُ الْفَتَي فِي الْقَبْرِ مَا كَانَ يَفْعَلُ وَلاَبُدَّ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ أنْ تُعِدَّةُ لِيَوْمِ يُنَادَي الْمَرءُ فِيهِ فَيُقْبلُ فَإِنْ كُنْتَ مَشْغُولاً بِشيءٍ فَلاَ تَكُنْ بِغَيْرِ الَّذِي يَرْضَي بِهِ اللَهُ تَشْغَلُ فَلَنْ يَصْحَبَ الإنسان مِنْ بَعْد مَوْتِهِ وَمِنْ قَبْلِهِ إِلاَّ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ أَلاَ إِنَّمَا الإنسان ضَيْفٌ لاِهْلِهِ يُقِيمُ قَلِيلاً فِيهِمُ ثُمَّ يَرْحَلُ انتهي. [7] وقد نقله المجلسيّ في «روضة البحار» عن «أعلام الدين» للديلميّ بفارقأنّ منشد الاشعار كان شخصاً من الصحابة حاضراً في المجلس يدعي الصلصال.[8] يقول ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»: خطب رسولالله صلّي الله علیه وآله وسلّم آخر عمره الشريف، فقال: أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اللَهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ نَسَبٌ وَلاَ أَمْرٌ يُؤْتِيهِ بِهِ خَيْراً أَوْ يَصْرِفُ عَنْهُ شَرّاً إِلاَّ الْعَمَلُ، أَلاَ لاَ يَدَّعِيَنَّ مُدَّعٍ، وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ مُتَمَنٍّ. وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لاَ يُنْجِي إِلاَّ عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ، وَلَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ اللَهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ [9] وينقل المجلسيّ رضوان الله علیه عن كتاب «صفات الشيعة» للصدوق رحمه الله قال: لمّا فتح رسول الله صلّي الله علیه وآله مكّة قام علی الصفا فقال: يا بني هاشم! يا بني عبد المطّلب! إِنِّي رَسُولُ اللَهِ إِلَيْكُمْ وَإِنِّي لَشَفِيقٌ علیكُمْ؛ لاَ تَقُولُوا: إِنَّ مُحَمَّداً مِنَّا؛ فَوَاللَهِ مَا أَوْلِيَائِي مِنْكُمْ وَمِنْ غَيْرِكُمْ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ. فَلاَ أَعْرِفُكُمْ تَأْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْمِلُونَ الدُّنْيَا علی رِقَابِكُمْ، وَيَأتِي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الآخِرَةَ. أَلاَ وَإِنِّي قَدْ أَعْذَرْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَفِيمَا بَيْنَ اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ. [10] وما أروع ما أنشد الصادق علیه السلام في وجوب اجتناب المعصية: تَعْصِي الإلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هَذَا لَعَمْرِي فِي الْفِعَالِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لاَطَعْتَهُ إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ يُطِيعُ الفرق بين جنّة الخلد وجنّة عدنوالخلاصة فإنّ الجنّة البرزخيّة ليست جنّة الخُلد، لانّ هناك خلوداً في جنّة الخلد، فمن دخلها لم يخرج منها، كما مرّ قريباً عن جنّة آدم أنـّها لو كانت جنّة الخُلد لما كان أُخرج منها. وقد ورد في شأن جنّة عدن أنـّها جنّة برزخيّة، وذلك لانّ أيّام سكنتها مقسّمة إلی بكرة وعشيّ، بينما ليس هناك من صبح ولا ليل في جنّة القيامة: جَنَّـ'تِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَـ'نُ عِبَادَهُ و بِالْغَيْبِ إِنَّهُ و كَانَ وَعْدُهُ و مَأْتِيًّا* لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلَـ'مًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. [11] وورود في «تفسير علیّ بن إبراهيم»: قَالَ: ذَلِكَ فِي جَنَّاتِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْقِيَامَةِ؛ وَالدَّلِيلُ علی ذَلِكَ قَوْلُهُ: بُكْرَةً وَعَشِيّاً، فَالْبُكْرَةُ وَالْعَشِيُّ لاَ تَكُونُ فِي الآخِرَةِ فِي جَنَّاتِ الْخُلْدِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ فِي جَنَّاتِ الدُّنْيَا الَّتِي تَنْتَقِلُ أَرْوَاحُ الْمُؤمِنِينَ إِلَيْهَا وَتَطْلُعُ فِيهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. [12] أرواح الكفّار تذهب إلی برهوتوورد فيالاخبار المستفيضة أنّ أرواح المؤمنين في وادي السلام وأنّ أرواح الكفّار والمعاندين في برهوت [13] اليمن. وبرهوت اسم بئر يقع في أرض حضرموت جنوب اليمن، وبطبيعة الحال فإنّ ذلك من باب تعلّق عالم البرزخ وارتباطه بعالم القبر. أي أنّ تلك الصور البرزخيّة مرتبطة ومتعلّقة من الدنيا بتلك الامكنة الاوضع والاحقر والارذل والاكثر بعثاً علی الملل، والاكثر اكتظاظاً بالآفات فهناك في تلك البئر من الحيّات السوداء والعقارب والبوم والحيوانات الوحشيّة بالقدر الذي يعجز معه كلّ إنسان عن العبور، فضلاً عن الحرارة اللاهبة التي لا يمكن الصبر علیها دقيقة واحدة. يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده قال: قال أمير المؤمنين علیه السلام: شَرُّ بِئرٍ في النَّارِ بَرَهُوتُ الَّذِي فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ. [14] كما يروي في «الكافي» بسنده عن قدّاح، عن أبي عبد الله، عن آبائه علیهم السلام، قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله علیه: شَرُّ مَاءٍ علی وَجْهِ الاْرْضِ مَاءُ بَرَهُوتٍ، وَهُوَ الَّذِي بِحَضَرمَوتَ يَرِدُهُ هَامُ الكُفَّارِ. [15] ويروي كذلك في «الكافي» بسنده عن السكونيّ عن الإمام الصادق علیه السلام قال: قال رسول الله صلّي الله علیه وآله: شَرُّ الْيَهُودِ يَهُودُ بَيْسَان، وَشَرُّ النَّصَارَي نَصَارَي نَجْرَان، وَخَيْرُ مَاءٍ علی وَجْهِ الاْرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، وَشَرُّ مَاءٍ علی وَجْهِ الاْرْضِ مَاءُ بَرَهُوتٍ وَهُوَ وَادٍ بَحَضَرمَوْتَ تَرِدُ علیهِ هَامُ الْكُفَّارِ وَصَدَاهُمْ.[16] وقال المجلسيّ نقلاً عن الجزريّ في «النهاية»: الهامة: الرأس، واسم طائر وهو المراد في الحديث... قيل: إنّ العرب كانت تزعم أنّ روح القتيل الذي لا يُدرك بثأره تصير هامة، فتقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت،... فنفاه الإسلام ونهاهم عنه. ثمّ قال: والمراد بالهام والصدي في الخبر: أرواح الكفّار، وإنّما عبّر عنها بهما لانـّهم كانوا هكذا يعبّرون عنها، وإن كان ما زعموه في ذلك باطلاً. [17] ويروي في «الكافي» بسنده عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام قال: إِنَّ مِنْ وَرَاءِ الْيَمَنِ وَادِياً يُقَالُ لَهُ وَادِي بَرَهُوتَ، وَلاَ يُجَاوِرُ ذَلِكَ الْوَادِي إِلاَّ الْحَيَّاتُ السُّودُ وَالْبُومُ مِنْ الطَّيْرِ؛ فِي ذَلِكَ الْوَادِي بِئرٌ يُقَالُ لَهَا: بَلَهُوتٌ يُغدَي وَيُرَاحُ إِلَيْهَا بَأَرْوَاحِ الْمُشْرِكِينَ يُسْقُونَ مِنْ مَاءِ الصَّدِيدِ. [18] ويروي الصفّار في «بصائر الدرجات» بسنده عن الإمام محمّد الباقر علیه السلام أنّ محمّد بن مسلم قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلی أَبِي جَعْفَرٍ (الباقر) علیهِ السَّلاَمُ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ يَاأَعْرَابِيُّ؟ قال: مِنَ الاْحْقَافِ أَحْقَافِ عَادٍ. قَالَ: رَأَيْتُ وَادِياً مُظْلِماً فِيهِ الْهَامُ وَالْبُومُ لاَ يُبْصَرُ قَعْرُهُ. قَالَ: وَتَدْرِي مَا ذَاكَ الْوَادِي؟ قَالَ: لاَ وَاللَهِ، مَا أَدْرِي. قَالَ: ذَاكَ بَرَهُوتَ، فِيِهِ نَسَمَةُ كُلِّ كَافِرٍ. [19] وورد في رواية أنّ أرواح المؤمنين تجتمع في ليالي الجمعة عند صخرة بيت المقدس. سؤال ملک الروم للإمام الحسن علیه السلامويذكر في «تفسير علیّ بن إبراهيم» ذيل الآية: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ رواية مفصّلة عن حرب أمير المؤمنين علیه السلام مع معاوية واطّلاع ملك الروم علی ذلك فيقول: ثمّ كَتَبَ (ملك الروم) إلی معاوية أن ابعثْ إلی أعلم أهل بيتك، وكتبَ إلی أمير المؤمنين علیه السلام أن ابعث إلی أعلم أهل بيتك، فأسمع منهما ثمّ أنظر في الإنجيل كتابنا ثمّ أخبركما مَن أحقّ بهذا الامر... فبعث معاوية يزيد ابنه وبعث أميرالمؤمنين الحسن ابنه علیهما السلام... ثمّ يذكر القضيّة بالتفصيل وكان فيما سأل مَلِكُ الروم الإمام الحسن أن سأله عن أرواح المؤمنين أين تكون إذا ماتوا؟ فقال علیه السلام: تَجْتَمِعُ عِنْدَ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ عَرْشُاللَهِ الاْدْنَي مِنْهَا يَبْسُطُ اللَهُ الاْرْضَ وَإِلَيْهَا يَطْوِيهَا، وَمِنْهَا الْمَحْشَرُ، وَمِنْهَا اسْتَوَي رَبُّنَا إلی السَّمَاءِ، أَيْ اسْتَوْلَي علی السَّمَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ. ثمّ سأله عن أرواح الكفّار أين تجتمع؟ قال علیه السلام: تَجْتَمِعُ فِي وَادِي حَضْرَمَوتَ، وَراَءَ مَدِينَةِ الْيَمَنِ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَهُ نَاراً مِنَ الْمَشْرِقِ وَنَاراً مِنَ الْمَغْرِبِ وَيُتْبِعُهُمَا بِرِيحَيْنِ شَدِيدَيْنِ فَيُحْشَرُ النَّاسُ.[20] وروي الشيخ المفيد في «الاختصاص» بسنده عن الحسن بن علیّبن بقّاح، عن ابن جبلّة، عن عبد الله بن سنان، قال: سألتُ أبا عبد الله علیه السلام عن الحوض، فقال لي: حوضٌ ما بين بُصري إلی صَنعاء، أتحبّ أن تراه؟ قلتُ: نعم، جُعِلتُ فِداكَ! قال: فأخذَ بيدي وأخرجني إلی ظهر المدينة، ثمّ ضرب برجله فنظرتُ إلی نهر يجري لا تُدرك حافّته إلاّ الموضع الذي أنا فيه قائم، فإنّه شبيه بالجزيرة، فكنت أنا وهو وقوفاً، فنظرت إلی نهر يجري من جانبه هذا ماء أبيض من الثلج، ومن جانبه هذا لبن أبيض من الثلج، وفي وسطة خمر أحسن من الياقوت، فما رأيت شيئاً أحسن من تلك الخمر بين اللبن والماء. فقلت له: جُعِلْتُ فِداكَ، من أين يخرج هذا؟ ومن أين مجراه؟ فقال: هذه العيون التي ذكرها اللهُ في كتابه أنهار في الجنّة، عين من ماء، وعين من لبن، وعين من خمر تجري في هذا النهر. ورأيت حافّتيه علیهما شجر فيهن حور مُعلّقات برؤوسهن شعر ما رأيتُ شيئاً أحسن منهنّ وبأيديهنّ آنية ما رأيت آنية أحسن منها ليست من آنية الدنيا، فدنا من إحداهنَّ فأومأ إليها بيده لتسقيه، فنظرت إليها وقد مالَتْ لتغرفَ فمالت الشجرة معها، ثمّ اغترفتْ فناولَتْهُ فناولني فشربتُ فما رأيت شراباً كان ألينَ منه ولا ألذَّ منه. وكانت رائحته رائحة المسك، فنظرت في الكأس فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب، فقلت له: جُعِلْتُ فِداكَ، ما رأيتُ كاليوم قطّ، ولا كنتُ أري أنّ الامر هكذا. فقال لي: هذا أقلُّ ما أعدّه اللهُ لشيعتنا، إنّ المؤمنَ إذا تُوفّي صارت روحُه إلی هذا النهرِ ورَعَتْ في رياضِهِ وشربتْ من شرابِهِ، وإنّ عدوَّنا إذا توفّي صارت روحُه إلی وادي بَرَهوت فأُخلدتْ في عذابِهِ، وأُطعمتْ من زقّومِهِ، وأُسقيتْ من حَميمِهِ، فاستعيذوا باللهِ من ذلك الوادي. [21] وقد ذكر محمّد بن الحسن بن الصفّار هذه الرواية في «بصائر الدرجات» مع بعض الإضافات؛ [22] كما نقلها المرحوم المجلسيّ في «البحار» باب جنّة الدنيا ونارها، كتاب «العدل والمعاد» نقلاً عن «الاختصاص» و«البصائر». [23] وحقّاً فإنّ وادي برهوت هذا قليل في حقّ أعداء آل محمّد الذين هم في صدد إطفاء نور الحقيقة، وفي صدد إلحاق الاذي بهم بكلّ قواهم. عداء الاشعث بن قيس لامير المؤمنين علیه السلامولقد كان الاشعث بن قيس، أحد أعداء أمير المؤمنين علیه السلام رجلاً شرّيراً يتحرّي الشرّ ويسعي له، وكان أحد زعماء الكوفة، وكان قائداً مغواراً مقتدراً له قوم وعشيرة، وينتمي إلی قبيلة بني كندة. وكان قد تزوّج أُمّ فروة، [24] أُخت أبي بكر وكانت عمياء، فاستغلّ مصاهرته لابي بكر في تعزيز كيانه وشخصيّته. وكان من أهل الفتنة والشرّ إلی الحدّ الذي كان أبو بكر يأسف ويندم لعدم قتله وضرب عنقه حين جيء به أسيراً إليه. ورد في «مروج الذهب» أنّ ذلك كان أحد الاُمور الثلاثة التي كان أبوبكر يتأسّف علیها عند احتضاره؛ قال: وَالثَّلاَثُ الَّتِي تَرَكْتُهَا وَوَدَدْتُ أَنِّي فَعَلْتُهَا: وَدَدْتُ أَنِي يَوْمَ أُتِيتُ بِالاْشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَسيراً ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ خُيِّلَ لِي أَنـَّهُ لاَ يَرَي شَرّاً إِلاَّ أَعَانَهُ. [25] وكان هذا الرجل قد صمّم علی مخالفة أمير المؤمنين علیه السلام علناً، وكان الإمام قد لجأ إلی تعيينه في حرب صفّين رئيساً لبني كندة بناءً علی النفوذ والسلطة اللذين كانا له في الكوفة، فجعله ضمن رؤساء عسكر صفّين في جيش من عشرة آلاف نفر من كندة، فأحرز بادي الامر بعض الانتصارات، منها أنـّه استعاد مع مالك الاشتر شريعة الماء التي كان معاوية قد منعهم منها. ولكن، وما إن أشرف جيش الإمام علی الفتح والظفر، وما إن لجأ معاوية إلی الحيلة والمكر فرفع المصاحف علی أسنّة الرماح مُلقياً بذلك التفرقة والتشتّت بين جيش الإمام، حتّي كان الاشعث بن قيس من بين الافراد الذين جاءوا إلی أمير المؤمنين طالبين منه الكفّ عن القتال. فلقد جاء الاشعث مع عشرة آلاف من الجيش بسيوف مُشهرة مسلولة فقالوا: يا علیّ! أمّا أن تكفّ عن الحرب فوراً، وإلاّ قطّعناك بسيوفنا هذه إرباً إرباً. قال علیه السلام: أمهلوني ساعة، فلقد أشرف جيشنا عي خيمة معاوية ولم يبقَ بيننا وبين النصر الحاسم إلاّ ساعة، ولقد وصل مالك الاشتر وقيسبن سعد بن عبادة، كلاّ منهما مع عشرة آلاف مقاتل بالسيف إلی خيمة معاوية، وها هو الامر علی وشك الحسم النهائيّ. قالوا: لا مفرّ من ذلك أبداً، فادعُ الاشتر واستقدمه إليك وقُلْ له أن يكفّ عن الحرب وإلاّ قطّعناك إرباً إربا. وهكذا أحاط أُولئك الآلاف العشرة بأمير المؤمنين وتحلّقوا حوله بسيوفهم المشهرة، فأرسل الإمام إلی مالك وقيس أن: عودا فوراً! فقالا، يا علیّ! أمهلنا ساعة فقد وصلنا إلی خيمة معاوية. فأرسل إليهما: أفتريدان علیاً حيّاً في هذه الساعة أم لا؟ هكذا كان الاشعث بالنسبة للإمام، رجلاً ساعياً للفتنة، متحيّناً للفرص، عدوَّاً لدوداً. أمّا ولده محمّد بن الاشعث، وأُمّه أُمّ فروة العمياء بنت أبي بكر، فقد كان مأموراً بالمسير إلی كربلاء في أربعة آلاف فارس لمحاربة الإمام سيّد الشهداء علیه السلام. وأمّا ابنته جُعْدَة فهي التي سمّت الإمام الحسن المجتبي علیه السلام بسمّ الحقد والعداوة. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ. [26] حكومة أمير المؤمنين علیه السلام كانت حكومة إلهيّةولقد كان لامير المؤمنين علیه السلام حكومة عجيبة، اقترنت فيها تلك القدرة والعظمة باللين والرفق والعدالة المميّزة، فكان علیه السلام يتغاضي عن جميع الجرائم التي كانت ترتكب بحقّه، وكان يتجاهل مصالحه الشخصيّة ولا يقيم لها وزناً أمام مصالح النوع وحقوق الناس، وكان يُعرض عن المقاصد السيّئة والإهانات ويغضّ عنها طرفه. لذا فإنّنا نري أفراداً كمثل أحمد أمين المصريّ وابن عبد ربّه في «العقد الفريد» يقولان: إنّ حكومة أمير المؤمنين كانت أشبه بالنبوّة منها بالحكومة، كما أشبه الاشخاص الذين ربّاهم حواريّي عيسي ابن مريم علیهالسلام، ومن ثمّ فإنّ ذلك لم يكن أسلوباً للحكم، وعلی أساس هذا الصدق والعدالة فقد كانت الغلبة لمعاوية في حرب صفّين. بلي! يجب أن يقال لهذين ولامثالهما ممّن يعدّون الحكومة سياسة مقارنة للمكر والخداع والكذب، ممّن لا يتورّعون عن ارتكاب أيّ جناية للوصول إليها: إنّ الحكومة الإلهيّة الحقّة هي حكومة الحقّ، وليسالهدف منها التسلّط علی أعراض الناس وأموالهم ونفوسهم، وليسالقصد منها التظاهر والصراع في ساحة الاماني وعبادة الفرد؛ بل الهدف منها غرس براعم العدالة وإرساؤها في قلوب الناس، وإحقاق الحقوق، وبالطبع فإنّ مثل هذه الحكومة الإلهيّة ينبغي أن تحصل علی يد أميرالمؤمنين ومن تربّوا وترعرعوا في مدرسته. ولقد جاء الانبياء ليقيموا حكومة الحقّ، وليقطعوا يد الشيطان وأعوانه، فيكفّوهم عن أرواح الناس وأموالهم ونواميسهم، وليطووا بساط عبادة الشخصيّة والاستبداد، وليُخرجوا الناس من تحت نير تسلّط المستبدّين القساة الافظاظ الذي يرزحون تحته، ولينالوا حقوقهم الحقّة البديهيّة وليتمتّعوا بأفضل المواهب الإلهيّة في عالمٍ من السلام والصفاء والاستقرار. لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَـ'تِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـ'بَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. [27] وقد روي في «أمالي الصدوق» بسنده المتّصل عن قرن أبي سليمان الضبّيّ قال: أرسل علیّ بن أبي طالب أمير المؤمنين إلی لُبَيْد العَطَارُديّ بعض شرطه، فمرّوا به علی مسجد سمّاك، فقام إليه نعيم بن دجاجة الاسديّ فحال بينهم وبينه، فأرسل أمير المؤمنين علیه السلام إلی لبيد فجيء به، قال: فرفع أمير المؤمنين شيئاً ليضربه، فقال نعيم: وَاللَهِ، إِنَّ صُحْبَتَكَ لَذُلٌّ وَإِنَّ خِلاَفَكَ لَكُفْرٌ! فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهِ السَّلاَمُ: وَتَعْلَمُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: خَلُّوهُ! [28] ثناء أبي أمامة الباهليّ علی أمير المؤمنين وامتداحه له عند معاويةيقول المجلسيّ: رأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا: روي أنـّه دخل أبو أمامة الباهليّ علی معاوية، فقرّبه وأدناه، ثمّ دعا بالطعام فجعل يُطعم أبا أمامة بيده، ثمّ أوسع رأسه ولحيته طيباً بيده، وأمر له ببدرة من دنانير فدفعها إليه، ثمّ قال: يا أبا أمامة بالله أنا خيرٌ أم علیّ بن أبي طالب؟ فقال أبو أمامة: نعم ولا كذب، ولو بغير الله سألتني لَصَدَقْتُ، علیُّ والله خيرٌ منك وأكرمُ وأقدمُ إسلاماً، وأقربُ إلی رسول الله قرابةً، وأشدُّ في المشركين نِكايَةً، وأعظمُ عند الاُمّةِ غناءً. أتدري مَن علیّ يامعاوية؟ ابنُ عمِّ رسولِ الله صلّي الله علیه وآله وزوجُ ابنتِهِ سيّدةِ نساءِ العالمين، وأبو الحسنِ والحسينِ سيّدي شبابِ أهلِ الجنّةِ، وابنُ أخي حمزةَ سيّدِ الشهداءِ وأخوجعفرٍ ذي الجناحينِ؛ فأين تقع أنتَ من هذا يا معاوية؟ أظننتَ أنـيّ سأخيّرك علی علیّ بألطافكَ وطعامكَ وعطائكَ فأدخُلُ إليك مؤمناً وأخرجُ منك كافراً؟ بِئسَ ما سَوَّلَتْ لكَ نَفْسُك يا معاوية. ثمّ نهض وخرجَ من عنده فأتبعه بالمالِ فقال: لاَ واللهِ لا أقبل منك ديناراً واحداً. [29] يقول ابن أبي الحديد: وكان الاشعث بن قيس من المنافقين في خلافة علیّ علیه السلام وهو في أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام كما كان عبد الله بن أُبيّ بن سَلُول في أصحاب رسول الله صلّي الله علیه وآله كلّواحد منهما رأس النفاق في زمانه. [30] ويروي ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» عن يحيي البرمكيّ عنالاعمش أنّ جريراً (البجليّ) والاشعث خرجا إلی جبّانة الكوفة، فمرّ بهما ضبّ يعدو وهما في ذمّ أمير المؤمنين علیّ علیه السلام، فناديا: يَا أَبَا حَسَل ] يا أمير المؤمنين [ هَلُمَّ يَدَكَ نبايعك بالخلافة! فبلغ علیاً علیه السلام قولهما فقال: إنّهما يُحشران يوم القيامة وإمامُهُمَا الضبُّ. [31] و [32] وعن «الخرائج والجرائح» أنّ الاشعث بن قيس استأذن علی علیّ علیه السلام فردّه قنبر فأدمي أنفه، فخرج علیّ علیه السلام فقال: مَا لِي وَلَكَ يَا أَشْعَثُ؟ [33] و [34] ويقول ابن أبي الحديد: قال أبو جعفر محمّد بن جرير في التاريخ: وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَلْعَنُونَ الاْشْعَثَ وَيَلْعَنُهُ الْكَافِرُونَ أَيْضَاً وَسَبَايَا قَوْمِهِ، وَسَمَّاهُ نِسَاءُ قَوْمِهِ عُرْفَ النَّارِ وَهُوَ اسمٌ لِلْغَادِرِ عِنْدَهُمْ. [35] وكان أمير المؤمنين علیه السلام علی منبر الكوفة يخطب، فمضي في بعض كلامه شيء (عن التحكيم) اعترضه الاشعث، فقال: ياأميرالمؤمنين هَذِهِ علیكَ لاَ لَكَ! فخفض علیه السلام إليه بصره، ثمّ قال: مَا يُدْرِيكَ مَا علیَّ مِمَّا لِي؟ علیكَ لَعْنَةُ اللَهِ وَلَعْنَةُ اللاَّعِنِينَ! حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ، مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ، وَاللَهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الْكُفْرُ مَرَّةً وَالإسلام أُخْرَي، فَمَا فِدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ وَلاَ حَسَبُكَ. وَإِنَّ امْرِءًا دَلَّ علی قَوْمِهِ السَّيْفَ، وَسَاقَ إِلِيْهِمْ الْحَتْفَ، لَحَرِيُّ أَنْ يَمْقُتَهُ الاْقْرَبُ وَلاَيَأْمَنُهُ الاْبْعَدُ.[36] هذه عدالة علیّ وشجاعته وفتوّته ومروءته، حين يغضّ طرفه عن هذه الإهانة ويعفو عنها تكرّماً، وهذه هي الولاية الحقّة وطهارة النفس التي كان أمثال الاشعث يسيئون استغلالها، فكان علمهم بحلم علیّ وبتغاضيه عن جساراتهم يجرّؤهم علیه. صَلَّي اللَهُ علیكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ! هنا يخرس اللسان عن مدحك والثناء علیك، ويقصر الفكر والعقل عن نيل أُسس معاني معاليك، ويتشظّي القلم عن شرحها وبيانها، فلا يبدو في نظره إلاّ إظهار العجز والخذلان أمام عظمتك وبهائك وجلالك الروحيّ كماذكر الفاضل الشاعر والاديب الماهر عبد العزيز ابن السرايا المشهور بصفيّ الدين الحلّيّ، وهو من التلامذة المبرّزين لمولانا المحقّق الحلّيّ أعلی الله تعالي مقامهما الشريف، فأبان عنه في أبياته: أشعار صفيّ الدين الحلّيّ في شأن أمير المؤمنين علیه السلامجُمِعَتْ فِي صِفَاتِكَ الاْضْدَادُ فَلِهَذَا عَزَّتْ لَكَ الاْنْدَادُ زَاهِدٌ حَاكِمٌ حَلِيمٌ شُجَاعٌ فَاتِكٌ نَاسِكٌ فَقِيرٌ جَوَادُ شِيَمٌ مَا جُمِعْنَ فِي بَشَرٍ قَطُّ وَلاَ حَازَ مِثْلَهُنَّ الْعِبَادُ خُلُقٌ يُخْجِلُ النَّسِيمَ مِنَ اللُّطْفِ وَبَأْسٌ يَذُوبُ مِنْهُ الْجَمَادُ ظَهَرَتْ مِنْكَ لِلْوَرَي مُكْرَمَاتٌ فَأَقَرَّتْ بِفَضْلِكَ الْحُسَّادُ إِنْ تُكَذِّبْ بِهَا عِدَاكَ فَقَدْ كَذَّبَ مِنْ قَبْلُ قَوْمُ لُوطٍ وَعَادُ جَلَّ مَعْنَاكَ أَنْ يُحِيطَ بَكَ الشِّعْرُ وَيُحْصِي صِفَاتِهِ النُّقَّادُ[37] انعكاس مخالفات الناس لامير المؤمنين علیه السلامهنا تتجلّي مظلوميّة أمير المؤمنين علیه السلام، أفهذا القدر من العفو والتغاضي مع غاية الاقتدار والقوّة؟ أو هذا القدر من الاحتمال والصبر مع امتلاك جميع الإمكانات والوسائل؟ سُبحانَ الله! لقد جاء الاشعث إلی باب بيت أمير المؤمنين فمنعه قنبر؛ أفمن الواجبات استقبال امريٍ ما في بيت شخصيّ، فضلاً عن حصول ذلك دون استئذان وعلم سابق؟ أو ليس لامير المؤمنين حقّ في الراحة؟ ومن هنا يتّضح أنّ ذهاب الاشعث مع هذه السابقة السيّئة وهذا الملّف المشحون بالجرائم لم يكن إلاّ لطلب أمر غير مشروع من أميرالمؤمنين. ثمّ إنّ أمير المؤمنين هو رئيس الكيان الإسلاميّ وحاكمه، فبأيّ مجوّز تنهال بقبضتك علی وجه وأنف غلامه وحارس بيته وصاحب إذنه وحاجبه فتدمي أنفه؟! فانظروا ماذا قال أمير المؤمنين علیه السلام حين علم بالامر: مَا لِي وَلَكَ يَا أَشْعَثُ؟ يحقّ لعرش الله هنا أن يهتزّ، ولغضب الله أن ينصبّ بكل نقمة علی هذه الجماعة المستكبرة المغرورة المعتدية، وأن يركسهم في الذلّ والهوان ويعدّلهم في الآخرة تلك النيران الموعودة. جاء في «الخرائج» أنّ أمير المؤمنين حين خرج وشاهد أنف قنبر مدمي قال: مَا ذاكَ يا أَشْعَثُ! أَما واللَهِ لَوْ بِعَبْدِ ثَقِيفٍ مَرَرْتَ لاَقْشَعَرَّتْ شُعَيْرَاتُ أُسْتِكَ. قَالَ: مَنْ غُلاَمُ ثَقِيفٍ؟ قَالَ: غُلاَمٌ يَلِيهِمْ، لاَ يَبْقَي بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلاَّ أَدْخَلَهُمُ الذُّلَّ. قَالَ: كَمْ يَلِي؟ قَالَ: عِشْرِينَ إِنْ بَلَغَهَا. قَالَ الرَّاوِي: وَلِيَ الْحَجَّاجُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ. [38] وَكَذَ ' لِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَي' بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا. [39] و [40] ولقد كان الاشعث بن قيس حقّاً من الاعداء الذين لازموا أميرالمؤمنين وسبّبوا له الاذي. وكان أمير المؤمنين يئنّ ويضجّ من أمثال هؤلاء: اللهمّ أرحني منهم وأرحهم منّي! ثمّ إنّ الله تعالي سلّط الحجّاج علی الكوفة بعد أمير المؤمنين علیه السلام، فقتل من هؤلاء الشيعة سبعين ألفاً، وفي الروايات مائة وعشرين ألفاً، لم يرحم امرأة ولا رجلاً ولا عجوزاً ولا شابّاً، في جنايات لميسبق أن شهد التأريخ أمثالها. مساواة أمير المؤمنين بين الرعيّة في الحقوق والعطاءوأساساً فقد كانت إحدي الجهات التي خالف الرؤساء المعروفون في ذلك الوقت أمير المؤمنين فيها أمر التسوية في العطاء، فقد كان السياسيّون والزعماء العرب يسيرون علی أساس سُنّة عمر، فلا يقسّمون بيت المال بالسواسية بين جميع طبقات الناس، بل كانوا يقسّمونه علی أساس اختلاف الطبقات فيفرّقون بين عطاء المسلمين العرب عن غير العرب، ويفضّلون العرب في العطاء علی غيرهم. وكان عثمان ومعاوية وجميع الولاة الذين كانوا يعيّنونهم يسيرون علی هذه السيرة وينهجون هذا النهج. وكان أمير المؤمنين علیه السلام يحارب بشدّة هذه السنّة التي ليست في حقيقة الامر إلاّ بدعة ذميمة مستهجنة، فكان علیه السلام يقسّم من بيت المال، ومنذ اليوم الاوّل لخلافته، بالسواسية للعربيّ والإيرانيّ والروميّ والإفريقيّ، كما كان يساوي بينهم في الزواج وفي سائر الحقوق الاُخري ويقول: هذه هي سنة الإسلام، وهذا هو أمر القرآن الكريم، وهذا هو أمر النبيّ الاكرم قولاً وعملاً، وإنّ التفرقة والتمييز بين العناصر والطبقات، التي كان الخلفاء السابقون ينتهجونها، فيعيّنون علی أساس ميزانها الحكومة والرياسة وإمامة الجماعة والقضاء وقيادة الجند والجيش وأُمور النكاح والتصرّف ببيت المال وتقسيم وتسهيم الاعمال الصعبة والمشكلة، أمر خاطي لاينسجم أبداً وبأيّ وجه مع أُسلوب الإسلام وسيرته. ولميكن الحكّام ورؤساء الجماعات الذين كانوا يسيئون استغلال بيت مال المسلمين بواسطة العطاء الكثير والمزايا الخاصّة، والذين اعتادوا الحياة المرفّهة المجلّلة، مستعدّين للنزول عن ذلك المستوي إلی مستوي عاديّ يساوون فيه عامّة الناس، ولا لكفّ أيديهم عن الإسراف في بيت المال. ولقد كانوا يعلمون منذ البدء بسيرة أمير المؤمنين، ثمّ إنّه علیه السلام ساوي بين الناس عملاً فيالعطاء، فجعل الموالي والاعاجم من المسلمين غيرالعرب شركاء للمسلمين العرب في جميع الحقوق بلا استثناء، فقرّروا عند ذلك الشروع بمخالفة الإمام، وارتفعت بذلك رايات حرب الجمل وصفّين في وجهه علیه السلام. يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده المتّصل عن محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق علیه السلام، قال: لَمَّا وَلِّيَ علیٌّ علیهِ السَّلاَمُ صَعَدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَهَ وَأَثْنَي علیهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي وَاللَهِ لاَ أَرْزَؤكُمْ مِنْ فَيْئِكُمْ دِرْهَماً، مَا قَامَ لِي عِذْقٌ بِيَثْرِبَ. فَلْيَصْدُقْكُمْ أَنْفُسُكُمْ! أَفَتَرَوْنِي مَانِعاً نَفْسِي وَمُعْطِيكُمْ؟ [41] قَالَ: فَقَامَ إلِيهِ عَقيلٌ كَرَّمَ اللَهُ وَجْهَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَهِ، لَتَجْعَلَني وَأَسْوَدَ بِالْمَدِينَةِ سَوَاءً. فَقَالَ: اجْلِسْ! أَمَا كَاَنَ هَا هُنَا أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ غَيْرُكَ؟ وَمَا فَضْلُكَ علیهِ إِلاَّ بِسَابِقَةٍ أَوْ بِتَقْوَي. [42] وروي في «الكافي» بسنده المتّصل عن محمّد بن جعفر العقبي مرفوعاً، قال: خَطَبَ أميرُ المؤمِنينَ علیهِ السَّلاَمُ فَحَمَدَ اللَهَ وَأَثْنَي علیهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ آدَمَ لَمْ يَلِدْ عَبْداً وَلاَ أَمَةً، وَإِنَّ النَّاسَ كُلُّهُمْ أَحْرَارٌ؛ وَلَكِنَّ اللَهَ خَوَّلَ بَعْضَكُمْ بَعْضاً. فَمَنْ كَانَ لَهُ بَلاَءٌ فَصَبَرَ فِي الْخَيْرِ؛ فَلاَ يَمُنُّ بِهِ علی اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ. [43] أَلاَ وَقَدْ حَضَرَ شَيءٌ، وَنَحْنُ مُسَوُّونَ فِيهِ بَيْنَ الاْسْوَدِ وَالاْحْمَرِ. فَقَالَ مَرْوَانُ لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ: مَا أَرَادَ بِهَذَا غَيْرَكُمَا. قَالَ: فَأعْطَي كُلَّ وَاحِدٍ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرٍ، وَأَعْطَي رَجُلاً مِنَ الاْنْصَارِ ثَلاَثَةَ دَنَانِير، وَجَاءَ بَعْدُ غُلاَمٌ أَسْوَدُ، فَأَعْطَاهُ ثَلاَثَةَ دَنَانِير. فَقَالَ الاْنْصَارِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَذَا غُلاَمٌ أَعْتَقْتُهُ بِالاْمْسِ، تَجْعَلُنِي وَإِيَّاهُ سَوَاءً؟ فَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ فِي كِتَابِ اللَهِ، فَلَمْ أَجِدْ لِوُلْدِ إسْمَاعِيلَ علی وُلْدِ إسْحَاقَ فَضْلاً. [44] ويروي في «الكافي» بسنده المتّصل عن الفضل بن أبي مرّة، عن الإمام الصادق علیه السلام، قال: أتت الموالي أمير المؤمنين علیه السلام فقالوا: نشكو إليك هؤلاء العرب، إنَّ رسول الله صلّي الله علیه وآله كان يُعطينا معهم العطايا بالسويّة وزوّجسلمان وبلال وصهيب، وأبوا علینا هؤلاء وقالوا: لا نفعل. فذهب إليهم أمير المؤمنين علیه السلام فكلّمهم فيهم، فصاح الاعاريب: أبينا ذلك ياأباالحسن، أبينا ذلك، فخرج وهو مغضب يجرّ رداءه وهو يقول: يامعشر الموالي، إنّ هؤلاء قد صيّروكم بمنزلة اليهود والنصاري يتزوّجون إليكم ولا يزوّجونكم ولا يُعطونكم مثل ما يأخذون، فاتّجروا بارك الله لكم فإنّيسمعتُ رسول الله صلّي الله علیه وآلهيقول: الرزق عشرة أجزاء تسعةأجزاء في التجارة وواحدة في غيرها. [45] مخالفة الاشعث بن قيس لامير المؤمنين فيالمساواة بين الرعيّة في العطاءوعلی هذا الاساس فإنّ الاشعث بن قيس الذي كان أحد الرؤساء والقادة، والذي كان عثمان بن عفّان يعطيه من خراج أذربيجان كلّ سنة مائة ألف درهم، [46] لم يكن مستعداً أن يصبح تحت حكومة أمير المؤمنين علی حدّ سواء مع سائر أفراد المسلمين في الحقوق والمزايا، لذا فقد كان يعترض ويُثير المشاكل والمعوّقات. يروي إبراهيم بن محمّد الثقفيّ الكوفيّ في كتاب «الغارات»، عن عبّادبن عبدالله الاسديّ، قال: كُنْتُ جَالِساً يَوْمَ الجُمُعَةِ وَعلیٌّ علیهِ السَّلاَمُ يَخْطِبُ علی مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍ، وابْنُ صَوْحَانَ جَالِسٌ، فَجَاءَ الاْشْعَثُ فَجَعَلَ يَتَخَطَّي النَّاسَ فَقَالَ: يَاأَمِيرَالْمُؤْمِنِينَ! غَلَبَتْنَا هَذِهِ الْحَمْرَاءُ علی وَجْهِكَ. فَغَضِبَ، فَقَالَ ابْنُ صَوْحَان: لَيُبَيَّنَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ الْعَرَبِ مَا كَانَ يَخْفَي. فَقَالَ علیٌّ علیهِ السَّلاَمُ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ هَؤلاءِ الضَّيَاطِرَةِ، يُقِيْلُ أَحَدُهُمْ يَتَقَلُّبُ علی حَشَايَاهُ وَيُهَجَّرَ قَوْمٌ لِذِكْرِ اللَهِ؟ فَيَأمُرُنِي أَنْ أَطْرُدَهُمْ فَأَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ؟ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَقَدْ سَمِعْتُ مَحَمَّداً صَلَّي اللَهُ علیهِ وَآلِهِ يَقُولُ: لَيَضْرِبَنَّكُمْ [47] وَاللَهِ علی الدِّينِ عَوْداً كَمَا ضَرَبْتُمُوهُمْ علیهِ بَدْءاً. قَالَ مُغِيرَةُ: كَانَ علیٌّ علیهِ السَّلاَمُ أمْيَلَ إلی الْمَوَالِي وَأَلْطَفَ بِهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ أَشَدَّ تَبَاعُداً مِنْهُمْ. [48] هذا وقد ذكر الجزريّ هذا الحديث في «النهاية» وقال: المراد بالحمراء، الاعاجم من الفُرس والروم، والعرب تسمّي الموالي الحمراء و الضَّيَاطِرَة هُمُ الضِّخَامُ الَّذِينَ لاَغِنَاءَ عِنْدَهُمْ، الواحد ضيطار والياء زائدة، علی حشاياه: أي علی فراشه، واحدها حشيّة بالتشديد.انتهي. [49] وكذلك أورده المبرّد في «الكامل»، ونقل قول أمير المؤمنين بهذه الكيفيّة: مَنْ يَعْذُرُنِي [50] مِن هَذِهِ الضَّيَاطِرَةِ يَتَمَرَّغُ أَحَدُهُمْ علی فِرَاشِهِ تَمَرُّغَ الْحِمَارِ؟ [51] وذكره المجلسيّ في «بحار الانوار» مع بيان مختصر في شرحه. [52] لقد كان الاشعث بن قيس، بصفته من الرؤساء والقادة، يتصوّر أنّ بيت المال وقد صار في الكوفة تُجبي إليه الاموال من كلّ حدب وصوب، فإنّ علی أمير المؤمنين أن يفتح أبوابه أمامه مُشرعة ليغترف منها ما يشاء وليتصرّف فيها بما يحلو له. وأنـّي لامير المؤمنين الذي أحمي لاخيه عقيل الحديدة مراراً حين جاءه يسأله صاعاً من بُرّ لعائلته الكبيرة وأضيافه، لئلاّ يسأله بعدُ زيادةً عن نصيبه من بيت المال، أنـّي له أن يُفسح مجال الاعتداء والتجاوز لامثال هؤلاء الضياطرة والظلمة المعتدين! ولقد جاء الاشعث بن قيس إلی الإمام مرّةً فسأله مالاً فردّه علیه السلام، فعرّض له أنـّه سيفتك به، فقال علیه السلام: أَبِالْمَوْتِ تُهَدِّدُنِي! فَوَ اللهِ، مَا أُبَالِي وَقَعْتُ علی الْمَوْتِ أَمْ الْمَوْتُ وَقَعَ علیَّ. [53] وخلاصة الامر، وباعتبار أنَّ هذه الايّام أيّام شهادة أمير الؤمنين علیه السلام، فقد رأينا أنَّ من المناسب أن نتحدّث عن محن ذلك الإمام مع منافقي الاُمَّة الذين كان كلٌّ منهم يري لنفسه وزناً ومقاماً وشخصيّة. وبالرغم من أنـّنا قد ابتعدنا قليلاً عن البحث المباشر للمعاد، ولكن بالتأمّل في عفو أمير المؤمنين وتغاضيه كرماً وجلالاً، وفي دناءة ورذالة وضِعة هؤلاء الافراد النفعيّين من دعاة الجاه والشهرة، الذين لم يكونوا ليقفوا لوحدهم في وجه حكومة الإمام العادلة، بل كانوا يستتبعون وراءهم جماعة فيدفعونهم إلی التفرقة والنفاق وإلي إيجاد العراقيل في طريق تلك الحكومة العادلة، حيث يظهر أمثال هذا الصنف وهذه الروحيّات بشكلٍ ما في كلّ زمان ومكان، وحيث يُلاحظ هذا النحو من التعديّات حسب المقتضيات والشرائط المختلفة، بالتأمّل في ذلك كلّه فإنّنا سنلتفت إلی أنّ علینا، نحن الذين ندّعي التشيّع الصادق الحقيقيّ، أن نكون يقظين لئلاّ تبدر منا مثل هذه الافكار لاسامح الله، ولئلاّ تجرفنا الدسائس في مسير النوايا النفسانيّة والاهواء العمياء المضلّة، ولكي لا نواجه حقيقة ولايته علیه السلام أو نقف منها موقف الخصومة. ذلك لانّ كلّ روح يقظة واعية حين تري جهنّم وهي تتلظّي وتتأجّج جزاءً لامثال هؤلاء الجناة المجرمين، فإنّها ستهدأ وتسكت وتخلد إلی السكون، كما أنـّها لن تجد أمام النداء الإلهيّ: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ. [54] ونداء: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. [55] إلاّ ميزان العدل والقسط. مساهمة الاشعث بن قيس في أمر استشهاد أمير المؤمنين علیه السلامولقد ساعد الاشعث بن قيس ابن ملجم في قتل أمير المؤمنين علیه السلام وساهم فياستشهاده. يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده عن سليمان كاتب علیّ بن يقطين، عن رجل آخر، عن الإمام الصادق علیه السلام، قال: إنّ الاشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين علیه السلام وابنتهجعدة سمّت الحسن علیه السلام ومحمّد ابنه شرك في دم الحسين علیه السلام. [56] ولقد ظلّ الاشعث يقظاً طوال ليلة التاسع عشر من شهر رمضان لسنة أربعين للهجرة في مسجد الكوفة. يقول حجر بن عديّ: رأيتُ الاشعثبن قيس قرب أذان الصبح وهو يلتفت إلی ابن ملجم ويقول له: يَا ابْنَ مُلْجَمْ، النَّجَاءَ النَّجَاءَ لِحَاجَتِكَ فَقَدْ فَضَحَكَ الصُّبْحُ. قال: فارتعدتُ لكلام الاشعث، وقلت: أتريد أن تقتله يا أعور! وخرجتُ مبادراً لامضي إلی منزل أمير المؤمنين علیه السلام لاخبره الخبر أنّ هناك مؤامرة علیه في المسجد. فاتّفق أن خالفني أمير المؤمنين علیه السلام من الطريق فدخل المسجد، فبادرتُ إلی العودة إلی المسجد لاخبره فَضُرِبَ بالسيف علی فرقه، [57] وهبّت رياح سوداء، واصطفّت أبواب المسجد، ونادي جبرئيل بين السماء والارض: تَهَدَّمَتْ وَاللَهِ أَرْكَانُ الْهُدَي، وَانْطَمَسَتْ وَاللَهِ أَعْلاَمُ التُّقَي، وَانْفَصَمَتْ وَاللَهِ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَي؛ قُتِلَ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدٍ المُصْطَفَي، قُتِلَ الْوَصِيُّ الْمُجْتَبَي، قُتِلَ علی الْمُرْتَضَي، قُتِلَ وَاللَهِ سَيِّدُ الاْوْصِيَاءِ، قَتَلَهُ أَشْقَي الاْشْقِيَاءِ. [58] [2] ـ «عيون أخبار الرضا» ج 2، باب نوادر العلل، ص 600، الحديث رقم 55. [3] ـ «فروع الكافي» الطبعة الحجريّة، ج 1، ص 68. [4] ـ «تفسير علیّ بن إبراهيم» ص 35 و 36. [5] ـ الآيات 27 إلی 31، من السورة 25: الفرقان. [6] ـ حسّان بن ثابت من أصحاب رسول الله، وهو أديب وشاعر معروف، قال رسولالله فيه: «يا حسّان! ما تزال مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك». وقد أنشد أشعاراً جميلة في غدير خُم وولاية أمير المؤمنين علیه السلام، لكنّه صار آخر عمره عثمانيّاً ومات عثمانيّاً. [7] ـ «الامالي» للصدوق، ص 3. [8] ـ «بحار الانوار» مجلّد الروضة، الطبعة الكمباني، ج 17، ص 33؛ والطبعة الحروفيّة ج 77، ص 176. [9] ـ «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، ج 2، ص 863. [10] ـ «بحار الانوار» الطبعة الحروفيّة، ج 21، ص 111؛ وأورده في «روضة الكافي» ص 182 بزيادتين، الاُولي قوله: إنّ محمّداً منّا «وسندخل مدخله»؛ والثانية قوله: ما أوليائي منكم ولا من غيركم «يا بني عبد المطّلب» إلاّ المتّقون. [11] ـ الآيتان 61 و 62، من السورة 19: مريم. [12] ـ «تفسير علیّ بن إبراهيم» ص 412. [13] ـ يقول ابن الاثير في «النهاية»: في حديث علیّ ] علیه السلام [: «شَرُّ بئرٍ في الارضِ بَرَهُوتٌ» هي بفتح الباء والراء بئر عميقة بحضرموت لا يُستطاع النزول إلی قعرها. ويقال بُرْهوت بضمّ الباء وسكون الراء، فتكون تاؤها علی الاوّل زائدة وعلی الثاني أصليّة. [14] ـ «الكافي» الفروع، الطبعة الحجريّة، ج 1، ص 67. [15] ـ «الكافي» الفروع، الطبعة الحجريّة، ج 1، ص 67. [16] ـ المصدر السابق،ج 1، ص 67؛ بيسان: بلدة بالشام؛ونجران: موضع معروف بين الحجاز، والشام واليمن. (م) [17] ـ «بحار الانوار» ج 6، ص 289. [18] ـ «بحار الانوار» ج 6، ص 289. [19] ـ «بصائر الدرجات» ص 148. [20] ـ «تفسير علیّ بن إبراهيم» ص 595 إلی 599، الطبعة الحجريّة. [21] ـ «الاختصاص» ص 321 و 322. [22] ـ «بصائر الدرجات» ص 129 و 130. [23] ـ «بحار الانوار» ج 6، ص 287. [24] ـ ورد في «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، الدورة ذات 20 مجلّداً، ج 1، ص 296 أنّ أُمّ فروة كانت عمياء؛ إلاّ أنـّه ورد في «أعيان الشيعة» ج 12، ص 268 أنّ أُمّ فروة كانت عوراء. ويقول في «تنقيح المقال» ج 1، ص 149: كما أنّ ما في بعض النسخ من إبدال «وكانت عوراء» بـ «عذراء» غلط، كما نبّه علی ذلك ابن داود صاحب «الرجال». [25] ـ «مروج الذهب» ج 2، ص 308. [26] ـ الآية 26، من السورة 14: إبراهيم. [27] ـ الآية 25، من السورة 57: الحديد. [28] ـ «أمالي الصدوق» ص 219. [29] ـ «بحار الانوار» الطبعة الكمباني، ج 9، ص 643؛ والطبعة الحروفيّة، ج 42، ص 179 و 180. [30] ـ «شرح نهج البلاغة» ابن أبي الحديد، الدورة ذات 20 مجلّد، ج 1، ص 297. [31] ـ «تنقيح المقال» ج 1، ص 149؛ و«أعيان الشيعة» ج 12، ص 268، الطبعة الثانية. [32] ـ أورد العيّاشيّ هذه القصّة في تفسيره، ج 1، ص 275، وجاء في آخرها: فقال علیّ علیه السلام: دعهما فهو إمامهما يوم القيامة. أما تسمع إلی الله وهو يقول: نولِّه ما تولَّي؟ وهذه الآية هي الآية 115 من سورة النساء وتمامها: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَي' وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَّلِّهِ مَا تَولَّي' وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيرًا. [33] ـ «تنقيح المقال» ج 1، ص 149؛ و«أعيان الشيعة» ج 12، ص 268، الطبعة الثانية. [34] ـ أورد أبو الفرج في «مقاتل الطالبيّين» ص 34: جاء الاشعث إلی علیّ يستأذن علیه فردّه قنبر، فأدمي الاشعث، فخرج علیّ وهـو يقول: ما لي ولك يا أشعث أمام الله؟ لو ï ïبعبد ثقيفٍ تمرّستَ لاقشعرّتْ شعيراتك! قيل: يا أمير المؤمنين، ومَن غلام ثقيف؟ قال: غلامٌ يليهم لا يبقي أهل بيت من العرب إلاّ أدخلهم ذلاّ. قيل: ياأميرالمؤمنين، كم يلي؟ وكم يمكث؟ قال: عشرين إن بلغها. [35] ـ «شرح نهج البلاغة» الدورة ذات 20 مجلّداً، ج 2، ص 296. [36] ـ «نهج البلاغة» ج 1، باب الخطب، طبعة محمّد عبدة ـ مصر، ص 56. [37] ـ «مجالس المؤمنين»، ص 493؛ «بحار الانوار» ج 1، ص 437. [38] ـ «بحار الانوار» الطبعة الكمباني، ج 8، ص 733 عن «الخرائج». [39] ـ الآية 31، من السورة 25: الفرقان. [40] ـ جاء نظير هذه الآية في سورة الانعام، الآيتين 112 و 113: وَكَذَ ' لِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّ عَدُوًّا شَيَـ'طِينَ الاْءنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلی بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَي'´ إِلَيْهِ اَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ. [41] ـ أي: أترون أنـّني لا آخذ أكثر من حقّي، ثمّ أجيء فأعطي شخصاً آخر أكثر من حقّه؟! [42] ـ «روضة الكافي» ص 182. [43] ـ أي ليعدّ نفسه بهذه الوسيلة مستحقّاً أكثر من غيره من بيت مال المسلمين. [44] ـ «روضة الكافي» ص 69. [45] ـ «بحار الانوار» الطبعة الكمباني، ج 9، 638. [46] ـ «الغارات» ج 1، ص 365. [47] ـ الضمير في الفعل عائد إلی المسلمين من غير العرب. [48] ـ «الغارات» ج 2، ص 498 و 499. [49] ـ «النهاية» مادة (ضطر): ج 3، ص 87؛ ومادّة (حشا): ج 1، ص 393؛ ومادّة (حمر): ج 1، ص 438. [50] ـ وقال الجزريّ أيضاً في «النهاية» ج 3، ص 197 في معني (يعذرني): فاستعذر رسولالله من عبد الله بن أُبيّ، فقال وهو علی المنبر: من يعذرني من رجل قد بلغني عنه كذا وكذا؟ فقال سعد: أنا أعذرك منه؛ أي من يقوم بعذري إن كان كافأته علی سوء صنيعه فلايلومني؛ ومنه حديث أبي الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسولالله، وهو يخبرني عن رأيه؟ ومنه حديث علیّ: من يعذرني من هؤلاء الضياطرة؟ [51] ـ «الغارات» ج 2، هامش ص 829. [52] ـ «بحار الانوار» ج 8، ص 733 و 734، الطبعة الكمباني. [53] ـ «مقاتل الطالبيّين» ص 34. [54] ـ الآية 30، من السورة 50: ق. [55] ـ الآية 24، من السورة 50: ق. [56] ـ «روضة الكافي» ص 167. [57] ـ «إرشاد المفيد» ص 11 الطبعة الحجريّة، و«بحار الانوار» الطبعة الكمباني، ج 9، ص 656. [58] ـ «بحار الانوار» الطبعد الكمباني، ج 2، ص 671. |
|
|