|
|
الصفحة السابقةظهور عشرة أحداث من علامات القيامةوروي الصدوق رحمة الله عليه في كتاب «الخصال» عن أبي الطُّفَيل عن حُذَيفة بن أُسيد، قال: اطّلعَ علينا رسولُ اللهِ صلّي الله عليه وآله من غرفةٍ ونحنُ نتذاكرُ الساعةَ، ] فـ [ قال رسولُ اللهِ صلّي الله عليه وآله: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّي تَكُونُ عَشْرُ آيَاتٍ: الدَّجَّالُ، وَالدُّخَانُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَدَابَّةُ الاْرْضِ، وَيَأْجُوجُ وَمأْجُوجُ، وَثَلاَثُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ النَّاسَ إلی الْمَحْشَرِ، تَنْزِلُ مَعَهُمْ إِذَا نَزَلُوا، وَتُقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا.[1] وهذا الحديث موجود في «الخصال» المطبوع بالطبعة الحجريّة، إلاّ أنّ المجلسيّ أورده عنه في «بحار الانوار» باب أشراط الساعة، بسنده المتّصل عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أُسيد، لكنّه أورد بدلاً من الجملة الاخيرة، جملة: وَتُقْبِلُ مَعَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا. [2] والخلاصة فقد ذُكرت في هذا الحديث تسع علامات لظهور القيامة، أمّا العاشرة فهي بالطبع نزول النبيّ عيسي ابن مريم علی نبيّنا وآله وعليهما السلام، والشاهد علی هذا القول أنّ هذا الحديث قد ذُكر في «صحيح مسلم» عن أبي الطفيل، عن حُذيفة بن أُسيد الغفاريّ، وذكر فيه نزول عيسي ابن مريم، علاوة علی الفقرات التسع التي ذكرناها هنا. [3] والشاهد الآخر أنّ الصدوق يروي في «الخصال» بسنده المتّصل عن حُذيفةبن أُسيد يقول: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّي اللَهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: عَشْرُ آيَاتٍ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ: خَمْسٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَمْسٌ بِالْمَغْرِبِ، فَذَكَرَ الدَّابَةَ، وَالدَّجَّالَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَعِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَأَنـَّهُ يَغْلِبُهُمْ وَيُغْرِقُهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَمَامَ الآيَاتِ. [4] استدلال علامات القيامة من آيات القرآن الكريموقد وردت روايات كثيرة بأسانيد مختلفة ومضامين متفاوتة حول الفقرات المختلفة للرواية التي ذكرناها بهذا السند، والتي تتحدّث عن أمر الدجّال ونزول عيسي ابن مريم ومجيء يأجوج ومأجوج وفناء الارض وغيرها، كما يمكن ـ إجمالاً ـ استنتاج تلك المضامين من آيات القرآن الكريم: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلآ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـ'ئكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبـُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَـ'تِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَـ'تِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَـ'نُهَا لَمْتَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي´ إِيمَـ'نِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُو´اْ إِنـَّا مُنتَظِرُونَ. [5] فظهور آيات الله تعالي في هذه الآية الشريفة لا ينحصر في الآيات الظاهريّة التي وُجدت فعلاً من الارض والسماء والرياح والغيوم ونزول المطر وأمثال ذلك، لانّ الناس يشاهدون هذه الآيات وأشباهها فلايؤمنون. بل هم في صدد مشاهدة نوع خاصّ من الآيات الخارقة للعادة، وفي صدد البحث عن نوع من الاعاجيب والغرائب التي لميروالها مثيلاً. وعليه فإنّ تـلـك الآيات نـوع من الآيات الاسـتثنائيّة التي تظهر قدرةالله تعالي في مجالات خـرق العادات والاُمـور غير المألـوفة وغيرالمعهودة التي سيعجز المنكرون والكفّار والمشركون والمعاندون أمامها أن يصرّوا علی جحودهم وإنكارهم، ولن يكون لديهم مناص من الإقرار بها. قصّة ذي القرنين وسدّ يأجوج ومأجوج ظهور يأجوج ومأجوج ويمكن اعتبار هذه الآية الشريفة منطبقة علی نزول عيسي علی نبيّنا وآله وعليه السلام، وعلي طلوع الشمس من المغرب، أو بعض الآيات والعلامات الخارقة، فقد جاء في الآيتين 98 و 99، من السورة 18: الكهف علی لسان ذي القرنين في خطابه للقوم الذي بني لهم السدّ: قَالَ هَـ'ذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ و دَكَّآءَ و كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّـًا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَـ'هُمْ جَمْعًا. ثمّ يقول: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَـ'فِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا.[6] ومن أجل أن يتّضح جليّاً معني الآية الشريفة التي عدّت من علامات القيامة ومن ملاحم القرآن، فإنّ علينا الشروع في البحث في مواضيع ثلاثة: الاوّل: ذو القرنين. الثاني: طائفة يأجوج ومأجوج. الثالث: السدّ. أمّا ذو القرنين فقد ورد ذكره في موضع واحد فقط في القرآن الكريم وذلك في سورة الكهف، فقد ذُكرت عنه أُمور عدّة: قصّة ذي القرنين من وجهة نظر القرآن: 1 ـ إنّا مكّنّا له في الارض وسخّرنا له كل الاسباب فهي طوع أمره. 2 ـ إنّه سخّر تلك الاسباب، فتحرّك مرّة إلی الغرب حيث (وصل إلی آخر المعمورة جنب البحر الخضمّ المترامي فبدا له أنّ) الشمس تغرب في عين حمئة،[7] ووجد هناك قوماً. فقلنا له: إنّ لك أن تختار في وضعك هذا إمّا أن تعذّبهم وتعاقبهم جزاءً علی ما فعلوا، أو أن تتّخذ فيهم إحساناً. فقال لهم ذو القرنين: من ظلم فإنّنا سنعذّبه في هذه الدنيا سريعاً، ثمّ يُرَدّ إلی ربّه فيعذّبه عذاباً غير معهود ولا مألوف ولا متوقّع. وأمّا من عمل صالحاً فإنّ جزاءه وثوابه سيكون الحسني، وسنقول له من أمرنا يُسرا. 3 ـ ثمّ استفاد من تلك الاسباب وتحرّك صوب الشرق حتّي وصل إلی قوم يعيشون في صحراء تطلع عليهم الشمس فيها فلا ستر لهم دونها، عرايا لالباس لهم ولا ستر. 4 ـ ثمّ استفاد من تلك الاسباب وتحرّك حتّي وصل بين السدّين فوجد هناك قوماً ليس لهم نصيب من التمدّن والإنسانيّة ولا يفقهون ولايعقلون قولاً. فقال أُولئك القوم لذي القرنين: إنّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض، أفترضي أن نعطيك خرجاً علی أن تبني بيننا وبينهم سدّاً. فقال: إنّ ما مكّنني منه ربّي من الاموال والعدّة خيرٌ وأفضل من خرجكم، فأعينوني لاصنع لكم سدّاً متيناً راسخاً. اجلبوا لي قطع الحديد الكبيرة وأرصفوها بين هذين الجبلين لتسدّ هذه الفتحة والفرجة بين قمّتيهما، فلمّا فعلوا ذلك قال: فانفخوا الآن بمنافخ الحديد، لتحمرّ قطع الحديد وتتوهّج، ثمّ قال لهم: أذيبوا قطع النحاس وصبّوها في مسامات قطع الحديد وفراغاته، لتمتلي تلك الثقوب وليتشكّل منها سدّ محكم واحد يسدّ بين ذينك الجبلين. فما استطاع قوم يأجوج ومأجوج أن يعلوا ذلك السدّ بعد ذلك فيؤذوا أُولئك القوم، ولا أن ينقبوا ذلك السدّ ليمكنهم التردّد من خلاله. وآنذاك قال لهم ذو القرنين: هذه رحمة من ربّي منّ بها علی فاستطعتُ صنع سدّ كهذا لكم، أمّا حين يأتي وعد ربّي للقيامة، فإنّ هذا السدّ سيندكّ ويتلاشي. كان هذا ما جاء في القرآن الكريم بشأن ذي القرنين من هو ذو القرنين وما أصله؟ أمّا مَن هو ذو القرنين، وهل جاء له ذكر في الكتب السماويّة الاُخري أو في التأريخ؟ هناك احتمالات كثيرة، وللمؤرّخين والمفسّرين أبحاث طويلة في هذا الشأن، فقد بذلوا قصاري جهدهم واستعانوا بالروايات التي جاءت في شأن ذي القرنين، فقام كلٌّ منهم بتفسير إحدي الآيات القرآنيّة علی نحوٍ ما لنفسه، واعتبر أنّ بعض الملوك هو الملقّب بذي القرنين، وأنّ هذا العنوان ينطبق عليه. وقد ذكرت بيانات مفصّلة في أمر تعيين ذي القرنين وعلّة تسميته بهذا اللقب في «مجمع البحرين» مادّة «ق رن»، وفي المجلّد الخامس من «بحار الانوار» في أحوال ذي القرنين. يقول العلاّمة الطباطبائيّ مدّ ظلّه [8] في تفسير هذه الآية الشريفة: إنّ الروايات المرويّة من طرق الشيعة وأهل السنّة عن النبيّ صلّيالله عليه وآله، ومن طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وكذا الاقوال المنقولة عن الصحابة والتابعين ] التي [ يتعامل معها أهل السنّة معاملة الاحاديث الموقوفة في قصّة ذي القرنين مختلفة اختلافاً عجيباً، متعارضة متهافتة في جميع خصوصيّات القصّة وكافّة أطرافها، وهي مع ذلك مشتملة علی غرائب يستوحش منها الذوق السليم أو يحيلها العقل وينكرها الوجود، لا يرتاب الباحث الناقد إذا قاس بعضها إلی بعض وتدبّر فيها، أنـّها غير سليمة عن الدسّ والوضع ومبالغات عجيبة في وصف القصّة، وأغربها ما روي عن علماء اليهود الذين أسلموا كوَهَب بن منبّه و كعب الاحبار، أو ما تُشعر القرائن أنـّه مأخوذ منهم. بيان العلاّمة الطباطبائيّ في شأن ذي القرنينونذكر هنا خلاصة ما أورده في تفسير «الميزان»: لم يتعرّض القرآن الكريم لاسم ذي القرنين، ولا لتأريخ زمن ولادته وحياته ونسبه وسائر خصوصيّاته، علی ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين، بل اكتفي بالتطرّق إلی ثلاث رحلات له. والخصوصيّات والجهات الجوهريّة التي تستفاد من القصّة هي أنّ صاحبها كان يسمّي بذي القرنين قبل نزول قصّته في القرآن، بل حتّي في زمن حياته كما يظهر من سياق القصّة القرآنيّة: يَسْئَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنِينِ؛ قُلْنَا يَـ'ذَا الْقَرْنَينِ؛ و قَالُوا يَـ'ذَا الْقَرْنَينِ. وثانياً: أنـّه كان مؤمناً بالله واليوم الآخر متديّنا بدين الحقّ. وثالثاً: أنـّه كان ممّن جمع الله له خير الدنيا والآخرة، أمّا خير الدنيا فالمُلك العظيم الذي بلغ مغرب الشمس ومطلعها فلم يقم له شيء، وقد ذلّت له الاسباب. وأمّا خير الآخرة فبسط العدل وإقامة الحقّ والصفح والعفو والرفق وكرامة النفس وبثّ الخير، ودفع الشرّ. وكان له ـعلي هذاـ السيطرة في الجهتين الجسمانيّة والروحانيّة. ورابعاً: أنـّه صادف قوماً ظالمين بالمغرب فعذّبهم، ثمّ إنّه سافر مرّة أُخري فبني في سفره سدّاً وردماً محكماً متيناً، والسدّ الذي بناه واقع في غيرالمغرب والمشرق، لانـّه بناه بعد سفره إلی المشرق والمغرب، بعد أن تحرّك إلی أُولئك القوم البعيدين عن المدنيّة والذين بني لهم السدّ. ومن خصوصيّات السدّ مضافاً إلی كونه واقعاً في غيرالمغرب والمشرق، أنـّه واقع بين جبلين كالحائطين، وأنـّه ساوي بين صدفيهما وسدّ الثغرة بينهما، وأنـّه استعمل في بنائه زبر الحديد والقطر (النحاس) ولامحالة أنـّه في مضيق يربط بين ناحيتين من نواحي الارض المسكونة. والخلاصة، فلم يذكر قدماء المؤرّخين في أخبار ملكاً يسمّي في عهده بذي القرنين أو ما يؤدّي معناه من غير اللفظ العربيّ، ولايأجوج ومأجوج بهذين اللفظين ولا سدّاً ينسب إليه باسمه. نعم، ينسب إلی بعض ملوك حِمْيَر من اليمنيّين أشعار في المباهاة والفخر يذكر فيها ذا القرنين وأنـّه من أسلافه التبابعة، ذكر فيها سيره إلی المغرب والمشرق وسدّ يأجوج ومأجوج. وجاء في كتاب «كيهان شناخت» وتعريبه: «معرفة العالم» للحسنبن قطّان المروزيّ الطبيب المنجّم المتوفّي سنة 548، أنّ الذي بني السدّ هو أحد ملوك آشور واسمه «بلينس»، وسمّاه أيضاً إسكندر. فقد كان يهجم في حوالَي القرن السابع قبل الميلاد أقوام يسمّون عند الغربيّين باسم «سيت» وعند اليونانيّين باسم «ميكاك»، من مضيق جبال قفقاز إلی أرمينية ثمّ غربي إيران، وربّما بلغوا بلاد آشور وعاصمتها نينوي فيحيطون بهم قتلاً وسبياً ونهباً، فبني ملك آشور السدّ لصدّهم. وقال في «روح المعاني»: وقيل هو ـ يعني ذا القرنين ـ فريدونبن أثفيانبن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشداديّة، وكان ملكاً عادلاً مطيعاً للّه تعالي. وفي كتاب «صور الاقاليم» لابي زيد البلخيّ أنـّه كان مؤيّداً بالوحي، وفيه أنّ التأريخ لا يعترف بذلك. وقيل إنّ ذا القرنين هو الإسکندر المقدونيّ وإنّه هو الذي بني السدّ، وهو المشهور علی الالسن، وسدّ الإسکندر كالمثل السائر بينهم. وقد ورد ذلك في الروايات كما في رواية «قرب الإسناد» عن موسيبن جعفر عليهما السلام، ورواية عقبة بن عامر و وهب بن منبّه عن رسولالله صلّي الله عليه وآله. وبه قال بعض قدماء المفسّرين من الصحابة والتابعين، كمعاذبن جبل علی ما في «مجمع البيان» وقتادة علی ما رواه في «الدرّ المنثور»، وعلي هذا الرأي الشيخ ابن سينا حيث تحدّث عن أرسطو أُستاذ الإسکندر في كتابه «الشفاء» فوصفه بذي القرنين، وأصرّ علی ذلك الإمام الفخر الرازيّ في تفسيره الكبير. لكنّ هذا المعني لا ينسجم مع تعبير القرآن، لانّ القرآن ذكر أوّلاً أنّ ذاالقرنين كان مؤمناً بالله واليوم الآخر، وعلي دين التوحيد، بينما نعلم أنّ الإسکندر كان مشركاً وثنيّاً وصابئيّاً؛ وجاء في التأريخ أنـّه كان يقدّم قرابينه إلی جِرَم «المشتري». وثانياً: فقد عدّ القرآن ذا القرنين من عباد الله الصالحين من ذوي العدل والرفق، بينما يبيّن لنا التأريخ خلاف ذلك عن الإسکندر. وثالثاً: أنـّه لم يرد في شيء من التواريخ أنّ الإسکندر المقدونيّ بني سدّ يأجوج ومأجوج. وذكر جمع من المؤرّخين، كالاصمعيّ في «تاريخ العرب قبل الإسلام»، وابن هشام في «السيرة» و «تيجان الملوك»، وأبي ريحان البيرونيّ في «الآثار الباقية»، ونشوان بن سعيد الحِميَريّ في «شمس العلوم» أنّ ذا القرنين أحد الملوك التبابعة الاذواء اليمنيين من ملوك حِمير. وقد بحث المقريزيّ في «الخطط» هذا الموضوع مفصّلاً، ويُستفاد من مجموع كلامه أوّلاً: أنّ لقب ذي القرنين تَسَمَّي به أكثر من واحد من ملوك حِميَر. وثانياً: أنّ ذا القرنين الاوّل وهو الذي بني سدّ يأجوج ومأجوج كان قبل الإسکندر المقدونيّ بقرون كثيرة. بَيدَ أنّ هناك إشكالين في كلامه: أحدهما: أين موضع هذا السدّ الذي بناه تبّع الحِميَريّ؟ وثانيهما: من هم هؤلاء المفسدون ـ أي يأجوج ومأجوج ـ الذين بُني هذا السدّ لصدّهم؟ فهل هذا السدّ أحد السدود المبنيّة في اليمن أو ما والاها، كسدّ مأرب وغيره؟ إنّ هذا غير صحيح، لانّ سدّ مأرب بُني لادّخار المياه لا لصدّ الاعداء، كما أنـّه لم يستعمل في سدّ مأرب قطع الحديد والنحاس المصهور؛ يُضاف إلی ذلك أنّ ما كان يُجاور تبّع من حمير من أمثال الاقباط والآشوريّين والكلدانيّين كانوا أهل حضارة ومدنيّة، ولميكونوا أقواماً متوحّشين ليحتاجوا إلی سدّ لصدّهم. نظريّة العلاّمة الشهرستانيّ في شأن ذي القرنينوقال العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستانيّ في تأييد هذا القول: إنّ ذا القرنين المذكور في القرآن قبل الإسکندر المقدونيّ بعدّة قرون، فهو أحد الملوك الصالحين من التبابعة الاذواء من ملوك اليمن، وكان من شيمة طائفة منهم التسمّي بذي، كـ «ذِي هَمْدان» و «ذِي غمدان» و «ذي المنار» و «ذي الاذعار» و «ذي يَزَن». وكان مسلماً موحّداً وعادلاً حسن السيرة، سار نحو المغرب فوصل إلی البحر الابيض، ثمّ سار نحو المشرق، ثمّ مال إلی الشمال حتّي بلغ مدار السرطان، ولعلّه الذي شاع في الالسن أنـّه دخل الظلمات، فسأله أهل تلك البلاد أن يبني لهم سدّاً فبناه لهم. فإن كان هذا السدّ هو الحائط الكبير الحائل بين الصين ومنغوليا (طائفة المغول)، فيجب القول إنّ ذا القرنين عمّره ورمّم فيه مواضع تهدّمت بمرور الايّام، ولا إشكال في أنّ أصل الحائط إنّما بناه بعض ملوك الصين قبل ذلك التأريخ. وإن كان سدّاً آخر فلا إشكال في الامر. ثمّ أورد السيّد هبة الدين شاهداً لتأييد كلامه، وهو أنّ ذا القرنين كان ملكاً عربيّاً صالحاً يسأل عنه الاعرابُ رسول الله صلّي الله عليه وآله ويذكره القرآن الكريم للتذكّر والاعتبار، وهو أقرب لذوق العرب وسؤالهم من أن يسألوا عن ملوك الروم والعجم والصين وهم من الاُمم البعيدة التي لم يكن لهم اتّصال بتأريخ العَرب، ولم يكن للعرب رغبة في سماع أخبارهم أو الاعتبار بآثارهم. لذا لم يتعرّض القرآن لشيءٍ من أخبار الاُمم والطوائف التي كانت بعيدة عن العرب. (انتهي كلام الشهرستانيّ ملخّصاً). لكنّ الإشكال الموجود علی هذه النظريّة، أنّ كون حائط الصين هو سدّ ذي القرنين لا سبيل إليه، فإنّ ذا القرنين سبق الإسکندر بعدّة قرون، وقد بُـنـي حائـط الصـين بعد الإسکندر بما يقرب من نصـف قرن. وأمّا غيرالحائط الكبير ففي ناحية الشمال الغربيّ من الصين بعض السدود الاُخري، لكنّها مبنيّة بالحجارة ولا أثر فيها من الحديد والنحاس. وقال في «تفسير الجواهر» إنّ المعروف من دول اليمن بمعونة من النقوش المكتشفة في خرائب اليمن ثلاث دول: 1 ـ دولة معين وعاصمتها قَرْناء، وزمن حكمها من القرن الرابع عشر قبل الميلاد إلی القرن السابع أو الثامن قبله. 2 ـ دولة سبأ وهم من القحطانيّين، ويبتدي ملكهم من 850 قبل الميلاد إلی 115 قبل الميلاد. 3 ـ دولة الحِمْيَرِيِّينَ، وهم طبقتان: الاُولي: ملوك سبأ وريدان، من سنة 115 قبل الميلاد إلی سنة 275 ميلاديّة. والثانية: ملوك سبأ وريدان وحضرموت وغيرها، ويبتدي ملكهم من سنة 275 ميلاديّة إلی سنة 525 ميلاديّة. ويُستفاد ممّا ذكر أنّ صفة الاتّصاف بلقب «ذي» مثل ذيالقرنين عائدة إلی ملوك اليمن، بينما لا نجد في غيرهم كملوك الروم من يلقِّب بـ«ذي». فذو القرنين ـ إذَن ـ من ملوك اليمن، وقد ذكر التأريخ بعض الملوك باسم ذي القرنين، ولكن هل هو ذو القرنين المذكور في القرآن؟ نقول في الإجابة: كلاّ، لانّ ذا القرنين هذا مذكور في ملوكٍ قريبي العهد إلی زمان رسول الله والقرآن، ولم يرد في التأريخ ذكر لسدٍّ بهذه المواصفات ولا ذكر لاسفاره. وقد كذّب ابن خلدون جميع هذه الاخبار الواردة في شأن ذي القرنين ووسمها بأنـّها مُبالَغ فيها، ونقضها بأدلّة جغرافيّة وأُخري تأريخيّة. (انتهي ما أورده في «الجواهر»). نظريّة السير أحمد خان الهنديّ وأبي الكلام آزاد في شأن...وأخيراً فقد قال السير أحمد خان الهنديّ: إنّ ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيّين، وتأريخه من 560 قبل الميلاد إلی 539 قبل الميلاد، وهو الذي أسّس الإمبراطوريّة الإيرانيّة، وجمع بين مملكتي فارس و ماد، وسخّر بابل، وأذن في رجوع اليهود من بابل إلی أُورشليم، وساعد في بناء الهيكل، وسخّر مصر واليونان وبلغ المغرب، ثمّ سار إلی أقاصي المعمورة. نظريّة أبي الكلام آزاد في شأن ذي القرنين: وقد أيّد هذا المدّعي المحقّق الخبير الباحث أبو الكلام آزاد، وبذل الجهد في إيضاحه وتقريبه. [9] فأوّلاً أنّ الذي ذكره القرآن من وصف ذي القرنين منطبق علی هذا الملك العظيم، فقد كان مؤمناً بالله بدين التوحيد، عادلاً في رعيّته سائراً بالرأفة والرفق والإحسان، سائساً لاهل الظلم والعدوان، وقد آتاه الله من كلّ شيء سبباً، فجمع بين كمالات الدين والعقل وفضائل الاخلاق والعدّة والقوّة والثروة والشوكة ومطاوعة الاسباب. وقد سار ـ كما ذكر الله في كتابه ـ مرّة نحو المغرب حتّي استولي علی ليديا وحواليها، ثمّ سار ثانياً نحو المشرق حتّي بلغ مطلع الشمس ووجد عندها قوماً بدويّين همجيّين يسكنون في البراري، ثمّ بني السدّ وهو علی ما تدلّ عليه الشواهد، السدّ المعمول في مضيق داريال بين جبال قفقاز بقرب مدينة تفليس. أمّا إيمانه بالله واليوم الآخر، فيدلّ علی ذلك ما في كتب العهد العتيق ككتاب عزرا و«الإصحاح 1» وكتاب دانيال «الإصحاح 6» وكتاب أشعياء «الإصحاح 44 و 45». ولو قطع النظر عن كونه وحياً، فاليهود علی ما بهم من العصبيّة المذهبيّة لا يعدّون رجلاً مشركاً مجوسيّا أو وثنيّاً ـلو كان كورش كذلكـ مسيحاً إلهيّاً مهديّا مؤيّداً وراعياً للربّ. علی أنّ النقوش والكتابات بالخطّ المسماريّ المأثور عن داريوش الاكبر، وبينها وبين كورش من الفصل الزمانيّ ثمانين سنة، ناطقة بكونه موحّداً غير مشرك، وليس من المعقول أن يتغيّر ما كان عليه كورش في هذا الزمن القصير. وأمّا فضائله النفسانيّة فيكفي في ذلك الرجوع إلی المحفوظ من أخباره وسيرته وما قابل به الطغاة والجبابرة الذين خرجوا عليه أو حاربهم كملوك ماد و ليديا و بابل و مصر وطغاة البدو في أطراف بَكْتريا وهو «بلخ»، فقد كان كلّما ظهر علی قومٍ عفا عن مجرميهم وأكرم كريمهم ورحم ضعيفهم، وساس مفسدهم وخائنهم. وقد أثنت عليه كتب العهد القديم، واليهود يحترمونه أعظم الاحترام لما نجّاهم من أسر بابل علی يد بخت نَصّر (بنوكد نصر) الذي خرّب معبدهم، وأرجعهم إلی بلادهم، وبذل لهم الاموال لتجديد بناء الهيكل، وردّ إليهم نفائس الهيكل المنهوبة المخزونة في خزائن ملوك بابل. وهذا في نفسه مؤيّد وشاهد آخر علی كون ذي القرنين هو كورش، فإنّ السؤال عن ذي القرنين في القرآن الكريم إنّما كان بتلقين من اليهود علی ما في الروايات. وقد وردت كلمة قَرْن في اللغة العبريّة والعربيّة بمعنيً واحد. وقد ذكره مؤرّخو اليونان القدماء، كهيرودوت وغيره، فلم يسعهم ـ مع عدائهم لإيران وملوكهاـ إلاّ أن يصفوه بالمروءة والفتوّة والسماحة والكرم والصفح وقلّة الحرص، والرحمة والرأفة، ويثنوا عليه بأحسن الثناء. وأمّا تسمية كورش بذي القرنين، فالتواريخ وإن كانت خالية عمّا يدلّ علی شيء من ذلك، لكنّ اكتشاف تمثاله الحجريّ أخيراً في «مشهد مرغاب» في جنوب إيران يزيل الريب في اتّصافه بذي القرنين. وهذا التمثال ـ تبعاً لقول «دي لافواي» ـ نموذج ثمين وقيّم للنحت القديم، فهو مماثل لافضل التماثيل اليونانيّة والنموذج الاوحد للفنون الآسيويّة. وقد صنع هذا التمثال ونصب في «عصر أردشير»، وقد قدم العلماء الالمان إلی إيران لمجرّد التفرّج عليه. وكان اكتشافه في القرن التاسع عشر الميلاديّ في «مرغاب». وهذا التمثال بقدر قامة الإنسان، ويمثّل «كورش» في وضع وقد بسط في جانبيه جناحا نسر، وله فوق رأسه قرنان كقرني الكبش لايقعان علی جانبي رأسه، بل يقعان في وسط الرأس، وأحد القرنين يقع خلف الآخر، مرتدياً الملابس التي يرتديها ملوك بابل. وهذا التمثال يثبت بلا ريب وجود تصوّر معني ذي القرنين عند «كورش» وفي تفكيره، لذا فقد مُثل فيه ذا قرنين نابتين من أُمّ رأسه من منبت واحد، وأحد القرنين مائل إلی الامام والآخر إلی الخلف. [10] والخلاصة فإنّ معني القرنين الموجودين في تمثال كورش وتلقيبه بذي القرنين هو تشكيل دولة واحدة من فارس وماد اللتين كانتا إلی ذلك الوقت دولتين مستقلّتين لكلّ منهما حاكم مستقلّ، إلاّ أنّ كورش تغلّب عليهما وشكّل منهما دولة واحدة، وهذا هو المعني الذي ورد في رؤيا النبيّ دانيال. رؤيا النبيّ دانيال في شأن ذي القرنينجاء في كتاب دانيال (الإصحاح الثامن، من الصفحة 1 إلی 9): «في السنة الثالثة من مُلك «بيلشاصر» الملك ظهرت لي أنا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت لي في الابتداء. فرأيتُ في الرؤيا وكأنّ في رؤياي وأنا في «شوشن» القصر الذي في ولاية عيلام. ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر «أُولاي» فرفعتُ عيني وإذا بكبش واقف عند النهر وله قرنان، والقرنان عاليان والواحد أعلي من الآخر، والاعلي طالع أخيراً. ] فـ [ رأيتُ الكبش ينطح غرباً وشمالاً وجنوباً فلم يقف حيوان قدّامه ولا منفذ من يده، وفعل كمرضاته وعظم. وبينما كنت متأمّلاً إذا بتيس من المعز جاء من المغرب علی وجه كلّ الارض ولم يمسّ الارض، وللتيس قرن معتبر بين عينيه، وجاء إلی الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقفاً عند النهر وركض إليه بشدّة قوّته ورأيته قد وصل إلی جانب الكبش فاستشاط عليه وضرب الكبش وكسر قرنيه فلم تكن للكبش قوّة علی الوقوف أمامه، وطرحه علی الارض وداسه ولميكن للكبش منفذ من يده، فتعظّم تيس المعز جدّاً». ثمّ ذكر بعد تمام الرؤيا أنّ جبرئيل تراءي له وفسّر رؤياه بما ينطبق فيه الكبش ذو القرنين علی كورش وقرناه مملكتا فارس وماد، والتيس ذوالقرن الواحد علی الإسکندر المقدونيّ. وجاء في رؤيا دانيال أنّ الكبش الذي شاهده كان له قرنان، إلاّ أنـّهما ليسا كقرون سائر الاكباش، بل كان أحد القرنين خلف الآخر، وهذا المعني نفسه هو المعني المشاهد في التمثال الاثريّ لكورش. أمّا ذينك الجناحان اللذان يشبهان جناحي نسر في تمثال كورش فهما صورة لرؤيا أشعياء الذي عبّر عن رؤيا نسر الشرق بكورش. ولهذا السبب فقد اشتهر تمثال كورش بـ «مرغ» يعني «الطائر»، كما أنّ النهر المصوّر عند قدمي كورش في التمثال يدعي «مرغاب» يعتي «نهر الطائر». وقد فهم اليهود من بشارة دانيال أنّ انتهاء أسرهم في بابل منوط بذلك الملك صاحب القرنين الذي سيستولي علی مملكة فارس وماد ويتغلّب علی ملوك بابل، فيخرجهم في النهاية من الاسر. ثمّ إنّ كورش ظهر بعد رؤيا دانيال بعدّة سنوات، وكان اليهود يدعونه بـ«خورش» بينما كان اليونانيّون يدعونه بـ «سائوس»، فاستولي علی مملكة فارس وماد فظهرت دولة عظيمة، وكما جاء في رؤيا دانيال من نطح المغرب والشمال والجنوب، فقد استولي كورش علی فارس وماد وتقدّم إلی الجنوب أي إلی بابل وحرّر اليهود، لذا فقد اجتمع اليهود بكورش في بابل بعد استيلائه عليها وقصّوا له رؤيا دانيال ففرح بذلك وعزم علی مساعدة اليهود والإحسان إليهم، فأعادهم إلی أُورشليم وأعاد تعمير معبدهم. والخلاصة، فإنّ هذه بأجمعها شواهد صدق علی أنّ كورش هو الآخر كان يعتبر نفسه ذا القرنين، أي صاحب دولتي فارس وماد اللتين ظهرتا في الرؤيا في هيئة قرنين متّصلين ببعضهما نميا من علی أُمّ رأسه. لذا فقد كان يضع علی تاجه أو قلنسوته هذين القرنين علامة لهاتين الدولتين، وانعكس ذلكأيضاً في تمثاله. وأمّا سيره نحو المغرب فقد كان لدفع طاغية ليديا الذي كان قد سار بجيوشه نحو كورش ظلماً وعدواناً برغم قرابته من كورش والمعاهدة التي كانت بينهما، وكان ـ إضافة إلی ذلك ـ يُثير عليه سلاطين أُوروبّا، فسار إليه كورش وحاربه وهزمه، ثمّ تعقّبه حتّي حاصره في عاصمة ملكه ثمّ فتحها وأسره، ثمّ عفا عنه وعن سائر أعضاده وأكرمه وإيّاهم وأحسن إليهم، وكان له أن يسوسهم ويُبيدهم. وهذه القصّة تنطبق علی قوله تعالي: حَتَّي'´ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ (ولعلّها الساحل الغربيّ من آسيا الصغري) وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَـ'ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا. [11] لقد قلنا لذي القرنين إنّ لك الخيرة في هؤلاء الذين ظلموا فوقعوا في يدك، إمّا أن تعذّبهم جزاءً لما فعلوا، أو أن تعفو عنهم وتُحسن إليهم. فقال ذوالقرنين: سأُعاقب الذين يظلمون بعد الآن، أمّا الذين يؤمنون ويعملون صالحاً، فإنّي سأُحسن إليهم إضافة إلی الثواب الاُخرويّ الذي سينالونه. ثمّ إنّه بعد سفره إلی المغرب سار نحو الصحراء الكبيرة في المشرق حوالي «بكتريا» لإخماد غائلة قبائل بدويّة همجيّة انتهضوا هناك للمهاجمة والفساد. حَتَّي'´ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلَعُ عَلَي' قَوْمِ لَم نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا. بحث حول طائفة يأجوج ومأجوجوأمّا طائفة يأجوج ومأجوج فقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم في موردين: الاوّل: في سورة الكهف، حيث يبيّن قصّة ذي القرنين، وقد مرّ شرح ذلك. الثاني: في سورة الانبياء: حَتَّي'´ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ* واقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَـ'خِصَةٌ أَبْصَـ'رُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَـ'وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـ'ذَا بَلْ كُنَّا ظَـ'لِمِينَ. [12] وقد ورد ذكر هاتين الطائفتين في مواضع من كتب العهد القديم، وذكروا في التوراة باسم يأجوج ومأجوج. وقد ورد في الإصحاح العاشر من سفر التكوين وكتاب حزقيال الإصحاح 28 والإصحاح 39، وفي رؤيا يوحنّا في الإصحاح 20 مطالب تدلّ علی أنّ «مأجوج» أو «جوج ومأجوج» كانوا أُمّة أو أُمماً تقطن الاراضي المعمورة في شمال آسيا، وأنـّهم كانوا من أهل الحرب والقتال يشتغلون بالحرب والنهب وإثارة الفتن. ومن هنا فيبدو أنّ كلمة يأجوج ومأجوج ليست عبريّة، بل إنّها تسرّبت إلی العبريّة من اللغات الخارجيّة، لانّ هاتين الكلمتين تلفظان في اليونانيّة بلفظ «گاگ وما گاگ» وقد وردت بهذا النحو في الترجمة السبعينيّة للتوراة وفي سائر اللغات الاُوروبيّة. ومن مسلّمات التأريخ أنّ منطقة شمال شرقيّ آسيا وبراري ومرتفعات شمال الصين كانت محلّ سكني طوائف كبيرة من البدو والهمجيّين الذين كانت أعدادهم تتزايد باستمرار. وكانت تلك الطوائف تهاجم الاُمم التي تجاورها مثل الصينيّين، بل ما أكثر ما عبرت الصين ووصلت إلی دول وسط آسيا والدول الغربيّة من آسيا، ثمّ سارت من هناك إلی شمال أُوروبّا، حيث توطّن بعضهم في تلك البلاد المنهوبة كما فعل أغلب سكنة أُوروبّا الشماليّة الذين اختاروا مدناً لهم هناك، فتمدّنوا تدريجيّاً واشتغلوا بالزراعة والصناعة، وعاد البعض الآخر بعد إغارتهم واستمرّوا في ديدنهم في الهجوم والإغارة والنهب. وقال البعض إنّ يأجوج ومأجوج أُمّة تقطن المنطقة الشماليّة من آسيا، ومدنهم تمتدّ من التبت والصين إلی المحيط المنجمد الشماليّ، وتصل غرباً إلی بلاد تركستان. وقد نقل هذا القول عن «فاكهة الخُلفاء» و «تهذيب الاخلاق» لابن مسكويه، وعن «رسائل إخوان الصفا». أمّا من جهة البحث في التطوّرات الحاكمة علی اللغات فيمكن القول إنّ أصلها الصينيّ «منگوگ» أو «منجوگ» ثمّ صارت في العبريّة والعربيّة «يأجوج ومأجوج»، وفي اليونانيّة «گوك وماگوك» ويمكن الحكم من التشابه الكامل بين «ماگوگ» و «منگوگ» أنّ هذه الكلمة متطوّرة من التلفّظ الصينيّ «منگوگ»، كما اشتقّ منه «منغول ومغول». فيأجوج ومأجوج هم المغول، وكانت هذه الاُمّة القاطنة في الشمال الشرقيّ من آسيا من أقدم الاعصار أُمّة كبيرة مهاجمة، تهاجم برهة الصين وبرهة من طريق داريال القفقاز إلی أرمينية وشمال إيران، وبرهة بعد بناء السدّ إلی شمال أُوروبّا. وتسمّي عندهم بـ «سيت». ومنهم الاُمّة الهاجمة علی الروم. وقد سقطت في هذه الكرّة دولة الرومان؛ والرمانيّون يسمّونهم «سيتهين» الذي ذكر في الواجهة المخطوطة لداريوش في اصطخر فارس. وقد تقدّم أنّ المستفاد من كتب العهد القديم أن هذه الاُمّة المفسدة هم من سكنة أقاصي الشمال. [13] ذو القرنين وسدّ يأجوج ومأجوجأمّا أين يقع السدّ؟ فقد ورد في تفسير «الدرّ المنثور» عن ابن عبّاس في تفسير حَتَّي'´ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ [14]، قال: الجبلين أرمينية وآذربيجان. [15] وللعثور علی هذا السدّ فإنّ علينا الالتفات إلی جهتين: الاُولي: أنّ السدّ قد صُنع في محلّ شكّلت الجبال الواقعة في أطرافه ما يشبه الجدار العالي، أي أنّ السدّ يقع في مضيق جبليّ. والاُخري: أنّ قطع الحديد والنحاس قد استعملت في بناء هذا السدّ لانّ القرآن الكريم ذكر هذه الخصوصيّات في مواصفات السدّ. وعليه فإنّ ما نسب إلی البعض من قولهم إنّ سدّ ذي القرنين هذا هو جدار الصين ليس صحيحاً، فجدار الصين جدار طويل بُني بين الصين وبين منغوليا، بناه «شين هوانغ تي» أحد ملوك الصين لصدّ هجمات المغول عن الصين، وطول هذا الجدار ثلاثة آلاف كيلو متر وعرضه تسعة أمتار وارتفاعه خمسة عشر متراً، وقد بُني هذا السدّ بالاحجار. هذا وقد أقدم شين هوانغ تي حاكم الصين علی البدء فيه سنة 264 قبل ميلاد المسيح، وانتهي العمل فيه في مدّة عشر سنين أو عشرين سنة. ومن هنا فإنّ سدّ ذي القرنين لا يمكن أن يكون جدار الصين، وذلك أوّلاً: لانـّه لم يرد في تأريخ الصين أنّ هذا الملك كان له سفر إلی غرب الارض. وثانياً: لانّ جدار الصين لا يقع بين جبلين، بل هو جدار بطول ثلاثة آلاف كيلو متر يمرّ في مسيره من الجبال والصحاري. وثالثاً: أنـّه مصنوع من الصخر ولم يُستعمل في بنائه أيّ حديد أو نحاس. [16] وقال البعض: إنّه حائط دربند الذي سُمّي في العربيّة بـ «باب الابواب». وقد اختار البيضاويّ في تفسيره هذا القول، فيقول: إنّ أنوشيروان قد أعاد تعميره وترميمه، لكنّ أصل بنائه كان علی يد ذيالقرنين. و باب الابواب حائط طويل وعال بُني علی ساحل بحر الخزر في جوار سدّ مضيق داريال؛ وهذا القول غير صحيح لانّ أيّاً من الاوصاف التي ذكرها القرآن لسدّ ذي القرنين لا توجد فيه. وقد وقع بعض المؤرّخين المعاصرين في هذا الخطأ فتصوّر أنّ حائط دربند هو سدّ ذي القرنين، وقد ثبت عند المؤرّخين المسلمين أنّ أصل حائط دربند قد بني في زمن الساسانيّين بأمر أنوشيروان، ولا معني لان يكون يوسف اليهوديّ الرحّالة الإسرائيليّ المعروف الذي كان يعيش قبل أنوشيروان بقرون قد شاهده، لانّ من المسلّم أنّ هذا الرحّالة قد شاهد ذا القرنين في أسفاره وذكر خصائصه وصفاته. ومن ثمّ فإنّ سدّ ذي القرنين هذا هو السدّ الموجود في مضيق جبال قفقاز الممتدة من بحر الخزر إلی البحر الاسود، ويسمّي المضيق «داريال» (و داريال محرّف داريول التي تعني بالتركيّة المضيق، ويدعي هذا السدّ باللغة المحلّيّة دمير قاپو بمعني البوّابة الحديديّة). ويقع هذا المضيق بين بلدة «تفليس» وبين «ولادي كيوكز»، وهذا السدّ واقع في مضيق بين جبلين شاهقين يمتدّان من جانبيه، وهو وحده الفتحة الرابطة بين تلك السلسلة الجبليّة. كما أنّ هذا المضيق هو الرابط الوحيد بين النواحي الشماليّة والنواحي الجنوبيّة، لانّ تلك السلسلة الجبليّة بين بحرر الخزر والبحر الاسود هي نفسها مانع وحاجز طبيعيّ يمتدّ آلاف الكيلو مترات ويفصل الجنوب عن الشمال. وكان يهجم في تلك الاعصار أقوام شريرة من قاطني الشمال الشرقيّ من آسيا من مضيق جبال قفقاز إلی ما يواليها من الجنوب فيُغيرون علی ما دونها من أرمينية ثمّ إيران حتّي آشور وكلدة، فلا يتورّعون في هجماتهم عن ارتكاب القتل والسبي والنهب، وقد هجموا مرّة في حوالي القرن السابع قبل الميلاد حتّي بلغوا نينوي عاصمة آشور، وكان ذلك في القرن السابق علی عهد كورش. وقد ذكر المؤرّخون اليونانيّون مثل هيرودوت سير كورش إلی شمال إيران لإخماد نوائر فتن اشتعلت هناك، والظاهر أنـّه بني السدّ في مضيق داريال في مسيره هذا بطلب من أهل الشمال وتظلّم منهم، وقد بناه بالحجارة والحديد، وهو السدّ الوحيد المتين الذي استعمل فيه الحديد، وهو ذلك السدّ الواقع بين جبلين الذي ينطبق عليه قوله تعالي: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ. وممّا أيّد هذا المدّعي وجود نهر بالقرب منه يسمّي «سايروس» وهو اسم كورش عند الغربيّين، كما أنّ هذا الحائط يُسمّي في الآثار التأريخيّة القديمة للارمن «هاك كورائي» ومعني هذا اللفظ مضيق كورش أو ممرّ كورش. ومن الجليّ أنّ كتابات الارمن في هذا الموضوع ـ بناء علی قربهم من أرمينية ووجود المضيق ـ تعدّ بمنزلة شهادة محلّيّة. وكما قلنا فإنّ يوسف اليهوديّ قد شاهده، ثمّ شاهده بعده المؤرّخ المعروف بروكوبيس في القرن السادس الميلاديّ وكتب عنه شرحاً. [17] وإلي هنا ينتهي بحثنا عن ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وبناء السدّ، وعلينا الآن أن نري ما معني الدكّ الذي ورد في القرآن الكريم فعدّ دكّ سدّ ذيالقرنين من علامات القيامة. كما أنّ انفتاح السبيل ليأجوج ومأجوج ليتدفّقوا من كلّ صوب وحدب إلی البلاد والمدن قد عدّ من تلك العلامات، وانكسار السدّ وتدفّقهم من ملاحم القرآن وأخباره الغيبيّة. حَتَّي'´ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ* وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَـ'خِصَةٌ أَبْصَـ'رُ الَّذِينَ كَفَرُو´ا يَـ'وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـ'ذَا بَلْ كُنَّا ظَـ'لِمِينَ. [18] يقول العلاّمة الطباطبائيّ مدّ ظلّه: أمعن أهل التفسير والمؤرّخون في البحث حول القصّة (قصّة يأجوج ومأجوج)، وأشبعوا الكلام في أطرافها، وأكثرهم علی أنّ يأجوج ومأجوج أُمّة كبيرة في شمال آسيا، وقد طبّق جمع منهم ما أخبر به القرآن من خروجهم في آخر الزمان وإفسادهم في الارض علی هجوم التتر في النصف الاوّل من القرن السابع الهجريّ علی غربي آسيا، وإفراطهم في إهلاك الحرث والنسل بهدم البلاد وإبادة النفوس ونهب الاموال وفجائع لم يسبقهم إليها سابق. وقد أخضعوا أوّلاً الصين ثمّ زحفوا إلی تركستان وإيران والعراق والشام وقفقاز إلی آسيا الصغري، وأفنواكلّ ما قاومهم من المدن والبلاد والحصون، كسمرقند و بخارا و خوارزم و مرو و نيسابور و الري وغيرها فكانت المدينة من المدن تصبح وفيها مئات الاُلوف من الناس، وتُمسي ولمبق من عامّة أهلها نافخ نار، ولا من هامة، أبنيتها حجر علی حجر. ثمّ رجعوا إلی بلادهم ثمّ عادوا وحملوا علی الروس ودمرّوا أهل بولونيا وبلاد المجر، وحملوا علی الروم وألجأوهم علی الجزية، كلّ ذلك في فجائع يطول شرحها. معني تحطّم سدّ ذي القرنينلكنّهم أهملوا البحث عن أمر السدّ من جهة خروجهم منه وحلّ مشكلته، فإنّ قوله تعالي: فَمَا اسْطَـ'عُو´ا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَـ'عُوا لَهُ و نَقْباً * قَالَ هَـ'ذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ و دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّـًا * وتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ[19] الآيات، ظاهرة علی ما فسّروه أنّ هذه الاُمّة المفسدة محبوسون فيما وراءه لا مخرج لهم إلی سائر الارض ما دام معموراً قائماً علی ساقه، حتّي إذا جاء وعد الله سبحانه جعله دكّاء مثلّماً أو منهدماً فخرجوا منه إلی الناس وساروا بالفسادوالشرّ. فكان عليهم (أي علی الباحثين والمؤرّخين) علی هذا أن يقرّروا للسدّ وصفه هذا، فإن كانت الاُمّة المذكورة هي التتر وقد ساروا من شمال الصين إلی إيران والعراق والشام وقفقاز إلی آسيا الصغري، فأين كان هذا السدّ الموصوف في القرآن الذي وطؤوه ثمّ طلعوا منه إلی هذه البلاد وجعلوا عاليها سافلها؟ (فإن كان المراد بيأجوج ومأجوج المغول والتتر فإنّ هذا الإشكال باقٍ في محلّه) وإن لم يكن (يأجوج ومأجوج) هي التتر أو غيرها من الاُمم المهاجمة في طول التأريخ، فأين هذا السدّ المشيّد بالحديد ومن صفته أنـّه يحبس أُمّة كبيرة منذ أُلوف من السنين من أن تهجم علی سائر أقطار الارض ولا مخرج لهم إلی سائر الدنيا دون السدّ المضروب دونهم، وقد ارتبطت اليوم بقاع الارض بعضها ببعض بالخطوط البريّة والبحريّة والجوّيّة وليس يحجز حاجز طبيعيّ كجبل أو بحر، أو صناعيّ كسدّ أو سور أو خندق أُمّة من أُمّة، فأيّ معني لانصداد قوم عن الدنيا بسدّ بين جبلين بأيّ وصف وُصف وعلي أيّ نحوٍ فُرض؟ والذي أري في دفع هذا الإشكال ـ والله أعلم ـ أن قوله: دكّاء من الدكّ بمعني الذلّة، قال في «لسان العرب»: وجبل دكّ: ذليل ـ انتهي. والمراد بجعل السدّ دكّاء جعله ذليلاً لا يعبؤ بأمره ولا ينتفع به من جهة اتّساع طرق الارتباط وتنوّع وسائل الحركة والانتقال برّاً وبحراً وجوّاً. فحقيقة هذا الوعد (بجعل السدّ دكّاء) هو الوعد بِرُقِيِّ المجتمع البشريّ في مدنيّته، واقتراب شتّي أُممه إلی حيث لا يسدّه سدّ ولايحوطه حائط عن الانتقال من أي صقع من أصقاع الارض إلی غيره، ولا يمنعه من الهجوم والزحف إلی أيّ قومٍ شاءوا. ويؤيّد هذا المعني سياق قوله تعالي في موضع آخر يذكر فيه هجوم يأجوج ومأجوج: حَتَّي'´ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ حيث عبّر بفتح يأجوج ومأجوج ولم يذكر السدّ. وللدكّ معني آخر وهو الدفن بالتراب، ففي «صحاح اللغة»: دَكَكْتُ الرَّكِيّ ـ وهو البئر ـ دفنتُه بالتراب ـ انتهي. ومعني آخر وهو صيرورة الجبل رابية من طين. قال في «الصحاح»: و تَدَكْدَكَتِ الْجِبَالُ أَيْ صَارَتْ رَابِيَةً مِن طِينٍ وَاحِدَتُهَا دَكَّاءُ ـ انتهي. فمن الممكن أن يحتمل أنّ السدّ من جملة أبنية العهود القديمة التي ذهبت مدفونة تحت التراب عن رياح عاصفة أو غريقة بانتقال البحار أو اتّساع بعضها علی ما تثبتها الابحاث الجيولوجيّة، وبذلك يندفع الإشكال لكنّ الوجه السابق أوجه. [20] وكلام العلاّمة الطباطبائيّ هذا ناظر إلی أبحاث أبي الكلام والسير أحمد خان اللذين أشارا بتحقيقهما في أمر السدّ من خلال الشواهد التأريخيّة والقرآنيّة والآثار القديمة أنّ باني السدّ هو كورش، إلاّ أنـّهما ـمع ذلك كلّهـ لم يحلاّ مشكلة اندكاك السدّ الذي يعدّ من علامات القيامة، وقد حللناها بفضل الله تعالي بهذا البيان. لقد عُدّ أمير المؤمنين عليه السلام ذا قرني الاُمّة في الكثير من الروايات التي وردت عن طريق الشيعة والسنّة، وهذه الروايات تصل إلی حدّ الاستفاضة إن لم نقل بوصولها حدّ التواتر. يروي الصدوق في «إكمال الدين» بسنده المتّصل عن أبي بصير، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام: قَالَ: إِنَّ ذَا الْقَرنَينِ لَمْ يَكُنْ نَبِيَّاً، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْداً صَالِحاً أَحَبَّ اللَهَ فَأَحَبَّهُ اللَهُ، وَنَاصَحَ لِلَهَ فَنَاصَحَهُ اللَهُ، أَمَرَ قَوْمَهُ بِتَقْوَي اللَهِ فَضَرَبُوهُ علی قَرْنِهِ فَغَابَ عَنْهُمْ زَمَاناً ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبُوهُ علی قَرْنِهِ الآخَرِ وَفِيكُمْ مَنْ هُوَ علی سُنَّتِهِ. [21] أمير المؤمنين عليه السلام ذو قرني الاُمّةكما يروي بسنده المتّصل عن الاصبغ بن نباتة، قال: قَامَ ابْنُ الْكَوَّا إلی أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ علی بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهُوَ علی الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَخْبِرْنِي عَنْ ذِي الْقَرْنِينِ أَنَبِيٌّ كَانَ أَوْ مَلِكٌ؟ وَأَخْبِرْنِي عَنْ قَرْنَيْهِ أَذْهَبُ كَانَ أَوْ فِضَّةٌ؟ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَمْ يَكُنْ نَبِيَّاً وَلاَ مَلِكاً وَلاَ قَرْنَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَلاَفِضَّةٍ؛ وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْداً أَحَبَّ اللَهَ فَأَحَبَّهُ اللَهُ وَنَصَحَ اللَهَ فَنَصَحَهُ اللَهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لاِنـَّهُ دَعَا قَوْمَهُ فَضَرَبُوهُ علی قَرْنِهِ فَغَابَ عَنْهُمْ حِيناً، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبُوهُ علی قَرْنِهِ الآخَرِ؛ وَفِيكُمْ مِثْلُهُ. [22] والمراد بذلك نفسه الشريفة حين ضربه عَمرو بن وَد بالسيف علی رأسه، ثمّ إنّه سيُضرب مرّة أُخري، إذ سيضربه ابن ملجم المراديّ علی قرنه بالسيف، وهذا من ملاحمه صلوات الله عليه. وقد روي هذا الحديث في تفسير «البرهان» عن الصدوق بنفس السند، وفي «علل الشرايع» أيضاً بهذا السند، وفي «تفسير عليّبن إبراهيم» دون ذكر السند؛ [23] كما أورده في كتاب «الغارات» ضمن حديث طويل يسأل فيه ابن الكوّا أمير المؤمنين عليه السلام [24]؛ ونقله عن «الغارات» المجلسيّ في «بحار الانوار» المجلّد الرابع، باب «ما تفضّل علی عليه السلام به علی الناس» ص 120، س 19، كما نقله عنه حسنبن سليمان الحلّيّ تلميذ الشهيد الاوّل في كتاب «مختصر البصائر» ص204؛ وأورده كذلك في «البحار» المجلّد 13، باب الرجعة، ص 227، س21. [25] ويقول في هامش ص 31 من كتاب «الغارات»: أورد هذا الحديث ابن عساكر في تأريخه، ج 7، ص 300 بأدني اختلاف في اللفظ؛ والمجلسيّ رحمة الله عليه في «بحار الانوار» المجلّد 15، عن عليّبن إبراهيم، بسنده عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام. كما أورد محمّدبن علی بن شـهرآشـوب في كتاب «المناقب» فصل «أنّ أميرالمؤمنين الشاهد والمشهود وذو القرنين»، الجزء الثالث من طبعة بمبي، ص 63، عن كتاب أبي عبيد «غريب الحديث» أنّ رسول الله صلّيالله عليه وآله قال لامير المؤمنين عليه السلام: إِنَّ لَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ؛ وَإِنـَّكَ لَذو قَرْنَيْهَا. وجاء في الحديث أنّ سُوَيد بن غَفَلة وأبا الطفيل رويا عن أميرالمؤمنين عليه السلام هذه الرواية التي أوردناها عن ابن الكوّا بأدني اختلاف في اللفظ. وأورد هذه الرواية محمّد بن مسعود العيّاشيّ في تفسيره، في تفسير آية: يَسْئَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ؛ ورواها أحمد بن أبي طالب في كتاب «الاحتجاج». يقول أبو عبيد القاسم بن سلام الهرويّ المتوفّي سنة 224 هجريّة في كتاب «غريب الحديث»: قد كان بعضُ أهلِ العلمِ يتأوّل هذا الحديث ] أي قول رسول الله: ذُو قَرْنَيْهَا [ أنـّه ذو قرني الجنّة، يريدُ طرفيها، وإنّما تأوّل ذلك لذكره الجنّة في أوّل الحديث ] فأرجعوا الضمير في «ذو قرنيها» إلی الجنّة [، وأمّا أنا فلا أحسبه أراد ذلك والله أعلم، ولكنّه أراد ] بقوله: ذُوقَرْنَيْهَا [ أنـّك ذو قرني الاُمّة، فأضمر الاُمّة وإن كان لم يذكرها، وهذا سائر كثير في القرآن الكريم. ثمّ يضرب عدّة أمثلة من القرآن الكريم [26] ثمّ يقول: وإنّما اخترت هذا التفسير علی الاوّل لحديث عن علی نفسه هو عندي مفسّر له ولنا، وذلك أنـّه ذكر ذا القرنين فقال: دَعَا قَوْمَهُ إلی عِبَادَةِ اللَهِ فَضَرَبُوهُ علی قَرْنِهِ ضَرْبَتَيْنِ، وَفِيكُمْ مِثْلُهُ. ونعلم من هذا الحديث أنـّه كان يعني نفسه الطاهرة، أي أنـّه يقول إنّني أدعو الناس إلی الحقّ حتّي أُضرب ضربتين وأُقتل علی إثرهما. كما أنّ الزمخشريّ في «الفائق» مادة ] قَرَنَ [، ج 2، ص 327 قد أرجع الضمير إلی الاُمّة. وأورد ابن منظور في «لسان العرب» مادّة «قرن» نظير مفاد كلام ابن الاثير، كما ذكر الزبيديّ في «تاج العروس» هذا الحديث بعد بحث مفصّل، وأورد تفسير أبي عبيد؛ ثمّ يبيّن مطلباً لطيفاً عن أبي الكمال السيّد أحمد عاصم في «اقيانوس بسيط» ترجمة «القاموس المحيط» في قول رسولالله لامير المؤمنين عليهما صلوات الله: إِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ بَيْتاً وَإِنـَّكَ لَذُو قَرْنَيْهَا. [27] ومن هنا، وتبعاً لمفاد هذه الروايات المستفيضة، بل المتواترة التي ذكرنا بعضها هنا، والتي رواها الشيعة والسنّة وفسّروا ذا القرنين فيها بمعني مَن ضُرِب علی قرنيه، وعيّنوا إن مَثَله في هذه الاُمّة أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ تطبيق الآيات الواردة في شأن ذي القرنين علی كورش سيكون أمراً مُستعصياً. [2] ـ «بحار الانوار» الطبعة الحروفيّة، ج 6، ص 303. [3] ـ «صحيح مسلم» طبعة محمّد فؤاد عبد الباقي ـ بيروت، ج 4، كتاب الفتن وأشراط الساعة، تسلسل الصفحة 2225 و 2226. [4] ـ «الخصال» طبعة المطبعة الحيدريّة، ص 446 و 447. [5] ـ الآية 158، من السورة 6: الانعام. [6] ـ الآيتان 100 و 101، من السورة 18: الكهف. [7] ـ قال صاحب «الميزان» قدّس سرّه: المراد بالعين البحر... والمراد بوجدان الشمس تغرب في عين حمئة أي تقف علی ساحل بحر لا مطمع في وجود برّ وراءه، فرأي الشمس كأنـّها تغرب في البحر لمكان انطباق الاُفق عليه. (م) [8] ـ حافظنا علی تعبير المؤلّف، فقد أُلّف الكتاب زمن حياة العلاّمة قدّس سرّه وهذا هو دأبنا في جميع فصول الكتاب. (م) [9] ـ نشرة «ثقافة الهند» العددان الاوّل والثاني. [10] ـ أجري العالم الجليل السيّد صدر الدين البلاغيّ بحثاً لطيفاً حول نظريّة أبي الكلام وذلك في كتاب «فرهنگ قصص قرآن» وتعريبه: «معجم قصص القرآن» من ص 359 إلی 374؛ وطبع في ص 364 صورة للتمثال جديرة بالتأمّل والملاحظة. (الطبعة السادسة لدار نشر أمير كبير). [11] ـ الآية 86، من السورة 18: الكهف. [12] ـ الآيتان 96 و 97، من السورة 21: الانبياء. [13] ـ «تفسير الميزان» ج 13، ص 387 إلی 426؛ ويقول العلاّمة هنا: هذا جملة ما ï ïلخّصناه من كلامه، وهو وإن لم يخل عن اعتراضٍ ما في بعض أطرافه، لكنّه أوضح انطباقاً علی الآيات وأقرب إلی القبول من غيره. [14] ـ الآية 93، من السورة 18: الكهف. [15] ـ «تفسير الميزان» ج 13، ص 406. [16] ـ «الميزان» ج 13، ص 411. [17] ـ «الميزان» ج 13، ص 425، نقلاً عن كلام أبي الكلام آزاد. [18] ـ الآيتان 96 و 97، من السورة 21: الانبياء. [19] ـ الآيات 97 إلی 99، من السورة 18: الكهف. [20] ـ «الميزان» ج 13، ص 426 إلی 428. [21] ـ «إكمال الدين» الطبعة الحجريّة، الباب 40، ص 220. [22] ـ «إكمال الدين» الطبعة الحجريّة، الباب 40، ص 220. [23] ـ «تفسير البرهان» ج 2، ص 641، الطبعة الحجريّة؛ و «علل الشرايع» ص 40 و 41؛ و«تفسير القمّيّ» ص 402. [24] ـ «الغارات» ج 1، ص 182. [25] ـ «الغارات» ج 1، التعليقة الاُولي من ص 182. [26] ـ كالآية الشريفة: وَلَوْ يُؤَاخِذ اللَهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَي' ظَهْرِهَا مِنْ دَآبَّةٍ. وفي موضع آخر: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا. حيث إنّ الضمير في كلا الموضعين يعود إلی الارض مع أنـّها لم تُذكر. وكمثل الآية الشريفة: إِنِّي´ أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّي' تَوَارَثْ بِالْحِجَابِ، أي تورات الشمس، مع أنـّها لم تذكر. ونظير هذا كثير في كلام العامّة. وقد يقول القائل: مَا بِهَا أَعْلَمُ مِنْ فُلاَنٍ؛ يعني القرية والمدينة والبلدة. ونظير هذا قول حاتم طيء ] من البحر الطويل [: أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَي إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ أَراد النفسَ فَأضمرها. [27] ـ خلاصة التعليقة 31 من تعليقات «الغارات» ج 2، ص 740 إلی 745. |
|
|