|
|
الصفحة السابقةمن علامات القيامة ظهور الدخان في السماء وخروج دابّة الارضظُهُورُ الدُّخَانِ فِي السَّمَاء وأحد علامات القيامة: الدخان الذي يظهر في أُفق السماء، وهذا الدخان ظاهر جليّ، وهو علامة للعذاب: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَي النَّاسَ هَـ'ذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ* رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ* أَنـَّي' لَهُمُ الذِّكْرَي' وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ. [1] خروج دَابَّة الاَرضِ مِن عَلاَمَاتِ القِيِامَة وأحد علامات القيامة خروج دابّة الارض: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبـَّةً مِّنَ الاْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِـَايَـ'تِنَا لاَ يُوْقِنُونَ. [2] فما المراد بدابّة الارض في هذه الآية التي ذكرها الرسول الاكرم في هذه الرواية الشريفة، تلك الدابّة التي هي إحدي علامات يوم القيامة، والتي وردت أخبار كثيرة في شأنها؟ دابّة تخرج من الارض فتكلّم الناس، وتَسِمُ المعاندين والمعارضين والكافرين، وتجلو وجوه المؤمنين والملتزمين، وتفرّق هذين الفريقين عن بعضهما في صفّين مختلفين متميّزين؟ هناك نكتة ما في عدم ذكر القرآن الكريم لاسمها، كما أنّ هناك نكتة في عدم ذكر اسم علی عليه السلام في جميع القرآن الكريم، مع أنّ جميع القرآن قد تحدّث عن مقامات أمير المؤمنين وصفاته وأخلاقه، أي عن مقام الولاية. فالولاية في الباطن هي النبوّة، والنبوّة هي ظاهر الولاية، والقرآن الكريم كتاب النبوّة، أي ظاهر الولاية. الولاية هي تفسير القرآن وتأويله، والتفسير والتأويل في الباطن، لانـّه تأويل وتفسير بالفرض. لذا لا يمكن ـ أُصولاً ـ أن يوجد اسم علی في القرآن، ومن ثمّ فقد ورد في آثار كثيرة أنّ تفسير وتأويل آيات القرآن عائد إلی أمير المؤمنين عليه السلام، وإذا ما شاهدنا آيةً ما تفسّر في بعض التفاسير الواردة عن الائمّة عليهم السلام علی نحوٍ يرجع معه مفادها ومعناها إليهم ـ عليهم السلام ـ أو إلی أعدائهم، فإنّ هذا راجع إلی تأويل القرآن لا إلی بيان الظاهر، ولا تنافي أبداً بين هذين المقامين والمرحلتين. ومن جملة ذلك هذه الآية الشريفة التي وردت في أخبار كثيرة نُقل معظمها في تفسير «البرهان» ذيل الآية الشريفة. وقد روي في «مجمع البيان» عن محمّد بن كعب القرظيّ أنّ عليّاً صلوات الرحمن عليه سُئل عن المراد بهذه الدابّة، فقال: أَمَا وَاللَهِ مَا لَهَا ذَنَبٌ وَإِنَّ لَهَا لَلِحْيَة. [3] أمير المؤمنين عليه السلام هو المراد بدابّة الارضوروي علی بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: انْتَهَي رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إلی أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ قَدْ جَمَعَ رَمْلاً وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَيْهِ، فَحَرَّكَهُ بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ لَه: قُمْ يَا دَابَّةَ اللَهِ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَهِ! أَيُسمِّي بَعْضُنَا بَعْضاً بِهَذَا الاسْمِ؟ فَقَالَ: لاَ، وَاللَهِ مَا هُوَ إِلاَّ لَهُ خَاصَّةً، وَهُوَ الدَّابـَّةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَهُ فِي كِتَابِهِ: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الاْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِـَايـ'تِنَا لاَ يُوقِنُونَ. ثُمَّ قَالَ: يَا علی! إِذَا كَانَ آخِرُ الزَّمَانِ أَخْرَجَكَ اللَهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَمَعَكَ مِيْسَمٌ تَسِمُ بِهِ أَعْدَاءَكَ. فقالَ رَجُلٌ لابي عبدِ اللهِ (الصادق) عليه السلام: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ هَـ'ذِهِ الدَّابـَّة إِنـَّمَا تَكْلِمُهُمْ؟ فقال أَبو عبد الله عليه السلام: كلمهم اللَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، إِنَّمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ مِنَ الْكَلاَمِ. والدليلُ علی أَنَّ هَذَا فِي الرَّجْعَةِ قَوْلُهُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِـَايَـ'تِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ* حَتَّي'´ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِـَايَـ'تِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَاكُنتُمْ تَعْمَلُونَ.[4] قال (الإمام): الآياتُ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ وَالاَئمَّةُ عَلَيهِمُ السَّلاَمُ. فقال الرجلُ لابي عبد الله عليه السلام: إِنَّ العَامَّةَ تَزْعَمُ أَنَّ قَوْلَهُ «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا» عني به يَوْمَ الْقِيَامَةِ (لا الرجعة). فقال أبو عبد الله عليه السلام: أَفَيَحْشُرُ اللَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً وَيَدَع البَاقِينَ؟ لاَ، وَلَكِنَّهُ فِي الرَّجْعَةِ، وَأَمَّا آيَةُ القِيَامَةِ فَهِيَ: وَحَشَرْنَـ'هُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. [5] يقول علی بن إبراهيم: وحدّثني أبي عن ابن أبي عُمير، عن المفضّل عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: قال رجلٌ لعمّار بن ياسر: يَا أَبَا اليَقْظَان! آيةٌ في كتابِ اللَهِ قَدْ أَفْسَدَتْ قَلْبِي وَشَكَّكَتْنِي. قال عمّار: وأيّ آيةٍ هي؟ قال: قولُ اللهِ: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبـَّةً مِّنَ الاْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِـَايـ'تِنَا لاَ يُوقِنُونَ،[6] الآية؛ فأَيّ دابّة هي؟ قال عمّار: وَاللهِ مَا أجْلُسُ وَلاَ آكُلُ ولاَ أَشْرَبُ حَتَّي أُرِيكَهَا. فجاء عمّار مع الرجلِ إلی أمير المؤمنين عليه السلام وهو يأكلُ تَمْراً وزبداً، فقال له: يَا أبا اليقظان هَلُمَّ! فجلسَ عمّار وأقبل يأكُل معه، فتعجّب الرجل منه، فلمّا قام عمّار قالَ لَهُ الرجلُ: سُبحانَ اللهِ! يَا أَبَا اليقظان حَلَفْتَ أَنـَّكَ لا تأكلُ ولا تشربُ ولا تجلسُ حتّي ترينيها! قال عمّار: قَدْ أَرَيْتُكَهَا إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ! [7] وقد نُقلت هذه الرواية عن علی بن إبراهيم في «مجمع البيان» وتفسير «البرهان»، [8] وأوردها الاخير بسنده المتّصل عن الاصبغ بن نباتة قال: دَخَلْتُ علی أَمِيرِالمُؤمِنِينَ عَلَيهِ السَّلاَمُ وَهُوَ يَأْكُلُ خُبْزَاً وَخَلاَّ وَزَيْتَاً، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! قَالَ اللَهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبـَّةً مِنَ الاْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِـَايـ'تِنَا لاَ يُوقِنُونَ. فَمَا هَذهِ الدَّابَّةُ؟ قَالَ: هِيَ دَابَّةٌ تَأْكُلُ خُبْزاً وَخَلاَّ وَزَيْتاً. [9] وروي أيضاً بسنده المتّصل عن رسول الله صلّي الله عليه وآله: تَخْرُجُ دَابـَّةُ الاْرْضِ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَي وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، تَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِعَصَا مُوسَي، وَتَسِمُ وَجْهُ الْكَافِرِ بِخَاتَمِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. [10] وهذا هو مقام ظهور الولاية، لانّ الولاية المطلقة لامير المؤمنين عليه السلام طبقت المُلك والملكوت، لكنّ تلك الولاية تظهر وتبرز وتتجلّي من خفائها وكمونها بعالم الشهادة حين تتحقّق مقدّمات القيامة. والولاية موجودة الآن أيضاً، إلاّ أنـّه ليس لها ظهور لعامّة الناس، فهي مختفية لا يحسّونها ولا يدركونها. بلي، لها ظهور لخواصّ الناس الذين جاهدوا الجهاد الاكبر وطووا منازل الإخلاص وصاروا من عبادالله المقرّبين المخلصين، فأُولئك هم الذين يرون جميع حركات وسكنات العوامل تحت سيطرة الولاية وهيمنتها؛ أمّا في الرجعة فإنّ ظهور الولاية سيكون لعموم الناس. علوّ مقام أمير المؤمنين عليه السلامولدينا في الكثير من الروايات: علی قَسِيمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلاَيَجُوزُ أَحَدٌ علی الصِّرَاطِ إِلاَّ وَكَتَبَ علی لَهُ الْجَوَازَ. علی هو دابّة الارض، يجلو بعصا موسي وجوه المؤمنين فتصبح نيّرة وضّاءة، ويسم بميسمه وجوه الكفّار، ويفصل أفراد المؤمنين عن الكافرين واحداً فواحداً، ويميز الحقّ عن الباطل، ويشخّص أهل الجنّة من أهل النار. ولقد تجلّي تجلّياً بسيطاً في هذه الدنيا فحار فيه المجوسيّ والنصرانيّ واليهوديّ وبهتوا وأذعنوالعظمته، فقافلة الوجود سائرة لاستكشاف مقامه ومنزلته. يقول جُبران خليل جُبران: وَفِي عَقِيدَتِي أَنَّ علی بْنَ أَبِي طَالِب أَوَّلُ عَرَبِيٍّ جَاوَرَ الرُّوحَ الْكُلِّيَّة وَسَامَرَهَا. ويقولُ: علی مَاتَ وَالصَّلاَةُ بَيْنَ شَفَتَيْهِ. ويقول: لَقَدْ فَاقَ علی بْنُ أَبي طالبٍ ] عَلَيهِ السَّلاَمُ [ زمانَهُ، ولستُ أعلمُ ما السرُّ في أن يجيء الدهرُ أحياناً بأفرادٍ لا ينتمونَ إلی زمانهم! ولقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام بنفسه إلی هذا الامر في وصيّته القصيرة حين ضُرب وسقط في الفراش، وذلك في قوله: غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي؛ وَتَعْرِفُونِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي.[11] وقوله: وَاللَهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ، وَلاَ طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ، وَمَا كُنْتُ إِلاَّ كَقَارِبٍ وَرَدَ، وَطَالِبٍ وَجَدَ، وَمَا عِنْدَ اللَهِ خَيْرٌ لِلاْبْرَارِ. [12] بلي، ذلك الإمام الذي كان يقول مرّةً: وَلاَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ. [13] ويقول في موضعٍ آخر: وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لاَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضِمُهَا. [14] وفي موضع: وَاللَهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عَرَاقِ [15] خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ.[16] ذلك الإمام الذي يروي مرّة عن رسول الله صلّي الله عليه وآله قوله: مَوْتَةٌ علی الْفِرَاشِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبَةِ أَلْفِ سَيْفٍ. [17] والذي تربّي في هذه المدرسة الإلهيّة بحيث صار يُقسم: وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ لاَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ علی مِنْ مِيتَةٍ علی الْفِرَاشِ. [18] لحقيقٌ أن يكون عاشقاً للموت ولقاء الله تعالي، وحقيقٌ أن يُحار أفراد البشر أمام عظمته، أيّ عظمة الله تعالي، ولان تخضع البشريّة أمامه وتخشع. صَلَّي اللَهُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ وَعَلَي رُوحِكَ الطَّيِّبِ وَبَدَنِكَ الطَّاهِرِ وَرَحْمَةُ اللَهِ وَبَرَكَاتُهُ. داديم به يك جلوة رويت دل و دين را تسليم تو كرديم همان را و همين را ما سير نخواهيم شد از وصل تو آري لب تشنه قناعت نكند ماء معين را ميديد اگر چشم ترا لعل سليمان ميداد در اول نظر از دست نگين را در دائرة تاجْوَران راه ندارد آن سر كه نسائيده به پاي تو جبين را [19] وقد ورد عن الخليل بن أحمد العروضيّ أَنـَّهُ سُئِلَ: لِمَ هَجَرَ النَّاسُ عَلِيَّاً، وَقُرْبُهُ مِن رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قُرْبُه، وَمَوْضِعُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُوْضِعُهُ، وَعِيَاذُهُ فِي الإسلام عِيَاذُهُ؟ فَقَالَ: بَهَرَ وَاللَهِ نُورُهُ أَنْوَارَهُمْ، وَغَلَبَهُمْ علی صَفْوِ كُلِّ مَنْهَلٍ، وَالنَّاسُ إلی أَشْكَالِهِمْ أَمْيَلُ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا سمعتَ الاَوَّل حَيث يَقُول: وَكُلُّ شَكْلٍ إلی شَكْلِهِ آلِفٌ أَمَا تَرَي الْفِيلَ يَأْلَفُ الْفِيلاَ قَالَ: وَأَنْشَدَنَا الرياشيُّ فِي مَعْنَاهُ عن العبّاس بن الاحنف: وَقَائِلٍ كَـيْـفَ تَـهَـاجَـرْتُـمَا فَقُلْتُ قَـوْلاً فِـيـهِ إِنْـصَـافُ لَمْ يَكُ مِنْ شَـكْلِي فَهَاجَرْتُهُ وَالـنَّـاسُ أَشْـكَـالٌ وَآلاَفُ. [20] وَسُئِلَ أَيْضَاً: مَا هُوَ الدَّلِيلُ علی أَنَّ عَلِيَّاً إِمَامُ الْكُلِّ فِي الْكُلِّ؟ فَقَالَ: احْتِيَاجُ الْكُلِّ إِلَيْهِ وَغِنَاهُ عَنِ الْكُلِّ. وسئلَ الخليلُ عن فضائل علی بن أبي طالب عليه السلام، فَقالَ: مَا أَقُولُ فِي حَقِّ مَنْ أَخْفَي أَحِبَّاؤُهُ فَضَائلَهُ مِنْ خَوْفِ الاْعْدَاءِ، وَسَعَي أَعْدَاؤُهُ فِي إِخْفَائِهَا مِنَ الْحَسَدِ وَالْبَغْضَاءِ، وَظَهَرَ مِنْ فَضَائِلِهِ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا مَلاَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ؟ [21] وما أبدعَ وأروعَ ما أنشد الصاحب بن عبّاد في هذا المعني: مَا لِعَلِيِّ الْعُلَي أَشْبَاهُ لاَ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو مَبْنَاهُ مَبْنَي النَّبِيِّ تَعْرِفُهُ وَابْنَاهُ عِنْدَ التَّفَاخُرِ ابْنَاهُ إِنَّ عَلِيَّاً عَلاَ علی شَرَفٍ لَوْ رَامَهُ الْوَهْمُ زَلَّ مَرْقَاهُ [22]
بسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين (مطالب أُلقيت في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك)
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَمَن فِي الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَ ' خِرِينَ * وَتَرَي الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَهِ الَّذِي´ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ و خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ و خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ * وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. [23] وهذه الآية المباركة معروفة بآية نفخ الفزع، أي أنّ جميع مَن فِي السماوات والارض سيخافون ويهلعون ويفزعون ويروّعون بواسطة النفخ في الصور. كما لدينا الآيتان 68 و 69 من السورة 39: الزمر: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَمَن فِي الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَاللَهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَي' فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتـ'بُ وَجِاي´ءَ بِالنَّبِيِّـنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ. [24] والآية المباركة معروفة بآية نفخ الصَّعْق؛ وصُور الصعْق هو الصور الذي يُنفخ فيه نفخة يهلك علی إثرها الجميع، لانّ الصعق بمعني الهلاك. إلاّ أنـّه يستفاد من الآية الاخيرة أنّ لدينا صورين، أي أنّ النفخ فيالصور علی نحوين. أحدهما النفخ الذي يموت علی إثره جميع الاحياء في السماوات والارض. والنحو الآخر النفخة الذي يُبعث بواسطته جميع الاموات ويُنشرون بعد موتهم. ذلك لانـّه يقول: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَي'. بَيدَ أنّ الصعق والفزع يمتلكان علی الظاهر معنيً واحداً، وقد وردا لإظهار حالة معيّنة، فالفزع في الآية يعني الخوف والجزع المؤدّي إلی الموت، كما أنّ الصعق بمعني الهلاك الذي يُصيب الإنسان إثر خوف ورعب مفاجي. إذَن فمفاد صدر كلاالآيتين: الواردة في سورة النمل، والواردة في سورة الزمر، هو النفخ فيالصور الذي يُصاب علی إثره جميع الاحياء بالفزع والرعب والهلاك. أمّا مفاد ذيل الآية الثانية، أي تلك الواردة في سورة الزمر، فهو إحياء الاموات وبعثهم بعد هلاكهم وفنائهم. يقول الشيخ الطبرسيّ في «مجمع البيان»: وقيل هي ثلاث نفخات ] ينفخها إسرافيل في الصور [، الاُولي نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق ] التي يموت علی إثرها جميع من في السماوات والارض [، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين ] وفيها يخرج جميع الناس من قبورهم [[25]. وقوع الصيحة السماويّة وخمود الناسإلاّ أنـّنا سنبيّن إن شاء الله تعالي أنّ ذلك الفَرَق والرعب الذي ينتاب الناس في الدنيا بواسطة النفخ في الصور، والمعبّر عنه بالصيحة: إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَ ' حِدَةً فَإِذَا هُمْ خَـ'مِدُونَ. [26] و [27] ليس إلاّ صيحة واحدة لا أكثر سيخمد علی إثرها جميع الناس ويتسمّرون ويفنون. وقد ورد في آية أُخري: مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَ ' حِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلاَيَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلآ إِلَي'´ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ.[28] حتّي أنـّه ورد في الحديث: تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّي تقوم، والرجل يرفع أكلته إلی فيه فما تصل إلی فيه حتّي تقوم، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّي تقوم. [29] ولربّما كان مَن نقل الطبرسيُّ قولَه يريد بنفخة الفزع: الصيحة التي يُنادي بها فيالدنيا فيهلك علی إثرها الناس. أمّا الصيحة التي تُطلق عند القيامة فإنّما هي صيحتان: صيحة تُميت أهل البرزخ ليردوا في القيامة، وأُخري لاهل البرزخ أنفسهم ليُبعثوا من جديد بعد موتهم. وعلي ذلك فإنّ نفخة الفزع ونفخة الصعق عائدتان إلی أهل البرزخ لاإلي أهل الدنيا، وليس هناك إلاّ نفخة واحدة لا غير. أمّا النفخة الاُخري فتتعلّق بإحياء الاموات وبعثهم. وعلي كلّ تقدير فإنّ النفخة التي يموت الناس علی إثرها ثمّ يُبعثون نفختان لا أكثر، نفخة الإماتة ونفخة الإحياء؛ النفخ في الصور للإماتة ونفخه للإحياء من جديد. معني الصور والنفخ فيهوينبغي أن نري الآن ما هو الصور؟ الصور بمعني القرن، أي قرن البقر أو الماعز أو الحيوانات الاُخري، المفتوح من أحد طرفيه والمغلق من الطرف الآخر، والصور جمع ] لا مفرد له [، ويكثر أن يُثقب فيُنفخ فيه من ذلك الثقب فيخرج الصوت من طرفه المفتوح مرتفعاً منتشراً، ويُقال له في الفارسيّة «بوق». [30] وبهذا الصور ينبئون بالموت، وبالاستعداد والتهيّؤ والحياة. وقد ورد ذكر نفخة الصور في عشر مواضع من القرآن الكريم، كما استعمل لفظ الصيحة في ثلاثة عشر موضعاً منه. أمّا ذلك الصور الذي تحصل الإماتة بواسطته فقد ورد في هاتين الآيتين فقط: آية الفزع وآية الصعق في سورتي النمل والزمر، أمّا المواضع الاُخري فقد ورد فيها ذكر النفخ في الصور للإحياء والبعث. وقد احتمل المرحوم الشيخ الطبرسيّ، ومن قبله الشيخ المفيد رضوان الله عليهما، أنّ الصور في هذه الآيات جمع الصورة، وأنّ نُفِخَ فِي الصُّورِ أي بواسطة النفخ في الصُّوَرِ فتحيا تلك الصُّوَر. وكما يصوّر الجنين في رحم الاُمّ ثمّ ينفخ فيه بعد تصويره فتحيا تلك الصورة وتتحرّك، فإنّ الله عزّ وجلّ يصوّر الموتي في قبورهم وينفخ في صورهم فيُحييهم؛ ومن ثمّ فإنّ صور جمع صورة. كما يمكن القول إنّ الصور الموجودة في عالم البرزخ تتعلّق بالافراد الذين رحلوا عن الدنيا، فهم يمتلكون صوراً برزخيّة يُنفخ فيها فيُبعثون؛ وفي ضوء ذلك فلا احتمال هناك لكون الصور بمعني البوق، كما أنـّه ليس إعلاناً للموت والحياة. بَيدَ أنّ هذا الاحتمال مُجانب للصواب، فهو أوّلاً مخالف لظواهر الآيات القرآنيّة، بل لصريح الآيات، إذ ليس هناك من صُوَر في النفخة الاُلي لينفخ فيها، ولانّ هذا الاحتمال ـ ثانياً ـ يتنافي مع المجيء بالضمير مفرداً في قوله تعالي نُفِخَ فِيهِ أُخْرَي'، لانـّه يجب أن يُقال عند صحّة هذا الاحتمال ثُمَّ نُفِخَ فِيهَا أُخْرَي أي النفخ في تلك الصُوَر. وثالثاً فإنّ هذا الاحتمال يوجـب أن نترك ـ بلا داعٍ ولا مبـرّرـ النصوصَ الصريحة الصحيحة الواردة عن الائمّة المعصومين عليهم السلام التي فسّرت الصور بالبوق. ونحن نعلم أنّ سيّد الساجدين صلوات الله عليه قال في دعائه الثالث من أدعية الصحيفة السجّاديّة الكاملة: وَإِسْرَافِيلُ صَاحِبُ الصُّورِ الشَّاخِصُ الَّذِي يَنْتَظِرُ مِنْكَ الإذْنَ وَحُلُولَ الاْمْرِ، فَيُنَبِّهُ بِالنَّفْخَةِ صَرْعَي رَهَائِنِ الْقُبُورِ. [31] وعليه فإنّ الصور في هذه الآيات بمعني البوق، وهو تلك الآلة التي تستعمل لبثّ الصوت وتكبيره، والمستخدمة في الطرق والجبال والصحاري وفي مواقع القتال والحرب التي تكثر فيها الجلبة والضوضاء فلايصل الصوت إلی جميع النقاط إلاّ بها. موجودات عالم البرزخ والقيامة لا تشبه موجودات عالم المادّةإلاّ أنّ هناك مطلباً ينبغي التنبيهإليه، وهو: لماذا عُرفت هذه الآلة بالصُور؟ وهل الصور الذي في يد إسرافيل ينفخ فيه، هو هذا البوق المعروف الذي له طرف صغير وآخر كبير؟ وهل هو مكوّن من جسم مادّيّ يمسكه ذلك المَلَك المقرّب في يده، كما يفعل جنود الحكّام والملوك، وينفخ فيه بالحنجرة والنَّفَس الخارج من الرئة، فيخرج من إسرافيل هواء كَنَفس الإنسان ونفخه المسبّب للصوت، فيؤدّي إلی خروج الصوت من الصور، ذلك الصوت الذي يملا فضاء عالم الدنيا والبرزخ، وتلك الموجات التي تهلك مَن تصيبه مِن موجودات عالم البرزخ، ثمّ يُبعثون في الوهلة الاُخري؟ أم أنّ الامر ليس علی هذا النحو، وأنـّه أمر آخر؟ ومن أجل بيان الامر وإيضاحه لابدّ لنا من ذكر مقدّمة، وهي أنّ جميع الموجودات في عالم البرزخ أو في عالم القيامة لا تشابه بأيّ وجه من الوجوه موجودات هذا العالم الذي هو محلّ الطبع والمادّة، كما لاتشابه اعتبارات وتوهّمات وحُجب هذا العالم. فالشخص الذي يرحل عن هذا العالم يترك جميع الاُمور الاعتباريّة والافكار والخيالات التي تدور حول المصالح الشخصيّة وراء ظهره ويخلّفها في زوايا النسيان، فيرد عالماً جديداً لا يشبه هذا العالم بأيّ وجه من الوجوه. كما أنّ الموجودات البرزخيّة حين تريد ورود عالم القيامة فإنّها تتخلّي عن خصوصيّات عالم البرزخ وتتعرّي عنها وعن لوازمها، فترد عالم القيامة دونها. بَيدَ أنـّه قد ذُكر لنا ذلك باعتبار عدم وجود أيّ معرفة وأُنس لنا بتلك العوالم، فالآيات القرآنيّة الكريمة والروايات الواردة عن المعصومين سلام الله عليهم أجمعين حين قرّبت تلك المعاني لافهامنا وإدراكنا كان لابدّ لها الدخول من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، وخلع لباس المحسوسات علی تلك المعاني الرفيعة والدقائق السنيّة، وصبّها وقولبتها في قالب تلك المحسوسات. فالإنسان ـ مثلاً ـ يري في عالم الرؤيا والمنام أنـّه يُرزق رزقاً معنويّاً وباعتبار أنّ الحليب هو ذلك الرزق الطاهر السائغ والمفيد له في عالم اليقظة، يفيد منه جميع الناس، المرأة والرجل، الشيخ والشابّ، الصغير والكبير، والسليم والسقيم، فإنـّه سيري ذلك الرزق المعنويّ الروحانيّ في عالم الرؤيا في هيئة الحليب، فيُصوّر له أنـّه يشرب منه. وحين يذهب إلی مفسّر الاحلام فيقصّ عليه رؤياه ويسأله تفسيره، فإنّ المفسّر سيقول له: إنّك ستُرزق رزقاً معنويّاً وروحانيّاً، وهذا من باب أُنس ذهن المفسّر بارتباط الغذاء المعنويّ والروحانيّ بالغذاء المادّيّ اللطيف، وبإدراك حالات من يُشاهد الرؤيا وكيفيّة تداعي المعاني في نفسه. وذلك لانّ ذهن من يشاهد الرؤيا محروم عن إدراك الحقائق المجرّدة بسبب أُنسه وأُلفته بعالم المادّة، فهو يتصوّر كلّ غذاء لطيف مفيد لاضرر فيه في قالب الحليب ومفهومه، لذا فإنّه سيمثّل في عالم النوم ذلك الغذاء المعنويّ ويجسّده في هيئة الحليب، وإلاّ فليس هناك في عالم البرزخ حليب مادّيّ. وقد يشاهد الإنسان في الرؤيا أنـّه يسبح في بحرٍ ما، وحين يرجع إلی المفسّر فسيقول له: إنّك ستخوض غمار علوم طاهرة فتستفيد منها، لانّ العلم الخالي من الغشّ والجهل يتمثّل في الدنيا في هيئة ماء زلال لاكدر فيه ولاطين، وهذا من باب تنزّل المعقول إلی المحسوس. ولدينا الكثير من هذا القبيل في آيات القرآن الكريم، مثل: الرَّحْمَـ'نُ علی الْعَرْشِ اسْتَوَي'. [32] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ. [33] أفهل للّه تعالي جسم وبدن محسوس ليحتاج إلی الجلوس علی عرش وكرسيّ؟ وليكون له عرش مُلكٍ وسُلطان يجلس عليه فيأمر وينهي؟ ليس الله تعالي جسماً، وليس له حدّ ولا نهاية، ولا يحيطه مكان ولازمان، بل هو بسيط مجرّد، وهو محض الوجود والوجود المحض بلاكمّيّة ولا كيفيّة بأيّ عنوان كانت؛ وجميع السماوات والارضين في حضوره وفي قبضته وتحت قدرته: وَالسَّمَـ'وَ ' تُ مَطْوِيَّـ'تٌ بِيَمِينِهِ. [34] أمّا لو شاء مَلِكٌ ما في عالم الطبع ومحلّ الاُمور الاعتباريّة هذا، أن يأمر وينهي، وأن يصدر حُكماً أو قراراً، فإنّه يذهب إلی حيث مظهر قدرته، فيجلس علی عرشه، ذلك العرش المزيّن بالجواهر التي تمثّل تعيّنه واعتباره، ثمّ يصدر أمره وحكمه من فوق ذلك العرش بينما يصطفّ أمامه جميع أعضاء الدولة وضبّاطها وقادتها مستعدّين متأهّبين لتنفيذ أمره، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، فالاحكام الصادرة من حضرة ذيالجلال وأمره ونهيه قد بُيّنت هي الاُخري بهذه المضامين وبهذه الالفاظ الممثّلة لهذه المعاني. أمّا عرش الله وكرسيّه فليسا جسماً، ولا جهة لهما، وليس الله جسماً ليستقرّ علی ذلك الموضع، بل كرسيّه سبحانه محيط بجميع السماوات والارض، وعرشه محيط بعالم الوجود وأرجائه، وبجميع عالم الإمكان وبجميع المخلوقات، بل وبأسمائه وصفاته؛ أي أنـّه مسيطر ومهيمن عليها جميعاً بإرادته واختياره ومشيئته المطلقة، ومهيمن وحاكم علی أرجاء عالم الخلقة، وهو الملك والحاكم الاوحد لعالم الوجود. ثمّ إنّ جميع موجودات عالم الطبع تحت كرسي الله، أي الملكوت الاسفل، وهي جميعاً تحت عرش الله، وهو الملكوت الاعلي. وعلي ذلك فإنّ عرش الله يعني مشيئة الله وقدرته؛ وكرسيّه يعني جميع الموجودات الواقعة تحت تلك القدرة والمشيئة القاهرة وقد ظهرت وتلبّست بلباس الوجود. وَجَآءَ رَبـُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. [35] فلو تصوّر امرؤ من هذه الآية المباركة أنّ مجيء الله تعالي كمجيء الحكّام والسلاطين الذين يأتون يوم ظهور قدرتهم بأُبّهة وعظمة بينما يقف الضبّاط والجنود مصطفّين سماطين في تلك الهيئة الخاصّة، لكان تصوّره هذا خاطئاً ومجانفاً للحقيقة. بل لانّ عظمة الملوك وجلالهم في عالم الاعتبار يتجلّيان في المجيء بهذه الكيفيّة، وفي إظهار الجلال والقدرة علی هذا النحو، فقد شُبّهت لنا قدرةُ وعظمة الله جلّ شأنه وعلا قدره في يوم القيامة بهذه الصورة من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، وإلاّ فإنّ ورود الملائكة ليس وروداً ماديّاً، كماأنـّهم ليسوا في جهة مادّيّة ومكان مادّيّ، فالملائكة هم الموجودات المقرّبة التي طبّقت جميع العوالم. [36] وكونهم صفّاً صفّاً يعني القدرة تلو القدرة، والعلم تلو العلم، والحياة تلو الحياة؛ كما أنّ مجيء الملائكة ليس بأقدام مادّيّة، بل هو اقتراب وظهور تدريجيّ، ومجيء الله تعالي ليس مجيء جسم أو هيكل معيّن، وليس له تعالي قدم، بل مجيئه تعالي ظهور تجلّيات جماله وجلاله الذي عُبّر عنه في العربيّة بالمجيء باعتبار حصوله تدريجيّاً في القيامة، وباعتبار تحقّق لقاء الحضرة الاحديّة. والخلاصة فقد ورد الكثير من هذا النوع من التعبيرات في كتاب الله وبيانات رسول الله والائمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين. وبناء علی أنّ الالفاظ وُضعت للمعاني العامّة الكلّيّة، كما هو الحقّ المحقّق في محلّه، فلا مجال للشكّ والارتياب في هذا الامر، ولا حاجة لنا لتشبيهات واستعارات وكنايات لإيصال المعاني وتفهيمها، بل إنّ الالفاظ متكفّلة بنفسها بإيفاء هذه المعاني. في أنّ الانبياء قد خاطبوا الناس علی قدر عقولهموما يحلّ هذا الإشكال ويكشف الستار عن هذا اللغز، رواية وردت عن الرسول الاكرم صلّي الله عليه وآله في أنّ الانبياء يكلّمون الناس دوماً علی قدر عقولهم وإدراكهم. يروي الكلينيّ في «أُصول الكافي» عن جماعة من الاصحاب؛ وفي «روضة الكافي» عن محمّد بن يحيي، وكلاالسندين عن أحمدبنمحمّد ابنعيسي، عن الحسن بن علی بن فضّال، عن بعض أصحاب الإمام الصادق عليه السلام. قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَا كَلَّمَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ الْعِبَادَ بِكُنْهِ عَقْلِهِ قَطُّ. وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: إِنَّا مَعَاشِرَ الاْنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ علی قَدْرِ عُقُولِهِمْ. [37] إنّ إسرافيل من ملائكة الله المقرّبين، وهو الملك المأمور بالإحياء، فوجوده يطبّق جميع عوالم الإمكان المحتاجة إلی الحياة، وصُوره قدرته، وصُوره أجنحته الملكوتيّة والمعنويّة، وصورُه إمكاناته التي مَنَّ عليه بها الربّ جلّ وعلا، والوسائل الخاصّة التي جهّزه بها ووهبه إمكان الإحياء. فصُور إسرافيل ـ إذَن ـ هو الثروة العلميّة والقدرة التي في يده، واختياره خاضع لاختيار الله تعالي. ينفخ إسرافيل في صوره الخاصّ فتهلك جميع الموجودات، ثمّ ينفخ فيه كرّة أُخري فيُحيي جميع الموتي والهالكين. وليس بوقه وصوره جسماً ولاهيئة له، وليس شرقيّاً ولا غربيّاً، بل إنّه قد طبق جميع السماوات والارض وما بينهما. وأصحاب مثل هذه القدرة التي أفاضها الله عليهم يحيطون بجميع العوالم العلويّة والسفليّة ويسيطرون ويهيمنون عليها ويعملون كلّ لحظة بوظيفتهم بأمر الله تعالي. وقد روي في «تفسير علی بن إبراهيم» ذيل آية وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَمَن فِي الاْرْضِ، عن ثوير بن أبي فاختة، عن الإمام السجّاد عليه السلام يقول فيها: وَلِلصُّورِ رَأْسٌ وَاحِدٌ وَطَرَفَانِ؛ وَبَيْنَ طَرَفِ كُلِّ رَأْسٍ مِنْهُمَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاْرْضِ. [38] التعبير عن النفخ في الصور بنداء المناديكما عبّر عن الصور بألفاظ أُخري في بعض آيات القرآن؛ إذ يعبّر عنه في موضع بتعبير: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَ ' لِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ. [39] فهم يخرجون من القبور في ذلك اليوم، ويتّجهون من عالم البرزخ إلی القيامة وذلك هو يوم الحشر. وللفظ «نداء» معني أصيل، ولاستماعه حقيقة وواقعيّة، كما أنّ الحيّ هو الذي يمكنه الاستماع والاستفادة من ذلك السماع، فالميّت لايمكنه الاستماع إلی شيءٍ ما أو سماعه. ونعلم ـ من جهة ـ أنّ هذا النداء يوجّه إلی الموتي فيحيون بواسطته، فنستنتج أنّ النداء نفس كلمة الإحياء، وأنّ إسرافيل ينادي بواسطة اسم المحيي، وأنّ الحياة هي عين الاستماع. فذلك الصور الذي يُنفخ فيموت الناس يمثّل كلمة المُميت، فيكون ذلك علی يد عزرائيل، وذلك الصور الذي يُنفخ فيحيا الناس ويُبعثون هو كلمة المحيي، ويكون علی يد إسرافيل. هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذا قَضي'´ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ و كُن فَيَكُونُ. [40] إرادة الله لإحياء الموجودات هي إحياؤهم وبعثهم، وإرادة الله علی إماتة الموجودات هي إماتتهم. العلّة في عدم التعبير عن النفخ في الصور بالموتإلاّ أنّ هنا نكتة ينبغي عدم نسيانها هنا، وهي: لماذا لم يُعبّر عن الموت في آية الصعق المباركة بلفظ الموت، بل عُبّر عنه بلفظ الصعق: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَمَن فِي الاْرْضِ. [41] فَلِمَ لَمْ يقل يا تري: فَمَاتَ، أو فَيَمُوتُ مَن فِي السماواتِ وَمَنْ فِي الاْرْضِ؟ ذلك لانّ الموت خروج الروح من البدن، بينما الموجودات التي في عالم البرزخ لا بدن لها، كي تخرج الروح منه وتغادره؛ لذا لم يعبّر عن ذلك بـ «الموت». أمّا الفناء والهلاك فلا اختصاص له بخروج الروح من البدن، بل يشمل هذا المورد والموارد الاُخري التي تمثّل الموجودات الحيّة التي لابدن لها. وعلي هذاالاساس فإنّ الله سبحانه يقول عن أصحاب الجنّة: لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَي'. [42] وهذا الموت هو الذي ذاقوه في الدنيا، مع أنّ أهل الجنّة يتوجّهون ـ بدورهمـ من البرزخ إلی القيامة، إلاّ أنـّه لا يحصل هنا خلع ولبس للصورة، بل يحصل خلع فقط، بَيدَ أنّ هذا الخلع لم يُعبّر عنه بالموت، وإلاّ توجّب أن يكون لاهل الجنّة موتان. وعلّة ذلك أنّ نفوسهم في عالم البرزخ لم تكن مبتلاة بالصورة والهيئة، ولا مقيّدة ومحبوسة فيها ليحتاج الخلاص منها والتحرّر منها إلی مشقّة وقلق وفزع وتحمّل للآلام ولمستلزمات هذا الخلع، فنفوسهم تخرج من الصورة والهيئة تلقائيّاً وتذهب إلی القيامة: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ. [43] أمّا غير أصحاب الجنّة فلهم موتان وحياتان، الاوّل: الموت من الدنيا وعالم الطبع والمادّة، وخلع البدن وارتداء الصورة والورود في عالم البرزخ. والثاني: الموت من عالم البرزخ والصورة، وخلع الصورة وارتداء المعني المجرّد النفسيّ والورود في عالم القيامة. الاوّل هو الموت الدنيويّ والحياة البرزخيّة، والثاني الموت البرزخيّ وحياة القيامة. ثمّ إنّ أهل جهنّم يضجّون ويصطرخون في خضمّها بهذا النداء: قَالُوا رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَي' خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ. [44] وهذان الموتان هما الموت الدنيويّ والبرزخيّ، وهاتان الحياتان هماالحياة البرزخيّة وحياة القيامة. بَيدَ أنـّهُ حين يُنفخ في الصور فيُصار إلی إهلاك جميع الاحياء، فإنّ الاحياء فوق الارض ممّن يمتلكون بدناً ومادّة لا يموتون وحدهم فحسب ـ حيث لا إشكال في التعبير بشأنهم بالموتـ بل إنّ جميع الموجودات الحيّة في عالم البرزخ والملائكة المقرّبين والارواح الطيّبة وسكّان الملا الاعلي من نفوس الصدّيقين والقدّيسين والمقدّسين والمخلصين والنفوس الشريفة لعباد الله الصالحين، ممّن لا يمتلكون بدناً أصلاً، وممّن كانت خلقتهم الاُولي مجرّدة عن المادّة، أو ممّن كانت لهم أبدان فخلعوها سيكونون المخاطبين بالفناء والهلاك. لذا لم يعبّر عن ذلك بـ «الموت» وجاء التعبير عنه بـ «الصعق» الذي لايختصّ بذوي الابدان. روي في «تفسير علی بن إبراهيم» ذيل آية الصعق، بسنده عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن النعمان الاحوال، عن سلامبن المستنير، عن ثوير بن أبي فاختة، عن الإمام السجّاد زين العابدين عليّبن الحسين عليهما السلام، قال: سُئِلَ ] عَلَيهِ السَّلاَمُ [ عَنِ النَّفْخَتَيْنِ كَمْ بَينهما؟ قَالَ: مَا شَاءَاللَهُ. فقيل له: فأخبرني يابْنَ رسولِ اللهِ كَيْفَ يُنفَخُ فيه؟ فقال: أَمَّا النفخة الاُولي فإنَّ اللهَ يَأمرُ إسرافيلَ فيهبطُ إلی الارضِ ومعه الصُّورُ، وللصُّورِ رأسٌ وَاحدٌ وطَرَفَانِ وبَينَ طَرفِ كُلِّ رَأْسٍ منهما مَا بَينَ السماءِ والاَضِ. قال: فَإذَا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبطَ إلی الدُّنيا ومعهُ الصُّورُ، قالوا: قَدْ أَذِنَ اللَهُ فِي مَوْتِ أَهْلِ الاَرْضِ. قَالَ: فينفخُ فيه نفخةً فيخرج الصَّوْتُ من الطرفِ الَّذي يلي أهلَ الارضِ، فلا يبقي فيالارض ذُو روحٍ إلاّ صعقَ وماتَ. ويخرجُ الصَّوتُ مِن الطرف الذي يلي أهلَ السماواتِ، فلا يبقي في السماواتِ ذُو روحٍ إلاّ صعقَ وماتَ إِلاّ إسرافيل، فيمكثونَ في ذلك ماشاءاللهُ. قال: فيقولُ اللهُ لإسرافيلَ: يا إسرافيلُ مُتْ! فيموتُ إسرافيلُ فيمكثونَ في ذلك ماشاءاللهُ، ثمّ يأمُر اللهُ السماواتِ فتمور، ويأمر الجبالَ فتسير، وهو قوله: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا. [45] يعني: تُبسط. و ] الآية [: يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ. [46] يعني: بأرضٍ لم تُكْسَب عليها الذنوب بارزةً ليس عليها جبالٌ ولانباتٌ كما دَحَاها أَوَّلَ مرّةٍ، ويُعيد عَرْشَهُ علی الماءِ كما كانَ أَوَّلَ مَرّةٍ مُستقلاّ بعظمتهِ وقُدرته. قال: فعند ذلك ينادي الجبّارُ جلَّ جلالُه بصوتٍ من قبله جهوريّ يُسمع أقطار السماواتِ والارضين: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟[47] فلا يُجيبه مُجيبٌ فعند ذلك يقول الجبّار مجيباً لنفسه: لِلَّهِ الْوَ ' حِدِ الْقَهَّارِ، وأنا قهرتُ الخلايقَ كلَّهم فَأَمَتُّهُمْ. إِنِّي أَنَا اللَهُ لاَ إلَهَ إِلاَّ أَنَا وَحْدِي لاَ شَرِيكَ لِي وَلاَ وَزِيرَ لِي، وَأَنَا خَلَقْتُ الْخَلْقَ بِيَدِي وَأَنَا أُمِيتُهُمْ بِمَشِيَّتِي، وَأَنَا أُحْيِيهُمْ بِقُدْرَتِي. قال: فينفخُ الجبّارُ نفخةً في الصُّورِ فيخرجُ الصَّوتُ من أحدِ الطرفينِ الَّذِي يلي السماواتِ فلا يَبْقي في السماوات أحدٌ إِلاّ حيي وقامَ كما كان، ويعود حملةُ العرشِ، وتحضر الجنّةُ والنَّارُ، وتُحشر الخلائقُ للحسابِ. قال ] الرواي ثوير بن فاختة [: فرأيتُ علی بْنَ الحسين عليهما السلام يَبْكي عند ذلك بُكَاءً شَدِيداً. [48] قبض روح جميع الملائكة وبقاء ذات الله عزّ وجل وحدهاوروي في «الكافي» عن محمّد بن يحيي، عن أحمد بن محمّدبن عيسي، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن أبي المعزا، قال: حدّثني يعقوب الاحمر، قال: دخلنا علی أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام نُعزّيه بإسماعيل، فترحّم عليه، ثمّ قال: إِنَّ اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ نَعَي إلی نَبِيِّه صَلَّي اللَهُ عَلَيهِ وَآلِهِ نَفْسَهُ فقال: إِنـَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ. [49] وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِِقَةُ الْمَوْتِ. [50] ثُمّ أنشأ يحدّث فقال: إِنَّهُ يموتُ أهلُ الارضِ حَتَّي لاَ يَبقي أحدٌ، ثُمَّ يموتُ أهلُ السَّماءِ حَتَّي لا يَبْقَي أَحدٌ إِلاَّ مَلَكُ الْمَوْتِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَجَبْرَئِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيهِمُ السَّلاَمُ. قال: فيجيء مَلَكُ الموتِ عليه السلام حتّي يقوم بين يدي الله عزّ وجل فيُقال له: مَنْ بقي ـ وهو أعلم ـ؟ فيقول:: يَا ربِّ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَلَكُ الموتِ وحملةُ العرشِ وجبرئيلُ وميكائيلُ عَلَيهِمُ السَّلاَمُ. فيقال له: قُلْ لجبرئيلَ وميكائيلَ فَلْيَمُوتَا! فتقول الملائكةُ عند ذلك: يَارَبِّ رَسُولَيْكَ وَأَمِينَيْكَ. فيقول: إِنِّي قَدْ قَضَيْتُ علی كُلِّ نَفْسٍ فِيهَا الرُّوحُ الْمَوْتَ. ثُمّ يَجيءُ مَلَكُ الموتِ حَتّي يقفَ بَينَ يدي اللهِ عزّوجلَّ فيُقال له: مَنْ بقي؟ ـ وهو أعلم ـ فيقولُ: يَا رَبِّ، لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَلَكُ الْمَوتِ وحملةُ العرشِ. فيقول: قُل لِحملةِ العَرْشِ فَلْيَمُوتُوا! قال: ثُمَّ يجيء كَئيباً حَزيناً لاَ يرفع طَرْفَهُ، فيقال: مَنْ بَقي؟ فيقول: لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَلَكُ الْمَوْتِ. فيُقال له: مُتْ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ! فَيمُوتُ. ثُمَّ يَأخذُ الاْرْضَ بيمينه والسَّماوات بيمينِهِ ويَقولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يَدْعُونَ مَعِي شَرِيكاً؟ أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعِي إلَهاً آخَرَ. [51] يقولُ أمير المؤمنين عليه السلام: وَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ، وَتَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَةٍ، وَتُدَكُّ الشُّمُّ الشَّوَامِخُ، وَالصُّمُّ الرَّوَاسِخُ؛ فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَقاً، وَمَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً؛ فَلاَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ، وَلاَ حَمِيمٌ يَدْفَعُ، وَلاَ مَعْذِرَةٌ تَنْفَعُ. نبّهنا الله جميعاً ببركات أمير المؤمنين عليه السلام لنعي في هذه الايّام المعدودة من الدنيا أيّ عواقب تنتظرنا! ولقد كان عليه السلام يحذّر الناس في خطبه وجلساته سرّاً وعلانية أن: أيّها الناس! إنّ هذا الدهر الطويل وساعاته، وهذا الطلوع والغروب المتواليان المتعاقبان ليسا لكم إلاّ لحظات عيش معدودة، إن اغتنمتموها فنِعم ما فعلتم، وإلاّ لحقكم الخُسران المقيم! ثم يكتب وصيّة في «الحاضِرَيْن» لولده الإمام الحسن عليه السلام حيث تتكشّف حقّاً عن عجائب الحِكم وغرائب النصائح والمواعظ، بحيث عزّ أن يصدر لها من أعاظم الدهر نظير أو شبيه في نكاتها العميقة والدقيقة، علی امتداد التأريخ وتصرّم الازمان والاعوام، ولم يسجّل لها نظير في صفحات الدهر. موعظة الإمام أمير المؤمنين بعد إصابتهيقول عليه السلام في موعظته بعد أن ضُرب: وَأَنَا بِالاْمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَأَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ، غَفَرَاللَهُ لِي وَلَكُمْ. إِنْ تَثْبُت الْوَطْأَةُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ ] فأشفي من جرحي هذا [ فَذَاكَ، وَإِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ ] فأرحل عن هذه الدنيا [ فَإِنَّمَا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ أَغْصَانٍ وَمَهَبِّ رِيَاحٍ، وَتَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ اضْمَحَلَّ فِي الْجَوِّ مُتَلَفَّقُهَا، وَعَفَا فِي الاْرْضِ مَخَطُّهَا. وَإِنَّمَا كُنْتُ جَاراً لَكُمْ جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً، وَسَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلاَءَ، سَاكِنَةً بَعْدَ حرَاكٍ، وَصَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ؛ لِيَعِظُكُمْ هُدُوِّي، وَخُفُوتُ إطْرَاقِي[52] وَسُكُونُ أَطْرَافِي، فَإِنـَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقَ الْبَلِيغِ، وَالْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ. [53] خطبة الإمام الحسن عليه السلام بعد شهادة أبيهولقد عاد أبناؤه إلی الكوفة بوجوهٍ محزونة بعد أن دفنوا جسده المطهّر في النجف الاشرف، والغبار يعلوهم، فجاء الإمام الحسن عليه السلام إلی مسجد الكوفة ورقي المنبر فخطب في الحشد الذي كان يموج في المسجد خطبة مفصّلة، فاختنق أوّل الخطبة بعبرته، [54] ثمّ مكث هنيئة فحمدالله وصلّي علی جدّه رسول الله وعلي أهل بيته المعصومين عليهم السلام وقال فيها: ... فِي هَذِهِ الليلَةِ قُتِلَ يُوشعُ بْنُ نُون ] وصيّ عيسي [، وفي هَذِهِ الليلةِ مَاتَ أَبِي أميرُ المؤمنينَ عَلَيهِ السَّلاَمُ... وَمَا تَرَكَ صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلاَّ سَبْعَمائَةِ دِرْهَمٍ فَضُلَتْ مِنْ عَطَائِهِ كَانَ يَجْمَعُهَا لِيَشْتَرِيَ بِهَا خَادِماً لِأهْلِهِ. [55] وأورده الحاكم في «المستدرك» بهذه الكيفيّة: خَطَبَ الْحَسَنُ بْنُ علی النَّاسَ حِينَ قُتِلَ علی، فَحَمِدَ اللَهَ وَأَثْنَي عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ قُبِضَ فِي هَذِهِ اللَيْلَةِ رَجُلٌ لاَ يَسْبِقُهُ الاْوَّلُونَ بِعَمَلٍِ، وَلاَيُدْرِكُهُ الآخِرُونَ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يُعْطِيه رَايَتَهُ فَيُقَاتِلُ وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ، فَمَا يَرْجعُ حَتَّي يَفْتَحُ اللَهُ عَلَيْهِ. وَمَا تَرَكَ لاِهْلِ الاْرْضِ صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلاَّ سَبْعَمائَةِ دِرْهَمٍ فَضُلَتْ مِنْ عَطَايَاهُ أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا خَادِماً لِأهْلِهِ. [56] ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا الْحَسَنُبْنُ علی؛ وَأَنَا ابْنُ النَّبِيِّ؛ وَأَنَا ابْنُ الْوَصِيِّ؛ وَأَنَا ابْنُ الْبَشِيرِ؛ وَأَنَا ابْنُ النَّذِيرِ؛ وَأَنَا ابْنُ الدَّاعِي إلی اللَهِ بِإِذْنِهِ؛ وَأَنَا ابْنُ السِّراجِ الْمُنِيرِ؛ وَأَنَا مِن أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ إِلَيْنَا وَيَصْعَدُ مِنْ عِنْدِنَا؛ وَأَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِي أَذْهَبَ اللَهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيراً؛ وَأَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِي افْتَرَضَ اللَهُ مَوَدَّتَهُمْ علی كُلِّ مُسْلِمٍ؛ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَي لِنَبِيِّهِ صَلَّياللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: «قُل لآ أَسْــَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي' وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَـنَةً نَزِد لَهُ فِيهَا حُسْنًا»؛ فَاقْتِرَافُ الْحَسَـنَةِ مَوَدَّتُنَا أَهْلُ الْبَيْتِ. [57] وأورد الهيتميّ في «مجمع الزوائد» عن الإمام المجتبي عليه السلام نظير هذا الاستشهاد بمقام الطهارة، [58] وروي كذلك في «غاية المرام» و«فرائد السمطين» و«ينابيع المودّة». [59] ثمّ إنّ الإمام الحسن عليه السلام توجّه لساعته إلی ابن ملجم، لانّ أُمّ كلثوم كانت قد أقسمت عليه بعد شهادة أبيها واستحلفته بالله خالق الخلق أن لا يترك الملعون حيّاً ساعة واحدة. فسأله الإمام الحسن عليه السلام عمّا حمله علی ما فعل، فقال: قد عهدت الله عهداً أن أقتل أباك، فقد وفيت، فإن رأيتَ أن تدعني أذهب إلی الشام لاقتل معاوية أيضاً ثمّ أعود إليك فتحكم فِيَّ بحكمك، إن شئتَ اقتصَصْتَ وإن شئتَ عفوتَ. فقال: لا حتّي أعجّلك إلی النار. فقدّمه وضرب عنقه ] ضربة واحدة بالسيف [ ثمّ تناول الناس جثّته فرموها في هوّة عميقة. هذا وقد قد أورد علماء المسلمين في كتبهم المفصّلة الروايات التي وردت في أنّ العذاب البرزخيّ لابن ملجم من أشدّ أنواع العذاب وأقساها. [2] ـ الآية 82، من السورة 27: النمل. [3] ـ «مجمع البيان» طبعة صيدا، ج 4، ص 234. [4] ـ الآيتان 83 و 84، من السورة 27: النمل. [5] ـ الآية 47، من السورة 18: الكهف. [6] ـ الاية 82، من السورة 27: النمل. [7] ـ «تفسير علی بن إبراهيم» ص 479 و 480. [8] ـ «مجمع البيان» ج 4، ص 234؛ و «تفسير البرهان» ج 2، ص 781. [9] ـ «تفسير البرهان» ج 2، ص 781 و 782. [10] ـ «تفسير البرهان» ج 2، ص 781 و 782. [11] ـ «نهج البلاغة» الخطبة 147، ج 1، ص 269، طبعة محمّد عبده ـ مصر. [12] ـ «نهج البلاغة» الكلمة 23، ج 2، ص 21. [13] ـ «نهج البلاغة» الخطبة 3، ج 1، ص 37 من طبعة محمّد عبده ـ مصر. [14] ـ «نهج البلاغة» الخطبة 222، ج 1، ص 453. [15] ـ في بعض نسخ «نهج البلاغة» عراق بضمّ العين، وهو العظم الذي أُكل اللحم الذي عليه. [16] ـ «نهج البلاغة» الحكمة 236، ج 2، ص 188. [17] ـ «الغارات» ج 1، ص 43. [18] ـ «نهج البلاغة» الخطبة 121، ج 1، ص 237. [19] ـ يقول: وهبنالحُسن طلعتك القلبَ والدين معاً ووضعناهما في يديْكَ. لن تَنقضي لوصلك لهفتنا، ولن يُقنع الماءُ المعين الشفاه الظماء إليك. كان سيُعطيك ياقوته منذ أوّل لمحة، خاتمُ سليمانَ، لو شاهدَ عينيك. وهيهات أن يجد سبيلاً لدائرة المتوَّجينَ، رأسٌ لم يُمرّغْ جبينَه علی قدمَيْك! [20] ـ «أمالي الصدوق» المجلس الاربعون، ص 190 و 191. [21] ـ «روضات الجنّات» الطبعة الحجريّة، ص 275؛ والحروفيّة ج 3، ص 299 و 300. وقال مؤلّف الروضات: وممّن صرّح بتشيّع الخليل: القاضي نور الله الشوشتريّ في «مجالس المؤمنين»، واستدّل علی ذلك بوجوه، منها ما أوردناه هنا إلی قوله الذي يقول فيه: احتياج الكلّ إليه وغناهُ عن الكلّ. [22] ـ «الكني و الالقاب» ج 1، ص 301، طبعة الصيدا [23] ـ الآيات 87 إلی 90، من السورة 27: النمل. [24] ـ قال في «مجمع البيان» ج 7، ص 370 من طبعة دار نشر «ناصر خسرو» طهران في تفسير الآية: أي ماتوالشدّة الخوف والفزع، يدلّ عليه قوله في موضع آخر: فصعق من في السمـا'وا ت. (م) [25] ـ «مجمع البيان» تفسير آية نفخ الصور في سورة النمل، ج 4، ص 239. [26] ـ الآية 29، من السورة 36: يس. [27] ـ بالرغم من أنّ هذه الآية تتحدّث عن هلاك أهل أنطاكية، إلاّ أنـّه يمكن استفادة العموم منها. [28] ـ الآيتان 49 و 50، من السورة 36: يس. [29] ـ «مجمع البيان» ج 4، ص 427. [30] ـ في «لسان العرب» مادّة ] بوق [: والبوق شبه مِنقاف ملتوي الخَرْق. ينفخ فيه الطحّان فيعلو صوته فيُعلم المراد به. (م) [31] ـ «بحار الانوار» ج 6، ص 326، الطبعة الحروفيّة مع التوضيحات التي ذكرناها لها سابقاً. [32] ـ الآية 5، من السورة 20: طه. [33] ـ الآية 255، من السورة 2: البقرة. [34] ـ الآية 67، من السورة 39: الزمر. [35] ـ الآية 22، من السورة 89: الفجر. [36] ـ المراد بعدم كون الملائكة مادّيّين، أنّ أصل خلقتهم ليس من الارض، وأنـّهم ليسوا كالإنسان المخلوق من الطين، ولا كالجنّ المخلوقين من النار والدخان والغاز، وليس المراد بذلك عدم تمتّعهم بآثار المادّة وخواصّها كالكّم والكيف، وإلاّ فلا ترديد هناك من ارتداء الملائكة لباس الصورة وتشكّلهم في أشكال مختلفة. [37] ـ «أُصول الكافي» ج 1، ص 23؛ و «روضة الكافي» ص 268. وأورده في «تحف العقول» ص 36، وفي «بحار الانوار» الطبعة الكمباني، المجلّد 17 (الروضة)، ص 41 والمجلّد 77، ص 140 من الطبعة الحروفيّة، عن «تحف العقول» بلفظ: قال رسول الله صلّيالله عليه وآله وسلّم: «إنّا معاشر الانبياء أُمرنا أن نكلّم الناس علی قدر عقولهم». وروي البرقيّ في «المحاسن» ص 165 بسنده عن سليمان بن جعفر بن إبراهيم الجعفريّ، قال: قال رسولالله صلّي الله عليه وآله: إنّا معاشر الانبياء نكلّم الناس علی قدر عقولهم. [38] ـ «تفسير القمّيّ» ص 580. [39] ـ الآيتان 41 و 42، من السورة 50: ق. [40] ـ الآية 68، من السورة 40: غافر. [41] ـ الآية 68، من السورة 39: الزمر. [42] ـ الآية 56، من السورة 44: الدخان. [43] ـ الآية 40، من السورة 40: غافر. [44] ـ الآية 11، من السورة 40: غافر. [45] ـ الآيتان 9 و 10، من السورة 52: الطور. [46] ـ الآية 48، من السورة 14: إبراهيم. [47] ـ الآية 16، من السورة 40: غافر. [48] ـ «تفسير القمّيّ» ص 580 و 581 الطبعة الحجريّة. [49] ـ الآية 30، عن السورة 39: الزمر. [50] ـ الآية 185، من السورة 3: آل عمران؛ والآية 35 من السورة 21: الانبياء؛ والآية 57، من السورة 29: العنكبوت. [51] ـ «الكافي» الطبعة الحروفيّة، ج 3، أبواب الجنائز ص 256 و 257؛ والطبعة الحجريّة، ج 1، ص 70 و 71. [52] ـ الاءطراق: إرخاء العينين والنظر بهما إلی الارض. [53] ـ «نهج البلاغة» الخطبة 147، ج 1، ص 268 و 269، طبعة محمّد عبده ـ مصر. [54] ـ «مقاتل الطالبيّين» ص 52. [55] ـ تلخيص الرواية الواردة في «أمالي الصدوق» ص 192. [56] ـ «طبقات ابن سعد» ج 3، ص 38؛ و «تاريخ الطبريّ» ج 5، ص 157، دار المعارفـ مصر. [57] ـ «مستدرك الحاكم» باب فضائل الحسن بن علی عليهما السلام، ج 3، ص 172؛ و«مقاتل الطالبيّين» ص 52. [58] ـ «مجمع الزوائد» باب فضائل أهل البيت، ج 9، ص 172. [59] ـ «غاية المرام» ص 295، الحديث 16؛ والحموينيّ في «فرائد السمطين» حسب نقل «غاية المرام» ص 291، الحديث 35؛ وورد في «ينابيع المودّة» الباب 90، ص 479 نقلاً عن الحافظ جمال الدين الزرنديّ في «نظم درر السمطين». كما ورد أيضاً في «أمالي الصدوق» ص 192؛ و «أُصول الكافي» ج 1، ص 457؛ وأورده الطوسيّ في «التهذيب» حسب نقل «بحار الانوار» ج 9، ص 649. |
|
|