|
|
الصفحة السابقةتمثيل الحجاب بين عالم الطبع وعالم القيامة بجدار طويل ممتدّهذا هو موجز الموضوع، ولعلّ هذه المسألة تستبين جيّداً بإيراد المثال الآتي: أنّ هذا الموضع الذي نجلس فيه الآن هو مسجد، فافرضوا أنّ هناك روضة خلف هذا المحلّ وهذا المسجد لها صفة الروضات البرزخيّة. وافرضوا أنّ هناك جنّة برزخيّة أو جهنّم برزخيّة، وأنّ هذا الجدار جدار طويل. أي: أنّ هذا الحائط الذي بيننا وبين هذه الروضة، أو هذا الموقد وجهنّم جدار ممتدّ إلي مسافة بعيدة. وأنـّه يُقال لكم بأنّ علیكم أن تتحرّكوا من هنا وتذهبوا إلي تلك الروضة. وهو سيرٌ ينبغي علی أفراد البشر قاطبة أن يسلكوه. فالجميع علیهم أن يدخلوا في عالم البرزخ. فإن زكّي الإنسان نفسه باتباعه التعاليم والاوامر الإلهيّة ووصل إلي مقام الطهارة، ونزّه سريرته بحيث أصبح بإمكانه أن يري وهو جالس هنا في المسجد موجودات عالم الملكوت وسينهض مباشرة نحو الجدار ويضربه بمعول أو فأس ضربات متتابعة حتّي يثقبه ثمّ يشرع في توسعة ذلك الثقب حتّي يتمكّن أخيراً من الدخول إلي تلك الروضة. فهو في هذه الدنيا، إلاّ أنـّه وصل إلي البرزخ، وطريقه في ذلك مجاهدة النفس واتّباع ما أمر الله به، والاحتراز عمّا أرادته النفس الامّارة. أمّا هذه الفؤوس والمعاول التي يضرب بها الجدار، فيسقط إثر كلّ ضربة قطعة من الحجر أو الطوب، أو الإسمنت، فهي في حكم تلك الاعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان في الدنيا، فيرتفع مع كلّ عمل صالح حجاب من الحُجب، حتّي يُزال أخيراً هذا الجدار، فيدخل الإنسان في الروضة. فالافراد الذين لا يفعلون هذا العمل هم الذين لا يقومون بأعمال صالحة بحيث يمكنهم أن يفتحوا ثغرة في الجدار ليدخلوا تلك الروضة. أو الذين يقومون بأعمال صالحة أحياناً، فيطرقونالجدار طرقات غيرمنتظمة، والزمان يمرّ بالطبع، لانّ هذا الجدار إنّما هو الزمان الذي يقع بيننا وبين تلك الروضة، وامتداد هذا الجدار إنّما هو امتداد الزمان. وعلیه فإنّ ذلك الزمان يزيحهم من أمام الجدار إلي جانب وطرف آخر، وكلّما مرّ الوقت والزمن، فإنّهم يتحرّكون معه بامتداد الجدار، يتقدّمون إلي الامام. وبدلاً من أن يثقبوا الجدار، فإنّهم يتقدّمون إلي الامام ويطوون امتداد طول الجدار. فأمّا أن يوفّقوا في النهاية إلي فتح ثغرة فيه خلال سنة أو سنتين أو عشر سنوات، فيدخلون إذ ذاك في عالم البرزخ أو أنـّهم سيعجزون عن ذلك فيأخذهم طيّ الزمان اضطراراً إلي امتداد الجدار، حتّي ينتهي جدار زمنهم، أي: حتّي يحين موتهم، فيصلون إلي نقطة التوقّف التي علیهم أن يردوا منها إلي عالم البرزخ. وقد رأيتم أنّ بعض المصانع تعمد إلي نصب سكّة حديديّة علی الارض، تتحرّك علیها باستمرار عجلات وأحزمة ناقلة. فإن شاءوا نقل كرسيّ أو صندوق أو شيء آخر إلي نهاية المصنع، فإنّهم يضعونه علی هذه السكّة الحديديّة، فتوجب حركة الحزام الناقل والعجلات المتّصلة من سقف المصنع بهذه السكّة، حركةَ هذا الشيء حتّي يصل إلي آخر المصنع. فتصوّروا أنـّكم تقفون علی هذه السكّة الحديديّة الممتدّة بمحاذاة جدار الزمن، وأنّ حزام عالم الغيب هذا يحرّك عجلات الزمن ويُديرها، فيحرّك الكرسيّ الذي تجلسون علیه وينقله إلي الامام باستمرار. ولو فرضنا أنّ الوقت الآن وقت الظهر، فإنّ كرسيّنا سيقابل نقطة معيّنة من هذا الجدار، ثمّ تمرّ ساعة فيتحرّك الكرسيّ إلي الامام ويقابل نقطة أُخري من الجدار. وهكذا فإنّه يتحرّك إلي الامام باستمرار دون إرادتكم واختياركم. وهذه العجلات في حركة دائبة مستمرّة، تأخذ الإنسان إلي الامام ـشاء أم أبيـ حتّي يحين موته وينتهي الجدار ويصل إلي نهاية المصنع. هذا الجدار هو السدّ بيننا ـنحن وإيّاكمـ وبين عالم البرزخ. إنّ الافراد الذين يفتحون ثغرة في الجدار فإنّهم ينفذون من الجدار إلي عمق الروضة ويردون عالم البرزخ. أمّا الذين لم يفتحوا ثغرة في الجدار، وظلّوا جالسين علی كراسيهم دونما حراك، فإنّ السكّة الحديديّة ستدفعهم إلي الامام باستمرار، فهم ينتظرون ـعلی الدوامـ البرزخ الذي سيأتيهم بعد انقضاء هذا العالم، ولا يعلمون أنّ ذلك البرزخ يواجههم، وأنّ جداراً واحداً يفصلهم عنه، وأنّ علیهم التحرّك من أمام الجدار لامن امتداده وفي موازاته. بَيدَ أنـّهم ـلمّا لم يكونوا من أُولي الهمّة في تدمير هذا الجدارـ فإنّ عجلة الزمن ستجرفهم إلي الامام، حتّي يحين الموت وينهدم الجدار، فيردون البرزخ حينئذٍ. ونعلم في ضوء ذلك أنّ البرزخ موجود خلف جدار الزمان، والحور العين موجودات حاضرات خلف هذا الجدار، والاشجار والمياه والنسائم والارواح الطيّبة الطاهرة، وأنواع العذاب والنقم حاضرة جميعاً، لكنّ هناك جداراً وحجاباً وساتراً يمنع رؤيتها. إنّ الذين يسيرون في طريق الله ويعملون بأمره سيردون ذلك العالم، أمّا الذين لا يتحرّكون فإنّهم لن يردوهُ حتّي يحين موتهم، فيكونوا قد طووا الطريق إلي البرزخ حتّي وصلوا إلي زمن الموت. فهذا الزمن لم يوصلهم إلي نقطة الموت في حقيقة الامر، بل جعلهم يطّلعون علی أحوال البرزخ. كما أنّ البرزخ موجود الآن دون أن يمتلكوا اطّلاعاً علیه، لانّ جداراً فاصلاً يحول بينهم وبينه. هذا بالنسبة إلي البرزخ، أمّا بالنسبة إلي القيامة فإنّ الموضوع علی هذا النحو أيضاً. افرضوا أنّ هناك روضة أُخري أمام الذين وردوا البرزخ، تُدعي بالقيامة وتجلّيات النفس، إلاّ أنّ بين تلك الروضة وبين هذه الروضة البرزخيّة جداراً فاصلاً أيضاً. فإذا استطاع الذين وردوا عالم المثال ـمن خلال تزكية النفس الامّارة ومجاهدتها قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ'هَا ـ أن يطهّروا أنفسهم وسرائرهم من لوث ودنس عالم الصورة ولم يجعلوا غير الله فيها، وكانت أعمالهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم كلّها وفق أمر الله تعالي، فإنّ ذلك الحجاب القيامتيّ سيُزال عن أنظارهم. وسيكونون موجودين في الدنيا، يعيشون علی أرض الطبع وعالم الزمان، لكنّهم وردوا عالم النفس والقيامة من البرزخ، فصارت تلك الجنان الموعودة يوم القيامة حاضرةً بأجمعها أمامهم، مشهودة لديهم. أمّا الذين لا يفعلون ذلك، فقد ذهبوا إلي عالم البرزخ، لكنّهم عجزوا عن الذهاب إلي القيامة، لذا فإنّ علیهم أن يطووا المسافة التي بينهم وبين القيامة، ويجتازوا الجدار الحائل بينهم وبينها ليصلوا إلي الزمن الذي يحضرون فيه عند نفخ الصور في عالم القيامة. وفي ضوء ذلك فإنّ القيامة ليست في عَرْض البرزخ بل في طوله، لكنّ انكشاف عالم القيامة ومعرفة خصائص ذلك العالم وأحواله وخصوصيّاته وآثاره يتوقّفان علی نفخ الصور واضمحلال عالم البرزخ. ومن هنا فإنّ الافراد الموجودين في الدنيا يصلون إلي البرزخ، كما يصلون إلي القيامة، وسيُشاهدون أنّ عالم البرزخ محيط بعالم الطبع هذا، وأنّ عالم القيامة محيط بعالم البرزخ والدنيا كليهما. ويتّضح ـبعد بيان هذا المطلب الذي ذكرناه بوصفه مقدّمةـ الجواب الذي نجيب به إذا ما سُئلنا عن وقت قيام القيامة. الجواب أنّ القيامة حاضرة حاضرة، وهي أقرب إلي الإنسان من لمح البصر، ورضوان الله أقرب إلي الإنسان من لمح البصر، لانّ برزخ الإنسان في الإنسان نفسه، ولانّ قيامة الإنسان في الإنسان نفسه. إنّ نفس الإنسان محيطة بعالم مثال الإنسان وصورته، والمثال محيط بالبدن، ومن ثمّ فإنّ برزخ الإنسان وقيامته أقرب شيء إليه، وهما أقرب إليه حتّي من لمح البصر. غاية الامر أنّ علیه ـمن أجل الوصول إلي هذا المعني وإدراكهـ أن يطوي هذا الجدار، فهذا الجدار البرزخيّ يجب أن يُطوي، ويجب أن يُنفَخ في الصور. فهذه الاُمور هي لطول المسافة لا لبُعد الطريق. وينبغي علی من يعجز الآن عن شقّ هذا الجدار وفتح ثغرة فيه وبلوغ هدفه ومقصده، أن يطـوي طول هـذا الجدار. أمّاكم يسـتغرق طيّ هذا الجدار؟ هل يستغرق خمسين، أم ستّين، أم سبعين، أم مائة سنة؟ فالجواب هو أنـّه ينبغي له أن يعيش ليفهم ما هو البرزخ. ثمّ إنّه يذهب إلي البرزخ إلاّ أنـّه لا يمكنه الذهاب إلي القيامة فوراً، لانـّه أسير عالم المثال والصورة. وهكذا يجب علیه مسايرة ذلك الجدار الفاصل بين البرزخ والقيامة، فيسير ويسير حتّي يصل إلي نهاية الجدار. مع أنـّه لو تمكّن لفَتَح ثغرة في الجدار علی الفور ووصل إلي رضوان الله وإلي تلك النعم التي وعد الله عزّ وجلّ بها في القيامة. وما علیه إلاّ أن يفتح في الجدار، فيجد نفسه في القيامة. يسألون: أين تقوم القيامة؟ ومتي تقع؟ هي أقرب من لمح البصر. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَهَ علی' كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. [1] الله سبحانه موجود في كلّ مكان، وملكوت السماوات والارض وغيبهما موجودان في كلّ مكان. فغيبهما ـ إذَن ـ في يد الله ومع الله وللّه. كم يستغرق وصول الإنسان إلي القيامة؟ هي أسرع وأقرب من لمح البصر، لانّ وجود نفس الإنسان وحقيقتها، أقرب إلي الإنسان من لمح البصر. إِنَّ اللَهَ علی' كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ويمكنه إيصالكم إلي القيامة في لمح بصر أو أسرع منه. فمتي ـ إذَن ـ تقوم القيامة؟ لا يمكن القول: الآن. متي يقوم البرزخ؟ لا يمكن القول: الآن. إلاّ أنّ من الممكن القول إنّ كلاّ من القيامة والبرزخ قائم وموجود. متي يصل الإنسان إلي البرزخ فيدرك آثار ذلك العالم؟ والجواب أنـّه عندما يخطو خارج عالم الطبع، ويري سلسلة الاسباب والمسبّبات محكومة في يد الله تعالي. حجاب الصورة هو الفاصل بين البرزخ والقيامةمتي يخرج من عالم البرزخ فيدرك عالم القيامة؟ والجواب أنـّه حينما ينسف عالم الصورة ويتخطّاه، عندئذٍ يرد عالم القيامة، بسرعة أكثر فأكثر، أمّا الذين لا يمكنهم الإسراع فسيصلون متأخّرين. المؤمنون يصلون أسرع من الكفّار، والكفّار يصلون متأخّرين، وقد يحصل أن يطول برزخ البعض كثيراً في تخطّيهم للعقبات، حيث تواجههم مصاعب جمّة للوصول إلي القيامة، أمّا البعض الآخر فالامر ميسور لهم. وهو يسير جدّاً للائمّة الطاهرين علیهم السلام وأولياء الله، فقد طووا في الدنيا البرزخ والقيامة، وشاهدوا الحساب والكتاب والصراط والميزان والعدل والجنّة وجهنّم وعبروها جميعاً، فوصلوا إلي مقام الفناء في ذات الحضرة الاحديّة، ثمّ عادوا إلي عالم البقاء فجاءوا لنا بالخبر. يُسألون رسول الله صلّي الله علیه وآله: مَتَي هَذَا الْوَعْدُ؟ الآيات القرآنيّة الكريمة الدالّة علی اقتراب يوم القيامةوَيَقُولُونَ مَتَي' هُوَ قُلْ عَسَي'´ أَن يَكُونَ قَرِيبًا. [2] فما الذي يفهمه أُولئك السائلون ـ تري ـ من هذه المعاني؟ إنّ عالم النفس والروح والتجلّيات الانفسيّة، وإحاطة عالم النَفس بالبرزخ، وإحاطة البرزخ بهذا العالم هي مباحث مهمّة، بل في غاية الاهميّة. وهذه المطالب التي عُرضت في عدد من الابحاث الاخيرة التي مرّت هي عصارة مُستخلصة من جميع الآيات القرآنيّة والروايات والاخبار الواردة في أمر المعاد والمعارف الإلهيّة. وعندما يأتي ذلك الشخص الذي كان مُشركاً فآمن لتوّه، أو ذلك المشرك الذي لم يؤمن بعد، فيسأل رسول الله صلّي الله علیه وآله: متي تقوم القيامة التي تعد بوقوعها؟ فما الذي سيقوله الرسول الاكرم في جوابه؟ وبأيّ كيفيّة سيفهمه؟ وكيف يُلفت نظره ويقول له: ها أنت تحترق في النار الآن؟ إنّ النار تحيط بوجودك كلّه لكنّك لا تدرك شيئاً!إنّ قيامتك معك الآن لكنّك لا تفهم ولاتدرك! علیك أن تطوي هذه الدنيا ثمّ تذهب إلي البرزخ فتذوق أنواع العذاب البرزخيّ الشديد حتّي تصل إلي القيامة! ثمّ يُنفخ في الصور فيُحضر الخلائق في المحشر، الاوّلون منهم والآخرون. يجب طيّ يومٍ مقداره خمسون ألف سنة لتفهم كيف هي القيامة! لا يمكن للنبيّ أن يقول شيئاً غير هذا! وكم كان جوابه رائعاً صحيحاً مدروساً مطابقاً للواقع! وما أحسن قوله: إذ قال: قُلْ عَسَي' أَن يَكُونَ قَرِيبًا. فَأيّ كلامٍ أروع وأعلی من هذه الكلام؟ وَيَقُولُونَ مَتَي' هَـ'ذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـ'دِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَاللَهِ وَإِنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِي´ئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَـ'ذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ. [3] يقولون إن كنتَ صادقاً في هذا الوعد الذي تعده (فتقول إنّ هناك أصحاب الجنّة وأصحاب جهنّم، وإنّ الجنّة محلّ المؤمنين وجهنّم محلّ الكفّار) فعيِّنْ وقته وقل متي سيجيء؟ فقل لهم أيّها النبيّ: إنّما العلم عند الله، ولقد جئت لانذركم من العواقب الوخيمة للكفر والشرك والنفاق والعمل السيّي. إنّما أنا نذير مُبين لكم من هذا الخطر، فاذهبوا وأصلحوا أنفسكم! ما شأنكم بوقت القيامة؟ إنّ اطّلاعكم علی وقتها لن ينفعكم شيئاً، فأصلحوا أنفسكم لئلاّ يشملكم البلاء، فهذا هو المهمّ! لقد كنتم تسخرون بالقيامة عبر قولكم: متي هذا الوعد؟ وكيف تزول الارض؟ وكيف تنهار الكرات والكواكب السماويّة؟ وشاهدتم رأي العين أنـّه كان أقرب إليكم من لمح البصر، وأدركتم كَمْ كان قربياً منكم! وَلَوْ تَرَي'´ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ. [4] حيث عبّر القرآن الكريم هنا عن قُرب الدنيا إلي القيامة بالمكان القريب. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُو´ءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ و ´ أَمَدًا بَعِيدًا. [5] ولهذه الآية دلالة علی أنّ الاعمال التي يفعلها الإنسان من خير وشرّ، ستكون محضرة بنفسها يوم القيامة. أي: أنّ هذه الاعمال بعينها ستوجد في البرزخ، وفي القيامة؛ غاية الامر أنّ صورتها البرزخيّة والقيامتيّة لاتُري في هذه الدنيا؛ فالقيامة والبرزخ ـ إذَن ـ قريبان من الدنيا إلي الحدّ الذي يحضر معه نفس العمل الدنيويّ فيهما (في القيامة والبرزخ) بمجرّد فعله، ولمّا كان الإنسان خلف جداري البرزخ والقيامة فإنّه لا يري هذه الاعمال بصورتها القيامتيّة. فإذا عبر، شاهد الاعمال التي أرسلها من قبل حاضرة وموجودة ومحفوظة بأجمعها. وهكذا ستوجد في القيامة الصورة البرزخيّة للعمل وحقيقة العمل نفسه بمجرّد حصول العمل في عالم الطبع، وسيستقرّ كلٌّ منهما في موطنه وموضعه. والآية الكريمة: وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَي'´ أَجَلٍ مُسَّمًّي لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ؛ [6] آيةٌ عجيبة جدّاً في إفادة هذا المعني مثار البحث. لولا كلمةٌ سبقت من ربّك في أن يبقي الناس في الدنيا إلي أجل مسمّي، ويؤخّر موتهم إلي ذلك الزمان، لقُضي بين الناس فوراً، ولرأي جميع أفراد البشر أنفسهم في القيامة. وإذ ليس بيننا وبين القيامة فاصل وحاجز، والعلّة في الفاصل الذي وقع بيننا وبين القيامة كلمةُ الله وإرادته، فقد سبقت وحالت دون ذلك. فما هي تلك الكلمة؟ وَلَكُمْ فِي الاْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـ'عٌ إِلَي' حِينٍ. [7] لمّا جاء أفراد البشر من نسل آدم إلي الدنيا، فقد قدّر الله سبحانه لهم أن يستقرّوا في الارض ويتمتّعوا بثمراتها حتّي حين. إنّ حكم الله وتقديره هذا في سكني البشر فوق الارض هو الكلمة الإلهيّة التي أبقت الإنسان في الدنيا إلي زمان خاصّ ومعيّن، ولولا هذه الكلمة الخاصّة لقُضي بينهم فوراً، ولفُصل بينهم بأعمالهم. فكان الإنسان في جهنّم أو في الجنّة علی الفور. ولا فاصلة بينه وبين عالم الملكوت الاعلی، وبينه وبين الجنّة والنار. وذلك أن السَبْق يستعمل في اللغة عندما تكون هناك فاصلة بين شيئين، كأن يقول أحدكم مثلاً: سبقتُ رفيقي؛ أي: أنـّك سبقته وتركته وراءك في الطريق، وأنـّك سبقته إلي مكان معيّن. ونتيجة لهذا السبق فقد صارت بينك وبين رفيقك فاصلة، وإلاّ لما كان للسبق من معني. ولو كنت قد تحرّكتَ مع رفيقك في مسيرٍ ما بسرعة معيّنة، لكنتَ معه دون أن يفصل بينكما فاصل. إنّ سبق كلام الله هو الذي يحول دون القضاء والحكم بين الناس، وتلك هي «الكلمة الإلهيّة» التي قضت أن تبقوا في الارض إلي أمد وزمان معيّن: وَلَكُمْ فِي الاْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـ'عٌ إِلَي' حِينٍ. فلولا هذه الكلمة لما كانت هناك مُهلة، بل كان قد قُضي بين الناس وصدر حكم الله فيهم، ولرأي جميع أفراد البشر أنفسهم في الملكوت، سواء كان ملكوت الجنّة أم جهنّم. أهل المحشر يرون الدنيا والبرزخ قريبين من القيامةوقد وردت آيات قرآنيّة جاء فيها أنّ المجرمين حين يُحشرون يوم الجزاء فإنّ الله تعالي يسألهم: كم لبثتم في الارض عدد سنين؟ فيجيبون: لبثنا في عالم البرزخ ـالذي يُقال له عالم الارض أيضاًـ قليلاً. بينما كان عذاب الله شديداً علیهم في البرزخ، وكانت لهم مشاكلهم في الحشر أيضاً، كما أنـّهم عاشوا وعمروا طويلاً في الدنيا، ومجموع هذه الازمنة كثيرٌ لكنّهم يقولون: ما لبثنا إلاّ ساعة. فما هي هذه الساعة؟ إنّها تعني أنـّهم حين يردون عالم القيامة، ويلحظون إحاطة ذلك العالم بالبرزخ والدنيا، فإنّهم يرون أنّ تلك العوالم كأنـّها لشدّة ارتباطها واتّصال بعضها ببعض عالم واحد لا أكثر، وأنّ مكثهم ولبثهم في الدنيا والبرزخ لم يكن غير ساعة، وهناك يحسّون جيّداً بقُرب العوالم بعضها من بعض. يَسْـَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـ'هَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَي'هَآ * إِلَي' رَبِّكَ مُنتَهَي'هَآ * إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَي'هَا * كَأَنـَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُو´ا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَي'هَا.[8] وسيرون ذلك العالم متّصلاً ومرتبطاً بهذا العالم، وقريباً منه بحيث إنّهم: كَأَنـَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُو´ا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ. [9] قَـ'لَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لِبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعَآدِّينَ * قَـ'لَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنـَّكُمْ كُنتُم تَعْلَمُونَ.[10] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَ ' لِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ. [11] وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَـ'نَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَـ'بِ اللَهِ إِلَي' يَوْمِ الْبَعْثِ [12] فَهَـ'ذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـ'كِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. [13] لقد جئتم هنا فها أنتم ترون هذه السعة العجيبة والإحاطة المدهشة قياساً بالدنيا، وأنتم تخالون أنّ ذلك لم يدم إلاّ ساعة واحدة، بينما كان مكثكم طويلاً. ولقد تصرّمت الازمنة المتطاولة والقرون والاحقاب المتماديّة، لكنّ شدّة هذه السعة والإحاطة واتّحاد العوالم هذه الاشياء كلّها قلّلت هذا الزمن المتمادي في نظركم وجعلته ساعة واحدة! يَسْـَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَب'هَا قُلْ إِنـَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَيُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْـَلُونَكَ كَأَنـَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنـَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَهِ وَلَـ'كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ. [14] المجرمون في النار، إلاّ أنـّهم لا يدركون احتراقهم من سكر الشهوةإنّ الشخص الغاضب الذي تجيش أحاسيسه العصبيّة فإنّ عقله سيفقد الإدراك في تلك الحال، فتراه يضرب الكأس والكوز فيكسرهما، ويقتل امرءاً ويرتكب ألف جناية، بَيدَ أنـّه لا يدرك ذلك. أمّا إذا هدأ وسكن غضبه فإنّه سيفهم آنذاك أيّ نارٍ كانت قد استعرت في روحه. وعندما تطغي شهوة المرء فإنّه يرتكب ألف عمل شنيع ولا يدرك قبحه، وإذا ما عاد إلي حالته الطبيعيّة فإنّه يفهم ما الذي فعله حال الشهوة، وكيف انّه قد زني بأُمّة أو ابنته وأسقط نفسه إلي مستوي أرذل وأدني من الحيوان. إنّ الناس أسري الشهوات في الدنيا، وهذه الشهوات قد دوّخت أرواحهم وأنفسهم وعقولهم، ولم تدعهم يفهمون أنـّهم متألّمون مبتلون. وإنّ أهل الدنيا الذين يعيشون مع الآمال البعيدة، مبتلين بحبّ المال وحبّ الجاه، لا يدركون الحقائق. ومع أنـّهم يحترقون في النار لكنّهم لايحسّون ألماً ولا يجدون حرقة. ولكن عندما يتخلخل عالم الاسباب والمسبّبات وسلسلة العلل والمعلولات وتتداعي تشكيلات هذا العالم وأنظمته، ويطلع نور الله تعالي، ويتخطّي الإنسان مسير الشهوة. فإنّهم سيدركون يومئذٍ أنّ النار طاغية، وما أعجبها من نار! وكم أحرقت من أبدانهم وأنضجتها. علماً أنّ سكر شهوة الإنسان وغضبه يمنعانه من إدراك الاحتراق والاشتعال، لانّ حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي ويُصِمُّ. وعندما ينقلب العالم ويتبدّل، ويخرج المرء من الطبع والمادّة ويشدّ الرحال إلي عالم التجرّد، فإنّه سيري أيّ مصائب قد انصبّت علی أُمّ رأسه، وأيّ جراح وقروح قد ألحقها بنفسه اللطيفة، وكيف قذف بها في أُتون النار! لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً. وهكذا تأتي القيامة بغتةً فتجرف الجميع، ولكن إلي أين؟ إِلَي' رَبِّكَ مُنتَهَي'هَا؛ وَأَنَّ إِلَي رَبِّكَ الْمُنتَهَي'. يَـ'´أَيـُّهَا الإنْسَـ'نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَي' رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَـ'قِيهِ. [15] وهذه الآية ليست عائدة إلي المؤمنين؛ فلقاء الإنسان الوارد في هذه الآية وفي كثير من آيات القرآن الكريم عائد إلي الإنسان عموماً، المؤمن والكافر، المتّقي والفاجر، العادل والفاسق. وعلی الإنسان ـأيّاً كانـ أن يتحرّك صوب الله تعالي ويحظي بلقائه. إظهار الله سبحانه لنعم الجنّة الكامنة في النفوسوهكذا يشعّ نور الله من نافذة عالم وحدانيّته، فيضيء جميع البواطن، وتصل إلي الإنسان ـإثر طلوع نور التوحيدـ آثار النعم الإلهيّة في مظاهر الجمال، من الجنّة والحور العين، وجنّات تجري من تحتها الانهار، والنسائم المبهجة؛ والروائح العطرة المنعشة، وَرِضْوَ ' نٌ مِّنَ اللَهِ أَكْبَرُ، وكافّة النعم التي وُعد بها في القيامة. وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ. [16] فهذه النعم كانت مختفية في بواطن النفوس، مُستترة في حقيقة المؤمن، ولكنّ قوله: لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ. وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا؛ فنور الله تعالي سيُضيء هذه المواضع والمواقع في صُقع النفوس. إنّ العاصين والمذنبين هم هكذا دائماً، يُسبّبون النار والحريق لانفسهم فلا يُدركون ذلك، لانـّهم سكاري بالشهوة، والغضب، والغفلة. ولقد تخدّرت وتبلّدت في وجودهم الحواسّ التي يجب أن تُدرِك هذه النيران وتحسّ بها، ولقد بطل ذلك الحسّ وفقد أثره وقوّته. ولقد تعطّل ذلك الحسّ المعنويّ المجرّد ـالذي يُدعي حسّاً لضيق التعبيرـ وأصبح قابعاً في زاوية الجمود متشرنقاً في سجن الجمود والبطلان. أمّا حين يظهر نور الله فيشرق علی هذه الحواسّ الميّتة الثملة النائمة، فيمنحها الحياة والصحو والتيقّظ، فإنّ الامر سيتّضح آنذاك. مَثَل ذلك تماماً كصحراء تتراكم في جهةٍ منها الاقذار والقُمامة والموادّ العفنة، في حين تزهر في جهتها الاُخري الورود والرياحين والياسمين، لكن لمّا كان الوقت ليلاً، والجوّ بارداً، والشمس غائبة لاتمنح نوراً ولا حرارة، لذا لا روائح للاقذار تزكم الاُنوف، ولا عطور للرياحين تعبق من هذه الجهة. أمّا حين تبزغ الشمس من وراء الاُفق، وتشعّ بنورها علی هذه الاراضي اليابسة الباردة المظلمة، فستتحرّك كافّة هذه الموجودات وتنشط وتظهر الآثار والخصائص الكامنة المودعة في وجودها. فتهبّ من تلك الجهة حينئذٍ الروائح العفنة الكريهة، وتعبق من هذه الجهة عطور الورود والرياحين. إنّ ما يستلزمه ظهور الباطن وخفاء الظاهر هو ظهور الحقائق وارتفاع حُجب الماهيّات وأستار الهويّات، ووصول الكلّ إلي غايةِ الغاياتِ ونهاية النهاياتِ الذي هو بدء البداياتِ وهو الله سبحانه وتعالي. فالجميع يصل إلي الله الذي هو المنزل الاقصي المقصود للموجودات بأسرها. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ. [17] أي: أنـّكم سترجعون وتنقلب آثاركم وخصائصكم برمّتها فتصبحون شيئاً آخر، وكأنّ عالم القيامة ـوهو ظهور الحقّـ يقلب الإنسان ويبدّله إنساناً آخر. إنّ طلوع القيامة يجعل شؤون الحياة كلّها في صورة أُخري لا يتّسع لها فكر الإنسان أساساً، ويجسّدها ويجعلها في مرأيً منه بنحو آخر. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. [18] وقد وردت هذه الفقرة من الكلام الإلهيّ في كثير من الآيات القرآنيّة. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. [19] أَلآ إِلَي اللَهِ تَصِيرُ الاْمُورُ. [20] إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَ ' جِعُونَ.[21] فما أسعد الذين يتحرّكون بكيفيّة صحيحة! أُولئك الذين استعدّوا للسفر كما جاء في القرآن الكريم وفي سيرة روّاد طريق الحقّ: الائمّة الطاهرين سلام الله علیهم أجمعين، ولم يتخلّفوا عن قافلة طريق الحقّ. فمن نال درجةً من السعادة، فقد نالها بسبب متابعتهم علیهم السلام، ومن شقي فإنّما شقي بمخالفتهم، لانـّهم وجه الله المتحقّقون بالحقّ والواقعيّة. وجليّ أنّ الإنسان يقترب من متن الواقع وحقيقة نفس الامر بقدر اقترابه منهم، وأنّ مَن بَعُد عنهم فقد شطّ وابتعد عن أصالة الواقع ونفس الامر وميزان تشخيص ذلك وجدان الإنسان نفسه. ذلك أنـّه إذا أنجز عملاً صائباً، فيمكنه بوجدانه أن يوازنه بعمل الائمّة علیهم السلام، وإذا قام بعمل خاطي، فعلیه أن يزنه علی هذا المنوال أيضاً، ليُدرك قُبحه وكراهته. المقام المحمود يوم القيامة هو مقام الشفاعة الكبريعلی هذا الاساس تقوم درجات ومقامات رسول الله والصدّيقة الطاهرة والائمّة علیهم الصلاة والسلام. يروي المجلسيّ رضوان الله علیه في «بحار الانوار» عن «تفسير فراتبن إبراهيم» بسلسلة سنده المتّصل عن الإمام جعفر الصادق، عن آبائه، قال: قال النبيّ صلّي الله علیه وآله: إنّ الله تبارك وتعالي إذا جمع الناس يوم القيامة وعدني المقام المحمود وهو وافٍ لي به، إذا كان يوم القيامة نصب لي منبر له ألف درجة، فأصعد حتّي أعلو فوقه فيأتيني جبرائيل علیه السلام بلواء الحمد فيضعه في يدي ويقول: يا محمّد هذا المقام المحمود الذي وعدك الله تعالي، فأقول لعلیّ: اصعد! فيكون أسفل منّي بدرجة فأضع لواء الحمد في يده، ثمّ يأتي رضوان بمفاتيح الجنّة فيقول: يامحمّد هذا المقام المحمود الذي وعدك الله تعالي، فيضعها في يدي فأضعها في حجر علیّ بن أبي طالب، ثمّ يأتي مالك خازن النار فيقول: يا محمّد هذا المقام المحمود الذي وعدك الله تعالي، هذه مفاتيح النار، أدخِلْ عدوَّك وعدوّ أُمّتك النار، فآخذها وأضعها في حجر علیّ بن أبي طالب، فالنار والجنّة يومئذٍ أسمعُ لي ولعلیّ من العروس لزوجها، فهي قول الله تعالي: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. [22] ألقِ يا محمّد يا علیّ عدوّكما في النار. ثمّ أقومُ وأُثني علی الله ثناءً لميُثنِ علیه أحدٌ قبلي، ثمّ أُثني علی الملائكة المقرّبين، ثمّ أُثني علی الانبياء والمرسلين، ثمّ أثني علی الاُمم الصالحين، ثمّ أجلس فيُثني الله علیَّ، ويثني علیَّ ملائكتُه، وتثني علیَّ أنبياؤُه ورسلُه، ويُثني علیَّ الاُممُ الصالحة؛ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ العَرْشِ: يَا مَعْشَرَ الْخَلاَئِقِ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ حَتَّي تَمُرُّ بِنْتُ حَبِيبِ اللَهِ إِلَي قَصْرِهَا، فَتَمُرُّ فَاطِمَةُ بِنْتِي، علیهَا رَيْطَتَانِ خَضْرَاوَانِ، وَمِنْ حَوْلِهَا سَبْعُونَ أَلْفِ حَوْرَاءَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِلَي بَابِ قَصْرِهَا وَجَدَتِ الْحَسَنَ قَائِمَاً وَالْحُسَيْنَ قَائِماً [23] مَقْطُوعَ الرَّأْسِ. فتقول للحسن: مَن هذا؟ يقول: هذا أخي، إنّ أُمّة أبيك قتلوه وقطعوا رأسه. فيأتيها النداء من عند الله: يا بنت حبيب الله إنّي إنّما أريتُك ما فعلت به أُمّة أبيك لانـّي ذخرتُ لك عندي تعزيةً بمصيبتك فيه، إنّي جعلتُ لتعزيتك بمصيبتك أنـّي لا أنظر في محاسبة العباد حتّي تدخلي الجنّة أنتِ وذرّيّتك وشيعتك ومن أولاكم معروفاً ممّن ليس هو من شيعتك قبل أن أنظر في محاسبة العباد، فتدخل فاطمة ابنتي الجنّة وذرّيّتها وشيعتها ومَن أولاها معروفاً ممّن ليس هو من شيعتها، فهو قول الله تعالي في كتابه: لاَيَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ.[24] قال: هُوَ يَوْمُ القِيامَةِ. وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـ'لِدُونَ، [25] هِيَ وَاللَهِ فَاطِمَةُ وَذِرِّيَّتُهَا وَشِيعَتُهَا وَمَنْ أَوْلاَهُمْ مَعْرُوفاً مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مِنْ شِيعَتِهَا. [26] لقد أعطي سيد الشهداء علیه السلام وجوده للّه تعالي، وقدّم حتّي طفله الرضيع، فإن أعطاه الله تعالي كلّ مالديه فقد عامله بعدله. دو كَون در خور يك مويِ اصغر تو نيرزد چو كار در تو فِتَد چيست خونبهات حسين جان؟ [27] وقد ورد في بعض الروايات أنـّه علیه السلام جاء إلي خيام الحرم وقال: إِيتِينِي بِوَلَدِيَ الرَّضِيعِ حَتَّي أَوَدِّعَهُ. فَأُعطِي ولده الرضيع، فانحني علیه ليقبّله، فجاءه علی تلك الحال سهم حَرْمَلة فأسلم الروح شهيداً.
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلیّ العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلي قيام يوم الدين قال الله الحكيم في كتابه الكريم: وَمَا قَدَرُوا اللَهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ و يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ وَالسَّمَ'وَ ' تُ مَطْوِيَّـ'تٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـ'نَهُ وَتَعَـ'لَي' عَمَّا يُشْرِكُونَ. إلي قوله تعالي: وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَـ'بُ وَجِاي´ءَ بِالنَّبِيِّــنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ. [28] بلغنا في أبحاثنا عن المعاد موضوع الحشر، فقد عرضنا الكثير من أبحاث تتمّة عالم الدنيا وجميع مسائل عالم البرزخ، وكيفيّة إحياء الموتي وبعثهم يوم المحشر، ومعني الحشر، وها هم الموتي قد نهضوا من قبورهم فحضروا في المحشر. ونستعرض هذا الموضوع وما سيجري يوم القيامة في ما يأتي من أبحاث إن شاء الله تعالي مستهدين بالآيات القرآنيّة المباركة والاخبار الموجودة لدينا. سبقت الإشارة إلي أنّ الموجودات ليست محجوبة عن بعضها البعض في القيامة، لانّ القيامة ليست عالم المادّة والزمن. فالموجودات ليس لها يومئذٍ حجاب وساتر فيما بينها بحيث يفصل بين مفرداتها. وقد تقدّم ذكر هذا الموضوع في بحث مفصّل سابق، استشهدنا فيه بآيات من القرآن الكريم. في تفسير الآية: وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَاأمّا كلامنا الآن فيدور حول عالم القيامة بوصفه عالم الظهور والبروز والتجلّي، أي: عالم النور لا عالم الظلمة. ولذا نري أنّ موجودات ذلك العالم كلّها موجودات نورانيّة علی الرغم من أنّ الموجودات محجوبة بعضها عن البعض إجمالاً: وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَـ'بُ وَجَاي´ءَ بِالنَّبِيِّــنَ وَالشُّهَدآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ. والشاهد هنا في قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ و يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ وَالسَّمَ'وَ ' تُ مَطْوِيَّـ'تٌ بِيَمِينِهِ. أي: أنّ له قدرة بحيث إنّ الارض والسماء في قبضته وتحت سيطرته وهيمنته وحكومته. سُبْحَـ'نَهُ وَتَعَـ'لَي' عَمَّا يُشْرِكُونَ. تنزّه وتقدّس وعلا وسما عمّا يُشرك به الناس، ويجعلون له شريكاً في وحدانيّته. الاشياء برمّتها ظاهرة ومشهودة لجميع الاشياء يوم القيامةإنّ ذلك العالم عالم نورانيّ، وإنّ سنخ ذلك العالم مبدئيّاً هو الظهور والبروز والتجلّي. أمّا هذا العالم الذي نعيش فيه فله مادّة وزمن، والهيولي الاُولي فيه ـ وهي مادّة الموادّ ـ تتّخذ لنفسها صوراً مختلفة، ثمّ إنّ الموجودات تستقرّ علی تواتر الايّام وبالتقيّد في المكان. وفي ضوء ذلك فلمّا كان الزمان والمكان من مواصفات الموجودات في العالم، وكان تحقّق الموجودات وتشخّصها مرتبطاً بالزمان والمكان، فإنّ الموجودات المادّيّة ستزال بإزالة الزمان والمكان. لذا فإنّ كلّ موجود في هذا الزمان منفصل عن الازمنة الاُخري، كما أنّ كلّ موجود في هذا المكان معزول عن الامكنة الاُخري، ولا يمكن للاءنسان أن يوجد في عدّة أزمنة أو عدّة أمكنة في آن واحد. وكلّ موجود إنـّما يوجد في مكان واحد وزمان واحد، حيث يكوّن هذان العرضان شخصيّته الماهويّة. افرضوا أنّ هذا العالم الذي نعيش فيه ليس له ثقل المادّة وكثافتها، وأنّ هناك مكاناً لا ينفصل فيه موجود عن موجود آخر بلحاظ إشغال حيّز ومكان ما، وأنّ هناك زماناً لا تنفصل فيه الازمنة بعضها عن بعض، فالماضي والحاضر والمستقبل تصبح شيئاً واحداً. وتكون هذه الجهة من العالم مع تلك الجهة جهة واحدة، باعتبار افتراضنا انعدام المكان. لذا فإنّ الموجودات جميعها ستكون حاضرة ومشهودة هناك، وسيكون كلٌّ منها منكشفاً ومشهوداً للموجود الآخر، إذ إنّ الحجاب ليسمادّة فيفصلها بعضها عن بعض، كما ليس هناك زمانٌ أو مكان فيفرّقا بينها. وبناءً علی ذلك فإنّ كلّ شيء سيكون موجوداً، وكلّ شيء سيكون منكشفاً وجليّاً لكلّ شيء. افرضوا أنّ هناك جماعة متحلّقةً في أحد المساجد ومشغولة بتبادل الحديث وبتدارس القرآن وبحثه وتفسيره، فإنّ أفراد هذه الجماعة سيحسّون بوجودهم وشخصيّتهم في تلك الساعة التي يجلسون فيها، لكنّهم لايحسّون بمحادثة الساعة السابقة، ولا بوجود الساعة السابقة، ولاالساعات اللاحقة ولاالمحادثة الدائرة فيها. كما أنـّهم لايدركون اليوم الذي انقضي والسـاعات التي تصـرّمت، ولا يدركـون اليوم الـذي لميأتِ بعد ولا ساعاته. ومن جهة أُخري فإنّ هذه الجماعة تواجه بعضها بعضاً فحسب، لذا فإنـّهم يتعاملون مع الافراد الذين يتذاكرون ويتخاطبون معهم، لكنّهم لا يرون ما وراء جدار المسجد فضلاً عن الموجودات الابعد والاشياء الابعد. أمّا لو افترضنا أنـّهم يجلسون في مسجد توجد فيه ساعة المذاكرة والساعة التي قبلها والساعة التي بعدها، وأنّ وجودهم الفعلی واحد مع وجودهم في اليوم السابق واليوم اللاحق، وأنّ السنة السابقة واللاحقة شيء واحد لهم؛ هذا من جهة. ومن جهة أُخري فإنّ هذا المسجد مسجدٌ نورانيّ، جدرانه بلّوريّة وسقفه بلّوريّ وأرضه بلّوريّة، والساعة الموجودة فيه من البلّور أيضاً، وعقارب الساعة وعجلاتها المسنّنة وإطارها من البلّور، وأنّ فراش المسجد من البلّور، وأرضيّته من البلّور. وفي هذاالفرض لن يشاهد ظاهر الساعة فحسب، بل يُشاهد باطنها كلّه بما يضمّه من عجلاتها ولوالبه ورقّاصها. ولمّا كان الفراش بلّوراً فإنّه لايحجب مشاهدة الارض، فيستطيع الإنسان أن يري الارض من فراشها. ولمّا كانت الارض بلّوريّة، فإنّ كلّ ما تحتها إلي تخومها سيشاهد أيضاً. ولمّا كانت الجدران بلّوريّة، فإنّ ما خلفها سيشاهد هو الآخر. العالم ـ إذَن ـ عالمٌ بلّوريّ، كما أنّ وجود الإنسان نفسه بلّوريّ أيضاً، وكما يدرك كلّ إنسان نفسه ويراها، فإنّه يدرك جميع الموجودات الاُخري، كما أنّ تلك الموجودات تدرك الإنسان وتفهمه، فليس هناك شيء غائب عن شيء. وهكذا يسطع النور علی هذه الاشياء البلّوريّة، فيتلالا كلٌّ منها ويعكس النور علی الاشياء البلّوريّة الاُخري؛ ولمّا كانت الاشياء جميعها متلالئة ومُشعّة، فإنّ العالم سيكون عالماً نورانيّاً ومشهوداً برمّته. هذه هي كيفيّة العوالم العلويّة، وقد مثّلنا بالدنيا، إلاّ أنّ حقيقتها في عالم الآخرة. ولقد سُئل أمير ألمؤمنين علیه السلام عن العالم العلويّ، وكانوا يستوضحونه عن كيفيّة ذلك العالم وخصائصه وآثاره، ذلك العالم الذي يقابل العالم السفليّ الذي نعيش فيه، وذلك العالم هو محلّ الملائكة والارواح والعقول والموجودات المجرّدة. فما هي خصائص هذه الموجودات يا تري؟ فَقَالَ علیهِ السَّلاَمُ: صُوَرٌ عَارِيَةٌ عَنِ الْمَوَادِّ؛ عَالِيَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَالاسْتِعْدَادِ؛ تَجَلَّي لَهَا فَأَشْرَقَتْ؛ وَطَالَعَهَا فَتَلاَلاَتْ؛ وَأَلْقَي فِي هُويَّتَهَا مِثَالَهُ؛ فَأَظْهَرَ عَنْهَا أَفْعَالَهُ. وَخَلَقَ الإنسان ذَا نَفْسٍ نَاطِقَةٍ؛ إِنْ زَكَّاهَا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَقَدْ شَابَهَتْ جَوَاهِرَ أَوَائِلِ عِلَلِهَا؛ وَإِذَا اعْتَدَلَ مِزَاجُهَا، وَفَارَقَتِ الاْضْدَادَ، فَقَدْ شَارَكَ بِهَا السَّبْعَ الشِّدَادَ. [29] وقد أوردنا هذا الحديث الشريف مع سنده وناقشناه في الجزء الثالث من «معرفة المعاد»؛ شرح حديث أمير المؤمنين علیه السلام: صور عارية عن الموادّونشرع الآن ببحث مفاده ومعناه. لقد أجاب الإمام علیه السلام بأن لا وجود للمادّة في العالم العلويّ، فهناك صور عارية عن المادّة؛ ومن الطبيعيّ أنّ المادّة لمّا كانت غير موجودة فإنّ الزمان غير موجود أيضاً، لانّ المادّة من ملازمات الزمان. وتلك الموجودات موجودات فعلیة محضة، ليس لها قوّة وقابليّة، أمّا الموجودات التي تتحرّك نحو الكمال، فتمتلك القوّة والقابليّة وتوصل قواها إلي الفعلیة ـ بطيّ مدارج الكمال ـ فهي في حركة دائبة بين القابليّة والفعلیة، تبدّل القوّة إلي الفعل في كلّ لحظة، وفي اللحظة الاُخري تبدّل تلك الفعلیة ـالتي هي بدورها قوّة وقابليّة بالنسبة إلي المراحل والمراتب التاليةـ فعلیة أُخري. وهكذا تتبدّل باستمرار كلّ قوّة إلي فعلیة نسبيّة، وتتبدّل تلك الفعلیة النسبيّة إلي فعلیة أكمل، حتّي تصل إلي منزل الفعلیة المحضة، وتحوز الفعلیة المطلقة. إنّ بذرة الفاكهة التي أُودعت فيها القوّة والقابليّة لتكون جذراً، وساقاً، وشجرة، وأوراقاً، ولتعطي ـ من ثمّ ـ فواكه كثيرة لسنين طويلة، إذا زرعت تحت الارض في حركة تكامل ونمو شجرة وإعطاء فاكهة. وهكذا تقوم موجودات هذا العالم جميعها ـ بامتلاكها القوّة والقابليّة بواسطة اللبس والخلع بتبديل تلك القوي إلي الفعلیة، وتصعد سلّم الترقّي فتصل إلي التكامل، وذلك الترقّي والكمال يعدّان من مختصّات هذا العالم. أمّا في ذلك العالم فإنّ الموجودات كلّها تمتلك الفعلیة المحضة. إنّ كلّ موجود يرحل عن هذه الدنيا، فإنّه يُختم هناك بالفعلیة التي كان علیها عند رحيله بمجرّد رحيله، ومع أنّ في البرزخ إجمالاً حركة وتكاملاً، إلاّأنـّه ـ كما أُشير سابقاً ـ يعدّ من تتّمة عالم الدنيالانـّه يمتلك خصائص الكمّ والكيف التي تُشبه الموجودات المادّيّة. أمّا في القيامة فلاحركة ولا تكامل أبداً، فمَن وضع قدمه فيها فإنـّه سيكون قد وصل إلي الفعلیة المحضة. كما تنعدم الحركة والتكامل لدي ملائكة ذلك العالم، فقد خُلق كلّ منهم ليظلّ في مهمّته التي وُجد من أجلها إلي الابد، وليس لهم ضعف وقدرة ونقصان وزيادة، كما لا يمكنهم أن يتخطّوا ما عُيّن لهم، ولاأن يقصّروا أو يتماهلوا في أداء ذلك. هذه هي بعض خصائص موجودات العالم العلويّ الخالية من المادّة والحجاب، والمستقرّة علی أرضيّة الفعلیة والتحقّق الصرف المحض. ولقد تجلّي الله تبارك وتعالي لهم، أي: أنـّه أظهر نفسه في مرآة هويّاتهم وماهيّاتهم التي تُدعي في اصطلاح العرفاء ذوي العزّة والقدر بـ «الاعيان الثابتة»، فَأَشْرَقَت، وطلع فيها فتلالات وأنارت. ثمّ إنّه ألقي في هويّات تلك الموجودات شبهه ومثاله، وهو ظهور وبروز صفاته وأسمائه، فأظهر أفعاله عن تلك الموجودات. ولذلك فإنّ ظهور أفعال الله عن تلك الموجودات كان بسبب إلقائه مثاله فيها، فقد وضع فيها أوّلاً الاسم والصفة، فظهرت تبعاً لذلك أفعاله عنها. فأفعال موجودات العوالم العلويّة كلّها هي ظهور صفات وأسماء النور فحسب، حيث قد ظهر فيها علی أساس التجلّي الذاتيّ. لقد خلق اللهُ الإنسان ذاالنفس الناطقة وميّزه وفضّله بها علی سائر المخلوقات، فإن زكّي الإنسان نفسه ونمّاها بالعلم والعمل، شابهت إذ ذاك أصل جواهر سلسلة عللها في مبدأ التكوين، وتناسخت وتشابهت مع تلك الموجودات الطاهرة والمنوّرة في العالم العلويّ. وإذا اعتدل مزاج الإنسان وفارق الاضداد والقوي الشهويّة والغضبيّة والوهميّة المختلفة، وجعل استعمال تلك القوي علی أساس الاعتدال، وتبعاً لاوامر قوّته العقليّة وقوّته الناطقة القدسيّة، فإنّ السماوات السبع التي تشرف علیه ستشترك معه في الحياة وآثارها. أي: أنّ الإنسان سيرتقي كالسبع الشداد «السم'وات السبع» المحكمة المتقنة، وستكون له روح الكمال، ويصبح مثلها ذا صفات وأفعال مجرّدة ومطلقة. كان هذا شرحاً مختصراً حول الحديث الشريف المشار إليه، أمّا البحث المفصّل عنه فلا يسعه هذا الكتاب. وما أروع الابيات التي أنشدها الخواجه حافظ الشيرازيّ في نشأة العالم العلويّ واختلاف الظروف والماهيّات وخلقة الإنسان الذي هو جامع لصفات الله تعالي. أشعار حافظ الشيرازيّ في كيفيّة نشوء الإنسان وعالم الملكوتدر ازل پرتو حُسنت ز تجلّي دم زد عشق پيدا شد و آتش به همه عالم زد جلوهاي كرد رُخَت، ديد مَلَك عشق نداشت عينِ آتش شد از اين غيرت و بر آدم زد عقل ميخواست كز آن شعله جهان افروزد برق غيرت بدرخشيد و جهان بر هم زد مُدّعي خواست كه آيد به تماشاگه راز دستِ غيب آمد و بر سينة نامحرم زد ديگران قرعة قسمت هم بر عيش زدند دلِ غمديدة ما بود كه هم بر غَم زد[30] جان عِلْوي هوسِ چاهِ زَنَخدان تو داشت دست بر حلقة آن زلفِ خَم اندر زد حافظ آن روز طربنامة عشقِ تو نوشت كه قلم بر سَرِ اسباب دلِ خُرّم زد [31] ويقول في موضع آخر: عكسِ روي تو چو در آئينة جام افتاد عارف از خندة مِي در طمعِ خام افتاد حُسن روي تو به يك جلوه كه در آينه كرد اين همه نقش در آئينة اوهام افتاد اين همه عكس مي و نقش و نگاري كه نمود يك فروغِ رخِ ساقيست كه در جام افتاد من ز مسجد به خرابات نه خود افتادم اينم از عهدِ ازل حاصل فرجام افتاد [32] هر دَمَش با منِ دلسوخته لطفي دگر است اين گدا بين كه چه شايستة إنعام افتاد زير شمشير غَمش رقص كنان بايد رفت كانكه شد كشتة او نيك سرانجام افتاد در خمِ زلف تو آويخت دل از چاه زَنَخ آه كز چاه برون آمد و در دام افتاد [33] وقال المرحوم الحكيم السبزواريّ: إذ لاحجاب في المفارقاتِ وإنـّما اختصّ المقارناتِ فكان في كلٍّ جميع الصور كلّ من الكلّ كمجلي الآخر [34] ليس هناك من حجاب في موجودات العالم العلويّ التي تدعي بالمفارقات، كما هو الامر في عالم العقول والنفوس المجرّدة؛ بل يختصّ الحجاب بموجودات العالم السفليّ، لانـّه عالم المادّة والطبع، الممتلك لقابليّة المادّة والهيولي الاُولي. لذلك فإنّ الصور جميعها تنعكس في عالم المفارقات والموجودات العلويّة الملكوتيّة، فكلٌّ منها بالنسبة إلي الآخر كموضع التجلّي الآخر بالنسبة إلي الاوّل، فلكلٍّ ظهور وتجلٍّ في الآخر، وكلّ منها مظهر ومجلي لانوار قدسيّة أُخري. ويقول السبزواريّ في شرح هذه الاشعار: فَهِيَ كَالْمَرَائِي الْمُتَعَاكِسَاتِ، هَذَا إِشَارَةٌ إِلَي مَا قَالَ أِرسطاطاليسُ: وَالاْشْيَاءُ الَّتي فِي الْعَالَمِ الاْعلی كُلُّهَا ضِيَاءٌ؛ لاءنـَّهَا فِي الضَّوْءِ الاْعلی؛ وَلِذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَرَي الاْشْيَاءَ فِي ذَاتِ صَاحِبِهِ؛ فَصَارَ لِذَلِكَ كُلُّهَا وَالْكُلُّ فِي الْوَاحِدِ؛ وَالْوَاحِدُ مِنْهَا هُوَ الْكُلُّ؛ والنُّورُ الَّذِي يَسْنَحُ علیهَا لاَنِهَايَةَ لَهُ، هَذَا كَلاَمُهُ. [35] ثمّ يقول السبزواريّ في الحاشية بعد بيان هذا المطلب: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ فِي الْعُقُولِ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ كِتَابِ التَّكْوِينِ يَتَحَقَّقُ فِي الْعُقُولِ الَّتِي هِيَ خَوَاتِمُهُ؛ كَعُقُولِ إِخْوَانِ الْحَقِيقَةِ وَالصَّفَا؛ فَإنـَّهَا حَيْثُ كَانَتْ وَحْدَانِيَّةَ الْوِجْهَةِ وَالْعَقِيدَةِ، مُتَّفِقَةَ الاْخْلاَقِ الْحَمِيدَةِ، وَالاْعْمَالِ الْحَسَنَةِ، كَانَ كُلُّهَا فِي كُلِّهَا؛ وَالْكُلُّ فِي الْوَاحِدِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهَا هُوَ الْكُلُّ. [36] متّحد بوديم و يك گوهر همه بي سر و بي پا بُديم آن سر همه يك گهر بوديم، هم چون آفتاب بي گِرِه بوديم و صافي همچو آب چون به صورت آمد آن نور سَرِه شد عدد چون سايههاي كنگره كنگره ويران كنيد از منجنيق تا رود فرق از ميان اين فريق [37] شرح كلام أرسطو بشأن موجودات العالم العلويونذكّر توضيحاً بأنّه كماكانت موجودات العالم العلويّ كلّها في البداية نوراً محضاً وضياءً صرفاً وخالصاً، فإنّ النفوس الناطقة ووجود الإنسان ستصل ـبدورهاـ إلي هناك في مراتب صعودها ومراحل تكاملها. وسيصل هذا الإنسان ذو النفس الناطقة إلي حيث يشاهد جميع الموجودات ويراها منطوية في وجوده. فمن باب المثال افرضوا أنّ لنا ـنحن المتحلّقين هناـ بدناً ومادّة. وهو أمر لا ريب فيه، إذ نملك يداً ورجلاً وعيناً نستخدمها لاءنجاز أعمالنا، فنذهب ونرجع ويري بعضنا بعضاً. ونحن لا ندرك بحواسّنا الظاهريّة شيئاً عن بعضنا غير هذاالهيكل الظاهر، إلاّأنّ حقيقتنا وواقعنا ليست هذا البدن، إذ إنّ لناأفكاراً وإدراكات، فنحن نعرف أصدقاءنا ومعارفنا وندركهم في أذهاننا. وإذا قُدّر أن تكون لنا نورانيّة وصفاء، فإنّنا ما إن ننظر بأعيننا إلي الاصدقاء ونري ظاهرهم، فإنّنا سنخبُر بجميع ما تختزنه عقولهم وأفكارهم وأذهانهم وحقائقهم وعقائدهم وصفاتهم ونواياهم. ولو كنّا نحن وأصدقاؤنا موجودات متلالئة ومتشعشعة نورانيّة كهذه المرايا والبلّورات، بحيث لا يُحجب أيّ موجود عن حقائقنا وحقائق الموجودات الاُخري، فإنّنا سندرك الكلّ، كما سيدرك الكلّ كلّ الكلّ. إنّ العلّة في عدم اطّلاعي علی علومكم، وفي عدم اطّلاعكم علی علوم الاصدقاء، وفي عدم اطّلاعكم علی ما في خارج هذا المسجد الذي تجلسون فيه، وعلی ما يُخبِّئهُ الغد، تكمن في هذه الحجب المادّيّة. فإن أُزيل الزمان والمكان وتلاشي حجاب المادّة، فإنّ جميع الموجودات ستكون حاضرة الآن أمامكم، وستكونون حاضرين لاصدقائكم، وسيكون كلّ صديق حاضراً ومشهوداً لصديقه الآخر. ولن يكون عندئذٍ من حجاب، ولا من موجود محجوب عن موجود آخر؛ نفس الإنسان الناطقة تحصل في مقام كمالها علی الإحاطة بالموجوداتوسيصل الإنسان ذو النفس الناطقة، إثر تكامل قواه وإمكاناته المودعة فيه، إلي حيث يدرك الموجودات برمّتها، وإلي حيث تصبح جميع حقائق العالم والعقول والصور والمعارف الإلهيّة منطوية في وجوده. وكماكان الإنسان في أصل النشأة بسيطاً دون تعقيد، وكان في مكان حيثُ الواحد الذي لا أحد غيره. لم يكن إلاّالله فحسب؛ كان هناك واحد وهو الله الواحد. ووحدته ليست عدديّة، بل هي وحدة بالصرافة. وتبعاً لهذه المقدّمة فإنّ وجود الله المقدّس لم يدع غيراً في العالم، ولم يكن في العالم موجود سواه. أجل كماكان الإنسان علی ذلك النحو، فإنّ علیه أن يعود بنفس الصورة إلي مقامه الاوّل. ولمّا كان نور النفس الناطقة الموجود في عالم التوحيد ذا سعة وإحاطة في مقابل تشعشع أنوار الحضرة الاحديّة جلّ وعزّ. فقد تنزّل إلي عالم الصورة، ثمّ إلي عالم المادّة فظهر في عالم الكثرة، وصار متكثّراً كتكثّر النور الخالص حين يسقط علی الشرفات التي تعلو البنايات فتنشأ منه هذه الاختلافات. وهكذا فإنّ هذه الشرفات يجب أن تُحطّم بمنجنيق الهمّة الراسخة والإرادة المتينة، وبطيّ طريق الله، والورود في عالم تزكية النفس الامّارة، وبشدّ الرحال إلي لقاء الله. وينبغي لهذه الازدواجيّة والانانيّة والاستكبار أن تدفن في مقبرة النسيان، ليعود الإنسان من جديد إلي مقام التوحيد والصفاء والطهارة التي كانت له أوّل خلقه، وليرجع كما كان جوهرة متلالئة وهّاجة، ويصبح كالشمس الساطعة، مركزاً لبثّ النور في العوالم ويكون محيطاً بها. علینا أن نرجع شئنا أم أبينا، فالمعاد أمر لا مناص منه. ولكن لو تحرّكنا طوع إرادتنا، فما أروع ذلك وما أثمنه! غلام همّت آنم كه زير چرخ كبود زهر چه رنگ تعلّق پذيرد آزاد است [38] ترا ز كنگرة عرش ميزنند صفير ندانمت كه در اين دامگه چه افتادست كه اي بلند نظر شاهبازِ سدره نشين نشيمنِ تو نه اين كُنجِ محنت آباداست [39] ارجاعات [1] ـ الآية 77، من السورة 16: النحل. [2] ـ الآية 51، من السورة 17: الإسراء. [3] ـ الآيات 25 إلي 27، من السورة 67: الملك. [4] ـ الآية 51، من السورة 34: سبأ. [5] ـ القسم الاعظم من الآية 30، من السورة 3: آل عمران. [6] ـ مقطع من الآية 14، من السورة 42: الشوري. [7] ـ المقطع الاخير من الآية 36، من السورة 2: البقرة. [8] ـ الآيات 42 إلي 46، من السورة 79: النازعات. [9] ـ مقطع من الآية 35، من السورة 46: الاحقاف. [10] ـ الآيات 112 إلي 114، من السورة 23: المؤمنون. [11] ـ لانـّهم عاشوا في الدنيا فكان برزخهم عسيراً ومديداً. [12] ـ الدنيا، والانتقال من الدنيا إلي البرزخ، والانتقال من البرزخ إلي القيامة. [13] ـ الآيتان 55 و 56، من السورة 30: الروم. [14] ـ الآية 187، من السورة 7: الاعراف. [15] ـ الآية 6، من السورة 84: الانشقاق. [16] ـ مقطع من الآية 71، من السورة 43: الزخرف. [17] ـ المقطع الاخير من الآية 21، من السورة 29: العنكبوت. [18] ـ المقطع الاخير من الآية 245، من السورة 2: البقرة. [19] ـ المقطع الاخير من الآية 18، من السورة 5: المائدة. [20] ـ المقطع الاخير من الآية 53، من السورة 42: الشوري. [21] ـ النصف الثاني من الآية 156، من السورة 2: البقرة. [22] ـ الآية 24، من السورة 50: ق. [23] ـ ورد في المصدر: «تفسير فرات بن إبراهيم» بلفظ: «والحسين نائماً». [24] ـ صدر الآية 103، من السورة 21: الانبياء. [25] ـ المقطع الاخير من الآية 102، من السورة 21: الانبياء. [26] ـ «بحار الانوار» الطبعة الحديثة، ج 7، ص 335 و 336. [27] ـ يقول: إنّ الكونينِ لا يعدلان شعرة واحدة من ولدك علیّ الاصغر، فإذا كنت أنت القتيل، فماذا يعدل دمك يا حبيب الروح يا حسين؟ [28] ـ الآيات 67 إلي 69، من السورة 39: الزمر. [29] ـ «شرح الغُرر والدُّور للا´مديّ» تأليف آقا جمال الخونساريّ، ج 4، ص 218 ـ 220. [30] ـ «ديوان حافظ» طبعة پژمان، ص 87. يقول: تحدّث ضياءُ حُسنك عن التجلّي منذ الازل، فظهر العشق، وسرت ناره في أرجاء العالم. لقد تجلّت طلعتُك للمَلَك فلم تلحظ فيه وَجْداً، فتجلّت كالنارِ لا´دمَ غيرةً. وحين شاء العقلُ أن يستضيء بتلك الشعلة قبساً، فقد شعّت الغيرةُ فاضطرب الكون وانقلبت أوضاعه كلّه. وحين جاء العاذلُ ليتفرّج علی الاسرار، فقد امتدّت يدُ الغيب فطوّحت بالاجنبيّ. لقد اقترع الآخرون علی حظّ العيش فكان لهم الرغد والهناء، لكن كان نصيب قلبنا المحزون المبتلي اقترع علی غمّ العشق. [31] ـ يقول: لقد أُغرم الروح العلويّ بالهبوط إلي أسفل ذقنك (لوصالك)، فتعلّقت بحلقات زلفك المجعّد. ولقد كتب حافظ رسالة عشقك المبهجة، فشطب علی كلّ ما يُبهج القلب (وقال مرحي لمحنة هواك)! [32] ـ «ديوان حافظ» طبعة پژمان، ص 79. يقول: حين انعكست صورتك في مرآة الكأس، فقد طمع العارف لابتسامة الكأس في الشراب. ولمّا تجلّي حُسن وجهك في المرآة مرّةً فقد تجلّي في مرآة الاوهام كلّ هذه النقوش والرسوم. لم تكن كلّ هذه الصور والرسوم والنقوش التي كان يجلّيها، إلاّ سطوع طلعة الساقي التي انعكست في الكأس. لم آتِ من المسجد إلي التكية بنفسي، بل ساقني إليه الاجل المكتوب من الازل. [33] ـ يقول: كلّ نَفَس منه لطفٌ بي أنا صاحب القلب المحترق الواله، فانظر إلي هذا الشحّاذ كيف صار جديراً بإنعام كهذا. يجب علیّ التسليم لحدّ سيفه راقصاً جذلاً، فمن صار قتيله كان محمود العاقبة. تعلّق القلبُ من بئر غمازتك بتجعدّات زلفك، ولكن ـ آهٍ ـ فقد خرج من البئر ليسقط في الفخّ. [34] ـ «شرح المنظومة» طبعة ناصري، ص 191. [35] ـ «شرح المنظومة» ص 191. [36] ـ «شرح المنظومة» ص 191. [37] ـ يقول: كنّا جميعاً جوهراً واحداً متّحدين، مندمجين بلا رأس ولا قدم. كنّا جوهراً واحداً، كالشمس، في صفاء لا يشوبه شيء، كالماء. ولمّا اتّخذ ذلك النور المحض طابع الصورة، فإنّه تعدّد كظلال الشرفات. فحطّموا الشرفات بالمنجنيق، ليزول الفرق بين هذين الفريقين. [38] ـ عدّة أبيات من قصيدة غزليّة لحافظ الشيرازيّ؛«ديوان حافظ» طبعة پژمان، ص 11. يقول: تأسرني همّة مَن تحرّر من كلّ ما يمكن أن يُتعلَّق به تحت هذه السماء الزرقاء. [39] ـ يقول: فهم ينادونك من شرفات العرش قائلين: ما الذي اجتنيته في هذه الاُحبولة والمصيدة؟ ويا أيّها الصقر ذو النظر الثاقب، المستقرّ في سدرة المنتهي، ليس مأواك هذه الزاوية المبنيّة بالمحنة. |
|
|