|
|
الصفحة السابقة
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم وصلَّي الله علي محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين قال الله الحكيم في كتابه الكريم: أَيَحْسَبُ الإنسَـ'نُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ و * بَلَي' قَـ'دِرِينَ عَلَي'´ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ.[1] البنان عبارة عن أطراف الاصابع، والاستدارة في أطراف الاظافر وفوقها، فحين يخيط الخيّاط ثوباً فإنّه يعمد عند الخياطة إلی ثني قدر من حافّة القماش إلی الداخل، ويقال لهذا القسم السجاف. وهكذا فإنّ الله تبارك وتعإلی جعل سجافاً لاتّصال أُصول الاظافر بلحم الاصابع يُدعي بالبَنان. يقول سبحانه في هذه الآية المباركة: ما الذي يقوله هذا الإنسان وما الذي يحسبه؟ أيحسب أ نّنا لسنا قادرين علي جمع عظامه؟ بلي، سنجمع جميع أعضائه وجوارحه، اللحم والعظم، والعروق والشحم والجلد والاظافر ونسوّي حتّي البنان وهو أصغر عضو من أعضائه. وهكذا فقد كانت شبهات المادّيّين لإنكار المعاد، إنّما هي في حال عجز الله تعإلی، وحاشا وكلاّ أن تكون قدرة الله محدودة بحدّ أو منحصرة في إيجاد موجود خاصّ؛ بل قدرته كاملة وشاملة، لا تضيق حتّي عن إيجاد البنان وإعادته، فيرد الإنسان الحشر للحساب بكلّ أرجاء وجوده، وحتّي ببنانه وأطراف أصابعه. ولقد ألقي المنكرون شُبهة في باب المعاد الجسمانيّ عُرفت باسم شُبْهَة الآكِلِ والمَأكُولِ، ودُوّنت بهذا الاسم في الكتب والدفاتر. ومحصّل هذه الشبهة: كيف يُحيي الله جميع الموتي فيُحضرهم في المحشر، مع أ نّهم كانوا في هذه الدنيا آكلاً ومأكولاً لبعضهم البعض الآخر؟ بل إنّ ما سويالله من الموجودات المادّيّة التي تتبدّل صورها دائماً هي بأجمعها آكل ومأكول لبعضها. فالبذرة تقتات علي الموادّ الترابيّة تحت الارض وتبدّلها إلی نفسها فتصبح شجرة، والنار تأكل الشجرة فتحوّلها إلی فحم، ثمّ تبدّل الفحم إلی رماد، ثمّ يتحوّل الرماد تحت الارض إلی تراب، فيصير التراب مرّة أُخري شجرة وزرعاً وإنساناً وحيواناً. وهكذا فإنّ المادّة تتبدّل دائماً في دائرة حركة الزمان وفوق هذه الارض وعالم الطبع إلی صور مختلفة، وتتجلّي وتظهر في شكل وسيماء أشياء متفاوتة بأسماء مختلفة، كالإنسان والبقرة والحمار والشجرة والماء والهواء والغاز وغيرها. إنّ بدن الفرد من أفراد الإنسان كـ « زيد » مثلاً، يصبح تحت الارض رميماً ويتحوّل إلی موادّ غذائيّة تقوّي الشجرة والزراعة التي تزرع فوقها، ثمّ إنّ الإنسان يتناول هذه المحاصيل الزراعيّة في هيئة حبوب الحنطة والشعير والعدس والماش وغيرها، وفي هيئة ثمار الاشجار كالتفّاح والكمّثري والجوز واللوز وغيرها، فتتبدّل إلی الذرّات الموجودة في بدنه وتصبح جزء بدن شخص آخر كـ « حسن » مثلاً. ثمّ إنّ حسن يموت ويتبدّل بدنه تحت الارض إلی موادّ ترابيّة وموادّ مقويّة لسائر الاشجار والزراعات، وهكذا فإنّ أفراداً آخرين سيأكلون ثمار تلك الاشجار أو حبوب تلك الزراعات وخضروات البساتين، أو يقتاتون علي الضأن والإبل والابقار وطيور السماء وأسماك البحار التي تغذّت من تلك الموادّ الغذائيّة، فتتبدّل إلی أجزاء وأعضاء وذرّات بدنهم. وعلي هذا المنوال فقد كان هناك دائماً في هذه الارض وفي عالم الطبيعة هذا آكلاً لمأكول آخر، كما كان الآكل يتحوّل إلی مأكول، وهذه السنّة الإلهيّة في حركة دائميّة كالعجلة الدوّارة. فإذا حُشر جميع أفراد البشر في عالم الحشر، لاستلزم ذلك امتلاك أفراد كثيرين لبدنٍ مشترك، وسيمتنع أمر امتلاكهم أبداناً مستقلّة، ويلزم من ذلك تقديم أحد الابدان علي غيره، وهو ترجيح بلامرجّح. افرضوا أنّ كافراً أكل لحم بدن مؤمن، وأنّ لحم بدن هذا المؤمن صار جزءاً من أجزاء ذلك الكافر. فإن أراد الله تبارك وتعإلی حشرهما، فإنّه إن حشر ذلك المأكول مستقلاّ، فإنّ ذلك الآكل لن يكون قد حُشر بتمامه، إذ إنّه فَقَد نصف بدنه، لانّ نصف بدن الآكل تشكّل من المؤمن الذي صار مأكوله. فإن حشر الله تعإلی ذلك المؤمن بتمامه وكماله، لما حُشر هذا الآكل الكافر بتمام المعني، إذ إنّ نصفه سيكون غيرمحشور. وإن حشر الآكل، لما حُشر المأكول المؤمن بتمام المعني، إذ قد بقي جزء منه، وهو الذي صار مأكولاً في بطن الآكل وتبدّل إلی جزء من أجزائه الوجوديّة. هذا أحد الإشكالات. أمّا الإشكال الثاني وهو مشتقّ من الاوّل فهو: أنّ الله سبحانه إن شاء خلقهما فأيّهما سيقدّم؟ إن قدّمَ الآكل، فسيُقال: لماذا لم يقدّم المأكول؟ وإن قدّم المأكول، قيل: لماذا لم يقدّم الآكل؟ وهكذا فإنّ معاد كلّ منهما سيكون ترجيحاً بلا مرجّح، كما أنّ معادهما سويّاً أمر غير ممكن، وإلاّ لزم منه تعلّق النفوس المختلفة ببدنٍ واحد. وهناك أيضاً شبهة أُخري هنا، وهي أنّ ذلك المؤمن قد صار الآن مأكولاً للشخص الكافر، فإن شاء الله حشرهما ومجازاتهما بأعمالهما، فعذّبَ بدن الكافر، فإنّه سيكون قد عذّب نصف بدن المؤمن الذي صار جزءاً لبدن الكافر. وإن نَعَّمَ بدن الكافر بلحاظ هذا النصف من بدن المؤمن، لوقع الكافر في هذه الحال ببدنه مورد النعمة والرحمة؛ إذ لا يمكن جعل بدن واحد في وقت واحد مورداً للرحمة والغضب كليهما، فينعّمه الله في الجنّة، ويحرقه في عين الحال في جهنّم. كما أ نّه إن نعّم بدن المؤمن، لكان قد نعمّ أيضاً نصف بدن الكافر، وإن عذّب بدن المؤمن بلحاظ هذا النصف من بدن الكافر، لكان في هذه الحال قد عذّب المؤمن بتمام بدنه. وعموماً فإمّا أن يكفّ الله سبحانه عن رحمة المؤمن وعذاب الكافر لهذه المحذورات المذكورة، أو أن يعذّب الاجزاء المطيعة في بدن المؤمن وينعّم الاجزاء العاصية في بدن الكافر، وكلاهما خلاف الفرض. وذلك أوّلاً: لانّ عالم الحشر لجزاء الاعمال. وثانياً: لانّ المؤمن والمطيع يجب أن يكون مورداً للرحمة والثواب الجميل، أمّا الكافر والعاصي فيجب أن يكون مورداً للغضب والانتقام. ردّ صدر المتأ لّهين الشيرازيّ شبهة الآكل والمأكولهذا وقد قال المرحوم صدر المتألّهين قدّس الله نفسه في ردّ هذه الشبهة: إِنَّ انْدِفَاعَهُ ظَاهِرٌ بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ تَشَخُّصَ كُلِّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ لاَبِبَدَنِهِ، وَأَنَّ البَدَنَ المُعْتَبَرَ فِيهِ أَمْرٌ مبْهَمٌ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ تَعَيُّنٌ وَلاَذَاتٌ ثَابِتَةٌ، وَلاَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَدَنِ زَيْدٍ مَثَلاً مَحْشُوراً، أَنَّ الجِسْمَ الَّذِي صَارَ مَأْكُولاً لِسَبْعٍ أَوْ إِنْسَانٍ آخَرَ مَحْشُوراً، بَلْ كُلَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْسُهُ فَهُوَ بِعَيْنِهِ بَدَنُهُ الَّذِي كَانَ؛ فَالاعْتِقَادُ بِحَشْرِ الاَبْدَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ هُوَ أَنْ يَبْعَثَ أَبْدَانٌ مِنَ القُبُورِ، إِذَا رَأَي أَحَدٌ كُلَّ وَاحِدٍ وَاجِدٍ مِنْهَا يَقُولُ: هَذَا فُلاَنٌ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا بَهْمَانٌ بِعَيْنِهِ؛ أَوْ هَذَا بَدَنُ فُلاَنٍ، وَهَذَا بَدَنُ بَهْمَانٍ، عَلَي مَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ. وَلاَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَدَّلِ الوُجُودِ وَالهُوَيَّةِ، كَمَا لاَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُشَوَّهُ الخَلْقِ وَالاَقْطَعُ وَالاَعْمَي وَالهَرِمُ مَحْشُوراً عَلَي مَا كَانَ مِنْ نُقْصَانِ الخِلْقَةِ وَتَشْوِيهِ البُنْيَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الاَحَادِيثِ. وَالمُتَكَلِّمُونَ عَنْ آخِرِهِمْ أَجَابُوا عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِمَا لاَحَاجَةَ إلی ذِكْرِهِ لِرَكَاكَتِهِ. [2] الردّ علي شبهة الآكل والمأكول بافتراق الصور لا بالموادّكان هذا كلام الملاّ صدرا في ردّ هذه الشبهة. وقد سار المرحوم الحكيم السبزواريّ قدّس سرّه في ردّ هذه الشبهة علي منوال الملاّ صدرا ونهجه. فيقول: وَ شُبْهَةُ الآكِلِ وَالمَأكُولِ يَدْفَعُهَا مَنْ كَانَ مِنْ فُحُولِ إِذْ صُورَةٌ بِصُورَةٍ لاَ تَنْقَلِبْ عَلَي الهَيُولَي الانْحِفَاظُ مُنْسَحِبْ فإذا قلنا: صار الماءُ هواءً، ليس المراد أنّ الصورة المائيّة بما هي صورة مائيّة صارت مُصوّرة بالصورة الهوائيّة، لا نّه انقلاب في الحقيقة، بل المراد أنّ المادّة التي كانت متلبّسة في الزمان الاوّل بالصورة المائيّة، انخلعت عنها الصورة المائيّة ولبست الصورة الهوائيّة في الزمان الثاني. وكذا إذا صار الابيض أسودَ لا يصير البياض سواداً، بل الموضوع له خلع ولبس كما ذكر، فاللحم من حيث له الصورة اللحميّة لا يصير كيموساً،[3] ولابدن المؤمن من حيث له صورة خاصّة يصير بدناً للكافر، إذ الصورة الخاصّة ليست شرطاً في مادّيّة المادّة، بل هي موانع، والصورة المطلقة من المصاحبات الاتّفاقيّة، ولو صار البدن بما هو بدن كيموساً لشاهدناه في أيّام كونه كيموساً وليس كذلك، بل كلّ صورة في حدّها ومرتبتها هيهي. [4] ونقول لتوضيح هذا المطلب: قد ثبت في الحكمة المتعإلیة أنّ شيئيّة الاشياء بصورتها لا بمادّتها، أي أنّ ما يشخّص الاشياء ويُلبسها رداء التعيّن ويُميّز بين الشيء والشيء، وبين الموجودات، فصلها وصورتها لامادّتها. وذلك لانّ جميع الموجودات الطبيعيّة تشترك في المادّة، وأنّ هناك مادّة صرفة بسيطة دون تشخّص ولا تعيّن قد طبقت أرجاء الموجودات، حيث تدعي بالمادّة الاوّليّة والهيولي الاوّليّة ومادّة الموادّ. وتحتاج هذه المادّة من أجل التشخّص والتميّز لامرٍ يعطي لها شكلاً واسماً وتعيّناً، كالإنسان والحيوان والشجرة والحجر والماء والهواء وغير ذلك. ومن ثَمّ فإنّ إنسانيّة الإنسان مرتبطة بإنسانيّته تلك لابمادّته، لانّ المادّة موجودة علي كلّ حال ولا تُدعي إنساناً. وحين صارت المادّة إنساناً فقد صار يُقال لها إنساناً، وتعلّق بها اسم الإنسان وشخصيّة الإنسان؛ وهكذا الامر في الحيوان والشجرة، فما دامت صورتها واسمها لم ينطبقا علي المادّة، فإنّه لايقال لتلك المادّة حيوان أو شجرة. فكون الشجرة شجرة وكون الحيوان حيواناً ـإذنـ منوط ومرتبط بذلك الشيء الذي يتركّب علي المادّة فيقال لتلك المادّة ـ لتلك الجهة ـ حيواناً أو شجرة، ويقال لذلك الشيء صورة حيوانيّة أو صورة شجريّة. فإن زالت تلك الصورة من المادّة، فاتّخذت صورة أُخري صورة تلك المادّة لنفسها، فإنّ المادّة لم تفني ولم تعدم، بل إنّ هناك مادّة مشتركة موجودة في الحالتين كليهما. كلّ ما في الامر أنّ تشخّصها في الصورة الاُولي التي كانت فيها خشباً ـ مثلاً ـ كان بتلك الصورة، فكانت تُدعي خشباً. أمّا حين تبدّل الخشب إلی فحم، فإنّ تشخّص تلك المادّة صار بصورة الفحم. وهكذا فإنّ ما يوجب تشخّص وتميّز الموجودات هو فصلها المميّز وصورتها لامادّتها. فما يجعل من زيدٍ زيداً زيديّته لاالمادّة. وما يجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً، الإيمانُ والكفر لاالمادّة. وإذا ما قلنا ـ مثلاً ـ هاتِ الخشب! فما هو الخشب يا تري؟ هو ذلك الشيء الذي هو الآن خشب، والذي يُدعي الآن خشباً. فإن سألتَ أحداً: ما هذا؟ لاجابك: هذا خشب. ولو كان هذا الخشب تراباً في السابق فتبدّل إلی خشب، أو أ نّهم سيحرقونه فيما بعد فيتبدّل إلی فحم، ثمّ يشعلون الفحم فيشتعل ناراً ثمّ يصبح رماداً، فإنّ تلك الصور التي امتلكها قبلاً فاكتسبتها هذه المادّة لنفسها، ليست مرتبطة بخشبيّة هذا الخشب، لانّ الخشب كان خشباً حين كان خشباً، لاقبل ذلك ولا بعده. وليست خشبيّه مرتبطة بمادّته، لانّ المادّة كانت موجودة قبله وبعده إلاّ أ نّها لم تكن خشباً. وبالطبع فقد كانت هناك مادّة في جميع الاحوال، ولم يكن ليتحقّق بدونها في الخارج أي قسم من أقسام التراب والخشب والفحم والنار والرماد، إلاّ أنّ تلك المادّة كانت مشتركة فيها جميعاً. فخشبيّة الخشب ليست قائمة بتلك المادّة، لانّ تلك المادّة موجودة في هذا الخشب، كما أ نّها موجودة في الفحم الذي يليه، وفي تلك النار وفي ذلك الرماد أيضاً. لكنّ ما جعل هذه المادّة خشباً فعلاً، ومنحها صورة الخشبيّة والحطبيّة هو الفصل المميّز للخشب. ثمّ إنّ ما يُعطيها بعد ذلك صورة الفحميّة والناريّة والرماديّة الفصل المميّز لها. إنّ بيضة الدجاج التي يأكلها الإنسان مركّبة فعلاً من بياض البيض وصفاره، وهذه البيضة تتبدّل حين تحضنها الدجاجة وترقد عليها إلی علقة، ثمّ إلی فرّوج. فهي إذ تحوّلت إلی فرّوج لم تعد بيضة، ولم يعد هناك بياض البيض ولا صفاره، بل هي فرّوج. وبالطبع فإنّ هناك مادّة مشتركة في تلك البيضة وفي هذا الفرّوج، ولميكن الامر بحيث إنّ تلك البيضة تلاشت كلّيّاً فخُلق فرّوج جديد مستقلّ، بل تبدّلت تلك البيضة إلی فرّوج. إلاّ أنّ البيضة مادامت بياض البيض وصفاره فإنّها ليست فرّوجاً، أمّا حين صارت فرّوجاً فإنّها لمتعد بياض البيض وصفاره. ولقد تعاقبت الصور علي هذه المادّة، الواحدة بعد الاُخري، لكنّ ما يشخّص الموجود ويمنحه اسماً ويجعله ذا خواصّ وأثر معيّن، وما يفرّق الماهيّات ويميّزها عن بعضها ليس مادّتها، بل صورتها. فما يجعل من بيضة الدجاج بيضةَ دجاج بياض البيض وصفاره في هذه الحال الفعليّة والخصائص الفعليّة، وحين تصبح فرّوجاً فإنّ هذا الوجود مبتنٍ علي أساس هذا التشخّص الفعليّ، وهو الكون فرّوجاً ( الفرّوجيّة). فَمِنَ المحال أن تجتمع صورتان معاً، أي أن تجتمع البيضة والفرّوج، ويجب حتماً أن تزول صورة ما لتظهر صورة أُخري علي المادّة. وعموماً فإنّ وجود وتشخّص كلّ موجود في عالم الخارج منوط بصورته لابتلك المادّة المشتركة. افرضوا الآن أنّ الإنسان أكل إنساناً آخر، إمّا بدون واسطة، كأن يقتل كافر مؤمناً فيأكله مثلاً، أو مع الواسطة، كأن يتغذّي كافر من لحم خروف أو من زراعة وفاكهة نمت علي جسد مؤمن ميّت. فإنّ تشخّص ذلك المؤمن ـمادام لميصبح مأكولاً لذلك الكافر الآكلـ إنّما هو بنفسه الناطقة وصورته الإنسانيّة القائمة بالمادّة. وحين أكَلَ شكلُ الآكل بدنَ هذا الإنسان المأكول، فإنّه قد أكل تلك المادّة لاالصورة الإنسانيّة، فاتّخذت تلك المادّة لنفسها الصورة الإنسانيّة للا´كل، وهي صورة غير تلك الصورة. فصورة المؤمن تلك موجودة في موضعها، وصورة الكافر هذه موجودة في موضعها أيضاً. المادّة أمر مُبهم، وصورة الموجودات باقية علي الدواموبناءً علي ما أثبت في الفلسفة العإلیة، فإنّ النفس الناطقة مجرّدة وموجودة بعد الموت، وباقية بفعليّتها تلك لا تتغيّر أبداً. أي أنّ ذلك الإنسان المؤمن الذي صار بدنه مأكولاً للكافر هو زيد المؤمن مادام لم يصبح بعدُ طعاماً للا´كل، فأنت تناديه بـ « زيد » فيجيبُك بالإيجاب. فتقول: ما وجودك وتشخّصك؟ فيجيب: الزيديّة. أنا زيد. أمّا حين يصبح طعاماً للا´كل، فإنّ تلك الصورة الزيديّة لاتتبدّل إلی طعام وغذاء، بل إنّ تلك الصورة باقية إلی الابد. وما يصبح طعاماً للا´كل مادّة زيد التي تتعلّق بها صورة فرعون الكافر، وهي صورة أُخري أعقبت تلك الصورة ولا ارتباط لها أبداً بصورة زيد. علي أنّ ما يجعل هذين الموجودين ـأي زيد المؤمن وفرعون الكافرـ متشخّصين متميّزين في الخارج، وما يجعلها زيداً وفرعونَ صورتُهما الإنسانيّة وإيمانهما وكفرهما ونفسهما الناطقة، فهما منفصلان عن بعضهما لايختلطان ولا يمتزجان أبداً، فزيد ليس فرعون، وفرعون ليس زيداً. كما أنّ صفار البيضة ليس فرّوجاً، والفرّوج ليس صفاراً. ولقد وجد الفرّوج حين زال الصفار. وهكذا فإنّ وجود وشيئيّة البيضة والفرّوج ليسا بتلك المادّة المشتركة بينهما، لانّ تلك المادّة المشتركة أمر مُبهم لا حصول له في الخارج، ومن المحال أن يوجد أو يتحقّق بنفسه تلقائيّاً في عالم الخارج. أي أ نّكم لا يمكن أن تجدوا في الخارج أيّ مادّة دونما صورة، كأن تجدوا ـ مثلاًـ مادّة ليست إنساناً ولا بقرة ولا خروفاً ولاخشباً ولاشجرةً ولاماءً ولاهواءً ولا تراباً ولا غازاً ولا غير ذلك. فتلك المادّة هي إذن في تحقّقها عين الإبهام وعدم الحصول، وما يجعل موجوداً ما حاصلاً هو الصورة التي تتعلّق بالمادّة. إنّ المعاد لا ارتباط له بالمادّة أبداً، لانّ المادّة ليس لها ارتباط بزيد ولابالعمل الصالح والطالح ولا بالإيمان والكفر، فمادّة الموادّ مادّة سارية وجارية في جميع المادّيّات، وليس لها جانب للتشخّص والتميّز، وليست قابلة للإشارة ليتحدّث الإنسان معها ويجعلها مورداً للمؤاخذة أو الثواب، يقسّم الموجودات ـمن ثمّـ علي ذلك الاساس. لقد قسمّت الموجودات علي أساس الصورة، فنحن نقول زيد، بكر، حسن، حسين، تقي، نقي، إنسان، حيوان، شجر، مدر؛ وهي بأجمعها تابعة للصورة، وهذه الصور موجودة بأجمعها في عالم الدهر وظرف عالم الكون. بيان: إنّ بيضة الدجاجة لم تكن في بطن الدجاجة بأكثر من بيضة دجاجة، وحين وضعت الدجاجة هذه البيضة علي الارض، فإنّها كانت بيضة دجاجة، مادّة صفراء وبيضاء. فإن رقدت الدجاجة فوقها فإنّها ستبدّل حالاتٍ ما، فتفقد كلّ يوم وكلّ ساعة وكلّ لحظة تلك الصورة الاُولي وتكتسب صورة جديدة. ثمّ يمرّ الاوّل والثاني والثالث والرابع و... حتّي تتبدّل إلی علقة، ثمّ تتقدّم إلی الامام لتتبدّل إلی مُضغة، ثمّ تتقدّم لتتبدّل إلی عظام، فيكسوالله تلك العظام لحماً فتتبدّل بعد واحد وعشرين يوماً إلی فرّوج يكسر قشر البيضة ويخرج. ويُلاحظ أنّ عمله طيلة هذا الزمن كان تبديل الصورة وتغييرها باستمرار، فكان يبدّل بسرعة فائقة صورةً بعد أُخري. أشبه بنفس الإنسان الناطقة التي تغيّر لباسها في الدنيا باستمرار، فهناك أيّام الصبا وأيّام الشباب وأيّام الشيخوخة، وهي بدينة أحياناً، هزيلةً أحياناً أُخري، سليمة في بعض الاوقات، مريضة في بعضها الآخر. فهذه الحالات المختلفة هي الاردية والالبسة المختلفة لنفس الإنسان. وهكذا فإنّ هذه المادّة ـ هي الاُخري ـ تتّخذ لنفسها باستمرار صوراً فترتديها وتخلعها الواحدة بعد الاُخري، حتّي تظهر فيها الروح ويكمل الفرّوج فيكسر القشر ويخرج. أفيمكننا أن نجد لحظة واحدة خلال جميع هذه المراحل وُجدت فيها صورتان مختلفتان في آن واحد في هذه البيضة؟ فلقد كانت نطفة ولمتكن إذ ذاك علقة؛ فصارت علقة فلم تكن إذ ذاك في المراحل التي تليها. ثمّ اكتسبتْ روحاً فاستوي خلقها، فلم تعد حينئذٍ علقةً ولا مضغة ولانطفة. بَيدَ أ نّنا نتخيّل أنّ تلك الحال السابقة لهذه البيضة قد زالت تماماً ولميبقَ منها أثر في عالم الخارج. وأ نّها قد اتّخذت الآن صورةً أُخري. ونتخيّل أنّ تلك الحالة قد انعدمت بجميع أرجائها وليست بالمعدومة. فهناك بيضة دجاج موجودة وباقية في الوعاء السابق لبيضة الدجاج. لقد كانت أمس بيضة دجاج، ثمّ تقدّمنا من أمس إلی إلیوم، وتقدّمت هذه البيضة أيضاً من أمس إلی إلیوم، فلقد تحرّكت معنا هذه البيضة كما تحرّكنا، ولقد اختفت عنّا صورة وجودنا أمس، واختفت عنّا إلیوم صورة البيضة التي كانت لها أمس؛ وحين نتحرّك إلیوم لنصل إلی الغد، فإنّ وجود إلیوم سيكون مختفياً بالنسبة إلی الغد، كما أنّ الحالة التي تمتلكها بيضة الدجاج إلیوم ستكون مختفية بالنسبة إلی الغد. وهكذا نسير إلی زمان تتبدّل فيه هذه البيضة إلی فرّوج، فتحاول الخروج من هذه الصورة. علي أنّ جميع سلسلة المراتب التي طوتها هذه البيضة، والصور المتغيّرة التي اتّخذتها ليست حاضرة أو مشهودة لدينا الآن، لانّ في مقابلنا فعلاً فرّوجاً فقط ولا شيء غيره. أفهناك بيضة دجاج؟ أهناك بياضها وصفارها؟ أهناك الآن تلك الحالات المختلفة التي طوتها خلال بضع وعشرين يوماً؟ كلاّ. ونحن أيضاً نحسّ الآن بوجودنا الفعليّ في أ نّنا موجودون الآن. أفموجودٌ أمسنا معنا الآن؟ أو موجود أمس الاوّل؟ أو إلیوم الذي سبقه؟ أموجودة معنا فعلاً جميع الاعمال التي فعلناها إلی ما قبل عشرين يوماً، وتلك التميّزات والتشخّصات التي كانت لنا، وتلك الصور المختلفة التي بدّلناها؟ إنّ أيّاً منها ليس معنا الآن، إنّ وجودنا العفليّ الآن هو الوجود الذي ندركه فعلاً لاغير. أمّا في عالم الواقع وفي عالم الكون والحقيقة فإنّ الجميع موجود ومختفٍ عنّا. نحن نقول حيناً: لقد زالت البيضة وانعدمت كلّيّاً وضاعت في عالم الكون، فهناك الآن فرّوج. ونقول حيناً آخر: إنّ ذلك الصفار والبياض ليساموجودينِ الآن، لكنّهما كانا موجودينِ قبل عشرين يوماً، وإنّ هذه البيضة التي صارت فرّوجاً ليست الآن صفاراً. بَيدَ أنّ هذه البيضة التي صارت فرّوجاً، لو وضعنا جانباً كونها فرّوجاً ( وهو صورة )، وأعدنا هذه المادّة إلی الوراء عشرين يوماً، لكانت البيضة موجودة في ظرف قبل عشرين يوماً. الاشياء في عالم الوجود باقية دوماًإنّنا نولد من الاُمّ ونطوي مراحل معيّنة واحدة بعد الاُخري، فجميع هذه الصور المختلفة والحالات المتفاوتة موجودة في عالم الواقع وعالم الكون والوجود. إلی أن ذهبنا إلی المدرسة وصرنا شباباً، ثمّ شيوخاً، وها نحن نقترب من مرحلة الموت ونرحل عن هذه الدنيا. فجميع هذه التغيّرات والتحوّلات موجودة في عالم الواقع وعالم نفس الامر وعالم الوجود، إلاّ أ نّنا نجهل ذلك. لماذا؟ لا نّنا موجودون زمانيّون ومكانيّون، ولانّ الزمان والمكان من آثار وشرائط تشخّص طبيعتنا. كما أنّ أحد الاعراض التسعة العارضة علي جوهر وجودنا هو أين ( المكان )، والآخر متي ( الزمان ). أي باعتبار أنّ تشخّصنا الفعليّ منوط بالزمان والمكان، فإنّنا لهذا ندرك هذا الزمان الحاضر. ولانّ الزمان والمكان كليهما من شرائط التشخّص، فإنّ وجودنا الفعليّ وشخصيّتنا الطبيعيّة قائمة بهذين الاثنين. وهكذا فقد مرّ أمسُ وأختفي عن الانظار، ومرّ قبله أمسُ الاوّل، كما أنّ جميع الامكنة الموجودة في الدنيا ـعدا مكاننا والحيّز الذي يشغله بدنناـ بعيدة عنّا ومهجورة. كما أ نّنا لسنا الآن ـولايمكن أن نكونـ في الامكنة التي كنّا فيها أمس وأمس الاوّل. وليس معني قولنا إنّها مرّت، أ نّها انعدمت وفنيت وضاعت في عالم الوجود، بل هي محفوظة جميعاً، كلاّ في موضعه. ولقد أَخَذَتْنَا من هناك ومن ذلك الزمان وجاءت بنا إلی الامام فوق مقطع الزمان، حتّي أجلستنا في هذه النقطة من الزمان والمكان. فاختفي ما سبق عن نظرنا، واستتر عن إدراكنا وإحساسنا. إنّ هذا العبد الحقير بهذا التشخّص وقيد التحيّز في هذا المكان، وقيد الوجود في هذا الزمان، مشهود الآن لجميع حضّار هذا المجلس، فأنا بمرأيً ومسمع منكم، لا شكّ في هذا الامر. لكنّ الساعة التي سبقت لي ليست موجودة الآن، بَيدَ أ نّها موجودة في الساعة السابقة. كما أنّ أمسي ليس موجوداً الآن، لكنّه موجود في ذلك الظرف الزمانيّ السابق. وهكذا فإنّ أمسي وأمسي الاوّل وشهري السابق وسنّتي السابقة، وهكذا عوداً إلی الوراء، وكلّ واحد من هذه التشخّصات والخصوصيّات موجود في ذلك الزمان وفي ذلك المكان، ومقترن بتلك الاعراض والخصوصيّات في عالم الوجود والواقعيّة والحقيقة. غاية الامر أنّ منتهي الإدراك ونحو التعقّل ليس بحيث يمكننا الآن أن ندرك الزمان السابق أو نفهم الزمان اللاحق، وإلاّ فإنّ الجميع موجود وحاضر في عالم الوجود وعالم التكوين. ونورد مثالاً لإيضاح هذا الامر: افرضوا أ نَّكم أخذتم حبلاً طوله عشرة أمتار، وصبغتم كلّ متر منه بلون خاصّ، فصبغتم المتر الاوّل ـمثلاًـ باللون الابيض، واللون الثاني بالاسود، والثالث بالاخضر، وهكذا إلی نهاية الحبل. ثمّ إنَّكم وضعتم عند طرف الحبل جرادة أو نملة لا تبصر إلاّ ما هو أمامها وقدراً ممّا حولها، فما الذي ستراه هذه الجرادة أو هذه النملة؟ إنَّها ستري حبلاً أبيضاً فقط ولا شيء آخر غيره. ذلك لانَّ امتداد شعاع بصرها ليس حادّاً بالقدر الذي يمكنها معه أن تري الالوان المختلفة إلی آخر الحبل. بل إنَّها لاتري ما بعد المتر الاوّل، وهو اللون الاسود. ثمّ إنّنا نمرّر هذا الحبل أمام أنظار هذه الحشرة ببطء، بحيث ينتهي اللون الابيض فتري اللون الاسود فقط. فإن سألناها: ما الذي حصل للحبل الابيض؟ لقالت: ضاع وفني. ومهما تلفّتتْ إلی هذه الجهة أو تلك لما شاهدت الحبل الابيض ولاالحبل الاخضر اللاحق في القطعة القادمة. وستقول هذه الحشرة أن ليس هناك شيء في العالم غير هذا الحبل الاسود. ثمّ نحرّك الحبل قليلاً إلی الامام بحيث تصبح القطعة الخضراء أمامها فستقول: لقد انعدم ذلك الحبل الاسود وفني، وليس هناك الآن مطلقاً غير الحبل الاخضر. وهكذا فكلّما قدّمنا الحبل إلی الامام فجعلنا الالوان الاُخري أمامها، فإنّها ستعتبر ذلك اللون موجوداً وستُنكر مطلقاً الالوان الاُخري سواءً كانت في هذا الطرف من الحبل أم ذلك. أي أ نّها ستُنكر كلّيّاً الالوان التي لم ترها سابقاً، كما ستنكر الالوان التي شاهدتها واختفت من أمام أعينها، وستعدّها جميعاً معدومة وفانية. وإذا ما سألناها: ما الذي جري لتلك الالوان؟ فإنّها ستجيب: لقد انعدمت وزالت. فإن قلنا: إنّها موجودة. فستردّ: ليست موجودة قطعاً. ونسألها: ما الدليل علي عدم وجودها؟ فتقول: لا نّي مهما فتحت عيني فحدّقت في هذا الجانب أو ذلك لمأرَ أبداً غيرالحبل الذي يقابلني الآن. إنّ الجرادة أو النملة صادقة في قولها، إنّها لا تري، لا نّها تتحدّث ضمن إدراكاتها التي هي مدي بصرها فقط، وهو ـ مثلاًـ بقدر رؤية مترٍ واحد. أمّا أنتم فتُلقون بنظرة واحدة فترون ـعلاوة علي الامتار العشرةـ مائة متر وألف متر من طرفي هذا الحبل. وهكذا فإنّ جميع هذا الحبل بألوانه المختلفة حاضر لديكم في آنٍ واحد ولحظة واحدة. فلايمكنكم القول بأنّ الحبل الابيض قد ضاع، أو أنّ الاصفر قد ضاع، أو أنّ الاسود قد ضاع، فالجميع موجود، إذ إنّ لإدراككم السيطرة والهيمنة علي جميع أقسام الحبل و أجزائه الوجوديّة. پشّه كي داند كه اين باغ از كِي است در بهاران زاد و مرگش در دي است يقول: « إنّ هذه البعوضة تولد في الربيع فتخرج من البيضة، ثمّ تموت في شهر دي ] أي في الشتاء [، فهي الآن تقفز في هذا الحقل، فأ نّي لها أن تعلم عن أصل هذا الحقل وأساسه؟ أو تعلم مَن رتّب هذا الحقل ونظّمه؟ أو تعلم مَن زرع أشجاره قبل مائة سنة، ومَن أجري القناة فيه قبل مائتي سنة؟ وأ نّي لها أن تعلم عن مستقبل هذا الحقل الذي سيعمّر عدّة مئات من السنين أو للالف سنة القادمة؟ إنّ البعوضة إنّما تعلم عن الحقل بما يوازي معيشتها فقط. وتبعاً للبراهين الفلسفيّة المتقنة، فليس هناك من موجود يصبح موجوداً ويصبح معدوماً في عين وجوده، فالوجود والعدم متناقضان، والموجود والمعدوم متناقضان، والبياض والسواد لايجتمعان. أيمكن ـ يا تري ـ أن تكون مصابيح هذا المسجد مُضاءة ومطفأة مظلمة في نفس الوقت؟ كلاّ بالطبع. نعم، يمكن أن تكون مطفأة مظلمة في لحظةٍ ما، ثمّ مضاءة في اللحظة التي تليها، ثمّ مطفأة بعد ذلك، إذ إنّ الإضاءة والظلمة المتعاقبة يمكن حصولها، أمّا حصولها في زمن واحد فأمر محال. وإذا ما ارتدي أحد رداء الوجود ثمّ صار معدوماً في زمن آخر، فقد صار معدوماً في زمن يلي الاوّل. ولكن أيمكن القول ـياتريـ إنّه كان معدوماً أيضاً في الزمن الاوّل. أنا الآن حيّ، ثمّ إنّني أرتحل إلی رحمة الله إن شاء الله، ولنيكون لي آنذاك حياة طبيعيّة. أفيمكن القول إنّني الآن لست حيّاً؟ بل أنا الآن حيّ، وسأبقي إلی الابد حيّاً في ظرف الزمن الحإلی ولن أكون ميّتاً. ذلك لانّ الحياة مفروضة في هذا المقطع من الزمان، والوجود مفترض في هذا المقطع، ولن يتبدّل الوجود في هذا المقطع في اللحظة التإلیة، ولن يطرأ عليه العدم. ثمّ إنّ الوجود سيتبدّل في المقطع اللاحق إلی عدم، ولن يكون لذلك ارتباط بهذا المقطع من الزمان. ومن ثَمّ، وتبعاً لهذا البرهان، فإنّ العدم محال بالنسبة لكلّ موجود ارتدي لباس الوجود في العالم، فكلّ شيء قد وجد، فإنّ انعدامه من المحال. افرضوا الآن أنّ هذا العمود الذي يحمل سقف المسجد معدوم في عين قيامه بحمل السقف. لا ريب أنّ ذلك من المحال. نعم، إن العمود قد يرفع السقف لالف سنة ثمّ ينهار، لكنّ هذه السنوات الالف التي كان يحمل السقف فيها ليس فيها عدم، أمّا حين ينهار فإنّ وجوده سيزول. وعليه فإنّ الوجود والعدم، والموجود والمعدوم لا يجتمعان، والشيء الذي وجد لن يرتدي لباس العدم في عين وجوده وزمن وجوده. جميع أعمال الإنسان حاضرة يوم القيامةأمّا الآن وقد اتّضح هذا المطلب، فنقول: إنّ الله سبحانه قد أوجد عالماً في بداية الخلقة (ولننتعرّض فعلاً لبحث سلسلة المراتب الطوليّة ونكتفي بالحديث عن المراتب العرضيّة). لقد خلق اللهُ العالم، وخلق الشمس والقمر والنجوم، ثمّ انقضت مدّة فخلق آدم، ثمّ ظهر أولاد من آدم وحوّاء، ونشأ منهم نسل البشر، ثمّ وُجدت أُمم وأنبياء، والواحد بعد الآخر، ثمّ زالت، حتّي وصل الدور إلی زمان خاتم الانبياء محمّد بن عبد الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، واستمرّ الامر من ذلك الزمان إلی زماننا هذا، وسيبقي من هذا الزمان إلی يوم القيامة، وبعد يوم القيامة إلی ما يعلمه الله تعإلی. علي أنّ جميع هذه الموجودات السابقة والمستقبلة التي هي غيرموجودة الآن، ليست موجودة في ظرف هذا إلیوم، لا في ظروفها الخاصّة. أي أ نّها غيرموجودة في ظرف هذا الزمان وليس في موطنها، فهي موجودة جميعاً في أزمنتها. لقد جئتم بالماء في القدح، فهذا الماء ليس في « السماور »[5]، لكنكم لاتستطيعون القول مطلقاً إنّ الماء ليس موجوداً في القدح والسماور. إنّ الماء في القدح ـ مع قيد أ نّه في القدح ـ ليس موجوداً في مكان آخر، وتلك الموجودات ـ مع قيد وجودها في هذا الزمان ـ ليستموجودة في ذلك الزمان. كما أنّ الموجودات التي كانت موجودة في ذلك الزمان ـمع قيد وجودها في ذلك الزمانـ ليست موجوة في هذا الزمان. ولكن هل تكون موجودات ذلك الزمان غير موجودة في ذلك الزمان؟ من المحال أن لاتكون موجودة فكلّ موجود يوجد في أيّ زمان، هو ـبدون شكّـ موجود في خصوص ذلك الزمان. إنّ آدم أبا البشر علي نبيّنا وآله وعليه السلام غير موجود الآن، إلاّ أ نّه موجود في ذلك الزمان الذي خلع فيه الله عليه رداء الحياة. فآدم أبوالبشر حيّ، ولكن ليس في هذا الزمان، بل في ذلك الزمان. بَيدَ أنّ إدراكنا لايصل بحيث نري ذلك الزمان، وإذا افترضنا أنّ إدراكنا يصل إلی حيث نري ذلك الزمان، فسنري آدم آنذاك ونري حوّاء. وسنري إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في زمانهما، وسنتفرّج علي الآباء واحداً فواحداً إلی زمان رسولالله خاتم النبيّين وأمير المؤمنين عليهما الصلاة والسلام. سنري سلسلة آبائنا، وسنراهم متحرّكين جميعاً، وذوي إحساس جميعاً، وذوي شهود جميعاً، لا نّنا نراهم مع جميع أعمالهم طيلة حياتهم، لانتخطّاهم لحظة واحدة. وسنري موسي كليم الله في جبل الطور في تلك الليإلی الاربعين التي ذهب فيها لميقات الله ومناجاته. وسنري عيسي ابن مريم وجميع معجزاته طيلة فترة حياته. فَلِمَ لا نري ذلك الآن؟ ذلك لا نّنا ـكشأن تلك الجرادة والنملةـ لاندرك إلاّ ما يوجد أمامنا. نحن ندرك اللحظات الموجودة فعلاً، فلانري الآن اللحظات العديدة التي سبقت، وما هو موجود منها إنّما هو صورة في ذهنكم أمّا أصل تلك اللحظات فثابت في الذهن الكلّيّ لهذا العالم. وإذا فُرض الآن أ نّكم رقيتم إلی ما فوق عجلة الزمان، فإنّكم سترون الجميع؟ وسترون معجزات النبيّ موسي ويده البيضاء والعصا والثعبان، وترون معجزات رسولالله وجميع ما فعله الاوّلون والآخرون من الجنّ والإنس، وكلّ واحد من الجمادات سواء فوق الارض أم تحتها، وكلّ ما في السماء، وجميع الحيوانات والملائكة وطائفة الجنّ، فهي بأجمعها موجودة وثابتة في أمكنتها المعيّنة دون ذرّة واحدة من زيادة أو نقصان. لقد كان المرحوم والدي رحمة الله عليه يقيم صلاة الجماعة في هذا المسجد، وقد انقضي علي رحيله عن الدنيا ثلاثون سنة. افرضوا أ نّه كان قد أقام صلاة المغرب والعشاء قبل خمس وثلاثين سنة، وأ نّه جلس في مثل شهر رمضان هذا مقابل الناس وانهمك بتفسير سورة الاعلي، وأنّ کورة[6]عمامته كان آنذاك مفتوحاً ومُنساباً إلی الاسفل، وأنّ جزءاً من حافّة الکورة قد اكتنفه الغبار. ولو شاهدتم الآن ذلك المجلس بعين البيصرة لابعين البصر، أي بعينٍ فوق الزمان، لرأيتموه جالساً وقد استقبل الناس بوجهه، مشغولاً بتفسير سورة الاعلي، وکورة عمامته مسدل وقد أغبرّ جزء من حافّته، ولكانت جميع الخصائص، حتّي تغيّر السحنة والقسمات والتبسّم وحركة إلیدين، مشهودةً بأجمعها. ولو اجتمع الاوّلون والآخرون فأرادوا في عالم الوجود أن يزيلوا غبار العمامة ذلك ويعدمونه لما استطاعوا، ولو شاءوا أن يزيدوا أو ينقصوا من عدد أنفاسه لما استطاعوا، ولو شاءوا أن يعدموا قطرة عرق واحدة من جبينه لما استطاعوا. وما أعجب ما تبيّن آيات القرآن المباركة هذا الامر بجلإ ووضوح: وَوُضِعَ الْكِتَـ'بُ فَتَرَي الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يـ'وَيْلَتَنَا مَالِ هَـ'ذَا الْكِتَـ'بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَـ'هَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. [7]حين يُحشر البشر يوم القيامة للحساب ويرتقي فوق الزمان، فإنّه سيطّلع علي جميع أفعاله وتصرّفاته، فإن كانت له درجات في تهذيب النفس، فما أحراه أن يطّلع علي جميع الموجودات، فتكون بأجمعها حاضرة لديه. ولو حصل أن أُزيل الزمان عنّا نحن البشر الزمنيّين، لما رأينا الموجودات الفعليّة لوحدها، بل إنّ جميع الموجودات السابقة ستكون هي الاُخري حاضرة لدينا فعلاً، لانّ الزمان هو الذي يفصل بيننا وبين الموجودات السابقة أو اللاحقة، فإن ارتفعنا ـ فرضاً ـ عن الزمان، تساوي لدينا جميع الموجودات السابقة والحإلیة والمستقبلة، وأمكننا أن ننظر إلیها بأجمعها بنظرة واحدة فنطّلع علي حالها. وسيكون الماضي والمستقبل آنذاك بلامعني، وسيكون السبق واللحوق بلا معني، وسيكون زمن آدم أبي البشر واحداً مع زمن النبيّ نوح ومع زمن الرُّسل الآخرين ومع زمن قيام قائم آل محمّد أرواحنا له الفداء، أي أ نّه لن يكون هناك زمان عموماً ليُميَّز علي أساسه سابقٌ ولاحق، أو مقدّم ومؤخّر؛ بل سيكون الجميع حاضرين في صفّ واحد من الثابتات. أي أ نّنا سنكون في تلك الحال في أُفق عالٍ واحد، وسنكون مُهيمنين مُسيطرين علي جميع الموجودات في آنٍ واحد، وعلي جميع الموجودات الزمانيّة من زمان آدم إلی يوم القيامة. وكما أنّ الماضي لن يكون له من معنيً بالنسبة لنا، فإنّ المستقبل هو الآخر سيكون بلامعني. وسيكون كلّ عمل سيفعله أولادنا وأحفادنا في الدنيا إلی يوم القيامة حاضراً وموجوداً أمامنا. فإن سُئلنا: ماذا يدور في الدنيا؟ وماذا حدث أمس؟ فإنّنا سنتطّلع إلیه ونجيب علي الفور. وإن سألوا مثلاً: ماذا كان حديث تينك الحمامتين اللتين عشعشتا في السنة الفلانيّة في الجبل الفلانيّ؟ فإنّنا سنجيب فوراً ونصرّح بخصوصيّات حديثهما ونيّتهما. وإذا ما سُئلنا الآن: ماذا في المسجد؟ فإنّنا سنجيب فوراً: عدّة قطع من السجّاد، منبر، مكبّر للصوت، ساعة جداريّة، عدّة نسخ من القرآن الكريم، و... غير ذلك. بَيدَ أ نّنا ـباعتبارنا موجودين مكانيّينـ لننري مكاناً آخر غير هذا المسجد الذي نجلس فيه، فجدران المسجد هذه، وسقفه هذا حاجب وحائل. أمّا لو ارتفعنا عن المكان، فعشنا ـفرضاًـ في أُفق ليس فيه مكان، فإنّ التفاوت سيزول آنذاك بين هذا المسجد وبين غيره؛ فالجدار لم يعد حائلاً، وستصبح جميع الامكنة والمواضع فوق الارض مشهودة لنا ومعلومة لدينا. فإن سُئِلتم: ماذا يجري في مكّة المكرّمة؟ فإنّكم لن ترونها فقط، بل وستكونون هناك أيضاً! ماذا يجري في الكرة الارضيّة؟ ماذا يجري في كوكب النبتون؟ ماذا يجري في الشمس والقمر والزهرة والمجرّات؟ إنّكم ستجيبون علي الفور علي جميع ذلك وكما أنّ اللازمان له السيطرة علي جميع الازمنة، فإنّ اللا مكان له السيطرة هو الآخر علي جميع الامكنة. وهكذا فإنّ ما ورد في الاخبار والتواريخ من العلم الغيبيّ للانبياء علي نبيّنا وآله وعليهم السلام، ولرسول الله وأمير المؤمنين والائمّة عليهم السلام هو من هذا القبيل. روح الإنسان مجرّدة، ولذلك فهي مُلازمة لجميع الاعمالإنّنا نرحل عن دار الدنيا، فنذهب إلی حيث نعلو عن الزمان والمكان ـذلك لانّ نفسنا الناطقة مجرّدة وليست زمانيّة أو مكانيّة، في حين أنّ بدننا الطبيعيّ الذي يعيش في هذه الدنيا مادّيّ وغير مجرّدـ فنري أنفسنا آنذاك مهيمنين علي أعمالنا وسيرتنا وتصرّفاتنا في الدنيا. ولقد كانت نفسنا الناطقة ـ وهي روح قدسيّة ـ حبيسة قفص البدن أيّاماً معدودة، أسيرةَ المادّة والماء والعلف، أمّا حين يتحطّم القفص فتحلّق عإلیاً، فإنّها ستري نفسها طليقةً في عالم القدس وفي فضاء التجرّد اللا متناهي، فهي مطّلعة علي كلّ مكان، ولها المعيّة مع كلّ شخص ومع كلّ شيء. ترا ز كنگرة عرش ميزنند صفير ندانمت كه در اين دامگه چهافتاده است كه اي بلند نظر شاهباز سدره نشين نشيمن تو نه اين كُنج محنت آباد است غلام همّت آنم كه زير چرخ كبود زهر چه رنگ تعلّق پذيرد آزاد است [8] * * * اگر چه مستي عشقم خراب كرد ولي اساس هستي من زان خرابي آباد است گداي كوي تو ازهشت خُلد مستغني است اسير بند تو از هر دو عالم آزاد است [9] إنّ نفسنا الناطقة، أي حقيقة إنسانيّتنا التي هي خليفة الله، ليست زمانيّة ولامكانيّة، فجعلها الله متعلّقة بالمادّة، أي بالبدن الزمانيّ المكانيّ. لذا فإنّنا سنكون أسري ما دمنا متمسّكين بالمادّة. فنحن نريد الاطّلاع علي عالم التجرّد وسعة اللا زمان واللا مكان، إلاّ أنّ العلائق المادّيّة والهوي والآمال البعيدة تفصل بيننا وبين ذلك العالم. ومهما نادي الانبياء والاولياء حرم قدس الربّ المنّان: افتحوا أعينكم! إصغوا أسماعكم؟ أفرغوا قلوبكم من حبّ الدنيا، لتكونوا دوماً خفيفي الحمولة، خفيفي الحركة، وليكون الرجوع إلی عالم الابديّة سهلاً لكم! فإنّ الرائحة العفنة لجيفة الدنيا قد خدّرت مشاعرنا وأفسدتها بحيث صرنا لانجيب بالإيجاب علي نداء أُولئك الاجلاّء. إِنَّا لِلَهِ وَإِنَّآ إلیهِ رَ ' جِعُونَ. [10] يَـ'´أَيـُّهَا الإنسَـ'نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلی' رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَـ'قِيهِ. [11] إنّ علينا في النهاية أن نقطع عن أنفسنا علائق الدنيا، ونرتدي رداء الوجود وسعة فضاء القدس، فإن لم نفعل ذلك اختياراً وطوعاً، فإنّ الموت المكتوب علي جبين جميع البشر، والحركة من عالم المادّة والمدّة والورود إلی عالم التجرّد سيكون سيراً تكوينيّاً للجميع، وسيصل الجميع ـ من ثَمّ ـ إلی صور الاعمال. سواءً في ذلك السعيد منهم والشّقيّ، المؤمن منهم والكافر؛ الجميع سيصلون إلی حيث يدركون وجودهم المجرّد. وحين سيدركون إدراكاً مجرّداً، فإنّهم سيمتلكون السيطرة علي جميع الاعمال التي فعلوها، وسيدركون أنفسهم مع جميع الاعمال التي اجترحوها، مع جميع أنواع الثواب وجميع أنواع العذاب. ولن يروا أنفسهم فقط، بل وسيدركونها ويفهمونها. وكما ندرك في الدنيا أنفسنا وأعمالنا، فإنّهم سيدركون أنفسهم وجداناً مع جميع الاعمال والنوايا. في الردّ علي شبهة الآكل والمأكولالردّ علي شبهة الآكل والمأكول: إنّ هناك جنّة وناراً. فأيّ جنّة وجهنّم أعلي من أن تظهر للإنسان هذه الصور التي تنشأ إثر الاعمال. بل هي نفس الاعمال الحسنة وحقائقها؟ ومن أن تبرز للإنسان تلك الاعمال القبيحة مع حقائقها أيضاً؟ سينكشف للإنسان ذلك الاستكبار والتمرّد والفرعونيّة التي بدرت منه، وتلك الغفلات التي كانت له في الدنيا، والتي تمرّد وعصي بدافع منها، كما سينكشف له تلك الملامح الملكوتيّة والحقيقيّة. أي أنّ الإنسان سيدرك نفسه دفعةً واحدة مع جميع أعماله التي فعلها طيلة مدّة عمره. وتلاحظون ـ بهذا البيان ـ كم هي واهية شبهة الآكل والمأكول؟ وكم هي بعيدة عن مرحلة التحقيق؟ فتلك الشبهة إنّما تعتمد علي مبني أصالة المادّة؛ وأصالة المادّة في أنّ شيئيّة الشيء قائمة علي ذلك الشيء، وهو كلام واهٍ وضعيف بحيث يهزأ به الاطفال، بل إنّ الحيوانات تتخطّاه فلاتُلقي له بالاً. ذلك لا نّكم لو ألقيتم قطعاً من السكّر في الخلّ، ثمّ أعطيتموه للطفل فإنّه لن يتناوله مع أنّ المادّة نفس المادّة، لانّ ذلك الطفل يعلم أنّ شيئيّة السكّر إنّما هي بصورة السكّر لا بمادّته. ولو لطّختم التبن والبرسيم بالخلّ، لما أكله الحيوان آنذاك، لا نّه يلتفت إلی الصورة لاإلی المادّة. إِذْ صُوَرةٌ بِصُورَةٍ لاَ تَنْقَلِبْ عَلَي الهَيُولَي الاْنْحِفَاظُ مُنسَحِبْ إنّ جميع الاجساد والابدان ستُحشر بأجمعها يوم الجزاء، وسيُحشر الآكل والمأكول بتمامها وكمالهما؛ علي أنّ شبهة الآكل والمأكول قائمة علي أساس أصالة المادّة، وليست المادّة شيئاً، بل هي أمر مُبهم لا اسم له ولاتحصّل ولاوجود ولاشخصيّة، بل إنّ حقائق الاشياء بصورها، وهذه الصور ثابتة بالمادّة فهي لا تختلط ولا تمتزج ببعضها. كما أنّ الصورة لاتنقلب إلی أُخري، فتحفظ هيولي ومادّة تلك الصور بذلك التشخّص، وهذا الحفظ سارٍ وجارٍ علي الدوام. فَفِي وِعَاءِ الدَّهْرِ كُلٌ قَدْ وُقِي مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ عِنْدَهُ بَقِي ومع أنّ الصور مختفية عنّا، وأنّ حجاب المادّة والمدّة والزمان والمكان لا يدعنا لحظة واحدة ندرك جميع الصور، إلاّ أنّ جميع الصور، وجميع النفوس وجميع الاشياء، وجميع الموجودات، وأعمال كلّ واحد، ثابتة وموجودة في موضعها في ظرف العصر، وعالم الدهر وعالم الوجود والتكوين. كما أنّ العمامة ذات الکورة الساقط المغبرّ موجودة إلی جانب ذلك وفي موضعها، ومنظر أُولئك الذين شربوا شايهم المرّ قبل ثلاث سنوات فتناولوا معه حبّة سكّر واحدة محفوظ بهيئته. ومجلس الذنب لذلك الذي أذنب محفوظ، شأنه شأن مجلس الطاعة المحفوظ بعينه لذلك الذي أطاع. فهذه الاعمال مسجّلة ومدوّنة مع خصائصها ودقائقها وظرافتها، ومع نيّتها والهدف المقصود بها، بحيث إنّ الآلاف من البشر لو شاءوا تدوين ذلك بذلك القدر من الدقّة والصحّة، ومع حفظ الشرائط والمقدّمات والتقدّم والتأخّر لما أمكنهم ذلك. الآيات الواردة في الردّ علي شبهة الادكل والمأكول.بَيدَ أنّ الوجود يستلزم الوجود، ولا يمكن ان يتبدّل إلی العدم، فهم يحافظون عليها جميعاً ويحرسونها في ظرف الدهر وفي عالم الوجود والحقيقة. وبالرغم من أ نّها تنفد لدينا وتهلك وتفني، إلاّ أ نّها لاتفني عندالله عالم السرّ والخفيّات. فذلك العمل الذي فعلناه صار خفيّاً بالنسبة لنا، لكنّه حاضر عندالله العليم الخبير. لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَلاَ فِي الاْرْضِ.[12] أوَ لم يقل سبحانه: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقً. [13] إنّ هذه الاعمال التي نقوم بها لها صورتان وجانبان، جانب طبيعيّ ظاهريّ منسوبٌ لنا، وجانب ملكوتيّ وباطنيّ منسوب إلی الله تعإلی. فالجانب الظاهريّ معرّض دوماً للهلاك والفناء والاضمحلال، أمّا الجانب الباطنيّ! ( أي الوجهة الإلهيّة الملكوتيّة ) فثابت علي الدوام ومتحقّق في عالم الخارج عندالله سبحانه. تُبْلَي إِذَا غِطَا زَمَانِنَا انْخَزَلْ مَرَاتِبُ السَّيَّالِ مَعْ كُلِّ عَمَلْ وحين ينخزل غطاء الزمان وينشق، فإنّ الاعمال التي فعلناها ستظهر دفعةً واحدة لنا مع جميع الموجودات التدريجيّة التي ظهرت واختفت في هذا العالم بصورة متعاقبة. وحين يأتي الموت الطبيعيّ أو الاختياريّ اختياراً أو اضطراراً، فسيتّضح آنذاك ما الذي وراء الستار والغطاء؟ وما الاعمال التي فعلناها وكنّا نتخيّل دوماً أ نّها زالت؟ وأنّ فلاناً لميطّلع علي عملنا، وأنّ أحداً لم يطّلع علي هذا العمل، وأ نّه لم يعلم بالفعل الفلانيّ. نتخيل أ نّنا فعلنا العمل الفلانيّ! فلم يعلم به أحد والحمد للّه. ونتخيّل أ نّنا سبقنا الله تعإلی وخلّفناه وراءنا. لكنّنا لم ندرك ولمنفهم أبداً، ثمّ جئنا الآن هنا، فانخزل الغطاء والستار من أمام الابصار، ولميدر في خُلدنا أ نّنا ذخرنا ذلك وجمعناه. ثمّ يتصاعد صراخ الإنسان: ما الخبر يا إلهي؟ أيّ عالمٍ هذا؟ أيّ كتابٍ هذا؟ فَذَلِكَ الكِتَابُ لَنْ يُغَادِرَا شَيْئاً صَغَائِراً وَلاَ كَبَائِرَا [14] ويَوْمَ نُسَيّـِرُ الْجِبَالَ وَتَرَي الاْرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـ'هُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً* وَعُرِضُوا عَلَي' رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـ'كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَـ'بُ فَتَرَي الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَـ'وَيْلَتَنَا مَالِ هَـ'ذَا الْكِتَـ'بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً الآ أَحْصَـ'هَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. [15] إنّ جميع الاعمال التي فعلها الإنسان إنّما فعلها بنفسه، فهي بعينها حاضرة أمامه، وآنذاك سيعلم الجميع أنّ الله لم يظلم أحداً، وأنّ هذه الاعمال بهذه الصور القبيحة الكريهة هي عين الاعمال التي اجترحها الإنسان بيده، وقدّمها أمامه، فلقد سعّر جهنّم بيده، وغرس أشجار الجنّة بيده، وجعل بيده نسائم الجنّة تهبّ علي مشامه، وسعّر لظي جهنّم وأشعلها بِيَدِهِ وبشرارته. زَاهِدْ مَنَ آلاَّدْمَا جَهَنَّمْدَه اُودْ اُولْمَارْ اُلاَّرْ كِهْ يَا نُولاَّرْ اُودِي بُورْدَانْ آپَارُو لاَّر يقول: لا تخدعني أيّها الزاهد، فليس هناك في جهنّم من نار. إنّ الذين يحترقون هم الذين يصطحبون النار معهم من الدنيا. ارجاعات [1] ـ الآيتان 3 و 4، من السورة 75: القيامة. [2] ـ «الاسفار الاربعة» بحث المعاد، ج 9، ص 200، الطبعة الحروفيّة. [3] -الکیموس:کلمةیونانیة تعنی حالةالطعام بعدهضمه فی المعدة.(المنجد). [4] ـ «المنظومة السبزواريّة» ص 345، طبعة ناصري. [5] ـ السماور وعاء معدنيّ في وسطه مكان لإشعال النار، يستعمل لغلي الماء.(م) [6] -کورة:دوره لف العمامه.(المنجد). [7] ـ الآية 49، من السورة 18: الكهف. [8] ـ «ديوان حافظ» حرف التاء، ص 10، الغزل رقم 15: طبعة پژمان. يقول: «إنّهم ينادونك من شرفات العرش، أن ما الذي وقع في هذه الاحبولة والمصيدة؟ فيا أيّها الصقر ذو النظر الثاقب، المستقرّ في سورة المنتهي! ليس مأواك هذه الخربة المبنيّة بالمحنة! تأسرني همّة مَن تحرّر طليقاً من كلّ ما يُتعلَّق به تحت هذه السماء الزرقاء». [9] ـ نفس المصدر، الغزل 17. يقول: «مع أنّ نشوة العشق وسُكره قد بعث فيّ الخراب، لكنّ أساس وجودي عامرٌ من هذا الخراب. (أي أنّ دمار العشق ليس إلاّ عُمراناً). إنّ من شحذ في حيّك لمستغنٍ عن الجِنان الثمانية، ومن أسره قيدك فهو حرٌّ عن العالمين». [10] ـ النصف الثاني من الآية 156، من السورة 2: البقرة. [11] ـ الآية 6، من السورة 84: الانشقاق. [12] ـ مقطع من الآية 3، من السورة 34: سبأ. [13] ـ صدر الآية 96، من السورة 16: النحل. [14] ـ الابيات المذكورة للحكيم السبزواريّ، وذلك في «المنظومة» ص 345 و 346. |
|
|