|
|
الصفحة السابقة
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم وصلَّي الله علي محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـ'نِ الرَّحِيمِ * إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّـِرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ.[1] أي أنّ نفس الإنسان ستعلم الاعمال التي قدّمتها سابقاً في قديم الايّام، والاعمال التي قدّمتها أخيراً في الازمنة الحديثة. وبهذا المعني جاءت الآية المباركة الثانية من السورة 48: الفتح: لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. بيان المرحوم صدر المتأ لّهين الشيرازيّ بشأن العقائد المختلفة في مسألة المعاد.العقائد المختلفة في المعاد حسب نقل صدر المتألّهين: ينقل المرحوم صدرا رضوان الله عليه مطالب في « الاسفار » في عقائد الناس المختلفة في كيفيّة المعاد، وهي مطالب تستحقّ التأمّل، يقول فيها: إنّ من الاوهام العامّيّة والآراء الجاهليّة رأي من ذهب إلی استحالة النفوس والاجساد وامتناع أن يتحقّق في شيء منهما المعاد، وهم الملاحدة و الطباعيّة [2] و الدهريّة وجماعة من الطبيعيّين و الاطبّاء الذين لااعتماد عليهم في الملّة، ولا اعتداد برأيهم في الحكمة. زعماً منهم أنّ الإنسان ليس إلاّ هذا الهيكل المحسوس حامل الكيفيّة المزاجيّة وما يتبعها من القوي والاعراض، أنّ جميعها ممّا يعدم بالموت ويفني بزوال الحياة ولايبقي إلاّ الموادّ المتفرّقة، فالإنسان كسائر الحيوان والنبات إذا مات فات، وسعادته وشقاوته منحصرتان فيما له بحسب اللذّات والآلام البدنيّة الدنيويّة. وفي هذا تكذيب للعقول علي ما رآه المحقّقون من أهل الفلسفة، وللشرع علي ما ذهب إلیه المحقّقون من أهل الشريعة. والمنقول من جإلینوس في أمر المعاد هو التردّد والتوقّف بناءً علي توقّفه في أمر النفس أ نّه هل هي المزاج فتفني بالموت ولايعاد، أم هي جوهر مجرّد فهو باقٍ بعد الموت فلها المعاد. ثمّ من المتشبّثين بأذيال العلماء من ضمّ إلی هذا أنّ المَعْدوم لاَ يُعَادُ، فإذا انعدم الإنسان بهيكله لميمكن إعادته وامتنع الحشر. والمتكلّمون منعوا هذا بمنع امتناع إعادة المعدوم تارةً، وبمنع فناء الإنسان بفساد هيكله أُخري. فقالوا: إنّ للإنسان أجزاء باقية إمّا متجزّية أو غيرمتجزّية، ثمّ حملوا الآيات والنصوص الواردة في بيان الحشر علي أنّ المراد جمع الاجزاء المتفرّقة الباقية التي هي حقيقة الإنسان. والحاصل أنّ أصحاب الكلام ارتكبوا في تصحيح المعاد أحد الامرين المستنكرين المستبعدين عن العقل بل النقل، ولا يلزم شيء منها. بل العقل والنقل حاكمان بأنّ المُعاد في الآخرة هو الذي كان مصدر الافعال ومبدأ الاعمال مكلّفاً بالتكإلیف والواجبات والاحكام العقليّة والشرعيّة. ثمّ لايخفي أنّ الشهبة لاتنقلع عن أراضي أوهام الجاحدين المنكرين للحشر والقيامة، إلاّ بقطع أصلها. وهو أنّ الإنسان بموته يفني ويبطل ولا يبقي، لا نّه ليس إلاّ الهيكل مع مزاج أو صورة حالّة فيه. وقد مرّ قطع هذا الاصل مستقصي. وقد اتّفق المحقّقون من الفلاسفة والملّيّين علي حقّيّة المعاد وثبوت النشأة الباقية، لكنّهم اختلفوا في كيفيّته، فذهب جمهور الإسلاميّين وعامّة الفقهاء وأصحاب الحديث إلی أ نّه جسمانيّ فقط بناءً علي أنّ الروح عندهم جسم سارٍ في البدن سريان النار في الفحم والماء في الورد والزيت في الزيتونة، وذهب جمهور الفلاسفة وأتباع المشّائين إلی أ نّه روحانيّ، أي عقليّ فقط، لانّ البدن ينعدم بصوره وأعراضه لقطع تعلّق النفس عنها. فلايُعاد بشخصه تارة أُخري، إذ المعدوم لا يعاد. والنفس جوهر مجرّد باق لاسبيل إلیه للفناء، فتعود إلی عالم المفارقات لقطع التعلّقات بالموت الطبيعيّ. وذهب كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلّمين، كحجّة الإسلام الغزّإلیّ و الكعبيّ و الحليميّ و الراغب الإصفهانيّ، وكثير من أصحابنا الإماميّة كالشيخ المفيد وأبي جعفر الطوسيّ والسيّد المرتضي والعلاّمة الحلّيّ والمحقّق (الخواجة نصيرالدين الطوسيّ) رضوان الله تعإلی عليهم أجمعين إلی القول بالمعادين [3]جميعاً ذهاباً إلی أنّ النفس مجرّدة تعود إلی البدن، وبه يقول جمهور النصاري والتناسخيّة، إلاّ أنّ الفرق بأنّ محقّقي المسلمين ومن يحذو حذوهم يقولون بحدوث الارواح وردّها إلی البدن لا في هذا العالم، بل في الآخرة، والتناسخيّة بقدمها وردّها إلی البدن في هذا العالم، ويُنكرون الآخرة والجنّة والنار الجسمانيّتين. ثمّ إنّ هؤلاء القائلين بالمعادين جميعاً اختلفت كلماتهم في أنّ المعاد من جانب البدن، أهو هذا البدن بعينه أو مثله، وكلّ من العينيّة أو المثليّة أيكون باعتبار كلّ واحد من الاعضاء والاشكال والخطوط أم لا، والظاهر أنّ هذا الاخير لم يوجبه أحد، بل كثير من الإسلاميّين مال كلامهم إلی أنّ البدن المُعاد غير البدن الاوّل بحسب الخلقة والشكل. وربّما يستدلّ عليه ببعض الاخبار المذكورة فيها صفات أهل الجنّة والنار ككون أهل الجنّة جرداً مرداً، وكون ضرس الكافر مثل جبل أُحد. وبقوله تعإلی: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـ'هُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ. [4] وبقوله تعإلی: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ بِقَـ'دِرٍ عَلَي'´ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ. [5] فإن قُلت: فعلي هذا يكون المثاب والمعاقب باللذات والآلام الجسمانيّة غير مَن عمل الطاعة وارتكب المعصية. قيل في الجواب: العبرة في ذلك بالإدراك وإنّما هو للروح ولو بواسطة الآلات وهو باقٍ بعينه، ولهذا يُقال للشخص من الصبا إلی الشيخوخة إنّه هو بعينه وإن تبدّلت الصور والمقادير والاشكال والاعراض، بل كثير من الاعضاء والقوي، ولا يُقال لمن جني في الشباب فعوقب في المشيب إنّها عقاب لغير الجاني، هذا تحرير المذاهب والآراء، والحقّ كما ستعلم أنّ المُعاد في المعاد هو هذا الشخص بعينه نفساً وبدناً، فالنفس هذه النفس بعينها، والبدن هذا البدن [6]بعينه، بحيث لو رأيته لقلت رأيته بعيني فلان الذي كان في الدنيا. وإن وقعت التحوّلات والتقلّبات إلی حيث يُقال هذا ذهب وهذا حديد، وربّما ينتهي في كلاهما إلی حيث يتّحدان ويصيران عقلاً محضاً واحداً، ومن أنكر ذلك فهو مُنكر للشريعة ناقص في الحكمة، ولزمه إنكار كثير من النصوص القرآنيّة. [7] في الردّ علي الفخر الرازيّ الذي يعتبر المعاد طبيعيّاً مادّيّاًويعدّ كثيرٌ من التكلّمين كالفخر الرازيّ ومن حذا حذوه في باب الاعتقاد بحشر الاجساد، المعادَ مادّيّاً طيعيّاً بهذه المادّة الكثيفة الظلمانيّة. ولإيضاح مرامهم فإنّنا نورد عين عبارات صدر المتألّهين: نظرية المتكلّمين في المعاد الجسمانيّ: إنّ المعاد عندهم عبارة عن جمع متفرّقات أجزاء مادّيّة لاعضاء أصليّة باقية عندهم، وتصويرها مرّة أُخري بصورة مثل الصورة السابقة ليتعلّق النفس بها مرّة أُخري، ولم يتفطّنوا بأنّ هذا حشرٌ في الدنيا لافي النشأة الاُخري، وعودٌ إلی الدار الاُولي دار العمل والتحصيل لاإلی الدار العقبي دار الجزاء والتكميل؛ ( وهي عقيدة تعود إلی التناسخ ) فأين استحالة التناسخ؟ وما معني قوله تعإلی: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلَي'´ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـ'لَكُمْ نُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَتَعْلَمُونَ. [8] وقوله تعإلی: نَحْنُ خَلَقْنَـ'هُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَـ'لَهُمْ تَبْدِيلاً. [9] ولا يخفي علي ذي بصيرة أنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يُباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين، وأنّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلی الله أو القرب منه، لا العود إلی الخلقة المادّيّة والبدن الترابيّ القذر الظلمانيّ. استدلال الفخر الرازيّ علي المعاد الطبيعيّ، والردّ عليهثمّ جعل الفخر الرازيّ في « التفسير الكبير » يستدلّ علي إثبات ما فهمه وتصوّره من معني الحشر والمعاد بآيات قرآنيّة وقعت في باب القيامة والبعث، ويحملها علي ما وافق طبعه ورأيه. فقال: إنّ قوله تعإلی في سورة الواقعة من الآيات إشارة إلی جواب شبهة المنكرين الذين هم من أصحاب الشمال المجادلين، فإنّهم قالوا: أَنءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَ ' بًا وَعِظَـ'مًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ ءَابَآؤُنَا الاْوَّلُونَ. [10]وأُشير إلی إمكانها هذا بوجوه أربعة: أوّلها: قوله تعإلی: أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ و´ أَمْ نَحْنُ الْخَـ'لِقُونَ. [11] وثانيها قوله تعإلی: أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ و´ أَمْ نَحْنُ الزَّ ' رِعُونَ. [12] وثالثها قوله تعإلی: أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ. [13] والرابع من تلك الوجوه قوله تعإلی: أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمُ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ. [14] ثمّ نقل الفخر الرازيّ مطالب في تفسير الآيات وتأويلها علي مراده، بحيث تعسّف في حملها علي ما يخرج عن مفادها ومضمونها، وبحيث يمكن أن يُعَدّ تحريفاً معنويّاً للا´يات، وقد أعرضنا عن نقل كلامه اجتناباً للإطالة. ثمّ يقول المولي صدرا بعد ذلك: وهذا نهاية ما بلغ إلیه فهم أهل الكلام، وغاية ما وصلت إلیه قوّة نظر علماء الرسوم في إثبات النشأة الاُخري وحشر الاجسام ونشر الارواح والنفوس، وفيه مع قطع النظر عن مواضع المنع والخدش، وعن تحريف الآيات القرآنيّة عن معانيها والاغراض المتعلّقة بها المقصودة منها المنساقة هي إلیها ولاجلها ـكما سنشير إلیهـ أنّ ما قرّره وصورّه ليس من إثبات النشأة الاُخري وبيان الإيمان بيوم القيامة في شيء أصلاً. فإنّ الذي يثبت من تصوير كلامه وتحرير مرامه ليس إلاّ إمكان أن يجتمع متفرّقات الاجزاء المنبثّة في أمكنه متعدّدة وجهات مختلفة من الدنيا، ويقع منظمّاً بعضها إلی بعض في مكان واحد، ويفيض عليها صورة مماثلة للصورة السابقة المعدمة؛ فيعود الروح من عالمه التجرّديّ القدسيّ بعد أحقاب كثيرة كانت فيه في روح وراحة تارةً أُخري إلی هذا العالم، متعلّقة بهذا البدن القذر المظلم. وإنّما سُمّي يوم الآخرة بيوم القيامة، لانّ فيه يقوم الروح عن هذا البدن الطبيعيّ مستغنياً عنه في وجوده قائماً بذاته وبذات مُبدعه ومنشئه، والبدن الاُخرويّ قائم بالروح هناك، والروح قائم بالبدن الطبيعيّ هنا، لضعف وجوده الدنيويّ وقوّة وجوده الاُخرويّ. وبالجملة كلامه أشبه بكلام المنكرين للا´خرة منه بكلام المقرّين بها، فإنّ أكثر الطباعيّة والدهريّة هكذا كانوا يقولون، يعني أنّ الموادّ العنصريّة تجتمع بواسطة هبوب الرياح ونزول الامطار علي الارض ووقوع الاشعّة الشمسيّة والقمريّة وغيرهما عليها، فيحصل من تلك الموادّ إنسان وحيوان ونبات، ثمّ تموت وتتفسّخ صورها، ثمّ تجتمع تلك الاجزاء مرّة أُخري علي هذه الهيئة أو علي هيئة أُخري قريبة منها، فيحصل منها أمثال هذه الموإلید تارة أُخري. أمّا مع بقاء النفوس والارواح كما يقوله التناسخيّة، أو مع حدوث طائفة منها وبطلان طائفة سابقة. وليت شعري مَن الذي أنكر أن يحدث من ماء وتراب ومادّة بعينها تارةً بعد أُخري صورة شبيهة بالصورة الاُولي حتّي يكون المطلوب إثبات قدرة الله في ذلك. ردّ المتكلّمين علي شبهة الآكل والمأكولوجملة الامر أنّ هؤلاء القوم من أصحاب اللقلقة والكلام وأهل المجادلة والتخاصم لم يعلموا أنّ مقصود التكإلیف ووضع الشرائع وإرسال الرسل وإنزال الكتب ليس إلاّ تكميل النفوس الإنسانيّة، وتخليصها عن هذا العالم ودار الاضداد، وإطلاقها عن أسر الشهوات وقيد الامكنة والجهات، ولا يحصل هذا التكميل والتجريد إلاّ بتبديل هذه النشأة الداثرة المتجدّدة إلی النشأة الباقية الثابتة. وهذا التبديل إلی النشأة الباقية موقوف علي: أوّلاً: معرفتها والإيمان بوقوعها. وثانياً: أ نّها الغاية الاصليّة المقصودة من وجود الإنسان، التي يتوجّه إلیها بمقتضي فطرته الطبيعيّة لو لم ينحرف عن مسلكها بواسطة الجهالات وارتكاب السيّئات. وثالثاً: العمل بمقتضاها وما يسهل السبيل إلیها وتدفع القواطع المانعة عنها. فالغرض الإلهيّ من هذه الآيات الدالّة علي حقيقة المعاد هو التنبيه علي نحو آخر من الوجود، والهداية إلی عالم غائب عن هذه الحواسّ، باطن عن شهود الخلائق، وهو مسمّي بعالم الغيب وهذا بعالم الشهادة، وهو عالم الارواح وهذا عالم الاجساد. وكما أنّ الروح باطن الجسد، كذلك عالم الآخرة باطن هذا العالم. ثمّ لمّا كان إثبات نحو آخر من الوجود يخالف هذا الوجود الطبيعيّ الوضعيّ، ونشأة أُخري باطنة تُباين هذه النشأة الظاهرة أمراً صعب الإدراك مستعصياً علي أذهان أكثر الناس، جحدوه وأنكروه. وأيضاً لإلفهم بهذه الاجساد وشهواتها ولذّاتها يصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضادّ هذه النشأة، ولذلك لم يتدبّروا في تحقيقها وكيفيّتها، بل أعرضوا عنها وعن آياتها. كما قال تعإلی: وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَـ'مَوَ ' تِ وَالاْرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ. [15] وَرَضُوا بِالْحَيَـ'وةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا. [16] وأخلدوا إلی الارض كما قال: وَلَـ'كِنَّهُ و´ أَخْلَدَ إلی الاْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَيـ'هُ. [17] ونحن رأينا كثيراً من المنتسبين إلی العلم والشريعة انقبضوا عن إثبات عالم التجرّد، واشمأزّت قلوبهم عن ذكر العقل والنفس والروح ومدح ذلك العالم ومذمّة الاجساد وشهواتها المحسوسة ودثورها وانقطاعها، وأكثرهم توهّموا الآخرة كالدنيا ونعيمها كنعيم الدنيا إلاّ أ نّها أوفر وأدوم وأبقي، ولاجل ذلك رغبوا إلیها وفعلوا الطاعات لاجلها طالبين قضاءً لوطر شهوة البطن والفرج، ولاجل ما ذكرناه تكرّر في القرآن العظيم ذكر الآيات الدالّة علي النشأة الآخرة والبعث والقيام، ليتنبّه الإنسان من نوم الجهالة ورقدة الغفلة، فيتوجّه نحو الآخرة ويتبرّأ من البدن وقيوده، من الدنيا وتعلّقاتها، متطهّراً عن الادناس والارجاس، متشوّقاً إلی لقاءالله، ومجاورة المقرّبين والاتّصال بالقدّيسين. [18] وإجمال الامر، فإنّ محصّل كلام هذا الرجل الجليل هو أنّ عالم الآخرة غيرعالم الدنيا، وفي طول الدنيا وفي تكاملها وترقّيها. وإذا تقرّر أن تكون هذه المادّة القذرة الظلمانيّة الارضيّة هناك، فلن يكون هناك ـإذنـ عالم للا´خرة ونشأة للقيام والقيامة. بل سيكون العالم هناك عالمَ الدنيا. كما أنّ المعتقدين بمثل هذا المعاد قد أنكروا المعاد في الحقيقة ووطّنوا قلوبهم علي دوام الحياة الدنيا كفعل الطبيعيّين والدهريّين. كما أنّ المعاد الجسمانيّ ـلاالمعاد الطبيعيّ المادّيّـ من ضروريّات الدين وممّا يلزم الاعتقاد به، ويتكفّل العقل بإثباته؛ فالإنسان سيكون هناك ببدنه الجسمانيّ ـلاببدنه الطبيعيّ المادّيّـ مورد نعم الله أو عذابه. بَيدَ أنّ هؤلاء المنتسبين للعلم والشريعة لم يضعوا فارقاً بين الجسم والمادّة، فتوهّموا المعاد الجسمانيّ معاداً مادّيّاً طبيعيّاً، مع أنّ الاعتقاد بالمعاد المادّيّ أمرٌ مخالف لضرورات الإسلام ولا´يات القرآن الكريم وللروايات الواردة عن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، وعائد في حقيقة الامر إلی مذهب المادّيّين والطبيعيّين والقائلين بالتناسخ. علي أنّ الآية المباركة: وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا. [19] والروايات الدالّة علي أنّ جسم عالم الآخرة ألطف من هذه الاجسام، وأنّ الناس لايحتاجون في القيامة إلی دفع الاقذار، وأنّ جميع ما يأكلونه ويشربونه يصبح جزءاً من البدن، وأنّ أهل الجنّة يُحشرون في تلك النشأة في هيئة شباب نضرين بوجوه جميلة فاتنة، دون نقص عضويّ، كالعمي والصمم والعرج؛ وأنّ أهل جهنّم يحشرون في صور قبيحة منكرة عمياناً؛ تدلّ بأجمعها علي أنّ جسم ذلك العالم ليس كمادّة هذا العالم وطبيعته الكثيفة. بل هو جسم لطيف يظهر إثر تجلّي النفس وظهورها في ذلك العالم. وقد صوّرنا بحول الله وقوّته بإحدي الطرق المعادَ الجسمانيّ بهذا البدن العنصريّ والهيكل المادّيّ الطبيعيّ وسنورده في البحث الآتي إن شاء اللهتعإلی. بَيدَ أنّ ما أجاب به المتكلّمون علي الإشكالات الواردة علي المعاد الجسمانيّ مخدوش بأجمعه ولا يمكن قبوله. ولقد ذكر أنّ إحدي الإشكالات التي تورد علي المعاد الجسمانيّ شبهة الآكل والمأكول، وقد أجبنا بحمد الله ومنّه علي هذه الشبهة، فاتّضح جليّاً أ نّها تفتقر إلی الاساس الصحيح. وبالالتفاف إلی أنّ حقيقة الاشياء هي باعتبار أنّ شيئيّتها بصورتها لا بالمادّة، فإنّ تلك الشبهة ليست شبهة في الحقيقة، بل نوعاً من المغالطة. وكما قلنا فإنّ تشخّص الاشياء ووجودها، إنّما يحصل بالصورة التي هي محفوظة علي الدوام في عالم الوجود. لذا فإنّ شبهة الآكل والمأكول مردودة من أساسها ومنشأها. علي أنّ بعض المتكلّمين الذين لا تضلّع لهم في الحكمة الإلهيّة والعلوم العقليّة، قد أجاب علي هذه الشبهة بأنّ هذا الإشكال إنّما يرد حين يريد الله يوم القيامة بعث جميع بدن الآكل وجميع بدن المأكول. إذ إنّ هذا الإشكال سيكون وارداً آنذاك. فإنّه سُبحانه إن شاء حشر بدن الآكل، فسيكون بدن المأكول غير محشور بتمامه، وإن حَشَرَ المأكول، كان بدن الآكل غير محشور بتمامه. وهكذا فإنّ بدن زيد الآكل المؤمن، أو بدن عمرو المأكول الكافر سيكون غير محشور، مع أنّ ما خلقه الله تعإلی من هذين البدنينِ أجزاءهما الاصليّة التي يرتبط بها القوام الوجوديّ لهذين البدنينِ، وقوام زيد وعمرو. وذلك لانّ لكلّ شخص أجزاء أصليّة في بدنه، كما أنّ له أجزاء أُخري تُضاف إلی الاجزاء الاُولي. ومن ثَمّ فإنّ الاجزاء الزائدة الفائضة هي علي الدوام تلك التي تُزاد علي الاجزاء الاصليّة. فالطفل الذي يولد من الاُمّ ـمثلاًـ له بدن خارجيّ موجود ذو تشخّصات ومزايا، وله صفات خاصّة ومواصفات بلحاظ الشكل واللون والقامة وغير ذلك. حيث إنّ تلك المواصفات الاُولي ستبقي دون تغيير مهما نما بدنه بعدئذٍ وكبر أثر التغذية بالموادّ المختلفة. ولو كان هذا الطفل يزن عند ولادته ثلاثة كيلو غرامات مثلاً، فزاد وزنه في شبابه إثر النموّ إلی مائة كيلو غرام، فإنّ شكله وتناسب قامته وهيئة هيكله العظميّ ولون بشرته وخطوط باطن يده وقدمه وسائر الجهات التي تُعدّ من مميّزاته وعلاماته الفارقة ستبقي دون تغيّر مهما كان طفيفاً. ولو مرض هذا الشخص، أو أدرك سنّ الكهولة والشيخوخة، فهبط وزنه من مائة كيلو غرام إلی خمسين، لما طرأ علي خصائصه وعلاماته الفارقة تغيير ما. وهكذا فإنّ ما أُضيف إلی البدن أو أُنقص منه هو الاجزاء الزائدة الفائضة، أمّا الاجزاء الاصليّة فباقية في البدن علي الدوم، لايطرأ عليها الزوال والفناء والبوار أبداً. ولهذه الجهة فإنّ شكل أفراد البشر وشمائلهم ثابة لاتتغيّر، وهكذا يعرف الناس بعضهم بهذه المميّزات ويشخّصونهم عن غيرهم. ثمّ إنّ الله تبارك وتعإلی يبعث يوم القيامة هذه الاجزاء الاصليّة لبدن الآكل والمأكول. وكما قيل فإنّ تلك الاجزاء باقية وثابتة دوماً وغيرقابلة للفناء والبوار، لانّ قوام الابدان ووجودها بتلك الاجزاء. أمّا الاجزاء الفائضة الموجودة دوماً في هيئة زيادات، والتي لها دخول في بدن الإنسان وخروج منه، فهي تتبدّل إلی غذاء، وتتحوّل إلی دم، ثمّ إلی لحم وعظم، ثمّ تتحوّل إلی غاز لكونها بدل ما يتحلّل، فتنتشر في الفضاء؛ فهي جميعاً خارجة عن البدن. فيكون لبدن الإنسان حكم المجري، يرد فيه الماء باستمرار من جهة، ويخرج من الاُخري. وستكون الاجزاء الاوّليّة هي التي تشكلّ إنسانيّة الإنسان بلحاظ البدن والطبيعة. وهي ثابتة وباقية باستمرار، سواءً في الآكل أم في المأكول. أمّا الاجزاء الاُخري فلها حكم الماء الداخل من إحدي جهات مجري البدن والخارج من المجاري الاُخري، ومن جملتها جميع خلايا البدن. وحين يأكل الإنسان الآكل الإنسان المأكول، فإنّ الاجزاء الاصليّة والفائضة لبدن المأكول ستدخل بدن الآكل، فأمّا الاجزاء الفائضة فتبقي في بدنه وتتحوّل إلی غذاء، وتتحلّل وتستحيل عصارةً ودماً. وأمّا الاجزاء الاصليّة فلاتوقّف لها ولا استقرار، فهي تصبح دونما تغيّر أو تبدّل في هيئة بدل ما يتحلّل، فتخرج من بدن الآكل بلا فاصلة، كما أنّ الامر علي هذا النحو في المأكول أيضاً. والخلاصة فإنّ الاجزاء الفائضة لبدن المأكول ـوليس أجزاؤه الاصليّةـ هي التي تصبح جزءاً من بدن الآكل، ولا يلزم من ذلك ـوالحال هذهـ أيّ إشكال واعتراض. هذه هي الإجابة التي أجابوا بها علي الإشكال. إلاّ أ نّه قد اعتُرض علي هذه الطائفة من المتكلّمين بأنّ هذه الاجزاء الاصليّة للشخص المأكول لو صارت فعلاً أجزاءً فائضة في بدن الشخص الآكل، لصارت مبدأ موجود آخر، كأن تتبدّل في بطن المأكول إلی نطفة ـمثلاًـ فتكون مبدأً لتكوّن شخص ثالث. وفي هذه الحالة فإنّ الاجزاء الاصليّة للمأكول ستكون قد صارت أجزاءً أصليّة لذي نفس آخر. وهكذا فإنّ الإشكال سيتكرّر. ويجيب المتكلّمون بأنّ الله تعإلی يحفظ الاجزاء الاصليّة للمأكول، بحيث لاتصبح ضمن الاجزاء الاصليّة لموجودٍ آخر، والله تعإلی قادر علي حفظها. ومع أنّ الاجزاء الفائضة للمأكول ستصبح بأجمعها غذاءً للشخص الآكل، إلاّ أنّ هذه الاجزاء الاصليّة فقط تبقي من بينها دون أن تصبح غذاءً للا´كل، فتخرج من بدنه سالمة وتبقي محفوظة. وهكذا فإنّ هذه الاجزاء تدخل سالمة وتخرج سالمة. ومن ثَمّ فإنّ ذلك الموجود الذي ينشأ في بدن الآكل في هيئة نطفة يصبح مبدأ تكوّن إنسان ثالث قد تكوّن حتماً من الاجزاء الفائضة لبدن المأكول وليس من أجزائه الاصليّة. وللّه سبحانه من القدرة بحيث يمكنه حفظ تلك الاجزاء الاصليّة في خضمّ هذا الصراعات ومراتب الدخول والخروج، فلا يدع التغيير يطرأ عليها، ولا أن تصبح جزءاً أصليّاً لبدن الآكل، أو جزءاً أصليّاً لبدنٍ ثالث ينشأ من نطفة الآكل. وهكذا فإنّ هذه الاجزاء الاصليّة ستردّد في بطون الناس في الاحقاب المختلفة، فترد وتخرج إلی يوم القيامة دون أن تصبح جزءاً من بدنٍ من تلك الابدان. الردّ المخزي للمتكلّمين علي شبهة الآكل والمأكولوإجمالاً فقد شاءوا بهذه الاجوبة الفرار والتملّص من الإشكال بدلاً من الإجابة عليه، وذلك لا نّه لو كان هناك مثال في الدنيا أوهن من بيت العنكبوت لَكانَ جواب هؤلاء السادة. وذلك أوّلاً: لعلّ الله يحفظ تلك الاجزاء الاصليّة، ولعلّها لاتصبح جزءاً للا´ كل، والامر لايتمّ بـ « لعلّ » و « ليت » و « كأنّ » وأمثالها. إنّ علي من يخوض المسائل الفلسفيّة، وخاصّة أُصول العقائد، أن يُقيم البرهان الذي يجب أن تكون صغراه وكبراه يقينيّتينِ. لانّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين. ولا يمكن وضع أساس أصل اعتقاديّ بـ «ليت» و «لعلّ» و «ربّما» و «أظنّ»، فهي أشبه بالخطاب الذي لا ارتباط له بالقياس والبرهان. ولاسبيل في العلوم أبداً لمثل هذه الطرق والخطط التي لاتساوي قرشاً أسوداً. و ثانياً: لننظر إلی آدم أبي البشر الذي تزوّج من حوّاء فانتشر من نسله البشر في العالم: وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً. [20] أفكان جميع هذا النسل الكثير إلی يوم القيامة من الاجزاء الاصليّة لا´دم وحوّاء، أم من الاجزاء الفائضة؟ فإن كانوا من الاجزاء الاصليّة، فيتضّح بذلك أنّ جزءاً أصليّاً قد خرج من آدم فصار ولداً له. فإن شاء الله ـوالحال هذهـ حشر آدم يوم القيامة دون أجزائه الاصليّة المنفصلة عنه التي شكّلت أولاده إلی يوم القيامة، لكان هناك نقصان في أجزاء آدم الاصليّة، ولما حُشرت أجزاء آدم الاصليّة بكاملها. وبغضّ النظر عن ذلك، فكم سيتوجّب أن يكون آدم هذا من الضخامة وا لسمنة والقوّة بحيث يخرج منه إلی يوم القيامة أطفال في هيئة نطفة ـولو كانت بقدر ذرّة لا تُريـ فيتدفّق هذا النسل من صلبه بلاحصر ولانهاية! لقد كان حريّاً حقّاً بآدم هذا أن يكون أكبر من جبل أبي قُبيس، بل ومن أكبر جبال العالم، إذ لو فرضنا كلّ طفل بقدر ذرّة واحدة، لتوجب أن تكون في بدن آدم ذرّات بلا نهاية لتنتقل إلی أولاده في هيئة أجزاء أصليّة علي نحو الانقباض والتراكم وإلی يوم القيامة. وسيكون بدن آدم في هذه الحال كبيراً بلاانتهاء. بينما نعلم أنّ آدم أبا البشر لم يمتلك بدناً كهذا. وهكذا فإنّ المتكلّمين مُجبرين علي القول بأنّ أولاد آدم ليسوا من أجزائه الاصليّة، بل من أجزائه الفائضة الزائدة. لقد كانت لا´دم نفسه أجزاء أصليّة، ثمّ ظهر أولاده من الاجزاء الفائضة، كما أنّ الاولاد الذين ينشأون لافراد البشر، إنّما ينشأون من أجزائهم الفائضة لاالاصليّة. ومن ثَمّ فحين يحشرهم الله تعإلی، فلنيكون من أجزائهم الاصليّة شيء داخل الآكل، كما أ نّه نفسه سيكون وجوداً مستقلاً نشأ من أجزائهم الفائضة. وسيقال لهم إن أجابوا بهذه الإجابة ـوهم مُجبرون علي الالتزام بهذه المقولةـ إنّنا لانري تفاوتاً بين الاجزاء الاصليّة والفائضة! وأساساً فما الذي يعنيه تصنيفكم للاجزاء إلی أصليّ وفائض؟! فلقد فرضم حين وقعتم في مأزق شديد وضاقت عليكم الارض بما رَحُبت، أنّ آدم أو أولاده يمتلكون أجزاءً أصليّة وأجزاءً فائضة. ونسأل: ما هي هذه الاجزاء الاصليّة؟ وما هي الاجزاء الفائضة؟ أرونا إيّاها! ويقولون: إنّ الاجزاء الاصليّة هي الاجزاء الاُولي التي كان أصل الإنسان منها. ونقول: أيّها؟ أهي ذلك الطفل المولود في الدنيا حديثاً؟ فيجيبون: نعم! ونقول: لقد كان هذا الطفل في بطن أُمّه، فأضيفت له أشياء حتّي استوي وقدم إلی الدنيا، فما الذي كانت الاجزاء الاصليّة للجنين والطفل في الرحم؟ فيقولون: أجزاؤه الاصليّة هي النطفة التي استقرّت في الرحم فأُضيفت لها باستمرار إضافات، فنمت وكبرت حتّي بلغت هذا الحدّ. ونقول: فهل كانت الاجزاء الاصليّة جميع النطفة أم قدراً منها؟ ويجيبون: كانت ذرّة واحدة من النطفة تُدعي بالحويمن. وعليه فإنّ الله حين يحشر إنساناً وزنه في الدنيا أو حال الموت مائة كيلو غرام فيريد تعذيبه أو إثابته، فإنّه يبعث منه فقط حويمناً واحداً، أي ذرّة واحدة غير مرئيّة ( تشكّل جزءاً واحداً من أربعة ملايين جزء من القطرة الواحدة )، فيكون السؤال والجواب والعرض والصراط والكتاب والحشر والنشر والجنّة والنار بأجمعها لهذا الحويمن الواحد. فهم يصنعون منه بدناً فيجعلونه مورد الجزاء. نُقسم عليكم بالله، أضيّقةٌ هي شريعة الإسلام وفلسفته إلی هذا الحدّ، لنضطرّ من أجل الدفاع عنها إلی حشر أنفسنا في هذا المأزق، ونضعها بين هذه العجلات المسنّنة وهذه الفرضيّات المختلفة المجعولة الخاطئة؟! إلیس جعل الإنسان مادّيّاً في يوم القيامة، بل جعله ذرّة غيرمرئيّة ( حويمناً ) لعباً واستخفافاً بمقدّسات مقام الإنسان والجزاء والشريعة والخالق وعوالم الغيب؟ وعلاوة علي ذلك، فتعالوا وافصلوا الاجزاء الاصليّة عن الفائضة! ذلك لانّ هذه النطفة التي هي ذرّة واحدة ( حويمن ) حين تذهب إلی بطن الاُمّ فتضمّ إلی نفسها أجزاءً أُخري، فإنّ تلك الاجزاء ستصبح مثلها، وسوف لنيبقي ذلك الحويمن علي حاله بتلك الخصوصيّة والشخصيّة والصورة ثمّ يُضيف أشياء أُخري إلی ذلك، فالامر ليس كذلك. افرضوا أنّ لديكم قدحاً من الماء فصببتموه داخل طست فيه ماء، فإنّ ماء ذلك القدح لن يحفظ صورته الوجوديّة، بل سيفقدها جبراً فيشكّل ماء الطست مع ماء القدح الثاني والثالث ومجموع مياه مِائة قدح أو أكثر، ويتّخذ مجموع هذه المياه شكلاً واحداً. أضيفوا إلی الماء باستمرار قدحاً بعد آخر، فستشاهدون أنّ صورة القدح الاوّل وحجمه السابقين ليسا مشخّصين في الطست. ثمّ إنّه سيمتزج مع القدح الثاني والثالث والرابع بحيث لا يبقي منها أيّ أثر أبداً، فقد فقدت جميع المياه حدود وجودها وشخصيّتها وصارت في هيئة طست ماء بشكل وحجم خاصّين. والامر هو نفسه تماماً بالنسبة إلی النطفة التي هي مبدأ وجود الإنسان، فتلك الإضافات التي تزداد إلی النطفة المكوّنة من قطرة واحدة، بل من حويمن واحد، ستصبح جزءاً أصليّاً وتترك تلك الحالة الاُولي. ثمّ إنّ النطفة تكتسب حالات جديدة إثر التحوّلات والتغيّرات حتّي يولد الجنين. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ. [21] إنّ هذه الموجودات في حركة دائمة في عالم الخلقة، فهي ترتدي كلّ يوم لباساً جديداً، فتصبح خلقاً بعد خلق، وحالة بعد حالة. ومن ثَمّ فإنّ تلك الاجزاء الاصليّة لوجود الإنسان، التي دخلت فيها الاجزاء الفائضة صارت مجموعة واحدة لا تميّز فيها، فقد اتّخذت الاجزاء الفائضة صورة الاصليّة وصارت منها ودخلت ضمن تلك العائلة. إنّ بدن الطفل الذي كان قبلاً جنيناً، وقبل ذلك في هيئة نطفة، قد نمي واكتمل هيكله العظميّ. ولقد زالت تلك النطفة الاُولي التي كانت في صورة نطفة، وفقدت صورتها فلم تعد نطفة ولا حويمناً، ثمّ اتّخذت في اللحظة التإلیة صورةً أُخري فصارت شيئاً آخر أكبر ليست حقيقته نطفة، بل علقة في شكل وصورة دم متخثّر، ثمّ صارت في اللحظة الثالثة شيئاً آخر، وها قد صارت طفلاً وزنه ثلاثة أو أربعة كيلو غرامات قد امتزجت جميع أجزاء بدنه واختلطت مع بعضها، فظهر بدن الطفل في صورة واحدة في هذه الهيئة الملحوظة. وليس الامر بحيث إنّ تلك النطفة التي كانت مبدأ نشأة هذا الطفل وتكوّنه قد استقرّت الآن في زاوية من وجود هذا الطفل، فاختفت جنب قلبه أو في مخّه أو كبده، فهذا الكلام خاطي من وجهة النظريّة والفرضيّة العلميّة ومن وجهة العلوم التجريبيّة، ومن وجهة نظر الفلسفة والعلم أيضاً. ذلك لانّ النطفة قد فقدت صورتها الاُولي واتّخذت صورة أُخري، فلامعني ـعقلاًـ لان تكون تلك النطفة باقية بحدودها وخصائصها، وَلِذَلِكَ فَإنَّ التَّجْزِئَةَ وَالتَّفْكِيكَ بَيْنَ الاجْزَاءِ الاصْلِيَّةِ وَالفَائِضَةِ هِيَ أُصُولاً كَلاَمٌ مُفْتَعَلٌ لاَأَسَاسَ لَهُ. وتلاحظون ـ بناءً علي هذه النظريّة ـ أنّ المؤمن الذي هو الحويمن عند السادة المتكلّمين، يجب أن يكون قد صار جزء غذاء الآكلين، ثمّ خرج من مجاري البول والغائط لا´لاف المرّات، بل ملايين المرّات، وقد حفظهالله تعإلی، ولربّما كان الامر كذلك في جميع عصور نسل البشر التي لايعلم مقدارها إلاّ الله سبحانه. فإن قال المتكلّمون: إنّ أجزاء الإنسان الاصليّة في النطفة فقط، وإنّها تحكي عن جميع وجوده؛ فلماذا انتقلت في الخارج إلید والرجل والعين وغُرْلة آلة الرجولة[22] وغشاء البكارة وغيرها إلی هؤلاء الاطفال مع انعدام وجود أمثالها لدي أبائهم وأجدادهم وأسلافهم؟ وبغض النظر عن هذا المطلب، فما الذي تقولونه في الاجزاء الفائضة؟ إن قلتم إنّ الاجزاء الاصليّة عبارة عن جزء أصليّ في المخّ، أو جزء أصليّ في القلب أو الكبد، وإنّ الاجزاء الفائضة هي سائر الاعضاء والجوارح، وإنّ الشعر والاظافر من الاجزاء الفائضة، فإنّنا نأخذ جزءاً تعدّونه حتماً من الاجزاء الفائضة، كجلد البدن والاظافر، ونضعه تحت المطالعة والتحليل والتدقيق، فينتج أنّ جميع خصوصيّات ومشخّصات صاحبه الوجوديّة منعكسة في هذا الظُّفُر وفي هذا الجلد. فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّ ذلك الغذاء الذي يتناوله الإنسان، أي هذه التفّاحة وهذه الكمّثري، وهذه الخضروات، وهذا الخبز، ولحم الضأن الذي يتناوله الإنسان، لم يَعد في بدن الإنسان في هيئة الاغذية الاُولي ولا في هيئة تفاحة أو كمثّري أو لحم ضأن، فقد دخل البدن فتحلّل وصار جزءاً من بدن الإنسان، وتحوّل إلی لحم وعظم وعروق وشحم. ولقد زالت تلك الصور، فلم يعد هناك الآن جبن ولا حليب، بل إنّها الآن بدنكم الحاكي عنكم. لقد دخلت هذه الاجزاء الفائضة البدنَ وتحوّلت إلی لحم وعضلات وخلايا، فصارت لحمكم ومن أجزائكم الاصليّة، فهي تقف مع سائر الخلايا في صفّ واحد وكيفيّة واحدة دون أدني تفاوت. ولو اقتطعوا من لحم بدنكم قطعة، فأخذوها إلی المختبر فحلّلوا ذرّاتها، لقالوا في أيّ مكان من العالم إنّ هذا اللحم عائد إلی البدن الفلانيّ، ومن المحال أن يكون لحم فرد آخر، أو شبيهاً بلحم بدن آخر، ومن المحال أن يشتبه بلحم بدن آخر. وذلك لانّ هذا اللحم قد اختصّ بكم وانعكست فيه خصائص بدنكم، وصار ممثّلاً لكم حاكياً عنكم. إنّنا لانمتلك ـفعلاًـ جهازاً ولامختبراً ومحلاّ للتشخيص يمكنه تشخيص أنّ هذا اللحم عائد إلی بدنكم، بحيث يمكنه تمييزه وفصله وتشخيصه عن جميع لحوم تتبدّل في الخارج إلی الولد. إنّ النطفة إذا ما أُخذت من الإنسان من حيث المجموع، للزم من ذلك أن ينشأ من الشخص الاعمي طفل ينحو في رحم الاُمّ ويولد أعمي، بينما نري أنّ كثيراً من العميان يتزوّجون فينشأ منهم أطفال مُبصرون بأعين برّاقة لامعة، وهو أمر لا يخضع للحسابات، فطفل الاعمي ليس أعمي، كما أنّ طفلاً سالماً تامّ الخلقة يولد من الشخص الاعرج ومن المصاب بالفالِج ومن مقطوع إلید والرجل. فما هي إذَن الخصوصيّة التي تمتلكها تلك النطفة، بحيث تؤخذ من الشخص الاعمي ومن مقطوع إلید ومقطوع الرجل، فيوجد في الخارج شخص مُبصر له أعضاء وجوارح سالمة مستوية؟ لقد انقضي علي المسلمين أربعة عشر قرناً، وعلي إلیهود من أتباع موسي أربعة آلاف سنة وهم يختنون أولادهم، فيُولَد لهم طيلة هذه المدّة أطفال غيرمختونين، مع أنّ النطفة أُخذت من أب مختون. وقصّة بكارة الفتيات أعجب وأغرب، فمنذ بدايات التأريخ تولد الفتيات وهنّ يمتلكن غشاء البكارة، مع أنّ أُمّهاتهنّ كن لايمتلكنّه عند انعقاد النطفة، سالماً! أوَ ليس هذا استهزاءً وسخريةً بعالم الخلق وبناء الوجود الشامخ؟ أَوَرَدَتْ هذه الاجزاء الاصليّة والفائضة وتفكيكها علي هذا الصورة، في آيةٍ أو رواية ما، لتتابعوا الامر بهذه السماجة [23]وتجرّونه في هذه الهيئة الفاضحة؟! مَن جعلكم حرّاساً للموازين الإسلاميّة المتقنة، لتقوموا بِيَدٍ خإلیة عزلاء من الثروات العلميّة بحفظها وحراستها، بجعل أولياء الله والمؤمنين فضلات مدفوعة للكفّار؟ تَبَّاً لَكُمْ وَتَرَحَاً! بحث علميّ في أنّ جميع أجزاء البدن أصليّةبحث علميّ: ليس هناك أيّ تفاوت بين الاجزاء الاصليّة للإنسان والفائضة منها، فهذه إلید التي يمتلكها الإنسان ـمثلاًـ وهذه الرجل التي له، وهذه العين والاُذُن والكلية، وهذا الكبد والقلب والمخّ والشريان والوريد، وحتّي الشعر والاظافر، حاكية عن شخصيّته ووحدته. وهو أمر عجيب بل من أعجب الاُمور والمسائل. فالإنسان يتخيّل أنّ ممثّل الإنسان والذي جاء به إلی الوجود لايمكن أن يكون شيئاً غيرالنطفة، وأنّ النطفة شيء يحكي عن وجود الإنسان بتمام المعني، ولذا فإنّها أفراد العالم. وهذا الجهاز عجيب جدّاً، بَيدَ أنّ علم البشر لميصل إلی صنع مثل هذا الجهاز وهذا المختبر، إلاّ أنّ المطلب ثابت من وجهة نظر البراهين الكلّيّة العلميّة والفلسفيّة وليسمحلاّ للنقاش والشكّ. إنّ وجودكم موجود بأجمعه في قطعة اللحم هذه، أو في قطعة العظم هذه، أو قطعة الاظافر هذه أو في غيرها، أي أنّ هناك عين، وأُذن، ويد، ورجل، وقلب، ومخّ، وكبد، وشريان، ووريد، وكلّ شيء. وهو أمر عجيب جدّاً فتطلّعوا إلی فعل الله تعإلی وصُنعه! إنّنا نتخيّل أنّ جميع خصائص الإنسان الوجوديّة منعكسة في النطفة لوحدها، أي أنّ تلك الذرّة ( الحويمن ) تظهر الإنسان، مع أنّ كلّ ذرّة من ذرّات بدن الإنسان، سواءً اللحم أم العظم أم العروق أم الشحم أم الشعر أم الاظافر هي ممثّلة لإنسان كامل تامّ الخلقة. ولربّما سيُثير هذا الامر عجبنا الشديد أن كيف تكون كلّ ذرّة وخليّة في بدن الإنسان ممثّلة للإنسان، إلاّ أنّ التبحّر والممارسة والتضلّع في هذا الامر والورود في العلم، تثبت: أنّ جميع بدن الإنسان له حكم النطفة وحاكٍ عن جميع وجود الإنسان، بحيث لو استطاع البشر أن يأخذ ذرّة وخليّة من لحم البدن فيربّيها في محلّ مناسب بدرجة حراريّة خاصّة، بعيداً عن الآفات، كما تتربّي النطفة وتنمو في رحم الاُمّ، فتمرّ بمراحل معيّنة وتتبدّل إلی طفل، فإنّ تلك الخليّة ستمرّ بمراحل معيّنة وتحصل علي سبيل تكاملها، فتتبدّل تدريجيّاً إلی علقة، ثمّ إلی مُضغة، ثمّ إلی عظام، ثمّ يكسو اللحم تلك العظام وتنفخ فيه الروح فتظهر إلی ساحة الوجود في هيئة طفل ومولود كامل. وكما أنّ الفلاّح لا يحتاج في بعض النباتات إلی زراعة البذور، فيكتفي باقتطاع قطعة من ذلك النبات فيقوم بزراعة ذلك القلم، فنري بعد مدّة أنّ أرجاء الحديقة مملوءة بالاقلام الحيّة النامية؛ فإنّ من الممكن أن يصل تكامل سلسلة العلوم التجريبيّة البشريّة إلی درجة بحيث يأتي شخص فينتزع قلماً من قطعة لحم حيّ مقتطعة من بدن إنسان، فيُنشي مليون طفل من وزن قليل لايتجاوز مائة غرام. ويُستفاد من هذه المطالب المذكورة أنّ هناك إنساناً في عظم الإنسان، وأنّ هناك إنساناً في لحم الإنسان، وفي ظفر الإنسان، وإلاّ لما تبدّل إلی طفل. ويستفاد من أمر أنّ هناك إنساناً في جميع أجزاء البدن وذرّاته، أنّ الاجزاء الفائضة التي تدخل بدن الإنسان من الخارج، هي تماماً كتلك الاقداح من الماء التي كنتم تصبّونها في الطست، فهذه الاقداح المائيّة لها صفات معيّنه ما دامت لم تدخل الطست، كأن تكون في شكل أُسطوانة، أمّا حين صببتم هذا الماء الاُسطوانيّ الشكل في الطست، فإنّه لم يعد أُسطوانيّاً، بل اكتسب شكلاً آخر. وكلّما صببتم بالترتيب أقداح الماء في الطست، فإنّها ستفقد شكلها الاُسطوانيّ وتكتسب شكلاً وحدّاً، بل ولوناً آخر. فلو كان ماء الطست أصفراً ـمثلاًـ وكان ماء الاقداح أبيضاً، لصار الماء الابيض المصبوب ذا لون أصفر. وهكذا فإنّ الماء الابيض لم يحافظ علي بياضه، فقد توحدّ في جميع الخصوصيّات مع ماء الطست حين امتزج به. وعليه فإنّ الاجزاء الفائضة تمتلك حدوداً خاصّة قبل أن تدخل بدن الإنسان، فقد كانت حنطة أو شعيراً أو رزّاً أو خضروات أو مشتقّات الحليب وأمثال ذلك، أمّا حين تدخل المعدة فإنّها لا تبقي حنطة أو قمحاً أو رزّاً، بل ستتبدّل هناك إلی مادّة أُخري، إذ سيُضاف إلیها اللعاب المُفرز، كما تُضاف إلیها إفرازات المعدة. وبعد أن يتمّ الهضم في المعدة، فإنّ الكبد سيحاول جذبها إلیها وامتصاصها بواسطة العروق الماساريقيّة، فتذهب عصارتها إلیه، وتتحرّك فضلاتها في الامعاء، وثمّ تقوم الامعاء باستمرار بامتصاص المتبقّي من عصارة الغذاء وتنقله إلی البدن. وبعد أن تقوم الكلية بعملها فتعيد قوّة الغذاء إلی البدن وتُخرج الفضلات والسموم عن طريق الإدرار إلی الخارج، وبعد أن يجري في الرئة تصفية جوهر الغذاء الذي صار الآن في الدم، فإنّه يصل إلی القلب الذي يُرسل إلی جميع أنحاء البدن، فيتبدّل في كلّ عضو من الاعضاء إلی جنس ذلك العضو، ويتحوّل إلی ذلك العضو، وتتكوّن النطفة منه. فقد تغيّرت في جميع هذه الحالات تلك الصورة الاُولي للغذاء بصورة كلّيّة وتبدّلت فعلاً إلی أجزاء بدن الإنسان. علي أنّ النطفة حقيقة الإنسان، فتلك القطعة من الجبن وقدح الحليب والحنطة لو وُضعت خارج البدن مائة ألف سنة لما صارت طفلاً ووليداً إنسانيّاً، أمّا حين ترد البدن وتتحوّل في هيئة نطفة، فإنّ تلك النطفة تتبدّل إلی طفل، لانّ ذلك الجزء الفائض الذي ورد البدن في هيئة غذاء قد تبدّل فعلاً إلی أجزاء أصليّة وصار جزءاً من الإنسان. فيتضّح ممّا قيل أنّ فصل الاجزاء الاصليّة عن الاجزاء الفائضة أمر خاطي من وجهة نظر العلوم التجريبيّة ومن وجهة نظر العلم والفلسفة، وأنّ قولنا بأنّ الله تعإلی يحشر يوم القيامة الاجزاء الاصليّة لبدن الميّت، وأنّ الاجزاء الفائضة في بدن الآكل التي شكّلت تمام البدن لاربط لها بأجزاء الآكل الاصليّة، كان بلا أساس ولا قيمة له ولااعتبار في منطق العلم. لقد كان السادة المتكلّمون يُفَرِّحون أنفسهم بهذا النحو من الاستدلالات، إذ إنّهم كانوا يريدون من جهة الإجابة بجواب شافٍ، ولا نّهم من جهة أُخري كانوا يفتقرون إلی التخصّص في العلوم والمعارف الإلهيّة، لذا فقد كانوا يضعون المطلب بمثل هذه العبارات في لِفافة فيختمون عليها، ولايُجيزون لانفسهم في التأمّل والتدقيق أكثر من هذا القدر. ولقد كانت نتيجة هذا البحث أنّ الإجابة علي شبهة الآكل والمأكول بالاجزاء الاصليّة والاجزاء الفائضة ليست إجابة شافية؛ وعلاوة علي عدم ردّها علي الإشكال، فإنّها ستكون بنفسها مدعاةً لإشكالات وانتقادات أُخري. هذا وقد أجاب بعض المتكلّمين عن شبهة الآكل والمأكول علي نحوٍ آخر، وهو أنّ هذه الشبهة ستكون واردة إذا ما أراد الله تعإلی حشر عين بدن الآكل وعين بدن المأكول، غير أنّ هذا الإشكال لنيرد إذا ما خلق سبحانه مثل تلك الابدان فجعل الارواح متعلّقة بها. كما أنّ الآيات الواردة في القرآن الكريم لها دلالة علي حشر الروح وتعلّقها ببدن مثل هذا البدن، ومن جملتها هذه الآية: عَلَي'´ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـ'لَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ. [24] وهذه الآية: نَحْنُ خَلَقْنَـ'هُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَـ'لَهُمْ تَبْدِيلاً. [25] فالامثال في هذه الآيات عبارة عن بدن عنصريّ مادّيّ آخر يخلقه الله فيجعله مورداً للسؤال. إلاّ أنّ جواب المتكلّمين هذا ليس شافياً، وذلك أوّلاً: لانّ هذه الآيات القرآنيّة قد وردت في الردّ علي مُنكري الحشر الذين أنكروا خلق هذه الابدان لا خلق مثلها، فالقرآن يردّ عليهم بأنّ خلق أمثالهم ليسعسيراً علي الله: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ بِقَـ'دِرٍ عَلَي'´ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ. [26] فإن لم يكن المراد من « مثل » و « أمثال » هو الإنسان نفسه، لما كانت الحجّة تامّة علي المنكرين، لانّ إحياء هذا البدن الميّت هو العجيب بينما إيجاد مثله وجعل الروح متعلّقة ببدن آخر ليس مدعاةً للعجب: القرآن يقول إنّ هذا البدن سيُحيي ويُبعث: مِنْهَا خَلَقْنَـ'كُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَي'. [27] وثانياً: أنّ هذا البدن قد أطاع وعصي، ثمّ إنّه سيذهب فيرقد مستريحاً بينما يكون المُحاسَبَ بدنٌ آخر غيره. گنه كرد در بلخ آهنگري به شوشتر زدند گردن مسگري [28] فالمراد من الامثال في هذه الآيات هذا البدن نفسه، والامثال تعني الاطوار والاحوال، أي طوراً بعد طور وحالاً بعد حال. إنّنا سنجعل أبدانهم بأحوال وأطوار مختلفة: وكما تستقرّ النطفة في رحم الاُمّ فتطوي أطواراً وأمثالاً لتصل إلی كمالها، فإنّنا سنجعل الإنسان يمرّ بأطوار بعد الموت لنخلقه في النهاية وننشئه في صورة لايعرفها الناس ولايعلمونها. وبالطبع فإنّ ذلك الإنسان الذي يحشره الله تعإلی هو هذا البدن بأطوار عإلیة ليست له فيها مادّيّة وكثافة وجهات طبيعيّة، بدن نورانيّ مُضاء. وبالطبع فإنّ خلق أطوار البدن وأمثاله هذه لا منافاة له مع الآيات الدالّة علي أنّ الله يُحيي الموتي بنفسه، لانّ خلق أطوار البدن عين خلق البدن نفسه، كالآية: أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ وَلَمْيَعْيَ بِخَلَقِهِنَّ بِقَـ'دِرٍ عَلَي'´ أَن يُحْـِيَ الْمَوْتَي'. [29] وقد ورد « مثل » في الآية القرآنيّة بمعني النفس والذات: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءً. [30] هذا وقد قال المرحوم صدر المتألّهين في إجابة المتكلّمين في الردّ علي شبهة الآكل والمأكول بحشر الاجزاء الاصليّة وعدم حشر الاجزاء الفائضة، بأنّ هذه الإجابة لا حاجة إلی ذكرها لركاكتها. [31] وقال المرحوم الحكيم السبزواريّ: وَفِيهِ مَا لاَ يَخْفَي عَلَي أُولِي النُّهَي. [32] وقال في الحاشية في توضيح كلامه: أمّا أوّلاً فلا نّه مبنيّ علي أنّ شيئيّة الشيء بالمادّة لا بالصورة، وهو سخيف جدّاً؛ إذ يلزم أن يكون المني إنساناً والبيضة طيراً والنواة نخلة ونحو ذلك. وأمّا ثانياً فلا نّه حينئذٍ يكون دنيا ولا آخرة مُعَيَّاً لا غاية؛ لانّ الآخرة نشأة أُخري طوليّة وغاية الشيء كماله. فكمال النفس أن تصير عقلاً، وكمال الصورة الطبيعيّة أن تصير صورة صرفةً خالصةً عن شوب القوّة، وتصير الصورة الدنيويّة برزخيّة، والبرزخيّة أُخرويّة. وأمّا ثالثاً: فلا نّه يلزم تعطيل الحقّ ومنع الحقّ عن المستحقّ، إذ يطرأ علي الاجزاء المادّيّة استعدادات للصور المتفنّنة، والاستدعاء الصادق ما هو بلسان الاستعداد، فيلزم أن لا يعطي الحقّ حقّها مع أ نّه نهي عِبَاده عن تعطيل الحقوق. وأمّا رابعاً: فلانّ توجّه أكثر الشبهات كمثل شبهة التناسخ وشبهة الآكل والمأكول وشبهة عدم وفاء الموادّ وغيرها، إنّما هو علي هذا القول، وبعد في الزوايا خبايا. [33] ارجاعات [1] ـ الآيات 1 إلی 5، من السورة 82: الانفطار. [2] ـ الفرق بينهما (بين الطباعيّة والدهريّة) أنّ الطباعيّة بعد الموادّ الجسمانيّة، وهي القوي الانفعإلیة لم يتفطّنوا من القوي الفعليّة والمبادي الفاعلة إلاّ بالقوي والطبائع المقارنة، ولم يعثروا بالمبادي البرزخيّة والمجرّدات المضافة التي هي النفوس النطقيّة القدسيّة فضلاً عن المجرّدات المرسلة، فكيف علي من له الامر والخلق القدّوس السبّوح ربّ الملائكة والروح. والدهريّة تقول باقتضاء الزمان وفصوله للاجتماع والافتراق والحياة والموت ونحو ذلك. فتبّاً لنظرهما وتعساً علي فكرهما. نعم، مَن لا يعرف اللطيفة المجرّدة في ذاته كيف لايعجز عن إثبات المجرّدات في الإنسان الكبير الخارج منه وعن معرفة الله تعإلی. (الحكيم السبزواريّ قدّس سِرُّه). [3] ـ هذا هو القول الفحل والرأي الجزل، لانّ الإنسان بدن ونفس، وإن شئتَ قلتُ نفسٌ وعقل، فللبدن كمال ومجازاة، وللنفس كمال ومجازاة، وكذا للنفس وقواها الجزئيّة كمالات وغايات تناسبها، وللعقل وقواه الكلّيّة كمال وغاية. ولانّ أكثر الناس لاتناسبهم الغايات الروحانيّة العقليّة، فيلزم التعطيل في حقّهم في القول بالروحانيّ فقط، وفي القول بالجسمانيّ فقط يلزم في الاقلّين من الخواصّ والاخصّين. (الحكيم السبزواريّ قدّس سرّه). [4] ـ مقطع من الآية 56، من السورة 4: النساء. [5] ـ الآية 81، من السورة 36: يس. [6] ـ أي البدن البرزخيّ والاُخرويّ هذا البدن الدنيويّ، لكن لا بوصف الدنيويّة والطبيعيّة، وإنّما كان هو هو بعينه لما مضي، وسيأتي أنّ شيئيّة الشيء بصورته، أي الصورة البدنيّة، لا بمادّتة وبصورته التي بمعني ما به الشيء بالفعل وهو النفس ـوالنفس مشخّصةـ فإذا كان مشخّص هذا وذاك باقياً، فكيف لا يكون الشخص بمعناه وصورته باقياً، وتشخّص النفس بالوجود الحقيقيّ وهو عين وحدتها وتشخّصها، وسيحقّق المصنّف قدّس سرّه المقام بأبلغ وجه (الحكيم السبزواريّ قدّس سرُّه). [7] ـ «الاسفار» ج 9، ص 163 إلی 166، من الطبعة الحروفيّة. [8] ـ الآيتان 60 و 61، من السورة 56: الواقعة. [9] ـ الآية 28، من السورة 76: الإنسان. [10] ـ الآيتان 47 و 48، من السورة 56: الواقعة. [11] ـ الآيتان 58 و 59، من السورة 56: الواقعة. [12] ـ الآيتان 63 و 64، من السورة 56: الواقعة. [13] ـ الآيتان 68 و 69، من السورة 56، الواقعة. [14] ـ الآيتان 71 و 72، من السورة 56: الواقعة. [15] ـ الآية 105، من السورة 12: يوسف. [16] ـ مقطع من الآية 7، من السورة 10: يونس. [17] ـ مقطع من الآية 176، من السورة 7: الاعراف. [18] ـ «الاسفار» ج 9، ص 153 إلی 158، الطبعة الحروفيّة. [19] ـ صدر الآية 69، من السورة 39: الزمر. [20] ـ مقطع من الآية 1، من السورة 4: النساء. [21] ـ النصف الثاني من الآية 15، من السورة 50: ق. -[22]غرلة:عضوالرجل قبل الإختنان.(المنجد). [23] -السماجة:القباحة. [24] ـ الآية 61، من السورة 56: الواقعة. [25] ـ الآية 28، من السورة 76: الإنسان. [26] ـ الآية 81، من السورة 36: يس. [27] ـ الآية 55، من السورة 20: طه. [28] ـ يقول: أذنب حدّاد في «بلخ»، فضربوا عُنق صانع الادوات النحاسيّة في «شوشتر». [29] ـ الآية 33، من السورة 46: الاحقاف. [30] ـ مقطع من الآية 11، من السورة 42: الشوري. [31] ـ «الاسفار» ج 9، ص 200، الطبعة الحروفيّة. [32] ـ «المنظومة السبزواريّة» ص 341، طبعة ناصري. |
|
|