|
|
الرجوع الی المجلد السادس
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلی العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمُوْتَي' ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وءَاثَـ'رَهُمْ وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَـ'هُ فِي´ إِمَامٍ مُّبِينٍ. [1] تقول الآية الكريمة: بالإضافة إلی إنّا سنُحي الموتي ونبعثهم يوم القيامة، ندوّن ما قدّموا من أعمال وآثار، ونُحصي في إمامٍ مبين كلّ ما يمكن تسميته شيئاً، فهو أيضاً محسوب ومحفوظ عندنا بخصائصه العدديّة والكمّيّة والكيفيّة. وصول صحيفة الاعمال من جهة اليمين أو من جهة الشمالولدينا في القرآن الكريم آيات ذات دلالة علی أنّ فرقة من الناس تُعطي كتابها بيمينها، وأُخري تعطي كتابها بشمالها. يَوْمئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَي' مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـ'بِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَـ'قٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِـي´ئًا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الاْيـَّامِ الْخَالِيَةِ. [2] لقد خُيّل لكم أيّها المتمرّدون والمنكرون أنّه يمكن الركون والإخلاد إلی هذه الدنيا التي مرّت وانقضت أيّامها؛ فإذا هي جوفاء خالية منكم ومن كلّ شيء كان فيها. إذ لم تكن إلاّ وعاء لتربيتكم وتكاملكم، وها هي قد تركتكم وأوصلتكم إلی هذا المقام والموقف. أمّا أنتم ـ أيّها الواعونـ فهنيئاً لكم إذ لمتركنوا إليها، ولمتخلدوا إلی ذلك الوعاء، بل تجهّزتم وأعددتم زاد السفر إلی هذا المنزل الركين الامين. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَـ'لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَـ'بِيَهْ* ولَمْأَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَـ'لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَي' عَنِّي مَالِيَه* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَـ'نِيَهْ. [3] وأمّا الاشقياء الذين يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم، فيتمنّون أن لو لميكونوا يؤتون كتابهم ويدرون ما حسابهم، فيقولون: يا ليت الموتة الاُولي كانت القاضية علينا ولم يبق أيّ أثر منّا لنقف هذا الموقف ونشاهد ما نشاهد، ويتحسّرون لخيبة سعيهم في الدنيا، حيث بذلوا كلّ جهدهم لتحصيل المال والسلطان، فلا المال الذي جمعوه ولا السلطان يدفعان عنهم العذاب الآن. لقد شاهدوا عدم نفع المال وبطلان السلطان. فيأتي أمره سبحانه لملائكة العوالم العلويّة والارواح القدسيّة بالنسبة إلی أُولئك الاشقياء العصاة، الذين اتّخذوا المال والسلطان وسيلة للفساد والبغي والظلم، وتجاوز صراط العدالة السويّ بالتعدّي علی حقوق الضعفاء والفقراء... فيخاطبون ملائكة العذاب قائلين: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكوُهُ* إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَهِ الْعَظِيمِ * ولاَ يَحُضُّ علی' طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَـ'هُنَا حَمِيمٌ * ولاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ* لاَّيَأْكُلُهُ و´ إِلاَّ الْخَـ'طِـُونَ. [4] إنّهم الذين أهدروا ثرواتهم الوجوديّة في الحياة، بانشغالهم بالذنوب والمعاصي واستنادهم علی الغرور والاستكبار، ولمّا كانوا لايؤمنون بالله العظيم ولايخضعون لاوامره وأحكامه إذ يعتدون علی الضعفاء والمحتاجين وينهبون حقوقهم، ولمّا كانوا لايحرضون علی طعام المساكين ولايشركوهم في مآدبهم ولا يهتمّون برعايتهم وتفقّد أحوالهم المادّيّة والمعنويّة، فليس لهم اليوم ها هنا طعام إلاّ الغسلين من القيح والدم، وهو طعام الخاطئين المتلبّسين بالشهوة والغضب. إنّ الذين لا يؤمنون ويرتكبون المفاسد يبتلون بأمرين: باطنيّ يتمثّل في فساد قلبهم، وظاهريّ يتجسّد في فقدان العدالة بين المستضعفين والفقراء. وهذا الغصب لحقوق المحرومين والاعتداء علی الفقراء والمساكين، والتمتّع ـ أمام أنظارهمـ بالعيش المرفّة سيظهر بعينه في الآخرة بمثابة الغِسْلين والاكل من الصديد والدم. وصفوة القول إنّ هذه الآيات المباركة قد قسّمت الناس إلی طائفتين، طائفة يُعطون كتابهم بيمينهم، وطائفة يُعطون كتابهم بشمالهم. وعلينا أن نري ما معني اليمين والشمال؟ كتاب أصحاب الجنّة يُعطي لهم من جانب السعادةيُطلق تعبير اليمين والشمال في اللغة علی طرفَي الإنسان القويّ منهما والضعيف؛ أو علی اليدين بلحاظ القوّة والضعف؛ أو علی جهة الخير والسعادة وجهة الشقاء والتعاسة، إلاّ أنّ من المسلّم في هذه الآيات أنّ المراد باليمين والشمال جهة السعادة والخير وجهة الشقاء والخسران والحرمان علی الترتيب. وباعتبار أنّ اليمين تعني في العربيّة التفاؤل بأُمور الخير والسعادة والعافية والرحمة والبركة، وأنّ الشمال تعني التشاؤم بالمصائب والذلّ والهوان، فقد كُنّي عن اليمين والشمال بجهتَي السعادة والشقاء، فصارت كتبهم تصلهم من جهة السعادة والرحمة والعافية والسلامة، أو من جهة الشقاء والذلّ والنكبة. وقد اعتبرت طائفة كبيرة من المحدّثين والمفسّرين اليمين والشمال في هذه الآيات بمعني اليد اليمني واليد اليسري، وقالوا بأنّ المراد هو أنّ أهل الجنّة يُعطون كتبهم في أيمانهم، وأهل النار يعطون كتبهم في شمائلهم؛ وهو تفسير غيرصحيح لعدّة أسباب: أوّلاً: وكما اتّضح خلال الابحاث والفصول السابقة، فالكتاب ليس بصحيفة ورقيّة ليُعطي في يد الإنسان، وليس صحيفة مكتوبة مطويّة ليمكن للإنسان تسلّمها بيده، بل إنّه يمثّل حقائق الاعمال التي قام بها الإنسان في دنياه، كما أنّ استلام الكتاب بمثابة سيطرة الإنسان الروحيّة التي تحصل له خلال مرحلة البقاء بالله بعد تخطيّة مرحلة الفناء في الله تعالي، إذ يجد المرء في مرحلة البقاء سيطرة وإحاطة بعالم الكثرة تجعله يُهيمن علی جميع وجوده في الدنيا بتمام أخلاقه وملكاته وسيرته الظاهريّة والباطنيّة، فتصبح بأجمعها محسوسة لديه وملموسة ومشهودة، بل إنّه يجد نفسه ويدركها بالوجدان في حال انشغالها بفعل تلك الاعمال. وعلی هذا الاساس فليس هناك ثمّة كتاب يُعطي للمرء في يده، يُضاف إلی ذلك أنّ الآيات القرآنيّة تعبّر عن إعطاء الكتاب بتوفية الاعمال: لَيُوَفِيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَـ'لَهُمْ؛ وهو توفية كلّ نفس أعمالها التي فعلتها في الدنيا بجميع جهاتها الواقعيّة، فتردّ إليها نفس تلك الاعمال بفعليّتها. فلا علاقة ـ إذاً ـ للامر باليد. كما أنّ هناك أعمالاً فعلها الإنسان بعينه، وعمل العين لايُعطي باليد، وعمل الاُذن واللسان لايُعطي باليد؛ وكذلك الامر في عمل الرِّجْل. ثانياً: أنّ الآية تقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِيَمِينِهِ؛ والباء في الآية باء السببيّة. أي من يُعطي كتابه بجهة اليمين، ولو كان تعبير الآية القرآنيّة: و أَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَابَهُ لِيَمينه لكان معناه أ نّه سيُعطي كتابه بيده اليمني. وباء السببيّة تستخدم للتوسّط والجهة، أي الذين يُؤتون كتابهم من جهة اليمين وبسبب اليمين، كنايةً عن السعادة؛الذين يؤتون كتابهم من جهة اليسار، إشارة إلی جهة الشقاء التي تلحقهم، ولاعلاقة للامر باليد اليمني أو اليسري. ثالثاً: ما جاء في الآيات القرآنيّة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا* ويَنْقَلِبُ إِلَي'´ أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا* وَيَصْلَي' سَعِيرًا. [5] التي تشبه مفاداً ومضموناً الآيات التي أوردناها من سورة الحاقّة؛ كلّ ما في الامر أنّ جملة و أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و وَرَآءَ ظَهْرِهِ قد جاءت هنا بدلاً من جملة و أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِشِمَالِهِ. ونظراً لمقابلة لفظ بِشِمَالِهِ للفظ بِيَمِينِهِ في الآية السابقة، ولمجيء لفظ وَرَآءَ ظَهْرِهِ مقابل لفظ بِيَمِينِهِ في الآية اللاحقة؛ فإنّ معني بِشِمَالِهِ سيكون وَرَآءَ ظَهْرِهِ. أي أ نّه سيُعطي كتابه وراء ظهره وليسبيده اليسري، وإعطاء الكتاب من الخلف كناية عن الشقاء والتعاسة، وهو بعينه معني إعطاء الكتاب بشماله. ولدينا ـ من جهة أُخري ـ أنّ الافراد يحشرون يوم القيامة مع إمامهم الذي اتّبعوه في الدنيا وجعلوه قدوةً لهم، سواءً كان من أئمّة العدل أو من أئمّة الظلم. وسيحشر أُولئك الائمّة إلی الجنّة أو النار، فيُحشر معهم أتباعهم ورعاياهم ويلحقون بهم إلی الجنّة أو إلی النار. وسنبحث في هذا الامر إن شاء الله تعالي مفصّلاً في بحث الشفاعة، استناداً علی الآيات القرآنيّة، ونبيّن كيفيّة اللحقوق بالائمّة والقادة يوم القيامة ودخول الجنّة أو النار، علماً بأنّ الروايات الواردة في هذا المجال روايات شيّقة ومتضمّنة للكثير من المعارف. أمّا في هذا المجال فسنتطرّق لذكر بعض المطالب في بيان كيفيّة الكتاب؛ فقد ورد في القرآن الكريم: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَـ'مِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِيَمِينِهِ فَأُولَـ'´نءِكَ يَقْرَءُونَ كِتَـ'بَهُمْ ولاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * ومَن كَانَ فِي هَـ'ذِهِ أَعْمَي' فَهُوَ فِي الاْخِرَةِ أَعْمَي' وَأَضَلُّ سَبِيلاً. [6] أي أنّ من لم يفتحوا أعين بصائرهم في الدنيا، فقضوها عُمْي لايبصرون شيئاً من الاُمور المعنويّة، أسري شهواتهم وهواجسهم النفسانيّة، سيكونون في الآخرة عُمْي، لايهتدون سبيلاً. وقد وردت في هذه الآيات عبارة و مَن كَانَ فِي هَـ'ذِهِ أَعْمَي' فَهُوَ فِي الاْخِرَةِ أَعْمَي' وأَضَلُّ سَبِيلاً بدلاً من عبارة مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِشِمَالِهِ، أي أنّ الشمال المقابل لليمين ليس إلاّ الشقاء وعمي الباطنالضلال. تقول الآيات: إنّا ندعوا كلّ جماعة بواسطة إمامهم، وإنّ كتاب من يُعطون كتابهم من جهة أيمانهم كذا وكذا... فالإمام ـإذاًـ غيراليمين وجهة السعادة، وغيرالكتاب وصحيفة الاعمال. وسيُدعي السعداء بواسطة إمامهم، فيصلهم كتابهم من جهة سعادتهم؛ ومثل الإمام مثل المغناطيس الذي يجذب ـ ضمن مجاله المغناطيسيّـ جميع الاشياء المماثلة لطبيعته، وكما يجتذب المغناطيس ذرّات الحديد ولايجتذب ذرّات النحاس والنيكل والخارصين، فإنّ أئمّة الحقّ والعدل يجتذبون أتباع الحقّ والعدل، أمّا أئمّة الباطل فيجتذبون المنحرفين المعتدين أتباع الباطل. ذرّه ذرّه كاندرين ارض و سماست جنس خود را همچو كاه و كهرباست معده نان را ميكشد تا مستقرّ ميكشد مر آب را تفّ جگر چشم جذّاب بتان زين كويهاست مغز جويان از گلستان بويهاست ز انكه حسّ چشم آمد رنگ كش مغز و بيني ميكشد بوهاي خش[7] زين كششها اي خداي راز دان تو به جذب لطف خودمان ده امان[8] وبينما يختلط الجميع في عالم الكثرة والاعتبار في الهيئة الظاهريّة، فإنّهم يفترقون ـ بلحاظ النزعات الباطنيّةـ إلی طوائف وفرق وملل متفاوتة، فتتبع كلّ طائفة إماماً معيّناً. وسيدعو الله تعالي يوم القيامة ـالذي تبرز فيه الحقائق وتتجلّيـ كلّ طائفة بإمامهم، فيصل كتاب السعداء إليهم من جهة السعادة، ويُدعَون بواسطة إمام الحقّ والسعادة. أمّا الاشقياء فيصلهم كتابهم من جهة الشقاء، ويدعون بواسطة إمام الباطل والشقاء. ومن هنا فإنّ إمام الحقّ السعيد له صفة السعادة وهي اليمين، وهذا اليمين ( أي السعادة ) هو نعت الإمام وصفته. لذا فإن تفريع فَمَن أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِيَمِينِهِ هو تفسير لـ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَـ'مِهِمْ. تقول الآية: إنّ الإمام باعتباره يمثل مركز اجتذاب مَن يشاكلونه ويماثلونه في السنخيّة، فإنّ مَن لهم سنخيّة مشهودة في الرحمة والعافية سيدعون بواسطة إمام الحقّ. أمّا إمام الباطل الجائر الشقيّ، فإنّه سيدعو بصفة الشقاء من يشاكله ويجانسه فيجمعهم حوله. تقول الآية: بِإِمَـ'مِهِمْ ولا تقول إلی إمامهم. كما تقول في شأن الكتاب: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَي'´ إِلَي' كِتَـ'بِهَا [9] ولاتستخدم تعتبر بكتابها. فهي ـ إذاًـ قد استعملت باء السببيّة بالنسبة إلی الإمام، بينما استعملت لفظ إلی بالنسبة إلی الكتاب. فتكون الدعوة بالإمام غير الدعوة إلی الكتاب. ويستفاد من ورود جملة و مَن كَانَ فِي هَـ'ذِهِ أَعْمَي' في الآية الواردة في سورة الإسراء بدلاً من جملة و أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـ'بَهُ و بِشِمَالِهِ أنّ أصحاب الشمال لانور لهم في الآخرة، وأ نّهم وإمامهم عُمْي لايبصرون، التابع والمتبوع من أهل الشقاء عُمْيٌ بأجمعهم. التابع والمتبوع كلّهم يذهبون إلی جهنّم. العالم هناك بالنسبة إلی الاشقياء عالم العمي وفقدان البصيرة والضلال وانعدام النور، وعالم الحرمان من التطلّع إلی آيات الله وجماله. وقد تكرّر في القرآن الكريم تعبير « ضلّ» بالنسبة إلی أهل الشقاء؛ أي أ نّهم سيضيعون ويفنون ويعجزون عن المقاومة في عالم الانوار. وقد جعل العُمْيَ في هذه الآية مقابل أصحاب اليمين ليُفهم أنّ أصحاب اليمين هم أصحاب النور والبصيرة في عالم المعني والتجرّد، إذ إنّهم امتلكوا البصيرة في الدنيا، وستتجلّي هذه البصيرة فيهم يوم القيامة في هيئة إبصار ملكوتيّ. وحين تشرع في التفصيل فتذكر أنّ السعداء يُساقون إلی السعادة بواسطة إمامهم، وتجعل ـفي المقابلـ علی الاشقياء يوم القيامة إمام الباطل وكتاب عماهم، كتاب الشقاء، فيتّضح بجلاء أنّ أئمّة الباطل لانور لهم. السعداء ذوو نور يوم القيامةالسعداء ذوو نور، والاشقياء والضالّون ذوو عَمَي وظُلمة، سواءً في ذلك إمامهم ومأمومهم. يَوْمَ تَرَي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـ'تِ يَسْعَي' نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمَـ'نِهِمْ بُشْرَيـ'كُمُ الْيَوْمَ جَنَّـ'تٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاْنْهَـ'رُ خَـ'لِدِينَ فِيهَا ذَ ' لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، [10] إلی أن يصل إلی الآية الشريفة: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَهِ ورُسُلِهِ أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الصّـِدِّيقُونَ وَالشُّهَـ'دَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ. [11] والمراد بالنور الذي يسعي بين أيدي المؤمنين ويصلهم من جهة أيمانهم ( أي من جهة السعادة ): أئمّتهم الذين يحصلون بواسطتهم علی النور الذي يهتدون به في طريقهم، ويقومون ـعلی ضوء هُداهـ بجميع أعمالهم الصالحة في الدنيا. فأئمّة اليمين ـإذاًـ هم أئمّة الرحمة والكرامة والفضلالسعادة والنور؛ أمّا أئمّة الشمال فأهل الظُّلمة والنكبة والذلّ والعمي والمحنة. والناس طائفتان، طائفة تتّجه نحو السعادة فتصبح أصحاب اليمين، وأُخري تتّجه نحو الشقاء فتصبح أصحاب الشمال العُمْي الذين يُعطَون كتابهم من وراء ظهورهم، فتتصاعد صرخاتهم بالويل والثبور، ثمّ يقدمون إلی جهنّم فيصلونها داخرين. في تلك الجهة أُناس تسعي بين أيديهم أشِعّة النور فتضيء طريقهم إلی الجنّة؛ وفي هذه الجهة ظُلُمَـ'تٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، [12] وأُناس غارقون في الظلمات المتراكمة الثقلية؛ وكلُّ يقتفي أثر إمامه ويلحق به. وقد ورد التعبير في سورة الواقعة ( 56 ) بـ أَصْحَـ'بُ الشِّمَالِ مقابل أَصْحَـ'بُ الْيَمِينِ السعداء: وَأَصْحَـ'بُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَـ'بُ الْيَمِينِ... وأَصْحَـ'بُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَـ'بُ الشِّمَالِ، كما ورد التعبير عنهم أحياناً بأصحاب المشأمة والنكبة: وَأَصْحَـ'بُ الْمَشْـَمَةِ مَآ أَصْحَـ'بُ الْمَشْـَمَةِ. وأحياناً أُخري بأهل الكذب والضَّلال: وَأَمَّآ إِن كَانَ مِن أَصْحَـ'بِ الْيَمِينِ * فَسَلَـ'مٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـ'بِ الْيَمِينِ* وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ* وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ. [13] فالمكذّب هو الذي يعقل ويكذّب، أمّا الضالّ فهو غيرالمهتدي، الذي لاحظّ له من عالم الحقائق، ولا سبيل له إلی نشأة الانوار. في تفسير آية: مَا أَغْنَي' عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلطَـ'نِيَهْالمكذّبون الضالّون وأصحاب الشمال وأصحاب المشأمة هم ـ إذاًـ طائفة واحدة، وهم الذين عجزوا عن السير قدماً في عالم الحقائق، والذين انغمروا في عالم الآراء والافكار الشيطانيّة، وانصرفوا إلی مِتَعهم منساقين بالهوس النفسانيّ والغفلة. وسيضيع أمثال هؤلاء في غمرتهم ويموتون ويدفنون هناك. ألم نقرأ عنهم في سورة الحاقّة: مَآ أَغْنَي' عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَـ'نِيَهْ؟ فهؤلاء هم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة الذين اعتمدوا في الدنيا علی ثرواتهم وقومهم وعشيرتهم، واتّكلوا علی المقام والسلطة والرعيّة والجيش والدرهم والدينار، خُيّل لهم أنّ عالم الاعتبار موصول بذلك العالم، وأنّ ما يعتمدون عليه هنا سينفعهم هناك، وأ نّي لذلك أن يتحقّق، لانّ هذا العالم عالم الاعتبار، أما ذلك العالم فعالم الحقيقة؛ وهما عالمان متعاكسان متضادّان. هذا العالم عالم المجاز، أمّا ذاك فعالم الواقعيّة؛ ومن هنا فإنّ الموقع الذي كسبه الإنسان هنا سيضيع، والدرجة التي اتّخذها لنفسه ستضلّ، لا نّها لاتمتلك سبيلاً إلی تلك النشأة الاُخري. كما أنّ الملايين التي حصل عليها هنا سوف لنيحمل منها ـولنيقدر أن يحمل منهاـ ذرّة واحدة، كما أ نّه لنيستطيع أن يصطحب معه ناصراً واحداً عند مجيء عزرائيل، أو أن يستعين به علی أقلّ تقدير، ولو نَاصَرَه في هذه النشأة جميع أهل العالم. وستراهم يعترفون آنذاك: مَآ أَغْنَي' عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَـ'نِيَهْ. ثمّ إنّ هذه الطوائف ستلحق بأئمّتها مع جميع خصوصيّاتها، فيلحق المؤمنون بأئمّتهم الذين يسيرون في عالم النور بأعين قريرة، متّجهين إلی عالم الحقيقة. فالمؤمن حين يتحرّك في الدنيا، فإنّما يتحرك وباطنه متّجه إلی الله تعالي، وحين يقوم بعمل ما، فإنّه يفعله وقلبه متّجه إلی الله سبحانه. فهو يصوم ويتاجر ويجاهد متّجهاً إليه تعالي، حتّي أ نّه يذهب إلی بيت الخلاء وباطنه متّجه إليه سبحانه. ألم ترد أدعية خاصّة يقرأها الإنسان عند دخوله بيت الخلاء وعند مكثه فيه وعند خروجه منه، وأنّ عليه ذكر الله سبحانه في ذلك الموضع أيضاً؟ أي أنّ علی الإنسان أن لا يغفل عن الله لحظة وآناً واحداً، حتّي في ذلك الموضع. المؤمن يتّجه إلی ربّه باستمرار سائراً نحو الامام، ملتفتاً إلی المسير الذي يطويه لحظةً بعد أُخري. فالمؤمنون يُلحقون بأئمّتهم الذين يتقدّمونهم في مسيرتهم إلی الامام. يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـ'مِهِمْ. فهناك عالم النور، حيث النور يسطع من وجود الإمام وكيانه. فهو نور، ونفسه القدسيّة نور محض، والمؤمنون يتحرّكون خلفه فيصلون ويُلحقون. ويمكن الآن فهم الروايات والاخبار الواردة بأنّ مَن عمل العمل الفلانيّ كان معنا، ومَن عمل العمل الفلانيّ كان في جوار رسول الله والائمّة وبرفقتهم، ساكناً في جنان الخُلد؛ لانّ في عالم اللحوق معيّة صرفة. أمّا الذين يتبعون القادة الظالمين الجائرين وفراعنة العصر الداعين الناس إلی عبادتهم وطاعتهم، فيجعلونهم أصناماً يعكفون علی عبادتها، فإنّهم سيجدون المعيّة مع أئمّة الجور يوم القيامة ويلحقون بهم، فيُحشرون جميعاً إلی جهنّم وبئس المصير: لِيَمِيزَ اللَهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ويَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ و علی' بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ و جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ و فِي جَهَنَّمَ أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْخَـ'سِرُونَ. [14] فكيف ـ يا تري ـ ستتحرّك يوم القيامة هذه الطائفة المسيئة ذات السيرة الرديئة؟ لقد ذكرنا بأ نّهم سيُدعون بواسطة إمامهم: نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـ'مِهِمْ. أمّا كيفيّة سيرهم والتحاقهم بأئمّة الجور، فقد جاء في القرآن الكريم: يَقْدُمُ قَوْمَهُ و يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ.[15] هيئة وجوه أئمّة أهل النار ومأموميهميسير الإمام الجائر في المقدّمة فيتبعه قومه، وبواسطته يصل إلی أتباعه كتابُهم، فماذا يعني قولنا بأ نّهم يُعطون كتابهم من وراء ظهورهم؟ وأيّ جهة هي « وراء ظهورهم »؟ جاء في سورة النساء: يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـ'بَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا علی'´ أَدْبَارِهَا. [16] والمطموس يعني الممحي والمندرس؛ أي أ نّنا سنمسح وجوه أصحاب النار، الائمّة منهم والاتباع، بحيث تختلط أعينهم وأُنوفهم وشفاههم وتمحّي، فتستحيل وجوههم صفحات ممحيّة مندرسة، ثمّ نقلب وجوههم إلی أقفيتهم، فتمسي أبدانهم إلی الامام ووجوههم إلی الخلف. ولانّ الائمّة من أصحاب جهنّم، فإنّ أتباعهم سيتوجّهون نحو أئمّتهم بوجوه مقلوبة إلی القفا، ومن ثمّ فإنّ كتابهم الذي يُعطي لهم من قبل أئمّتهم، سيُعطي لهم من ورائهم. ومن الجليّ أ نّه لو شاء أحد أن يعطي كتاباً لشخص ذي وجه مقلوب إلی قفاه، فإنّه سيُعطيه إيّاه من وراء ظهره. إنّ عالم الحقائق والانوار متّجه إلی الإمام نحو عالم التجرّد والإطلاق، ونحو عالم النعمة والرحمة، وعالم القُرب والمنزلة، والعوالم اللا متناهية وغيرالمقيّدة. أمّا عالم الشهوة والغضب والوهم الذي هو من لوازم عالم المادّة والطبع أظلم العوالم، فيقع ـ بطبيعة الحالـ في المؤخّرة باعتبار كثافته وثقله. فأهل الدنيا مشغوفون بها، فيتحرّكون إلی الامام في مسيرهم إلاّ أنّ قلوبهم متّجهة نحو المادّة وآثارها، فتكـون النتيجة انقلاب وجـوههم إلی الخلف. يخلد أهل الدنيا إليها، ويتعاملون مع الاموال تعاملاً مجازيّاً، ويولعون باللهو واللعب، إلاّ أنّ السير باتّجاه الله والموت وعوالم التجرّد التي تعقب هذا العالم، هو سير حتميّ وليس اختياريّاً، فانقضاء الزمن ومجيء الاجل يحرّك المرء كلّ لحظة نحو الله سبحانه، شاء المرء أم أبي، بَيدَ أنّ باطنه سيبقي ملتفتاً إلی الدنيا. تتحرّك النفس باتّجاه الله سبحانه، أمّا وجه الإنسان فمتوجّه نحو الدنيا. وحين يحين يوم الجزاء يوم تُبلي السرائر، فتتجلّي حقيقة الحوادث الواقعة في هذا العالم، فإنّ هذه الصورة تمثّل ظهور الإمام والمأموم المشغوفينِ بالدنيا والمغمورينِ في الغفلة. ومع أنّ المسير تجاه الله تعالي، إلاّ أنّ الباطن متوجّه نحو الارض: وَلَـ'كِنَّهُ و´ أَخَلَدَ إلی الاْرْضِ، [17] متوجّه إلی الارض وشهواتها. فالتوجّه القلبيّ والحقيقيّ هو إلی الارض، أمّا السير الجبريّ الحتميّ فإلي الله تعالي. وهو سير اضطراريّ عامّ لجميع الافراد. فالوجهة اللا ختياريّة للإنسان تريد الاتّجاه إلی الله واللحوق بالمؤمنين والسير قُدماً إلی عالم النور والوصول إلی الجنّة بالرغم من أنّ الالتفات إلی الدنيا، وأمثال هؤلاء يُعطَون كتابهم من وراء ظهورهم. وبما تقدّم يتبيّن أنّ المكذّبين والضالّين يلحقون بأئمّتهم ويذهبون معهم إلی جهنّم، ويُعطَوْن كتابهم من جانب الشمال، جانب الشقاء، فيدركون بوضوح وبالوجدان ذلّ ونكبة أعمالهم وفقدان بصيرتهم. حقيقة الإمام المبين والكتاب المبينبينما يلحق المؤمنون ذوو العمل الصالح بأئمّتهم في عالم النور ويُعطَون كتابهم من جانب اليمين بسبب الإمام الحقّ، حيث يُستنسخ لهم نسخة من عالم الوجود وكتاب التكوين تدلّ علی حقيقة العمل وجلوته الملكوتيّة، فيحيطون بكلّ أعمالهم، ويُوفّي كلّ امري ما عمل من أعماله الموجودة بأجمعها في الكتاب المبين والإمام المبين، سواءً في ذلك أعمال الصالحين أم أعمال الطالحين. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَـ'هُ فِي´ إِمَامٍ مُّبِينٍ. [18] ولإيضاح هذا المطلب نقول: إنّ لدينا جسداً وروحاً، وهذا الجسد وهذه الروح ليسا في معزل عن بعضهما، بل هما أمران مرتبطان يُقال لمجموعهما « أنا ». وحين نقول: « هيّي فراشاً للنوم لانّ السيّد حسن يريد النوم!» فإنّ هذا الفراش إنّما يبسط لجسده، وهو ـمن ثمّـ فراشه المبسوط لاجل استراحة جسده وسلامته. ثمّ نقول: « اقرأ القرآن ليستفيد السيّد حسن منه » ونقصد بطبيعة الحال روحه التي ترتاح لذلك. فنحن ندعوها « السيّد حسن » بلحاظ العلاقة بين الروح والجسد. أي أنّ لفظ « الإنسان » يُطلق علی كلّ واحد من مراتب النفس ودرجاتها النازلة من الجسد والقوي. إنّ الكتاب المبين يمثل نقلاً من عالم الوجود، ونسخة حقيقيّة وواقعيّة منه، لكنّ هذه النسخة تشير إلی حقيقة عالم الوجود. أي أنّ هذه الموجودات الخارجيّة تمثّل قالب هذا الكتاب، أمّا روحه فالإمام المبين ( أي مقام الولاية ) الذي يجسّد روح وحقيقة جميع الموجودات علی نحو التجرّد والانبساط. ولو مثّلنا لذلك، فإنّ لنا روحاً ولهذا العالم روح، فحقيقتنا هي روح بدننا، أمّا حقيقة جميع العوالم التي أوجدها الله تعالي فليست إلاّ الإمام، وهو معني الاسماء الحسني الكلّيّة الإلهيّة. فعالم الوجود ـ إذاًـ له روح ونفس هي الولاية والإمام، وهي معني و كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنـ'هُ فِي´ إِمَامٍ مُّبِينٍ. أي أنّ الإمام المبين هو روح جميع الموجودات. ومهما عملتم من عمل فإنّ الارض ستستلمه وتسجّله، لانّ روحها تحت سيطرة الإمام المبين والكتاب المبين. وبصورة عامّة فإنّ الإنسان لم يُستثنَ من سلسلة الموجودات الكائنة التي تشكّل هذا الكتاب، فهو وأفعاله جزء من هذا الكتاب. وعليه أن لايرتكب حتّي الذنب الصغير، إذ سيأتي يوم ويري هذه الذنوب والمعاصي الصغيرة التي لميأبه لها ولميعبأ بها، وقد تراكمت في ذلك الكتاب المبين فصارت أشبه بالتلّ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.[19] روي الكلينيّ في « الكافي » بسنده عن ثعلبة، عن زياد قال: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَهِ (الصَّادِقُ) عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ رَسُولَاللَهِ صَلَّياللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بِأَرْضٍ قَرْعَاءَ فَقَالَ لاِصْحَابِهِ: إئتُوا بِحَطَبٍ! فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَهِ نَحْنُ بِأَرْضٍ قَرْعَاءَ مَا بِهَا مِنْ حَطَبٍ! فَقَالَ: فَلْيَأْتِ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ. فَجَاءُوا بِهِ حَتَّي رَمُوْا بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ بَعْضَهُ علی بَعْضٍ؛ فَقَالَ رَسُول ُاللَهِ صَلَّياللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: هَكَذَا تَجْتَمِعُ الذُّنُوبُ. ثُمَّ قَالَ: وإيَّاكُمْ وَالمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ فَإنَّ لِكُلِّ شَيءٍ طَالِبَاً، أَلاَ وإِنَّ طَالِبَهَا يَكْتُبُ «مَا قَدَّمُوا ءَاثَـ'رَهُمْ وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَـ'هُ فِي´ إِمَامٍ مُّبِينٍ». [20] في الروايات الواردة في علم الإمامهذا بشأن تسجيل الاعمال وتدوينها؛ أمّا في مقام الولاية ( الإمام المبين وروح العالم ) فقد نقل البحرانيّ في « تفسير البرهان » عن الشيخ في كتاب « مصابيح الانوار » رواية جديرة بالتأمّل: رَوَاهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ سَائِرَاً فِي أَغْرَاضِ أَمِيرِالمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِذْ مَرَرْنَا بِوَادٍ، ونَمْلُهُ كَالسَّيْلِ سَارٍ. فَذَهَلْتُ مِمَّا رَأَيْتُ، فَقُلْتُ: اللَهُ أَكْبَرُ جَلَّ مُحْصِيهِ! فَقَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لاَتَقُلْ ذَلِكَ ولَكِنْ قُلْ جَلَّ بَارِيهِ! فَوَ الَّذِي صَوَّرَكَ إنِّي أُحْصِي عَدَدَهُمْ وأَعْلَمُ الذَّكَرَ مِنْهُمْ وَالاْنْثَي بِإِذْنِ اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ. [21] كما روي في « تفسير البرهان » عن الشيخ في « مصابيح الانوار » عن عمّاربن ياسر قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي بَعْضِ غَزَواتِهِ فَمَرَرْنَا بِوادٍ مَمْلُوٍّ نَمْلاً، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! تَرَي يَكُونُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَهِ يَعْلَمُ كَمْ عَدَدُ هَذَا النَّمْلِ؟! قَالَ: نَعَمْ يَا عَمَّارُ؛ أَنَا أَعْرِفُ رَجُلاً يَعْلَمُ كَمْ عَدَدَهُ وكَمْ فِيهِ ذَكَرٌ وكَمْ فِيهِ أُنْثَي! فَقُلْتُ: مَنْ ذَلِكَ ـيَا مَوْلاَيَـ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: يَا عَمَّارُ! مَا قَرَأْتَ سُورَةَ يَس «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَـ'هُ فِي´ إِمَامٍ مُّبِينٍ»؟! فَقُلْتُ: بَلَي يَا مَوْلاَيَ. قَالَ: أَنَا ذَلِكَ الإمام. وينقل في « تفسير البرهان » في هذا الموضع، في تفسير الآية و كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَـ'هُ فِي´ إِمَامٍ مُّبِينٍ. روايات عديدة دالّة علی أنّ المراد بالإمام المبين هو أميرالمؤمنين عليه السلام، كما ذُكر في حديث المفضّل أ نّهم الخمسة الطيّبة. وعلی كلّ تقدير فإنّ المراد بذلك هم جميع الائمّة الطيّبين صلواتالله وسلامه عليهم أجمعين. وقد اتّضح في مباحثنا السابقة في هذا الكتاب « معرفة المعاد »، وفي مباحثاتنا المفصّلة في كتاب « معرفة الإمام » أنّ من يطّلع علی مقام الولاية يعلم أنّ الإمام فوق الزمان والمكان، وأن له هيمنة علی جميع الموجودات الزمنيّة والمكانيّة، وعلماً بكلّ ما وُجد ويوجد، لانّ نفسه الناطقة فوق الزمان، ولانّ وجوده عقل محض. وقد جاء في كثير من الروايات أنّ الائمّة الاطهار عليهم السلام مطّلعون علی جميع عوالم الدنيا، السابقة منها والحاليّة والمستقبليّة؛ أي أنّ الولاية ( التي هي مقام العبوديّة المحضة ) هي من القُرب بحيث لايفصل بينها وبين حضرة الحقّ تعالي أيّ فاصل، وحين يختصّ أحدٌ بذلك المقام فإنّه يحصل علی إحاطة علميّة وحقيقيّة بجميع موجودات العالم. عسي أن يأتي اليوم الذي نعرف فيه الإمام إن شاء الله تعالي وندرك فيه حقيقة هذه المسألة، وندرك أنّ العالم جسم يمثل الإمام روحه، وأنّ هذه الروح شاعرة عالمة مدركة، بحيث تكون جميع أعمال الإنسان في محضرٍ من الإمام ومشهده، لا نّه الكتاب المبين والكلمة الإلهيّة التي يُحصي الله تعالي فيها كلّ شيء. ولقد أنشد ابن الفارض في ذلك إنشاداً لا أبدع منه ولا أروع: 1 ـ فَسِرْتُ إلی مَا دُونَهُ وَقَفَ الاُلَي وَضَلَّتْ عُقُولٌ بِالعَوَائِدِ ضَلَّتِ 2 ـ فَلاَ وَصَفَ لِي وَالوَصْفُ رَسْمٌكَذَاك الاِ سْمُ وَسْمٌ فَإِنْ تَكْنِي فَكَنِّ أَوِ انْعَتِ 3 ـ و مِنْ أَنَا إِيَّاهَا إلی حَيْثُ لاَ إلی عَرَجْتُ وعَطَّرْتُ الوُجُودَ بِرَجْعَتِي 4 ـ و عَنْ أَنَا إِيَّايَ لِبَاطِنِ حِكْمَةٍ وَظَاهِرِ أَحْكَامٍ أُقِيمَتْ لِدَعْوَتِي[22] 5 ـ و مِنِّي أَوْجُ السَّابِقِينَ بِزَعْمِهِمْ حَضِيضُ ثَرَي آثَارِ مَوْضِعِ وَطْأَتِي 6 ـ و آخِرُ مَا بَعْدَ الإشَارَةِ حَيْثُ لاَ تَرَقِّي ارْتِفَاعٍ وَضْعُ أَوَّلِ خُطْوَتِي 7 ـ فَمَا عَالِمٌ إِلاَّ بِفَضْلِيَ عَالِمٌ وَلاَ نَاطِقٌ فِي الكَوْنِ إِلاَّ بِمِدْحَتِي 8 ـ و لاَ غَرْوَ أَنْ سُدْتُ الاُلَي سَبَقُوا وَقَد تَمَسَّكْتُ مِنْ طَهَ بِأَوْثَقِ عُرْوَةِ[23]
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلی العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَي' وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَـ'رَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَـ'هُ فِي´ إِمَامٍ مُّبِينٍ. [24] سبق أن ذكرنا أنّ للعالم الكلّيّ بدناً وجسداً ونفساً كما للإنسان بدن ونفس، وأنّ بدن الإنسان ونفسه أُنموذج من بدن ذلك العالم الكلّيّ ونفسه. وكما تحصل في بدننا تدابير معيّنة، وتقوم أعضاؤنا وجوارحنا بأعمال معيّنة تبعاً لحياة نفسنا وتدابيرها وإرادتها واختيارها؛ فإنّ تغييرات وحوادث تحصل في العالم الكلّيّ وعالم الخلقة بواسطة حياة تلك النفس الكلّيّة الحاكمة علی ذلك الجسد. وتدعي تلك النفس الكلّيّة المسيطرة علی العالم بالإمام، أي الإمام المبين، كما يُدعي عالم الخلقة وبناءه الشامخ ـالعلويّ منه والسفليّـ بالكتاب المبين. وقد دُعي بالكتاب باعتباره مجموعة كلمات لكلّ منها دلالة علی ما جبله الخالق في ذلك الموجود وما أودعه من أسرار، فجعله مظهراً لذاته وصفاته وكاشفاً عنها، بنفس الطريق الذي يُقرأ فيه الكتاب الخارجيّ المتضمّن لمجموعة كلمات حاكية عن المعاني الموجودة في ذهن كاتبه وكاشفة عنها. كذلك الامر بالنسبة إلی الموجودات الخارجيّة التي يحكي كلّ منها بدوره عن تلك الذات المقدّسة الخالدة التي أوجدته. وبهذا اللحاظ فإنّ كلّ واحد من الموجودات هو كلمة الله، ومجموع هذه الموجودات يُشكّل كتاب الله تعالي. لذا فإنّ الإمام ـ وهو مقام الولاية الكلّيّة الاعلی من الزمان والمكانـ يمثّل روح كتاب الخلقة والوجود وحقيقتهما. من هذا المنطلق فإنّ للإمام سيطرة علی جميع الافراد بما فيهم أهل الجنّة والنار، لانّ جميع الموجودات منطوية في تلك الحقيقة الكلّيّة للولاية. فليسالاشقياء والجهنّميّون معزولين عن ذلك الكتاب، ولاسيطرة الإمام وولايته قاصرة عن أن تشملهم وتعمّهم، لكنّ الاختلاف يتجسّد في أنّ أصحاب اليمين والسعداء يصلون إلی أئمّتهم ويلحقون بهم ويرافقونهم إلی الجنّة. إلاّ أنّ جميع هذه الاُمور ـ من حيث المجموعـ تخضع لسيطرة وعلم وحياة وإرادة تلك الولاية الكلّيّة التي ترسل أهل الجنّة إلی الجنّة، وأهل النار إلی جهنّم. وتتّضح هذه الحقيقة بجلاء من الروايات المستفيضة من العامّة والشيعة: عَلِيُّ قَسِيمُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ. [25] وشرح هذه الجملة ذات المعاني الراقية يحتاج إلی كتب مطوّلة. معني كتاب التكوين، والاستنساخ منه يوم المعادإنّ ذلك الكتاب الاصليّ هو تلك الموجودات ـ من مُلكيّة وملكوتيّةـ التي تجسّد ظهور حقائق أعمال الإنسان. أمّا خصوص نتائج الاعمال التي يشاهدها الناس يوم القيامة ( أي كتابهم وصحيفة أعمالهم) فتُستنسخ من ذلك الكتاب الاساس: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. [26] وعلی هذا الاساس يجري استنساخ نسخة من الكتاب المبين الواقع تحت سيطرة روح الولاية الكلّيّة فيما يتعلّق بأصحاب اليمين، فتتشخّص الاعمال المرتبطة بهم في ذلك الكتاب المبين، كما يجري استنساخ نسخة لاصحاب الشمال والاشقياء، ويعني ذلك أ نَّه سيتشخّص القدر المتعلّق بكلٍّ منهما من الكتاب المبين، فُيدعي الاشقياء إلی كتابهم، والسعداء أيضاً إلی كتابهم. وهذه الدعوة تحصل بواسطة إمامهم الذي ينبغي أن يلحقوا به ويرافقونه إلی الجنّة أو إلی النار، سواءً كان إمام الحقّ أم إمام الباطل. وجميع أئمّة الحقّ وأئمّة الباطل الذين كانوا السبب في دعوة أصحاب الجنّة وأصحاب النار مندكّون ومنطوون في ذلك الكتاب المبين وفانون في تلك الولاية الكلّيّة. وقد تبيّن ـ إذاً ـ بجلاء معني: هَـ'ذَا كِتَـ'بُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، كما تبيّن معني الإمامة والولاية الكلّيّة ومقامها. أمّا الائمّة الجزئيّون فينضوون بأجمعهم تحت مقام الولاية ويحتلّ كلّ منهم مقامه فيه. وسنذكر إن شاء الله تعالي في بحث الاعراف منزلة الافراد القائمين علی الاعراف والمشرفين علی جهنّم والجنّة كليهما. ونلحظ أنّ كثيراً من الآيات القرآنيّة قد عدّت الإمامة والولاية واحدة في المصداق، أي أ نّها عدّت الإمام وليّاً، بَيدَ أ نّها لمتعدّ كلّ وليٍّ إماماً. فقد ورد ـ مثلاًـ في الآية الشريفة الواردة في ولاية رسولالله وأميرالمؤمنين عليهما السلام: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَهُ وَرَسُولُهُ و وَالذَّينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَو'ةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَو'ةَ وَهُمْ رَ ' كِعُونَ.[27] التعبير عن إمامتهم بالولاية، إلاّ أنّ الله تعالي لميعبّر في أيّ موضع من القرآن الكريم عن ولايته بالإمامة، كما لميعبّر عن نفسه بالإمام: هُنَالِكَ الْوَلَـ'يَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ. [28] وليس لدينا أيّ تعبير ينسب الإمامة إلی الله عزّ وجلّ، والسرّ في ذلك هو ضرورة وجود سنخيّة بين الإمام والمأموم، لانّ مفهوم الإمام هو الاُسوة والقدوة والقائد، بينما المأموم هو المقتدي والمتأسيّ الذي ينبغي له الاقتداء في جميع أفعاله بالإمام. لذا ينبغي في الإمامة والمأموميّة والائتمام وجود سنخيّة ومشابهة بين الإمام والمأموم، أي أنّ جميع الافراد الذين يقتدون بالإمام هم من البشر، فتعيّن أن يكون النبيّ والإمام ـ بدورهماـ من البشر: قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ. [29] للّه تعالي ولاية لا إمامةومن ثمّ فلا إشكال في التعبير عن مقاماتهم بالإمامة، وبأنّ له مقام الولاية إضافة إلی مقام الإمامة.أمّا الذات القدسيّة للحقّ المتعال فلامسانخة لها مع المخلوق، لذا فلا ندعو الله إماماً، كما ليستالإمامة من مقامات الله ولامن صفاته وأسمائه؛ إلاّ أ نّه تعالي وليّ، لانّ الولاية تعني كشف الحجاب بين شيئين بحيث لايفصل بينهما ما ليس منهما ومن سنخهما. وقد عُبَّر عن القُرب بين شيئينِ بهذه العناية بتعبير الولاية. ومن هنا فإنّ إزالة الحجاب بين العبد وبين الله تعالي، بحيث لايبقي من العبد شيء في البين، وبحيث يندكّ العبد ويفني ويصل إلی مقام العبوديّة المطلقة، سيوجب صدق معني الولاية بالنسبة إلی ذلك العبد. وقد عُبّر عن القُرب بين شيئين بالولاية، كولاية الوليّ والمولّي عليه، والولاية علی الصغير، والولاية علی الاموال والاعراض، وعُبِّر عن ولاية الله علی جميع الموجودات بالولاية التكوينيّة، وعلی عباده المقرّبين بالولاية التشريعيّة. وسيلحق المؤمنون يوم القيامة بأئمّتهم ويخضعون لولايتهم؛ كما سيلحق الكفّار بأئمّتهم ويخضعون لولايتهم، دون أن تعني التبعيّة والخضوع للولاية تصرّف أُولئك الاولياء بأوليائهم كما يحلو لهم، أو إدخالهم إيّاهم بإرادتهم الجنّة أو النار؛ بل معناها خضوع الاتباع لولاية أئمّتهم وانقيادهم لاوامرهم ونواهيهم في الدنيا وهي ولاية ستتجلّي يوم القيامة في خضوعهم لولاية أئمّتهم دون أن يمكنهم تجاوزهم وتخطّيها. ولدينا الكثير من الاخبار التي تبيّن هذا المعني وتُظهر كيفيّة تصرّف الكفّار مع أئمّتهم يوم الجزاء، حين يتّضح عجز أُولئك الائمّة عن حلّ مشاكل أوليائهم وعن إيصالهم إيّاهم إلی بعض الدرجات والمقامات، لانّ ولايتهم تعني أنّ هؤلاء الافراد قد سيقوا في الدنيا إلی جهات معيّنة فهم الآن ضمن تلك الجهات والحدود، وأنّ ذلك السوق والانسياق سيجليّان الآن في هيئة أنواع العذاب البرزخيّ والتبعيّة البرزخيّة. هنالك حيث يتقدّم فرعون قومه فيتبعونه ويدخلون جهنّم فيُركمون فيها، لقد كان فرعون مقدّم في هذه النشـأة، وهو كذلك مقدّم في تلك. وكماتصدّر قومه في دعوتهم لعبادة الاصنام وللفحشـاء والمنكرات، فسيتصدّرهم هناك أيضاً ليصلي النار ويذوق صنوف العذاب. الدعوة إلی الإمام هي غير الدعوة إلی الكتابوعليه، فإنّ بحثنا هذا وقولنا بهيمنة أئمّة الحقّ ذوي مقام الولاية علی جميع أئمّة الحقّ وأئمّة الباطل لايتنافي مع ما ذكرنا سابقاً من أنّ الدعوة إلی الكتاب غير الدعوة للإمام. لا نّنا ذكرنا أنّ كلّ أُمّة تُدعي إلی كتابها إنّما تُدعي بواسـطة أئمّة الحقّ أو أئمّة الباطل، وعلّة عدمالمنافاة هي أنّ نسخة من أعمال الافراد سيجري استنساخها من الإمام المبين الذي يمثّل روح الكتاب المبين: هَـ'ذَا كِتَـ'بُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. [30] فأساس ذلك الكتاب الناطق بالحقّ هو اللوح المحفوظ الذي تُستنسخ منه الاعمال، وهو ذلك الاصل المتبوع والإمام المبين ومقتدي البشر الذي تدور علی محوره أُمور العالم، حيث يتسلّم أهل الجنّة وأهل النار كتبهم بواسطة هذا الإمام هذا الكتاب. بَيدَ أنّ ذلك الكتاب الذي يُدعون إليه ليس هذا الكتاب المعيّن، بل نسخة مستنسخة منه تصبح كالطائر الذي يلازم عنق الإنسان، وتدلّ علی ذلك الآية القرآنيّة. وَكُلَّ إِنسَـ'نٍ أَلْزَمْنَـ'هُ طَـ'´نءِرَهُ و فِي عُنُقِهِ. فالناس ـ إذاً ـ يُدعون إلی كتابهم بواسطة الكتاب الاصل الذي يمثّل الإمام المبين روحَه، وهي نكتة جديرة بالتأمّل. وخلاصة الامر أنّ الناس صنفان: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال؛ ولاتعني تسمية أصحاب اليمين أ نّهم يُعطون كتابهم بأيمانهم، كما لاتعني تسمية أصحاب الشمال أ نّهم يعطون كتابهم بشمالهم؛ بل المراد بذلك أنّ كتب الصنف الاوّل تصلهم من جانب السعادة والرحمة والعافية، بينما كتب الصنف الثاني تصلهم من جانب الشقاء والشؤم واللؤم؛ وأنّ صحيفة العمل هي نفس عمل الإنسان الذي جري استنساخه، فيواجه الإنسان بكلّ ما فعله في دار الدنيا. وقد عبّرت الآيات القرآنيّة الواردة في أرجاء القرآن الكريم، والتي تحدّثت عن إعطاء الافراد كتابهم يوم القيامة، عبّرت عن جهة الخير والرحمة باليمين، وعن جهة الذلّ والنكبة والشقاء بالشمال ووراء الظهر، مع أ نّنا نعلم أنّ بعض آيات القرآن قسّمت الناس إلی ثلاثة أقسام، وأنّ هناك فئةً ثالثة غيرالفئتين الاُوليين: وَكُنتُمْ أَزْو ' جًا ثَلَـ'ثَةً * فَأَصْحَـ'بُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـ'بُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحَـ'بُ الْمَشْـَمَةِ مَآ أَصْحَـ'بُ الْمَشْـَمَةِ * وَالسَّـ'بِقُونَ السَّـ'بِقُونَ* أُولَـ'´نءِكَ الْمُقَرَّبُونَ. [31] فالمقرّبون هم الذين سبقوا جميع القوافل وفازوا بقصب السبق عليهم، وهم المقرّبون إلی حريم حضرة الحقّ تعالي. فأصحاب اليمين يُعطون كتابهم عن يمينهم، وأصحاب الشمال يُعطون كتابهم عن شمالهم أو من وراء ظهورهم، أمّا السابقون فليس لديهم كتاب أساساً. ومع أ نّهم سبقوا أصحاب اليمين وحظوا بمقامات القرب الرفيعة، إلاّ أ نّهم لايُعطون كتاباً، وهو ممّا يستدعي العجب، لانّ أصحاب اليمين يحصدون نتائج أعمالهم، ويُوفّون كلّ ما فعلوا في الدنيا، ويرون أنفسهم في المراحل التي اكتسبوا فيها ملكاتهم وصفاتهم. أمّا بالنسبة إلی المقرّبين فليسهناك شيء، من هذا القبيل، فهم لايُعطون كتاباً وصحيفة عمل، ولميرد في القرآن الكريم ما يُشير إلی إعطاء المقرّبين كتاباً. فما هو ـ يا تري ـ ثواب هؤلاء الشرفاء الذين حظوا بقصب السبق من بين جميع أفراد البشر؟ لدينا آيات قرآنيّة استثنت المقرّبين ( أي المخلَصين، بفتح اللام )، وقد ذكرنا بالتفصيل في بعض الابحاث السابقة أ نّهم طائفة مستثناة من كثير من الاُمور، كما أنّ الحكم العامّ للجزاء والثواب والإحسان الذي يُعطي للمحسنين لايشملهم. ونتطرّق فيما يلي إلی ذكر ذلك بإجمال. لدينا الآية القرآنيّة الكريمة: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَمَن فِي الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَهُ. [32] والآية القرآنيّة: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَمَن فِي الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَهُ. [33] وباعتبار أنّ الآية المباركة: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَي' وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَـ'لِ وَالإكْرَامِ،[34] قد ذكرت أنّ جميع من علی الارض فانٍ وميّت إلاّ وجه الله، فيتّضح أنّ الآمنين من الفزع والهلاك المسبّب عن نفخ الصور هم الافراد الذين يدعون بـ « وجه الله ». كما ورد في موضع آخر: فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. [35] أي أنّ العباد الذين أتمّوا دورة الإخلاص وتخطّوا مقام المخلِصين ( بكسر اللام ) وتجاوزوا المجاهدات النفسانيّة فصاروا مطهّرين منزّهين، لاسبيل للشيطان للوصول إليهم. يُضاف إلی ذلك أنّ المخلَصين هم الذين يحمدون الحقّ تعالي كما هو أهله: سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ. [36] أي أنّ جميع الافراد ـ عدا هذه الفئة ـ لايحمدون الله ولايثنون عليه كما هو أهل له من الحمد والثناء. ولدينا أيضاً: فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ. [37] أي أنّ جميع الناس يُحضرون للحساب والعرض في محضر الحقّ تعالي عدا عباد الله المخلَصين. وأساساً فإنّ أهوال يوم القيامة وزمن الحساب المتطاول لخمسين ألف سنة، وسائر مواقف القيامة لاتشمل المخلَصين والمقرّبين ولاحضور لهم فيها، وعليه يتّضح أ نّه لا صحيفة أعمال لهم وحين لاتكون لهم قيامة، فلايمين ولاشمال ولاحساب ولاكتاب. لماذا؟ لانّ صحيفة الاعمال تتعلّق بالاعمال، والحساب يتعلّق كذلك بالاعمال. وغالباً ما يكون المقصد من أعمال الناس هو الحصول علی نتيجة وجزاء ذلك العمل ـ خيراً كان أو شرّاً ـ لذا تعطي لهم صحيفة أعمالهم ليوفّون حقيقتها الملكوتيّة. [2] ـ الآيات 18 إلی 24، من السورة 69: الحاقّة. [3] ـ الآيات 25 إلی 29، من السورة 69: الحاقّة. [4] ـ الآيات 30 إلی 37، من السورة 69: الحاقّة. [5] ـ الآيات 7 إلی 14، من السورة 84: الانشقاق. [6] ـ الآيتان 71 و 72، من السورة 17: الاءسراء. [7] ـ «مثنوي» ج 6، ص 601، السطر 11 إلی 15، طبعة ميرخاني. يقول: «كلّ ذرّة في الارض والسماء تجذب نظائرها كما تجتذب الكهرباء القشّ. المعدة تجذب الخبز إلی داخلها، وحرارة الكبد تجتذب الماء إليها. والعين تبحث عن الحسان المعبودين، أمّا العقل فيفتّش عن روضة العطور. ذلك لانّ حسّ البصر يجتذب الالوان إليه، بينما الانف والعقل يجتذبان العطور الفوّاحة». [8] ـ يقول: «فيا إلهي! يا عالِم السرّ والخفيّات! آمِنّا بجذبة لطفك من هذه الجذبات والنزعات». [9] ـ الآية 28، من السورة 45: الجاثية. [10] ـ الآية 12، من السورة 57: الحديد. [11] ـ الآية 19، من السورة 57: الحديد. [12] ـ الآيات 90 إلی 94، من السورة 56: الواقعة. [13] ـ الآيات 90 إلی 94، من السورة 56: الواقعة. [14] ـ الآية 37، من السورة 8: الانفال. [15] ـ الآية 98، من السورة 11: هود. [16] ـ الآية 47، من السورة 4: النساء. [17] ـ مقطع من الآية 176، من السورة 7: الاعراف. [18] ـ النصف الثاني من الآية 12، من السورة 36: يس. [19] ـ النصف الثاني من الآية 29، من السورة 45: الجاثية. [20] ـ «تفسير البرهان» ج 2، ص 886، الطبعة الحجريّة؛ ج 4، ص 6، الطبعة الحروفيّة. [21] ـ «تفسير البرهان» ج 2، ص 886، الطبعة الحجريّة؛ ج 4، ص 7، الطبعة الحروفيّة. [22] ـ «ديوان ابن الفارض» التائيّة الكبري، ص 77، البيت 324 فما بعد من التائيّة. وشرح الابيات بقلم المصنّف كالتالي: 1 ) فسرتُ في طريق الفناء في الذات ومقام الجمع، فبلغتُ إلی حيث وقف السابقون من العلماء والحكماء دون الغاية وإلي حيث هلكتْ عقولٌ بضلالها بلحاظ المنافع والعوائد. 2 ) وإذ وصلتُ هناك لم يبقَ لي عينٌ ولا أثر ولا وصف ولا صفة، لانّ الوصف أثر والاسم علامة بينما لم يبقَ ما له أثر وعلامة؛ فإن شئتَ الاءشارة كنايةً دون تصريح، فكنِّ أو انعت. 3 و 4 ) ثمّ عرجتُ من مقام فناء عين التفرقة وبقاء أثرها إلی مقام فناء العين والاثر، إلی حيث لامقام فوقه، ثمّ عدتُ من عروجي ومقامي ذاك إلی مقام التفرقة والجمع وحقيقة العبوديّة، فعطّرت عالم الوجود برجعتي من خلال الحِكَم الخفيّة والاحكام الظاهريّة التي أُقيمت بدعوتي. [23] 5 ) وأنّ غاية سير الذين خُيِّل لهم أ نّهم سبقوا إلی ذروة الكمال هو حضيض ما وطأتهُ قدمي في رجوعي. 6 ) وآخر نقطة بعد الاءشارة حيث لا سبيل للرقيّ فوقها، هي أوّل موضع لقدمي وخُطاي. 7 ) فلا عالِمٌ في عالم الوجود إلاّ وصار ذا علم بفضلي، ولا ناطق في العالم إلاّ وهو يلهج بمدحي والثناء عَلَيّ. 8 ) فلا عجبَ أ نّي فقت السابقين وحزت السيادة عليهم، لا نّي تمسّكتُ من رسولالله طه بأوثق عروة ومُستمسك. [24] ـ الآية 12، من السورة 36: يس. [25] ـ أوردنا في الجزء الاوّل من دورة «معرفة الإمام» بيانات عن سند هذا الحديث ودلالته. [26] ـ النصف الثاني من الآية 29، من السورة 45: الجاثية. [27] ـ الآية 55، من السورة 5: المائدة. [28] ـ الآية 44، من السورة 18: الكهف. [29] ـ الآية 110، من السورة 18: الكهف. [30] ـ الآية 29، من السورة 45: الجاثية. [31] ـ الآيات 7 إلی 11، من السورة 56: الواقعة. [32] ـ الآية 87، من السورة 27: النمل. [33] ـ الآية 68، من السورة 39: الزمر. [34] ـ الآيتان 26 و 27، من السورة 55: الرحمن. [35] ـ الآيتان 82 و 83، من السورة 38: ص. [36] ـ الآيتان 159 و 160، من السورة 37: الصافّات. [37] ـ الآيتان 127 و 128، من السورة 37: الصافّات. |
|
|