بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد السابع/ القسم السابع: شهادة الزمان و المکان یوم القیامة، شعور الحجر الاسود

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

الدرس‌ الثامن‌ والاربعون‌:

 شهادة‌ الزمان‌ والمكان‌ يوم‌ القيامة‌

 بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلی العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علی محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علی أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَـ'فرِينَ. [1]

 يستفاد من‌ هذه‌ الآية‌ الكريمة‌ أنّ الايّام‌ تُعدّ من‌ الشهود التي‌ تشهد علی أعمال‌ الإنسان‌. فالايّام‌، بما فيها من‌ الساعات‌ والدقائق‌ والايّام‌ والليالي‌ والشهور والسنين‌، وبما تشتمل‌ عليه‌ من‌ الايّام‌ والليالي‌ الشريفة‌ وأيّام‌ الجمعة‌ وأيّام‌ الاعياد المباركة‌ تشهد علی أعمال‌ الإنسان‌. وكذلك‌ الامر بالنسبة‌ للازمنة‌ والامكنة‌ والجبال‌ والبقاع‌ والمساجد والاماكن‌ المقدّسة‌ والمشاهد الشريفة‌ التي‌ تعدّ من‌ الشهود علی الإنسان‌.

 لكي‌ لا نبتعد كثيراً، ولتقريب‌ هذا المطلب‌ إلی الاذهان‌، نذكر مقدّمة‌ مختصرة‌ من‌ الادلّة‌ العقليّة‌، ثمّ نستشهد بالادلّة‌ النقليّة‌ الواردة‌ في‌ المقام‌.

 ذكر سابقاً أ نّه‌ قد جرت‌ البرهنة‌ في‌ الحكمة‌ المتعالية‌ علی أنّ كلّ موجود من‌ الموجودات‌ ـ ولو كان‌ ذرّة‌ غير مرئيّة‌ـ يمتلك‌ حياة‌ وقدرة‌ وعلماً. فجميع‌ ما في‌ عالم‌ الوجود يمتلك‌ هذه‌ الخواصّ الثلاث‌، ولايمكننا أن‌ نعثر علی شي‌ء يمكن‌ إطلاق‌ اسم‌ الوجود والموجود عليه‌ بحيث‌ يكون‌ عارياً من‌ هذه‌ المزايا.

 فهذه‌ الحركات‌ الموجودة‌ في‌ بدن‌ الإنسان‌، والفعل‌ وردود الفعل‌ في‌ بدن‌ الإنسان‌ وفي‌ أبدان‌ الحيوانات‌ وفي‌ الاشجار والنباتات‌ والجمادات‌ وفي‌ الكرات‌ السماويّة‌، سواءً كانت‌ حركة‌ جوهريّة‌ أم‌ حركة‌ ذرّيّة‌ أم‌ غير ذلك‌ من‌ الحركات‌، هي‌ قائمة‌ بأجمعها علی أساس‌ قدرة‌ وحياة‌ وإدراك‌ تلك‌ الموجودات‌ بحسب‌ سعة‌ ماهيّتها. وعلی أساس‌ هذه‌ الفلسفة‌ الكلّيّة‌ لايمكن‌ العثور علی مورد استثنائي‌ّ واحد في‌ عالم‌ الوجود.

 كما أ نّنا نعلم‌ ـ من‌ جهة‌ أُخري‌ـ أنّ العدم‌ لا يطرأ علی الاشياء التي‌ توجد في‌ الخارج‌ بعد تحقّق‌ وجودها، إذ من‌ المحال‌ أن‌ يكون‌ الموجود معدوماً في‌ عين‌ وجوده‌، لانّ الوجود والعدم‌ متناقضان‌.

 نعم‌، قد ترتدي‌ المادّة‌ الموجودة‌ رداء العدم‌ بخصوصيّة‌ أُخري‌؛ فهذه‌ الشجرة‌ موجودة‌ الآن‌، ثمّ إنّها تُقطع‌ بعد ساعة‌ فتصبح‌ خشباً، ثمّ تُحرق‌ وتستحيل‌ فحماً، ثمّ تصبح‌ رماداً، بَيدَ أنّ هذه‌ الحالات‌ المختلفة‌ لاتدلّ علی العدم‌. فقد كانت‌ الشجرة‌ في‌ الظرف‌ الاوّل‌ شجرة‌، وهي‌ في‌ ظرف‌ الوجود والدهر شجرة‌ إلی الابد. أمّا في‌ الظروف‌ الاُخري‌ فإنّها ستصبح‌ خشباً وفحماً ورماداً.

 وبناءً علی هذا فإنّ ما يقوم‌ به‌ الإنسان‌ من‌ أفعال‌، له‌ ارتباط‌ ونسبة‌ مع‌ الموجودات‌ الخارجيّة‌، إذ إنّ تلك‌ الافعال‌ لاتُعدم‌، لانّ الموجودات‌ الخارجيّة‌ مرتبطة‌ بتلك‌ الافعال‌ ومطّلعة‌ عليها وشاعرة‌ بها.

 إنّني‌ أجلس‌ الآن‌ في‌ هذا المكان‌ وأتحدث‌، وكلامي‌ هذا يمثل‌ فعلاً له‌ نسبة‌ فهو ـ أوّلاًـ قد وقع‌ في‌ هذا الزمان‌؛ وهو ثانياً قد وقع‌ في‌ هذا المكان‌، أمّا بلحاظ‌ الوضع‌ والمحاذاة‌ فأنا في‌ مواجهتكم‌ أيّها السادة‌ بينما تجلسون‌ تجاه‌ القبلة‌ وقد أحاطت‌ بكم‌ وبنا الجدران‌ والسقف‌ والارض‌ من‌ الامام‌ والخلف‌ في‌ أطار خاصّ ووضع‌ معيّن‌. والخلاصة‌ فإنّ جميع‌ هذه‌ الاُمور تمثّل‌ علائق‌ تربط‌ فيما بيننا وبين‌ كلامنا من‌ جهة‌ وبين‌ هذه‌ الموجودات‌ الخارجيّة‌ من‌ جهة‌ أُخري‌. ولانّ فعلنا يصدر من‌ ذاتنا، فإنّ النسبة‌ التي‌ يمتلكها فعلنا مع‌ الموجودات‌ الخارجيّة‌ هي‌ نفسها التي‌ تمتلكها ذاتنا معها.

 وحين‌ وجدت‌ ذواتنا وصدرت‌ عنها هذه‌ الافعال‌، فقد صار لها تلك‌ النسبة‌ مع‌ الموجودات‌ الخارجيّة‌. وتبعاً لذلك‌ فإنّ الافعال‌ التي‌ تصدر عن‌ هذه‌ الذوات‌ سترتبط‌ مع‌ الموجودات‌ الخارجيّة‌. ويلزم‌ من‌ هذا الارتباط‌ مع‌ تلك‌ الموجودات‌، أن‌ تتحقّق‌ النسبة‌ بين‌ هذه‌ الافعال‌ وبين‌ تلك‌ الموجودات‌ الخارجيّة‌. والنسبة‌ بين‌ الطرفين‌ تستلزم‌ وجود هذا الطرف‌ وذاك‌، وإلاّ استحال‌ تحقّق‌ تلك‌ النسبة‌. ومن‌ ثمّ فإنّ النسبة‌ وطرفيها تتحقّق‌ بأجمعها بمجرّد تحقّق‌ الذات‌.

 الرجوع الي الفهرس

الجمادات‌ ذات‌ شعور، وستشهد يوم‌ القيامة‌

 وبعد أن‌ أثبتنا أنّ ما تحقّق‌ في‌ عالم‌ الوجود وارتدي‌ رداء الوجود، باقٍ علی الدوام‌ وذو حياة‌ وعلم‌ وقدرة‌، فإنّنا نستنتج‌ أنّ جميع‌ الموجودات‌ وأفعالنا باقية‌ علی الدوام‌ مع‌ جميع‌ خصائصها، ومن‌ ضمنها الشعور والإدراك‌.

 والنتيجة‌ هي‌ أنّنا، نحن‌ الجالسون‌ هنا فعلاً، أناسٌ أحياء، وأنّ جميع‌ النسب‌ والارتباطات‌ التي‌ نمتلكها حيّة‌ بدورها. الزمان‌ الذي‌ نعيش‌ فيه‌ حيّ ذو شعور، والمكان‌ الذي‌ نوجد فيه‌ حيّ ذو شعور وإدراك‌. وجدران‌ هذا المسجد وسقفه‌ وسجاجيده‌ وأعمدته‌ ومنبره‌ وأبوابه‌ حيّة‌ بأجمعها وذات‌ شعور وإدراك‌. ونحن‌ إذ نراها ساكتة‌ صامتة‌، فلانّ سبيل‌ فهمنا وإدراكنا محدود لايسمح‌ لنا بالنفوذ إلی الموجودات‌ الخارجيّة‌ بما يفوق‌ الحدود المعطاة‌ والمسموحة‌. بَيدَ أنّ هناك‌ غوغاءً في‌ عالم‌ الوجود من‌ السمع‌ والبصر والفهم‌ والشعور التي‌ تتحلّي‌ بها هذه‌ الموجودات‌. أمّا في‌ الحشر، فإنّ جميع‌ هذه‌ الاشياء ستتجلّي‌ أمام‌ الإنسان‌ حيّة‌، سميعة‌، بصيرة‌.

 عالم‌ افسرده‌ است‌ و نام‌ او جماد                جامد افسرده‌ بود اي‌ اوستاد

 باش‌ تا خورشيد حشر آيد عيان‌                  تا ببيني‌ جُنبش‌ جسم‌ جهان‌

 چون‌ عصاي‌ موسي‌ اينجا مار شد               عقل‌ را از ساكنان‌ إخبار شد

 پارة‌ خاك‌ تو را چون‌ زنده‌ ساخت‌                 خاك‌ها را جملگي‌ بايد شناخت‌

 مرده‌ زين‌ سويند وز آن‌ سوزنده‌اند               خامُش‌ اينجا و آن‌ طرف‌ گوينده‌اند

 چون‌ از آن‌ سوشان‌ فرستد سوي‌ ما                        آن‌ عصا گردد سوي‌ ما اژدها

 كوه‌ها هم‌ لحن‌ داودي‌ شود                       جوهر آهن‌ به‌ كف‌ مومي‌ شود

 بادْ حمّال‌ سليمان‌ شود                بَحْر با موسي‌ سخنداني‌ شود

 ماه‌ با احمد اشارت‌ بين‌ شود                     نار ابراهيم‌ را نسرين‌ شود

 خاك‌ قارون‌ را چو ماري‌ دركشد                    اُسْتُنِ حَنّانه‌ آيد در رَشَد

 سنگ‌ أحمد را سلامي‌ مي‌كند                   كوه‌ يحيي‌ را پيامي‌ مي‌كند

 جملة‌ ذرّاتِ عالم‌ در نهان‌               با تو مي‌گويند روزان‌ و شبان‌

 ما سميعيم‌ و بصيريم‌ و خوشيم‌                  با شما نا محرمان‌ ما خامُشيم‌

 چون‌ شما سوي‌ جمادي‌ مي‌رويد                مَحرم‌ جان‌ جمادان‌ كي‌ شويد؟

 از جمادي‌ در جهانِ جان‌ رويد                      غُلغل‌ أجزاي‌ عالَم‌ بشنويد

 فاش‌ تسبيح‌ جمادات‌ آيدت‌                        وسوسة‌ تأويل‌ها برْ بايدت‌

 چون‌ ندارد جان‌ تو قنديل‌ ها                       بهر بينش‌ كرده‌ اي‌ تأويل‌ ها [2]

 هذا بلحاظ‌ البرهان‌ العلميّ الذي‌ أُشير إليه‌ فقط‌، أمّا أساس‌ هذا البرهان‌ فقد جري‌ بيانه‌ في‌ الحكمة‌.

 ومن‌ هنا فنحن‌ نتعامل‌ في‌ حقيقة‌ الامر مع‌ عالم‌ طافح‌ بالحياة‌، ومع‌ عالم‌ يفيض‌ بالقدرة‌ والعلم‌؛ ونحن‌ نواجه‌ كلّ ساعة‌ وكلّ لحظة‌ أينما ذهبنا ومهما فعلنا عالماً من‌ الحياة‌ والعلم‌، عاجزين‌ عن‌ أن‌ نعثر علی مكان‌ واحد يفتقد الشعور والعلم‌، أو أن‌ نلغي‌ أنفسنا في‌ حدود معزولة‌ عن‌ العلم‌ الإلهيّ في‌ مظاهر ذلك‌ التجلّي‌ المطلق‌.

 ونحن‌ إذ نجد أنفسنا محبوسين‌ في‌ ذلك‌ الصقع‌ وتلك‌ الناحية‌، غارقين‌ في‌ سجن‌ الجهل‌، فإنّ ذلك‌ معلول‌ لعدم‌ إدراكنا لهذه‌ الحقيقة‌. وإلاّ فإنّ جميع‌ ما يحيط‌ بنا من‌ الزمان‌ والمكان‌ وسائر الاعراض‌ لايخلو من‌ الشعور والقدرة‌ والحياة‌.

 عَـ'لِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي‌ السَّمَـ'وَ ' تِ وَلاَ فِي‌ الاْرْضِ وَلآأَصْغَرُ مِن‌ ذَ ' لِكَ وَلآ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي‌ كِتَـ'بٍ مُّبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ أُولَـ'ئِكَ لَهُم‌ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. [3]

 ويتّضح‌ ـ بالتأمّل‌ في‌ هاتين‌ الآيتين‌ ـ أنّ الله‌ سبحانه‌ يصف‌ نفسه‌ بعالمِ الغيب‌، ويقول‌ بأن‌ ليس‌ هناك‌ مِن‌ ذرّة‌ خافية‌ عنه‌، كما يقول‌ بأن‌ جميع‌ هذه‌ الاشياء موجودة‌ في‌ الكتاب‌ المبين‌. أي‌ في‌ كتاب‌ التكوين‌ وفي‌ روح‌ هذا العالم‌.

 فعلم‌ الله‌ عزّ وجلّ ـ إذاً ـ هو كتاب‌ التكوين‌؛ وكلّ موجود من‌ الموجودات‌ يمثّل‌ علم‌ الله‌ الحضوريّ، ووجوده‌ يمثّل‌ علم‌ الله‌ سبحانه‌.

 ومن‌ هنا فإنّ أرجاء عالم‌ الوجود والتحقّق‌ في‌ الخارج‌ هو عين‌ العلم‌ الفعليّ للّه‌ تبارك‌ وتعالي‌.

 ثمّ إنّ جزاء المؤمنين‌ عاملي‌ الاعمال‌ الصالحة‌ يترتّب‌ علی هذا الامر، أي‌ باعتبار أنّ الله‌ تعالي‌ عالم‌، وأنّ علمه‌ هو كتاب‌ التكوين‌؛ فإنّه‌ يجزي‌ المؤمنين‌ جزاءً حسناً وفقاً لهذا الكتاب‌ المبين‌. ويستنتج‌ من‌ ذلك‌ بوضوح‌ أنّ الموجودات‌ الخارجيّة‌ ذات‌ علم‌ وشعور، وأ نّها تشهد، فيجزي‌ الله‌ عزّ وجلّ المؤمنين‌ ـ تبعاً لذلك‌ـ أجراً جزيلاً ومغفرة‌ ورزقاً كريماً، ومن‌ بين‌ هذه‌ الموجودات‌ الزمان‌ والمكان‌.

 الرجوع الي الفهرس

الزمان‌ والمكان‌ يقظان‌ وذوا فهم‌ وشعور

 الزمان‌ والمكان‌ يقظان‌ منتبهان‌، فهما يقومان‌ بتسجيل‌ الاعمال‌، ويدوّنان‌ حتّي‌ اللحظات‌ التي‌ تمرّ علی الإنسان‌، وحتي‌ إطباقه‌ عينه‌ ورمشه‌ بجفنيه‌؛ حتّي‌ أ نّها تنطوي‌ علی تفكير الإنسان‌ وتعقّله‌، وتتحمّل‌ الشهادة‌ بشأنه‌، ثمّ تؤدّي‌ تلك‌ الشهادة‌. فهي‌ إنّما تكتسب‌ اليوم‌ لتؤدّي‌ غداً. اليوم‌ يوم‌ الطي‌ّ وغداً يوم‌ النشر والعرض‌. وهكذا تنشأ الاعمال‌ متعاقبةً في‌ اتّصالها بالزمان‌، ويسير الإنسان‌ علی هذا الخطّ المتدرّج‌ المتّصل‌ زمنيّاً ويتقدّم‌ في‌ مسيرته‌ ويخلّف‌ أعماله‌ الواحد بعد الآخر، ويخيّل‌ إليه‌ أنّ تلك‌ الاعمال‌ قد زالت‌ وفنيت‌. بَيدَ أنّ الامر ليس‌ كذلك‌، إذ إنّ الشي‌ء الذي‌ وُجد سوف‌ لن‌يُعدم‌. وتلك‌ الاعمال‌ موجودة‌ في‌ الحقيقة‌ ومحفوظة‌ في‌ مواضعها، وسيفتح‌ هذا الشريط‌ المسجّل‌ غداً فتقرأ عجلة‌ الزمان‌ الحقائق‌ المدوّنة‌. وسيُظهر المكان‌ تلك‌ الحقائق‌، فيشاهد الإنسان‌ نفسه‌ في‌ مواجهة‌ جميع‌ أعماله‌ بخصائصها وكيفيّاتها.

 أي‌ أنّنا سنشاهد غداً ساحة‌ المسجد التي‌ نجلس‌ فيها الآن‌ مع‌ جميع‌ هذه‌ الخصوصيّات‌، بينما نتصوّر ـ علی ضوء معني‌ انقضاء الزمان‌ ودورانه‌ـ أنّ هذه‌ الساعة‌ ستنقضي‌، وأنّ وجودنا مرهون‌ بهذه‌ اللحظات‌ التي‌ نوجد فيها. ثم‌ سنشاهد غداً هذا المجلس‌ مسجّلاً بجميع‌ جهاته‌ الظاهريّة‌ والباطنيّة‌، ليس‌ كمثل‌ تسجيل‌ مسجّلات‌ الصوت‌ المادّيّة‌ فحسب‌، بل‌ إنّ جميع‌ الموجودات‌ التي‌ يحتويها ظرف‌ الزمان‌ والمكان‌، مضافاً إليها نفس‌ الزمان‌ والمكان‌، ستنظمّ كذلك‌ في‌ داخلها علی عالم‌ التكوين‌ بجميع‌ خصوصيّاته‌، من‌ الاعمال‌ الظاهريّة‌ والخواطر الذهنيّة‌ والنوايا القلبيّة‌، ثمّ إنّها ستأتي‌ بعد ذلك‌ لتشهد. فهي‌ الآن‌ تكتسب‌ تلك‌ الاُمور بصورها المُلكيّة‌ ( المتعلّقة‌ بعالم‌ المُلك‌ )، ثمّ تعيدها في‌ ذلك‌ العالم‌ في‌ صورها الملكوتيّة‌.

 علی أنّ مشاهدة‌ تلك‌ الصور الملكوتيّة‌، وذلك‌ النحو من‌ الشهادات‌ المعنويّة‌، أمر يستدعي‌ العجب‌ الكثير. ومشاهدة‌ تلك‌ الصور في‌ هذا العالم‌ أمرٌ لايحتمله‌ إلاّ العباد المصطفَون‌ لذات‌ الحقّ تبارك‌ وتعالي‌.

 الرجوع الي الفهرس

الروايات‌ الواردة‌ في‌ شهادة‌ الزمان‌ والمكان‌

 ينقل‌ المرحوم‌ علی بن‌ طاووس‌ رضوان‌ الله‌ عليه‌، وهو من‌ علماء الإسلام‌ الاعلام‌ من‌ ذوي‌ التصنيفات‌ والتأليفات‌ الكثيرة‌، ويعدّه‌ الكثيرون‌ في‌ درجة‌ تلي‌ درجة‌ الإمام‌ المعصوم‌ بلحاظ‌ البصيرة‌ ومقام‌ اليقين‌ والعلم‌ والتقوي‌، وقد وصفه‌ العلاّمة‌ الحلّي‌ّ رحمة‌ الله‌ عليه‌ في‌ كتاب‌ « إجازات‌ بني‌ زهرة‌ » بأ نّه‌ صاحب‌ الكرامات‌ الباهرة‌ والمعجزات‌ القاهرة‌. ينقل‌ في‌ كتابه‌ « محاسبة‌ النفس‌ » روايتينِ، إحداهما بإسناده‌ إلی محمّدبن‌ علیبن‌ محبوب‌، عن‌ كتابه‌، بسنده‌ إلی الإمام‌ أبي‌ عبد الله‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌.

 قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي‌ علی ابْنِ آدَمَ إلاَّ قَالَ ذَلِكَ اليَوْمُ يَا بْنَ آدَمَ أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ وَأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ فَافْعَلْ بِي‌ خَيْراً، وَاعْمَلْ فِي‌َّ خَيْراً أَشْهَدُ لَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإنَّكَ لَنْ تَرَانِي‌ بَعْدَهَا أَبَداً. ( وفي‌ نسخة‌ أُخري‌: ) فَقُلْ فِي‌َّ خَيْرَاً وَاعْمَلْ فِي‌َّ خَيْرَاً. [4]

 ويستفاد من‌ هذه‌ الرواية‌ أنّ أيّام‌ الإنسان‌ ليست‌ سواسية‌، وأنّ كلّ يوم‌ هو موجود مشخّص‌، إن‌ عمل‌ الإنسان‌ فيه‌ خيراً فذاك‌، وإلاّ فإنّ ذلك‌ اليوم‌ سينقضي‌ ويأتي‌ يوم‌ جديد آخر وشرائط‌ جديدة‌ وعمل‌ جديد.

 كما ينقل‌ الرواية‌ الثانية‌ عن‌ كتاب‌ مسعدة‌ بن‌ زياد الربعي‌ّ، عمّا نقله‌ عن‌ الإمام‌ الصادق‌، عن‌ أبيه‌ الباقر عليهما السلام‌ قال‌:

 اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ نَادَي‌ مُنَادٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ الخَلاَئِقُ إِلاَّ الثِّقَلَيْنِ: يَا بْنَ آدَمَ إنِّي‌ علی مَا فِي‌َّ شَهِيدُ فَخُذْ مِنِّي‌، فَإنِّي‌ لَوْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْتَزْدَدْ فِي‌َّ حَسَنَةً وَلَمْتَسْتَعْتِبْ فِي‌َّ مِنْ سَيِّئَةٍ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ النَّهَارُ إِذَا أَدْبَرَ اللَّيْلُ. [5]

 ويروي‌ الصدوق‌ في‌ « علل‌ الشرايع‌ » بسنده‌ عن‌ عبد الله‌ بن‌ علی الزرّاد قال‌: سَأَلَ أَبُو كَهْمَس‌ أَبَا عَبْدِ اللَهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يُصَلِّي‌ الرَّجُلُ نَوَافِلَهُ فِي‌ مَوْضِـعٍ أَوْ يُفَرِّقُهَا؟ قالَ: لاَ، بَلْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا فَإنَّهَا تَشْـهَدُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ.[6]

 كنتُ جالساً أحد الايّام‌ في‌ الحرم‌ المطهّر للإمام‌ علیبن‌ موسي‌ الرضا عليه‌ السلام‌ خلف‌ جهة‌ الرأس‌ الشريف‌ بعد إتمامي‌ الصلاة‌ وأداء ركعتي‌ صلاة‌ الزيارة‌، وكان‌ جالساً إلی جانبي‌ كان‌ سماحة‌ حجّة‌ الإسلام‌ العلاّمة‌ اللاهيجاني‌ّ الانصاري‌ّ دامت‌ بركاته‌. فتطرّق‌ الحديث‌ في‌ ذلك‌ المكان‌ المقدّس‌ إلی ذكر الفقيه‌ الإسلامي‌ّ والعارف‌ الجليل‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا علی آقا القاضي‌، وباعتبار أنّ العلاّمة‌ اللاهيجاني‌ّ كان‌ يتردّد في‌ النجف‌ الاشرف‌ علی محضر سماحته‌، فقد نقل‌ عنه‌ عدّة‌ أقوال‌ تستحق‌ العناية‌ والتأمّل‌، من‌ بينها أنّ ذلك‌ المرحوم‌ كان‌ يقول‌: لاتصلِّ دائماً في‌ مسجد واحد، واذهب‌ إلی المساجد الاُخري‌ أيضاً. وحيثما وجدتَ فيضاً معنويّاً فصلِّ هناك‌. أمّا إذا لم‌ يحصل‌ لديك‌ توجّه‌ في‌ مكانٍ ما، فغيّر ذلك‌ المكان‌ وانتقل‌ إلی مسجد آخر. والخلاصة‌ فإنّ التوقّف‌ في‌ مكان‌ واحد أمرٌ لاداعي‌ له‌. وينبغي‌ علی المرء أن‌ يبحث‌ باستمرار عن‌ حالة‌ معنويّة‌ أفضل‌ للتوجّه‌، وعليه‌ الانتقال‌ في‌ طلبها من‌ مكانٍ إلی آخر، وصولاً إلی اختيار الموضع‌ الذي‌ يحصل‌ فيه‌ علی توجّه‌ والتفات‌ أفضل‌. ( وكان‌ يقول‌: ) إن‌ لم‌تحصل‌ علی مرادك‌ في‌ مسجد الكوفة‌ فاذهب‌ إلی مسجد السهلة‌، وإن‌ لم‌تحصل‌ علی مرادك‌ في‌ مسجد السهلة‌ فاذهب‌ إلی مسجد الكوفة‌ وهكذا.

 وكان‌ من‌ ضمن‌ أقواله‌ إنّ علی الإنسان‌ أن‌ لا ييأس‌ أبداً، وأن‌ لايكفّ عن‌ السير والسلوك‌ إن‌ تأخّر وصوله‌ للنتيجة‌. فقد يحفر المرء الارض‌ بظفره‌، ثمّ ينبع‌ تحت‌ أصابعه‌ فجأة‌ ماء زلال‌ فوّار كمثل‌ عنق‌ البعير.

 ومن‌ بينها قوله‌: مَنْ كَانَ هَمَّهُ لِلَّهِ كَفَاهُ اللَهُ فِي‌ جَمِيعِ هُمُومِهِ.

 ومن‌ بينها أ نّي‌ سألته‌ يوماً ( والكلام‌ للعلاّمة‌ اللاهيجاني‌ّ ) عن‌ الذكر الذي‌ أردّده‌ في‌ مواقع‌ الاضطرار والابتلاء وعند تعسّر الاُمور، سواءً فيما يتعلّق‌ بالاُمور الدنيويّة‌ أو الاُمور الاُخرويّة‌، فأجاب‌: صلِّ علی محمّد وآله‌ خمس‌ مرّات‌ ثمّ اقرأ آية‌ الكرسي‌ مرّة‌، ثمّ أكثِر في‌ قرارة‌ نفسك‌ من‌ قول‌ اللَهُمَّ اجْعَلْنِي‌ فِي‌ دِرْعِكَ الحَصِينَةِ الَّتِي‌ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ تَشَاءُ حتّي‌ يتيسّر الامر.

 الرجوع الي الفهرس

أثر التوبة‌ في‌ استتار الذنوب‌

 إلاّ أنّ هناك‌ مسألة‌ ستعترض‌ هذا الحديث‌، وهي‌ مسألة‌ التوبة‌. فإن‌ تقرّر أنّ الارض‌ والزمان‌ يسجّلان‌ كلّ عمل‌ يفعله‌ الإنسان‌ بجميع‌ خصائصه‌ المعنويّة‌ والروحيّة‌، وأنّ هذه‌ التسجيلات‌ ستنكشف‌ يوم‌ القيامة‌؛ فما هي‌ ـ إذاًـ فائدة‌ التوبة‌؟ وما هو أثرها بعد أن‌ ثبت‌ أنّ الشي‌ء الذي‌ وجد لن‌ينعدم‌، وأنّ العمل‌ الصالح‌ والطالح‌ لن‌ ينعدم‌ بعد تحقّقه‌؟

 يروي‌ محمّد بن‌ يعقوب‌ الكلينيّ في‌ « الكافي‌ » بسنده‌ عن‌ معاوية‌بن‌ وهب‌، قال‌:

 سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَهِ عَلَيهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: إِذَا تَابَ العَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحَاً أَحَبَّهُ اللَهُ فَسَتَرَ عَلَيْهِ فِي‌ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فَقُلْتُ: كَيْفَ يَستُرُ عَلَيْهِ؟

 قَالَ: يُنْسِي‌ مَلَكَيْهِ مَا كَتَبَا عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَيُوحِي‌ إلی جَوَارِحِهِ اكْتُمِي‌ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ وَيُوحِي‌ إلی بِقَاعِ الاَرْضِ اكْتُمِي‌ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَيْكِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَيَلْقَي‌ اللَهَ حِينَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ شَي‌ءٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِشَي‌ءٍ مِنَ الذُّنُوبِ. [7]

 وبناءً عليه‌، فإنّ مثل‌ هذا المذنب‌ التائب‌ سيلاقي‌ ربّه‌ عزّ وجلّ في‌ مقام‌اللقاء في‌ حالٍ لا يشهد فيها علی ذنوبه‌ شي‌ء.

 ويستفاد من‌ كلام‌ الإمام‌ أنّ التوبة‌ هي‌ حجاب‌ يغطّي‌ العمل‌ القبيح‌. فكما يرتكب‌ الإنسان‌ عملاً قبيحاً فيتحقّق‌ عمله‌ في‌ الخارج‌، فالتوبة‌ كذلك‌ هي‌ عمل‌ يتحقّق‌ في‌ الخارج‌ ويبقي‌ ثابتاً في‌ عالم‌ التكوين‌؛ وأثره‌ الملكوتي‌ّ أن‌ يشكّل‌ ساتراً وحجاباً يغطّي‌ الذنوب‌ فلايطّلع‌ عليها أحد.

 كما روي‌ الكليني‌ّ في‌ « الكافي‌ » بسنده‌ عن‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌، قال‌:

 ثَلاَثَةٌ يَشْكُونَ إلی اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَسْجِدٌ خَرَابٌ لاَيُصَلِّي‌ فِيهِ أَهْلُهُ، وَعَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، وَمُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الغُبَارُ لاَيُقْرَأُ فِيهِ. [8]

 وقد عُدّ المصحف‌ والمسجد في‌ هذه‌ الرواية‌ الشريفة‌ في‌ مصافّ العالِم‌ الذي‌ يشكي‌ إلی ربّه‌. ومن‌ الجليّ أنّ المراد بالمصحف‌ هو هذا القرآن‌ المكتوب‌ علی الورق‌ والمحفوظ‌ بين‌ الدفّتين‌ وليس‌ حقيقة‌ القرآن‌ الموجودة‌ في‌ العوالم‌ العلويّة‌. لا نّه‌ عبّر عنه‌ بالقرآن‌ المعلّق‌ الذي‌ وقع‌ عليه‌ الغبار.

 ولا ريب‌ أنّ المصحف‌ المعلّق‌ هو موجود مادّيّ لاعقلانيّ، إلاّ أ نّه‌ ـ مع‌ ذلك‌ـ يشكو إلی ربّه‌. كما أنّ المسجد ـ بدوره‌ـ مكان‌ مادّي‌ّ؛ لكنّه‌ يشكو إلی الله‌، شأنه‌ في‌ ذلك‌ شأن‌ العالِم‌.

 الرجوع الي الفهرس

دعاء أمير المؤمنين‌ حسب‌ نقل‌ ميثم‌ التمّار

 يروي‌ المرحوم‌ الشهيد محمّد بن‌ مكّي‌، وهو من‌ فقهاء الطراز الاوّل‌ في‌ الإسلام‌ وممّن‌ يُركَن‌ إلی كلامه‌ بين‌ العلماء بلحاظ‌ إتقانه‌ وإحكام‌ مطالبه‌. يروي‌ عن‌ ميثم‌ التمّار مرسلاً. كما يروي‌ مؤلّف‌ « المزار الكبير» وهو السيّد فخّاربن‌ معد الموسوي‌ّ أو بعض‌ أفاضل‌ معاصريه‌: حدّثني‌ الشريف‌ أبو المكارم‌ الحمزة‌بن‌ علی بن‌ زهرة‌ العلوي‌ّ أدام‌ الله‌ عزّه‌ وأملي‌ علی بلفظه‌ في‌ الكوفة‌ سنة‌ سبعمائة‌ وأربع‌ وسبعين‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ جدّه‌، عن‌ الشيخ‌ أبي‌ جعفر محمّدبن‌ علی ابن‌ بابويه‌ رضي‌ الله‌ عنه‌، عن‌ الحسن‌بن‌ علی البيهقي‌ّ، عن‌ محمّدبن‌ يحيي‌ الصولي‌ّ، عن‌ عون‌ بن‌ محمّد الكندي‌ّ، عن‌ علیبن‌ ميثم‌ رضي‌ الله‌ عنه‌، عن‌ ميثم‌ التمّار، قال‌: أصحر بي‌ مولاي‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ ليلة‌ من‌ الليالي‌ قد خرج‌ من‌ الكوفة‌ وانتهي‌ إلی مسجد جعفي‌، توجّه‌ إلی القبلة‌ وصلّي‌ أربع‌ ركعات‌ فلمّا سلّم‌ وسبّح‌ بسط‌ كفّيه‌ وقال‌:

 إِلَهي‌! كَيْفَ أَدْعُوكَ وَقَدْ عَصَيْتُكَ، وَكَيْفَ لاَ أَدْعُوكَ وَقَدْ عَرَفْتُكَ، وَحُبُّكَ فِي‌ قَلْبِي‌ مَكِينٌ، مَدَدْتُ إِلَيْكَ يَداً بِالذُّنُوبِ مَمْلُوَّةً، وَعَيْناً بِالرَّجَاءِ مَمْدُودَةً.

 إِلَهِي‌! أَنْتَ مَالِكُ العَطَايَا وَأَنَا أَسِيرُ الخَطَايَا، وَمِنْ كَرَمِ العُظَمَاءِ الرِّفْقُ بِالاُسَرَاءِ. وَأَنَا أَسِيرٌ بِجُرْمِي‌ مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِي‌.

 إِلَهِي‌! مَا أَضْيَقَ الطَّرِيقَ علی مَنْ لَمْ تَكُنْ دَلِيلَهُ وَأَوْحَشَ المَسْلَكَ علی مَنْ لَمْ تَكُنْ أَنِيسَهُ. [9] ـ إلی آخر دعائه‌.

 الرجوع الي الفهرس

كلام‌ أمير المؤمنين‌ مع‌ البئر خارج‌ مدينة‌ الكوفة‌

 وأخفتَ دعاءه‌ وسجد وعفّر وقال‌: العَفْوَ العَفْوَ مائة‌ مرّة‌، وقام‌ وخرج‌ فاتّبعته‌ حتّي‌ خرج‌ إلی الصحراء، وخطّ لي‌ خطّة‌ وقال‌: إيّاك‌ أن‌ تجاوز هذه‌ الخطّة‌، ومضي‌ عنّي‌. وكانت‌ ليلة‌ مدلهمّة‌ فقلت‌ يانفسي‌ أسلمت‌ مولاك‌ وله‌ أعداء كثيرة‌ أي‌ّ عذر يكون‌ لك‌ عند الله‌ وعند رسوله‌، والله‌ لاقفنّ أثره‌ ولاعلمنّ خبره‌ وإن‌ كان‌ قد خالفتُ أمره‌. وجعلت‌ أتبع‌ أثره‌ فوجدته‌ عليه‌ السلام‌ مطلعاً في‌ البئر إلی نصفه‌ يُخاطب‌ البئر والبئر تخاطبه‌، فحسّ بي‌ والتفت‌ عليه‌ السلام‌ وقال‌: مَن‌؟ قلتُ: ميثم‌. فقال‌: ياميثم‌! ألم‌ آمرك‌ أن‌ لاتتجاوز الخطّة‌؟ قلت‌: يامولاي‌! خشيتُ عليك‌ من‌ الاعداءِ فلم‌يصبر لذلك‌ قلبي‌. فقال‌: أسمعتَ ممّا قلتُ شيئاً؟ قلتُ: لا،مولاي‌.

 فقال‌: يا ميثم‌!

 وَفِي‌ الصَّدْرِ لُبَانَاتٌ                     إِذَا ضَاقَ لَهَا صَدْرِي‌

 نَكَتُّ الاَرْضَ بِالكَفِّ                     وَأَبْدَيْتُ لَهَا سِرِّي‌

 فَمَهْمَا تُنْبِتِ الاَرْضُ                    فَذَاكَ النَّبْتُ مِنْ بَذْرِي‌ [10]

 وينبغي‌ العلم‌ أنّ المراد بنكت‌ الارض‌ بكفّ اليد وإخفاء السرّ فيها، وإنبات‌ الارض‌ من‌ ذلك‌ السرّ ينطوي‌ علی كناية‌ واستعارة‌ لما تدور عليه‌ محاورات‌ عامّة‌ الناس‌ من‌ افتقاد مَن‌ يصلح‌ لان‌ يبوح‌ له‌ الإنسان‌ بسرّه‌ ويفضي‌ له‌ بمكنون‌ صدره‌، فيلجأ إلی دفن‌ سرّه‌ في‌ التراب‌؛ أو أنّ إرادة‌ الإمام‌ تعلّقت‌ حقيقة‌ بأن‌ يقوم‌ بنفسه‌ القدسيّة‌ بإيداع‌ تلك‌ الاسرار في‌ باطن‌ الارض‌ وروحها وملكوتها، لينبت‌ من‌ تلك‌ الارض‌ فيما بعد من‌ أمثال‌ أولياء الله‌ فيكونون‌ أصحاب‌ سرّ الإمام‌.

 وبطبيعة‌ الحال‌ فإنّ هذا الاحتمال‌ الثاني‌ أقرب‌ إلی الحقيقة‌، لانّ خروج‌ الإمام‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ إلی الصحراء في‌ الليل‌ البهيم‌، وتركه‌ ميثم‌ التمّار بعد صلاته‌ ومناجاته‌ الطويلة‌ للّه‌ تعالي‌ وذهابه‌ بمفرده‌، أمرٌ يُستبعد أن‌ يكون‌ كناية‌ واستعارة‌ أدبيّة‌ ارتجلها متابعة‌ لاُسلوب‌ محاورات‌ الناس‌.

 ويستفاد من‌ ذلك‌ أنّ للارض‌ شعوراً وإدراكاً، وأ نّها تسجّل‌ سرّ الإمام‌ وتحفظ‌ أمانته‌ ثمّ تخرجها مع‌ النبات‌ عند فصل‌ إنبات‌ الزرع‌.

 يروي‌ الشيخ‌ الكشّي‌ّ رواية‌ شائقة‌ عن‌ جبرئيل‌بن‌ أحمد، عن‌محمّد ابن‌عيسي‌،عن‌ إسماعيل‌بن‌ مهران‌، عن‌ أبي‌ جميلة‌ المفضّل‌بن‌ صالح‌، عن‌ جابربن‌ يزيد الجعفيّ، قال‌:

 حَدَّثَنِي‌ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلاَمُ بِسَبْعِينَ أَلْفِ حَدِيثٍ لَمْأُحَدِّثْ بِهَا أَحَدَاً قَطُّ وَلاَأُحَدِّثُ بِهَا أَحَدَاً أَبَدَاً.

 قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ لاِبِي‌ جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلاَمُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ: إنَّكَ قَدْ حَمَّلْتَنِي‌ وِقْرَاً عَظِيمَاً بِمَا حَدَّثْتَنِي‌ بِهِ مِنْ سِرِّكُمُ الَّذِي‌ لاَأُحَدِّثُ بِهِ أَحَدَاً، فَرُبَّمَا جَاشَ فِي‌ صَدْرِي‌ حَتَّي‌ يَأْخُذُنِي‌ مِنْهُ شِبْهُ الجُنُونِ!

 قَالَ: يَا جَابِرُ! فَإذَا كَانَ ذَلِكَ فَاخْرُجْ إلی الجَبَّانِ فَاحْفُرْ حَفِيرَةً وَدَلِّ رَأْسَكَ فِيهَا ثُمَّ قُلْ: حَدَّثَنِي‌ مُحَمَّدُبْنُ علی بِكَذَا وَكَذَا. [11]

 وشأن‌ هذه‌ الرواية‌ شأن‌ سابقتها، فلا ينبغي‌ التعجّب‌ من‌ بوح‌ السرّ للارض‌، ومن‌ كتمان‌ الارض‌ لسرّ الإنسان‌.

 الرجوع الي الفهرس

الحجر الاسود ذو شعور وإدراك‌

 هذا وقد وردت‌ روايات‌ ذات‌ مضامين‌ مختلفة‌ في‌ شأن‌ الحجر الاسود المنصوب‌ في‌ ركن‌ الكعبة‌ وأمر امتلاكه‌ شعوراً وإدراكاً. ونورد بعض‌ تلك‌ الروايات‌ كأمثلة‌:

 1 ـ رواية‌ في‌ « علل‌ الشرايع‌ » و « عيون‌ أخبار الرضا » رواها عن‌ أبيه‌، عن‌ محمّد العطّار، عن‌ محمّد بن‌ أحمد، عن‌ موسي‌ بن‌ عمر، عن‌ ابن‌ سنان‌، عن‌ أبي‌ سعيد القمّاط‌، عن‌ بكير بن‌ أعين‌، قَالَ:

 قَالَ لِي‌ أَبُو عَبْدِ اللَهِ عَلَيهِ السَّلاَمُ: هَلْ تَدْرِي‌ مَا كَانَ الحَجَرُ؟

 قَالَ، قُلْتُ: لاَ. قَالَ: كَانَ مَلَكاً عَظِيمَاً مِنْ عُظَمَاءِ المَلاَئِكَةِ عِنْدَ اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا أَخَذَ اللَهُ مِنَ المَلاَئِكَةِ المِيثَاقَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَقَرَّ ذَلِكَ المَلَكُ، فَاتَّخَذَهُ اللَهُ أَمِينَاً علی جَمِيعِ خَلْقِهِ فَأَلْقَمَهُ المِيثَاقَ وَأَوْدَعَهُ عِنْدَهُ.

 ثمّ ينقل‌ الإمام‌ قصّة‌ مفصّلة‌ يقول‌ في‌ آخرها:

 وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَشَدُّ حُبَّاً لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ اللَهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَيْنِهِمْ وَأَلْقَمَهُ المِيثَاقَ فَهُوَ يَجِي‌ءُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَهُ لِسَانٌ نَاطِقٌ وَعَيْنٌ نَاظِرَةٌ يَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ وَافَاهُ إلی ذَلِكَ المَكَانِ وَحَفِظَ المِيثَاقَ. [12]

 2 ـ ويروي‌ في‌ « منتخب‌ البصائر » بسنده‌ المتّصل‌ عن‌ الإمام‌ الباقر عليه‌ السلام‌، قال‌: لمّا قُتل‌ الحسين‌ بن‌ علی عليهما السلام‌، أرسل‌ محمّدبن‌ الحنفيّة‌ إلی علیبن‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌ وخلا به‌، ثمّ قال‌: يابن‌ أخي‌ قد علمتَ أنّ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ كان‌ جعل‌ الوصيّة‌ والإمامة‌ من‌ بعده‌ لعلیبن‌ أبي‌ طالب‌ عليه‌ السلام‌، ثمّ إلی الحسن‌، ثمّ إلی الحسين‌، وقد قُتل‌ أبوك‌ رضي‌ الله‌ عنه‌ وصلّي‌الله‌ عليه‌ ولم‌ يوصِ، وأنا عمّك‌ وصنو أبيك‌، وأنا في‌ سنّي‌ وقدمتي‌ أحقّ بها منك‌ في‌ حداثتك‌، فلاتنازعني‌ الوصيّة‌ والإمامة‌ ولاتخالفني‌. فقال‌ له‌ علیبن‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌: ياعمّ! اتّقِ الله‌ ولاتدّعِ ما ليس‌ لك‌ بحقّ، إنّي‌ أعظك‌ أن‌ تكون‌ من‌ الجاهلين‌. ياعمّ! إنّ أبي‌ صلوات‌ الله‌ عليه‌ أوصي‌ إلی قبل‌ أن‌ يتوجّه‌ إلی العراق‌ وعهد إلی في‌ ذلك‌ قبل‌ أن‌ يُستشهد بساعة‌، وهذا سلاح‌ رسول‌الله‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ عندي‌، فلا تعرَّض‌ لهذا فإنّي‌ أخاف‌ عليك‌ نقص‌ العمر وتشتت‌ الحال‌ وإنّ الله‌ تبارك‌ وتعالي‌ إلی أن‌ لا يجعل‌ الوصيّة‌ والإمامة‌ إلاّ في‌ عقب‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌، فإن‌ أردتَ أن‌ تعلم‌ فانطلق‌ بنا إلی الحجر الاسود حتّي‌ نتحاكم‌ إليه‌ ونسأله‌ عن‌ ذلك‌.

 قال‌ الباقر عليه‌ السلام‌: وكان‌ الكلام‌ بينهما، وهما يومئذٍ بمكّة‌، فانطلقا حتّي‌ أتيا الحجر الاسود، فقال‌ علیبن‌ الحسين‌ عليهما السلام‌ لمحمّد: ابدأْ فابتهل‌ إلی الله‌ واسأله‌ أن‌ يُنطق‌ لك‌ الحجر ثمّ اسأله‌. فابتهل‌ محمّد في‌ الدعاء وسأل‌ الله‌، ثمّ دعا الحجر فلم‌ يُجبه‌. فقال‌ علیبن‌ الحسين‌ عليهما السلام‌: أما إنّك‌ يا عمّ لو كنتَ وصيّاً وإماماً لاجابك‌.

 فقال‌ له‌ محمّد: فادعُ أنت‌ يا ابن‌ أخي‌ واسأله‌. فدعا الله‌ علیبن‌ الحسين‌ عليهما السلام‌ بما أراد، ثمّ قال‌: أسألك‌ بالذي‌ جعل‌ فيك‌ ميثاق‌ الانبياء وميثاق‌ الاوصياء وميثاق‌ الناس‌ أجمعين‌ لمّا أخبرتنا بلسانٍ عربي‌ّ مبين‌ مَن‌ الوصي‌ّ والإمام‌ بعد الحسين‌ بن‌ علی؟ فتحرّك‌ الحجر حتّي‌ كاد أن‌ يزول‌ عن‌ موضعه‌، ثمّ أنطقه‌ الله‌ بلسان‌ عربي‌ّ مبين‌. فقال‌: اللهمّ إنّ الوصيّة‌ والإمامة‌ بعد الحسين‌ بن‌ علی إلی علی بن‌ الحسين‌ بن‌ علی بن‌ أبي‌ طالب‌ وابن‌ فاطمة‌ بنت‌ رسـول‌الله‌ صلّـي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌، فانصـرف‌ محمّد وهو يتولّي‌ علیبن‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌. [13]

 يروي‌ ابن‌ أبي‌ الحديد عن‌ أبي‌ سعيد الخدري‌ّ، قَالَ:

 حَجَجْنَا مَعَ عُمَرَ أَوَّلَ حِجَّةٍ حَجَّهَا فِي‌ خِلاَفَتِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرَامَ دَنَا مِنَ الحَجَرِ الاَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ وَاسْتَلَمَهُ فَقَالَ: إنِّي‌ لاَعْلَمُ أَ نَّكَ حَجَرٌ لاَتَضُرُّ وَلاَتَنْفَعُ وَلَوْلاَ أَ نِّي‌ رَأَيْتُ رَسُولَاللَهِ صَلَّي‌اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَكَ وَاسْتَلَمَكَ لَمَا قَبَّلْتُكَ وَلاَاسْتَلَمْتُكَ.

 فَقَالَ لَهُ علی عَلَيهِ السَّلاَمُ: بَلَي‌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إنَّهُ لَيَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَلَوْ عَلِمْتَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَهِ لَعَلِمْتَ أَنَّ الَّذِي‌ أَقُولُ لَكَ كَمَا أَقُولُ قَالَ اللَهُ تَعَالَي‌:

 «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن‌ بَنِي‌´ ءَادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ علی'´ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَي‌'» فَلَمَّا أَشْهَدَهُمْ وَأَقَرُّوا لَهُ بِأَ نَّهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَ نَّهُمْ العَبِيدُ، كَتَبَ مِيثَاقَهُمْ فِي‌ رِقٍّ ثُمَّ أَلْقَمَهُ هَذَا الحَجَرَ وَإنَّ لَهُ لَعَيْنَيْنِ وَلِسَانَاً وشَفَتَيْنِ يَشْهَدُ بِالمُوَافَاةِ فَهُوَ أَمِينُ اللَهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي‌ هَذَا المَكَانِ.

 فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَبْقَانِي‌َ اللَهُ بِأَرْضٍ لَسْتَ بِهَا يَا أَبَا الحَسَنِ! [14]

 ثمّ قال‌ المجلسيّ رضوان‌ الله‌ عليه‌ بعد نقله‌ هذه‌ القصّة‌: وقد نقل‌ هذه‌ القصّة‌ الغزّاليّ في‌ كتاب‌ « إحياء العلوم‌ »والبخاريّ ومسلم‌ في‌ صحيحيهما إلاّ أ نّهم‌ لم‌ينقلوا ردّ أمير المؤمنين‌ علی عُمر.

 وقد اعتذر ابن‌ تيميّة‌ في‌ « منهاج‌ السنة‌ » عن‌ عمر بأنّ قوله‌ للحجر الاسود « إنّك‌ حجر لا تضرّ ولا تنفع‌ » لم‌ يكن‌ علی سبيل‌ الحقيقة‌، بل‌ كان‌ علی أساس‌ المصلحة‌ والسياسة‌. فقد ألف‌ الكفّار والمشركون‌ حديثو العهد بالإسلام‌ عبادة‌ الاحجار وتكريمها علی أمل‌ نفعها وخوفاً من‌ ضررها، فقال‌ عمر ما قال‌ لئلاّ يعتزّ المشركون‌ بأنفسهم‌ ويفخروا بعملهم‌. بَيدَ أنّ رواية‌ ابن‌ أبي‌ الحديد تُبطل‌ هذا الاعتذار، لانّ عمر لم‌يعتذر من‌ فعله‌ بشي‌ء بعد أن‌ بيّن‌ له‌ الإمام‌ سرّ تقبيل‌ الحجر الاسود واستلامه‌، وبعد تأكيده‌ بأنّ هذا الحجر ينفع‌ ويضرّ. وكان‌ ينبغي‌ له‌ ألاّ يقول‌: لا أبقاني‌ الله‌ بأرضٍ لستَ فيها ياأبا الحسن‌! لانّ ظاهر هذا الكلام‌، كلام‌ من‌ كان‌ جاهلاً واعترف‌ بخطأه‌.

 وقد حذف‌ ابن‌ تيميّة‌ تتمّة‌ هذه‌ الرواية‌ ليتمكّن‌ من‌ تبرير ذلك‌.

 الرجوع الي الفهرس

 رواية‌ الإمام‌ الصادق‌ عن‌ الحجر الاسود

3 ـ يروي‌ محمّد بن‌ يعقوب‌ عن‌ عليّ بن‌ إبراهيم‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ ابن‌ أبي‌ عُمير؛ ومحمّد بن‌ إسماعيل‌، عن‌ الفضل‌ بن‌ شاذان‌، عن‌ ابن‌ أبي‌ عمير، وصفوان‌ عن‌ معاوية‌بن‌ عمّار، عن‌ الإمام‌ أبي‌ عبد الله‌ ( الصادق‌) عليه‌ السلام‌، قال‌:

 إذا دنوتَ من‌ الحجر الاسود فارفع‌ يديك‌ واحمد الله‌ وأثنِ عليه‌ وصلِّ علی النبي‌ّ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ واسأله‌ أن‌ يتقبّل‌ منك‌، ثمّ استلم‌ الحجر وقبّله‌، فإن‌ لم‌تستطع‌ أن‌ تقبّله‌ فاستلمه‌ بيدك‌، فإن‌ لم‌تستطع‌ أن‌ تستلمه‌ فأشرْ إليه‌ وقل‌: اللَهُمَّ أَمَانَتِي‌ أَدَّيْتُهَا وَمِيثَاقِي‌ تَعَاهَدْتُهُ لِتَشْهَدَ لِي‌ بِالمُوَافَاةِ. اللَهُمَّ تَصْدِيقَاً بِكِتَابِكَ وَعلی سُنَّةِ نَبِيِّكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَهُ وَحْدَهُ لاَشَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، آمَنْتُ بِاللَهِ وَكَفَرْتُ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَبِاللاَّتِ وَالعُزَّي‌ وَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَعِبَادَةِ كُلِّ نِدٍّ يُدْعَي‌ مِنْ دُونِ اللَهِ. [15]

 كما ورد عن‌ الكليني‌ّ، عن‌ عدّة‌ من‌ الاصحاب‌، عن‌ أحمدبن‌ أبي‌ عبدالله‌، عن‌ أحمدبن‌ موسي‌، عن‌ علی بن‌ جعفر، عن‌ محمّدبن‌ مسلم‌، عن‌ الإمام‌ جعفر الصادق‌ عليه‌ السلام‌ قَالَ:

 قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: اسْتَلِمُوا الرُّكْنَ فَإنَّهُ يَمِينُ اللَهِ فِي‌ خَلْقِهِ يُصَافِحْ بِهَا خَلْقَهُ مُصَافَحَةَ العَبْدِ أَوِ الدَّخِيلِ وَيَشْهَدُ لِمَن‌ اسْتَلَمَهُ بِالمُوافَاةِ. [16]

 وعليه‌، فإنّ المساجد في‌ حدّ ذاتها ومع‌ اختلافها، لها درجة‌ واحدة‌ من‌ الاهمّيّة‌، إذ إنّ الاختلاف‌ بلحاظ‌ المكانة‌ والشرف‌ أمر عارض‌ مُنح‌ لها. فشرف‌ الكعبة‌ والمسجد الحرام‌ يعود إلی الانوار المعنويّة‌ التي‌ كانت‌ لمن‌ بناهما أي‌ لإبراهيم‌ وإسماعيل‌ اللذين‌ منحا لهذه‌ الارض‌ ولهذا البناء روحاً وفضلاً، وشرف‌ مسجد الخيف‌ ومسجد النبي‌ّ نابع‌ من‌ شرف‌ العبّاد والنسّاك‌، فقد تشرّفا ونالا الكرامة‌ برسول‌ الله‌ وبإسماعيل‌ وإسحاق‌ وبسائر الانبياء كما تشرّف‌ قبر سيّد الشهداء وتربته‌ وأرض‌ كربلاء ونالت‌ الفضيلة‌ ببركة‌ البدن‌ الطاهر والعلقة‌ المثاليّة‌ لذلك‌ الإمام‌ بتلك‌ البقاع‌، وليس‌الامر عائداً إلی شرف‌ الارض‌ ذاتها، أو أنّ الله‌ تعالي‌ شاء لذلك‌ الإمام‌ أن‌ يُدفن‌ في‌ تلك‌ الارض‌ الشريفة‌ فينال‌ فضلاً ببركتها، فهذا خلاف‌ الحقيقة‌ والواقع‌.

 باده‌ در جوشش‌ گداي‌ جوش‌ ماست‌                        چرخ‌ در گردش‌ اسير هوش‌ ماست‌

 باده‌ از ما مست‌ شد ني‌ ما ازو                   قالب‌ از ما هست‌ شد نِي ما‌ ازو [17]

 الرجوع الي الفهرس

نورانيّة‌ الزمان‌ والمكان‌ تابع‌ لنورانيّة‌ أهلهما

 يروي‌ الكليني‌ّ في‌ « الكافي‌ » عن‌ ابن‌ أبي‌ عُمير، عن‌ بعض‌ أصحابه‌، قَالَ قُلْتُ لاِبِي‌ عَبْدِ اللَهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ:

 إِنِّي‌ لاَكْرَهُ الصَّلاَةَ فِي‌ مَسَاجِدِهِمْ. [18] فَقَالَ: لاَتَكْرَهْ، فَمَا مِنْ مَسْجِدٍ بُنِي‌َ إِلاَّ علی قَبْرِ نَبِي‌ٍّ وَوَصِي‌ِّ نَبِي‌ٍّ قُتِلَ فَأَصَابَ تِلْكَ البُقْعَةَ رَشَّةٌ مِنْ دَمِهِ فَأَحَبَّ اللَهُ تَعَالَي‌ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا؛ فَأَدِّ فِيهَا الفَرِيضَةَ وَالنَّوافِلَ وَاقْضِ فِيهَا مَا فَاتَكَ. [19]

 قال‌ المرحوم‌ العلاّمة‌ السيّد مهدي‌ بحرالعلوم‌ في‌ منظومته‌:

 أكْثِرْ مِنَ الصَّلاَةِ فِي‌ المَشَاهِد                خَيْرِ البِقَاعِ أَفْضَلِ المَعَابِد

 لِفَضْلِهَا اخْتِيرَتْ لِمَنْ بِهِنَّ حَلَّ                 ثُمَّ قَدْ حَلَّهَا سَمَا المَحَلَّ

 وَالسِّرُّ فِي‌ فَضْلِ صَلاَةِ المَسْجِدِ             قَبْرٌ لِمَعْصُومٍ بِهِ مُسْتَشْهَدِ

 بِرَشَّةٍ مِنْ دَمِهِ مُطَهَّرَة‌              طَهَّرَهُ اللَهُ لِعَبْدٍ ذَكَرَه‌ [20]

 والخلاصة‌، فإنّ شرف‌ الامكنة‌ والازمنة‌ ـ عموماًـ مرتبط‌ بشرف‌ الحالّ في‌ تلك‌ الامكنة‌ والازمنة‌ حيث‌ قيل‌: شَرَفُ المَكَانِ بِالمَكِينِ. وأنّ تلك‌ الارواح‌ الطيّبة‌ لاولياء الله‌ وأنبيائه‌ وأوصيائهم‌ هي‌ التي‌ تجعل‌ تلك‌ المواضع‌ طاهرة‌ منوّرة‌، وتمنحها جدارة‌ تحمّل‌ أعمال‌ الناس‌ العباديّة‌.

 وهذه‌ النورانيّة‌ تحصل‌ علی إثر ذلك‌ الإدراك‌ والشعور، إذ إنّ العلم‌ في‌ عوالم‌ المعني‌ نور، وكلّما قويت‌ درجة‌ إدراك‌ المكان‌ والزمان‌، زادت‌ نورانيّتها، كما هي‌ الحال‌ في‌ المسجد الحرام‌ ومسجد النبي‌ّ ومسجد قبا ومسجد الخيف‌ والمساجد الواقعة‌ في‌ أطراف‌ قبور المعصومين‌. كما أنّ شرف‌ يوم‌ الجمعة‌ وليلتها، وأيّام‌ شهر رمضان‌ ولياليه‌، والايّام‌ المعدودات‌ والايّام‌ المعلومات‌ وعيد الفطر وعيد الاضحي‌ وعيد الغدير والنصف‌ من‌ شعبان‌ وأمثالها عائد إلی شرف‌ الافراد الذين‌ تُنسب‌ إليهم‌ تلك‌ الايّام‌ والليالي‌. فقد سري‌ شرف‌ الحالّ إلی زمان‌ الحلول‌ ومكانه‌.

 وهناك‌ بعض‌ المساجد ذات‌ نورانيّة‌ جليّة‌ وواضحة‌، بحيث‌ يحسّ الإنسان‌ فيها بحالة‌ من‌ النشاط‌ والتوجّه‌ الروحي‌ّ، وذلك‌ منبعث‌ عن‌ خلوص‌ نيّة‌ باني‌ المسجد ومعماره‌ وعمّاله‌ ومصلّيه‌، بحيث‌ أدّي‌ وجداناً إلی جعل‌ فضاء المسجد المعنويّ روحانيّاً، وإلي‌ جعل‌ سقفه‌ وجدرانه‌ وأرضه‌ حيّة‌ ذات‌ شعور، بالرغم‌ من‌ جهل‌ عامّة‌ الناس‌ لهذا الامر.

 يقول‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ جمال‌ العارفين‌ الحاجّ الشيخ‌ جواد الانصاري‌ّ الهمداني‌ّ أسكنه‌ الله‌ بحبوحة‌ جنانه‌:

 دخلتُ أحد المساجد يوماً فرأيتُ رجلاً عجوزاً من‌ عامّة‌ الناس‌ منشغلاً بالصلاة‌ وقد اصطفّ خلفه‌ صفّان‌ من‌ الملائكة‌ يقتدون‌ به‌ دون‌ أن‌ يكون‌ له‌ علم‌ بالامر. وكنت‌ أعلم‌ أنّ ذلك‌ الرجل‌ العجوز قد أذّن‌ لصلاته‌ وأقام‌. فقد جاء في‌ الرواية‌ أنّ من‌ يؤدّي‌ الاذان‌ والإقامة‌ في‌ فرائضه‌ اليوميّة‌ فإنّ صفّين‌ من‌ الملائكة‌ سيقتدون‌ به‌، أمّا إذا أدّي‌ أحدهما فإنّ صفّاً واحداً من‌ الملائكة‌ سيقتدي‌ به‌ بحيث‌ يمتدّ طول‌ ذلك‌ الصفّ مابين‌ المشرق‌ والمغرب‌.

 وهذه‌ الآثار هي‌ من‌ الآثار الملكوتيّة‌ القهريّة‌ للاذان‌ والإقامة‌، ولو لم‌يكن‌ المؤذِّن‌ والمقيم‌ علی اطّلاع‌ بذلك‌. كما أنّ من‌ الآثار القهريّة‌ لخلوص‌ نيّة‌ المصلّين‌ والمناجين‌ ودرجات‌ قربهم‌، طهارة‌ المحلّ ونورانيّة‌ المكان‌ والزمان‌. فجبل‌ الطور قد تنوّر بسبب‌ تجلّي‌ نور الحقّ في‌ موسي‌ الكليم‌؛ وجبل‌ ساعير وجبل‌ فاران‌ وبيت‌ إيل‌ وبئر سبع‌ وباقي‌ الامكنة‌ النورانيّة‌ ومعابد أولياء الله‌ قد صارت‌ منوّرة‌ ومطهّرة‌ من‌ تجلّي‌ نور الحقّ في‌ الرسول‌ الاكرم‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وفي‌ عيسي‌ وإسحاق‌ ويعقوب‌ وسائر الانبياء الكرام‌.

 الرجوع الي الفهرس

  

الدرس‌ التاسع‌ والاربعون‌:

 شهادة‌ القرآن‌ والاعمال‌ يوم‌ القيامة‌

  

بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلی العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علی محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علی أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَـ'نِ الرَّحِيمِ * إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الاْرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسَـ'نُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَي‌' لَهَا. [21]

 يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ. [22]

 وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا. [23]

 وَقَالَ الإنسَـ'نُ مَا لَهَا؛ يتسـاءل‌ الإنسان‌: لماذا أصـبحت‌ الارض‌ هكذا؟ لماذا أضحت‌ بهذه‌ الصورة‌ وهذه‌ الكيفيّة‌؟ وما هي‌ قصّتها وما هو ماضيها؟ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا؛ يَومذاك‌ تحدّث‌ الارض‌ ما جري‌ عليها من‌ وقائع‌ الانبياء والائمّة‌، ومن‌ نزاعات‌ الدول‌ والجماعات‌ والاحزاب‌، وتقصّ الحوادث‌ العامّة‌ والخاصّة‌ للافراد. وستحكي‌ ما جري‌ لها من‌ الحوادث‌ منذ أن‌ خلقت‌ إلی حين‌ أخرجت‌ أثقالها وأمتعتها، وتستحيل‌ أرضاً أُخري‌ نورانيّة‌ طاهرة‌. بَأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَيَ لَهَا.

 بأنّ الله‌ أوحي‌ لها وألهمها، وبثّ فيها من‌ علمه‌. ذلك‌ الوحي‌ الذي‌ أوحاه‌ ربّك‌ ـ أيّها النبي‌ّـ للارض‌ فجعلها ذات‌ علم‌ يمكنها به‌ أن‌ تتحدّث‌ عن‌ الوقائع‌ والحوادث‌ الماضية‌، وأن‌ تُظهر أسرارها وخفاياها الدفينة‌ وتبديها للعيان‌.

 يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَاسُ أَشْتَاتًا لِّيَرُوْا أَعْمَـ'لَهُمْ.

 يوم‌ يصدر الناس‌ من‌ الارض‌، فتكون‌ صادرات‌ الارض‌ من‌ الناس‌ الذين‌ رقدوا فيها منذ آلاف‌ السنين‌ وارتدوا رداء الموت‌ والفناء.

 مِنْهَا خَلَقْنَـ'كُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَي‌'. [24]

 إنّ جميع‌ أفراد البشر الذين‌ جاءوا إلی الارض‌ تدريجيّاً منذ عهد آدم‌ إلی يوم‌ القيامة‌ فعُدّوا من‌ واردات‌ الارض‌، قد حان‌ الآن‌ موعد صدورهم‌ منها وخروجهم‌ بعنوان‌ صادرات‌. ولقد دخلوا في‌ باطن‌ الارض‌ وحلّوا فيها ونزلت‌ فيها أجسادهم‌ وأقامت‌ فيها وعُدّت‌ من‌ أثقالها. أمّا الآن‌ فقد آن‌ الاوان‌ لمناقشة‌ تلك‌ الملفّات‌ وإخراجها من‌ ديوان‌ المحفوظات‌ وتصديرها إلی عالم‌ آخر، إلی عالم‌ الحساب‌ وموقف‌ العرض‌ والشهادة‌. لماذا؟ لِيَرَوْا أَعْمَـ'لَهُمْ.

 وسيخرج‌ الناس‌ فرقاً، فرقاً أَشْتَاتًا؛ المؤمنون‌ مع‌ المؤمنين‌ والكفّار مع‌ الكفّار، وسيخرج‌ من‌ الارض‌ أصحاب‌ الاتّجاهات‌ والاحزاب‌ والمنتمون‌ إلی قبائل‌ خاصّة‌، في‌ صفوف‌ ومجاميع‌ مختلفة‌ فينضمّون‌ إلی بعضهم‌ في‌ تجمّعات‌ وتشكيلات‌ خاصّة‌ من‌ أجل‌ إراءتهم‌ أعمالهم‌ وإطلاعهم‌ علی سيرتهم‌ وسلوكهم‌.

 فَمَن‌ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ و * وَمَن‌ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. [25]

 الرجوع الي الفهرس

في‌ تفسير آية‌: يَوْمَئِِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا

 ويُستفاد من‌ هذه‌ الآيات‌ الكريمة‌ عدّة‌ أُمور:

 أحدها: أنّ الارض‌ ستتحدّث‌ وتخبر بوقائعها: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا»، حدّث‌ يحدّث‌ تحديثاً، أخبر وبيّن‌ وقصَّ. ومن‌ الجلي‌ّ أنّ الحديث‌ الذي‌ تحدّثه‌ الارض‌، لا تحدّثه‌ باللسان‌ المعهود الذي‌ هو عبارة‌ عن‌ قطعة‌ لحمية‌ داخل‌ الفم‌. كما أنّ الصوت‌ الذي‌ يخرج‌ من‌ الارض‌ لن‌يماثل‌ الاصوات‌ التي‌ يحدثها أفراد البشر. إذ لو قلنا بأن‌ الله‌ عزّ وجلّ يُوجد صوتاً في‌ الارض‌، فإنّ ذلك‌ الصوت‌ لن‌ يكون‌ صوتها، ولما صحّ أن‌ ننسبه‌ إليها فنقول‌ بأن‌ الارض‌ تتحدّث‌ وتحكي‌ عن‌ أخبارها وحوادثها.

 ولو وُضع‌ في‌ فم‌ إنسانٍ ما مسجّل‌ صغير للصوت‌ لايُري‌، فتحدّثَ ذلك‌ المسجّل‌ لما قيل‌ بأنّ ذلك‌ الشخص‌ قد تحدّث‌. إذ إنّ نسبة‌ الكلام‌ إلی الإنسان‌ تصحّ حين‌ يصدر الكلام‌ من‌ نفس‌ الإنسان‌ وحين‌ يكون‌ بإنشائه‌ وإرادته‌ أمّا الصوت‌ الذي‌ ينبعث‌ من‌ جوار الإنسان‌ فلايصدق‌ عليه‌ عنوان‌ صوت‌ الإنسان‌ وحديثه‌.

 ولو تحدّثت‌ الارض‌ بنفسها لما انحصر حديثها بهذه‌ الاصوات‌ المعهودة‌، لانّ حديث‌ كلّ شي‌ء يتناسب‌ مع‌ ذلك‌ الشي‌ء. فالإنسان‌ يتحدّث‌ بكيفيّة‌ معيّنة‌، وكلّ صنف‌ من‌ أصناف‌ الحيوانات‌ يتحدّث‌ بكيفيّة‌ معيّنة‌. وللشجرة‌ حديث‌ خاصّ، وللجمادات‌ كذلك‌ حديث‌ خاصّ معيّن‌. خاصّة‌ إذا رجعنا إلی المطالب‌ التي‌ نوقشت‌ في‌ المجلس‌ السابق‌ وذكرنا فيها أنّ الموجودات‌ ـ بما فيها الجمادات‌ـ تمتلك‌ شعوراً وقدرة‌ وحياة‌. لذا يتّضح‌ أنّ الارض‌ كذلك‌ ذات‌ شعور وفهم‌. فيكون‌ حديث‌ الارض‌ هو إراءتها وعرضها للحوادث‌. تلك‌ الحوادث‌ التي‌ حفظتها وصارت‌ اليوم‌ تعرضها بطريقة‌ تتناسب‌ مع‌ وجودها.

 قد تقولون‌: لقد جاءت‌ القطّة‌ إلی الغرفة‌ فتحدّثت‌ إلی وطلبت‌ طعاماً. وبطبيعة‌ الحال‌ فإنّ كلام‌ القطّة‌ وحديثها ليسا بأن‌ تقول‌ بلسانها وفقاً للالفاظ‌ المتداولة‌ « أيّها السيّد! أنا جائعة‌ وأريد طعاماً » فكلام‌ القطّة‌ هو مواؤها، حيث‌ تحدث‌ أصواتاً مختلفة‌، أحدها بكيفيّة‌ معيّنة‌ حين‌ تطلب‌ شيئاً، والاُخري‌ بكيفيّة‌ أُخري‌ حين‌ تشعر بالخوف‌ فتنادي‌ أطفالها إليها علی نحوٍ خاصّ. كما أنّ لها صوتاً خاصّاً حين‌ تطردهم‌ وتبعدهم‌ عنها، وصوتاً حين‌ تواجه‌ عدوّاً، وصوتاً حين‌ تسترحم‌ الإنسان‌ وتطلب‌ منه‌ طعاماً، فيفهم‌ من‌ لحن‌ صوتها وكيفيّة‌ نظراتها أ نّها جائعة‌ تطلب‌ طعاماً.

 وعلی أيّة‌ حال‌ فإنّ تكلّم‌ الارض‌ وحديثها يتناسب‌ معها، وحديثها هو عرضها للحوادث‌، مستخدمةً الشعور والإدراك‌ اللذين‌ تمتلكها.

 والامر الآخر قوله‌: بِأَنَّ رَبَّكَ أُوْحَي‌' لَهَا.

 الوحي‌ بمعني‌ إيصال‌ بعض‌ المعاني‌ الملكوتيّة‌ عن‌ طريق‌ الباطن‌ إلی عالم‌ المُلك‌ والظاهر بما يتناسب‌ مع‌ كلّ موجود.

 وَأُوْحَي‌' رَبُّكَ إلی النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي‌ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي‌ مِن‌ كُلِّ الثَّمَرَ ' تِ فَاسْلُكِي‌ سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً. [26]

 ولا يعني‌ الوحي‌ الذي‌ يوحيه‌ الله‌ إلی النحل‌، أ نّه‌ سبحانه‌ يرسل‌ جبرائيل‌ الامين‌ إلی كلّ نحلة‌، فيلهم‌ قلبها. بل‌ المراد بالوحي‌ إلی النحل‌، الفطرة‌ التي‌ أودعها الباري‌ المتعال‌ في‌ هذا الموجود والخاصّيّة‌ التي‌ جعلها فيها والقوي‌ الفكريّة‌ والخلقة‌ والغرائز التي‌ جهّزها بها بحيث‌ صارت‌ تبني‌ لنفسها بيوتاً وخلايا بين‌ ثغرات‌ الجبال‌ والاشجار وفي‌ فتحات‌ سقوف‌ البيوت‌. تلك‌ البيوت‌ المجلّلة‌ السداسيّة‌ المشيّدة‌ وفق‌ قواعد هندسيّة‌ بحيث‌ تعدّ من‌ أفضل‌ البيوت‌، دون‌ أن‌ يطرأ عليها خلل‌ أو نقص‌. أي‌ أ نّه‌ تعالي‌ جعل‌ نظام‌ النحل‌ وقوامها الوجودي‌ّ وحدودها الماهويّة‌ علی هذا النحو لتكون‌ علی هذه‌ الهيئة‌ والكيفيّة‌. وهذا النظام‌ قائم‌ علی أساس‌ خلق‌ الله‌ تعالي‌ حدوثاً وبقاءً.

 أي‌ أنّ هناك‌ في‌ كلّ لحظة‌ وحياً من‌ الذات‌ القدسيّة‌ للرحمن‌ إلی هذا المخلوق‌ المعصوم‌ المنقاد في‌ أساس‌ خلقته‌، وفي‌ إفاضة‌ الخلقة‌ والشعور والإدراك‌، وفي‌ تسديده‌ باستمرار بهذا الفهم‌ والشعور وفي‌ حدود قدرته‌، وفي‌ إرادته‌ وهدفه‌، في‌ القيام‌ بهذه‌ الوظائف‌.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ الآيتان‌ 140 و 141، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

[2] ـ «مثنوي‌ ملاّي‌ رومي‌» ج‌ 3، ص‌ 227، طبعة‌ ميرخاني‌.

 يقول‌: «العالم‌ كئيب‌ خامل‌ يُدعي‌ جماداً؛ والجماد يعني‌ الخامل‌ الذي‌ لاحسّ له‌ ولاشعور.

 فاصبر حتّي‌ تسطع‌ شمس‌ الحشر، لتري‌ حركة‌ جسم‌ العالَم‌ عياناً.

 وحين‌ استحالت‌ عصا موسي‌ ثعباناً، فقد صار للعقل‌ علمٌ بأحوال‌ الساكنات‌.

 وإذ أحيا الله‌ قبضة‌ من‌ التراب‌ فسوّاك‌ منها، فينبغي‌ أن‌ يُقاس‌ جميع‌ التراب‌ بهذا المقياس‌.

 إنّ هذه‌ الجمادات‌ ميّتة‌ من‌ هذه‌ الجهة‌ (التي‌ تقابلنا بها) وحيّة‌ من‌ تلك‌ الجهة‌ (التي‌ تقابل‌ بها الحقّ)؛ وهي‌ صامتة‌ من‌ هذه‌ الجهة‌ وناطقة‌ من‌ تلك‌».

 «ولو أرسل‌ (الله‌) الجمادات‌ إلينا من‌ جهتها تلك‌، لشاهدنا العصا ثعباناً.

 لقد تناغمت‌ الجبال‌ مع‌ داود، فاستحال‌ الحديد في‌ يده‌ ليّناً كالشمع‌.

 وصارت‌ الريح‌ حمّالاً لسليمان‌، وصار البحر يفهم‌ كلام‌ موسي‌.

 وصار القمر يري‌ إشارة‌ النبيّ (فينشقّ نصفينِ)، واستحالت‌ نار إبراهيم‌ روضةً.

 وأشبهَ الترابُ الافعي‌ حين‌ ابتلع‌ قارون‌، وصارت‌ الاُسطوانة‌ الحنّانة‌ مُدركة‌ ذات‌ شعور.

 صار الحجر يسلّم‌علی النبي‌ّ، وغدا الجبل‌ يبعث‌ برسالة‌ إلی يحيي‌.

 إنّ الجمادات‌ تتحدّث‌ معك‌ ليلَ نهار بلسان‌ خفي‌ّ.

 (تقول‌): نحن‌ في‌ أحسن‌ حال‌ نسمع‌ ونري‌، لكنّنا في‌ نظركم‌ ـ أنتم‌ الاجانب‌ ـ صامتون‌».

 «وما دُمتم‌ تسيرون‌ باتّجاه‌ الجماد، فأ نّي‌ سيمكنكم‌ النظر إلی أسرار روح‌ الجمادات‌؟

 فتحرّكوا من‌ الجماد واذهبوا صوب‌ عالم‌ الروح‌ لتسمعوا صخب‌ أجزاء العالم‌!

 ولينكشف‌ لكم‌ تسبيح‌ الجمادات‌، ولتزول‌ عنكم‌ وساوس‌ التأويلات‌.

 لقد افتقدت‌ أرواحكم‌ القناديل‌، فأضحيتم‌ لا تستفيدون‌ من‌ بصائركم‌ إلاّ التأويلات‌».

[3] ـ الآيتان‌ 3 و 4، من‌ السورة‌ 34: سبأ.

[4] ـ «بحار الانوار» ج‌ 7، ص‌ 325، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[5] ـ «بحار الانوار» ج‌ 7، ص‌ 325، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[6] ـ «بحار الانوار» ج‌ 7، ص‌ 218.

[7] ـ «بحار الانوار» ج‌ 7، ص‌ 317 و 318؛ الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[8] ـ «وسائل‌ الشيعة‌» ج‌ 1، ص‌ 304، طبعة‌ بهادري‌.

[9] ـ وهو دعاء طويل‌ يقرب‌ من‌ صفحة‌ من‌ صفحات‌ كتاب‌ «بحار الانوار» طبعة‌ الكمباني‌ّ.

[10] ـ أورد المرحوم‌ المجلسيّ هذه‌ الرواية‌ مع‌ ذكر الدعاء المفصّل‌ في‌ «بحار الانوار» ج‌ 22، ص‌ 105 و 106 من‌ طبعة‌ الكمبانيّ، كما أوردها في‌ أحوال‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ بدون‌ ذكر الدعاء المفصّل‌، في‌ ج‌ 9، ص‌ 472؛ كما أوردها المحدّث‌ القمّيّ في‌ الجزء الاوّل‌ من‌ «منتهي‌ الآمال‌» ص‌ 57 من‌ طبعة‌ المكتبة‌ العلميّة‌ الإسلاميّة‌ بدون‌ ذكر الدعاء، وذلك‌ نقلاً عن‌ الشيخ‌ الشهيد.

[11] ـ نقل‌ هذا الحديث‌ في‌ ص‌ 194 من‌ كتاب‌ «اختيار معرفة‌ الرجال‌» المعروف‌ بـ«رجال‌ الكشّي‌ّ» الذي‌ قامت‌ كلّيّة‌ الإلهيّات‌ في‌ مشهد بطبعه‌ بمناسبة‌ الذكري‌ الالفيّة‌ لولادة‌ الشيخ‌ الطوسي‌ّ، وفي‌ ص‌ 128 من‌ كتاب‌ «أخبار معرفة‌ الرجال‌» (وهو نفس‌ «رجال‌ الكشّي‌ّ») المطبوع‌ في‌ بمبي‌.

 كما نقل‌ في‌ كتاب‌ «معجم‌ رجال‌ الحديث‌» ج‌ 4، ص‌ 22، عن‌ الشيخ‌ الكشّي‌ّ؛ وأورده‌ المرحوم‌ العلاّمة‌ بحر العلوم‌ في‌ ص‌ 91 من‌ مخطوطة‌ «السير والسلوك‌» المنسوبة‌ إليه‌ باختلاف‌ يسير في‌ اللفظ‌.

[12] ـ «بحار الانوار» ج‌ 7، ص‌ 339، طبعة‌ الكمبانيّ، كما أورد المقطع‌ الثاني‌ في‌ الكتاب‌ المذكور ج‌ 6، ص‌ 5.

[13] ـ «بحار الانوار» ج‌ 9، ص‌ 617، طبعة‌ الكمباني‌ّ.

[14] ـ «بحار الانوار» ج‌ 8، ص‌ 298، طبعة‌ الكمباني‌ّ.

[15] ـ «تهذيب‌ الاحكام‌» ج‌ 5، ص‌ 102، طبعة‌ النجف‌؛ وقد ذكر الصدوق‌ أيضاً هذا الدعاء في‌ «من‌ لا يحضره‌ الفقيه‌» ج‌ 2، ص‌ 316، طبعة‌ النجف‌؛ أيضاً في‌ «المحجّة‌ البيضاء» ج‌ 2، ص‌ 169 و 170.

[16] ـ «التهذيب‌» ج‌ 5، ص‌ 102.

[17] ـ «مثنوي‌» ج‌ 1، ص‌ 1، طبعة‌ ميرخاني‌.

 يقول‌: «بنا سكرتْ الخمر ولم‌ نسكر بها؛ وبنا صار القالب‌ والاءطار ولم‌ نكن‌ به‌».

 «الخمرة‌ في‌ فورانها تستجدي‌ الفوران‌ منّا، الفلك‌ في‌ دورانه‌ أسير عقلنا وفطنتنا!».

[18] ـ يقصد مساجد العامّة‌ وأهل‌ السنة‌.

[19] ـ «تهذيب‌ الاحكام‌» ج‌ 3، ص‌ 258؛ و «سفنية‌ البحار» ج‌ 1، ص‌ 601.

 ويقول‌ في‌ «مصباح‌ الشريعة‌» الباب‌ الثالث‌ والاربعين‌ في‌ المشي‌:

 فَإنّه‌ قد جاء في‌ الخبر أنّ المواضع‌ التي‌ يذكر الله‌ فيها وعليها تشهد بذلك‌ عند الله‌ يوم‌ القيامة‌ وتستغفر لهم‌ إلی أن‌ يدخلهم‌ الله‌ الجنّة‌.

[20] ـ «الدّرة‌ النجفيّة‌» ص‌ 100، طبعة‌ مطبعة‌ النعمان‌ في‌ النجف‌.

[21] ـ الآيات‌ 1 إلی 5، من‌ السورة‌ 99: الزلزلة‌.

[22] ـ الآية‌ 48، من‌ السورة‌ 14: إبراهيم‌.

[23] ـ الآية‌ 69، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[24] ـ الآية‌ 55، من‌ السورة‌ 20: طه‌.

[25] ـ الآيتان‌ 7 و 8، من‌ السورة‌ 99: الزلزلة‌.

[26] ـ الآيتان‌ 68 و 69، من‌ السورة‌ 16: النحل‌.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com