|
|
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بالنظر لتشرّف أفراد من الحوزة العلميّة المقدّسة في قم بالمجيء الی البقعة الرضويّة المقدّسة بعد ارتحال سماحة آية الله أستاذنا العلاّمة رضوان الله تعالي عليه، و طلبهم من الحقير ـ نيابةً عن مجمع من المجامع ـ كتابة معلوماتي عن سماحته في رسالة في ذكراه، فلضمّها الی رسائل الآخرين التذكاريّة و تقديمها في مجمومعة واحدة. و كنتُ آنذاك قد كتبتُ كتاب «الشمس الساطعة» فبسطتُ فيه القول و البيان، و كان علی وشك الإتمام تقريباً، حيث سلّمت القسم الاقسم منه للطبع لتتبعه خلال أسابيع معدودة بقيّة أجزائه بالتدريج. و لذلك فلم تكن هناك حاجة ـ مع وجود هذا الاثر ـ لكتابة رسالة ذكري أخري مفصّلة. و باعتبار انّ كتاب «الشمس الساطعة» تحت الطبع في الوقت الحاضر، فقد طلب اولئك السادة من الحقير عند عودتهم، كتابةَ عدّة صفحات عن سماحة العلاّمة من أجل إلحاقها و طبعها مع تلك المجموعة، فلبيّت دعوتهم و حرّرت الصفحات اللاحقة و أرسلتها الی قم، بيد أنّها لم تطبع ضمن تلك المجموعة لاسباب غير معلومة. و حيث انّه يجري حالياً إعادة طبع كتاب «الشمس الساطعة» طبعةً ثانية، فقد تقرّر إدراج المطالب المحرّرة ضمنها لتكون تنويهاً بذكري سماحة أستاذنا و تجديد عهدٍ معه أسكنه الله بُحبوحة جنّاته. و تلك المجموعة كالتالي: بسم الله الرحمن الرحيم و صلّي الله عليه محمّد و آله الطاهرين و لعنة الله علی أعدائهم أجمعين. أفضل الحمد و أجدره للمعبود الذي خلق الإنسان فجعله مرآة تامّة لجماله و جلاله، و اختصّ لنفسه اسم أحسن الخالقين، و الذي هدي البشر بتجليّاته الربّانيّة من ظلمات الجهل الی أعلي ذروة العلم و البصيرة و المعرفة وا لتوحيد. و أتمّ الصلاة الخاصّة بخاتم الانبياء و قائد الرسل و المبعوثين الإلهيين: محمّد بن عبدالله صلّي الله عليه وآله وسلّم، المخاطب بخطاب: فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، المرتدي للخلعة الجميلة للعلم و المعرفة بالانوار المكوتيّة و السبحانيّة للربّ الودود. و علی وزيره و وصيّه الاوحد ذي المحتد الكريم: أميرالمؤمنين و قائد الموحدّين عليّ بن أبيّ طالب، الذي كشف بدرر بيانه المعضلات للباحثين عن سبيل السعادة والتوحيد، و صار مُفَصِّلَ مجمل القرآن و مؤوّلَ تنزيل الفرقان الإلهيّ، و علی أولاده الاحد عشر، و خاصّة صاحب العصر و الزمان الحجّة بن الحسن العسكري أرواحناه فداه، الذين قادوا الواحد بعد الآخر، بتحمّلهم أعباء الولاية و مهمّة الإمامة الخطيرة ـ قافلةَ عالم الوجود في سعيها الی الوطن المألوف و مقرّ الامن و الامان الإلهيّ، و دَعَوا البشر من الظلمات البعيدة للغرور و العُجب و حبّ الذات و الإستكبار و الإنشغال بالنفس، الی البحث عن الله و معرفته. و أجمل التحيّة و الإكرام و الدعاء و الإعظام، علی الارواح الطاهرة لعلماء الامّة الحقيقيين و مفكّريها الراسخين، الذين كانوا ربّانيّي متعلّمي سبيل النجاة، و الذين قادوا علی الدوام، بيُمن تعليمهم وتربيتهم، المشرّدين و المعذّبين في طريق الله العزيز الی مقام عزّ التوكّل و الرضا و التفويض و التسليم، و هدوهم الی أعتاب التوحيد. و خاصّة علی أستاذنا المرتحل حديثاً: فقيد العلم و العرفان، و فقيد التزكية و الاخلاق، ربّانيّ الباحثين بلهفة عن سبيل النجاة، و مربّي طلاّب أنوار المعرفة؛ الاستاذ الذي لا بديل له، العلاّمة بلا نظير، آية الله الاكرم الحاج السيّد محمد حسين الطباطبائي التبريزي أفاض الله علينا من بركات تربته الشريفة. الذي سعي في إعلاء راية التوحيد في قلوب الوالهين اتّباعاً لنهج الائمّة بالحقّ، و أوصل دعوة الإيمان و الإيقان الی الحافّات النائية و الاعماق البعيدة للقلوب الحيّة المهيّئة. اللهمَّ أَفْضِ عَلَيْهِ صِلَةَ صَلَواتِكَ وَ سَلاَمَةَ تَسْلِيمَاتِكَ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ مَاتَ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً آمِينَ رَبَّ العَالَمِينَ. هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ علی حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ؛ وَ بَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ؛ وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَ أَنسُِوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنيَا بِأَبْدانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَلإ الاَعْلَي. أُولَئِكَ خُلَفَآءُ اللَهِ فِي أَرْضِهِ؛ وَالدُّعَاةُ الی دِينِهِ. آهِ، آهِ شَوقاً الی رُؤيَتِهِمْ. [1] و قد ذكر أميرالمؤمنين عليه السلام هذه الفقرات في بيان حال العلماء بالله، الذين هم حجج الله في الارض، الذين يصونون الآيات الالهية و البيّنات الربّانيّة عن الإندراس و البُطلان. ذوو العدد القليل و القدر المنزلة الجليلة العظيمة. اولئك الذين يحفظ الله بهم حججه و بيّناته، حتّي يودعوها أمثالهم، و يزرعوها في قلوب أشباههم و نظائرهم. و حقّاً فانّنا لوشئنا الإشارة الی فردٍ يمثّل مصداقاً و معياراً لهذا الكلام، لكان العلاّمة الطباطبائي من الطراز الاوّل. فقد كان ذلك الرجل ملجأً للحوزة العلميّة، و ملجأً للطّلاب و الدارسين، و ملجأً للعلم و المرفعة، و ملجأً للاخلاق و العلم، و ملجأً للإيمان و الإيقان، و ملجأً للتصحية و الإيثار، و ملجأً للصبر و الثبات. الرجل الذي تُكب عالم المعرفة و العلم بفقده، و اكتست وجوه أهل الفضل غبار الحزن في مأتمه. الرجل الذي شعر عالم العلم و الادب بالخُسران لفقده، إذ كان مُرشد النهضة الفكريّة و العلميّة. و حقّاً فقد كانت أخلاق العلاّمة الطباطبائي و أدبه و فكره و عرفانه و علمه و معرفته دليلاً علی أخلاق الائمّة الطاهرين و أخلاقهم و علومهم و معارفهم. و كان سيماؤه آية من تلك الانوار الطيبّة، و نهجمه و سيرته حكاية عن تلك الارواح المقدّسة، منهم و اليهم. و قد ذكر الحقير في مؤلّفاته بالتفصيل مطالب قرآنيّة و علمية و فلسفيّة و عرفانيّة و أخلاقيّة لآية العلاّمة الطباطبائي، و نوّهتُ بتلك المطالب النفيسة ليستفيد منها العموم دونما مقابل. و قد ألّفت حالياً، احتراماً و أدباً أمام تربته الطاهرة، ما علمتُه عنه من حقائق و وقائع في رسالة للذكري مفصّلة قدراً ما، تحت عنوان: «الشمس الساطعة: رسالة في ذكري العلاّمة الطباطبائي»، قدّمُتها و أقدّمتها للطبع، علی أمل أن يُصار الی طبعها ف زمن قصير لتُقدّم لمطالعة أصحاب البصيرة. و لهذا، فحين طُلب أخيراً من الحقير كتابة شيء بعنوان رسالة في ذكري العلاّمة، فقد امتثلتُ بمحض الادب مقابل اسمه المقدّس، و اكتفيت بهذه الصفحات المعدودة، و أوصي القرّاء الكرام بمطالعة كتاب «الشمس الساطعة» رسالة في ذكري العلاّمة الطباطبائيّ». أسأل الله التوفيق لجميع المتولّهين بسبيل الخلاص، و عشّاق لقاء المعبود، ليسعوا في سبيل المقصود بمطالعة أحوال الاعلام من أمثال الاستاذ الجليل: العلاّمة الطباطبائي، ولكي لا يكفّوا عن الطلب و القصد حتي نيك المنشود. اللَّهُمَّ احْشُرهُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهرِِينَ وَاخْلُف علی عَقِبِهِ فِي الغَابرينَ، و أَيِّدّ وَ سَدِّد و زِدْ وَ بَارِك علی المُتَعِّمِينَ مِن سَمَاحَتِهِ علی سَبِيلِ نَجَاةٍ. وَ وَفِّقِ اللَهُمَّ إِيَّانَا وَ جَمِيعَ إِخْوَانِنَا المُخَلصِينَ مِن بَرَكَاتِ رَشَحَاتِ قَلَمِهِ، وَ مِن شَآبِيبِ زَحماتِ نَفْسِهِ فِي يَوْمِنَا بَعْدَ أَمسِهِ. حرّر في المشهد المقدس للرضا عليه السلام، يوم الجمعة 26 ربيع الاوّل لسنة ألف و أربعمائة و اثنتين هجريّة السيّد محمّد الحُسين الحسينيّ الطهرانيّ
بسم الله الرحمن الرحيم و صلّی الله علی سيّدنا و نبيّنا خاتم النبيّن محمّد و علی آله الطيّبين الطاهرين و لعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن الی قيام يوم الدين
تِهْ دَلاَلاً فَأنتَ أهلٌ لِذَاكَا وَ تَحَكَّم فَالحُسْنُ قَدْ أعطَاكَا وَ لَكَ الامرُ فَاقضِ مَا أنتَ قَاضٍ فَعَلَيَّ الجَمَالُ قَدْ أوْلاَكَا وَ تَلافِي إنْ كَانَ فِيهِ ائتِلاَفِي بِكَ عَجّل بِهِ جُعِلْتُ فِدَاكَا وَ بِمَا شِئْتَ فِي هَوَاكَ اخْتَبِرنِي فَاخْتِيَارِي مَا كَانَ فِيهِ رِضَاكَا فَعَلَيَ كُلِّ حَالَةٍ أنتَ مِنِّي بِيَ أوْلَي إذْ لَم أَكُن لَوْلاَكَا وَ كَفَانِي عِزّاً بِحُبِّكَ ذُلِّي وَ خُضُوعِي وَ لَسْتُ مِن أكْفَاكَا وَ إذَا مَا إلَيْكَ بِالوَصْلِ عَزَّتْ نِسبَتِي عِزَّةً وَ صَحَّ وِلاَكَا فَاتِّهَامِي بِالحُبِّ حَسْبِي وَ أنِّي بَيْنَ قَوْمِي أاَعدُّ مِن قَتْلاَكَا [2] لقد تشرّف هذا الحقير، سنة ألف و ثلاثمائة و أربع و ستّين، بالذهاب الی بلدة قم الطيبّة لتحصيل العلوم الدينيّة، فحللتُ في غرفة بمدرسة المرحوم آية الله «حجّت»، التي عُرفت فيما بعد بالمدرسة الحجتيّة، و تابعتُ الدرس و البحث و المطالعة. و كان بناء هذا المدرسة صغيراً، و كان في نيّة آية الله «حجّت» توسعتها ليُضاف إليها عدّة آلاف متر مرّج من الاراضي المجاورة كان قد أعدّها من أجل أن يبني للطلبة مدرسة ضخمة علی طراز المدارس الإسلاميّة، بحيث تضمّ عدداً كبيراً من الغرف وقاعةً للتدريس و مسجداً و مكتبة و سرداباً و فخرناً للعماء و سائر ما يحتاج اليه الطلبة، و ذلك وفق نظام صحيّ صحيح، و بفضاء واسع مفتوح يبعث النشاط في أرواح الطلبة. [3] و مع انّ العديد من المهندسين قدموا من طهران و غيرها و قدّموا خرائط تصاميم مختلفة، الاّ انّ أيّاً منها لم يحظَ بموافقة آية الله، ثمّ طرق سمعنا أخيراً أنّ سيّداً قدم من تبريز فأعدّ تصحيحاً حاز رضا آية الله و إقراره، فكنّا في غاية الشوق نترصّد رؤية هذا السيّد. و كنّا أيضاً ـ من جهة أخري ـ في غاية اللهفة لدارسة الفلسفة، و كان العالم الجليل فخر الحكماء و الفلاسفة آية الله الحاج الميرزا مهدي الآشتياني قدّس الله نفسه قد تشرّف في ذلك الوقت بالمجيء الی قم ناوياً التدريس، فلبق في قم عدّة أشهر. و كان قد وعد أحد أصدقائنا الاعزاء أن يبدأ بإلقاء درس خصوصيّ في الفلسفة علينا من «المنظومة السبزوارية»، و كنّا علی و شكّ البدء في الدرس حين انصرف بغتةً عن الإقامة في قم و عاد الی طهران. ثمّ سمعنا في تلك الاثناء أنّ ذلك السيّد الذي قدم من تبريز و أعدّ خارطة و تصحيحاً للبناية يُعرف بإسم القاضي، و أنّه حاذق ماهر في الرياضيّات و الفلسفة، و أنّه قد بدأ بتدريس الفلسفة في الحوزة. اللقاء الاوّل مع العلاّمة الطباطبائي قدّس الله نفسهو هكذا ازداد شوقي لرؤيته و لقائه، و كنت أترصّدالذهاب الی منزله و اللقاء به بحُجّة ما، حتّي جاء الی غرفتي يوماً أحد الاصدقاء الذين يتردّدون علی المدرسة ـ و هومن علماء رشت حالياً ـ فقال: لقد عاد السيّد القاضي [4] من زيارة مشهد، فهلمّ نذهب لزيارته! و ما إن دخلنا منزله، حتّي فوجئنا بأنّ هذا الرجل المعروف المشهور هو بنفسه السيّد الذي كنّا نلتقيه يوميّاً في الازقّة في الطريق، فلم نكن لنحتمل أبداً أن يكون من أهل العلم، فضلاً عن التبحّر في العلوم. فلقد كان يتردّد في أزقّة قم مرتدياً عمامة صغيرة جدّاً من الكرباس الازرق، و جبّة ذات أزرار مفتوحة، و دونما جورب، بملابس أدني من العاديّة؛ كما كان بيته هو الآخر بسيطاً محقّراً للغاية. ثمّ أنّنا عانقناه و جلسنا، و تطرّق الحديث الی جهاتٍ عدّة، فرأيناً أنّ الامر ليس كما يتصوّر المرء، فهذا الرجل في الحقيقة عالَم من العلم و الدراية و الإدراك و الفهم، و صار مشهوداً لدينا جيّداً أنّ: هر آنكو ز دانش برد توشهاي جهانيست بنشسته در گوشهاي[5] و لقد تصاعد بنا الوله و التعلّق و الحبّ الی أوجها دفعةً واحدةً في ذلك المجلس، فسألناه أن يدرسّنا درساً خصوصياً في الفلسفة، ليمكننا البحث و المحادثة خلال الدروس بحريّة من أجل نفي أيّ إشكال و إبهام في المطلب، فوافق في منتهي الجلال. و حين خرجنا من محضره و وصلنا الی سائر الاصدقاء الذين تقرّر أن ندرس الفلسفة معهم، سألونا: كيف وجدتم السيّد القاضي؟ أجبتُ: عليّ أن أقرأ في جوابكم ذلك الرباعي الذي أنشده أبوالعلاء المعريّ الاعمي في السيّد المرتضي حين عاد الی وطنه بعد لقائه بالسيّد فسئل عنه: كيف وجدتَهُ؟ فقال: يَا سَائِلِي عَنْهُ لَمَّا جِئتُ أَسْألُهُ ألاَ هُوَ الرَّجُلُ العَارِي مِنَ العَارِ لَوْ جِئتَهُ لَرَأيْتَ النَّاسَ فِي رَجُلٍ وَالدَّهْرَ فِي سَاعَةٍ وَ الارْضِ فِي دَارِ [6] و الخلاصة فقد شرع في تدريسنا درس الفلسفة في قاعة درس المدرسة، و مع انّه قد تقرّر أن يكون الدرس خصوصيّاً، الاّ انّ الطلبة اطّلعوا علی الامر، فملا قاعة الدرس في اليوم الاول ما يقرب من امائة نفر. و علی الرغم من ان البحث و المناقشة كانا بقدر كافٍ خلاف الدرس، الاّ انّه لم يكن صواباً ـ بسبب اكتظاظ القاعة بعدد كبير ـ أن تُطرح إشكالات أعلي من المستوي العادي للدرس، و هكذا فقد كنتُ علی الدوام أسايره بعد نهاية الدرس الی باب منزله للتحدّث معه في الطريق لاستيضاح بعض المطالب. وازداد حبّي له و تعلّقي به؛ و لانّه كان رجلاً بسيطاً جليلاً خلوقاً حيياً نزيهاً، فقد كان يعاملني معاملة الاخ العطوف و الرفيق الشفيق، فكان يأتي الی الغُرفة عصراً، كما كان يتحدّث معي كلّ يوم ـ علاوةً علی الدرس الرسمي ـ لساعة أو ساعتين عن القرآن الكريم و المعارف الإلهيّة. و قد رّسني ـ علاوةً علی درس الفلسفة ـ دورة في الهيئة القديمة (علم الفَلَك)، [7] و شرع أيضاً بتدريسي التفسير. منهج و اسلوب العلاّمة الطباطبائي في الدرسو باختصار فقد استقرّت العظمة و الجلالة و السكينة و الوقار في وجوده، و كان بحر العلوم و المعرفة فوّاراً لديه متدفّقاً كالعين الغزيرة الفوّارة، و كان يجيب علی الاسئلة في هدوء و سكينة. و مع انّ نقاشي و تطاولي كان يصل الی أقصاه أحياناً، فانّه لم يكن ليتخطّي أبدا خطّ سيره و نجه، فلم تكن نبرة صوته لترتفع ـ ولو لمرّة واحدة ـ عن ذلك الحدّ الطبيعي، و كان ذلك الادب و المتانة و الوقار و العظمة راسخاً في مكانه دوماً، كما ان كأس صبره و احتماله لم تكن لتطفح أو تفيض. و كان يلقي عليّ أحياناً بيانات عن أحوال الاعلام و أولياء الله و المدارس و الاتّجاهات العرفانيّة، و كان له خاصّةً بيانات مفصّلة عن استاذه في النجف في المعارف الالهيّة و الاخلاق؛ المرحوم سيّد العارفين و سند المتألّهين آية الله الوحيد السيّد الحاج الميرزا علی اقاي القاضي رضوان الله عليه، كانت شأئقة و محببّة الی نفسي. و كانت مجالسي معه ـ علاوة علی أوقات الدروس الرسميّة ـ تمتدّ أحياناً الی ساعتين أو ثلاث في اليوم. و لقد بلغ من ولهي و تدلّهي به حدّاً هجرتُ معه غرفة المدرسة و استأجرتُ غرفة قرب منزله، فانتقلتُ اليها لاستزادة أُنسي به و لقائي معه، و لاستزادة استفادتي منه و انتهالي من فيضه، فكان يُلقي عليّ باستمرار مواعظ أخلاقيّة و عرفانيّة قبل الغروب بساعة أو ساعتين. و كان يحصل أحياناً أن تمتدّ الی جزء من الليل، كما كان يأتي في فصل الربيع الی حديقة «باغ قلعة» الواقعة قرب منزله، فيُلقي عليّ و علی رفيق أو رفيقين آخرين بيانات مفصّلة عن سيرة و نهج الفلاسفة المتألّهين المسلمين، و عن مسلك علماء الاخلاف، و عن سير و سلوك العرفاء الاجلاّء، و خاصّة عن أحوال المرحوم الآخوند الملاّ حسين قلي الهمداني و تلامذته المبرزين، كالسيّد أحمد الكربلائي الطهراني و الحاج الميرزا جواد اقا الملكي التبريزي و الحاج الشيخ محمّد البهاري و السيد محمد سعيد الحبوبي، و عن سيرة و نهج المرحوم السيّدين ابن طاوس و بحر العلوم، و عن استاذه المرحوم القاضي رحمة الله عليهم أجمعين، و كانت تلك البيانات مفتاح طريقنا في المعارف الإلهيّة. و حقّاً! فانّنا لو لم نلتقِ بمثل بهذا الرجل، لكنّا قد خسرنا الدنيا و الآخرة، و لكانت أيدينا صفرات من كلّ شيء؛ فلله الحمد و له المنّة. و باختصار، فقد كان ذكرنا و فكرنا الدائمي ـ علاوة علی الدروس الرسميّة للحوزة من الفقه و الاصول ـ في الإستفادة من محضره الطافح بالبركة، سواءً بلحاظ الفلسفة أو الاخلاق و العرفان؛ أو تفسير القرآن الكريم الذي كان يفسّره علی نحوٍ و اسلوب بديع، و دام ذلك لغاية سنة الف و ثلاثمائة واحدي و سبعين هجرية، حيث تشرّفت بالذهاب الی النجف الاشرف لإدامة التحصيل و للاستفادة من مدينة العلم: مولي الموالي أميرالمؤمنين عليه السلام. و كنتُ قد سألتُ العلاّمة خلال هذه المدّة أن يُدرّسني شرح «الفصوص» للقيصري و شرح «منازل السائرين» للملاّ عبدالرزّاق الكاشاني، فكان يعدني بذلك باستمرار، لكنّ الحديث كان يدور ـ بدلاً عنها ـ عن آيات القرآن و شرحها و تفصيلها، حتّي علمتُ في النهاية أنّه لا يمتلك رغبةً قويّة لتدريسها. بيد أنّه شرح دورة كاملة عن السير و السلوك علی نهج الرسالة المنسوبة لآية الله بحر العلوم، و كان ذلك محبّباً و شائقاً لنا. كما أنّه شرح في أيّام العطلة. لطلاّب خاصّين يتراوحون بين عشرة الی خمسة عشر نفراً، رسائل الآيتين العلمين: سيّد العرفاء المتألّهين السيّد أحمد الكربلائي و شيخ الفقهاء الربانيّين الحاج الشيخ محمد حسين الاصبهاني الكمباني رضوان الله عليهما، ثم قام بعد تنقيح البحث ببيان نظريّته مفصّلاً. و يضمّ هذا الكتاب اربع عشرة رسالة تدور حول التوحيد الذائي، سبعٌ منها لاية الله الكربلائي في مسلك التوحيد علی مذاق العرفاء، و سبع أخري لآية الله الاصبهاني في مسلك التوحيد علی مذاق الفلاسفة. و قد دُوّنت هذه الرسائل و تبودلت ردّاً علی بعضها البعض الآخر، حيث أعدّ هاتان الآيتان كلاهما و سائلهما الاستدلاليّة العرفانيّة و الفلسفيّة بكلّ معني الكلمة، و نهض كلُّ منها لإبطال مدّعي خصمه في هذه المراسلات و تقرّر أن يقوم العلاّمة ـ بدوره ـ بكتابة تذييل علی كلّ من هذه الرسائل بعنوان محاكمات، فكتب فعلاً الی التدييل السادس، الاّ انّ الرسائل الباقية بقيت دون تذييل، فقد تشرّف الحقير بالذهاب الی النجف لإدامة التحصيل و الدرس، فلم يتمّ العلاّمة تلك التدييلات فبقيت الی النهاية دون اتمام. و مع انّي سألتُه ذلك عدّة مرّات خلال تشرّفي بلقائي، و مع انّه وعد بذلك، الاّ انّ الشواغل و انحراف المزاج لم يتركاله مجالاً و احتمالاً لذلك، الی أن التحقق برحمة الله. [8] جامعيّة العلاّمة الطباطبائي في العلم و العملبلي، لقد كان سماحة العلاّمة آية عظيمة، ليس فقط في الفلسفة و الإحاطة بتفسير القرآن، ول يس فقط في فهم الاحاديث و إدراك معناها و مرادها بحقّ، سواءً الروايات الاصولية أو الفروعيّة؛ و ليس فقط بلحاظ نظره الشامل في سائر العلوم و إحاطته بالمعقول و المنقول، بل و أيضاً بلحاظ التوحيد و المعارف الالهيّة و الواردات القلبيّة و المكاشفات التوحيديّة و المشاهدات الالهيّة القدسيّة و مقاما لتمكين و استقرار الجَلَوات الذاتيّة في جميع عوالم النفس و زواياها. و كان يُخيّل لمن يجالسه و يري صمته المطبق و سكوته المطلق أن ليس لهذا الرجل من شيء في فكره، بيد أنّه في الحقيقة كان مستغرقاً في الانوار الالهيّة و المشاهدات الغيبيّة الملكوتيّة بحيث لم يكن ليجد مجالاً للنزول منها. و ما أعجب شموله و جمعه بين تحمّل جبال الاسرار تلك و بين حفظ الظاهر في مقام الكثرة و إعطاء حقّ العوالم و ذوي الحقوق، من التدريس و تربية الطلاّب و الدارسين و الدفاع عن حريم الدين و السنّة الالهيّة و قوانين الإسلام المقدّسة و متراس الولاية الكليّة الالهيّة. و لقد كان آية الله العلاّمة الطباطبائي ـ فضلاً عن شموله و تبحرّه في العلوم ـ جامعاً بين العلم و العمل، ذلك العمل الناشي عن الرشحات النفسيّة و المتحقّق علی أساس طهارة السرّ؛ و كان جامعاً بين العلوم و الكمالات الفكريّة و بين الوجدانيّات و الاذواق القلبيّة و بين الكمالات العلميّة و البدنيّة؛ اي انّه كان رجل الحقّ الذي يتحقّق أرجاء وجوده بالحقّ. و كان خطّ يده في خطّ التحرير «نستعليق = نسخ التعليق) و هو خطّ فارسيّ معروف، و في الخطّ الفارسي «شكسته» من أجمل و أفضل ما خطّه أساتذة فنّ الخطّ؛ [9] و علی الرغم من ارتعاش يده في هذه الاواخر بسبب ضعف الاعصاب و الرجفة الحاصلة في اليد و المؤدّية الی ارتعاش الخطّ، الاّ انّ جوهر الخطّ يحكي عن امتلاكه تبحرّاً في هذا الفنّ. و كان بنفسه يقول: لقد بقيت قطع من خطّ أيّام الشباب، و كنت أنظر اليها فأعجب منها و أتساول: أهذا خطّي أنا! و كان للعلامة اطلاعاً علی العلوم الغريبة كالرَمْل و الجَفْر، الاّ انّه لم يُشاهد عنه انّه عمل بها؛ كما كانت له مهارة عجيبة في علم الاعداد و حساب الجُمَل و الابجد و طرقه المختلفة. كما كان يتملك حظّاً كبيراً في الجَبْر و المقابلة و الهندسة المجسّمة و المسطّحة و حساب الإستدلال، و كان أستاذاً في علم الهيئة القديمة بحيث كان يمكنه استخراج التقويم بسهولة و يُسر. و كما ذكرنا فقد درّسنا دورة فيه، و لكن باعتبار انّ هذا الحقير كان قد درس درس الرياضيّات (الحساب و الهندسة و المثلثات) في المدارس الحديثة الی حدٍّ واف، فلم تكن هناك ضرورة لدارستها عليه من جديد. و علی كلّ حال، فقد كان أستاذنا قد درس علوم الرياضيات في النجف الاشرف علی السيّد أبي القاسم الخونساري، و هو من علماء الرياضيات المشهورين في ذلك العصر. و كان نفسه يقول: كان بعض أساتذة الرياضيّات في جامعة بغداد حينما يواجهون مسألة يعجزون عن حلّها، فانّهم يأتون الی النجف فيحضرون عند السيّد أبي القاسم فيحلّ لهم ما أبهم عليهم. هذا و كان العلاّمة الطباطبائي أستاذاً في الادب العربي و المعاني و البيان و البديع، و استاذاً في الفقه و الاصول ذا ذوق فقهيّ سلس قريب من الواقع، و كان قد درس دورات من الفقه و الاصول علی أساتذة كالمرحوم آية الله النائيني و المرحوم آية الله الكمباني، كما أفاد من فقه آية الله الاصبهاني، حيث دامت هذه الدورات عشر سنوات. و كان استاذه الوحيد في الفلسفة هو الحكيم المتألّه المعروف السيد حسين بادكوبهاي حيث قضي سنوات طوال في البحث و التلمذة عليه برفقة أخيه المرحوم آية الله الحاج السيد محمد حسن الطباطبائي الالهي، فدرسا لديه «الاسفار» و «الشفاء» و «المشاعر» و غيرها. و كان للمرحوم الحكيم بادكوبهاي اهتماماً خاصّاً بالعلاّمة، فأمره ـ من أجل تقوية برهانه و استدلاله ـ بمتابعة دراسة علوم الرياضيّات. امّا المعارف الالهيّة و الاخلاق و فقه الحديث فقد تعلّمها عند العارف الجليل الذي يعزّ نظيره، بل المنقطع النظير: المرحوم آية الحقّ الحاج الميرزا علی أقاي القاضي قدّس الله تربته الزكيّة، و كان في السير و السلوك و المجاهدات النفسانيّة و الرياضات الشرعيّة تحت اشراف و تعليم و تربية ذلك الاستاذ الكامل. و كان المرحوم القاضي من بني عمومة العلاّمة، و كان مشغولاً في النجف الاشرف بتربية التلامذة المتألّهين المتحرّرين من العلائق، و عشّاق الجمال الالهي و مشتاقي لقاء و زيارة الحضرة الاحديّة. و كان العالم الوحيد في ذلك المضمار، و الاوحد في ذلك الفنّ، بحيث كان العلاّمة لا يُطلق لقب الاستاذ الاّ عليه، و كان كلّما أورد لقب «الاستاذ» علی نحو الإطلاق، كان مراده به المرحوم القاضي، لكأنّ جميع الاساتذة الآخرين ـ مع ذلك المقام و العظمة العلميّة ـ كانوا يبدون صغاراً مقابل المرحوم القاضي. امّاً في المجالس العامّة، و حين ينجرّ الحديث الی ذكر أساتذته، فانّ العلاّمة لم يكن ليورد اسم القاضي من فرط الاحترام، و لا ليعدّه في صفّ سائر الاساتذة، كما انّ اسم المرحوم القاضي لا يلوح في صفّ أساتذة العلاّمة الذين ذكرهم في مقالة مختصرة بقلمه كتبها عن حياته، و وردت في مجموعة مقالاته و رسائله التي نُشرت بإسم «بررسيهاي اسلامي = مناقشات إسلاميّة»، كما لم يرد فيها ذكر لقيامه الليالي و عبادته و مبيته في مسجدي السلهة و الكوفة، فقد كتب يقول: «و كان يحصل كثيراً ـ و خاصّة في فصل الربيع و الصيف ـ أن أقضي الليل بالمطالعة الی طلوع الشمس». و من الجليّ أوّلاً انّ ذكر العبادات و مقدار قيام الليل بالتهجّد و الذكر و التأمّل في مقالة عامّة لعموم الناس سيكون أمراً تافهاً بعيداً عن المتانة و الوقار، و خاصّة من مثل هذا الاستاذ الذي لم يدنُ قطّ خطوةً واحدة في اتّجاه التشخّص، و الذي احترقت في وجوده كليّأ جذور الانانيّة و التظاهر. و ثانياً: فحين يعدّ الاستاذ كتمان السرّ أحد الشرائط الاكيدة لطيّ الطريق الی الله، فأنّي أن يُحتمل أن يصرّح بعباداته المستحبّة السريّة بينه و بين ذات الحيّ القيوم، فيعرضها أمام أنظار عامّة الناس؟! و إذا، فكما انّ الجليّْ أنّ فريضة الصبح مستثناة من الذكر في عبادته، فانّ من الجليّ كذلك انّ سائر العبادات المستحبّة والواجبة الاخري مشمولة هي الاخري بهذا الاستثناء. بيد انّ العلاّمة لم يكن ليبخل بذلكر ذلك الرجل الجليل حيثما كان ذكره مناسباً، فكان يذكره بإجلال و إكرام خاصّين، و من ذلك في المقدّمة التي كتبها للتذييلات المدوّنة بعنوان محاكمات علی مراسلات العلمين الكربلائي و الكمباني، فقد كتب يقول: «.... و قد استقرّ (السيّد أحمد الكربلائي) أخيراً في بوتقة تربية و تهذيب المرحوم آية الحقّ و استاذ العصر الشيخ الجليل الآخوند الملاّ حسين قلي الهمداني قدّس الله سرّه العزيز، فلازم ذلك المرحوم سنوات متمادية، حاز فيها فصب السبق دون الجميع، و تصدّر أخيراً الصفّ الاوّل لتلامذته و المتربّين علی يديه، و حاز في العلوم الظاهريّة والباطنيّة شأواً مكيناً و مقاماً أميناً. ثمّ انّه أقام في عتبات النجف الاشرف المقدّسة بعد وفاة المرحوم الآخوند، فاشتغل بتدريس الفقه، و كانت له اليد البيضاء في المعارف الالهيّة و في تربية الناس و تكميلهم، فوضع جمعٌ كثير من الاعلام و المتحررّين المنزّهين؛ بيُمن تربية و تكميل ذلك الجليل؛ أقدامهم في دائرة الكمال، و خلّفوا بساط الطبيعة ظِهريّا، و صاروا من سكّان دار الخُلد و الواردين في حريم القُرب. و من بينهم السيّد الاجلّ، آية الحلقّ، و نادرة الدهر، العالم العابد الفقيه المحدّث، الشاعر المُفلِق، سيّد العلماء الربانيّين المرحوم الحاج الميرزا علی القاضي الطباطبائي التبريزي المولود سنة ألف و مائتين و خمس و ثمانين هجريّة و المتوفّي سنة ألف و ثلاثمائة و ستّ و ستّين هجريّة، أستاذ هذا الحقير في المعارف الالهيّة و فقه الحديث و الاخلاق؛ رفع الله درجاته السامية و أفاض علينا من بركاته». (انتهي كلام أستاذنا العلاّمة الطباطبائي قدّس الله سرّه). بلي، لقد كان لاستاذنا علاقة و وله كبير بأستاذه المرحوم القاضي، و حقّاً فقد كان يري نفسه صغيراً أمامه؛ و كان يتفرّس في سيماء المرحوم القاضي عالماً من العظمة والجلال و الاسرار و التوحيد و الملكات و المقامات. أهديتُ اليه عطراً في أحد الايّام، فأمسكه بيده، ثمّ تأمّل هنيئة و قال: «لقد مرّت سنتان علی رحيل أستاذنا المرحوم القاضي لم أستعمل فيهما عطرا». و كان ـ الی هذه الاواخر ـ كلّما أهديتُه عطراً، يُغلق غطاءه ثم يضعه في جيبه، و لمأره يضع عطراً مع انّ ستّاً و ثلاثين سنة قد تصرّمت علی رحيل أستاذه. و العجيب هو أمر تساوي مدّة عمر العلاّمة و أستاذه المرحوم القاضي، فقد عاش المرحوم القاضي احدي و ثمانين سنة، و عاش العلاّمة مثلها أيضاً، فقد ولد سنة ألف وثلاثمائة و احدي و عشرين هجريّة، [10] و ارتحل صباح يوم الاحد الثامن عشر من محرّم الحرام لسنة ألف و أربعمائة و اثنتان هجريّة، قبل الظهر بثلاث ساعات. شأنهما في ذلك شأن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم و وصيّه أميرالمؤمنين صلوات الله عليه، فقد عمّر كلاهما اثنتان وستين سنة. في الترتيبة العرفانيّة للعلاّمة الطباطبائي عند الاستاذ القاضي رضوان الله عليهمايقول الاستاذ العلاّمة: حين تشرّفتُ بالذهاب الی النجف الاشرف للتحصيل و الدرس، فقد كنت أتشرّف بين الفينة و الفيند بحضور محضر المرحوم القاضي للقرابة و الرحم التي تربطنا، فحصل يوماً أن كنتُ واقفاً عند باب مدرسةٍ، و كان المرحوم القاضي يمرّ من هناك، فلمّا اقترب منّي وضع يده علی منكبي و قال: أي بُني! إن شئتَ الدينا فصلّ صلاة الليل، و إن شئتَ الآخرةَ فصلِّها! فأثّر فيّ هذا الكلام، بحيث انّني كنت أحضر عند المرحوم القاضي ليل نهار لمدّة خمس سنوات كاملة الی حين عودتي الی ايران، دون أن أفرّط بلحظة واحدة عن إدراك فيضه؛ و استمرّت علاقتنا بعد عودتي الی الوطن المألوف الی حين رحيل الاستاذ، و كان المرحوم القاضي يُبدي توجيهاته لي وفق علاقة أستاذ و تلميذه، و كانت المراسلات بيننا مستمرّة. و كان (العلاّمة) يقول: كلّ ما لدينا انّما هو من المرحوم القاضي! في أحوال المرحوم الحاج الميرزا علی اقاي القاضي أستاذ العلاّمة الطباطبائيلقد كان المرحوم القاضي من المجتهدين العظام، الاّ انّه كان مقيّداً بالتدريس في بيته، فكان يدرّس دورات من الفقه، و كان يقيم صلاة الجماعة مع تلاميذه في منزله أيضاً، و كانت صلاته تفيض بالطمأنينة، و كانت تستغرق طويلاً، و كان ينشغل بعد صلاة المغرب التي كان يقُيمها عند اوّل استتار الشمس تحت الافق بتعقيبات المغرب الی وقت العشاء، و كان ذلك يستغرق وقتاً طويلاً بعض الشيء. و كان تلامذته يذهبون اليه في شهر رمضان المبارك لإدراك صلاة المغرب جماعةً معه، و باعتبار انّ بعضهم كان لا يُبادر الی الصلاة الی ما بعد زوال الحمرة الشرقيّة من جهة الرأس، فقد كانوا يسألونه التريّث قدراً ما، فكان يتريّث في الصلاة، الاّ ان «السماور» [11] كان مُشعَلاً، فكان المرحوم القاضي يفطر بمجرّد استتار الشمس. و كانت مجالس التعليم و الانس في العشرة الاولي و الثانية من شهر رمضان تقام في الليالي، و كان الطلبة يذهبون الی محضره بعد شروع الليل بأربع ساعات، فيستمرّ المجلس لساعتين؛ الاّ انّ ذلك المجلس كان يُعطّل في العشرة الثالثة من الشهر، فكان المرحوم القاضي لا يُشاهد بعد ذلك الی آخر شهر رمضان، و مهما كان تلامذته يجهدون في العثور عليه في النجف أو فيا مسجد الكوفة، أو في مسجد السهلة أو في كربلاء، فانّهم كانوا يعجزون أن يجدوا له أثراً؛ و كان ذلك هو ديدن المرحوم القاضي كلّ سنة حتّي زمان رحيله. هذا، و كان المرحوم القاضي متبحّراً لا نظير له في اللغة العربيّة؛ قيل انّه كان يحفظ أربعين ألف كلمة؛ و كان يُنشد الشعر العربي فلا يميّز العرب أنّ منشد الشع غير عربيّ. قال له المرحوم آية الله الحاج عبدالله المامقاني رحمة الله عليه ضمن مذاكراتهما: انّ لي مهارةً و تسلّطاً في اللغة العربيّد و الشعر العربيّ، بحيث اذا ما أنشد شخص غير عربيّ شعراً عربيّاً فانّي أميّز أن منشد الشعر كان أعجميّاً، مهما كان ذلك الشعر في أعلي درجات الفصاحة و البلاغة! فشرع المرحوم القاضي بقراءة احدي القصائد العربيّة لاحد الشعراء العرب، و أضاف بداهةً عدّة أبيات ضمن تلك القصيدة، ثم سأله: أيَّ أبيات القصيدة أنشده غير عربيّ؟ فعجز عن تشخصيها. و كان للمرحوم القاضي اليد الطولي في تفسير القرآن الكريم و معانيه، و كان المرحوم أستاذنا العلاّمة الطباطبائي يقول: لقد علّمنا المرحوم القاضي هذا النحو من التفسير آيةً فآية، فنحن نقتفي اثره و نهجه في التفسير. كما كان يمتلك ذهناً متفتّحاً مضاءاً في فهم معاني الروايات الواردة عن الائمّة المعصومين، حيث تعلّمنا منه طريقة فهم الاحاديث التي تُدعي بفقه الحديث. و كان المرحوم القاضي في تهذيب النفس و الاخلاق و السير و السلوك في المعارف الالهية و الواردات القلبيّة و المكاشفات الغيبيّة السبحانيّة و المشاهدات العينيّة فريد العصر و حسنة الدهر و سلمان الزمان و ترجمان القرآن. و كان كالجيل العظيم الطافح بالاسرار الالهيّة، و كان قد عقد الهمّة علی تربية تلامذته في هذا المجال، فكانوا يجتمعون ساعة من النهار في المجالس الخاصّة التي كان يعقدها في مجلسه، فيشرع ذلك المرحوم بنصحهم و وعظهم و إرشادهم. و من ثمّ فقد وضع جمعٌ كثير من الاعلام أقدامهم، خلال الاحقاب المختلفة، بيُمن تربيته، علی مسار الحقيقة، فصاروا من أصحاب الكمالات و المقامات و من الطُلقاء و المنزّهين الاحرار الذين استناروا بنور معرفة التوحيد، و وردوا في حرم الامن، و طووا عالم الكثرة و الإعتبار، و كان من بينهم أستاذنا القيّم العلاّمة الطباطبائي و أخوه الكريم آية الحقّ المرحوم الحاج السيد محمد حسن الالهي رحمة الله عليهما، اللذان كانا رفيقين و شريكين لبعضهما في جميع المراحل و المنازل، متلازمين كالفرقديْن، صديقيْن لبعضهما بتشاطران الهمّ و الالم. و من جملة الآيات الآخرين الحاج الشيخ محمد تقي الآملي، و الحاج الشيخ علی محمد البروجردي، و الحاج الشيخ علی اكبر المرندي، و الحاج السيّد حسن المسقطي، و الحاج السيّد أحمد الكشميري، والحاج الميرزا ابراهيم السيستاني، والحاج الشيخ علی قسّام، و الوصيّ المحترم لذلك الاستاذ: سماحة آية الله الحاج الشيخ عبّاس هاتف القوچاني، الذين كان كلّ منهم بدوره نجماً ساطعاً في سماء الفضيلة و التوحيد و المعرفة، شكرالله مساعيهم الجميلة. و كان المرحوم القاضي رضوان الله عليه نفسه تلميذاً في اُمور المعرفة لابيه المرحوم آية الحقّ السيد حسين القاضي الذي كان من مشاهير تلامذة المرحوم المجدّد آية الله الحاج الميرزا محمد حسن الشيرازي رحمة الله عليه، و هو بدوره تلميذ المرحوم آية الحقّ امام قلي النخجواني، و هو بدوره تلميذ المرحوم آية الحقّ امّا سيد قريش القزويني. قيل انّ المرحوم اقا سيد حسين القاضي حسين عزم علی العودة الی مسقط رأسه اذربيجان من محضر المرحوم المجدّد في سامرّاء، فقد نصحه المرحوم المجدّد خلال توديعه له بجملة واحدة: دَعْ لنفسك ساعةً واحدة في اليوم! ثمّ يتوغّل المرحوم اقا سيد حسين في الامور الإلهيّة في تبريز، ثم يحصل ان يتشرّف عدّة من تجّار تبريز بالسفر الی سامرّاء في السنة التالية، فيتشرّفون بالحضور عند المرحوم الميرزا، فيستسفر منهم عن أحوال اقا سيد حسين، فيقولون في إجابته: انّ الساعة الواحدة التي نصحتموه بها قد استغرقت جميع أوقاته، فهو يراود ربّه ليلاً و نهاراً. بيد انّ المرحوم القاضي حين قدم الی النجف، فانّه خضع لتربية المرحوم آية الحقّ السيد أحمد الكربلائي الطهراني، فكان يطوي الطريق تحت رعايته و إشرافه، كما كان المرحوم القاضي لسنين متمادية ملازماً و مصاحباً للمرحوم العابد الزاهد الناسك وحد عصره الحاج السيّد مرتضي الكشميري رضوان الله عليه، ليس بعنوان التلمذة عليه بالطبع، بل كمصاحبة له و إفادة من حالاته، و التفرّج علی وارداته و أحواله؛ و بالطبع فقد تباين المسلك العرفاني لهذين و الرجلين تبايناً بعيداً. امّا طريقة آية الحقّ السيد أحمد الكربلائي في التربية، و التي احتذي فيها حذو استاذه المرحوم الآخوند الملاّ حسين قلي الهمداني، فهي معرفة النفس، حيث كان يعدّ المراقبة من أهمّ الامور لإدراك هذه الغاية. و كان الآخوند تلميذاً لآية الحقّ الفقيد الجليل المرحوم السيّد علی الشوشتري، و هو استاذ الشيخ مرتضي الانصاري في الاخلاق و تلميذه في الفقه. [12] منهج المرحوم القاضي قدّس الله نفسه في التربيةو كان المرحوم القاضي يعطي توجيهاته و تعليماته الاخلاقيّة لكلّ واحد من تلاميذه بطريقة خاصّة، وفقاً للموازين الشرعية و مع رعاية الآداب الباطنيّة للاعمال، و حضور القلب في الصلاة، و الإخلاص في الافعال، فيُعدّ قلوبهم بذلك لتلقّي إلهامات عالم الغيب. و كان له غرفة في مسجد الكوفة و أخري في مسجد السهلة يبات فيهما لوحده بعض الليالي، و كان يوصي تلامذته كذلك بالمبيت بعض الليالي بالعبادة في مسجد الكوفة أو مسجد السهلة، و كان قد أمرهم بعدم الإعتناء إن حدث لهم شيء خلال صلاتهم أو قراءتهم للقرآن أو حال الذكر و التأمّل، كأن يرون وجهاً جميلاً، أو يشاهدون بعض جهات عالم الغيب الاخري، و أن يتابعوا عملهم و لا يقطعونه. يقول الاستاذ العلاّمة: «حصل يوماً أن كنتُ جالساً في مسجد الكوفة مشغولاً بالذكر، فجاءت حوريّة من حوريّات الجنّة من جانبي الايمن و في يدها كأس من شراب الجنّة جاءتني به و أرتني نفسها، و ما إن أردت الإلتفات اليها حتّي تذكّرت فجأةً كلام الاستاذ، فأعرضتُ عنها و لم أعتنِ بها. ثم انّ تلك الحوريّة نهضت و جاءتني من جانبي الايسر و قدّمت لي ذلك الكأس، فلم أعتنِ بها و أشحتُ بوجهي عنها، فانزعجت تلك الحوريّة و ذهبت، فأنا الی الآن كلّما تذكّرتُ ذلك المنظر تأثّرتُ من انزعاج تلك الحوريّة». كمالات الاستاذ القاضي رحمةالله عليهو كان المرحوم القاضي آية عجيبة بلحاظ العمل، فأهل النجف ـ و خاصّة أهل العلم منهم ـ يمتلكون عنه قصصاً و حكايات، و كان يعيش في غاية الفقر و الفاقة مع عائلة كبيرة، لكنّه كان غارقاً في التوكلّ و التسليم و التفويض و التوحيد بحيث انّ هذه العائلة لم تحرفه عن مسيره قيد شعرة. نقل لي أحد أصدقائي النجفيين ـ و هو حالياً من أعلام النجف ـ قال: ذهبت يوماً الی دكّان بائع الخضروات، فشاهدتُ المرحوم القاضي منحنياً منهمكاً بانتقاء الخسّ، الاّ انّه ـ خلافاً للمعهود ـ كان ينتقي الخسّ التالف ذا الورق الخشن الكبير. وقفت أرقبه بعناية، حتّي أعطي المرحوم القاضي الخسّ لصاحب الدكّان فوزنه، ثم وضعه المرحوم القاضي تحت عباءته و انصرف؛ و كنتُ آنذاك طالباً فتيّاً و كان المرحوم القاضي رجلاً مسنّاً قد تقدّم به العمر، فتبعته و قلتُ له: أيّها السيّد، انّ لديّ سؤالا! لماذا انتقيتَ هذا الخسّ الردي علی عكس ما ينبغي؟ فأجاب المرحوم القاضي: سيّدي العزيز! انّ هذا البائع امرؤ فقير معدم، و أنا أساعده أحياناً، و لستُ أرتضي أن أقدّم اليه شيئاً دون مقابل لئلاّ تُهدر عزّته و شرف حيثيّته و كرامته أولا، و لئلاّ يعتاد ـ لا سامح الله ـ الاخذَ دون مقابل، فيضعف في كسبه و عمله ثانياً. و لا فرق لدينا أن نأكل الخسّ اللطيف الرقيق أو هذا الخسّ، و كنتُ أعلم أن ليس من مشترٍ يشتريه. فإن حلّ الظهر ألقي به البائع خارج الدّكان،[13] لذا فقد بادرتُ لشرائه منعاً من تضرّر البائع. سلسلة نسب العلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليهامّا نسب أستاذنا العلاّمة، فانّه من جهة أبيه من نسل الإمام الحسن المجتبي عليه السلام و من أولاد إبراهيم بن إسماعيل الديباج، كما انّه من جهة امّه من نسل الإمام الحسين عليه السلام، لذا فقد ختم كتبه التي ألّفها في منطقة شادآباد» في تبريز بذكر اسمه آخرها علی النحو التالي: «السيّد محمد حسين الحسني الحسيني الطباطبائي». امّا سلسله نسبه فبهذا التفصيل: السيد محمّد حسين، بن السيّد محمّد، بن السيّد محمّد حسين[14]، بن السيّد علی أصغر، ابن السيّد محمّد تقي القاضي، بن الميرزا محمّد القاضي، بن الميرزا محمّد علی القاضي، بن الميرزا صدرالدين محمّد، بن الميرزا يوسف نقيب الاشراف، بن الميرزا صدرالدين محمّد، بن مجد الدين، بن السيد اسماعيل، بن الامير علی أكبر، بن الامير عبدالوهاب، [15] بن الامير عبدالغفّار، بن السيد عماد الدين و باعتبار امّ ابراهيم الغَمْر هي فاطمة بنت سيّد الشهداء عليه السلالا، لذا فإنّ السادات الطباطبائيّين المنتحين الی ابراهيم طباطبا حفيد ابراهيم الغمر هم بأجمعهم حسينيّون من جهة الامّ. امّا المرحوم القاضي رضوان الله عليه، فابن السيّد الميرزا حسين القاضي، بن الميرزا أحمد القاضي، بن الميرزا رحيم القاضي، بن الميرزا تقي القاضي، و هذا الميرزا تقي الجدّ الثالث للمرحوم القاضي هو السيّد محمد تقي القاضي لجدّ الثالث للعلاّمة الطباطبائي. و بذلك فقد تشخصّصت أيضاً سلسلة نسب المرحوم القاضي. و كان المرحوم القاضي قد صحّح كتاب «الإرشاد» للمفيد في سنّ الحادية و العشرين (أي في سنة 1306 ه) ثم كُتب بخطّ محمّد بن حسين التبريزي في 17 ربيع الاوّل لسنة 1308 ه و أُعدّ للطبع. و قد ذكر ذلك المرحوم في نهاية الكتاب سلسلة نسبه الشريف الی أميرالمؤمنين عليه السلام علی النحو الذي أوردناه هنا. هذا و قد استفسر الحقير استاذَه الكريم العلاّمة الطباطبائي عن تصحيح كتاب «الارشاد» للمفيد بقلم المرحوم القاضي و طبعته المصحّحة وس لسلة نسب ذلك أمير الحاجّ، بن فخر الدين حسن بن كمال الدين محمّد، بن السيّد حسن بن شهاب الدين عليّ، بن عماد الدين عليّ، بن السيّد أحمد، بن السيد عماد، بن أبي الحسن عليّ، بن أبي الحسن محمّد، بن أبي عبدالله أحمد، بن محمّد الاصغر المعروف ب «ابن الخزاعيّة»، بن أبي عبدالله أحمد، بن ابراهيم الطباطبا، بن اسماعيل الديباج، بن ابراهيم الغَمْر، بن الحسن المثنّي، بن الإمام أبي محمد الحسن المجتبي، بن الإمام الهمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام. المرحوم، فأيّد ذلك كلّه، و أضاف بأنّ المرحوم الميرزا السيّد محمد تقي الطباطبائي هو الجدّ الثالث لنا و له، ثمّ انّنا بعد ذلك مشتركان في النسب. و كان أب العلاّمة و أجداده الی الرابع عشر منهم، بأجمعهم من العلماء الاعلام، و كان السادس منهم (و هو اقا الميرزا محمّد علی القاضي) قاضي قضاة منطقة آذربيجان، و كانت جميع تلك الناحية تحت نفوذه العلمي و الفقهي و القضائي، و قد لُقّب بالقاضي لهذه الجهة، فلزم هذا اللقب أولاده و أحفاده. و كانت والدة العلامة الطباطبائي قد توفيّت و هو في الخامسة من عمره، ثمّ توفّي أبوه و هو في التاسعة من عمره، و لم يُخلّفا غيره و غير أخيه الاصغر و اسمه السيّد محمّد حسن. و قد عمد وصيّ المرحوم أبيه ـ حفظاً علی حياتهما من التداعي ـ الی تنظيم وضعهما علی نفس النحو السابق، و الی تعيين خادم و خادمة لهما، [16] و كان يُشرف علی اُمورهما بدقّة، حتّي كبر هذا الطفلان تدريجاً و أنهيا دراستهما الإبتدائية، ثمّ أنهيا أيضاً دروس المقدّمات في تبريز، [17] و حازا كلاهما مقاماً جميلاً في تعللا الخطّ. يقول المرحوم الاستاذ: كنت أخرج من تبريز في الكثير من الايّام مع أخي، فنذهب الی سفوح الجبال و التلال اليانعة الخضراء المحيطة بتبريز، فننهمك في كتابة الخطّ من الصبح الی الغروب، ثمّ أنّنا تشرّفنا سويّاً بالذهاب الی النجف. ارجاعات [1] ـ «نهج البلاغة» ج 2، الحكمة رقم 147. [2] ـ «ديوان ابن الفارض» طبع سنة 1382 هجريّة، ص 156. [3] ـ كان في نيّة آية الله حجّت أن يبني كذلك مستوصفاً و مختبراً للطلاّب ملحقيّن بالمدرسة، الاّ انّه لم يوفّق لذلك لبعض الاسباب. [4] ـ كان سماحة العلاّمة الطباطبائي يُعرف بإسم القاضي بدء قدومه إلی قم، لانّه من سلسلة السادة «القاضي» المشهورين في آذربايجان؛ و لكن باعتبار؛ و لكن باعتبار أنّه من السادة الطباطبائيين، فقد رجّح بنفسه أن يُعرف بالطباطبائي. و قد انكشف للحقير أخيراً أنّه ربّما شاء أن ينحصر لقب القاضي بأستاذه الاكرم الاوحد المرحوم الحاج السيّد علی اقاي القاضي و أنّه شاء عدم مشاركته في الشهرة تكريماً و إجلالاً لمقام الاستاذ. [5] ـ يقول: انّ من كسب زاداً في العلم، هو عالَمٌ تابعٌ في زاوية. [6] ـ «الكني و الالقاب» طبع صيداً، ج 3، ص 161. [7] ـ قال الصديق الكريم سماحة حجّة الاسلام الحاج السيّد محمد علی نجل آية الله الميلاني: كنت يوماً في معينة أبي و أعمامي، فاستأجرنا عربة تجرّها الخيول من تبريز، فركبنا فيها و سرنا إلی القرية التي كان العلاّمة يقطنها (شاد آبد أو غيرها). و كان أعمامي قد تحدّثوا مع أبي في موضوع القِبلة؛ و لم تكن بوصلة معرفة القبلة «رزم آرا» قد استعمت بعد. ثمّ انّ أعمامي سألوا أبي في الطريق خلال سير العربة: أي شخصيّة هذا الذي تذهبُ اليه من تبريز في عربة؟! فأجاب أبي: هو الذي كان في حلّ هذه المسائل (يقصد مسائل القِبلة التي كانت مداراً للحديث) أستاذاً فريداً. و كان المرحوم أبي يقول أغلب الاوقات و الموارد: «انّ لدي العلاّمة علوماً نفتقدها نحن». و يقصد أبي بتلك العلوم، العلوم الباطنيّة و الغيبيّة. [8] ـ لله الحمد و له الشكر، فقد منّ الله علی الحقير لاءتمام التذييلات و تحريرها و طبعها و نشرها بإسم «التوحيد العلمي و العيني» (بالفارسيّد) في الرسائل الحكميّة و العرفانيّة المتبادلة بين الآيتين العلمين: الحاج السيد أحمد الكربلائي و الحاج الشيخ محمد حسين الاصبهاني، بانضمام تذييلات و محاكمات الاستاذ آية الله العلاّمة الحاج السيد محمد حسين الطباطبائي (أعلي الله مقامه) علی الرسائل الثلاث الاولي للسيّد قدّس الله نفسه و للشيخ رحمة الله عليه؛ مع تذييلات تلميذ العلاّمة الطباطبائي: السيد محمد الحسين الحسينيّ الطهراني علی الرسائل الاربع الاخيرة للمرحوم السيّد و المرحوم الشيخ (أعلي الله مقامهما). و جري في هذه المجموعة تقديم مقدّمة في هويّة أصل الرسائل و العرفاء الاجلاّء الذين تطرّق الحديث عنهم فيها، و اوردت فيها أيضاً تعليقات علی جميع الرسائل وجميع تذييلات و محاكمات سماحة الاستاذ و تذييلات الحقير. هذا و قددعيت تذييلات سماحة الاستاذ ـ و استوعبت بمجموعها خمس رسائل و نصف الرسالة السادسة ـ بإسم «التذييلات و المحاكمات». أما ما جاء من الحقير، و مجموعه ثمان رسائل و نصف الرسالة السادسة فقد جاء بإسم «التذييلات» فقط، إذ ليس الحقير ـ عِلماً و لا عملاً ـ في مستوي جرح و تعديل المطالب و محاكمتها؛ و أصغر من أن أشرح المطالب المطالب الغامضة النفيسة و أقدّمها كما فعل العلاّمة. لذا امتنع عن إضافة لفظ «المحاكماتش لتتمّة هذه التذييلات، و اكتفي بذكر المطالب التي تلوح في نظري بعنوان «تذييلات» و أقدّمها إلی أصحاب الكمال و المعرفة و طالبي العرفان و المفتّشين عن سُبل السلام و التوحيد. [9] ـ كان العلاّمة استاذاً في تشخيص الخطوط القديمة و خطوط أساتذة الفنّ، و كان يعرف خطوط المشهورين بأسلوب فريد، بحيث كان الاساتدذة المختصّين بالخطّ يرجعون اليه أحياناً، فكان يقول علی الفور: هذا الخطّ لفلان ـ مثلاً. و قد قال لنا أحد أساتذة فنّ الخطّ: أخذتُ يوماً قدراً كبيراً من الخطوط التي لم أتمكّن من تشخيصها، فكان العلاّمة يمرّ عليها بسرعة فيدلّ علی كاتبها. فكان يقول مثلاً: هذا خطّ المرحوم درويش! و هذا خطّ المير عماد! و هذا خطّ الميرزا غلام رضا كلهر! و هذا خطّ أحمد نيريزي! و هكذا فقد كان يدلّ علی كاتب كلّ منها و يضع ـ من ثمّ ـ أوراق الخطّ فوق بعضها. ثمّ انّي سألته بعد اكمال المهمّة: حسناً جداً! لقد أوضحتم الامر جليّاً، و لكن قولوا الآن: بأيّ دليل تقولون ذلك؟ و ما الحجّة لنا في ذلك؟ فكان يتناول كلّ واحدة من الاوراق فيذكر أسلوب كلّ واحد من أساتذة الخطّ، ثمّ يقول: هذه القطعة تمتلك هذا الاسلوب و هذه الخصائص! و كان ذلك ـ بدوره ـ مُثيراً لعجبنا جدّاً. [10] ـ ذكر العلاّمة الحاج الشيخ أقا بزرگ الطهراني رحمة الله عليه في «نقباء البشر» ج 4، للرقم 2080، ص 1565 و 1566، في ترجمة أحوال المرحوم القاضي قدّس الله سرّه، أنّ ولادته كانت في سنة 1285 في الثالث عشر من شهر رجب، و انّ ارتحاله كان في السادس من ربيع الاول لسنة 1366 هجريّة. ولد العلاّمة في التاسع و العشرين من ذي القعدة لسنة ألف و ثلاثمائة واحدي و عشرين في قرية «شادگان» من توابع تبريز. و قد ارتحلت والدته عن الدنيا عند ولادته أخيه المرحوم السيد محمد حسن الالهي الطباطبائي، و كان عمر المرحوم العلاّمة آنذاك خمس سنين، فيتضّح انّ فارق العمر بين هذين الاخوين كان خمس سنين. هذا و قد توجّه العلاّمة آية الله الطباطبائي رحمة الله عليه إلی النجف الاشرف بعد إنهاء دورة دروس المقدّمات و السطوح سنة 1344 ه، فدرس مدّة عشر سنوات علی أساتيذ كآية الله الشيخ محمد حسن النائيني و آية الله الشيخ محمد حسين الغروي الاصبهاني المشهور بالكمباني، و آية الله السيد حسين البادكوبهاي و آية الله السيّد أبي الحسن الاصبهاني ميرفقه؛ و بعد نيله الاءجتهاد عاد سنة 1354 إلی تبريز، فاشتغل هناك بالتدريس لمدّة عشر سنوات، ثم هاجر سنة 1365 إلی بلدة قم الطيّبة و أقام هناك. [11] ـ السماور وعاء لغلي الماء فيه فجوة لاءشعال النار؛ يُستعمل عادة لاءعادة الشاي. (م). [12] ـ كان المرحوم الشيخ الانصاري رحمة الله عليه قد أوصي أن يصلّي علی جنازته المرحوم السيد علی الشوشتري، لذا فقد صلّي عليه المرحوم الشوشتري بعد رحيله، و جلس في مسند تدريسه فبدأ الدرس من حيث انتهي الشيخ، و استمرّ في التدريس حتّي وافاه الاجل بعد ذلك بستّة أشهر. و قد نقل سماحة شيخ الفضلاء العظام آية الله الحاج الميرزا هاشم الآملي أدام الله أيّامه عن أستاذه المرحوم آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي قوله: كنّا نحضر درس الشيخ، و كان بين الحاضرين سيّد ذو وقار كبير يجلس صامتاً في احدي الزوايا، و مع ان الحديث كان يدور كثيراً بين تلامذة الشيخ خلال البحث، الاّ ان ذلك السيّد كان لا يفوه بشيء، و كنّا نتخيّل انّه ليس بالبصير الفاهم، و انّه يحضر درس الشيخ للعظمة فقط، و لذا فليس لديه ما يقوله، بيد انّه جلس مكان الشيخ بعد ارتحاله فشرع بالدرس من حيث انتهي الشيخ، و قد حضرنا محضره فإذا به بحر خضمّ عجيب في التحقيق و الدقّة و سعة الاطّلاع و القدرة الفكريّة و دقّة النظر. [13] ـ يعمد الباعة في النجف الاشرف إلی إغلاق دكاكينهم آخر الربيع و في الصيف لشدّة الحرّ. [14] ـ كتب آية الله الحاج محمّد علی القاضي الطباطبائي رحمة الله عليه (و هو ابن عم سماحة أستاذنا العلاّمة) في ص 225، ضمن تعليقته علی كتاب «جنّة المأوي» لكاشف الغطاء يقول: و صنّف عمّنا العلاّمة المجتهد الاكبر السيّد ميرزا محمود شيخ الاسلام الطباطبائي (رحمة الله عليه) رسالة مستقلّة في مسألة البداء و سمعها ب «ابداء البداء» مطبوعة في سنة 1302 ه بطهران مع رسالة «مسائل الدعاء» أيضاً له، رحمهُ الله. و أورد العلاّمة الكبير الحاج الشيخ اقا بزرگ الطهراني رحمة الله عليه في «الذريعة» ج 1، ص 64، مسألة البداء للسيّد الاجلّ الحاج الميرزا محمود بن شيخ الاسلام الميرزا علی أصغر الطباطبائي التبريزي المتوفّي بالوباء في مكّة المعظمّة سنة 1310 ه، مطبوع. و يُستنتج من كلام هذين العَلَميْن انّ مؤلّف كتاب «ابداء البداء» هو أخو المرحوم السيّد محمّد حسين، و هو جدّ سماحة الاستاذ العلاّمة الطباطبائي قدّس الله سرّه، أي أنّه أخو جدّه و عمّه لابيه. [15] ـ كتب آية الله الحاج السيد محمّد علی القاضي الطباطبائي رضوان الله عليه، ابن عمّ سماحة الاستاذ العلاّمة الطباطبائي قدّس الله تربته الزكيّة، و هو بدوره شخصيّة علميّة، له مع الحقير سوابق المعرفة و كان زميلي في الحوزة العلمية في قم والنجف، و هو نفسه محقّق و صاحب تصنيفات نفيسة و ممتعة. كتب يقول في تعليقته علی كتاب «الفردوس الاعلي» تصنيف آية الله الحاج الشيخ محمد حسين ال كاشف الغطاء رضوان الله عليه: الشاه اسماعيل بن سلطان حيدر الموسوي الصفوي من أكبر سلاطين الشيعة الإماميّة، ولد سنة (892) ه، و أمّه كريمة جدّنا السلطان حسن بك آق قوينلو المعروف ب (اوزون حسن)، فإنّ والده حيدر كان ابن اخت حسن بك و صهراً علی ابنته أيضاً، كما انّ جدنا الفقيه الشهيد في أعماق السجون و ظلمات الجياب الامير عبدالوهاب الحسني الطباطبائي (شيخ الإسلام) الشهير قدّس الله سرّه كان صهراً آخر أيضاً لحسن بك، اطلب تفصيل ذلك من كتابنا (خاندان عبدالوهاب). و يُستفاد منه انّ الامير عبدالوهاب و هو السلسلة الثالثة عشرة من نسب سماحة العلاّمة الطباطبائي كان عديلاً للسلطان حيدر والد الشاه اسماعيل، و كان والدهما أمير علی أكبر و السلطان اسماعيل ابني خالة بعضهما. [16] ـ اسم ذلك الخادم «كربلائي قلي»، و اسم تلك الخادمة «سلطنت خانم»، و كان الاستاذ يقول: تشرّفتُ مع أخي و العائلة بالذهاب إلی النجف الاشرف للدراسة، فاصطحبنا معنا الخادم و الخادمة هذين، ثم ذهب كربلائي قلي إلی السوق بعد عدّة أيّام لشراء بعض الاشياء الضروريّة كالخبز و الخضروات و اللحم، فكان مدهوشاً مبهوتاً عند عودته و هو يقول: أيّها السيّد، أيّها السيّد، تعال و انظر و تفرّج! فهؤلاء الاطفال ذوو السنوات الثلاث و الاربع يتحدثون مع بعضهم باللغة العربيّة!! [17] ـ حصل في اليوم الثالث من شهر جمادي الاولي لسنة ألف و أربعماته و ثمان هجريّة أن تشرّف صديقنا العزيز و فخرنا سماحة آية الله الحاج الشيخ صدرالدين الحائري الشيرازي دامت بركاته بالمجيء إلی مشهد المقدّسة، فوفّقت للقائه و الحضور عنده، فنقل مطلباً عن أستاذنا الاعظم يجمل بنا تدوينه هنا، قال: «كنتُ قد سمعتُ من أخ زوجتي سماحة حجّة الاسلام الحاج الشيخ حسن آقا البهلواني النكمي الطهراني أطال الله عمره قوله انّ العلاّمة كان قد قال: كان تفكيري أيّام الطفولة ضعيفاً جدّاً، و لم أكن أفهم مطالب الاستاذ، ثمّ انّي سجدتُ في الصحراء و قلتُ لربّي: امّا الموت أو الفهم! و كنتُ أترصّد أن أسأل منه هذا المطلب في فرصة مناسبة، بحيث يتّضح الامر من جهة، و لئلاّ تصدر جملة أو عبارة ـ باعتبار ان الموضوع يخصّ أمر تعثّره في الفهم ـ لا تناسب شأنه و مقامه، و لئلاّ تحصل إساءة للادب تجاهه. حتّي حصل أن جاء العلاّمة في سفر إلی شيراز مع صهره المرحوم سماحة حجّة الإسلام قدّوسي، و كنتُ جالساً عنده لوحدي بينما كان الشيخ القدّوسي يصلّي في الغرفة المجاورة، و كان مجلسنا فارغاً بكلّ معني الكلمة، فشرعتُ بالتعريض للمطلب تدريجاً، و فسألته: أمستعدّون أنتم للاءجابة إن كان لديّ سؤال؟ أجاب: ما الضرر من ذلك! سأجيبُ إن علمتُ. فقلتُ: انّ الموضوع يخصّكم، فإن علمتم أنّكم ستجيبون علی سؤالي حتماً سألتُكم، و الاّ انصرفتُ عن سؤالي! قال: تفضّل! إن علمتُ أجبتُ. قلت: لقد سُمع بأنّكم في سن الطفولة كنتم تتعثرون في استيعاب الدروس، ثم انّكم سجدتم فمنّ الله عليكم فصرتم تجيبون علی أعقد المسائل العلميّة. أفكان الامر كذلك؟ فشاهدتُ نور تلفّظي بهذه الجملات انّ حال العلاّمة تغيّرت، و انّ ملامحه قد احتدّت بحيث غمرني بعض الخجل من سؤالي، ثم أجاب في تلك الحال: الآن ـ و قد تقرّر الحديث ـ أقول: كنتُ أدرس «السيوطي» في تبريز، و كان استاذي يمتحنني فلا أجتاز الامتحان، فقال لي: لقد ضيّعت وقتك و وقتي! فذهلتُ كثيراً لكلام الاستاذ، لكأنّ هذا الكلام قد استقرّ في روحي و نفسي، و لم استطع البقاء في المدينة في نهاية الامر، فخرجتُ خارج تبريز إلی قمم التلال فقمتُ لعمل فمنّ الله عليّ. (و لم يذكر العلاّمة أكان ذلك العمل سجدة أم عملاً آخر) ثم لم يعقّب العلاّمة بشيء. فقلت: أفلم يواجهكم منذ ذلك الحين مطلب مستغلق لا يُحلّ؟ أكان المطلب يُحلّ مهما كان مُبهماً عسيراً؟ أجاب: لقد كان الامر كذلك حتي الآن.» انتهي كلام آية الله الحائري. و لقد شرّفنا بالحضور في منزل الحقير في المشهد الرضوي المقدّس سلام الله عليه شاهده سماحة الصديق الكريم و الحبيب المكرّم آية الله الحاج الشيخ عبدالحميد الشربياني دامت بركاته و ذلك يوم الاربعاء الثالث من شهر ربيع المولود لسنة 1410 ه. و كانّ ـ باعتباره من تبريز ـ مطّلعاً بشكل كامل علی عشيرة و أسرة و أرحام و أحداث العلاّمة الاستاذ، و كان مطّلعاً علی هذه القصّة أيضاً، فنقل هذه القضيّة حسب النقل السابق و أضاف: قال العلاّمة: ثمّ انّي بعد ذلك العمل كتبتُ تلك الليلة حاشية علی «حاشية أبي طالب علی السيوطي». و قال: كان معلّمه و أستاذه و أستاذ أخيه السيّد محمد حسن الالهي في درس «السيوطي» هو الشيخ محمد علی السرابي، حيث عيّنه للتدريس القيّم و الوصيّ من قبل أبيهما: خالهما السيد محمّد باقر القاضي والد سماحة صديقنا الشهيد آية اللها لحاج السيّد محمّد علی القاضي.
|
|
|