|
|
الصفحة السابقةبروز أبي ریحان البیرونيّ في مسائل الفیزیاء والهیئة والنجومأمّا بشأن علم الفيزياء : فقد برع العلماء والمفكّرون المسلمون في هذا الفنّ وبرزوا في كثير من مجالاته ، سواءً ما تعلّق بحسابات جرّ الاثقال ، أم بأبحاث النور وانكسار الاشعّة والمرايا ، أم في كثير من الصناعات المعتمدة علي القوانين الفيزيائيّة . فاكتشافات أبي ريحان البيرونيّ في الفلكيّات والرياضيّات و الميكانيك و الهيدروستاتيك ( ضغط وتوازن السوائل ) ، وارتفاع مياه الينابيع والفوّارات ، وقياس محيط الارض بالطريقة التي دعاها الغربيّون بقاعدة البيرونيّ ، واختراعه لبعض أنواع الاصطرلاب ، والكتب التي أ لّفها في الآلات الفلكيّة ، والنجوم المذنّبة ، والظواهر الجوّيّة ، والمدّ والجزر ، وإيجاد الوزن الخاصّ للاجسام ، والحدس بحركة الارض ، واحتمال وجود قارّة أُخري في سائر نقاط الربع المسكون كقارّة أمريكا ، وكثير آخر من أمثال هذه المسائل ، تعدّ بأجمعها من المسائل المهمّة التي وُضعت عليها علوم الفيزياء والرياضيّات الحاليّة . وقد جاء في مقـدّمة كتاب « التفهـيم لاوائل صناعة التنجـيم » أنّ أبا ريحان قد اخترع ميزاناً جديداً لتعيين الوزن والحجم الخاصّ للاجسام دعاه ب ميزان أبي ريحان ، وعيّن بواسطته الوزن الخاصّ ( النوعيّ ) لعدد من الاجسام في حدود 16 فقرة يُطابق آخر ما وصلت إلي تحقيقات العلماء الحاليّين . وكان ميزان أبي ريحان في نظـر أهل الفنّ والخـبرة أدقّ من ميزان أرخميدس . وهناك رسالة مذكورة في فهرس مؤلّفاته في النسبة بين الفلزّات والجواهر المعدنيّة كتبها بالفارسيّة ؛ وقد عيّن بشكل خاصّ في كتاب «الجَمَاهِر» الوزن الخاصّ ( النوعيّ ) للفلزّات ولبعض الاحجار الكريمة . [38] بحوث أبي ریحان البیروني حول الآبار الارتوازیّةمن کشوف أبي ریحان: قانون خاصٌّیّة الأواني المستطرفةالبئر الارتوازيّة : وقد أورد في « نامة دانشوران » ( = رسالة الحكماء ) أنّ هناك بعض المطالب المذكورة في كتاب «الآثار الباقية» لابي ريحان أُقيم علي أُسسها ونظمها في كتب حكماء أُوروبّا ، وذكر من جملتها شروحاً لارتفاع الماء من بعض العيون ذكره بعينه الحكيم الطبيعيّ المسيو زله في باب «پي آرت زين» . وسنورد بعد انتهاء مسائل ومطالب أبي ريحان تلك المسألة وسائر المسـائل وقواعد رسم الخرائـط المعهودة عند حكماء أُوروبّا ، ليتّضـح أنّ أبا ريحان كان له توارد خواطر مع أغلب حكمائهم ، أو أ نّهم ظفروا بمؤلّفاته فاقتبسوا تلك القواعد منه . [39] يقول في «الآثار الباقية» : تنقسم المياه التي تتجمّع في قعر البئر إلي قسمين : منها ما يترشّح أحياناً من أطراف البئر ويتجّمع ، فيكون سطح تلك المادّة مع سطح الماء المجتمع في مستويً واحد ، وهذا القسم لا يمكن بأيّ تدبير أن يرتفع إلي الاعلي ، لانّ الفتور والضعف الذي فيه لا يتلائم مع ذلك القصد . ويحدث أحياناً أن يفور الماء في قعر البئر بقوّة لانّ منبعه ومادّته مرتفعة ينحدر منها بشدّة ويخرج من المنافذ ، وهذا القسم يمكن رفعه بالآلات العاديّة المعهودة مثل الفوّارات العالية والانابيب ، للقدر الذي يصبح فيه أعلي ارتفاع لماء الفوّارة موازياً ومساوياً لسطح المادّة الاصليّ ، وهذا الماء قد يصل أحياناً إلي مستوي القلعة والمنارة . وقال أبو ريحان في ذيل ذلك المطلب أيضاً : ولقد حصل كثيراً في اليمن ، عند حفرهم الآبار ، أن ينتهوا في حفرهم إلي صخرة ، فيعرف قوم تلك الديار ، حسب فراستهم في هذا الامر ، من صوت الصخرة كمّيّة الماء المخزون في تلك المنطقة ، فيعمدون بما في أيديهم من الآلات إلي إيجاد ثقب ضيّق في تلك الصخرة ، فإن فار منها الماء بسلامة قاموا بتوسعة ذلك المجري ، وإن شوهد في الماء آثار الطغيان عمدوا إلي ذلك الثقب فسدّوه بالتراب والجِير لئلاّ ينبعث منه سيل مهيب . وهناك بحيرة واقعة في أعلي جبل بين مدينتي طوس وأبر شهر تدعي ببحيرة برزود ، يبلغ محيطها مائة فرسخ ، لا يظهر في مائها الجزر والمدّ الذي يظهر في مياه البحار الاُخري ، وذلك لانّ مستوي المخزن المائيّ الذي يمدّها يوازي سطح البحيرة ، أو أ نّه يرتفع عنه ، لكنّ مقدار الماء الذي يجفّ بالتبخّر الحاصل من أشعة الشمس يعادل المقدار الوارد من المنبع ، لذا انعدمت الزيادة فيه أو النقصان . حتّي يصل إلي القول : وقد أورد الحكيم المسيو زله في كتابه في علم الطبيعة بشأن بئر جرْنل[40] الواقعة في باريس فصلاً مشبعاً ، وذكر في بيان علله وأسبابه الطبيعيّة شرحاً يوافق تحقيقات أبي ريحان تماماً . وعلي كلّ حال فإنّ تلك البئر تقع في منطقة باريس بعمق خمسمائة وثمانية وأربعين متراً ، ويرتفع ماؤها عن الارض بواسطة أنابيب ارتفاعها ثمانية وثلاثون متراً . ولقد كان بحر الخزر مورد حيرة حكماء أُوروبّا ، إذ تصبّ فيه كلّ تلك الانهار في حين ليس هنا من ممرّ ومخرج للماء منه ، لذا فقد اعتقدوا إلي ما قبل مائتي سنة [41] أنّ للبحر المذكور مجريين سفليّين ، أحدهما تحت كرجستان والقفقاس ، والآخر من جهة ممالك إيران وهوانق ، فما يرد فيه من تلك الانهار يذهب في المجري الاوّل إلي البحر الاسود ، وفي الثاني إلي الخليج الفارسيّ ، ولولا ذلك فإنّ طغيان الماء الناتج من تجمّع الانهار العظيمة سيغطّي سواحل إيران وحاج طرخان ، بل سيغطّي خوارزم وجميع آسيا . لكنّهم قالوا في مسألة ذلك البحر ؛ استناداً إلي علوم الكيمياء والطبيعة التي تكاملت منذ التأريخ المذكور إلي الآن ؛ بنفس القول الذي نقلناه عن الاُستاذ أبي ريحان ، وتيقّنوا أنّ الكمّيّة التي تجفّ من المياه بأشعّة الشمس تعادل الكمّيّة الواردة في ذلك البحر ، وقد أمعن جمع من المهندسـين الروس في التحـقيق والبحـث بشأن هذه المسـألة خاصّة ، فاستنبطوا بعد تتبّع زائد ما يطابق رأي أبي ريحان الذي ذكره في «الآثار الباقية» . [42] ويعرف كشـف أبي ريحان هذا اليـوم في الفيـزياء ب قانـون خاصّـيّة الاواني المستطرقة . وقد كان لابي ريحان تحقيقات عميقة أيضاً بشأن حركة النور والصوت ، وأنّ حركة الصوت أبطأ من النور . [43] ومن بين المسائل الفيزيائيّة التي يدين بها الاُوروبّيّون للمسلمين مسائل النور والمرايا ، ومن أرقي الكتب التي دوّنت في هذا الموضوع كتاب «تنقيح المناظر لذوي الابصار والبصائر» تأليف العلاّمة كمال الدين أبي الحسن الفارسيّ ، كتبه قبل سبعمائة سنة ، وهو كتاب في جزءين يقرب من ألف صفحة .[44] وأمّا بشـأن علم النجـوم والهيـئة ، فإنّ علماء الهيـئة الحقيقيّـين بالرغم من عدم امتلاكـهم لوسـائل العمل ومسـتلزماته ، وافتقارهم إلي المنظار ( التلسـكوب ) ، قد عملوا في حساب قواعد حركات السـيّارات وقربها وبعدها وأماكنـها ومواضـعها في الفلك ، وتعيـين أماكن الثـوابت والسيّارات وصناعة الكرات الفضائيّة والاسطرلابات والخرائـط الجـوّيّة والارضيّة ، فأوصلوا البحث في هذه العلوم طبق القواعد الرياضـيّة الدقيقة والحسابات الاستدلاليّة والجبر والمقابلة والمثلثات وقواعد الظلّ والظلّ تمام والجيب والجيب تمام إلي ما لا يتصوّر فوقه . نبوغ أبي ريحان في الفلكيات و علم النجومفلقد كتب أبو ريحان البيرونيّ ـ وكان متخصّصاً في علم الفلك ماهراً فيه حتّي لكأنّ السماء في قبضة يده ـ كتاب «قانون المسعوديّ» في ثلاثة أجزاء ، وكتاب «في تحقيق ما للهند من مقولة في العقل أو مرذولة» ، وهو حاصـل أربعين سنة من السـفر والتوقّف في الهـند ، وكتاب «التفهـيم في أوائل صناعة التنجيم» ، و «الآثار الباقية» ، وكتباً ورسائلاً جمّة ذُكرت أسماؤها في عداد مؤلّفاته ، ففاق بألف ضعف الاُوروبّيّين الذين شاهدوا ورصدوا مراكز النجوم بالنواظر المكبّرة ؛ في جهوده ونتائج فكره البِكر التي قدّمها إلي دنيا العلم والعلماء . يقول في « نامة دانشوران ناصري » ( = رسالة العلماء الناصريّين ) : لقد حاز البيرونيّ مقاماً سامياً في أنواع الصناعات وفنون الرياضة وأصناف العلوم ، واتّفق فضلاء العالم وسلّموا علي أ نّه في مسائل النجوم متفرّد كالشمس ، لم يُرَ له نظير ، ولم يطرق الاسماع اسماً لصنوٍ له في منزلته أو شبيه ، فهو في الحقيقة درّة يتيمة انطوت علي الكمالات والفضائل[45] . [46] حتّي يصـل إلي القـول : ويتّضـح مـن كتاب «الاستيعاب في صنعة الاُسطرلاب» وسائر مؤلّفاته ، إنّ ذلك الاُستاذ الكامل كما تسلّمَ تفوّقه في المعقول والمنقول ، واشتهرت مهارته في المحسوسات والمصنوعات ، فإنّه وصل في إبداع الصنائع العمليّة إلي حيث تركت مهارته في اختراع طبقات الافلاك وخرائط النجوم عدّة صفحات بالغ في إيضاحها ، حتّي كأنّ الالواح الفلكيّة قد اندمجت في صفحات خياله ، والصور الثمان والاربعين قد ارتسمت في لوح صدره . وعموماً فقد كان في جودة الذهن وحُسن القريحة لدرجة كان يشرع معها بنفسه بالابتكار في صناعات الخرائط والآثار الجغرافيّة ، وقد ابتدع عدّة قواعد ظلّ الاُوروبّيّون يجلّون واضعها كلّما شاهدوها وطالعوها ، كذلك فإنّ أغلب خرائطهم في هذا العصر مبتنية ومرتكزة علي الاُصول والقوانين التي ابتكرها . [47] كيفيّة تسطيح سطح الكرة الارضيّة في الخرائط الجغرافيّة المسـتوية : هي من بنات أفكار وإبداعات ذلك الفاضل المتفرّد ، وقد أوجد قوانين وأطلق مسمّيات لبعض المسائل الطريفة والمطالب الدقيقة بحس قريحته وفكره البعيد الثاقب بسبب فقدان الوسائل ونقص الآلات لديه ، ويري مَنْ تأمّلها بعين الاءنصاف مدي علميّته وقدر فضله ؛ ومن بينها الاُصول والضوابط التي أوردها في مطاوي مؤلّفاته في تسطيح الكرة الارضيّة ورسم الخرائط الجغرافيّة ، وبالرغم من أنّ حكماء أُوروبّا قد أوصلوها ـ لتوفّر الاسباب وتهيّؤ الادوات إلي أعلي درجات الكمال ، لكنّهم كلّما سمعوا هذه العبارات وشاهدوا هذه الاءشارات كانوا يجلّونه ويعتبرونه لائقاً لكلّ ثناء حسب قاعدة الفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ . ولاجل الاءيضاح المحض لتلك الرموز ، وكشف تلك الكنوز ، فسنورد حاصل ما ذكره في « الآثار الباقية » في باب رسم الخرائط الجغرافيّة ... ثمّ يشرع ببيان كيفيّة تسطيح الكرة الارضيّة الذي أورده في « الآثار الباقية » ، وذلك في ثلاث صفحات كاملة . [48] أبوريحان لم تعتقد بكون الأرض ساكنةوكان أبو ريحان ؛ خلافاً لجميع المتقدّمين القائلين بسكون الارض حسب هيئة بطليموس ؛ ذا قريحة جيّدة في مسألة حركة الارض ، يعلم مَن تأمّل فيها أنّ له في اختيار ذلك المذهب والطريقة كمال الرغبة ، فيقول في كتاب « الاستيعاب في عمل الاُسطرلاب الزورقيّ » : وَقَدْ رَأَيْتُ لاِبِي السَّعِيدِ السَّجْزِيِّ أُسْطُرْلاَباً مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ بَسِيطٍ ، غَيْرَ مُرَكَّبٍ مِنْ شِمَالِيٍّ وَجُنُوبِيٍّ ؛ سَمَّاهُ الزَّوْرَقِيَّ . فَاسْتَحْسَنْتُهُ جِدَّاً لاِخْتِرَاعِهِ إيَّاهُ عَلَي أَصْلٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ مُسْتَخْرَجٍ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ بَعضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الحَرَكَةَ المَرْئِيَّةَ مِنَ الاَرْضِ دُونَ الفَلَكِ . وَلَعَمْرِي هُوَ شُبْهَةٌ عَسِرَةُ التَّحْلِيلِ ؛ صَعِبَةُ المَحْقِ ؛ لَيْسَ لِلْمُعَوِّلِينَ عَلَي الخُطُوطِ المَسَاحِيَّةِ مِنْ نَقْضِهَا شَيٌ . أَعْنِي بِهِمْ المُهَنْدِسِينَ وَعُلَمَاءَ الهَيْئَةِ . عَلَي أَنَّ الحَرَكَةَ سَوَاءً كَانَتْ لِلاَرْضِ أَمْ كَانَتْ لِلسَّمَاءِ ؛ فَإنَّهَا فِي كِلْتَا الحَالَتَيْنِ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي صِنَاعَاتِهِمْ . بَلْ إنْ أَمْكَنَ نَقْضُ هَذَا الاعْتِقَادِ وَتَحْلِيلُ الشُّبْهَةِ فَذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَي الطَّبِيعِيِّينَ مِنَ الفَلاَسِفَةِ . [49] وقد بحث أبو ريحان في مشكلة حركة الارض أيضاً في كتاب «تحقيق ما للهند» . [50] اكتشافات أبي ریحان الجدیده فی المسائل الریاضیة و الهیة استخراج جيب الدرجة الواحدة : يعدّ استخراج جيب الدرجة الواحدة من المسائل الرياضيّة الدقيقة التي لم يوفّق العلماء الذين سبقوا أبا ريحان لكشفها ؛ وكان أبو ريحان أوّل العلماء الذين وفّقوا لذلك ، حيث أورد شرحها في الباب الرابع من المقالة الثالثة في « قانون المسـعوديّ » ج 1 ، ص 292 ، فقد طرح من عنـده ابتداءً اثنتي عشرة مقدّمة ، أي إثنتا عشرة قضيّة رياضيّة ، وبرهن عليها ، ثمّ استنتج مقصوده واستنبطه منها . وكان لاءثنين من معاصري أبي ريحان من أعاظم علماء الرياضيّات ؛ أحدهما أبو سهل بيزن بن رستم كوهي والآخر أبو الجود محمّد بن ليث السمرقنديّ ؛ جهود ومحاولات في هذا الشأن ، لكنّها لم تثمر شيئاً . [51] وهناك مسائل أُخري كان للبيرونيّ نظره الخاصّ فيها قام بنفسه بقياسها وفق الحسابات الرياضيّة الدقيقة والارصاد ، مثل قياس مساحة محيط الكرة الارضيّة وقطرها ، ومسارات الكواكب ، والقاعدة النجوميّة لتسوية البيوت ، والطول والعرض الجغرافيّ ، وجهة قِبلة المدن ؛ وقاعدة جديدة لاكتشاف جهة القِبلة وبناء محراب المساجد ؛ ورصد المَيل الكلّيّ والميل الاعظم ؛ والحركة الخاصّة الوسطيّة للشمس ، وحركة أوج الشمس ؛ والمقدار الدوريّ لحركة الثوابت ؛ وكثير من المسائل الاُخري التي يطول المقام بشرحها واحدة فواحدة ، [52] وقد ذكر البيرونيّ هذه المسائل بالتفصيل في «قانون المسعوديّ» و «تحديد نهايات الاماكن» و «الآثار الباقية» ، و «كتاب الجَمَاهِر» . [53] الخواجة نصیر الدین الطوسی : مدون الیزیج الإخانی ومن بين علماء الهيئة والرياضيّات والنجوم الذي يدين لعلمه وفضله وكماله جميع أصحاب التقاويم والحسابات من زمنه حتّي يومنا هذا ، ويشيرون إليه في أغلب الكتب بألقاب : أفضل المتكلّمين ، سلطان الحكماء والمحقّقين ، أُستاذ البشر ، علاّمة البشر ، العقل الحادي عشر : العلاّمة الخواجة نصير الدين محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسيّ ،[54] فإنّه بتأسيس مرصد مراغة ، وجمعه علماء الرياضيّات وفضلائها وهيئة العلماء والمتخصّصين من الطراز الاوّل لمدّة ستّ عشرة سنة ، فقد قام بترتيب وتدوين الزيج الاءيلخانيّ . ثمّ أ لّف بعده أحد معاونيه في تنظيم الزيج ،[55] اسمه غياث الدين جمشيد الكاشانيّ كتاباً في إكمال الزيج الاءيلخانيّ للخواجة الذي ظلّ ناقصاً ، وسمّاه بالزيج الخاقانيّ . وقد كتب الخواجة في خاتمة عمل الرصد كتاب الزيج الاءيلخانيّ باسم هولاكوخان ، وأضاف إليه عدّة جداول لم تكن في الازياج السابقة ، فحاز لهذا السبب اعتباراً أكمل . وقد ترجم ونشر مؤرّخو أُوروبّا أيضاً ؛ حسب النقل المعتبر ؛ سنة ألف وثلاث وستّين للهجرة التي توافق سنة ألف وستمائة واثنين وخمسين ميلاديّة في مدينة لندن جدولاً لعرض البلاد وطولها اعتماداً علي هذا الزيج الاءيلخانيّ[56] . [57] ومن بين كتب الخواجة نصير الدين الطوسيّ في علم السماء كتاب «التذكرة النصيريّة في الهيئة» ، وهو كتاب مختصر إلاّ أ نّه جامع لمسائل هذا الفنّ ، ومن الشروح المشهورة علي هذا الكتاب شرح الفاضل شمس الدين محمّد بن أحمد الحفريّ أحد تلامذة سعد الدين ، وهو شرح ممزوج سمّاه «التكملة» ، وفرغ من تأليفه في شهر محرّم الحرام لسنة 932 هجريّة . [58] ويعدّ علم الهيئة أيضاً من العلوم التي يجري تدريسها في الحوزات العلميّة ، وكان العلاّمة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله نفسه أُستاذاً في هذا الفنّ وقادراً علي استخراج التقويم ، وقد حضرتُ دورة في علم الهيئة في محضره المبارك . تقدم المسلمین فی علوم الطب و الصیدله وأمّا علم الطبّ والصيدلة : فيكفي في عظمة تدريسه وتعليمه وشهرته أنّ الطبّ كان حتّي هذه الاواخر منحصراً إمّا حسب طبّ خمسة اليونانيّ ، أو حسب طبّ أبي زكريّا الرازيّ ؛ ولم ننسَ بعدُ ما كان لدينا من حكماء وأطبّاء متبصّرين ، حاذقين ، خبيرين ومشهورين في كلّ مدينة ومحلّة وشارع ، من المشتغلين بمعالجة الامراض حسب نظام مشخّص وطريقة معيّنة ، تبعاً لكتب الادوية مثل «قرابادين الكبير» وسائر الكتب المتخصّصة في هذا الشأن ، وذلك بالادوية اليونانيّة ، حسب نوع المرض المشخّص ، أي بالعقاقير والادوية العشبيّة وتعديل المزاج بالمُنضج ثمّ المُسهل . الطب القیم ، و کتاب «القانون» لابن سینا وكان كتاب «القانون» لابن سينا ، من الكتب المعـروفة التي ينـبغي مطالعتها في هذا المجال ؛ وكان لكلّ أُستاذ ـ مضافاً إلي ذلك طريقته الخاصّة في العلاج وتلامذة خاصّون يقوم بتعليمهم وتدريسهم كتاباً آخر وفق المنهج الذي اختطّه ، يُضاف إلي ذلك مجيئه بالتلاميذ من أوّل العمل إلي مطبّه وإراءتهم ـ عملاً ـ أنواع وأقسام الامراض وطرق معالجتها ومقدار الدواء الموصوف لكلّ حالة ؛ وقد بقي كتاب « القانون » يدرّس حتّي هذه الاواخر لتلامذة الطبّ في أُوروبّا. فوائد علم الطب القدیم، و أضرار الطب الحالی ولقد تغيّر الاُسلوب اليوم ، فجعلوا الادوية عبارة عن موادّ كيميائيّة ذات صيغ وتركيبات خاصّة ، وصيّروها بشكل أقراص أو حُقَن ، لتكون سهلة الحمل والنقل ، وللاستفادة منها بالمقادير المعيّنة حسب الحاجة من جهة ، ولتكون أدوية جاهزة يمكن إيصالها أفضل وأسرع ليد المريض ، ولتكون أكثر انسجاماً مع وضع التقدّم التَّقنيّ الحاكم علي الدنيا حاليّاً من جهة ثانية ، وليمكن من جهة ثالثة تجزئة العقاقير للتخلّص من الموادّ المضرّة والسمّيّة الموجودة فيها والحصول علي الدواء الخاصّ المطلوب بتركيب وخلط الموادّ النافعة لعدّة أنواع من الادوية . وعلي الرغم من امتلاك هذه الطريقة للمنافع العديدة ، إلاّ أنّ لها أضرارها أيضاً . أوّلاً : لانّ الادوية الصناعيّة تفسد ويعروها التلف بسرعة ، وينبغي اتّخاذ تدابير خاصّة للمحافظة عليها من التلف لمدّة معيّنة ، وتلك التدابير التي تتّخذ للدواء ـ إمّا بواسطة عمل كيميائيّ أو عمل فيزيائيّ لن تبقي بدون تأثير في بدن المريض ، حيث يسبّب الترسّب التدريجيّ للموادّ الضارّة وردّ فعل خلايا البدن لورودها سَوْق البدن تدريجيّاً للضعف ؛ في حين أنّ الادوية الطبيعيّة والاعشاب الطبّيّة خالية من الضرر ، ولا يعروها الفساد ، والتلف وتبقي مدّة طويلة . وثانياً : استعمال زرق الحُقَن ـ أي إدخال موادّ خارجيّة دفعةً واحدة في شريان القلب أو العضلة يسبّب إيجاد ردّ فعل سلبيّ ، إذ ينبغي لعموم الاغذية والادوية أن تدخل البدن من المجاري الطبيعيّة ، كالمعدة والرئة . وثالثاً : فإنّ هذه المركّبات هي أدوية توصف لجميع أنحاء العالم ، بما فيها من مناطق باردة وحارّة ومعتدلة ، ولكلّ أنواع الامزجة ولكلّ الاقوام بصفاتهم وأنواعهم المتباينة ، فكما أنّ ملاحظة وضع الماء والهواء والبيئة الجغرافيّة مؤثّرة في أصل صحّة الاءنسان وطبيعته ، فهي كذلك مؤثّرة في كيفيّة المعالجة وتعيين نوع الدواء . وعلي هذا الاساس يقول ابن سينا في كتاب « القانون » : وَكُلٌّ يُدَاوَي عَلَي نَبْتِ بَلَدِهِ . أي ينبغي معالجة كلّ مريض بالاعشاب التي تنمو في بلده ، لا بأعشاب بلد آخر . وهذا الامر قد جرت رعايته في الطبّ القديم ، وكانت الادوية التي يصفها الحكماء عبارة عن جذور العقاقير أو الاعشاب التي تؤخذ غالباً من نفس البلد أو البلاد المجاورة . ورابعاً : إنّ تلك الادوية العشبيّة هي موادّ معلومة ومجرّبة ، فهي تؤخذ من النباتات أو الحيوانات المحلّلة كزيت السمك ، أمّا الادوية الكيميائيّة الحاليّة التي تُجلب من بلاد الاءفرنج ، فلا ضابط ولا قيود هناك في عملية انتخابها . فهم هناك يعدّون الكلب والخنزير والضفدع والسرطان البحريّ والافعي والسحلية والعقرب وكلّ ما يتصوّره الاءنسان محلّلة ، فيأكلونه ويستخرجون أدويتهم منه ما صلح لذلك ، من زيت سمك محرّم ، أو معدّة وكبد خنزير ، ومن غدّة بنكرياس كثير من الحيوانات المحرّمة ، أو حتّي من عصارة فضلات الكلب . [59] فحقن التستوفيرون ( Testowiron ) التي يصفونها لبعض أنواع الضعف الجنسيّ يستخرجونها من خصية القرد ، لذا تكون غالية القيمة ، كذلك فهم يعدّون الكحول والخمر حلالاً ، ويعدّونه في الصيدلة كأحد الموادّ الرئيسيّة . أمّا الشرع الاءسلاميّ المقدّس ، فحين يعتبر هذه الموادّ حراماً ، فليس ذلك فقط للامر التعبّديّ ، بل للاضرار الجسميّة والروحيّة التي تنطوي عليها أيضاً . لذا نشاهد أنّ هذا النوع من المعالجات بالموادّ الكيميائيّة وتركيبات الموادّ الصناعيّة غير الطبيعيّة تخفِّض بشكل عامّ معدّل العمر الطبيعيّ للاءنسان ؛ أي أنّ تناول هذه الموادّ ينطوي علي إدخال سموم وموادّ ضارّة إلي البدن ، بالرغم من عدم تسبيبها للموت السريع الآنيّ دفعةً واحدة ، إلاّ أ نّها تسبّب نوعاً من الموت البطيء التدريجيّ ؛ ويقال إنّ هذا النوع من الادوية والمعالجات يخفِّض معدّل الاعمار الطبيعيّة بما يقرب من عشر سنوات . يقول الدكتور الكسيس كارل : ويجب من جهة أُخري أن نسأل أنفسنا : ألا يسبّب نقص تلفات الاطفال والشباب ووفيّاتهم إشكالاً جديداً ؟ فالاطفال العاجزين والمعوّقين تجري حمايتهم في المدينة الحديثة فلا يجري انتخاب الاصلح كما كان يحصل في السابق . وإنّ أحداً لا يعلم أين سيؤول مستقبل نسل تجري حماية موجوداته العليلة والناقصة بواسطة الموازين الطبّيّة والصحّيّة . لكنّنا نواجه أمامنا مسألة معضلة أُخري يجب أن نجد لها حلاّ سريعاً : ففي الوقت الذي تزول فيه شيئاً فشيئاً أمراض الالتهابات كالجدري والحصبة والخناق والسلّ والطاعون والاءسهال المعديّ للاطفال وغير ذلك من الامراض ، ممّا يقلّل من ميزان الخسارة في الاطفال ، فإنّنا نلاحظ في المقابل أنّ عدد المصابين بالامراض النفسيّة يزداد يوماً بعد آخر . ففي بعض المناطق يزيد عدد المرضي المجانين في مستشفيات الامراض العقليّة حتّي علي عدد جميع المرضي الآخرين الذين تجري معالجتهم . ومضافاً إلي ذلك فإنّه ينبغي الاهتمام بمسألة زيادة الاختلالات والاعراض العصبيّة ، التي هي بنفسها أحد الاسباب الرئيسيّة لكآبة الافراد وتشتّت العائلات ، والتي تمثّل خطراً علي مستقبل البشريّة والمدنيّة أهمّ بكثير من أمراض الالتهابات التي يخصّص الطبّ الحاليّ كلّ هذا الوقت والجهد لدراستها ومكافحتها . [60] والامر اليوم شبيه أيضاً بالقرن السابق ، فالرجل الذي عمره ( 45 ) سنة لا يمتلك الامل الكبير في أن يصل إلي سنّ الـ ( 80 ) سنة ، ومع أنّ متوسّط عمر الافراد قد زاد بكثير علي السابق إلاّ أ نّه يحتمل أن تكون الاعمار قد قصرت . [61] وتبعاً لهذا الامر فإنّ الكثير من العلماء والاجلاّء يتأسّفون لاندثار الطبّ اليونانيّ ، فليس لدينا حاليّاً من أُولئك الاطبّاء في إيران إلاّ واحد أو اثنان ، [62] وسيضيع بذهابهم تعليم هذا النوع من الطبّ وتتشتّت علومه ، فقد آل أمر هذه الطبابة بيد العطّارين وباعة الاعشاب الذين لا شأن لهم بالطبابة ولا مهارة لديـهم ، ولا تعود مراجعـتهم علي المريض المبـتلي إلاّ بالاذي والخطر . ويقال : إنّ هناك بعض الاطبّاء في ألمانيا يقومون بمعالجة المرضي حسب نهج الطبّ اليونانيّ فقط ، وإنّ لهم صيدليّات خاصّة تباع فيها الادوية التقليديّة القديمة والعقاقير ، وتصرف فيها وصفاتهم الطبّيّة ، فيضع أصحاب هذه الصيدليّات لافتات في واجهتها كُتب فيها : Herbalist Medcine Shop . لكنّ الامر يختلف في أمريكا ، فهناك توجد دكاكين تباع فيها الموادّ الغذائيّة الصحّيّة فقط ، مثل الـ « آب نبات » [63] والاعشاب والعقاقير والاقراص والادوية التي لايحتاج استعمالها إلي وصفة طبيب ، وتعلو واجهاتها لافتات : ( محل الموادّ الغذائيّة الصحّيّة ) Health Food Shop [64] ونحن الآن بانتظار ظهور طبابة وأطبّاء بهذه الكيفيّة ، يمتلكون التخصّص والمهارة في ذلك الفنّ ، مضافاً إلي المزايا الاءيجابيّة النافعة للطبّ العصريّ ، كالعمليّات الجراحيّة وغيرها . ويقال إنّ الطبّ الحديث يقوم علي ثلاثة أركان : ابن سينا ، العمليّات الجراحيّة ، الترياق . ومع امتلاكنا بحمد الله ومنّه هذه الاركان الثلاثة ، فإنّ بإمكاننا تأسيس دراسة الطبّ العالي الذي يمتلك ميزات الطبّ الحديث ويفتقد أضراره ، ليمكن معالجة المرضي بالنحو الاحسن أوّلاً ، وليتمّ تخصّص الاطبّاء ونيلهم المهارة بشكل أفضل ثانياً . آثار الأجهزه الطبیه الحدیثة فی انخفاض مهاره الطبیب ومن أضرار الطبّ الحالي هو عدم تنميته لمهارة الاطبّاء الذين يقوم بتخريجهم ؛ إذ لم يدع استعمال ميزان الحرارة ( Thermometer ) مجالاً للطبيب لاخذ نبض المريض ومعرفة كيفية ضرباته التي كان الطبّ القديم يقسّمها إلي ( 32 ) نوعاً من الضربات ، يشخّص الاطبّاء من كيفيّة كلّ نوع من الضربات مرضاً خاصّاً في المريض المبتلي . ووصل الامر إلي الحدّ الذي تمّ أخيراً اختراع جهاز يمكن بواسطته تشخيص الغدّة الواقعة في الرأس فوراً وتعيين محلّها ، فيقوم معاونو الطبيب بهذا العمل قبل معاينة الطبيب ، فيقدّمون المريض إلي الطبيب وبمعيّته وصف للغدّة وكيفيّتها . وبالرغم من مزيّة هذا العمل إلاّ أنّ قوّة الابتكار والبحث وكيفيّة تشـخيص الغدّة والعثـور عليها من الطرق المتـعدّدة التي يسلكها الاطبّاء عادةً لذلك ، ستنتفي بهذا العمل . وخلاصة الامر أ نّه كلّما اتّسعت دائرة اختراع واكتشاف مثل هذه الاجهزة والوسائل لتشخيص الامراض ، هبط معها بنسبة معكوسة قابليّة الاطبّاء ومهارتهم ، وهذا الامر بنفسه من الآفات التي تواجه الطبّ الحديث ، لا نّه لا يربّي أطبّاء حاذقين متمرّسين في تشخيص الامراض ، بل يجعل الاطبّاء أشبه بالمأمورين في ماكنة فيزيائيّة أو محرّك كهربائيّ لاستبدال المسامير اللولبيّة (البراغي) والصامولات . كانت هذه هي الاءجابة علي الاءشكال الثاني لمقولة صاحب المقالة ، بسطنا القول فيها مجبرين لتتّضح أطرافها وجوانبها ، من أجل بيان عظمة علم الحكمة والفلسفة الاءسلاميّة أوّلاً ، والبرهنة علي حقارة الفلسفة الحديثة ـ بما فيها من إلهيّاتها وطبيعيّاتها أمام تلك الفلسفة ثانياً .
الارجاعات: [38] ـ مقدّمة «التفهيم» ص 116 ، بقلم جلال الدين هُمائي . [39] ـ خصّص المستشار عبد الحليم جنديّ في كتاب «الاءمام جعفر الصادق» ثلاثة فصول منه حول علوم الاءمام في حقول العلوم التجـربيّة والعلوم السياسـيّة والعلوم الاقتصـاديّة ، أورد فيها بحوثاً قيّمة ، واستدلّ علي أنّ جميع علوم الاُوروبيّيّن في هذه الحقول الثلاثة المهمّة مستمدّة ومقتبسة منه عليه السلام ، فيقول في بداية هذه الفصول في الباب الخامس الذي يشخّص المنهج العلميّ للاءمام في ص 277 بشكل مكثّف : في الباب الحالي فصول ثلاثة تحاول تصوير منهج الاءمام الصادق العلميّ والحضاريّ والسياسيّ والاقتصاديّ ، كما رسم خطوطه بالفعل وبالقول ، وكما اقتفي آثاره وبني عليه علماء الاءسلام ، الفقهاء منهم والرياضيّون التطبيقيّون ، مستمتعين بحرّيّة الفكر والبحث التي وردت بها نصوص الكتاب العزيز وأمرت بها السُّنّة . وكان الاءمام الصادق من الاوائل في تعليمها للمسلمين ، ممّن انتسبوا إليه وممّن أخذوا عنهم ، يستوي في ذلك الشيعة وفقهاء أهل السنّة . علي هؤلاء الفقهاء تعلّم أهل أُوروبّا منهج النزاهة العلميّة والواقعيّة الذي تبلور في طريقة «التجربة والاستخلاص» . والذي أعلنه جابر بن حيّان ، أوّل من استحقّ في العالم لقب كيميائيّ كما يعبّر عنه الاُوروبّيّون . ومن المنهج الحضاريّ : المنهج السياسيّ والاقتصاديّ الذي يستهدف عمارة الدنيا بالعدل بين الناس ، والعمل للحياة ، والتكافل بين أعضاء الجماعة ، والسعي لاستثمار طاقات الناس وأموالهم ؛ وهي قواعد بلغ بها الفقه الشيعيّ غايته ، ابتداءً من منهج أمير المؤمنين عليّ ، معمولاً به في حياته أو خلافته ، أو منصوصاً في عهده للاشتر النخعيّ ، وكلّه سياسة واجتماع واقتصاد ، إلي رسالة حفيده زين العابدين في الحقوق ، وهي تجري في آثاره ، إلي برنامج حفيده جعفر الصادق العلميّ والحضاريّ ، السياسيّ والاقتصاديّ ، يدلي به للناس ، ويطبّقه بنفسه ، ويضع به الاُسس لدول أو مجتمعات أو جماعات أو جمعيّات ، تعمل بمنهاجه لتبلغ أوجها به . وهذه خصّيصة لا يجاري الصادق فيها عالم من العلماء في التأريخ ، وحسبنا في هذا المقام كلمات كالاءشارات ، تضمّنتها الفصول الثلاثة التي حواها هذا الباب . [40] ـ Gernelle [41] ـ طُبع المجلّد الاوّل من «نامة دانشوران» (= رسالة العلماء) ؛ كما ذُكر في مقدّمته بقلم العالم الجليل الحاجّ السيّد رضا الصدر في 15 شعبان سنة 1296 هجريّة ، وعلي هذا تصبح الفاصلة الزمنيّة بينه وبين تأليف المجلّد لاوّل من هذا الكتاب «نور ملكوت القرآن» في 1408 هجريّة تعادل 112 سنة ينبغي إضافتها إلي المائتي سنة المذكورة . [42] ـ (نامة دانشوران ناصري) = رسالة الحكماء الناصريّين ، ج 1 ، ص 80 و 82 . [43] ـ «مقدمه التفهيم» ص 117 ، عن «الآثار الباقية» ص 256 . [44] ـ طُبع هذا الكتاب في جزءين كبيرين في مدينة حيدر آباد سنة 1347 و 1348 هجريّة ، ومؤلّفه من الشيعة الاجلاّء ، قال عنه في «الذريعة» ج 4 ، ص 467 : هذا الكتاب شرح للمولي كمال الدين الفارسيّ ، شرحه بأمر أُستاذه قطب الدين الشيرازيّ المتوفّي ( 710 ) علي كتاب «المناظر والمرايا» المنسـوب إلي أبي عليّ محمّد بن الحسـين بن الحسـن بن سـهل ابن هيثم البصريّ المتوفّي عن عُمْر طويل في حدود سنة ( 430 ) ، ويحتوي علي سبع مقالات أضاف لها خاتمة وذيلاً ولواحق ، وفرغ من الشرح سنة ( 718 ) . ثمّ إنّ معاصر الشارح وزميله في التلمذة علي قطب الدين الشيرازيّ وهو المولي نظام الدين الشهير بالنظام الاعرج القمّيّ قد اختصر «التنقيح» وسمّاه : «البصائر في اختصار تنقيح المناظر» ، وأصل كتاب «المناظر» لاءقليدس الصوريّ ، ثمّ إنّ ابن الهيثم أدرج مسائله في كتابه المسمّي بـ «المناظر» . [45] ـ (نامة دانشوران) (= رسالة العلماء) ج 1 ، ص 61 . [46] يذكر أحمد أمين المصري في كتابه «يوم الاءسلام» ص 89 و 90 مطلباً يستحقّ التأمّل ، حيث يقول : وطريقة الاءسلام الاعتماد علي الـ Induction ، أعني الاستقراء ، فهو يتتبّع المسائل الجزئيّة ما أمكن ثمّ يستنتج منها القاعدة الكلّيّة ، كما فعلوا في النحو والصرف ، فكانوا يتتبّعون الجزئيّات المعروفة ليستنتجوا منها قاعدة : الفعل مرفوع . أمّا الفلسفة اليونانيّة أو فلسفة أرسطو فعمادها علي الـ Deduction ، أي : الاستنتاج ، فهم يضعون القاعدة الكلّيّة ثمّ يستنتجون منها النتائج الجزئيّة ، كقولهم إنّ الاجسام تتمدّد بالحرارة ، والحديد جسم ، إذن فالحديد يتمدّد بالحرارة ... وهكذا . وقد أدّتهم طريقة الاستقراء هذه الي الاءمعان في الشكّ والتجربة ، فنري كثيراً ممّا كتبه الجاحظ في كتاب «الحيوان» يبتدي بالشكّ ، ثمّ يعرض علي محكّ التجربة ، ولا بأس عنده أن يخطِّي أرسطو فيما قاله ، ويفضِّل عليه أعرابيّاً بدويّاً . وسار النظام علي هذا حتّي في الاحاديث النبويّة ، فكان يشكّ فيها أوّلاً ، ثمّ يعرضها علي مقتضي العقل ليعرف أصحيحة هي أم غير صحيحة ؟ فكان الغزّاليّ والجاحظ أسبق إلي الشكّ من ديكارت ، وكان مسكويه أسبق من داروين في تقريره مذهب النشوء والارتقاء في كتاب «تهذيب الاخلاق» ، وكان الطوسيّ أسبق من أينيشتَين في فهم الزمنيّة ، غاية الامر أنّ مواد العلم الاوّليّة كانت لهؤلاء المتأخّرين أوفر ، والزمن لهم أعون ، والحقائق عندهم أكثر اتّضاحاً ، والتعبير أبين ، ويسودهم مذهب التحليل أكثر من مذهب التركيب ، فما يقوله علماء العرب في جملة ، يقوله المتأخّرون من الاُوروبّيّين في كتاب ، وهكذا . وقد نسبوا إلي روجر بيكون أ نّه أوّل من قال بالاستقراء في النهضة الاُوروبّيّة الحديثة ، مع أ نّه خرّيج الجامعات العربيّة في إسبانيا . وعيب العرب أ نّهم لم يجـدوا من يمجّـدهم . ومزيّة الاُوروبّيّين أ نّهم يمجّدون دائماً من يعلي شأنهـم ، وهكذا الشـأن في ابن خلـدون ، فإنّه سبق ديكارت في تأسـيسـه علم الاجتماع ، والفرق بين كتب الاءثنين أ نّه أيضاً بني كتابه علي مذهب الاستقراء الذي سار عليه العرب أكثر ممّا سار علي مذهب الاستنتاج الذي سار عليه الاُوروبّيّون . [47] ـ «نامة دانشوران» ج 1 ، ص 62 . [48] ـ «نامة دانشوران ناصري» ج 2 ، ص 73 إلي 76 . [49] ـ «نامه دانشوران ناصري» ج 1 ، ص 77 . [50] ـ «تحقيق ما للهند» ص 138 . [51] ـ مقدّمة «التفهيم» ص 113 ، عن «قانون المسعوديّ» ج 1 ، ص 297 . [52] ـ يقول في «نامة دانشـوران ناصـري» (= رسالة العلماء الناصـريّين) ج 1 ، ص 70 : ومن أمثلة فضائل ذلك الاُستاذ الكامل : مناظراته ومباحثاته مع الشيخ الرئيس ابن سينا في ثمان عشرة مسألة طبيعيّة ، دارت حول سكون الارض ، وميل جميع الاجسام إلي مركزها ، وامتناع الخلاء ، وإبطال الجـزء الذي لا يتجـزّأ ، وتناهي الابعاد ، وأمثالها من المسائل التي يفهم كلّ مَن تأمّل بنظر التدقيق في تلك الرسالة ؛ وهي مطمح أنظار المتقدّمين ومطرح أفكار المتأخّرين ؛ درجةَ هذين الحكيمين المتفرّدين في الفضل ومرتبتهما في العلم . فتأمّل . حتّي يصل إلي القول : قال ياقوت الحمويّ : حين وردتُ جامع مرو ونظرت في فهرس مؤلّفاته ضمن رسالة وقف ذلك المسجد ، وكانت عدّة أوراق كُتبت بخطّ دقيق متقارب ، فعددتها فكانت ستّين ورقة ؛ وقال البعض إنّها كانت تزيد علي وقر بعير عند الحمل والنقل ، لكنّ عقد تلك التصانيف النفيسة انفرط بِيَدِ الحوادث فلم يبقَ من ذاك الكثير الوافر إلاّ هذا القليل النادر . [53] ـ يقول عبد الحليم الجنديّ في كتاب «الاءمام جعفر الصادق» ص 296 و 297 : وعندما توضع أقوال جابر بن حيّان في القرن الثاني للهجرة إلي جوار أقوال الحسن بن الهيثم ( 354 إلي 430 ه .ق) بعد أكثر من قرنين ، وقد عمل في خدمة الدولة الفاطميّة ، وهي دولة من دول الشيعة ، وله 47 كتاباً في الرياضيّات و 58 كتاباً في الهندسة ؛ تتأكّد لنا طريقة ونهج العلوم التجربيّة والاستخلاص التي سلكها الاءمام الصادق وأتقن العمل بها ، ووصفها جابر والحسـن ، وقد أحسـن الحسـن التعبير عنها بأفضل المناهج العلمـيّة الواضحة الفحـوي والمحدّدة العبارات .* ويشهد بها من أهل أُوروبّا درايير في كتابه «النزاع بين العلم والدين» فيقول : كان الاُسلوب المختصّ الذي توخّاه المسلمون سبب تفوّقهم في العلم . فإنّهم تحقّقوا أنّ الاُسلوب النظريّ وحده لا يؤدّي إلي التقدّم ، وأنّ الامل في معرفة الحقيقة معقود بمشاهدات ذات الحوادث . ومن هنا كان شعارهم في أبحاثهم هو «الاُسلوب التجريبيّ» . وهذا الاُسلوب هو الذي أرشدهم إلي اكتشاف علم الجبر وغيره من علوم الرياضة والحياة . وإنّنا لندهش حينما نري في مؤلّفاتهم من الآراء العلميّة ما كنّا نظنّه من ثمرات العلم في هذا العصر . * ثمّ يذكر عبد الحليم الجنديّ في الهامش : راجع مقدّمة كتاب الدكتور مصطفي نظيف ، مدير جامعة عين شمس بالقاهرة عن الحسن بن الحسن الهيثم البصريّ أكبر عالم في الرياضيّات والطبيعة في العصور الوسطي حيث يقول : وفد الحسن من العراق إلي القاهرة ليعمل مهندساً في خدمة الدولة الفاطميّة في عصر الحاكم بأمر الله . وكان من رأيه جواز إقامة آلات علي النيل يحرّكها تيّار مياهه. والدكتور نظيف يقول إنّه ينبغي أن نستبدل بأسماء روجير بيكون ومور ليكوس ودافنشي وكبلر ودلابورتا باسم الحسن بن الهيثم . فعلي يد الحسن بن الهيثم أخذ علم الضوء وجهة جديدة بمنهجه الاءسلاميّ ، وهو (استقراء الموجودات وتصفّح أحوال المبصرات وتمييز خواصّ الجزئيّات وما يخصّ البصر في حال الاءبصار . وما هو مطّرد لا يتغـيّر ، وظاهر لا يشـتبه من كيفيّة الاءحسـاس . ثمّ نترقّي في البحث والمقاييس علي التدرّج والترتيب مع انتقاد المقدّمات والتحفّظ في النتائج ، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرؤه ونتفحّصه استعمال العدل لا اتّباع الهوي . ونتحرّي في سائر ما نميّزه وننقده طلب الحقّ لا الميل مع الآراء ، فلعلّنا ننتهي بهذا الطريق إلي الحقّ الذي يثلج الصدور ، ونصل بالتدريج والتلطّف إلي الغاية التي عندها يقع اليقين ، ونظفر مع النقد والتحفّظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها موادّ الشبهات) فهذا جمع للاستقراء والقياس . وما هو إلاّ منهج علماء الرياضيّات والطبيعة المسلمين تابعهم فيه ابن الهيثم ونقله علماء أُوروبّا ابتداءً من الكنديّ (المتوفّي سنة 252 ) عالم الطبيعة أو الطبيب الفيلسوف ؛ والرازيّ (المتوفّي سنه 320 ) جالينوس العرب أو الطبيب الفيلسوف الذي يتّخذ الاءحساسات بالجزئيّات أساساً لكلّ عمله ويدلّل بالكائنات الحيّة علي وجود الخالق ؛ وابن سينا (المتوفّي سنة 428 ) الرئيس أو الفيلسوف الطبيب الذي يمثّل فكرة المثل الاعلي في العصور الوسطي كما يقول سارتون ؛ وللاخيرَين صورتان معلّقتان علي جدران جامعة باريس الآن مع جرّاح العظام ابن زُهَر . [54] ـ «ريحانة الادب» ج 2 ، ص 171 ، يقول : ولد الخواجه علي المشهور في الحادي عشر من جمادي الاُولي سنة 597 هجريّة في طوس . وبدأ في بناء الرصد سنة 657 ، وحسب المشهور فقد رحل عن الدنيا يوم عيدالغدير سنة 672 في بغداد ، ونقلت جنازته حسب وصيّته إلي الكاظمين عليهما السلام ودُفنت أسفل أقدام ذينك الاءمامينِ المعصومين . [55] ـ يطلق الزيج علي الكتب التي تتناول أُصول أحكام علم النجوم ، أو علي الجداول التي تُثَبَّت بها نتائج الرصد. [56] ـ «ريحانة الادب» ج 2 ، ص 177 . [57] أورد المستشار عبد الحليم الجنديّ في كتاب «الاءمام جعفر الصادق» ص 304 إلي 307 ما يلي : ولا عجب أن تتآمر كثرة الاُوروبّيّين بالصمت عن مناهج العلم الحديث المنقولة من نهج المسلمين ، كدأبهم في تنكير صلة آباء العلوم الرياضيّة والهندسيّة بالمهد الذي نشأت فيه . فذلك استمرار للحروب الصليبيّة ، وإخضاع للحقائق العلميّة للتعصّب الدينيّ المتأصّل في الحضارة الاُوروبّيّة ، فهم لا يذكرون أنّ فيثاغورث وأرشميدس وإقليدس آباء الرياضيّات ألقوا الدروس وتلقّوها في مدرسة الاءسكندريّة بمصر ، ولا يذكرون أ نّهم لم يعرفوا كتاب إقليدس المسمّي «الاساسيّات» أو «العناصر» إلاّ عن نسخة عربيّة . ولا يذكرون أنّ أُوروبّا المعاصرة أخذت عن العلم الاءسلاميّ المنهج العلميّ المعاصر ، أي منهج التجربة والاستخلاص . يقول الشاعر محمّد إقبال 1 : يقول دبرنج Dubring : إنّ آراء روجير بيكون أصدق وأوضح من آراء سلفه . ومن أين استمدّ روجير بيكون دراسته العلميّة ؟ من الجامعات الاءسلاميّة في الاندلس . ويقول بريفو 2 Robert Briffault : إنّه لا ينسـب إلي روجـير بيكـون (المتـوفّي سنة 1294 م 3 ) . ولا إلي سميّه الآخر فرانسيس بيكون (المتوفّي سنة 1626 م) أيّ فضل في اكتشاف المنهج التجريبيّ في أوروبّا . ولم يكن روجير بيكون في الحقيقة إلاّ واحداً من رسل العلم الاءسلاميّ والمنهج الاءسلاميّ إلي أُوروبّا المسيحيّة . ولم يكفّ بيكون عن القول بـ : أنّ معرفة العرب وعلمهم هما الطريق الوحيد للمعرفة . ولقد انتشر منهج العرب التجريبيّ في عصر بيكون وتعلّمه الناس في أُوروبّا يحدوهم إلي هذا رغبة ملحّة . ويضيف : أ نّه ليس هناك وجهة نظر من وجهات العلم الاُوروبّيّ لم يكن للثقافة الاءسلاميّة عليها تأثير أساسيّ ، وأنّ أهمّ أثر للثقافة الاءسلاميّة هو تأثيرها في العلم الطبيعيّ والروح العلميّ ، وهما القوّتان المميّزتان للعلم الحديث . ثمّ يضيف قائلاً : إنّ ما يدين به علمنا للعرب ليس ما قدّموه لنا من اكتشاف نظريّات مبتكرة غير ساكنة . إنّ العلم مدين للثقافة الاءسلاميّة بأكثر من هذا . فقد أبدع اليونان المذاهب وعمّموا الاحكام ، لكنّ طرق البحث وجمع المعرفة الوضعيّة وتركيزها ومناهج العلم الدقيقة والملاحظة المفصّلة العميقة والبحث التجريبيّ كانت كلّها غريبة عن المزاج اليونانيّ . إنّ ما ندعوه بالعلم قد ظهر في أُوروبّا نتيجة لروح جديدة في البحث ولطرق جديدة في الاستقصاء ، طريقة التجربة والملاحظة والقياس ؛ ولتطوّر الرياضيّات صورة لم يعرفها اليونان . وهذه الروح وهذه المناهج أدخلها العرب إلي العالم الاُوروبّيّ . أو كما يقول المستشرق المعاصر برنارد لويس : إنّ أُوروبّا القرون الوسطي تحمل دَيْناً مزدوجاً لمعاصريها العرب ؛ وهم الواسطة التي انتقل بها إلي أُوروبّا جزء كبير من ذلك التراث الثمين . كما تعلّمت أُوروبّا من العرب طريقة جديدة وضعت العقل فوق السلطة ، ونادت بوجوب البحث المستقلّ والتجربة . وكان لهذين الاساسين الفضل الكبير في القضاء علي العصور الوسطي والاءيذان بعصر النهضة . وروجير بيكون يعلن تأثّره بالمنهج العربيّ ورفضه للمنهج الارسطيّ الذي سيطر علي الفكر الاُوروبّيّ من جرّاء الفساد في بعض استنتاجاته في العلوم الطبيعيّة فيقول : If it had my way , I should burn all books of Aristotk for the study of them can lead to a loss of time , produce error . increase ignorance . وتعريبه : لَو أُتِيحَ لِيَ الاَمْرُ لاَحْرَقْتُ كُلَّ كُتُبِ أَرَسْطُو ، لاِنَّ دِرَاسَتَهَا يُمْكِنُ أَن تُؤَدِّي إلَي ضَيَاعِ الوَقْتِ ، وَالوُقُوعِ فِي الخَطَأِ ، وَنَشْرِ الجَهَالَةِ . وكما قال جوستاف لوبون بعد ستّ قرون من وفاة بيكون : أَدْرَكَ العَرَبُ بَعدَ لاَيٍ أَنَّ التَّجْرِبَةَ وَالمُشَاهَدَةَ خَيْرٌ مِنْ أَفْضَلِ الكُتُبِ ، وَلِذَلِكَ سَبَقُوا أُورُوبَّا إلَي هَذِهِ الحَقِيقَةِ ، فَالمُسْلِمُونَ أَسْبَقُ إلَي نِظَامِ التَّجْرِبَةِ فِي العُلُومِ . 1 ـ في كتابه (= The Reconstruction of Religious Thinking ) «= إعادة تكوين الفكر الدينيّ في الاءسلام» . 2 ـ في كتابه ( Making of Humanity ) «= صنع الاءنسانيّة» . 3 ـ مات روجير بيكون سنة 1294 م ، واستمرّت الجامعات العربيّة والعرب في الاندلس قرنَين بعد ذلك إلي جوار المعاهد التي أُنشئت لترجمة علومهم في فرنسا والاندلس وإيطاليا وألمانيا . وكان (بيكون) يجيد اللغتين العربيّة والعبريّة ، ويمارس التجارب العلميّة في الطبيعة والكيمياء ، وقاومه معاصروه ولكنّ البابا شدّ آزره . وكان جزاؤه السجن في باريس من أجل كتاباته . التي تعدّ طلائع لكشوف علميّة حديثة (كالعدسات والسيّارات ذات المحرّك الابتدائيّ والطائرات) . وهو القائل : الفلسفة مستمدّة من العربيّة ، فاللاتينيّ علي هذا لا يستطيع فهم الكتب المقدّسة والفلسفة إلاّ إذا عرف اللغة التي نُقلت عنها . ومن قبل ذلك بقرون ، وعلي التحديد في سنة 920 م طلب ملك الصقالبة إلي الخليفة أن يبعث إليه معلّمين وفقهاء فصنع ، وكان الجغرافيّون العرب في أرمينية منذ القرن التاسع للميلاد . كذلك تلقّي البابا سلفستر ( 999 إلي 1003 م) علومه بجامع قرطبة ، وكان اسمه الراهب جلبير قبل أن يصير رئيساً لدير رافنا . وهو ناقل العلوم العربيّة والارقام العربيّة إلي أُوروبّا . وقد أنشأ مدرسة في إيطاليا وأُخري في ريمس بألمانيا لنقل العلوم العربيّة . ومن الثابت أنّ مدرسة الوعّاظ في طليطلة نشأت مدرسةً لتدريس اللغة العربيّة سنة 1250 م ، ثمّ أمر مجلس فينّا سنة 1311 م بتدريس العلوم العربيّة في باريس وسلامنكا وغيرها . وفي سنة 1207 م أنشأت جنوة جامعة لنقل الكتب العربيّة ، وفي سنة 1209 م ، 1215 م قرّر المجمع المقدّس منع تدريس كتب ابن رشد وابن سينا لما فيها من حرّيّة فكريّة . وفي سنة 1296 م قرّر المجمع اللاهوتيّ تحريم تدريس الفلسفة العربيّة وحرمان كلّ من يعتقد أنّ العقل الاءنسانيّ واحد في كلّ الناس . وكان الاءمبراطور فردريك الثاني قد أنشأ جامعة نابولي لنقل العلوم العربيّة فوق ما تنقله مدرسة سالرنو المجاورة . وأنشا العرب المطرودون في إسبانيا مدرسة مونيليه في بروفانس بجنوب فرنسا . والشريف الاءدريسيّ هو معلّم روجار ملك صقلية ، صنع له كرة من فضّة ككرة الارض سنة 1153 م قبل أن تعرف أُوروبّا أنّ الارض كرويّة . ومن الثابت أنّ فيبروناتش Fibronacci أوّل عالم اشتغل بعلم الجبر قد رحل إلي مصر وسوريا في عصر الملك فردريك الثاني ملك صقلية ، وأنّ أدلارد الباثي Adilard of Bath درس علي العرب علمَي الفلك والهندسة ، وما هؤلاء إلاّ طلائع للعصر الذي عاشوا فيه . وفي العصر ذاته كانت مدرسة صقلية ومثلها مدرسة سالرنو في جنوب إيطاليا جامعة نابولي التي أنشأها الاءمبراطور فردريك الثاني تذيع العلوم العربيّة . واحتلّ العرب جزر البحر الابيض ابتداءً من كريت سنة 212 ، إلي صقلية سنة 216 ، أي في النصف الاوّل من القرن التاسع للميلاد ، كما استولوا علي باري وبرنديزي في وسط إيطاليا وتوطّدت سيطرتهم علي مقاطعتَي كامينيا وأبروزي ، وأقاموا فيهما إمارات عربيّة ، وامتدّ سلطان عرب الاندلس إلي جنوب فرنسا في مقاطعة برونانس وحاصروا روما . وكانت ملابس البابا موشّاة بالاحرف العربيّة ، وتأثّر دانتي بالثقافة العربيّة واضح في الكوميديا الاءلهيّة . وهو يذكر صلاح الدين الايّوبيّ والدوق جودفري (الملك جودفري ملك بيت المقدس في حرب الصليبيّين) في كتابه . وكانت السفارات بين الملوك والامراء الاءفرنج والسلاطين تمدّ إلي أُوروبّا أسباب الحضارة . وكانت كتب ابن رشد والغزاليّ أيّامئذٍ تقدّم الغذاء العلميّ للفكر الاُوروبّيّ، وكتابات القدّيس توماس الاءكوينيّ (القدّيس توما) ناطقة بالتأثّر الظاهر أو بالنقل الكامل . وأوّل مرصد فلكيّ أُقيم في أُوروبّا أقامه العرب بإشبيلية ، وأوّل مدرسة طبّيّة في أُوروبّا هي التي أقاموها في ساليرت . ومنذ سنة 970 م كان في غرناطة بإسبانيا 120 مدرسة ، منها 17 مدرسة كبيرة و 27 مدرسة مجّانيّة يتعلّم فيها نبلاء أُوروبّا علوماً عربيّة . ولمّا سقطت طليطلة في سنة 1085 م في أيدي الاسبان ، أقاموا المدارس لترجمة العلوم العربيّة فيها ، ولم يتوقّف النقل بل أُتيحت له مصادر جديدة بسقوط قرطبة سنة 1236 م ، ثمّ بسقوط غرناطة سنة 1492 م . وكان بلاط الفونسو السادس بعد سقوط طليطلة مصطبغاً بالثقافة العربيّة ، بل هو أعلن نفسه إمبراطور العقيدتين المسلمة والمسيحيّة ؛ وكان الفونسو الخامس الملقّب بالحكيم ملك قشتالة (من سنة 1252 إلي 1284 ) أكبر دعاة الثقافة العربيّة ، وقد جمع له اليهود كلّ كتب العرب . وفي سنة 1250 م أنشأت جماعة الوعّاظ في طليطلة مدرسة لتدريس اللغتين العربيّة والعبريّة بقصد تنصير المسلمين ، كما أ لّفت الكتب للدفاع عن المسيحيّة ضدّ المسلمين . وكان الاسقف ستيفن في باريس يناقش كتب ابن رشد . وفي آخر أيّام المسلمين بالاندلس أُنشئت محاكم التفتيش لمقاومة العلم والفلسفة اللذين خيف انتشارهما من كتب المسلمين . وفي بحر ثمانية عشر عاماً من 1481 إلي 1499 أحرقت هذه المحاكم 10220 رجلاً أحياءً وشنقت 6860 ، وعاقبت بعقوبات أُخري سبعة وتسعين ألفاً . وفي سنة 1502 م قرّر مجمع لاترانا لعن من ينظر في فلسفة ابن رشد ، لا نّه يقول بحرّيّة العقل . يراجع الفصل الثاني وعنوانه (قوّة الحضارة العلميّة) من الباب الاوّل في كتابنا «توحيد الاُمّة العربيّة» الفقرات 4 إلي 18 . [58] ـ قال في «كشف الظنون» ص 391 و 392 ، الطبعة العثمانيّة ، سنة 1360 ه : وأوّل من شرح كتاب «التذكرة» السيّد شريف الجرجانيّ المتوفّي سنة 816 ، ثمّ شرحه المحقّق نظام الدين حسن بن محمّد النيسابوريّ المعروف بالنظام الاعرج ، وسمّاه «توضيح التذكرة» وفرغ منه سنة 811 ه ، وهو شرح مشهور ومقبول ، ثمّ شرحها الفاضل محمّد الحفريّ الذي أوردنا بيانه في المتن ؛ ويقال إنّ للعلاّمة قطب الدين محمّد بن مسعود الشيرازيّ والفاضل عبد العليّ البيرجنديّ أيضاً شرحاً لـ «التذكرة» ولم أره (ولم أرهما) . [59] ـ إنّ أحد الموادّ الغذائيّة والادوية المستعملة حاليّاً في بلاد الكفر ، الذي يعتبرونه من أفضل الموادّ والادوية من الناحية الصحّيّة ، هي الاغذية والادوية المستحصلة من ماء مجاري المدن ، فهم ينصبون معملاً لتجزئة الموادّ الكيميائيّة في محلّ تجمّع مياه المجاري ، فيدخلون فيه كلّ ما في مياه المجاري من النجاسات وفضلات الاءنسان والحيوان وسائر الاقذار ، وتجري تجزئتها فيصنعون من الموادّ الناتجة الدهن والزبد والموادّ النشويّة والبروتينيّة وحتّي اللحوم وجميع أنواع الحَيَمِين (الفيتامين) التي تتواجد بكثرة ، ويصنّعونها بشكل موادّ غذائيّة ودوائيّة ويعرضونها للبيع في السوق . وكان من المزمع أيّام الطاغوت إنشاء معمل صغير منه في طهران في ممرّ مياه مجاري مستشفي الالف سرير ، لكنّه لم يدخل حيّز التنفيذ لاعتراض العلماء الاعلام ، وكذلك أوشك مثل هذا العمل أن يتحقّق في إصفهان أيضاً ، حيث استخرج أحد المهندسين هناك زبداً من مياه المجاري وعرضه للبيع في السوق وأكل منه في جمع من الناس ؛ وقيل إنّه كان شبيهاً جدّاً بالزبد الطبيعيّ ، إلي الحدّ الذي صعب علي الاخصّائيّين التفريق والتمييز بينهما . وقد مُنع إجراء هذا المشروع أيضاً ، لكنّ ذلك معهود ورائج لسنين طويلة في الدول الكافرة ، حتّي وصلوا إلي استخراج العطر الصناعيّ في ذلك المعمل ، ويقال إنّ بعض الصابون المعطّر المستورد من الخارج يحوي من ذلك العطر . وينبغي العلم أنّ هذه الموادّ هي غير الموادّ المستخرجة من النفط ، حيث يقال إنّ سبعين في المائة من الاغذية تستخرج من النفط ، والعطر المذكور هو غير العطر المستخرج من النفط والذي يعدّ من أغلي وأندر أنواع العطور في الدنيا . [60] ـ «انسان موجـود ناشناخـته» (= الاءنسان ذلك المجـهول) ص 22 و 23 ، الطـبعة السادسة . وينبـغي العلم أنّ كتاب «الاءنسـان ذلك المجـهول» أُ لِّف سنة 1935 ميلاديّة ، وقد انقضـي فعلاً علي تأليف الكـتاب إلي زمانـنا (سنة 1409 هجـريّة قمـريّة ـ 1988 ميـلاديّة) 53 سنة . [61] ـ «انسان موجود ناشناخته» ص 199 و 200 . [62] ـ وهما السيّدان الجليلان : الحاج السيّد عبد الحسين خسروي الهمدانيّ الذي انتقل إلي رحمة الله قبل عدّة سنين ، وكان مشغولاً في الطبابة في همدان ، ثمّ في طهران أخيراً ، وكان له شهادة طبابة رسميّة من وزارة الصحّة والكلّيّة الطبّيّة ؛ والحاجّ السيّد أحمد علي الهمدانيّ ابن عمّه ، وهو رجل عجـوز مجدّ يشـتغل حاليّاً في الطـبابة في همدان ، أبقاهُ الله إن شاءَ الله . [63] ـ نوع من الحلوي تُصنع من تبلور محلول سكّريّ مشبع ساخن بعد تبريده ، ويسمّي السُّكَّر الفضّيِّ . [64] ـ وقد نقل لي هذه القضيّة الاُستاذ المحترم وطبيب الاسنان الجليل الدكتور باكدان آراكليان هداه الله إلي النهج القويم والصراط المستقيم ، وهو من أطبائنا الاجلاّء في التخصص والمهارة في فنّه ، وفي صدقه واستقامته . |
|
|