|
|
الصفحة السابقةسيطرة فرضيّة بطليموس ألفي سنة علي عقول منجّميا لعالملقد كان بطليموس [1] أو بطليموس Petolemee عالماً رياضيّاً كبيراً و منجّماً يونانيّاً مشهوراً عُرِف بالمصريّ لتوقّف والده في مصر، و قد عاش حتّي سنة 139 ميلاديّة، و كان يعتقد بسكون الارض و ثباتها و كونها مركزاً لجميع العالم من شمس و ثوابت و سيّارات و أفلاك. و كان يقول: إنّ الشمس و السيّارات في حالة دوران حول الارض بشكل دائرة؛ و لانّه قد لاحظ بمرصده اختلافات في حركة الكواكب السيّارة ـ من ثبات و إقامة و رجعة ـ لا تنسجم مع فرضيّة كون الافلاك دائرة، فقد كان مجبراً علي افتراض أفلاك مختلفة أُخري داخلها باسم تدوير، ثمّ بافتراض أفلاك داخل التداوير باسم ممثّل، و بهذه الفرضيّة فقد استطاع بحساب دقيق رصد و تصحيح الحركة الدوريّة للافلاك و حركاتها غير المنظّمة و تباطؤها و رجوعها، و دوّن ذلك في زيجه المسمّي ب «المَجَسطيّ». لقد قام بطليموس برصد 1222 نجماً، و أثبت الطول و العرض الفلكيّ لكلٍّ منها في كتابه «المجسطيّ»، و كانت هيئة بطليموس مورد قبول علماء النجوم و الهيئة لغاية أربعمائة و خمسين سنة قبل الآن. و قد استمرّ ذلك حتّي جاء نيقولاً كوپرنيك (Nicolas Copernic)، المولود سنة 1473 و المتوفّي سنة 1543 م، و هو من منجّمي بولونيا المهمّين و تابع نظريّة بطليموس و دقّته الكبيرة التي بذلها في «المجسطيّ» فعجز أخيراً عن تصوّر أفلاك متعدّدة، و قال بحركة الارض حول الشمس و نقض أُصول هيئة بطليموس فقد كان يفترض لكلّ حركة يراها في السيّارات فلكاً خاصّاً معزولاً، حتّي صار إثبات و تسجيل حركة الافلاك بالنسبة له عملاً شاقّاً جدّاً؛ و كان يرجع في نفس الوقت إلي نظريّد فيثاغورس في الحركة الوضعيّة للارض فتولّدت لديه شيئاً فشيئاً فكرة إمكان حركد الارض و السيّارات حول الشمس في مدارات دائريّة. لكنّه واجه صعوبة لانّ ما كان يستخرجه بالحساب لا ينسجم مع نتائج رصده، و كان هناك اختلاف بين ما هو محسوب و ما هو مرصود. و عليه فقد بقيت مسائله حول السماء مسعصية عليه حتّي فارق الدنيا، و ذلك بسبب تصوّره أنّ المدارات دائريّة، كما كان يعتقده القدماء. و قد استمرّ ذلك و دام حتّي جاء المنجّم الدنماركيّ تيخو براهه (Tycho - Brahe)، المولود سنة 1546 و المتوفّي سنة 1601 ميلاديّة، و شرع بعد كوبرنيك بالتحقيق فعرف خطأ سلفه، و اعتقد أنّ مدار السيّارات لم يكن في الاصل دائريّاً، بل شبيهاً بالبيضويّ، أي كدائرة مدّت فنجم لها مركزان. [2] و بهذا الامر فقد اقتربت حساباته مع نتائج الرصد و تقارب عنده المحسوب و المرصود؛ لكنّ تيخو براهه ارتكب خطأً آخر في اعتقاده كبطليموس بسكون الارض، و وضعه لذلك أُصولاً في الهيئة ليست كأُصول بطليموس و لا كأُصول كوبرنيك. اختلاف نظر المنجّمين في أُصول علم الهيئة في القرون الاخيرةتقول أُصول هيئة بطليموس إنّ الارض هي مركز العالم، و إنّ بقيّة السيّارات كالقمر و الزهرة و عطارد و الشمس و المريخ و المشتري و زحل هي بالترتيب أفلاك دائريّة الشكل تدور حول الارض. و تقول أُصول هيئة كوبرنيك إنّ الشمس هي مركز العالم، و الزهرة و عطارد و الارض و المريخ و المشتري و زحل هي بالترتيب مدارات دائريّة الشكل تدور حول الشمس. لكنّ تيخو براهه كان يعتقد أنّ الارض هي مركز العالم، و أنّ القمر يدور حول الارض، و عطارد و الزهرة تدور حول الشمس، و الشمس تدور حول الارض، و المريخ و المشتري و زحل تدور حولها جميعاً. و مع كلّ الجهود التي بذلها تيخو براهه في الإرصاد لكنّ حساباته لم تكن لتطابق مشاهدات الارصاد السماويّة، و لم تكن المسائل السماويّة مكشوفة له بشكل تامّ حتّي فارق الدنيا. و قد جاء بعد تيخو براهه تلميذه المنجّم الالمانيّ المعروف جان كبلر (Jean Kepler)، المولود سنة 1571 و المتوفّي سنة 1630 ميلاديّة، فتابع جهود أُستاذه تيخو براهه و أنجز الكثير من التحقيقات. و لانّ كبلر قد لاحظ الفرق بين حساباته و بين مشاهداته الرصديّة فقد أوجد طريقاً ثالثاً بين نظريّة كوبرنيك و نظريّة تيخو براهه، فاعتقد أوّلاً بحركة الارض حول الشمس، و بأنّ الشمس هي مركز المجموعة الشمسيّة، و ثانياً أنّ مدار السيّارات حسب نظريّته كان بيضويّاً. [3] و قد وجد كبلر الذي كان يرصد كوكب المرّيخ أنّ له اختلافاً مع حساباته بمقدار 8 دقائق؛ و لانّه كان يثق بحساباته و يعتبر رصده صحيحاً فقد تحرّي سبب ذلك و اعتقد أخيراً أنّ ذلك الاختلاف يرجع إلي ظنّه أنّ المدارات دائريّة، فلو حسبها بيضويّة لزال الاختلاف و الفارق. و علي هذا، فقد وضعغ ـ بعد أن قضي عمراً في ذلك ـ ثلاثة قوانين مهمّة في علم الهيئة أحدها أنّ مدار السيّارات حول الشمس بشكل بيضويّ! تقع الشمس في إحدي بورتيه. [4] و قد حاز كبلر علي نجاحات في حلّ المسائل السماويّة المستعصية و كانت أُصول هيئة هي نفسها أُصول هيئة كوبرنيك مع إضافة هذه القوانين الثلاثة لها. و دام هذا حتّي مجيء إسحاق نيوتن (Isaac Newton)، المولود سنة 1642 و المتوفّي في 1727 ميلاديّة، المنجّم و العالم الفيزيائيّ الإنجليزيّ الذي أثبت عن طريق الجاذبيّة الحركة الوضعيّة و الانتقاليّة للارض. و قد اكتشف بمعابعته قوانين كبلر القانون التالي: أنّ الاجسام تجذب بعضها البعض الآخر بقوّة تتناسب طرديّاً مع حاصل ضرب كتلتيهما (جرميهما) و عكسيّاً مع مربّع البعد بينهما. ) 2 (mmr؛ و كذلك فإنّ الكرتين متشابهتا الاجزاء تجذب بعضها البعض بنسبة البعد بين مركزيهما. و قد كان لكوبرنيك حدس بقوّة الجاذبيّة؛ و أحسّ بها من المتقدّمين آناكزاغور (Anaxagore) و إبيكور (Epicour)، الذي عاش بين سند 341 حتّي سند 270 قبل ميلاد المسيح، و هو من فلاسفة اليونان المعروفين الذي كتب ما يزيد علي ثلاثمائة كتاب، لكنّ اكتشاف الجاذبيّة كان من نصيب نيوتن. و معروفة هي قصّة جلوس نيوتن في حديقة مفكّراً في سبب عدم ثبات النجوم السماويّة و علّة حركتها، ثمّ سقوط التفّاحة من إحدي الاشجار إلي الارض، فظلّ يفكّر: لماذا سقطت التفّاحة إلي الارض و لم تذهب إلي الجانب الآخر؟ أو أن تظلّ بعد انقطاعها من الشجرة ثابتة في مكانها؛ ثمّ توصّل بعد مدّة إلي علّة سقوط الاجسام إلي الارض، أي اكتشاف الجاذبيّة الارضيّة، و طبّق ذلك علي النجوم السماويّة، فعلم أنّ سبب حركتها هي قوي الجاذبيّة التي تجذبها. نعم، لا عجب أنّ الإفرنج يفتخرون بنيوتن، لانّه فكّر في تجاذب أجزاء العالم فيما بينها، لكنّ العجب أنّ الشرقيّين يُباهون به و يعتبرونه قمّة الرقيّ مع أنّ قانون جاذبيّة الاجسام ليس من مكتشفاته؛ اكتشاف الجاذبيّة الارضيّة حصل قبل نيوتن بألف سنة تقريباًفقد كان للطبيب الشهير و الفيلسوف عديم النظير: ثابت بن قُرّة نفس هذه العقيدة قبل ألف و مائة و خمسين سنة. [5] يقول الحكيم المتألّه الصمدانيّ الحاجّ المولي هادي السبزواريّ قدّس الله سرّه في كتابه في شرح دعاء الجوشن الكبير، في شرح فقرة: يَا مَنِ اسْتَقَرَّتِ الاَرَضُونَ بِإذْنِهِ: [6] المراد من الاستقرار سكون الارض في الوسط (في المركز)، وَ سَبَبُهُ مَيْلُ أجْزَائِهَا الثَّقِلَةِ مِن جَمِيع الجَوَانِبِ إلَي المَرْكَزِ، فَتَقَاوَمُ وَ تَتَدافَعُ وَ تَتَعادَلُ مِنْ جَمِيعِ الجِهَاتِ فَسَكَنَتْ فِي الوَسَطِ. إلي أن يصل الحكيم السبزواريّ قدّس الله نفسه إلي القول: وَ قَالَ ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ: سَبَبُهُ طَلَبُ كُلَّ جُزْءٍ مَوْضِعَاً يَكُونُ فِيهِ قُرْبُهُ مِنْ جَمِيع الاجْزَاءِ مُتَسَاوِيَاً. إذْ عِنْدَهُ مَيْلُ المَدَرَةِ إلَي السِّفْلِ لَيْسَ لِكَوْنِهَا طَالِبَةً لِلْمَرْكَزِ بِالذَّاتِ. بَلْ لاِنَّ الجِنْسِيَّةَ مَنْشَأُ الانْضِمَامِ. فَقَالَ: لَوْ فُرِضَ أنَّ الارْضَ تَقَطَّعَتْ وَت َفَرَّقَتْ فِي جَوَانِبِ العَالَم؛ ثُمَّ أُطْلِقَتْ أجْزَاؤُهَا، لَكَانَ يَتَوَجَّهُ بَعْضُهَا إلَي بَعضٍ وَ يَقِفُ حَيْثُ يَتَهَيَّأُ تَلاَقِيهَا. [7] و علي هذا فإنّ قانون نيوتن لم يكن بالامر البعيد عن أفكار حكمائنا و فلاسفتنا، أو أنّهم لم يكتشفوا قانون الجاذبيّة العامّة بعد. فما أقبح للرجل أن يجلس للاكل علي مائدة قوم، ثمّ يقدّم الشكر و الامتنان لغيرهم! فيقول في مقالته: إشكال علماء الطبيعة بعد نيوتن علي عموميّة قانونه في الجاذبيّةلقد كان نيوتن الفارس الاوحد ليمدان التحقيق، و نابغة التأريخ النادر، سخّر عقول و أذهان العلماء و الحكماء قرنينِ كاملينِ، و أجبر العلماء الرياضيّين و التجريبيّين و الفلاسفة و العرفاء علي الجلوس لتعلّم الابجديّة في مدرسته، و علي كنس أرض القصر الرفيع لمعرفته، هذا هو اعتراف جان لوك الفيلسوف الانجليزيّ. لكنّ عقيدة نيوتن لم تكن بمنأي و منجي من الانتقاد و الطعن، فقد أورد علماء الطبيعة بعد نيوتن إشكالاً علي عموميّة قوّد الجاذبيّة التي صاغها بشكل قانون، و اعتقدوا أنّ الجسم لا يمكنه التأثير في جسم آخر من مسافة بعيدة، جذباً كان ذلك التأثير أم غيره. فقال فراداي: كلّجسم يوجِد أمواجاً في محيطه، تكون دائرته الاُولي بقدر محيط الجسم، و كلّما ابتعدت عنه زادت اتّساعاً، و تدعي تلك الامواج ب جوّ الجذب؛ و هذه الامواج كالنور و الكهربائيّة، فهي تستقلّ بعد تولّدها و تنفصل عن الجسم، فإن انعدم الجسم و زال أو انتقل إلي محلّ آخر فإنّ جوّ الجذب سيبقي موجوداً لمدّة قصيرة. و جوّ الجذب هذا طبقاً لمقولة نيوتن 2 mmr يعادل حاصل ضرب الجرمين (الكتلتين) مقسوماً علي مربّع المسافة بينهما. أي لو تضاعفت المسافة بين الجسمين فإنّ قوّة الجاذبيّة ستتضاءل إلي الربع. اعتراض اينشتَين علي عموميّة دليل جاذبيّة نيوتنو قد أخضع ألبرت أينشتَين (Albert Einstein) المحقّق الالمانيّ، المولود سنة 1879 و المتوفّي سنة 1955 ميلاديّة، جوّ الجذب حسب مقولة فراداي لقانون النسبيّة. و كتب أينشتَين نفسه في كتابه «النسبيّة و مفهوم النسبيّة» في الفصل الثلاثين تحت عنوان: إشكالات معرفة الدنيا في نظريّة نيوتن، يقول: إنّ مشكلاً رئيسيّاً يواجه الميكانيك السماويّ التقليديّ (الكلاسيكيّ)، و علي ما أعلم فقد بحث ذلك لاوّل مرّة من قبل زَلَيجِر (Seeliger) المنجّم، و هو أنّ العالم غير متناه بلحاظ الفضاء و الزمان، فالنجوم موجودة في كلّ مكان بالشكل الذي يجعل كثافة المادّة بشكل متوسّط واحداً في جميع الامكنة بالرغم من كونه متغيّراً جدّاً في الجزئيّات. و بعبارت أُخري: فكلّما ابتعدنا في الفضاء أكثر فأكثر فإنّنا سنواجه دوماً مجاميع رقيقة من النجوم لها نفس النوع و الكثافة تقريباً. و لا تنسجم هذه النظرة مع نظريّة نيوتن التي تستوجب أن يكون للعالم نوع مركز تزداد فيه كثافة النجوم قياساً للامكنة الاُخري، و كلّما ابتعدنا عن هذا المركز فإنّ كثافة مجاميع النجوم ستقلّ، حتّي نصل أخيراً في الفواصل البعيدة جدّاً إلي منطقة خالية لا متناهية، فينبغي لعالَم النجوم أن يكون كالجزيرة المتناهية في محيط الفضاء اللامتناهي. [8] و لا يبدو هذا الاستنباط في حدّ ذاته كافياً و مقنعاً؛ و الابعد منه قبولاً هو أنّ النور المنبعث من النجوم و كذلك كواكب مجموعة النجوم تنتظمّ حسب رأي نيوتن داخل الفضاء اللامتناهي، فلا تعود مرّة أُخري و لا تتبادل التأثير مع الاشياء الاُخري في الطبيعة؛ و مصير عالم مادّيّ متناه و محدود كهذا هو الفراغ و الخلو قليلاً و بشكل منتظم. و للخلاص من هذا اللغز فقد اقترح زَليجر تعديلاً في قانون نيوتن، وافترض أنّ قوّة الجاذبيّة بين كتلتين تفصل بينهما مسافات شاسعد ستضعف بشكل أسرع ممّا في قانون نيوتن؛ أي مقلوب مربّع المسافة؛ و في هذه هذه الحالة يمكن لمعدّل كثافة المادّة أن يبقي ثابتاً في كلّ مكان، حتّي في اللانهاية دون أن تنشأ ميادين جذب كبيرة إلي ما لا نهاية. و بهذا الاقتراح فإنّنا سنتخلّص من شرّ التصوّر المزعج في عالم مادّيّ له شيء من نوع المركزيّة. [9] و واضح أنّ انتقاد أينشتَين لنيوتن هو في فرضه عدم تناهي الفضاء؛ فهو يعود إلي شرح مبسّط في الفصل الحادي و الثلاثين تحت عنوان: إمكان قبول العالم المتناهي و لكن غير المحدود، يقول في آخره: «و يُستنتج ممّا قيل أنّه يمكن تصوّر وجود فضاءات مغلقة لكنّها بدون حدّ و غاية، و بين هذه الفضاءات فضاء كرويّ (و بيضويّ) يمتاز ببساطته، لانّ جميع نقاطه في عرض بعضها البعض. و ينشأ من هذا البحث سؤال يستلفت انتباه المنجّمين و علماء الفيزياء، و هو: هل العالم الذي نعيش فيه غير محدود؟ أو أنّه بشكل عام كرويّ محدود متناه؟ إنّ تجربتنا لا تكفي بأيّ وجه من الوجوه للإجابة علي هذا السؤال بدرجة تبعثعليالاطمئنان. وبهذهالطريقةيُجابعليالإشكالالذيأُشيرلهفيالفصلالثلاثين».اعتراف أينشتَين بعدم وجود دليل نظريّ أو تجريبيّ علي عدم تناهي الفضاءو نلحظ هنا أنّ أينشتَين نفسه قد وقع في معضلة النتيجة الحاصلة من قانون الجاذبيّة العامّ. و حسب طريقة و أُسلوب علماء الطبيعة الإفرنج الذين يدّعون بلا دليل و لا برهان عدم محدوديّة الفضاء، و عدم وجود حدّ و نهاية لعالم الاجسام و الكرات السماويّة، فهو الآخر يريد الخروج من نتيجة قانون نيوتن و اعتبار العالم المادّيّ أبديّاً غير متناه تحت غطاء عدم محبوبيّة و استحسان تناهي الفضاء و محدوديّته، و عدم استحسان انهدام عالم المادّة و دماره؛ فيحاول إرضاء نفسه و الخلاص من شرّ العالم المحدود المتناهي و المقبل علي النقصان باستناده لفرضيّة زلّيجر في إمكان عدم صدق قانونا لجاذبيّة في المسافات البعيدة جدّاً، و لنظريّة النسبيّة العامّة التي يبقي صدقها هنا محلّ تأمّل و نظر. و هذه في فلسفة الإفرنجيّين التي لا تقوم علي البرهان و الدليل المتقن، فقبولهم أو إنكارهم الشيء إنّما يستند في النهاية علي استحسان القلب أو إنكاره. لقد أثبت الشيخ الرئيس ابن سينا و سائر الحكماء ذوي العزّة و الاقتدار بالدليل العقليّ أنّ الفضاء ليس مطلقاً غير متناه، و أنّ هناك جسماً محيطاً بالعالم كلّه بمعني الكرسيّ و العرش، ليكون لكلّ جسم مكانه الطبيعيّ، فوجود جسم بدون مكان طبيعيّ، و كذا بدون زمان هو أمر محال. و قد اعترف أينشتَين نفسه أنّه ليس لدينا دليل تجريبيّ و لا دليل نظريّ لحلّ المشكلات الاساسيّة لعالم المادّة التي تجعله حسب قانون الجاذبيّة العامّ متناهياً و محدوداً و تسوقه إلي الزوال و الدمار. ثمّ يقول في آخر الفصل الثلاثين من كتابه السالف الذكر: «و ليس لدينا أساس تجريبيّ و لا أساس نظريّ للخلاص من المشكلات الاساسيّة بالالتفات حول قانون نيوتن و تغييره، فإنّ قوانين كثيرة يمكن تصوّرها تقود إلي نفس النتيجة، و لا يمكن إيراد دليل علي أرجحيّة أحدها علي الباقي، لانّ أيّاً من هذه القوانين لا يفترق عن قانون نيوتن بلحاظ الاستناد علي أُصول نظريّة أشمل». [10] و هناك في عصرنا مجموعة من خرّيجي الجامعات لم يمتلكوا ثقافة صحيحة، و لم يكن منهج دراستهم تحقيقيّاً، بل إنّهم يردّدون عقائد الغربيّين و أقوالهم بشكل سطحيّ كالببغاء، و لا يكفّون عن ذكر ديكارت و كانت. فهم لا يفهمون من الفلسفة إلاّ الاطّلاع علي تأريخها و أسماء مشاهيرها و زمن ولادتهم و وفاتهم؛ و يصدّقون كلّ ما يقوله الطبيعيّون الاُوروبيّون و يظنّونه صحيحاً؛ و لا يقرّون مسألة المكان الطبيعيّ للاجسام، و يقولون إنّ الفضاء غير محدود، و ينكرون العرش و الكرسيّ! إنّ المراد من الكرسيّ كما جاء في عقائد الصدوق عليه الرحمة هو جملة جميع الخلق؛ أي الوعاء الذي توجد فيه جميع الاجسام بلا استثناء، و هو ما يدعي في اصطلاح الحكماء ب مُحَدَّد الجِهَات[11]، و باصطلاح بعضهم العرش الذي هو أكبر من الكرسيّ و الحاويّ له، فمحدّد الجهات الاصليّ هو في الحقيقة العرش. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَواتِ وَ الاْرْضِ. [12] أي أنّ البناء الوجوديّ لعالم المادّة و الاجسام، من الذرّة إلي المعجرّات، و من الارض إلي ما يتصوّر في السماوات فوق عالم الاجسام، كلّه في كرسيّ الله،.ي أن ذلك الكرسيّ كبير لدرجة لا تبقي خارجة عنه أيّة ذرّة في السماوات أو في الارض، بل تنضمّ داخله فيحيط بها و يشملها. أمّا العرش فأكبر منه، و هو عبارة عن بناء عالما لوجود بما فيه من مادّة و مجرّدات. و الآية الكريمة: الرَّحْمَـ'نُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي [13] لها دلالة علي أنّ عرش المُلك و الهيمنة، و أريكة القدرة و إنفاذ الامر و النهي التكوينيّ، و إيجاد و إعدام جميع الاجسام و المادّيّات، و إنشاء جميع المجرّدات من الارواح و الملائكة و عوالم العقول و البسائط، كلّها من الله تعالي، لا شريك له، فهو الاحد الحيّ القيّوم، الصمد العليم القدير، المهيمن علي هذا العالم الواسع و مُسَلَّطْ و مسيطر عليه. [14] استعمال تعبير «الفضاء اللاتمناهي» غير إسلاميّإنّ تعبير «الفضاء اللامتناهي» التي يلاحظ تكرارها هذه الايّام في الكتب و المجلاّت و الخطب ليس من الإسلام، بل من الغربيّين، أخذه عنهم شبابنا عديمو الخبرة و الدراية بلا تبصّر فدرجوا علي استعماله. و علي المسلمين، بل علي كلّ شخص حكيم يعمل علي أساس البرهان و أُصول الفكر الصحيح أن يستعملوا بدل هذا التعبير تعبير الفضاء الواسع، و الجوّ الرحب الكبير. و نحن لا نعلم أكان أينشتَين معتقداً بعالم المجرّدات و سيطرة القوّة علي المادّة و سيطرة عالم الانوار علي عالم حجاب المادّة، أم لا؟! فقد قيل إنّ أصله كان نمساويّاً و من أتباع الدين اليهوديّ، و ما يُستخلص من عباراته أنّ له ميلاً كبيراً إلي عالم المادئ´ و علائقه، و إلي أحكام و قوانين عالم الطبيعة، فهو يعتبر علائق المادّة أصيلة للحدّ الذي لم يكن ليرتضي لهذا العالم بالترعزع و الانهيار حتّي بعد ملايين السنين، و بأن تختلّ و تضطرب بعض قوانينه السارية الفعليّة. و هذا الرأي هو من منظار المادّيّين القائلين بأصلاد المادّة و أزليّتها و أبديّيتها: لا الإلهيّين الذين يعتقدون بعالم أوسع و أرحب، و فضاء أهدأ و أجمل، و لا يمثّل عالم المادّة بأجمعه، بكلّ أحكامه و لوازمه و آثاره و خصوصيّاته، و جميع قواعده و صيغه و فرضيّاته و قوانينه، مثابل ذلك العالم إلاّ كأساور ملقاة في صحراء قاحلة بلا حدود. في تفسير آية: ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِو قد خاطب الله سبحانه تعالي نبيّه المصطفي في كتابه الكريم بشأن هذا النوع من اساليب التفكير: فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَّلَّي عَن ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَي. [15] فكلمة بلوغ تعني الوصول إلي الغاية، و تمثّل نهاية القصد و الحركة. و يا له من تعبير عجيب جدّاً في بيان مراد اللها لمتعال في تعيين هويّة و ميزان اعتبار المادّيّين تعبير القرآن هذا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ. أي أنّ غاية و أقصي حدود مشاوراتهم العلميّة، و منتهي جهودهم و تحمّلهم المشاقّ وصولاً لاساس الفهم و العلم و الإدراك هو هذا العالم المادّيّ و الجسمانيّ، فأذهانهم لا تعرف إلاّ الجسم و الطبيعة و المادّة، و كلّ لفظ يطرق أسماعهم يحملونه علي المعني المادّيّ، حتّي لفظ الجلالة و الروح و النفس و المَلَك. يقولون: إنّ ما يتبادر إلي ذهننا من هذه العبارات و الكلمات هو معانيها المادّيّد و الطبيعيّة. نعم، فهذا التبادر يعود إلي الجهل و هو ليس بحجّة لإيصال المعني الحقيقيّ، إذ هو كتبادر الماء الاُجاج في ذهن من لم يذق الماء العذب الفرات من قبل. سيكون مشهوداً للماديّين يوم القيامة أنّ جميع قوانين الطبيعة كانت حقّاًإنّما تنشأ أكثر اعتراضات و إشكالات و كفر و إلحاد الملحدين و الجاحدين و المنكرين من هذا المنطلق؛ أي أنّهم يفهمون من كلّ شيء معناه المادّيّ المحسوس فقط، و ما يتبادر إلي ذهنهم هو الجسم و الطبيعة و المادّة لا غير، لذا فحين يرون أقوال الانبياء لا تطابق الحسّ تراهم يعمدون إلي إنكارها و تكذيبها. فحين يسمعون مثلاً بعذاب القبر و سؤال منكر و نكير يتبادر إلي ذهنهم فوراً أنّه ينبغي للملائكة أن يكونوا مرئيّين، و أصواتهم مسموعة، فحين لا يرون و لا يسمعون شيئاً يقولون: ليس هناك من شيء، لانّ غاية علمهم هي المادّة المحسوسة الملموسة. أمّا العلماء و العقلاء فيعلمون أنّ هناك عالماً آخر وراء العالم المحسوس، فتراهم يعزون ما لا ينطبق من أقوال الانبياء العظام و رسول الله علي عالم المادّة حكاية عن ذلك العالم الغير محسوس. و لقد كان أينشتَين متحمّساً لعالم المادّة، قلقاً لدماره و خرابه، لذا فقد عمد في هربه من التزلزل في أبديّد المادّة الذي استنتجه من قانون نيوتن إلي فرض النسبيئة في الموارد التي لا تصدق فيها، و قد أراح نفسه و أقنعها بتسليمه لامر محال، و هو: عدم تناهي الفضاء و عدم تناهي الزمان. و ليت قانون الطبيعد و المادّة المحسوسة و انطباق قانون النسبيّة في الفضاء اللامتناهي تماشيه و تسايره، و لكن هيهات؛ إذا ما العمل إذا سُمع نداء: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَ إِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَ إِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَ إِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَ إِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَ إِذَا الْمَوءُ و دَةُ سِئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَ إِذَا.لصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَ إِذَا السَّمَآءُ كِشِطَتْ * وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ. [16] و سيُكوّر و يُحمع نور هذه الشمس الذهبيّة و ضياؤها الذي يعمّ العالم فتغدو مظلمد قائمة، و ستنطفي هذه النجوم الجذّابة التي تخطف الافئدة، من ثوابت و سيّارات، و ستتحرّك هذه الجبال الموطّدة و تُسيّر، و ستُشعل هذه البحار و تُسجّر، و ستُكشط هذه السماوات فتُزاح جانباً، و سيأتي نفخ إسرافيل في الصور أن: إِذَا السَّمَآءُ انفَطِرَتْ * وَ إِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَ إِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَ إِذَا الْقُبُورُ بِعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ. [17] فتنشقّ هذه السماء الزرقاء و تتناثر الكواكب ذات قوي الجذب و التنافر و تتبعثر كرمال الصحراء و تتشتّت بلا رابطة و لا علاقة، و ستنشقّ البحار و تتفجّر، و يخرج الناس من قبورهم و يُبعثون ليُروا جزاءهم، و عندها فسوف لن ينفع قانون جاذبيّة نيوتن و لا فرضيّة أينشتَين النسبيّة: هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَ رُدُّو´ا إِلَي اللَهِ مَوْلَـ'هُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ. [18] فلن يجدوا ثَمَّ من مادّة و لا أزليّتها و لا أبديّتها، و لا الطبيعة و العالم الحسّيّ و لا قوانينه و علائقة، و سيدركون هناك جيّداً أنّ الله مولاهم و وليّهم و حارسهم و مدبّرهم و راعيهم و المحيط بهم و المهيمن علي جميع أمورهم قد كان في جميع مدّة الدنيا المديدة حقّاً، و أنّ المادّة بجميع أحكامها المادّيّة، و الطبيعة و قوانين جاذبيّتها و تنافرها كانت تحت أمر و هيمنة إرادة و علم و قدرة الحقّ تعالي، و هذا الامر ليس كأنّه بل إنّه لحقّ. و سيدركون أنّ تلك المدائح و التكريمات التي كالوها للمادّة، و الايّام و الليالي التي قضوها للحصول علي صيغة جديدة و اكتشاف قانون جديد لها، بل إنّ ذلك العمر الذي قضوه في هذه المرحلة بعقد المؤتمرات و حضور الجلسات، و في المطالعة و التأليف، و في طيّ المراحل الجامعيّة، لم يكن حقّاً. و أنّ نسبة الثبات و الاصالة التي كانوا يفيضونها علي المادّة كانت خطاً محضاً و حجاباً و عمي، و ها هي الآن قد ضاعت كلّها في موقف ظهور الحقّ هذا، و أنّ ما توهّموه علماً في الدنيا و ما كانوا يدَّعونه علماً قد اتّضح الآن أنّه لم يكن إلاّ خيالاً و وهماً، ضاع بأجمعه و تلاشي. و صار مشهوداً في هذا الموقف أن لم يكن في الطبيعة مع الله شيء آخر سواه، و أنّ ما كان جارياً هو الحقّ و إرادته المباشرة، لكنّ العين الحولاء كانت تري الحقّ باطلاً و الباطل حقّاً. نعم، لقد سقنا البحث إلي هنا ليُعلم كم طال اختلاف الآراء و النظريّات حول دوران الارض و المدار السماويّ، و أين انتهي، و لسنا نعلم ما الذي سيأتي بعد من آراء لتنسخ آراء السابقين. و نظير اختلاف آلآراء حول دوران الارض اختلافها في الحرارة المركزيّة للارض، و التي ظلّ العلماء لمدّة مديدة يعزون السبب الوحيد للزلزلة و البركان في قمم الجبال إلي الحرارة المركزيّة للارض، حتّي جاء اللورد كِلْفين فعزي ذلك إلي شيء آخر و وافقه داروين علي رأيه هذا. اختلاف آراء الفلاسفة المادّيّين في حقيقة المادّةو أعجب من هذا كلّه هو اختلاف الآراء و تباين النظريّات بشأن حقيقة المادّة؛ نعم هذه المادّة نفسها التي يحنون الرؤوس تعظيماً لها و يحصرون الموجودات فيها، فجعلوها مقابل الله الازليّ الابديّ عَلَماً يُثبتون لها أعلي صفات الاُلوهيّة من الازليّة و الابديّة، و لقد جهدوا في الكفر بالله الربّ الخالق و ساقوا أنفسهم أذلاّء تابعين لهذه المادّة الصمّاء عديمة الشعور. لقد اتّفق رأي طبيعيّ العالم و ماديّيه و كلمتهم ابتداءً علي أنّ المادّة لا تفني و لا تضمحلّ، و كانوا يتمسّكون بهذا الرأي و يصرّون عليه لدرجة يعجب المرء منها و يحار؛ ثمّ أثبت جوستاف لوبون أنّ المادّة تفني و تضمحلّ و تتحلّل، و أنكر هانس و مالبرانش و طومسون من الاصل تلك الذرّات الصغار و الجواهر الفردة التي اعتبرت المادّة مكوّنة من تركيبها، و قالوا إنّ حقيقة المادّة ليست أجزاءً صغاراً و ذرّات دقيقة مرتبطة و مركّبة ببعضها، بل هي نوع من الحركة في الاثير،[19] أو نوع من الاضطراب و الاهتزاز أو الامواج التي توجد في الاثير. و لقد نفي جوستاف لوبون حتّي هذا النوع حتّي هذا النوع من الوجود للمادّة أيضاً، و كان رأيه أنّ المادّة هي مخازن للقوّة تتمكّن فيها لاغير، و اعتبرها اسبرن دينلدر عبارة عن خُلل و فتحات توجد في انتظام دقائق الاثير. و قد أنكروا في الحقيقة بهذا النمط من الآراء و النظريّات وجود المادّة، و استنكفوا عن معبودهم الازليّ، فوجّهوا وجوههم إلي قبلة أُخري هي الاثير، هذا الاثير الي كانوا ابتداءً ينكرون أصل وجوده و تحقّقه، و لا يعرفون له وجوداً إلاّ بمقدار ما تستخدمه المادّة و بمقدار الميدان لحركتها و مرآة تجلّي مظاهر قدرتها و قوّتها. ثمّ بقي الاثير أيضاً مدّة ينتظر حلول يوم نحسه و إدبار حظّه لِينزلوا به ما أنزلوه بالمادّة، و ليهبطوا به من علياء عرشه و سلطان قوّته و اقتداره و يخلعوا عنه رداء الازليّة و الابديّة، و يعلّقونه قهراً و جبراً علي خشبة إعدام التجزئة و التفرقة و الفناء و الاضمحلال و ينكرون أصل وجوده تماماً كما فعل بوانكاره، حيث جاء و أبدل الاثير بآخر يحلّ محلّه و يقوم مقامه فأناطوا إلي الامر و النهي. نعم؛ وَ كُلُّ آتٍ قَرِيبٍ. و ها نحن بعد مرور مائة و خمسين ستة مرّت ـ من زمن أينشتَين حتّي اليوم ـ لا نسمع عن الاثير شيئاً، بل و نري علم الفيزياء يرفض الاثير و لا يقرّبه. و كما حكم جماعة بفناء المادّة و اضمحلالها، فإنّ آخرين قد سلبوا عنه صفة بساطتها، فقالوا إنّ أجزاء المادّة و ذرّاتها الصغيرة التي تشكّل جوهرها ليست بسيطة، بل إنّ كلاّ من هذه الذرّات الصغيرة التي تدعي بالجزئيّات تمتلك نواة مركزيّة تدعي البروتون و مرحكّبة من ألف جزء من الشحنة الكهربائيّة الموجبة، يدور حول هذه النواة دقائق تحمل الشحنة الكهربائيّة السالبة يُدعي كلُّ منها ب الإلكترون. [20] ثمّ جاء بعد ذلك آخرون و قالوا إنّ المادّة ليست إلاّ أمواجاً حركيّة، فلا شيء منها في العالم إلاّ نفس الحركة، و إنّنا نشاهد اختلاف الصور و الاشكال و الاشياء في الخارج لاختلاف نوع الحركة التي نسمّيها أمواجاً. فلو كان هذا الاختلاف في المادّة الذي أوجدوه يتعلّق بالمادّة نفسها لما كان مهمّاً، لكنّ هذه الآراء الاخيرة تسبّب تحطّم و انهيار أساس بحث و استدلال الفلاسفة المادّيّين لقرون متمادية و عصور طويلة. و من بين المسائل التي صارت مورد بحث المحافل و المدارس هي مسألة أصل نوع الإنسان، و أنّه مِمَّ خُلق؟ فهل ولد من أب و أُمّ معيّنين؟ أم تدرّج من طبقات الحيوانات السابقة الواحدة تلو الاُخري حتّي انتهي إلي نوع البشر؟! القول بانتهاء الإنسان إلي آدم و حوّاء، و بانتهاء كلّ حيوان إلي أصلهو في هذا الشأن قولان: القول الاوّل: إنّ أبوَي هذا النوع كانا آدم و حوّاء اللذان خلقهما الخلاّق العليم القدير بإرادته بنحو الإبداع و الإعجاز دفعة واحدة، بأن صيّر التراب طيناً فسوّي منه آدم، ثمّ نفخ فيه فصار بشراً سويّاً له عقل و ذكاء و إدراك. و كذا الامر بشأن أصل خلقة سائر أنواع الحيوان، حيث خلق لكلّ منها أصلاً من أب و أُمّ، البقر و الغنم، و الاسد و النمر، و الطيور و الحيوانات البرّيّة... كلُّ خلق له أصلاً بنفس الاُسلوب و أوجه فيه نفساً حيوانيّة خاصّة، فصارت أُصول بداية خلقة الاجيال العديدة للحيوانات علي ظهر البسيطة. صار آدم أباالبشر، لانّ بدنه يخلو من الشعر خلافاً لجميع الحيوانات، لذا يقال للإنسان بشر، فالبشر جمع بشرة، و البشرة تقال للموجود الذي يخلو جلده من الشعر فتبدو بشرته؛ و هكذا صارت أُصول الحيوانات أبا الفَرَس و أبا الغنم و أباالبقر و أبا الاسد و غيرها. و أوجد كذلك للبناتات و الاشجار أصلاً من ذكر و أُنثي، فخلق أشجار الصنوبر، و السِّدر، و الاشجار المثمرة، و الاعشاب و الحنطة و العدس و الازر و غيرها بهذا المنوال، و أوجد بصنعه البديع أُصول الاشياء. ثمّ أجري بإرادته التامّة هذه الانواع البديعة بالتناسل و التكاثر بالمثل في الإنسان و الحيوان و النبات، و هو الآن أيضاً كلّما شاء أن يوجد نوعاً بديعاً في أيّ وقت أوجده، و متي ما شاء أن يسبّب انقراض نوع ما و قطع نسله فَعَل، ثمّ أسند نوعاً آخر مكانه علي كرسيّة. كانت جميع الحيوانات ثابتة لا تتغيّر، تعود جميعاً إلي أُصولها البديعة الإعجاز، المخلوقة دفعة واحدة؛ و ستستمرّ هكذا إلي الابد أنواع النباتات بتكاثرها التناسليّ، و ستمضي أنواع الحيوان و أصناف نحو الثبات و الاستقرار، فلا تبديل في العالم لنوع ما إلي نوع آخر، فجميع الانواع ثابتة و العالم ثابت لا يتغيّر، و هو أشبه بنجوم السماء، و جميعها قد مت ساحة عالم الطبيعة بهذه الكيفيّة؛ و يُدعي هذا القول فيكْسِيسْم (Fixisme)، و القائلون به يدعون فيكِْيست (Fixiste). ارجاعات [1] ـ كان بطليموس بطل من تلامذة مدرسة الاءسكندريّة، و قد أسّس إدارة خاصّة لتعيين طول البلاد و عرضها، و قد جمع عصارة أتعاب أبرخس (هيبارك) و أثبتها في كتابه «المجسطيّ». و قد ترك مضافاً علي كتاب «المجسطيّ» الذي كان في علم النجوم كتاباً فيا لهندسة و اخر في الجغرافيّة، حيث استندت تحقيقات و أبحاث علماء النجوم في القرون الاخيرة علي هذا «المجسطيّ». و قد قدّم بطليموس عدّة أدّلة علي كرويّة الارض، منها ختفاء السفن تدريجيّاً عن نظر سكنة السواحل؛ فإذا لم تكن الارض كرويّة لغابت عن أنظارهم دفعة واحدة. و الثاني: شرح دليل أرسطو حول السفر نحو الجنوب و الشمال، حيث كلّما سرنا نحو الشمال فإنّ النجوم الجنوبيّة ستختفي عنّا، و كّما اقتربنا من الجنوب فإنّ النجوم الشماليّة ستختفي، و هكذا الامر عند السفر شرقاً أو غرباً حيث تختفي عنّا النجوم الغربيّة و الشرقيّة علسي الترتيب. و الثالث: اختلاف طلوع و غروب الشمس في الامكنة المختلفة، فإذا كان سطح الارض مستوياً لكان طلوع الشمس و غروبها مرّة واحدة. و خلاصة الامر فقد حاز بطليموس مقاماً مرفوعاً في الرياضيّات و النجوم و الجغرافية لا يتّسع هذا المختصر لتفصيله و الاءسهاب فيه. [2] ـ مأخوذ من «گاهنامه» ( = التقويم) للسيّد جلال الدين الطهرانيّ! (سنة 1307)، ص 134 و 135. [3] ـ يجب العلم أنّ بيضويّة مدار السيّارات حول الشمس، و كذلك حركة الارض حول الشمس هي من المسائل التي الكتشفها المسلمون قبل تيخو براهه بستّة قرون من قبل علمائهم الكبار في القرن الخامس الهجريّ، أي القرن العاشر الميلاديّ، و من المعلوم أنّ كبلر و كوبرنيك لم يكن لهما أثر و وجود في ذلك الوقت. يقول غوستاف لوبون في كتاب «حضارة الاءسلام و العرب» ص 614، الباب الثالث، الفصل الثاني، في علم الرياضيّات و الهيئة، الطبعة الثانية: و مع أنّنا قلنا سابقاً إنّ جميع كتب المسلمين في الاندلس قد ضاعت و اندثرت، إلاّ أنّه يمكن الاستدلال بما احتوته كتب علماء النصاري في ذلك الزمن علي أساس التحقيقات العلميّة للعلماء المسلمين، و من ذلك ما توصّل إليه سيديّو من رسائل الملك كاستيل أذفونش العاشر، و كذلك من الاسناد والمصادر الاُخري التي يمكن الاستنتاج منها أنّ علماء المسلمين سبقوا كوبرنيك و كبلر في اكتشاف حركات الكواكب السيّارة علي شكل بيضويّ، و في نظريّة دوران الارض حول الشمس، و أنّ أزياج الاذفونش العاشر المسمّاة ب «الازياج الاذفونشيّة» مأخوذة من المسلمين. و يقول في ص 605 و 606 بشأن كشف حركة القمر غير المتشابههة: لقد قام ابن ماجور وابنه بتحقيقات و اكتشافات علميّة من سنة 883 إلي سنة 933 ميلاديّة، و استخرجا و رتّبا تقاويم، و قد اكتشف الفاضل الاخير خلافاً لعقيدة العلماء و خصوصاً بطليموس أنّ فاصلة القمر عن الشمس في تناقص، و نتيجة هذا الاكتشاف المذكور فقد اكتشف في حركات القمر جزءاً ثالثاً غير مستقلّ (حركات غير متشابههة). و قد وجد المسيو سيديّو قبل عدّة سنوات نسخة خطّيّة يظهر منها أنّ أبا الوفاء قد كشف بشكل كامل عن التغييرات التي قلناها عن القمر؛ فقد اعتبر الحركة التي اكتشفها بطليموس في القمر مسألة غير كاملة و مخالفة للواقع، كما أثبت بعد هذا الاكتشاف أنّه مضافاً إي الاختلافينِ في حركة القمر بواسطة جاذبية الشمس و بيضويّة مداره، فهناك اختلاف حركة ثالثة أيضاً في الخطّ الفاصل بينه و بين الشمس، و هو الذي يسمّي هذه الايّام حركة القمر غير المتشابهة. لقد كان الاكتشاف المذكور من الاكتشافات المهمّة التي نُسبت إلي تيخو براهه الذي جاء بعد ذلك بستمائة سنة. و قد استنتج مسيو سيديّو من المقدّمات السابقة علي وصول علماء الرياضيّات في بغداد في أواخر القرن العاشر إلي أقصي ما يمكن علم الفلك أن يصل إليه بغير نظّارة و مِرْقَب. [4] ـ و قانونه الثاني: الخطّ المستقيم الذي يصل بين مركز الشمس و مركز أيّ كوكب سيّار يُمسح؛ و الكوكب يدور في مداره؛ مساحة في الفضاء واحدد في الزمن الواحد. و قانونه الثالث: مربّع زمن الدوران يتناسب مع مكعّب بُعدها المتوسّط عن الشمس. [5] ـ أورد في «روضات الجنّات» ص 141 و 142، الطبعة الحجريّة، في ترجمة أحوال ثابت بن قرّة، بحثاً مفصّلاً عنه نذكره باختصار: ثابت بن قرّة بن مروان بن ثابت الصابيّ الحرّانيّ، و مذهبه من الصابئة، و كان ماهراً في علم الطبّ و الفلسفة، و له تأليفات كثيرة في فنون من العلم، و قد أخذ كتاب إقليدس الذي عرّبه حنين العباديّ فهذّبه و أوضح منه غوامضه، و كان من أعيان عصره في الفضائل. و قال في «رياض العلماء» إنّه.وّل من حرّر كتاب إقليدس؛ و أورد الخواجة نصيرالدين الطوسيّ اسمه في كتابه المشهور ب «التحرير» و قال إنّه حلّ الاءشكال في نسخته. و قد عاصر الاءمام الرضا و الاءمام الجواد عليهما السلام ـ انتهي كلام صاحب «رياض العلماء». و ذكر الشهرزوريّ في «تاريخ الحكماء» أنّ المعتضد العبّاسيّ كان يقوم بإكرام الحرّانيّ المذكور كثيراً، و من إكرامه له أنّه كان يطوف في بستان له و يده علي يد ثابت فانتزعها من يده بغتة بحيث فزع منه ثابت و قال له: أخطأت حين وضعت يدي علي يدك فإنّ العلم يعلو و لا يعلي عليه. و قد كتب كتاب «الذخيرة» في الطبّ و كان متفرّداً لا نظير له في جميع فنون الفلسفة في عصره. و قال في «وفيّات الاعيان» إنّ وفاته كانت سنة 288 هجريّة. و لثابت بن قرّة ابن اسمع إبراهيم كان في الفلسفة و الطبّ كأبيه، و توفّي سنة 380 هجريّة، و قيل إنّ عمره كان 91 سنة و دفن في منطقة شونيزي بضواحي بغداد يقال لها مقابر قريش و تدعي اليوم بالكاظميّة، و رثاه السيّد الرضيّ جامع «نهج البلاغة» عند موته بقصيدته الداليّة التي أوّلها: أعلمتَ مَن حملوا علي الاعوادِ أرأيتَ كيف خَبَا ضياءُ النادي جبلٌ هوي لَوْ خرّ في البحر اغتدي من ثقله مُتتابع الازيادِ ما كنتُ أعلمُ قبل حطّك في الثري أنّ الثري يعلو علي الاطوادِ و هي قصيدة من ثمانين بيتاً. يقول صاحب «الروضات»: لم أرَ قصيدة أعلي منها و أفضل. و حين لام الناس السيّد الرضيّ متسائلين: كيف يمدح سيّد علويّ كافراً صابيئاً و يرثيه هكذا؟ فكان يقول: إنّما رثيتُ فضله. و أورد سيّدنا الجزائريّ في مقاماته: أنّ كنية هذا الرجل كانت أبا إسحاق، و كان له صحبة مع السيّد المرتضي علم الهدي. و قد اغتمّ السيّد المرتضي لموته، و قالوا إنّ السيّد المرتضي كان كلّما مرّ بقبره ترجّل قبله بمسافة ثمّ يركب بعد عبوره له بمسافة، حتّي لامه أخوه السيّد الرضيّ!، فقال السيّد المرتضي: إنّما أعظّم درجته في العلم و لستُ أنظر إلي دينه. و قد رئي السيّد المرتضي هذا الرجل العظيم بعد موته بقصيدة طويلة موجودة في ديوانه من جملتها هذه الابيات: و لقد أتاني مِن مصابك طارقٌ لكنّه ما كان كالطرّاقِ ما كان للعينينِ قبلك بالبكا عهدٌ، و لا الجَنبينِ بالاءقلاقِ و أطقتُ حملَ النائبات و لم يكن ثقلٌ بِرزئك بيننا بِمُطاقِ [6] ـ في الفقرة السادسة من الفقرات المائة لدعاء الجوشن الذي رواء الكفعميّ! في «المصباح» و «البلد الامين» عن الاءمام زين العابدين، عن أبيه، عن جدّه رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين و أورد المرحوم الحكيم السبزواريّ هذه الفقرة مع شرحها في كتابه «شرح الاسماء الحسني» ص 53، الطبعة الحجريّة. [7] ـ «شرح الاسماء الحسني» للحكيم السبزواريّ، ص 53، الطبعة الحجريّة، و يقول نفسه بعد نقل هذا المطلب عن ثابت بن قرّة: و لمّا كان كلّ جزء يطلب جميع الاجزاء طلباً واحداً؛ و من المحال أن يلقي الجزء الواحد كلّ جزء؛ لا جرم طلب أن يكون قربُه من جميع الاجزاء قرباً متساوياً؛ و هذا هو طلب الوسط. ثمّ يقول الحكيم السبزواريّ في شأن فلسفد الاءلهيّين: ثمّ إنّ كون ما ذكروه أسباباً طبيعيّة لذلك (لتعادل الارض و عدم تلاشيها) لا ينافي كونه بإذن الله، لانّه مسبّب الاسباب، أبي الله أن يجري الاُمور إلاّ بأسبابها، كما أنّ إحياء عيسي عليه السلام الموتي و إعطاء الادوية لشفاء المرضي لا ينافي كونهما بإذن الله، لانّه معطي التأثير والخاصيّة، لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله. و لذا، فإنّ ما جاء في كتب الفيزياء من أنّ قوّة الجاذبيّة التي تجذب الاشياء نحوها تتمركز في مركز الارض لا نصيب له من الصحّة، فقوّة الجاذبيّة في جميع الاجزاء، و لانّها متماثلة و متساوية فكلّما اقتربنا من مركز الارض فإنّ قوّتها تزداد لتراكم أجزائها، فتتصاعد سرعة الحركة بشكل مضاعف، فأيّ شيء نتركه في الفضاء سيسقط إلي الارض بتعجيل ( gT.. 12) (نصف وزنه مضروباً في مربّع الزمن). [8] ـ ذكر أينشتَين في تعليقة الكتاب البرهان علي هذا الامر بهذا الشكل: طبقاً لنظريّة نيوتن فإنّ عدداً من خطوط القوّة التي تأتي من اللانهاية و تنتهي إلي لكتلة (الجرم) m، فلو افترضنا أنّ معدل كثافة الكتلة ( p ) في العالم ثابت، فإنّ كرة بحجم v لها كتلة متوسطة تعادل pv، و علي هذا فإنّ عدد خطوط القوّة التي تمرّ من سطح الكرة ( F ) و تذهب إلي داخلها تتناسب مع p. v. و أنّ عدد خطوط القوّة التي تمرّ من وحدة المساحة السطحيّة للكرة و تدخل فيها يتناسب مع p * VF أو P. R. لذا فإنّ شدّة الميدان في سطح الكرة يزداد مع ازدياد نصف قطرها و يصل أخيراً إلي ما لا نهاية، و هو محال. [9] ـ «نسبيّت و مفهوم نسبيّت اينشتين» (= النسبيّة و مفهوم نسبيّة أينشتَين) ترجمة محمّد رضا خواجه پور، ص 109 و 110. [10] ـ «نسبيّت و مفهوم نسبيّت» ( = النسبيّة و مفهوم النسبيّة) ص 110. [11] ـ محدّد الجهات يختلف عن معني الفلك محدّد الجهات، و باعتبار عدم وجود فلك محدّد الجهات كما هو الواقع، فهذا المعني لا يستلزم تحديد الجهات؛ و الحقيقة التي غالباً ما يعتقدها علماء الفيزياء هذه الايّام هي أنّ العالم بلحاظ المكان غير محدود بحدّ معيّن، و أبعاده دوماً في حال اتّساع و تمدّد لا منافاة لها مع تحديد الجهات، و البرهان الفلسفيّ علي محدوديّة الجهات علي أساس المادّة و مادّيّة الموجودات، فالمادّة في حدّ نفسها محدودة و لو كانت في ذاتها في حالة اتّساع و تضخّم مستمرّ. [12] ـ جزء من الآية 255، من السورة 2: البقرة. [13] ـ الآية 5، من السورة 20: طه. [14] ـ يقول العالم الخبير الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء في كتاب «الفردوس الاعلي» ص 48 و 49، الطبعة الثانية: و أمّا العرش و الكرسيّ فليس في الشرع كتاباً و سنّة ما يدلّ صريحاً علي جسمانيّتهما سوي بعض إشارات طفيفة، مثل قوله تعالي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَواتِ وَ الاْرْضَ (الآية 255، من السورة 2: البقرة)، و قوله: عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي (الآية 5، من السورة 20: طه)، و هي مصروفة عن هذا الظاهر قطعاً. و أمّا السنّة فالاخبار، كما في السماء و العالم من «البحار» و غيره، مختلفة أشدّ الاختلاف، و فيها ما يُشعر بأنّهما جسمان و أكثرها صريح في عدم الجسميّة و أنّهما من مقولة العلم و القدرة و الملك و صفات الذات المقدّسة. و بالجملة فإمعان النظر في الاخبار و كلمات العلماء و المفسّرين لا يزيد إلاّ الحيوة و الارتباك؛ و الذي أراه في هذا الموضوع الدقيق و السرّ العميق و البحث المغلّف بسرائر الغيب و حجب الخفاء أنّ المراد بالكرسيّ هو الفضاء المحيط بعالم الاجسام كلّها من السماوات و الارضين و الكواكب و الافلاك و الشموس، فإنّ هذه العوالم الجسمانيّة بالقطع و الضرورة لها فضاء يحويها و يحيط بها، سواء كان ذاك الفضاء متناهياً، بناء علي تناهي الابعاد، أو غير متناه، أي مجهول النهاية، بناء علي صحّة عدم تناهي معلولات العلّة غير المتناهية. و هذا الفضاء المحيط بعوالم الاجسام هو الكرسيّ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَواتِ وَ الاْرْضِ و هو المعبّر عنه أيضاً بلسان الشرع ب «عالم المُلك» تَبَـ'رَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ؛ ثمّ تحمل هذا الفضاء و كلّ ما فيه القوّة المدبّرة المتصرّفة فيه، و ليست هي من الاجسام، بل نسبتها إلي الاجسام نسبة الروح إلي الجسم، و هذه هي العرش الذي يحيط بالكرسيّ و يحمله و يدبّره و يصرّفه و يتصرّف فيه، و تقوم تلك القوّة بثمانية أركان كلّ واحد متكفّل بجهة من التدبير، فتحمل ذلك العرش المحيط بالكرسيّ و ما فيه و هي حملة العرش؛ وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَؤْمَئِذٍ ثَمَـ'نِيَةً. و لعلّ هذه الثمانية هي الصفات الثمانية: العلم و القدرة و الحياة و الوجود و الاءرادة و السمع و البصر و الاءدراك، فهي العرش الاوّلي بالنظر إلي نسبتها إلي تدبير الاجسام والسماء و الارض و ما فيهما، و هي العرش الاعلي و الملائكة الكروبيّين بالنظر إلي نسبتها إلي الذات المقدّسة و أنّها صفات تلك الذات، و العرش الاعلي و الادني هو عالم الملكوت. ثمّ فوق القدرة المدبّرة للاجسام عالم العقول و المجرّدات و الملائكة الروحانيّين، و هذا هو عالم الجبروت، ثمّ يحيط بهذا العالم و يدبّره و يتّصل به عالم الاسماء و الصفات و الاءشراقات و التجلّيات، و هو عالم اللاهوت، فانتظمت العوالم الاربعة هكذا. عالم اللاهوت، ثمّ عالم الجبرت، ثمّ عالم المكوت، هو العرش، ثمّ عالم المُلك و هو الكرسيّ، أعني الاجسام و الجسمانيّات. [15] ـ الآيتان 29 و 30، من السورة 53: النجم. [16] ـ الآيات 1 إلي 14: من السورة 81: التكوير. [17] ـ الآيات 1 إلي 5، من السورة 82: الانفطار. [18] ـ الآية 30، من السورة 10: يونس. [19] ـ الاثير، مادّة سائلة لا تقع تحت الوزن تثخلّل الاجسام، فتملا الفراغات الموجودة بينها. [20] ـ لقد توصّل الكيميائيّون سابقاً إلي أنّ الجزي كأصغر قطعة من الاجسام، و هو عبارة عن ذرّة صغيرة لا تري بالعين المجرّدة، و إذا ما حاولنا تحطيمه فإنّه سيفقد خواصّه الاوّليّة، و إذا ما أردنا تقسيم هذا الجزي فلن نحصل علي جزي آخر، إذا إنّه مركّب من دقائق صغيرة جدّاً تدعي بالذرّات، و كان علماء الفيزياء و الكيمياء يعتدون إلي ما قبل تسعين عاماً أنّ الجزي هو أصغر تقسيمات المادّة، ثمّ توصّل الكميمائيّون عند تجاربهم علي المحاليل المخفّفة الكيميائيّة، و الفيزيائيّون في تجاربهم لاءمرار تيّار كهربائيّ داخل محلول كيميائيّ، توصّلوا إلي وجود أقسام أصغر تتكوّن منها المادّة تدعي بالذرّات، و توصّلوا إلي أنّ الذرّة الواحدة التي يصغر قطرها عن جزء من عشرة آلاف جزء الملّيمتر هي نفسها عالم عجيب، فلها مركز كالشمس يدعي البروتون تدور حوله ذرّات تدعي إلكترونات بسرعة هائلة تحمل جميعها الشحنة السالبة؛ و أنّ طاقة الذرّة كبيرة إلي الحدّ الذي يدّخر غرام واحد من التراب طاقة تزيد علي حاصل عمل المحطة الكهربائيّة في طهران لمدّة سنة كاملة. و لقد أوضحت التحقيقات الجديدد قبل أربعين سنة أنّ النواة هي أيضاً بدورها مركّبة من دقائق تحمل الشحنة الموجبة و هي البروتونات و دقائق عديمة الشحنة تشبه الاءلكترونات (النيوترونات) فهذه جميعها تكوّن الشحنة الكهربائيّة بمعني الطاقة. |
|
|