|
|
الصفحة السابقةافتراض العثور علي الحلقة المفقودة لا يكفي لإثبات سنّة التكامللقد كان كلامنا في افتراض وجود الحلقة المفقودة و إثبات انحدار نسل البشر إلي الطبقات السابقة و الحيوانات القديمد، حيث إنّ هذه الإثبات يبقي في دائرة الإمكان لا الوقوع الخارجيّ، لانّ هناك طريقاً آخر يقابل هذا الطريق المنتهي بسلسلة الاعقاب السالفة قبل الإنسان، و هو طريق ممكن الوجود من وجهة نظر البحث و الدراسة القديمة، و هو حدوث بداية نسل البشر من آدم و زوجه عن طريق تحقّق الإرادة القاهرة للربّ القدير العليم دفعة واحدة بنحو بناء وجودهما من التراب، بلا تغيّر من نوع لآخر. و مادام هذا الطريق ممكناً غير مُغلق فإنّ التقيّد و الالتزام بوجود آدم و حوّاء بداية سلسلة نسل بني آدم من أطوار الانواع الماضية، سيبقي أمراً لا معني له. فطبقاً للاُصول العلميّة من جهة، و لتصريح الآية القرآنيّة من جهة أُخري،[1]بأنّ جميع سلسلة البشر الموجودين حاليّاً علي سطح الكرة الارضيّة يرجعون إلي رجل واحد و امرأة واحدة، لا دخل في بدء نسلهما الاوّليّ لسائر الموجودات من ملائكة أو جنّ أو حيوانات، إذاً ينبغي القول بأنّه لوا اكتملت أدلّة علماء الحياة، و علي فرض وجود الحلقة المفقودة، فيمكن لتلك السلسلة من الإنسان أو الموجودات التي وُجدت بعد الحلقة الاخيرة أن تكون قد فنيت و انقرضت بواسطة الحوادث الخارجيّة التي وُجدت في الارض طوال مئات الملايين من السنين، من براكين و سيول و طوفانات و زلازل عالميّة و أمثالها التي تحقّق أحد نظائرها و أمثلتها في طوفان نوح فأُغرق جميع البشر علي سطح الارض عدا نوح و نسله؛ و أنّ هذه السلسلة البشريّة من بني آدم، المنتهين إلي آدم و حوّاء قد وُجدت دفعة واحدة بأمر الله؛ أو إذا كان هناك زمن و تدرّج لخلقهم من التراب، فمن المسلّم أنّهم لم يجيئوا من حيوان آخر علي نحو التوالد و التناسل. و لا دليل لدينا لإبطال إمكان الوجود هذا (لا الوجود نفسه)، سواء في الفلسفة الكليّة أم في علم الحياة، و إذا ما كان لدي علماء الحياة ما يقولونه خلاف هذا فليدلو بدلوهم! كلام ابن سينا في وجوب اعتبار ما لم يقم الدليل علي بطلانه من الممكناتيقول الشيخ الرئيس ابن سينا: كُلُّ مَا قَرَعَ سَمْعَكَ مِنَ الغَرَائِبِ فَذَرْهُ فِي بُقْعَةِ الإمكَانِ مَا لَمْ يَذُدْكَ عَنْهُ قَائِمُ البُرْهَانِ. [2] و يقول في آخر «الإشارات»: إيَّاكَ أَن يَكُونَ تَكَيُّسُكَ وَ تَبَرُّؤُكَ عَنِ العَامَّةِ، هُوَ أَنْ تَنْبَرِيَ مُنْكِرَاً لِكُلِّ شَيْءٍ. فَذَلِكَ طَيْشٌ وَ عَجْزٌ. وَ لَيْسَ الخَرْقُ فِي تَكْذِيبِكَ مَا لَمْ يَسْتَبِنَ لَكَ بَعْدَ جَلِيَّتُهُ، دُونَ الْخَرْقِ فِي تَصْدِيقِكَ مَا لَمْ تَقُمْ بَيْنَ يَدَيْكَ بَيِّنَةٌ!بَلْ عَلَيْكَ الاعْتِصَامُ بِحَبْلِ التَّوَقُّفِ. وَإنْ أَزْعَجَكَ اسْتِنْكَارُ مَا يُوعَاهُ سَمْعَكَ، مَا لَمْ تَتَبَرْهَنِ اسْتِحَالَتُهُ لَكَ؛ فَالصَّوَابُ أن ْتَسْرَحَ أمْثَالَ ذَلِكَ إلَي بُقْعَةِ الإمْكَانِ،مَا لَمْ يَذُدْكَ عَنْهُ قَائِمُ الْبُرْهَانِ[3]. كان هذا دليلنا للإمكان الثبوتيّ لخلق آدم و حوّاء بدون أن يكون لهما أب و أُمّ من الطبقة السابقة. خلقة عيسي كانت إعجازاً، كخلقة آدم من الترابأمّا دليلنا الإثباتيّ في تحقّق هذا الإمكان فهو القرآن الكريم، حيث إنّ آياته لها ظهور قريب من النصّ في الدلالة علي هذه الحقيقة؛ كالآية المباركة: إِنَّ مَثَلَ عِيَسي' عِندَ اللَهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ و مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ و كُن فَيَكُونُ. [4] فهذه الآية صريحة في الدلالة علي خلق آدم من التراب، و تشبّه خلق عيسي في ولادته الإعجازيّة بلا أب بخلق آدم الإعجازيّ من التراب بمجرّد كلمة كُن الصادرة من ربّ العزّة. أي لا دلالة لاُلوهيّة عيسي لمجرّد أنّ خَلْقَه في بطن أُمّه مريم دون أن يمسّها بشر، فهو و أبوه آدم قد خُلقا من غير أب؛ و إذا كان فقدان الاب لعيسي دليلاً علي أُلُوهيّته، فعليكم أن تقولوا بأُلوهيّة آدم المخلوق من التراب وحده بلا أب و بلا أُمّ أيضاً. لكنّكم لم تقولوا و لن تقولوا بأُلوهية آدم، فيجب إذاً أن لا تقولوا ذلك في عيسي أيضاً. و قد تحدّثت الآيات التي سبقت هذه الآية مفصّلاً عن بشارة الملائكة لمريم بأنّ الله يهبها كلمة منه اسمه المسيح عيسي ابن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة و من المقرّبين، يكلّم الناس في المهد و كهلاً و من الصالحين؛ فتتساءل مريم: يا إلهي! أنّي يكون لي غلام و لم يمسسني بشر؟ فيردّ سبحانه: كذلك! إنّ الله يخلق ما يشاء، إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون! ثمّ يعدّد القرآن هنا معجزات عيسي علي نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام واحدة واحدة، ثمّ يخاطب نصاري نجران الذين ادّعوا أُلوهيّة عيسي فيقول بعد الآية السالفة: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَ أَبْنَآءَكُمْ وَ نِسَآءَنَا وَ نِسَآءَكُمْ وَ أَنفُسَنَا وَ أَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَّبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللَهِ عَلَي الْكـ'ذِبِينَ. [5] أي أنّه نفي ادّعاءهم في عيسي و حذّرهم و دعاهم إلي المباهلة و الملاعنة مبيّناً بإجمال ما سبق أن أوضحه مفصّلاً من الخلق الإعجازيّ لعيسي، الشبيه بخلق آدم، و ذلك ليتمّ الحجّة عليهم بعد فقدانهم الحجّة و البرهان في ردّهم، و علي هذا فسيكون معني الآية: أنّ كيفيّة خلق عيسي هي نظير كيفيّة خلق آدم، فقد جُمعت أجزاؤه من التراب، ثمّ قال لها: كُن فَتَكوّنت بشراً كاملاً بلا أب. و ينقسم هذا البيان إلي حجّتين، تكفي كلُّ منهما لوحدها لنفي أُلوهيّة المسيح: الاُولي: أنّ عيسي مخلوقٌ للّه، خَلَقَهُ بهيئة البشر و إن كان بلا أب، و من كانت حاله هكذا فهو عبدُّ للّه، و ليس إلهاً. الثانية: أنّ خلق المسيح لا يزيد شيئا عن خلق آدم، فإن اقتضت سنخيّة خلقته أن يقال بأُلوهيّته، لَوَجَب أن يكون هذا الداعي و المقتضي في خلقة آدم كذلك؛ في حين أنّ النصاري لم يكونوا ليعتقدوا في آدم هذا الاعتقاد، لذا فإنّ عليهم، للمماثلة و المشابهة بين الحالتين ـ أن يكفّوا عن عقيدتهم هذه في عيسي. و نلحظ في الآية: أنّ خلق عيسي كخلق آدم، و هو الخلق الطبيعيّ في العالم، و لو أنَّه خارق للسنّة الجارية في النسل حيث يحتاج الطفل في وجوده إلي أب. و يستفاد من كلمة فَيَكُون إرادة الحكاية عن حال الماضي؛ و لا منافاة بين هذه الجملة المضارعد مع كلمة كن الدالّة علي عدم التدريج، لانّ جميع الموجودات ـ تدريجيّة الوجود كانت أم دفعيّة الوجود ـ هي مخلوقات الله سبحانه و قد تكوّنت بأمره، أي بنفس كلمة كُن، كما يقول سبحانه: إِنَّمِا أَمْرُهُ و إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَن يَقُولَ لَهُ و كَن فَيَكُونُ. [6] و من الواضح أنّ التدريج يتحقّق في الكثير من الاشياء تدريجيّة الوجود، قياساً و نسبةً لخصوص أسبابها التدريجيّة الحصول، و إلاّ فإنّ قسنا هذه الاُمور التدريجيّة بالباري تعالي في ذلك المقام الرفيع فلا مهلَة و لا تدريج، كما يقول سبحانه: وَ مَآ أُمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةً كَلَمْحٍ بِالْبَصَرْ. [7] و استناداً إلي هذا البيان فإنّ كلمة فيكون لا تختلف أبداً عن كلمة كان، فكمة كُنْ تدلّ علي أنّ الله سبحانه لا يحتاج في خلقه الاشياء إلي أسباب ليختلف عنده حال ما يريد خلقه؛ قياساً لذاته القدسيّة؛ بإمكان و استحالة و سهولة و صعوبة، و قرب و بُعد، لاختلاف الاسباب و العلل الدخيلة في إيجاد ذلك الشيء. فالشيء الذي يريد الله خلقه يقول له كُن فيصبح كان، أي أنّ وجوده الخارجيّ قد تحقّق بلا حاجة للاسباب العاديّة التي لها دخل في وجوده. و هذه الآية للجهتين الآيتينِ صريحة في خلقة آدم أبي البشر من التراب دفعة واحدة، و إعجازاً بدون العلاقة التناسليّة عن طريق الاب و الاُمّ. الجهة الاُولي: من منظار معني و مفهوم نفس الآية، لانّ وجه تشبيه عيسي بآدم في هذه الآية المباركة ينحصر في جملة خَلَقَهُ و مِن تُرَابٍ؛ و لانّنا نعلم أنّ عيسي لم يُخلق دفعة واحدة من التراب، و أنّ الله لم يخلق تماثلاً له ابتداءً ليتكوّن و يوجد بنفخ روحه فيه بكلمة كُنْ، بل إنّ أُمّه مريم عليها السلام قد ولدته بطريقة طبيعيّة بالحمل في البطن و بألم المخاض؛ لذا، فمن المسلّّم القطعيّ أن يكون التشبيه بآدم في خلقته الترابيّة هو اللازم الاكيد للخلق من التراب دفعة، و هو فقدان الاب. أي أنّ عيسي يماثل أيضاً في هذه الخلقة الاستثنائيّة و الخلق بدون أب آدمَ الذي خُلق من تراب بلا أب، فقد خُلقا بأمرٍ حتميّ و كلمة كُن فظهرا علي مسرح الوجود. الجهة الثانية: كان احتجاج و استشهاد القرآن بهذه الآية في معرض الردّ علي النصاري المتوهّمين في عيسي المولود بلا أب مرتبة تفوق مرتبة البشريّة، و القائلين له بمرتبة تعادل الاُلوهيّة. ردّ الآيات القرآنيّة علي الطوائف المسيحيّة الثلاث المعتقدة بأُلوهيّة المسيحو قد انقسم النصاري وفق الآيات القرآنيّة إلي ثلاث فرق، و هي مرفوضة من وجهة نظر العقائد التوحيديّة: الفرقة الاُولي: أُولئك القائلون بأنّ عيسي المسيح أحد الاُصول الثلاثة القديمة الاقانيم الثلاثة، فكانوا يظنّونه ثَالِثُ ثَلَـ'ثَةٍ؛ كما تشير الآية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَهَ ثَالِثُ ثَلَـ'ثَةٍ. [8] أي أُولئك القائلون بالاُصول القديمة الثلاثة، أوّلها الذات التي يعبّرون عنها ب الاب. و ثانيها: الحياة التي يعبّرون عنها ب رُوحُ القُدُس. و ثالثها: العِلم الذي يعبّرون عنه ب لابن. فكانوا يدعون كلاّ من هذه الاُصول الثلاثة ب الاُقْنُوم، الاب و الابن و روح القدس التي يعتبرونها الله و الاصل و القديم، و هم معروفون و مشهورون في اعتقاداتهم باسم: الاب و الابن و روح القدس. و يقول في القرآن الكريم في ردّهم و نهيهيم: وَ لاَ تَقُولُوا ثَلَـ'ثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ. [9] الفرقة الثانية: أُولئك القائلون إنّ عيسي مريم هو الله نفسه؛ فيردّ القرآن عليهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُو´ا إِنَّ اللَهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. [10] والفرقة الثالثة: القائلون بأنّ المسيح ابن الله، كما يقول القرآن الكريم: وَ قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَهِ وَ قَالَتِ النَّصَـ'ري الْمَسْيحُ ابْنُ اللَهِ. [11] و بناء علي هذه الاعتقادات الثلاثة التي يعتقدها المسيحيّون في عيسي فإنّهم ينقسمون إلي ثلاث طوائف: المَلكَائِيّة، و النَّسْطُورِيَّة، وَاليَعْقُوبِيَّةِ. و لانّ هذه العقائد كفر بأجمعها وفق المنطق القرآنيّ، و لانّ النصاري الذين يحملون أمثال هذه العقائد في المسيح يستدلّون عليها بانعدام وجود أب له، فيقولون: إنّ جميع أفراد البشر يولدون من أب، لكنّ عيسي جاء إلي الدنيا بغير أب، فمن الواضح أنّه ليس من سنخ البشر، بل هو من عالم الربوبيّة و اللاهوت؛ فقد وجّه القرآن هذه الآية في ردّ هذه الطائفة، ثمّ قال: الْحَقُّ مِن رَّبِكَ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ. [12] ثمّ دعاهم القرآن بعد هذه الآية إلي المباهلة و الملاعنة بآية: فَمَن حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ. فيمكن الردّ بآية: إِنَّ مَثَلَ عِيسَي عِندَ اللَهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ و مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ و كُن فَيَكُونُ، علي النصاري في هذه الاحتجاج و الاستشهاد فيما إذا كان المراد من خلقه آدم من التراب في هذا الوجه من المشابهة هو عدم ولادة آدم من أب. فيقول: إنّ عيسي و إن اختصّ بخلقه و تكوينه في مجيئه إلي مسرح الظهور بلا.ب، لكنّ هذه التكوّن الخاصّ لا يستلزم ارتفاعه إلي مرتبة الاُلوهيّة و الربوبيّة، لانّ آدم أيضاً يماثله في الخلق و الوجود الخاصّ و ولادته من التراب بلا أب و بلا أُمّ أيضاً، لذا فإنّ عليكم إمّا أن تقولوا بأُلوهيّة آدم أيضاً ـ في حين أنّكم لا تفعلون ذلك ـ أو أن تقولوا ببشريّد عيسي. آيات القرآن تبطل نظريّة المعتقدين بتغيّر الانواع بشأن آدملكنّ القائلين بتكامل الانواع و تطورّها، و المعتبرين آدم مولوداً من أب و أُمّ عن طريق التناسل يقولون في شأن هذه الآية الكريمة: إنّ المراد من خَلَقَهُ و مِن تُرَابٍ ليس الخلق الإعجازيّ لآم من تمثال من الطين علي هيئة آدم، بل إنّ المراد هو أنّ أصل جميع الاشياء من التراب، فالاغذية و الاطعمة و اللحوم و الفواكه و الخضروات التي تسبّب تكوّن النطفة من التراب، لذا فإنّ خلقة آدم من التراب أيضاً، و أنّ الله يريد في هذه الآية بيان هذا القدر فقط؛ أنّ عيسي بن مريم أيضاً قد خُلق من التراب علي مثال آدم الذي كان من التراب. و لقد كانت خلقة عيسي حسب المنوال الطبيعيّ و لم تكن خرقاً للعادة، فقد اتّضح من وجهة نظر علوم الحياة أنّ بعض النساء يقمن بإنتاج الحيا من و البويضات في نفس الوقت. فيريد أن يقول الله هنا إنّ خلقة عيسي لم تكن خارجة عن سير الطبيعة و العادة، مثل كآدم الذي وُجد من التراب بواسطة الاصل الكلّيّ للتوالد و التناسل. و قالوا بشأن كلمة كُن فَيَكُونُ إنّ معناها أنّ الله قال لآدم صفوته: كن عالماً؟ أو كن نبيّاً! أو كن موجوداً منتخباً من بين الانواع! فكان هكذا، كما قال لعيسي: كن عالماً! و كن نبيّاً! و كن ذا معجزة! فَنادي أُمّه حين وُلد: أن ألاّ تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً. و في هذا التفسير إشكالان: الإشكال الاوّل: إنّ وجه تشبيه عيسي بخصوص آدم أمر خاطي، إذ بناء علي هذا التفسير في أنّ ترابيّة آدم من جهة أنّ أصله كان من مادّة التراب فإنّ جميع أفراد البشر هم من هذا القسم. و ينبغي علي هذا أن يقول: إنّ مثل عيسي عندالله كمثل سائر الناس. فالقرآن كلام الله، و قوله فصل ليس بالهزل، فإنّه إن جاء و خصّص في قوله آدم بهذا التشابه بالرغم من وجود الاشتراك في وجه الشبه في جميع بني آدم و جميع الناس من زمن آدم إلي قيام القيامة، فلا يُحمل ذلك إلاّ علي الطخأ و الاشتباه، و لن يمكن تصوّر محمل آخر له. و علي هذا فإنّ تشبيه عيسي بآدم، أي الاسم الخاصّ و العَلَم لرأس سلسلة نسل البشر ـ لا اسم الجنس كلفظ إنسان و بشر الذي يُطلق علي جميع الافراد ـ لا يمكن أن يكون له وجه إلاّ الخصوصيّة التي كانت في آدم نفسه، لا في سائر الافراد، و لا يمكن لتلك الخصوصيّة أن تكون غير خلقه الإعجازيّ من التراب بدون وساطة الاب. الإشكال الثاني: كانت هذه الآية ـ كما هو الحال في الآيات التي سبقتها و التي بعدها ذكرنا أيضاً مفهومها هنا ـ ردّاً علي المسيحيّين الذين اعتقدوا لعيسي ـ من وجهة عدم وجود أب له ـ مرتبة أعلي من البشريّة و صعدوا به إلي عالم الاُلوهيّة، و في هذه الحالة و بناء علي هذا التفسير فلن يكون هناك ردّ عليهم. فالمسيحيّون يقولون: بما أنّ المسيح يمتلك خلقاً استثنائيّاً، و قد جاء ظهوره بدون أب، فهذا الظهور هو ظهور الله؛ و إذا ما قيل في جوابهم إنّ خلقته عاديّة و غير استثنائيّة، و إنّه جاء كسائر بني آدم بالطريق الطبيعيّ فإنّهم لن يقبلوا بذلك، أي أنّ هذا المنطق لن يغلق أمامهم طريق الاستدلال. فمقولة المسيحييّن هي أنّ عيسي لا يشبه سائر أفراد البشر، لذا فهو إله، و إذا ما قلنا في جوابهم إنّه يشبه سائر أفراد البشر و هو ليس بدليل، لانّه سيكون نفياً لادّعائهم بلا دليل، أي أنّه سيكون مصادرة بالمطلوب. و يتّضح هنا أنّ ما جرت مناقشة في كتاب «خلقت انسان» ( = خلق الإنسان) حول هذه الآية، و ما سعي إليه المؤلّف، سواء في متن الكتاب أو في البحث و التوضيح الإضافيّ الذي أُلحق به، في إسقاط هذه الآية من الظهور في خقة آدم من التراب بلا أب و بشكل إعجازيّ، كان غير موفّق و غير تامّ. [13] و الاعجب من هذا فقد ادّعي المؤلّف صراحة أنّ جميع الآيات القرآنيّة المتعلّقة بالخلقة من التراب وا لطين و أمثالهما ترجع إلي لفظ إنسان، و هو اسم عامّ، أمّا ما يخصّ آدم، أي الاسم الخاصّ، فليس لدينا أبداً في القرآن آية ذات دلالة علي أنّه خُلِق من التراب. [14] و لست أدري كيف تغافل عن عبارة كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ و مِن تُرَابٍ مع أنّه أورد الآية مورد البحث في موضعين في كتابه. [15] و يتّضح من هذا البيان أيضاً أنّ ما بُحث في كتاب «تكامل در قرآن» (= التكامل في القرآن) لتفسير عقيدة التكامل من هذه الآية ليس تامّاً، فقد جاء في هذا الكتاب: أنّ الآية المبحوث عنها هنا تكفي في ردّهم و تخطئة أوهامهم بالإشارة إلي تشبيه عيسي بآدم، و مفادها أنّه كما خلق الله آدم من تراب ثمّ قال له كن، فكذلك خلق عيسي من تراب ثمّ قال له كن، فلو كان هذا النحو من الخلقة مقتضياً للاُلوهيّة لكان آدم أيضاً إلهاً، بل كان كلّ من يشترك معه في التكوّن من تراب إلهاً أيضاً ـ انتهي. [16] و ورد كذلك: أنّ المعتقدين بالتكامل يقولون أن لا إشكال في مماثلة عيسي لآدم في التكوّن من تراب و غذاء و نطفة و علقة إلي الولادة فما بعدها، و لا إشكال أيضاً في أنّ الله قد وهب لعيسي العقل و العلم و الإدراك، أو وهب تلك الاُمور مع النبوّة في أوائل تولّده علي نحو الإعجاز و الخرق لناموس التكوين، كما أعطي لآدم كذلك العقل أو العلم و النبوّة بنفس الطريقة، فوجه الشبه في الآية هو المماثلة في الخلقة و العلم، و معني قوله كن أي كن عاقلاً عالماً أو عالماً نبيّاً ـ انتهي. [17] دلالة آية «وَ بَدَأَ خَلْقَ الاْ ءِنسَـ'نِ مِن طِينٍ» علي فطرة آدم من الطينو من جملة الآيات التي لها دلالة علي أنّ مبدأ خلقة الإنسان (آدم) كان من الطين هذه الآيات الثلاث: الَّذِي´ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ و وَ بَدَأَ خَلْقَ الإنسَـ'نِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ و مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّي'هُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الاْبْصَـ'رَ وَ الاْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ. [18] يقول في «مجمع البيان»: السُّلاَلَةُ الصَّفْوَةُ الَّتِي تَنْسَلُ أَي تُنْزَعُ مِنْ غَيْرِهَا، وَ يُسَمَّي مَاءُ الرَّجُلِ سُلاَلَةً لاَنْسِلاَلِهِ مِنْ صُلْبِهِ. [19] قال العلاّمة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه: في هذه الآية وَ بَدَأ خَلْقَ الإنسَنِ مِن طِينٍ، المراد بالإنسان النوع، فالمبدو خلقته من طين هو النوع الذي ينتهي أفراده إلي مَن خُلق من طين من غير تناسل من أب و أُمّ كآدم و زوجه عليهما السلام، و الدليل علي ذلك قوله من بعده: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ و مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ. فالنسل الولادة بانفصال المولود عن المولودين، و المقابلة بين بدء الخلق و بين النسل لا يلائم كون المراد ببدء الخلق بدء خلق الإنسان المخلقو من ماء مهين، و لو كان المراد ذلك لكان حقّ الكلام أن يقال: ثُمَّ جَعَلَهُ سُلاَلَةً مِن مَاءٍ مَهِينٍ، فَافْهَمْهُ. [20] و كان مقصوده بهذا البيان: أنّ مجيء كلمة نسل هنا بشكل حتميّ تدلّ علي مغايرة كيفيّة خلقة بدء الإنسان مع كيفيّة خلقة ذرّيّته و أولاده، لذا لا يمكن اعتقاد بدء خلق الإنسان من نوع آخر بالتوالد والتناسل و النطفة التي هي سلالة من ماء مهين. و هو يردّ بهذا البيان علي تفسي رو تعبير الذين يعتبرون البشر نوعاً مبتذلاً من أنواع أُخري. يقول الحقير: و مضافاً إلي ذلك و أكثر، فإنّ هذا البيان ردّ علي الذين حملوا هذه الآية علي مبدأ خلقة الإنسان و بقيّة الموجودات من الطين الاوّل، أي من تلك الخلايا و الموجودات ذوات الخليّة الواحدة. و المراد بنسله عندهم نُطَفُ أنواع الحيوانات و الناس السابقين قبل ولادة آدم، و حملوا تسويته علي خلقة الإنسان الكامل من جميع الجهات كآدم، التي اكتسب بها قابليّة السمع و البصر و الفؤاد و صار لائقاً لمقام العلم و المعرفة و شكر الخالق. يقولون: إنّ هذه الآيات الثلاث تبيّن بالترتيب ثلاث دورات مختلفة لنشوء الإنسان: الدورة الاُولي: حين كان الإنسان طيناً، و لم تكن الموجودات ذوات الخلايا الواحدة قد ظهرت: وَ بَدَأَ خَلْقَ الإنسَـ'نِ مِن طِينٍ. الدورة الثانية: حين نشأت الخلايا و بدأت بالتكاثر، فظهرت أنواع بد أنواع أُخري بالتكاثر في النسل: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ و مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن مَآءٍ مَّهِينٍ. أي أنواع النطف، إذ من غير ذوي الخلايا الواحدة فإنّ الجميع يحتاج في تكاثره إلي ذكر و أُنثي و فعل و انفعال. آية «ثُمَّ سَوَّب'هُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ» لا تدلّ علي عقيدة التكاملالدورة الثالثة: تسوية الإنسان الكامل و منحه من بين جميع طبقات الحيوانات السابقة هيكلاً بدنيّاً قابلاً من الناحية الفسلجيّة للاعضاء السمعيّة و البصريّة و القوي الفكريّة. ثُمَّ سَوَّيـ'هُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ. [21] أقول: يجعل التفسير بهذا النمط كلمة نَسْلَهُ زائدة و غير ضروريّة، لانّ الله قد خلق مبدأ الإنسان من طين، ثمّ جعله يتقلّب بهيئة النطف المختلفة في العصور و الدهور حتّي سوّاه و نفخ فيه من روحه؛ أي أنّ هذا التفسير سيجعل كلمة نَسْلَهُ زائدة لا مكان لها، لذا فبعد أنّ التفت المؤلف إلي هذا التراحم، ترجم عبارة ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ و مِن مَّآءٍ مَّهِينٍ بهذه الصورة: (سپس او را از عصارهاي از آب ناچيز قرار داد). [22] و ما أيّده هو و صاحبُ كتاب «التكامل في القرآن) أكثر هو مجيء لفظ ثُمّ في الآية التاسعة: ثُمَّ سَوَّب'هُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ، لانّ ثُمَّ في اللغة تفيد التعاقب مع التراخي و الفاصلة، و لو تركنا هذا اللفظ بهذا المعني فسيلزم أن تكون التسوية و نفه الروح في آدم أبي البشر بعد نشوء ذرّيّته و أولاده، علي ما يقتضيه سياق الآية الثامنة: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ و ثُمَّ سَوَّب'هُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ، و إن سلخنا لفظ ثمّ عن هذا المعني و أخذناه بمعني واو العطف، أو اعتبرناه للتراخيّ في حكاية الحال، لكنّا قد علمنا في هذه الحالة خلاف الظاهر و خلاف الاصل. [23] أقول: يَرد هذا الإشكال في حالة رجوع ثُمز سَوَّ'هُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ إلي المطلب الاوّل في الآية الثامنة. أمّا إذا كانت راجعة لكلتا الآيتين و كلا المطلبين، فالمعني صريح جدّاً و واضح. و الظاهر أنّه يجب اعتباره مرتبطاً بكلتا الآيتين، فيكون المعني: ثمّ بدأ خلق الإنسان الذي كان مبدأ خلقته من الطين و نسله من سلالة من ماء مهين فسوّاه و نفخ فيه من روحه. و علي هذا فإنّ تسوية الإتنسان و نفخ الروح فيه بعد خلق الإنسان من الطين في آدم أبي البشر، و بعد جعل نسله بشكل نطفة، و طيّ مدارج الحمل من العلقة و المضغة و العظام و إكساء العظام لحماً في أولاد آدم و ذرّيّته. و هذا هو التفسير الذي قال به العلاّمة قدّس الله سرّه. [24] آيات سورتي المؤمنون و السجدة تدلاّ ن علي خلق آدم من الطينو ينبغي العلم أنّ التفسير الذي بيّنه العلاّمة قدّس الله سرّه هنا في شأن هذه الآية الكريمة: وَ بَدَأَ خَلْقَ الإنسَـ'نِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ و مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ، هو عين التفسير الذي أورده للآيات الواردة في سورة المومنون: وَ لَقَدْ خَلَقَنَا الإنسَـ'نَ مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـ'مًا فَكَسَوْنَا الْعِظَـ'مَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـ'هُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَهُ أَحْسَنُ الْخَـ'لِقِينَ. [25] فقد أورد العلاّمة في تفسير هذها لآيات أنّ السُّلاَلَة اسم لِما يُسلّ من الشيء، كالكُساحة اسم لِما يُكسح. و ظاهر السياق أنّ المراد بالإنسان هو النوع، فيشمل آدم و من دونه، و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائيّ الذي خلق به آدم من الطين ثمّ جعل النسل من النطفة، و تكون الآية و ما بعدها في معني قوله: وَ بَدَأَ خَلوقَ الإنسَـ'نِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ و مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن مَآءٍ مَّهِينٍ، [26] و يؤيّده قوله بعده: ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً، إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلي الطين، لكان الظاهر أن يقال: ثُمّ خَلَقْنَاهُ نُطْفَةً كما قيل: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً إلي آخره. و بذلك يظهر أنّ قول بعضهم إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم، و كذا القول بأنّ المراد به آدم عليه السلام غير سديد. و أصل الخلق؛ كما قيل؛ التقدير، يقال خَلَقْتَ الثَّوْبَ إذَا قِسْتَهُ لِتَقْطَعَ مِنْهُ شَيْئاً مِنَ اللِّبَاسِ، فالمعني: وَ لَقَدْ قَدَّرْنَا الإنْسَانَ أَوَّلاً مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ أَجْزَاءِ الاَرْضِ المَخْلُوطَةِ بِالمَاءِ. [27] و علي هذا التفسير فإنئ ما يستفاد من كلامه أنّ سرّ هذا التفسير يكمن في المجيء بكلمد جَعَلَ بدل كلمد خَلَقَ في الآية ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. أي أنّنا جعلنا الإنسان بعد خلقه البَدْويّ في رحم أُمّه بصورة نطفة، و لم يقل ثُمَّ خَلَقْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. أي أنّنا كوّنّا الإنسان بعد خلقه البدويّ في رحم أُمّه نطفة و أبدلناه في سيره التكامليّ بنطفة. فالفرق بين كلمة جَعَلَ و خَلَقَ أنّ الجعل مجرد الوضع و الإقرار، أمّا الخلق فعبارة عن الإبداع و الإحداث، و هو تسديد الشيء من قياساته و أبعاده و تبديل ماهيّته و صورته الاوّليّة. فإن كان المراد من الآية تطوّر حالات الإنسان من بداية المرحلة الترابيّة من عصارة و سلالة الارض في الفواكه و الخُضَر و الحبوب و اللحوم و الدسوم التي ستتبدّل من ثَمّ في بدن الإنسان إلي دم و من ثمّ تتبدّل إلي نفطة، فيجب أن يقول إنّنا جعلنا بدء خلق الإنسان من سلالة الطين، ثمّ خلقناه و بدّلناه بصورة و ماهيّة نطفة في رحم أُمّه، كما هو الامر في السير التكامليّ بعد النطفة، أي الإنشاء و الخلق الجديد في حالات النطفة و تطوّراتها، كما قال: ثُمَّّ خَلَقْنَا و بدّلنا النُّطْفَةَ بصورة و ماهيّة العلقة فَخَلَقْنَا و بدّلنا العَلَقَة بصورة و ماهيّة المضغة فخلقنا العلقة مضغة، لانّه يبيّن فقط في هذا الفرض التطوّرات و الحالات المختلفة لسلالة التراب التي طوتها من بدء خلقتها حتّي صيرورتها إنساناً كاملاً خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ و تبديلاً بعد تبديلها السابق حيث طوت مراحل و منازل معيّنة، و علي هذا الفرض فإنّ الإتيان ابتداءً بعبارة الخلق: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَـ'نَ و ذكر التطوّرات بعد النطفة بعبارة الخلق أيضاً: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَـ'ا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـ'مًا، ثمّ العدول بين هاتين الفقرتين من كلمة خَلَقَ إلي جَعَلَ و القول: ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ سوف لن يُحمل إلاّ علي اللغو و الخطأ و عرض المقصود بعبارة تدلّ علي خلافه وَ حَاشَا لِلْقُرْآن أن يَكُونَ فِيهِ بَاطِلٌ وَ هَزْلٌ «إِنَّهُ و لَقُولٌ فَصْلٌ * وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ». آية «ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً» تدلّ علي خلقة آدم من سلالة الطينو هذا دليل قطعيّ علي أنّ الإنسان المراد به في هذه الآية ليس نوع بني آدم، و لم يكن المقصود من الآية هو السير التكامليّ في الحالات المختلفة، بل إنّ الإنسان بما هو إنسان عموماً من آدم و بني آدم، و المراد من خَلَقْنَا الإنْسَـنَ مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن طِينٍ ابتداؤه، أي آدم، فهو الذي خلقه الله من سلالة من طين. و المراد من ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ نشوء الإنسان بعد آدم، و المتحقّق من النطفة عن طريق التوالد و التناسل. و المراد بالسُّلاَلَة هنا العصارة و الخلاصة و الجوهرة المستخلصة من الارض، لا الحيوانات الاوّليّة و ذوي الخلايا الواحدة؛ و علي هذا فإنّ مفاد هذه الآية التي وردت فيها عبارة سُلَـ'لَةٍ مِّن طِين لا يختلف عن مفاد آية السجدة التي وردت فيها عبارة بَدَأَ خَلْقَ الإنسَـ'نِ مِن طِينٍ. بل هو مفاد واحد. و سيظهر الفرق بين سلالة من طين و نفس الطين فيما لو أخذنا المراد بالسلالة تبعاً لتفسير القائلين بتكامل الخلايا الاوّليّة و الانسجة المفردة. و علي هذا، فقد كان ينبغي للآية أن تشير إلي مسارها بإراءة المسير التكامليّ للإنسان، و بيان الحالات و التطوّرات الحاصلة في الموجود الواحد، و هو ما يتنافي وا ستعمال كلمة ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً التي كان ينبغي أن يكون بدلها ثُمَّ خَلَقْنَاهُ نُطْفَةً، أي أنّنا خلقنا الإنسان أوّلاً من نسيج مفرد و خليّة حيّة موجودة في المستنقعات و المياه الآسنة و الحمأ المسنون الناشي فوق الارض من الطين و الماء، ثمّ بدّلنا تلك الخليّة والنسيج بعد تطوّرات و تغيّرات أنواع في الماهيّة و الموجوديّة نطفة في الرحم، ثمّ خلقنا و بدّلنا النطفة أيضاً في ماهيّة و موجوديّة العلقة. لكنّ معني الآية ليس هكذا، بل إنّ معناها أنّنا خلقنا الإنسان من سلالة الطين، ثمّ جعلناه بشكل و صورة نطفة في الرحم؛ و الجعل غير الخلق. فتعبير و تفسير العلاّمة، و النكتة البديعة الدقيقة التي أفادها من الآية في خلق آدم من الطين أو من سلالة الطين، و كذلك عين عباراته التي أوردناها و التي استُفيدت نكاتها جميعاً من الفرق بين لفظ جَعَلَ و خَلَقَ، إنّما تشهد جميعها علي دقّة النظر و طريق سدّ الشبهات استدلال بعض القائلين بالتكامل بآيات القرآن يفتقر إلي الاساس و البرهانو يعترض في كتاب «التكامل في القرآن» علي العلاّمة بعد بيان تفسيره لنشوء آدم من الطين في هذه الآية: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَـ'نَ مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن طِينٍ، فيقول: العجب منه كيف ألغي في تفسيره الآية معني السلالة بالكلّيّة مع أنّه قد نقل عن «مجمع البيان» معناها قبيل هذا الكلام، لكنّه أسقطها في إيضاح معني الآية فأوجب الخلط وا لتغيير في معني الآية. [28] و الجواب: أنّ العلاّمة لم يسقط كلمة سلالة حين التفسير، و لكن بما أنّ فقرة ثُمَّ جَعَلَْنَـ'هُ نُطْفَةً التي جاءت ب جَعَلْنَـ'هُ و لم تأتِ ب خَلَقْنَاهُ، فقد عدّ الآية ذات مفاد واحد مع الآية: وَ بَدَأَ خَلْقَ الإنسَـ'نِ مِن طِينٍ، لذا فإنّ مجيء جَعَلْنَا بدل خَلَقْنَا دليل علي منعنا من عدّ الآية في سياق بيان مدارج الإنسان التكامليّة، بل ينبغي عدّها في معرض بيان خلقته الاوّليّة، أي خلقة آدم من الطين و خلقة نسله من النطفة. و في هذه الحال فما الفرق بين أن نقول إنّه خُلِقَ من الطين، أو من سلالة الطين؟ فكلاهما له نفس المفاد و المفهوم. أمّا إذا أخذنا سُلاَلَة بمعني الخليّة الاوّليّة؛ كما استند في كتاب «التكامل»؛ فبالرغم من أنّ سلالة من طين ستعطي مفهوماً مغايراً لمفهوم نفس الطين حيث غفلوا عن استعمال عبارة ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً و أخذوا في السياق معني جَعَلْنَا بمعني خَلَقْنَا، ثمّ أنهي البحث بهذا الترتيب، فتأمّل! و قد سار مؤلّف كتاب «خلقت إنسان» علي هذا النهج فاعتبر كلمة سلالة في هذه الآية بمعني الخليّة الاوّليّة، ثمّ توسّع في ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً واعتبر هذه النطفة التي جاءت نكرة علامة إبهام ذات مفهوم كلّيّ، فهي تشمل جميع نطف الحيوانات من الانواع السابقة التي تمثّل بنظره حلقات في سلسلة آباء و أجداد آدم. [29] و كان هذا دليلاً في نظره علي نشوء الإنسان و ارتقائه و تكامله من الخليّة الواحدة الموجودة أوّل الخلة، و بما أنّه كان يريد استنتاج التكامل ضمن بحث طويل، فقد تشبّث بمطالب غير محكمة من جهة فنّ الادب و العربيّة و البرهان. [30] و قد غفل في هذا الاستدلال أيضاً عن عبارة ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ. و يتّضح ممّا أوردنا في هذا البحث عن الاُستاذ العلاّمة أنّ استدلال صاحب كتاب «خلق الإنسان» لم يستند علي أساس معين، إذ أنّ رمز التفسير الصحيح لهذه الآية هو التوجّه إلي كلمة جَعَلْنَا، كما أنّ رمز التفسير الصحيح للآية السابقة هو التوجّه إلي لفظة نَسْل الذيي جيء به معطوفاً علي الخلقة الاُولي للإنسان: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ و مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ. علماء طبقات الارض لا يملكون دليلاً علي اتّصال هذا النسل بالاُمم السابقةإنّ الآية الدالّة علي أنّ جميع أفراد البشر علي الكرة الارضيّة يرجعون إلي نفس الا8ب و الاُمّ علي طول سلسلة التوالد و التناسل هي آية: يَـ'أَيُّهَا النَّساسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفسٍ وَاحِدةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَ نِسَآءً وَ اتَّقُوا اللَهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَ الاْرْحَامَ إِنَّ اللَهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيبًا. [31] فخطاب الآية عامّ لجميع الناس: يَـ'أَيُّهَا النَّاسُ، و قد عدّهم مخلوقين من أب واحد و أُمّ واحدة، بالنحو الذي بثّ علي الارض منهما الكثير من الرجال و النساء. فيستفاد أوّلاً: أنّ جميع الناس، من أيّة طائفة و أصل كانوا، و علي أيّة بقعة يعيشون ـ في وسط المعمورة أم في أقصاها، و في جزر آمريكا الشماليّة أم الجنوبيّة التي تفصل بينهما المحيطات المائيّة ـ إنّما يرجعون إلي زوجين اثنين كانا علي رأسهم و السبب في ظهورهم و نشأتهم، ثمّ حدثت هذه الفاصلة بواسطة الحوادث الجويّة و الارضيّة، من الصواعق و العواصف و السيول مدّة عمر الارض المديدة التي لا يعرف قدرها تحديداً، فسبّب انفصال و افتراق هاتين المجموعتين عن بعضها. و مع أنّنا نمتلك حاليّاً تأريخ ستّة الآف سنة فقط، لكنّ علماء طبقات الارض و علماء الفسائل قد ذكروا أنّ عمر الإنسان علي الارض يزيد علي خمسمائة ألف سنة. قال الاستاذ العلاّمة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه: و ظاهر السياق أنّ المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام، و من زوجها زوجته؛ و هما أبوا هذا النسل الموجود الذي نحن منه و إليهما نتهي جميعاً علي ما هو ظاهر القرآن الكريم، كما في قوله تعالي: خَلَقَكُم مّـِن نَّفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [32] و قوله تعالي: يَـ'بَنِي´ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَـ'نُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ [33]، و قوله تعالي حكاية عن إبليس: قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـ'ذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَي يَوْمِ الْقِيَـ'مَةِ لاَحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ و إِلاَّ قَلِيلاً. [34] ثمّ يقول في بحث مستقلّ في عمر نوع الإتنسان و الإنسان الاوّليّ بعد بسط القول في كلام علماء طبقات الارض المعتقدين بأنّ عمر هذا النوع من الإنسان يزيد علي ملايين السنين، و قد وجدوا من الفسائل الإنسانيّة و الاجساد و الآثار ما يتقدّم عهده علي خمسمائة ألف سنة علي عي استظهروه: فهذا ما عندهم غير أنّه لا دليل معهم يقنع الإنسان و يرضي النفس باتّصال النسل بين هذه الاعقاب الخالية و الاُمم الماضية من غير انقطاع. فمن الجائز ثمّ تكرّر الظهور و الانقراض، و دار الامر علي ذلك عدّة أدوار، علي أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الادوار. أمّا القرآن الكريم فإنّه لم يتعرّض تصريحاً لبيان انحصار ظهور هذا النوع في هذه الدورة التي نحن فيها أو أنّ له أدواراً متعدّدة نحن في آخرها، و لو أنّه يمكن استشمام هذا المعني من قوله تعالي: وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاْرْضِ خَلِيفَةً قَالُو´ا أَتْجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ الدِّمَآءَ [35]، حيث يمكن الاستشمام من هذه الآية بسبق دورة أُخري للإنسانيّة تقدّمت علي دورتنا، و قد تقدّمت الإشارة إلي هذا المعني في تفسير الآية. نعم، في بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ما يثبت للإنسانيّة أدواراً كثيرة قبل هذه الدورة. [36] ارجاعات [1] ـ الآية 1، من السورة 4: النساء: يَـ'أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَ نِسَآءً. [2] ـ و هذه هي عبارة الشيخ المعروفة التي نقلت في الكثير من كتبه، و المراد بالاءمكان هنا الاءمكان العقليّ لا الاءمكان الذاتيّ. قال الحكيم السبزواريّ في «شرح المنظومة» ص 46 طبعة ناصري، ضمن «شرح غرر» (المعدوم لا يُعاد بعينه): و معني الاءمكان هنا خلاف الاعتقاد الجازم أي الاحتمال، كما يقال: ذَرْ فِي بقعة الاءمكان ما (موصولة) لم يَذُدده (أي لم يدفعه) قائمُ البرهان إشارة إلي دليل إقناع آخر و هو أنّ الاصل فيما لا دليل علي امتناعه أو وجوبه هو الاءمكان، كما قال الحكماء: كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعد الاءمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان. [3] -الإشارات الطبعةالحجرية،الصفحةالأخيرة؛وفي طبعة مصرالجديدة،ج4،ص159و160. [4] ـ الآية 59، من السورة 3: آل عمران. [5] ـ الآية 61، من السورة 3: آل عمران. [6] ـ الآية 82، من السورة 36: يس. [7] ـ الآية 50، من السورة 54: القمر. [8] ـ الآية 73، من السورة 5: المائدة. [9] ـ الآية 171، من السورة 4: النساء. [10] ـ الآية 17 و الآية 72، من السورة 5: المائدة. [11] ـ الآية 30، من السورة 9: التوبة. [12] ـ الآية 60، من السوة 3: آل عمران. [13] ـ متن كتاب «خلقت انسان»، تأليف الدكتور يدالله سحابي، الفصل الثالث، ص 148 إلي 172، و لم يُعتنَ في هذا البحث الطويل أبداً بالنكات الدقيقة التي جعلناها محور البحث، و لم تذكر الملاحظات التي تفيد من وجه ما في إثبات المطلب. و قد ذكر في البحث و التوضيح الاءضافيّ ص 183 إلي 186، مطالباً خارجة عن فنّ المناظرة، لا تستقيم مع هدف البحث. [14] ـ كتاب «خلقت انسان»، البحث و التوضيح الاءضافيّ ص 180، يقول هنا لا يوجد في القرآن مطلقاً آية أو جملة لها دلالة صريحة أو تلميحاً علي الخلقة المباشرة و ظهور آدم و زوجه من التراب و الطين... فليس هناك تصريح كهذا يرجع إلي آدم الذي ذكر اسمه في عدّة مواضع، (فمثلاً لم يقل: خلق آدم من الطين) ـ انتهي. أو ليست جملة: كمثل آدم خلقه من تراب كجملة خلق آدم من طين؟! فافهم و تأمّل. [15] ـ ص 107 و 148. [16] ـ كتاب «تكامل در قرآن» بالفارسيّة، ص 8. [17] ـ «تكامل در قرآن» ص 56. [18] ـ الآيات 7 إلي 9، من السورة 32: السجدة. [19] ـ يقول في «مجمع البحرين»: «وَ لَقَدْ خَلَقَنَا الاْءِنسَـ'نَ مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن طِين4، يعني آدم عليه السلام أُسلّ من طين. و يقال: سلّه من كلّ تربة. و مِن في الموضعين للابتداء، و السلالة: الخُلاصة لانّها تُسَلُّ من الكدر. و يكنّني بها الولد. و السلالة: النطفة أو ما ينسلّ من الشيء القليل. و كذلك الفُعالة نحو الفُضالة و النُخامة و القُلامة و نحو ذلك، و سُلالة الوصيّين: أولادهم. [20] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 16، ص 263. [21] ـ خلاصة و حاصل المطالب الواردة في كتاب «خلقت انسان» ص 118 إلي 120، و البحث و التوضيح الاءضافيّ ص 201 و 202. [22] ـ «خلقت انسان» ص 118 إلي رقم 121، و ترجمة عبارته بهذا الشكل: ثمّ جعله من سلالة من ماء مهين. [23] ـ «خلقت انسان» ص 119؛ و «تكامل در قرآن» ص 33. [24] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 16، ص 263. [25] ـ الآيات 12 إلي 14، من السورة 23: المؤمنون. [26] ـ الآيتان 7 و 8، من السورة 32: السجدة. [27] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 15، ص 19 و 20، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة ـ قم المقدّسة. [28] ـ «تكامل در قرآن» ص 44. [29] ـ «خلقت انسان» ص 140 إلي 143. [30] ـ يقول في ص 142 من كتاب «خلقت انسان»: رابعاً: الجملة في آخر الآية 12 (... في قرار مكين) تشير إلي أنّ مفهومها، و مِنْ ثَمّ مقصود تمام الآية، كلّيّ و عامّ و غير ناظر إلي موضوع منحصر و خاصّ، مثل رحم الاُمّ كما تصوّر بعض المفسّرين، إذ لو كان المقصود من الصفة و الموصوف في «قرار مكين» هو رحم الاُمّ و كان له اختصاص لصار معرّفاً بألف و لام أو بأدوات التعريف الاُخري، أو الاستخدام بدل تلكم الكلمتين المذكورتين أسماء صريحة كالارحام و البطون (كما استعمل في الآيات الاُخري)، لكنّ كلمة «قرار» قد استعملت نكرة و وُصفت بصفة «مكين» فهي تدلّ علي عناية خاصّة لا يمكن إلاّ أن تكون لتعميم مفهوم الجملة المذكورة بالمكان المساعد لتنمية النطفة في جميع الموجودات ذات النطفة ـ انتهي. و يجب القول في جوابه: أوّلاً: إنّ تفسير قَرَارٍ مَّكِين برحم الاُمّ هو عقيدة جميع المفسّرين لا مجرّد تصوّر بعضهم. و ثانياً: إنّ مجيء «قرار» نكرة و كذلك عدم استعمال أرحام و بطون، ليس لها أيّة دلالة علي مقولته. و ثالثاً: لقد وردت عين عبارة «قرار مكين» في موضع آخر من القرآن ـ الآيتان 20 و 21 من السورة 77: المرسلات ـ حيث يقول 5 أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَـ'هُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ؛ و المراد من الماء المهين هنا النطفد بلا شكّ، و المراد من القرار المكين رحم الاُمّ، لانّ خطاب الآية كان للناس، و الخطاب يجب أن يكون ـ خاصّة إذا كان بصورة الاستفهام التقريريّ الذي هو مورد الكلام ـ بشكل يكون بتمام معناه قابلاً لفهم المخاطب و دركه. و من المعلوم أنّه لو افترض أنّ ابتداء خلق الاءنسان كان الحمأ المسنون و المستنقعات و المياه الضحلة الآسنة، و افترض أنّ القرار المكين هو محلّ وقوع النطفة في جميع الحيوانات و الانواع قبل ظهور الاءنسان، فكيف يصبح هذا المعني الذي هو مورد شكّ و شبهة و إنكار الخواصّ و العلماء أمراً بديهيّاً واضحاً بيّناً لعامّة الناس بشكل يمكن معه أن يخاطبهم الله بنحو الاستفهام التقريريّ ( أَلَمْ نَخْلُقُكُّم.... فَجَعَلْنَـ'هُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ) و يدعوهم للاءقرار و الاعتراف؟! و علي هذا، فينبغي أن يكون معني ماء مهين و قرار مكين واضحاً للعامّة. و لم يكن في أفهام العموم في هذا الخطاب غير خصوص نطفة الرجل و خصوص رحم المأة؛ و لانَّ القُراَنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضَاً فنعلم بقرينة مدلول هذه الآية أنّ ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، أي رحم الاُمّ لا أرحام القرود علي رأي داروين، و الانواع السابقة لسلسلة الحلقة المفقودة علي رأي المؤلّف المذكور. و رابعاً: إنّه أخذ معني ثمّ دالاً علي التراخي بفواصل زمانيّة مديدة تمتدّ لملايين السنين، و أورد علي أساسها آية ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ كشاهد علي نظريّة تغيّر الانواع. و نسأله: ما تقولون في آية أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَـ'هُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ التي لم يرد فيها لفظ ثمّ؟ و حاصل الامر أنّه لا يمكن الاستفادة من هذه الادّلة الواهية التي يمكن اكتشاف نواقص م تحصي فيها من جهة اللغة العربيّة في تفسير الآيات القرآنيّة، هذا و أنّ لثمّ وا لفاء معانٍ أُخري. قال العلاّمة قدس اللهس رّه في «الميزان» ج 15، ص 19 بشأن ثمّ وا لفاء في الآيتين 13 و 14، من السورة 23: المؤمنون: ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلْقَنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـ'مًا فَكَسَوْنَا الْعِظَـ'مَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـ'هُ خَلْقًا ءَاخَرَ، هذه الآيات التي هي مدار بحثنا: و قد قيل في اختلاف كلمة ثمّ و الفاء في هذه الآيات إنّ الاشياء التي تُعطف ب ثمّ بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله: ثُمَّ جَعَلْنَـ'هُ نُطْفَةً ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ثُمَّ أَنشَأْنَـ'هُ خَلْقًا ءَاخَرَ. و ما لم يكن بتلك البينونيّة و البعد عطف بالغاء، كقوله: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـ'مًا فَكَسَوْنَا الْعِظَـ'مَ لَحْمًا. [31] ـ الآية 1، من السورة 4: النساء. [32] ـ الآية 6، من السورة 39: الزمر. [33] ـ الآية 27، من السورة 7: الاعراف. [34] ـ الآية 27، من السورة 7: الاعراف. [35] ـ الآية 30، من السورة 2: البقرة. [36] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 4، ص 149 و 150. |
|
|