|
|
الصفحة السابقةأخطأ كتاب «خلقت انسان» في الاستناد إلي آيات القرآنالإشكال الرابع: قولكم: إنّ الاستناد إلي الآيات القرآنيئة مثّل محور رأينا في كتاب «خلقت إنسان»، و علي هذا فإن لم تستطع شواها و أدلّة علوم الحياة أن تصمد في إثبات مسألة التكامل و الانشعاب التدريجيّ للموجودات، فلن يشكّل ذلك خللاً في ما كتبنا و بحثنا في الكتاب المذكور. و الجواب: إنّ أهمّ نقاط الخلل و الإشكال في كتابكم هو هذا الاستدلال بالآيات و ليس القمس الاوّل من الكتاب الذي أوردتم فيه الشواهد و الامثلة؛ فقد تمثّل إشكال القسم الاوّل في أنّ كلّما أوردتم من شواهد فق كان بخصوص تحوّل و تكامل النوع، و في تطوّر و اختلاف حالات النوع ضمن النوع نفسه. محاولين أن تسنتجوا لتغيّر من هذا التطوّر. و لم نفهم كيف يعطي هذا البحث في التطوّر نتيجة التغيّر و التبدّل؟ أمّا بحثكم في الآيات القرآنيّة فقد لفّه الاضطراب و التشويش، و كان واهياً من جهة فنّ التفسير، و لا تخلو استدلالالته و عباراته من هفوات، و قد جري في هذا البحث البيان الاستدلاليّ لقسم من تلك الاخطاء و الهفوات من الإشارة إلي مواقع الخلط و مواضع الخطأ. و أمّا استدلالكم بالآية المباركة: إِنَّ اللَهَ اصْطَفَي ءَادَمَ وَ نُوحًا وَ ءَالَ إبراهِيمَ وَ ءَالَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَـ'لَمِينَ، [1] بهذا التقريب: أنّ الاصطفاء هو انتخاب الشيخ الجيّد و المرغوب أنّ الاصطفاء هو انتخاب الشيء الجيّد وا لمرغوب، و هذا الانتخاب يصدق حين يكون هناك جماعة يتمّ من خلالهم اختيار و اصطفاء المنتخب الافضل و الاشرف، كما اختار الله نوحاً و آل عمران آل ابراهيم من بين أقوامهم. و يستلزم هذا أن يكون مع آدم قوم غيره ليصطفيه الله و ينتخبه من بينهم و يؤثره و يفضّله عليهم، و لا يمكن أن يكون أولئك القوم غير البشر البدائيين الذين سبقوا عصر آدم ممّن لم يجهّزوا بحهاز العل، حيث انتخب آدم من بينهم فصار مجهّزاً بجهاز العقل، حيث انتخب آدم من بينهم فصار مجهزّاً بجهاز العقل الكامل. و جوابه هو ما ذكره الاُستاذ قدئس سرّه؛ و هو أنّ العالمين في الآية جمع محلّي باللام، و هو يفيد العموم و يصدق علي عامّة البشر إلي يوم القيامد، فهم مصطفون علي جميع المعاصرين لهم و الجائين بعدهم، كمثل قوله: وَ مَا أَرْسَلْنَـ'كَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَلَمِينَ. [2] فما المانع من كون آدم مصطفي مختاراً من بين أولاده ما خلا المذكورين منهم في الآية؟ و علي تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين و عليهم، فما هو المانع من كونه مصطفي مختاراً من بين أولاده المعاصرين له؟ و لا دلالة علي أنّ اصطفاء آدم أوّل خلقته قبل ولادة أولاده. علي أنّ اصطفاء آدم لو كان علي الإنسان الاوّليّ كما يذكره المستدّل، كان ذلك بما أنّه مجهّز بالعقل، و كان ذك مشتركاً بينه و بين بني آدم جميعاً علي الإنسان الاُوّليّ، فكان تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصِيصاً من غير مُخَصِّص». [3] الردّ الواهي لمؤلّف كتاب «خلقت انسان» علي الاُستاذ العلاّمةو قد ردّ مؤلّف كتاب «خلقت إنسان» فقال: «إذا كان المفهوم من عموميّة كلمة العالمين لتحليتها باللام هو إطلاقها علي الجائين أيضاً، و اعتبار آدم مصطفي علي جميع الجائين، غير الافراد الذين وردت أسماؤهم في الآية لاستلزم أن يكون جميع الافراد الذين ذكروا بالاسم أو بلفظ آل في الآية لم يكونوا في مرتبة واحدة، فلا يمكن تعميم مسألة الاصطفاء علي أزمنة غير أزمنتهم، لانّ القاعدة أن يُصطفي الافضل من بين الآخرين. و باعتبار اصطفاء هؤلاء ألانبياء جميعاً، فينبغي أن يكونوا إذن في مرتبة و درجة واحدة؛ لكنّ هؤلاء الرسل الإلهيّين لم يكونوا ـ للادلّة التي سترد آنفاً ـ في مقام واحد، فلا يمكن اعتبار اصطفائهم كائناً في زمن غير زمانهم و في شريعد غير شرائعهم. ثمّ شرع بعد هذا الكلام في الفقرتين ب و ج بإثبات أفضليّة بعض الانبياء علي آدم بالدليل العقليّ و حسب الآيات القرآنيّة». [4] و لعلّ الإجابة علي كلامه من البساطة للحدّ الذي ربّما سهل علي الاطفال دركها؛ فحين نختار و ننتقي عدّة أشياء من بين أشياء مختلفة؛ فإنّ هذا الاختيار لا يستلزم أن تكون هذه الاشياء المنتخبة متماثلة و في نفس الرتبة؛ و إذا ما اختار مدير مدرسة يوماً من بين صفّ معيّن عدد من الطّلاب الممتازين، فإنّ اختياره لا يستلزم أن يكونوا جميعهم في الدرجة نفسها؛ و لو انتقي معلّم روضة أطفال يوماً للاطفال مجموعة لعب خاصّة من بين الدُّمي و اللعب، فلن يتوجّب من ذلك أن تكون تلك اللعب متساوية و متماثلة في المرغوبيّة؛ و إذا ما نتقي الفلاّح يوماً من جنينة الفواكه مجموعة من ثمار الكمّثري و الخوخ و الإجّاص، فنضّدها في طبق و قدّمها لصاحب الجنينة، فإنّ ذلك لا يستدعي أن يكون لهذه الثمار المنتقاة نفس الشكل، و نفس الخاصيّة و الطعم و القيمة؛ و لو انتخب حاكم ما يوماً من بين وزراء و مدراء و موظّفي قسم معيّن جماعة، فإنّ ذلك لا يستلزم أن يكون المنتخب منهم وزيراً في مرحلة، و اختيار مدير في مرحلة أُخري، و اصطفاء موظّف في مرحلة ثالثة لا علاقة لكلّ منها بالآخر بالرغم من اجتماع هؤلاء و اشتراكهم في معني الاصطفاء و الانتخاب. ثمّ أردف المؤلّف في الفقرة د لتأكيد مقولته: «و إذا ما وسّعنا مفهوم كلمة العالمين لتحليتها باللام، و اعتبرناها ناظرة لجميع أدوار البشريّة، أفيمكننا إنكار أنّ نوحاً و كلاّ من أنبياء آل إبراهيم و آل عمران قد اصطفوا في زمانهم من بين قومهم الذين شاكلوهم في الجسم؟ فإن كان ذلك حقّاً فكيف نستنبط معني آخر من الآية التي ذكرت آدم كرديف لسائر الانبياء بغير أن تذكر لن استثناءً و اختصاصاً، فنعتبره مخلوقاً من غير أب و أُمّ، و نعتبر اصطفاءه من بين البشر الذين سيجيئون فيما بعد؟». [5] و جوابه: أنّنا لم نستفد مسألة خلق آدم من غير أب و أُمّ من آية الاصطفاء في القرآن الكريم: إِنَّ اللَهَ اصْطَفَي ءَادَمَ وَ نُوحًا وَ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَ ءَالَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَـ'لَمِينَ. [6] فلقد ذكرت آيات أُخري هذا المعني و تكفّلت بإثباته، و قد أوردناها بالتفصيل، كآية: إِنَّ مَثَلَ عِيَسي عِندَ اللَهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ و مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ و كُن فَيَكُونُ. [7] أمّا معني الاصطفاء في آية الاصطفاء فهو واحد لجميع المذكورين فيها، أي آدم و نوح و آل إبراهيم و آل عمران، و كان ذلك هو الانتخاب و الاختيار من جهة النبوّة الممتازة و علوّ درجة الرسالة و المقامات التوحيديّة و غير ذلك. فأين هو سعي الاُستاذ قدّس الله سرّه لإثبات خلق آدم بغير أب و أُمّ اعتماداً علي آية الاصطفاء، لتحاولوا منع هذا الإثبات و إبطاله؟ فهذا المعني للاصطفاء (أي الخلق بغير أب و أُمّ) قد كان هنا من بنات أفكاركم، اختلقتموه من عند أنفسكم ثمّ عدتم فتعثرتم به و أشكلتم عليه!! إنّ التردّد و الإشكال الاهمّ الذي يمسك بتلابيب مؤلّف الكتاب المذكور فلا يملك منهم ناصاً هو إقراره بعَلَميّة لفظ آدم، حيث صرّح بذلك في مواضع عدّة من كتابه، أي أنّ لفظ ادم يمثّل الاسم الخاص لجدّ بني آدم، أي أبي البشر، و أنّ هذا الاصطفاء و الانتخاب في هذه الآية يرجع إلي نفس هذا الشخص المعيّن الخارجيّ أيضاً، و يصرّح بأنّ آية الاصطفاء و سائر الآيات الواردة في خصوص آدم ترجع إلي انتخاب هذا الفرد من بين جميع أمثاله في النوع ممّن عاصروه في ذلك الوقت و المفتقرين إلي جهاز العقل و الإدراك، حيث اختار الله تعالي من بين هذه الحيوانات، أو البشر فاقدي العقل و الإدراك فرداً بشراً؛ أي يمتلك بشرة و لا يكسو جسمه الشعر و ليس له ذنب أو قرون؛ فسمّاه آدم و خلع عليه خلعة العقل و الإدراك، و متّعه بمقام الاصطفاء و الانتخاب، فصار أولاده بعد ذلك بني آدم و سُمّوا بالبشر. و نقول هنا: تبعاً لنظريّة النشوء و الارتقاء و الانتخاب الطبيعيّ، فإنّ لفظ آدم بعنوان الاسم الخاصّ و العلم الشخصيّ لا معني له و لا معقوليّة بشكل كلّيّ؛ فأمّا أن تقولوا بآدم النوعيّ؛ أي أنّ المراد بآدم في القرآن نوع الإنسان، السابقون منهم و اللاحقون؛ في حين أنّكم لا تقولون بهذا المعني، [8] و قد رفض الاُستاذ العلاّمة قدّس الله نفسه في تفسيره مسألة اعتبار آدم نوعيّاً، وا عتبره يمثّل اسماً لفرد معيّن محدّد؛ أو أن تنصرفوا ـ في حال التزامكم بآدم الشخصيّ طبق آيات القرآن ـ عن نظريّة التبدّل في الانواع و تقولوا بخلق آدم الدفعيّ و الإعجازيّ من الطين. فالإشكال يتمثّل في أنّ عمر الإنسان حسب نظريّة الخلق الدفعيّ لا يتجاوز عدّة آلاف من السنين، لكنّ عمر العالم حسب نظريّة التكامل في الانواع ينبغي أن يزيد علي مئات الملايين من السنين، فقد قال البعض: إنّ الحياة بدأت علي ظهر البسيطة قبل مائتي مليون سنة، و قال آخرون: قبل ثلاثمائة، و أربعمائة، و حتّي ثمانمائة مليون سنة. إذ يجب مرور ملايين السنين ـ طبقاً للانتخاب الطبيعيّ ـ ليتبدّل نوع إلي نوع آخر؛ فعمليّة التغيّر تحدث في رأي علوم الحياة بشكل بطيء و تدريجيّ، إلي الحدّ الذي يستغرق تبدّل و تغيّر جزئيّ في نوع ما ضمن نفس النوع ـ كتبدّل بعض الاصابع، أو اختفاء أرجل الحرباء ـ ألفاً أو آلافاً من السنين. و قد ظلّ داروين قلقاً بعد تقديمه فرضيّته في أنّ عمر الدنيا ثلاثمائة مليون سنة، لانّ هذا المقدار إن لم يثبت فإنّ فرضيّته ستفقد أثرها و قيمتها، لذا فقد سُرّ أيّما سرور عندما ثبت اعتماداً علي تقدير عمر النظائر المشعّة في أعماق الصخور أنّ عمر الدنيا يزيد علي هذا المقدار. و تبعاً لهذه النظريّة [9] فإنّ الفترة الزمنيّة لتبدّل إنسان غير عاقل إلي بشر عاقل و مدرك بصورته الفعليّة ستستغرق مليون سنة، ليمكن خلالها لهذا الإنسان المفكّر أن ينفصل عن الإنسان فاقد العقل. و بناء علي عقيدة داروين في أنّ النوع الذي سبق الإنسان كان هو القرد، و علي عقيدة الآخرين في أنّه يمثّل الحلقة المفقودة؛ فإنّ زمان التحوّل يجب أن يمتدّ بالقدر الذي يتطلّبه تحوّل قرد نحاول اليوم ـ علي سبيل المثال ـ أن نصيّره إنساناً. و علي هذا فإنّ القول بآدم الشخصيّ، و بانتخاب فرد خاصّ و وضع تاج و عَلَّمَ ءَادَمَ الاْسْمَاءَ كُلَّهَا علي رأسه غير معقول أبداً وفق هذه النظريّة، و ذلك ممّا يستلزم مضافاً إلي ما سبق أن نعتبر قصّة آدم و حوّاء و خلقهما في جنّة الاستعداد، و أمر الملائكة بالسجود لآدم، و عصيان إبليس، و سلطانه علي بني آدم، و إخراج آدم و زوجه من الجنّة، و ما إلي ذلك من الخصوصيّات التي بيّنها القرآن الكريم؛ فتصبح مجرّد قضايا تمثيليّة و أساطير خياليّة قد ذُكرت لبيان المطلب و تقريبه، و هو خلاف منحي التفسير و منهجه. ثمّ ما يدرينا أنّ بقيّة القصص القرآنيّة ليست من هذا القبيل؟ يضاف إلي ذلك أنّنا إذا رفعنا اليد عن ظهورات القرآن، بل عن نصوصه في هذه الموارد، بالرغم من استغراقها للقسم الاعظم من الآيات، فإنّ ظهور سائر الآيات في معانيها سيزول، و ستبطل حجّيّة القرآن في بيان و إفادة معانيه و مفاهيمه؛ و خلاصة الامر فإنّ هذا الكتاب المبين المتين الإلهيّ الذي ينبغي الاستفادة من كلّ كلمة منه سيصبح كتاب لغو لا ثمرة فيه و لا فائدة. و حاشا أن يؤول إلي هذا الوضع و يظهر بهذه الكيفيّد كتاب الله القويم و حجّته علي البشر إلي يوم القيامة، و أحد الثَّقَلَيْنِ المتبقّيين عن رسول الله، و كتابٌ هو الفصل و ليس بالهزل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و من خلفه. كان هذا بحثنا حول الآيات القرآنيّة الكريمة، و علمنا بحمدالله أنّه يعطي نتيجة تخالف عقيدة كتاب «خلقت انسان» ( = خلق الإنسان). حصول التحريف في التوراة، لكنّها ليست بالكامل محرّفةو أمّا تصريحه في موضعين من كتابه أنّ: القول بخلق آدم دفعة واحدة من الطين إنّما هو من أساطير و خرافات الاوّلين، و من مطالب التوراة المحرّفة التي لا يمكن الوثوق بها و الركون إليها؛ فيجدر بنا أن نورد عين عبارته التي ذكرها في مقدّمة كتابه قبل تفصيل البحث بشأنها. فهو يقول: «إنّ مطالب التوراة، مع كلّ التحريف الذي لزمها، تظهر أحياناً في قالب المعتقدات الدينيّة لسائر الاديان، و من جملتها، فإنّ التعبيرات المختلفة لهذا الكتاب لم تخلُ من تأثير في تفسير آيات القرآن، و من ثَمَّ فِي العقائد الإسلاميّة. فمع ما في القرآن الكريم من بيانات واضحة و محكمة في آيات عديدة حول خلق الإنسان، لكنّ بعض المفسّرين قد ذكروا تعبيرات تقارب مطالب التوراة حول نشأة آدم متأثّرين بالتلقين الحاصل من الإسرائيليّات المتبقيّة، دون الالتفات إلي مفهوم الكلمات و معاني الآيات، كاعتبارهم نوع البشر من نسل آدم، و قولهم إنّ آدم هو مخلوق متميّز و مستقلّ عن جميع الموجودات الحيّة الاُخري، فقد أظهروا في بياناتهم أنّ الله صنع هيكلاً من طين، ثمّ نفخ فيه فخلق منه آدم أبا البشر. و لقد كان رواج و شيوع تعبيرات كهذه عن آيات القرآن للحدّ الذي لم يستطع حتّي المفسّرون الجدد ـ عدا قلائل منهم ممّن يمتلكون اطّلاعاً علي العلوم الحديثة و يتحلّون بذهنيّة منفتحة لاكتساب الحقائق ـ أن يبقوا بمعزل عن التعبيرات القديمة، و أن يبيّنوا و يفسّروا آيات الكتاب الإلهيّ بنظر أوسع و أرحب و بدون رأي مسبق، بعيداً عن الخواطر التلقينيّة و الموروثة». [10] و لقد خبط المؤلّف فيما نقلناه عنه خطب عشواء، إذ لم تنحصر أخطاؤه و هفواته في كلّ سطر من كلامه، بل تعدّت ذلك إلي كلّ عبارة و جملة: فَأوَلاً: إنّ كتاب التوراة من الكتب السماويّة النازلة علي موسي، علي نبيّنا و آله و عليه السلام، و كلّه صحيح و مبارك عدا موارد تُعدّ علي الاصابع جري تحريفها و تغييرها، و هي موارد مشخّصة و معيّنة، أوّلها المطالب المخالفة للعقل المستقلّ، لانّها تنسب الخطأ إلي الله، و تحكي غلبة الشيطان علي الله في خلق آدم، لانّه بيّن لآدم ما أراد الله إخفاءه عنه، [11] و أمثال ذلك. و ثانيها المطالب التي وردت في القرآن الكريم و أشارت إلي بعض مطالب التوراة المحرّفة، و ما خلا ذلك فإنّ جميع مطالب التوراة حقّ و صدق و نور، و ما ورد فيها موافقاً للقرآن الكريم مثل أصل نشوء آدم من الطين فكلّه صحيح و صواب. فالقرآن الكريم يعدّ التوراة حكم الله و هدي و نور يحكم بها النبيّون: وَ كَيْفَ يُحَكِّمُوكَ وَ عِندَهُمُ التَوْرَ'ي'ةُ فِيهَا حُكْمُ اللَهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَ'لِكَ وَ مَآ أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّور'ي'ةَ فِيهَا هُدًي وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الاْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَـ'بِ اللَهِ وَ كَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنَ وَ لاَ تَشْتَرُوا بِـَايَـ'تِي ثَمَنًا وَ مَن لَّمْ يَحْكُ بِمَآ أَنزَلَ اللَهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَـ'فِرُونَ. [12] و نلحظ في هذه الآيات مدي القيمة التي عدّها الله سبحانه للتوراد و ذمّ مخالفيها؛ ثمّ يقول سبحانه بعد بيان عدّة آيات: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّورَ'نَةَ وَ الإنْجِيلَ وَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَ مِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّـِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِّنهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ. [13] ثمّ يأمر سبحانه نبيّه الكريم بعد تلك الآية أن يخاطب أهل الكتاب: قُل يَـ'أَهْلَ الْكِتَـ'بِ لَسْتُمو عَلَي شَيْءٍ حَتَّي تُقِيمُوا التَّورَ'ب'ةَ وَ الإنْجِيلَ وَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُم وَ لَيَزِيدَنَّ كَثيرًا مِّنهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغيَـنًا وَ كُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَي القَوْمِ الْكَـ'فِرِينَ. [14] و ثانياً: لقد قلتم إنّ بعض المفسّرين ـ تبعاً لتلقين الاسرائيليّات ـ كانوا يقولون بصنع مثال آدم من الطين؛ ثمّ قلتم: إنّ رواج و شيوع تعبيرات كهذه عن آيات القرآن كان للحدّ الذي عجز حتّي المفسّرون الجدد ـ عدا عدّة منهم ممّن يمتلكون اطّلاعاً علي العلوم الحديثة و يتحلّون بذهنيّة منفتحة لاكتساب الحقائق ـ أن يبقوا بمعزل عن التعبيرات القديمة. و ينبغي الإشارة هنا إلي التناقض الصريح في كلامكم ففي قولكم، أوّلاً: بعض المفسّرين، ثمّ إضافتكم ثانياً بأنّ ذلك شاع حتّي لم يبقَ إلاّ قليل من الفسّرين الجدد بمعزل و منجي منه. و مضافاً إلي ذلك فإنّ جميع المفسّرين الجدد و القدماء ممّن يمتلكون مقاماً في التفسير و يصحّ إطلاق اسم المفسّر عليهم يقولون بخلق آدم من الطين دفعة واحدة؛ ولدي الحقير حاليّاً ما يقرب من خمسين دورة تفسير من الشيعة و العامّة من صدر الإسلام و حتّي الآن لم نعثر في شيء منها علي قائل بخلق آدم من أب و أُمّ و إمضاء لقول تبدّل الانواع. أمّا المفسّرون الجدد الذين ذكرتموهم و قلتم إنّهم يمتلكون اطّلاعاً علي العلوم الحديثة فليتكم أشرتم إليهم بأسمائهم. و بغضّ النظر عن ذلك فإنّ هناك الآن من يمتلكون اطّلاعاً واسعاً علي العلوم الحديثة و لهم أيضاً اليد الطولي و الباع الطويل في تفسير القرآن بحيث يصحّ إطلاق لقب مفسّر لكلّ منهم، لكنّهم يرفضون مع ذلك فرضيّة تبدّل الانواع و يعتبرون البحث عنها أُلعوبة في يد القاصرين، و يعتقدون جادّين بإعجاز الخلق الدفعيّ لآدم، أي ما ندعوهم اليوم ب فيكسيزم مائة في المائة لا ترانسفورميزم. ثالثاً: لقد عددتم القائلين بإعجاز خلق آدم استدلالاً من الكتاب الإلهيّ من وارثي خواطر التلقين و التعبيرات الموروثة، فكيف لم تعدّوا أنفسكم و مَن شارككم هذا النهج هذا النهج من مولودي خواطر التلقين و الإلقاء، و من وارثي الفرضيّات و النظريّات الفعليّة، مع أنّها لا تمثّل إلاّ و هماً و حدساً و ظنّاً. رابعاً: لقد صرّحتم أنّ التوراة قد ظهرت في قالب العقائد الدينيّة لسائر الاديان، و أنّ التعبيرات المختلفة لهذا الكتاب لم تخلُ من تأثير في تفسير آيات القرآن، و من ثَمَّ في العقائد الإسلاميّة. إنّ تفاسيرنا للقرآن بشأن خلق آدم قد اعتمدت علي ما جاء في صدر الإسلام، كما ورد عن أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام و تلميذه البارع في التفسير ابن عبّاس و سعيد بن جبير و أمثالهم، لذا فإن لم نقل تحقيقاً إنّ هذا التفسير كان مؤثّراً في التوراة و أُسلوبها التفسيريّ، فلا يمكننا القول إنّ مطالب التوراة قد تركت تأثيراً في الاُسلوب التفسيريّ للقرآن الكريم، و ليست الروايات الواردة في التفسير منحصرة بكعب الاحبار و أبي هريرة و عبدالله بن سلام ليمكن الطعن في أصالتهم و إيجاد الشكّ في تفسير حقائق القرآن. و خامساً: لقد قلتم: لقد ذكر بعض المفسّرين مع ذلك متأثّرين بما تبقّي في أذهانهم من تلقين الإسرائيليّات تعبيرات مقاربة لهذه المطالب حول نشأة آدم. معني الإسرائيليّات و إقحام مقولة خلق آدم من الطين دفعةً واحدة في التفسيرو نجد أنفسنا مجبرين هنا علي بيان معني الإسرائيليّات ليتّضح من ذلك أن لا علاقة و لا راطبة أبداً للروايات الواردة في التفسير و لا لاستناد المفسّرين في المنهج التفسيريّ بالإسرائيليّات، حيث إنّ تعبير إسرائيليّ بالخصوص قد أُسيّ إستخدامه هنا. تُطلق الإسرائيليّات علي الروايات التي رواتها من اليهود الذين اختاروا الانضمام إلي الإسلام، و يشاهد ضمن رواياتهم في تفسير القرآن، أو في الاحكام و العقائد مطالب تطابق ما جاء في العهد القديم للتوراة من قصص الانبياء و تخالف مدلول القرآن أو الاحاديث الصحيحة المسندة المطابقة لحكايات التوراة و أحكامها عن اليهود و تمسّكوا بها لفهم و تفسير بعض آيات القرآن المستعصية عليهم، ثمّ نسبوا هذه الروايات كذباً و افتراءً إلي النبيّ الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم أو إلي أحد الائمّة عليهم السلام، لتكون مقبولة لعامّة المسلمين و المعتقدين بالقرآن. و ينبغي ـ بناء علي هذا ـ أن يكون رواة هذه الروايات إمّا من أهل السنّة الذين افتقدوا المنبع الصحيح للتفسير و لم يكن ماء معين الولاية في متناول أيديهم، فرأوا أيديهم خالية في التفسير، و أُجبروا ـ كي لا يتخلّفوا عن جمع المفسّرين و المحدّثين و المؤرّخين ـ أن يتطاولوا بهذه الانحرافات؛ أو من أهل الكذب و الجعل و الدّس و الوضع الذين اختلقوا رواية و نسبوها إلي مصدر الوحي أو إلي المعصوم، فهم يروون الرواية في! هذه الحال إمّا بلا واسطة، أو يختلفون لها حسب رأيهم وسائط من المعتبرين و الموثّقين و ينسبون سلسلة الرواية افتراءً بذكر الاسم و اللقب و الاشخاص. ارجاعات [1] ـ الآية 33، من السورة 3: آل عمران. [2] ـ الآية 107، من السورة 21: الانبياء. [3] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 16، ص 273 و 274. [4] ـ كتاب «خلقت انسان»، البحث و التوضيح الاءضافيّ، ص 195 و 196! [5] ـ كتاب «خلقت انسان» ص 196 و 197، البحث و التوضيح الاءضافيّ. [6] ـ الآية 33، من السورة 3: آل عمران. [7] ـ الآية 59، من السورة 3: آل عمران. [8] ـ «خلقت انسان» ص 105. [9] ـ و يرد عين هذا الاءشكال علي مؤلّف كتاب «تكامل در قرآن (= التكامل في القرآن). [10] ـ «خلقت انسان» ص 1 و 2، المقدّمة. و يقول كذلك في متن الكتاب ص 102: لقد كرّر أغلب الاءسلاميّين هذه الاساطير القديمة حول خلق الاءنسان تبعاً للمخلّفات الذهنيّة التي امتلكوها بلا وعي من تلقين الاءسرائيليّات، حاتّي أنّ مفسّري القرآن الاجلاّء الذين عُدّوا من مفاخر العالم الاءسلاميّ؛ لعدم وقوفهم علي حقائق الهيكل التشريحيّ للموجودات الحيّة و الاُسس التي انطوت عليها خلقتها، أو لعدم توافر الفرص لديهم لمناقشة و بحث مثل هذه المسائل العلميّة؛ قد عدّوا النوع الاءنسانيّ من نسل آدم، و اعتبروا آدم مخلوقاً مستقلاً لا نظير له في جميع الكائنات الحيّة. و يقول كذلك في ص 189 في البحث و التوضيح الاءضافيّ؛ و يلاحظ مع ذلك أنّهم ـ انطلاقاً من الرواسب الذهنيّة القديمة التي لم تكن لتخلو من المختلقات الاءسرائيليّات ـ قد اعتبروا خلق آدم دفعيّاً بشكل مثال من الطين ثمّ بنفخ روح الحياد فيه، و عدّوه أوّل سلسلة البشر، أو أبا البشر. انتهي. [11] ـ تبيّن التوراة بشأن علّة إخراج آدم من الجنّة نظريّة تخالف النظريّة القرآنيّة تماماً، فالقرآن يعدّ الله مصلحاً و الشيطان ماكراً، في حين تعدّهما التوراة عكس ذلك، و هذا ما يدعو للتعجّب، فكيف يقدّم هادٍ للبشر كالتوراة باسم العقيدة خالق العالم علي أنّه ماكر و محتال؟! يقول القرآن الكريم إنّ الشيطان قد خدع آدم بقوله إنّك إن أكلت من هذه الشجرة لكنتَ من الخالدين في الجنّة، في حين لم تكن الحقيقة كذلك؛ فالله سبحانه قبل أن يأمر الشيطان بالسجود لآدم فقد أعطي آدم العلم و المعرفة: وَ عَلَّمَ ءَادَمَ الاْسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَئِكَةِ؛ بل إنّ تلك الشجرة، حسب العقائد الاءسلاميّة، كانت شجرة سيّئة، كشجرة الحسد و البخل و الحقد، فحين أطاع آدم الشيطان فأكل من تلك الشجرة صار موجوداً مادّيّاً يعتريه الحسد و البخل و الحقد، فأُبعد عنا لجنّة محلّ المنزّهين. (يقول في الآيات 115 إلي 121، من السورة 20: طه): وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلزي ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ و عَزْمًا * وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ فَسَجَدُو´ا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَي' * فَقُلْنَا يَـ'ادَمُ إِنَّ هَـ'ذَا عَدُوُّ لَّكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَي * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعُ فِيهَا وَ لاَ تَعورَي * وَ أَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَ لاَ تَضْحَي * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـ'نُ قَالَ يَـ'ادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلزي شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاَ يَبْلَي * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصَي ءَادَمُ رَبَّهُ و فَغَوَي. فالقرآن الكريم يعدّ الشجرة خبيثة، و يعدّ الشيطان الذي قال عن الشجرة إنّها شجرة الخلد كاذبا و عدوّاً لادم. لكنّ الامر في التوراة معكوس تماماً، فهي تقول إنّ الشجرة كانت شجرة المعرفة، و إنّ الله أراد لادم البقاء في الجنّة و لكن بلا علم واطّلاع، فدعي الشيطان آدم للاكل من شجرة المعرفة، فأكل منها و اكتسب العلم والمعرفة فشاهد نفسه عرياناً. فحسب كلام التوراة فقد كان الشيطان صادقاً و نصوحاً لآدم إذ هداه إلي الحقيقة و الوقائع لكنّ الله كان يريد إبقاء آدم بلا علم و معرفة فمنعه من الاكل من الشجرة. فالتوراة تقول إذن إنّ الله والدين يدعوان إلي الجمود و الخمول و عدم المعرفة و البصيرة، و يريدان إبقاء الاءنسان في قوقعة الجهل، و علي الاءنسان ـ لانتزاع نفسه من هذه القوقعة باكتساب المعرفة ـ أن يبتعد عن دائرة تعاليما لدين، لانّها جهل و عمي و مقرّرات تحجب ملامح الحقائق و الواقعيّات. لذا يمكن القول إنّ تعليمات التوراة هذه مثّلت الجناية الكبري بحقّ البشريّة، لانّها ساقت اليهود و المسيحيّين للتمرّد علي التعاليم الدينيّة. [12] ـ الآيتان 43 و 44، من السورة 5: المائدة. [13] ـ الآية 66، من السورة 5: المائدة. [14] ـ الآية 68، من السورة 5: المائدة. |
|
|