|
|
الصفحة السابقةالاءشكال الاوّل : علي الرغم من تكرار الكاتب في عدّة مواضع أنّ الشريعة كالطبيعة ثابتة لا تتغيّر ، وأنّ ما يخضع للتغيير هو فهم الاءنسان لهما ، وأنّ تغيـير الفـهم الحاصل وفق ضرورات البيـئة ونشـوء العـلوم والتفاعل سلباً وإيجاباً بين المعلومات السابقة والظواهر الفعليّة ، هو أمر حتميّ لا يمكن اجتنابه ؛ لكنّه مع ذلك يستنتج في مقام التفصيل والبيان أنّ مجموعة معارف الاءنسان في أيّ عصر ، من فهم العلوم الحديثة والاكتشافات المبتكرة والفلسفات العصريّة ، ينبغي أن تكون ميزان ومعيار فهم الاءنسان للقرآن والسنّة ، وأنّ ما فهمه واستنبطه والفقهاء والمفسّرون والمُحَدِّثون فصار عماد عملهم يجب تحديثه وفق الاُسلوب المعاصر ، ليخرج بأُسلوب يقرّه العصر ، مواكب للمدارس والاتّجاهات العصريّة التي تعرض نتائج علومها وتحقيقاتها . وحاصل الامر فإنّ علي العالم والمفسّر والفقيه أن لا يتّكل علي أمر تعبّديّ أبداً ، فيراعي في علمه وتفسيره وفتواه احتمال المراحل العالية والمنازل السامية التي لم ينلها ، أو يضع القرآن والسنّة والاءسلام علي محور الاُمور التعبّديّة ؛ فما اعتمد عليه العلم العصريّ ينبغي أن يصبح هو المرتكز لهذه الاُمور ، فذاك هو الاُسلوب الوحيد الكفيل بتقدّم الفقه والعلم .[4] وبناء علي هذا المنحي فلن يكون لدينا ثَمّة قرآن ولا سنّة ، ولا فقه ولا تفسير ، فإذا تقرّر إقحام العلوم البشريّة المتغيّرة في الغايات ( من العقائد والافكار والاخلاق والعمل ) فسنكون قد سلبنا إلي الابد من الدين والشريعة ثباتهما ، ومهما زعمنا بأ نّنا نعتبر الدين والشريعة محترمة وثابتة ، فإنّنا سنكون من الناحية العلميّة قد وضعنا مفاتحها بأيدينا ، فصرنا نحاول عند ظهور أيّ قانون ونظريّة أن نفسّرها ونقحم مستلزمات العصر في ثبات المذهب وأصالته ، وفي الحقيقة فإنّنا سنكون قد دققنا المسمار ليس في نعش الاءسلام وحده ، بل في نعوش جميع الشرائع . العلوم التجربيّة لايمكنها القضاء علي التعبّدوالسرّ في ذلك أنّ العلوم البشريّة مهما سمت وعلت وتكاملت فهي محدودة ومقيّدة ، إذ يمكن أن يأتي علم أعلي منها وأسمي فيهدم اليوم ما بناه بالامس . والشاهد علي هذا أنّ جميع العلوم التي تعاقبت الواحد تلو الآخر ، قد نسخ كلٌّ منها العلم الذي سبقه ؛ كلُّ علم له مريدوه الذين يعتقدون ـ أوان ظهوره وبزوغ نجمه أن لا علم أعلي منه وأسمي ، ويعجز من أراد إلزامهم وإقناعهم بغير ذلك ، لا نّه بذاته لم يصل إلي علم أعلي منه وأرقي ؛ أمّا حين يُشرف نجم ذلك العلم علي الغروب ليتواري خلف الاُفق ، ويظهر العلم الجديد الناسخ له ، فإنّ القديم سيعدّ في المسائل البالية الخرافيّة حتّي عند أصحابه وأنصاره . فالاءلكترون الذي يعدّ اليوم من بديهيّات علم الكيمياء والفيزياء هو من علومنا وشؤوننا نحن ، وفي يومنا هذا لا في غدنا . وغداً حين يتوصّل البشر إلي اكتشاف أدقّ وأعمق ، فينكر أصل تركيب الذرّات بهذه الكيفيّة ، ويزيح الستار لنا بالتجربة والاختبار عن عجائب أُخري من الذرّة ، عندها سنضحك علي أفكار يومنا المنصرم ، ونسخر من يقين وبرهان وإصرار أمسنا الغابر . إنّ الدين والشريعة الاءلهيّة الحقّة جاءت من عند الله تعالي بأصالتها وواقعيّتها ، ويقيناً أنّ تعبّديّاتها تفوق أوامرها ونواهيها البديهيّة بآلاف المرّات ؛ وليس للدين معني غير نزوله من جانب العلم المطلق علي الاءنسان والبشر ذي العلم النسبيّ ، والمرتقي يوماً بعد آخر من درجة القابليّة إلي الفعليّة ، وسيبقي البشر في هذا المستوي مهما استعان بالعلوم والمعارف التجريبيّة ؛ من ميكانيك وفيزياء وطبيعيّات ، ومن علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم طبقات الارض والنبات والحيوان ، وعلم الحياة والكيمياء المعدنيّة والآليّة ، والهيئة وغيرها ؛ قاصراً عن أن ينال بيده عالم الربوبيّة ، أو يحيط بأسرار الخلقة وخفاياها التي لاتحصي والمحيطة به من كلّ جانب ، وأن يزيح التعبّد عنه جانباً ، إلاّ أن نقول إنّنا قد فهمنا العالم المطلق واكتشفنا سرّه ولغزه ، وهو قول جزاف خاطي . فجميع حكماء الامس واليوم ما لبثوا غارقين في البحث الجادّ ، لكنّهم يعترفون في الوقت نفسه بأنّ أيديهم لم تغترف من العلم شيئاً ، وأ نّهم بعدُ لم يرتووا من بحور الاسرار والعلوم قطرة ! إنّ أوّل الاشياء التي تنكرها العلوم التجريبيّة الحاليّة هو وجود الملائكة ووجود الجنّ ، فهم ينكرونها لجهلهم بها وعدم توصّلهم لاءدراكها ، فيقولون : إنّنا لا نصدّق بشيء لانراه ولا نحسّه ، فإذا ما وُفّقت هذه العلوم التجريبيّة غداً لرؤيّة الملائكة والشياطين فيومئذٍ سيحصل لهؤلاء اليقين والاءقرار . الايمان بالغيب و بملائكة العالم العلوي شرط التقوي و الفلاحأمّا الحكماء الاءلهيّون والربّانيّون المطّلعون علي الحقائق والاسرار ، والعارفون بحريم قدس وأمان الله ، فلهم بيانات كالشمس الساطعة عن وجود الملائكة وأشكالهم وشمائلهم ووظائفهم وتكاليفهم ، وعن وجود الجنّ وأشكالهم وأصنافهم ، كلّ ذلك اعتماداً ومتابعة لآيات القرآن النازلة من المطّلع علي الغيب بخفيّه وجليّه . أفهل فقدنا رشدنا كي نعرض عن هذه الحقائق صفحاً ونقول بأ نّنا لا نعترف بالجنّ ، لانّ علم معرفة الجنّ لم يقرّر بعد في مناهج جامعات أُوروبّا وأمريكا ؟! إنّ التوغّل والتعمّق في العلوم المادّيّة إلي الحدّ الذي تعتبر المادّة عنده ـ مع جميع آثارها وخواصّها المدهشة أزليّة أبديّة ، ومن ثمّ إنكار العالَم العلويّ والملائكة والنور المطلق للخالق العالم الحكيم الواحد ذي الشعور المسيّر للعالم تحت هيمنته وإرادته ومشيئته الواحدة المباشرة ، ليس إلاّ عبادة للمادّة وعكوفاً في محرابها ؛ وعند الفلاسفة المادّيّين مدرسة في هذا الاتّجاه . ولقد كرّر الطبيعيّون السابقون ، ويكرّر الماديّون اليوم هذه المقولة ـ عبر مدرستهم واتّجاههم الفكريّ مقابل الاءلهيّين . لكنّ القرآن ، وهو الكتاب الحكيم المحكم ، ولسان الخالق الناطق الحكيم بلا واسطة ، يعتبر الاءيمان بالغيب شرطاً لليقين والفلاح : ال´م´ ذَ لِكَ الْكِتَـ'بُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًي لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَو'ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ'هُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاْخِرَةِ ( الفِناء الابديّ والعالَم العلويّ ، والجنّة والنار ، ونتيجة الاعمال ، والمثول في موقف القيامة ، والوقوف في محضر الحضرة الابديّة ، وطلوع جمال الحقّ وجلاله ، والملائكة والحور ، وملائكة العذاب ، و ... ) هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَـ'´نءِكَ عَلَي' هُدًي مِن رَّبِّهِمْ وَأُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .[5] فقد عدّ صراحة في هذه الآيات الاءيمانَ بالغيب والعالم العلويّ والآخرة والتعبّد المحض بما أنزل الله تعالي شرط السعادة الابديّة ، وعدّ بعدها مباشرة من لا يؤمنون بالغيب وبما أنزل الله كفّاراً ، وحكم عليهم بالختم علي القلوب والاسماع ، وبالغشاوة والحجاب علي الابصار ، وتوعّدهم بالعذاب الاليم : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَهُ عَلَي' قُلُوبِهِمْ وَعَلَي' سَمْعِهِمْ وَعَلَي'´ أَبْصَـ'رِهِمْ غِشَـ'وَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . [6] وكذلك فإنّ القرآن الكريم يعدّ من البرّ : الاءيمان بالملائكة والعالم العلويّ ، أي الاءيمان بيوم الجزاء : لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـ'كِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَـ'´نءِكَةِ وَالْكِتَـ'بِ وَالنَّبِيِّينَ .[7] ويعتبر إتقان وإحكام الكتاب الاءلهيّ في خلوده وأبديّته ، فمعانيه ومفاهيـمه تبـقي راسـخة لا يزعـزعـها هبـوب رياح الاءلحـاد والكـفر ، ولا عواصف الزندقة والشبهة ، ويبقي في منأي عن عبث أيدي الملحدين أن تغيّر فيه وتهدم ، وعن أن يستطيع الغبار المتكاثف وسُحُب النفوس الشيطانيّة الحالكة ووسوسة الاءنس أن تنثر علي طلعته المشعّة المنيرة هباء النسخ والبطلان . فمعني التصرّف في معاني الآيات القرآنيّة ورفع اليد عن ظهورها بلا قرينة يقينيّة نقليّة أو عقليّة هو الاجتهاد في أُصول الدين ، لا الاجتهاد في فروعه .[8] فالاجتهاد في أُصول الدين خطأ ، والاجتهاد في فروع الدين ينبغي أن لا يتخطّي الموازين الشرعيّة التي يختصّ بحملها الفقهاء . أمّا التصرّف في مفاهيم الآيات القرآنيّة علي أساس مناهج البحث وطرقه ، وعلي أساس مفاهيم الاءحياء والنهضة التي تستشمّ من المقالة المذكورة ، فليس فقط نسخاً للقرآن ، بل هو مسخ للقرآن .
ارجاعات [1] و من تلك الجهات ان بعض المطالب ورد في الثلث الاول من الكتاب مما له دور و اهمية في فهم المطالب الوارده في ثلثيه الاخيرين [2] ـ النصف الثاني من الآية 89 ، من السورة 16 : النحل . [3] ـ مجلّة «كيهان فرهنگي» (= العالم الثقافيّة) العدد 50 إلي 52 ، أُرديبهشت ماه 1367 وتير ماه 1367 شمسيّة ، رقم 2 ورقم 4 . [4] يُبطل المستشار عبد الحليم الجندي ـ أحد أركان المجلس الاعلي للشؤون الاءسلاميّة في مصر في كتابه القيّم «الاءمام جعفر الصادق» ص 294 و 295 ، هذا النوع من التفكّر والاعتقاد بعدّة جمل قصيرة ، حيث يقول : والي جوار المشاهدة الواقعيّة و التحقيق النزيه والاستخلاص الصادق- الذي هو مدار العلوم الاروبيّة الحديثة- يضيف الفقه الاسلاميّ ضمانا جديدا هو اعتبار الاجتهاد سعيا لبلوغ الحق؛ لا بلوغا له. فثمة عوامل اخري قد تكون موجودة، او قد يدركها عقل آخر فتجعله ادني الي السداد، او تجعله يصل الي السداد. و هذا الاحتمال الذي يلازم الاجتهاد يحتمل تداخل العناصر. فالنتائج نسبيّة حتي تقطع التجربة بانها لا تتخلف ابدا.. و هي في الفقه تبقي نسبيّة حتي تبلغ الحكم الذي شرّعه الشارع، فشرع الله هو الثابت، الذي يقصد المجتهدون قصده. [5] الآيات 1 إلي 5 ، من السورة 2 : البقرة [6] ـ الآيتان 6 و 7 ، من السورة 2 : البقرة . [7] ـ النصف الاوّل للآية 177 ، من السورة 2 : البقرة . [8] ـ يلزم أن نذكر هنا عبارات وردت في هامش صفحة 58 من كتاب «راه طي شده» ( = الطريق المطـويّ) ، يقول فيها مؤلّف الكتاب (وهو من مخالفي الفلسـفة والحـكمة اليونانيّة) : «ويُقال اعتراضاً بهذا الخصوص إنّ الدين والعلم للبشر يلزم ـ مع عين ارتباطهما واحتياج أحدهما للآخر ـ أن يحفظ كلّ منهما استقلاله وكيانه ، فكلّما أمكن فهم مطالب وأحكام الدين وتطبيقاتها بالتبصّر والدقّة اعتماداً علي الموازين العلميّة كان ذلك أفضل ، لكنّ العلم باعتبار وقوعه في معرض الخطأ والنقص ، فهو دوماً في حال إصلاح وإكمال ، ولا يمكنه أن يكون ملاكاً قاطعاً ثابتاً للدين ، ولا ينبغي للدين أن يُسمّر ويبقي أسيراً في قالب المعلومات الزمنيّة» . وهو قول صحيح وبيّن ؛ لكنّ كلام صاحب مقالة «بسط وقبض تئوريك شريعت» (= بسط وقبض نظريّة الشريعة) يخالفه تماماً ، فهو يقول بصراحة : «إنّ الدين والعلم شأنهما شأن خاطرتين فكريّتين ، وشأن ضيفينِ يؤثّر أحدهما في الآخر ، فعلم الهندسة يغيّر الدين ؛ وعموماً فإنّ المعلومات الدينيّة تفتقد الاصالة والثبات ، ويبقي علي عاتق العلماء أن يوازنوا ويوافقوا بين هندسة فكرهم الدينيّ مع هندسة المعلومات اليوميّة والعلوم الجديدة» . |
|
|