
الاءشكال الاوّل
: علي الرغم من تكرار الكاتب في عدّة مواضع أنّ الشريعة كالطبيعة ثابتة
لا تتغيّر ، وأنّ ما يخضع للتغيير هو فهم الاءنسان لهما ، وأنّ تغيـير الفـهم
الحاصل وفق ضرورات البيـئة ونشـوء العـلوم والتفاعل سلباً وإيجاباً بين
المعلومات السابقة والظواهر الفعليّة ، هو أمر حتميّ لا يمكن اجتنابه ؛
لكنّه مع ذلك يستنتج في مقام التفصيل والبيان أنّ مجموعة معارف الاءنسان
في أيّ عصر ، من فهم العلوم الحديثة والاكتشافات المبتكرة والفلسفات
العصريّة ، ينبغي أن تكون ميزان ومعيار فهم الاءنسان للقرآن والسنّة ،
وأنّ ما فهمه واستنبطه والفقهاء والمفسّرون والمُحَدِّثون فصار عماد عملهم
يجب تحديثه وفق الاُسلوب المعاصر ، ليخرج بأُسلوب يقرّه العصر ، مواكب
للمدارس والاتّجاهات العصريّة التي تعرض نتائج علومها وتحقيقاتها .
وحاصل الامر فإنّ علي العالم
والمفسّر والفقيه أن لا يتّكل علي أمر تعبّديّ أبداً ، فيراعي في علمه
وتفسيره وفتواه احتمال المراحل العالية والمنازل السامية التي لم ينلها ،
أو يضع القرآن والسنّة والاءسلام علي محور الاُمور التعبّديّة ؛ فما اعتمد
عليه العلم العصريّ ينبغي أن يصبح هو المرتكز لهذه الاُمور ، فذاك هو
الاُسلوب الوحيد الكفيل بتقدّم الفقه والعلم .
وبناء علي هذا
المنحي فلن يكون لدينا ثَمّة قرآن ولا سنّة ، ولا فقه ولا تفسير ، فإذا
تقرّر إقحام العلوم البشريّة المتغيّرة في الغايات ( من العقائد والافكار
والاخلاق والعمل ) فسنكون قد سلبنا إلي الابد من الدين والشريعة ثباتهما ،
ومهما زعمنا بأ نّنا نعتبر الدين والشريعة محترمة وثابتة ، فإنّنا سنكون من
الناحية العلميّة قد وضعنا مفاتحها بأيدينا ، فصرنا نحاول عند ظهور أيّ قانون
ونظريّة أن نفسّرها ونقحم مستلزمات العصر في ثبات المذهب وأصالته ، وفي
الحقيقة فإنّنا سنكون قد دققنا المسمار ليس في نعش الاءسلام وحده ، بل في
نعوش جميع الشرائع .
الرجوع الي الفهرس
والسرّ في ذلك
أنّ العلوم البشريّة مهما سمت وعلت وتكاملت فهي محدودة ومقيّدة ، إذ يمكن
أن يأتي علم أعلي منها وأسمي فيهدم اليوم ما بناه بالامس .
والشاهد علي هذا
أنّ جميع العلوم التي تعاقبت الواحد تلو الآخر ، قد نسخ كلٌّ منها العلم
الذي سبقه ؛ كلُّ علم له مريدوه الذين يعتقدون ـ أوان ظهوره وبزوغ نجمه أن لا علم أعلي منه وأسمي ، ويعجز من أراد إلزامهم وإقناعهم بغير ذلك ، لا نّه بذاته لم يصل إلي علم أعلي منه وأرقي ؛ أمّا حين يُشرف نجم ذلك
العلم علي الغروب ليتواري خلف الاُفق ، ويظهر العلم الجديد الناسخ له ،
فإنّ القديم سيعدّ في المسائل البالية الخرافيّة حتّي عند أصحابه وأنصاره .
فالاءلكترون
الذي يعدّ اليوم من بديهيّات علم الكيمياء والفيزياء هو من علومنا وشؤوننا
نحن ، وفي يومنا هذا لا في غدنا .
وغداً حين
يتوصّل البشر إلي اكتشاف أدقّ وأعمق ، فينكر أصل تركيب الذرّات بهذه
الكيفيّة ، ويزيح الستار لنا بالتجربة والاختبار عن عجائب أُخري من الذرّة
، عندها سنضحك علي أفكار يومنا المنصرم ، ونسخر من يقين وبرهان وإصرار أمسنا
الغابر .
إنّ الدين
والشريعة الاءلهيّة الحقّة جاءت من عند الله تعالي بأصالتها وواقعيّتها ،
ويقيناً أنّ تعبّديّاتها تفوق أوامرها ونواهيها البديهيّة بآلاف المرّات ؛
وليس للدين معني غير نزوله من جانب العلم المطلق علي الاءنسان والبشر ذي
العلم النسبيّ ، والمرتقي يوماً بعد آخر من درجة القابليّة إلي الفعليّة ،
وسيبقي البشر في هذا المستوي مهما استعان بالعلوم والمعارف التجريبيّة ؛ من
ميكانيك وفيزياء وطبيعيّات ، ومن علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم طبقات
الارض والنبات والحيوان ، وعلم الحياة والكيمياء المعدنيّة والآليّة ،
والهيئة وغيرها ؛ قاصراً عن أن ينال بيده عالم الربوبيّة ، أو يحيط بأسرار
الخلقة وخفاياها التي لاتحصي والمحيطة به من كلّ جانب ، وأن يزيح التعبّد
عنه جانباً ، إلاّ أن نقول إنّنا قد فهمنا العالم المطلق واكتشفنا سرّه
ولغزه ، وهو قول جزاف خاطي .
فجميع حكماء
الامس واليوم ما لبثوا غارقين في البحث الجادّ ، لكنّهم يعترفون في الوقت
نفسه بأنّ أيديهم لم تغترف من العلم شيئاً ، وأ نّهم بعدُ لم يرتووا من
بحور الاسرار والعلوم قطرة !
إنّ أوّل الاشياء
التي تنكرها العلوم التجريبيّة الحاليّة هو وجود الملائكة ووجود الجنّ ، فهم
ينكرونها لجهلهم بها وعدم توصّلهم لاءدراكها ، فيقولون : إنّنا لا نصدّق بشيء
لانراه ولا نحسّه ، فإذا ما وُفّقت هذه العلوم التجريبيّة غداً لرؤيّة
الملائكة والشياطين فيومئذٍ سيحصل لهؤلاء اليقين والاءقرار .
الرجوع الي الفهرس
أمّا الحكماء
الاءلهيّون والربّانيّون المطّلعون علي الحقائق والاسرار ، والعارفون بحريم
قدس وأمان الله ، فلهم بيانات كالشمس الساطعة عن وجود الملائكة وأشكالهم
وشمائلهم ووظائفهم وتكاليفهم ، وعن وجود الجنّ وأشكالهم وأصنافهم ، كلّ ذلك
اعتماداً ومتابعة لآيات القرآن النازلة من المطّلع علي الغيب بخفيّه
وجليّه .
أفهل فقدنا
رشدنا كي نعرض عن هذه الحقائق صفحاً ونقول بأ نّنا لا نعترف بالجنّ ،
لانّ علم معرفة الجنّ لم يقرّر بعد في مناهج جامعات أُوروبّا وأمريكا ؟!
إنّ التوغّل
والتعمّق في العلوم المادّيّة إلي الحدّ الذي تعتبر المادّة عنده ـ مع
جميع آثارها وخواصّها المدهشة أزليّة أبديّة ، ومن ثمّ إنكار العالَم
العلويّ والملائكة والنور المطلق للخالق العالم الحكيم الواحد ذي الشعور
المسيّر للعالم تحت هيمنته وإرادته ومشيئته الواحدة المباشرة ، ليس إلاّ
عبادة للمادّة وعكوفاً في محرابها ؛ وعند الفلاسفة المادّيّين مدرسة في هذا
الاتّجاه .
ولقد كرّر
الطبيعيّون السابقون ، ويكرّر الماديّون اليوم هذه المقولة ـ عبر مدرستهم
واتّجاههم الفكريّ مقابل الاءلهيّين .
لكنّ القرآن ،
وهو الكتاب الحكيم المحكم ، ولسان الخالق الناطق الحكيم بلا واسطة ، يعتبر
الاءيمان بالغيب شرطاً لليقين والفلاح :
ال´م´ ذَ لِكَ
الْكِتَـ'بُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًي لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَو'ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ'هُمْ يُنفِقُونَ *
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ
وَبِالاْخِرَةِ ( الفِناء الابديّ والعالَم العلويّ ، والجنّة والنار ،
ونتيجة الاعمال ، والمثول في موقف القيامة ، والوقوف في محضر الحضرة
الابديّة ، وطلوع جمال الحقّ وجلاله ، والملائكة والحور ، وملائكة العذاب ،
و ... ) هُمْ
يُوقِنُونَ * أُولَـ'´نءِكَ عَلَي' هُدًي مِن رَّبِّهِمْ وَأُولَـ'´نءِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ .
فقد عدّ صراحة
في هذه الآيات الاءيمانَ بالغيب والعالم العلويّ والآخرة والتعبّد المحض
بما أنزل الله تعالي شرط السعادة الابديّة ، وعدّ بعدها مباشرة من لا
يؤمنون بالغيب وبما أنزل الله كفّاراً ، وحكم عليهم بالختم علي القلوب
والاسماع ، وبالغشاوة والحجاب علي الابصار ، وتوعّدهم بالعذاب الاليم :
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *
خَتَمَ اللَهُ عَلَي' قُلُوبِهِمْ وَعَلَي' سَمْعِهِمْ وَعَلَي'´ أَبْصَـ'رِهِمْ
غِشَـ'وَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
وكذلك فإنّ القرآن الكريم يعدّ من البرّ : الاءيمان بالملائكة والعالم العلويّ ، أي
الاءيمان بيوم الجزاء :
لَيْسَ
الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـ'كِنَّ
الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَـ'´نءِكَةِ
وَالْكِتَـ'بِ وَالنَّبِيِّينَ .
ويعتبر إتقان
وإحكام الكتاب الاءلهيّ في خلوده وأبديّته ، فمعانيه ومفاهيـمه تبـقي
راسـخة لا يزعـزعـها هبـوب رياح الاءلحـاد والكـفر ، ولا عواصف الزندقة
والشبهة ، ويبقي في منأي عن عبث أيدي الملحدين أن تغيّر فيه وتهدم ،
وعن أن يستطيع الغبار المتكاثف وسُحُب النفوس الشيطانيّة الحالكة ووسوسة
الاءنس أن تنثر علي طلعته المشعّة المنيرة هباء النسخ والبطلان .
فمعني التصرّف
في معاني الآيات القرآنيّة ورفع اليد عن ظهورها بلا قرينة يقينيّة نقليّة
أو عقليّة هو الاجتهاد في أُصول الدين ، لا الاجتهاد
في فروعه .
فالاجتهاد في
أُصول الدين خطأ ، والاجتهاد في فروع الدين ينبغي أن لا يتخطّي الموازين
الشرعيّة التي يختصّ بحملها الفقهاء .
أمّا التصرّف في
مفاهيم الآيات القرآنيّة علي أساس مناهج البحث وطرقه ، وعلي أساس
مفاهيم الاءحياء والنهضة التي تستشمّ من المقالة المذكورة ، فليس فقط
نسخاً للقرآن ، بل هو مسخ للقرآن .
الرجوع الي الفهرس

ارجاعات
ـ النصف الثاني من الآية
89 ، من السورة 16
: النحل .
ـ
الآيتان 6 و 7 ، من السورة 2
: البقرة
.
ـ
النصف الاوّل للآية 177 ، من السورة 2
: البقرة
.
«ويُقال
اعتراضاً بهذا الخصوص إنّ الدين والعلم للبشر يلزم ـ مع عين
ارتباطهما واحتياج أحدهما للآخر ـ أن يحفظ كلّ منهما استقلاله وكيانه
، فكلّما أمكن فهم مطالب وأحكام الدين وتطبيقاتها بالتبصّر والدقّة
اعتماداً علي الموازين العلميّة كان ذلك أفضل ، لكنّ العلم باعتبار
وقوعه في معرض الخطأ والنقص ، فهو دوماً في حال إصلاح وإكمال ، ولا
يمكنه أن يكون ملاكاً قاطعاً ثابتاً للدين ، ولا ينبغي للدين أن
يُسمّر ويبقي أسيراً في قالب المعلومات الزمنيّة» .
وهو قول
صحيح وبيّن ؛ لكنّ كلام صاحب مقالة «بسط وقبض تئوريك شريعت» (=
بسط وقبض نظريّة الشريعة) يخالفه تماماً ، فهو يقول بصراحة :
«إنّ
الدين والعلم شأنهما شأن خاطرتين فكريّتين ، وشأن ضيفينِ يؤثّر
أحدهما في الآخر ، فعلم الهندسة يغيّر الدين ؛ وعموماً فإنّ
المعلومات الدينيّة تفتقد الاصالة والثبات ، ويبقي علي عاتق العلماء
أن يوازنوا ويوافقوا بين هندسة فكرهم الدينيّ مع هندسة المعلومات
اليوميّة والعلوم الجديدة» .
الرجوع الي الفهرس

|