|
|
الصفحة السابقة7 ـ محصّل البحث في الفصول السابقة: تحصّل ممّا مرّ أُمور ثلاث: الاوّل: أنّ الإسلام لم يألُ جهداً في إلغاء أسباب الاستعباد وتقليلها وتضعيفها حتّي وقف علی واحدٍ منها لا محيص من اعتباره بحكم الفطرة القاطع، وهو جواز استعباد كلّ إنسان محارب للدين مضادّ للمجتمع الإنسانيّ غير خاضع للحقّ بوجه من وجوه الخضوع. الثاني: أ نّه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرام العبيد والإماء وتقريب شؤونهم الحيويّة من حياة أجزاء المجتمع الحرّة، حتّي صاروا كأحدهم وإن لم يصيروا أحدهم، ولم يبقَ علیهم إلاّ حجابٌ واحد رقيق، وهو أنّ الزائد من أعمالهم علی واجب حياتهم حياةً متوسطة لمواليهم لا لهم، وإن شئتَ فقل: لا فاصل في الحقيقة بين الحرّ والعبد في الإسلام إلاّ إذن المولي في العبد. الثالث: أ نّه احتال بكلّ حيلة مؤثِّرة إلی إلحاق صنف المماليك إلی مجتمع الاحرار بالترغيب والتحريض في موارد، وبالفرض والإيجاب في أُخري كالكفّارات، وبالإنفاذ والتجويز في مثل أحكام الاشْتِرَاط والتَّدْبِير والمُكَاتَبَة. 8 ـ سَيْرُ الاِسْتِرْقَاقِ فِي التَّأْرِيخِ: ذكروا [71] أنّ الاسترقاق ظهر أوّل ما ظهر بالسبي والاسر، وكانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها ومقاتلها وأخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم، ثمّ رأوا أن يتركوهم أحياءً ويتملّكوهم كسائر الغنائم الحربيّة، لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحساناً في حقّهم واحتراماً للقوانين الاخلاقيّة التي ظهرت فيهم بالترقّي في صراط المدنيّة شيئاً فشيئاً. وإنّما ظهرت هذه السنّة بين القبائل بعدما اختفت فيهم طريقة الارتزاق بالاصطياد، إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوغ لهم الإنفاق علی العبيد والإماء، حتّي انتقلوا إلی معيشة النزول والسكني في المدن وتمكّنوا من ذلك. الاماكن التي عُهد فيها استعمال الرقيق في قديم الزمان والتي لم يُعهد فيهاوبشيوع الاستعباد بين القبائل والاُمم علی أيّ وتيرة كانت، فقد تحوّلت حياة الإنسان الاجتماعيّة وظهر فيها اختلافان، الاوّل: ظهور جهات من الانتظام والانضباط في المجتمعات، والثاني: تقسيم الاعمال فيها. ولم يكن الاسترقاق يوم كان دائراً في جميع أقطار المعمورة علی وتيرة واحدة، فلم يستنّ في بعض المناطق أصلاً، كأُستراليا وآسيا المركزيّة وسيبريا وأمريكا الشماليّة والاسكيمو وبعض مناطق أفريقيا بشمال النيل وجنوب رامبيز. و علی العكس فقد كان رائجاً في جزيرة العرب وأفريقيا الوحشيّة وأُوروبّا وأمريكا الجنوبيّة، وكان دائراً بين اليهود، ونري في التوراة دعاءً يدعو العبيد إلی طاعة مواليهم؛ وكذا في النصاري؛ وفي كتاب بولس إلی فيلمن أنّ أفسيموس كان عبداً شارداً ردّه بولس إلی سيّده. وكان اليهود أرفق الناس بعبيدهم، ومن الشواهد علی ذلك أ نّا لم نعثر لهم من شواهق الابنية علی ما يشبه الاهرام المعمولة بمصر والابنية الآشوريّة التأريخيّة، فإنّها كانت من أعمال العبيد الشاقّة. وكانت الروم واليونان أكثر الاُمم تشديداً علی العبيد. التأريخ وكيفيّة تحرير العبيدوقد ذاع في الروم الشرقي بعد قسطنطين فكرة تحرير العبيد، حتّي أُلغي الرقّ فيها في القرن الثالث عشر الميلاديّ، وبقي في الروم الغربيّ علی شكل آخر، وهو أ نّهم كانوا يبيعون ويشترون المزارع بزارعها ـ كانت الزراعة من مشاغل العبيد لكن أُلغيت بينهم الاعمال الإجباريّة. وكان الاستعباد شائعاً في معظم ممالك أُوروبّا إلی سنة 1772 ميلاديّة، وقد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولَتين إنجليزا وإسبانيا علی أن يجبي الإنجليز إليهم كلّ سنة أربعة آلاف وثمانمائة نسمة من رقيق أفريقيا إلی ثلاثين سنة ليَبيعهم منهم قبال مبالغ باهظة تأخذها دولة الإنجليز منهم. وقد ثارت الافكار العامّة الإنجليزيّة سنة 1761 م علی نظام الرقّ والاستعباد، وأوّل الطوائف التي ثارت علیه طائفة لرزان المذهبيّة؛ ولم يزالوا كذلك حتّي وُضعت مادّة قانونيّة سنة 1772 م أنّ كلّ مَن دخل أرض بريطانيا فهو حرّ. وقد ظهر سنة 1788 م بعد بحث وتفتيش دقيق أنّ إنجلترا كانت تبيع كلّ سنة لامريكا وحدها مائة ألف نسمة من الرقيق تجلبهم إليها من أفريقيا، وأنّ إنجلترا كانت تبيع سنويّاً مائتي ألف نسمة منهم. وقد اسـتمرّ ذلك حتّي أُلغي الاسـتعباد في بريطـانيا سـنة 1833 م، وأدّت الدولة إلی شركات بيع العبيد والنخاسة مبلغ عشرين مليون ليرة أثمان ما حرّرته من رقيقهم العبيد والإماء، وحُرِّر في هذه الواقعة منهم (770380) نسمة. وقد أُلغي الاستعباد في أمريكا سنة 1862 م، بعد مُجاهدات شديدة تحمّلها أهالي أمريكا، وكان شمال أمريكا وجنوبها مختلفَين في مسألة أخذ الرقيق، ففي أمريكا الشماليّة كان العبيد والإماء يؤخذون للتجمّل فحسب، أمّا في أمريكا الجنوبيّة فكانت معظم الاشغال فيها في مجال الزراعة والحراثة، وكانوا في أمسّ الحاجة إلی كثرة الاياديّ العاملة، فكانوا يأخذون الارقّاء ويستثمرونهم في تلك الاعمال، لذا فقد كانوا يتحرّجون من قبول التحرير العامّ. ولم يزل الاستعباد يُلغي في مملكة إثر مملكة حتّي انعقد مؤتمر بروسل سنة 1890 م علی إلغاء سُنّة الاستعباد وأمضتها الدول وأُجريت في الممالك، وأُلغي مبدأ العبوديّة في الدنيا وانعتقت بذلك الملايين من النفوس انتهي ما ذكروه ملخّصاً. وأنت تجد بنظرك الثاقب أنّ هذ المجاهدات الطويلة والمشاجرات ثمّ ما وضعوه من قوانين الإلغاء وانفذ من الحكم، كلّ ذلك إنّما كان يدور حول الاسترقاق من طريق ولاية الآباء علی الابناء و علی النساء ومن طريق التغلّب، كما يشهد به أنّ جلّ الارقّاء، أو إن شئتَ فقل: كلّ الارقّاء كانوا يُجلبون من نواحي أفريقيا التي كان فيها الاستعباد أمراً معهوداً، وأمّا نظام الاسترقاق من طريق السبي الحربيّ والاسر الذي أنفذه الإسلام، فلم يكن مورداً للبحث قطّ. 9 ـ نَظْرَةٌ فِي بِنَاءِ الحُرِّيَّةِ الإنسَانِيَّةِ: هذه الحرّيّة الفطريّة التي نسمّيها بالحرّيّة الموهوبة للإنسان علی أساس شعوره وإدراكاته. وباعتبار اشتراك جميع أفراد البشر في الشعور والإدراكات، وأنّ إعطاء الحرّيّة لجميعهم في جميع رغباتهم ومرامهم سيوجب سلب الحقوق وتعارضها مع بعضها، لذا فإنّ هذه الحرّيّة ينبغي بلا شكّ أن تكون محدودةً مقيّدة. وبيان ذلك أنّ الإنسان يمتلك شعوراً وفهماً وإدراكاً، كما أنّ غريزة إرادة وطلب ما يلذّه موجودة فيه؛ وتبعاً لهذه الإرادة فإنّه يختار لنفسه ما يشاء فيسعي لجلب ما فهمه بشعوره وأراده برغبته، ولإيصاله إلی مرحلة التحقّق وإكسابه وجوداً خارجيّاً. وأفراد البشر متساوون بأجمعهم في هذا الشعور والإرادة والاختيار، فلا الفرد القويّ يختصّ بإدراكات وإرادة أقوي، ولا الفرد الضعيف أضعف فيها، ولا رابطة هناك بين إرادة الضعيف، وإرادة القويّ تُجبر إرادة الضعيف علی أن لا تتعلّق بما تعلّقت به إرادة القويّ، أو تفني في إرادة القويّ فتعود الإرادتان إرادةً واحدة. ولانّ جميع الافراد ـ الضعيف منهم والقويّ شركاء في البُنية الإنسانيّة، متساوون في حصّتهم منها، متماثلون في الخلقة والفطرة، لذا فقد كان هذا الاساس أصل إلغاء حكم العبوديّة وإسقاطه. لكنّ ما ينبغي ملاحظته والتأمّل فيه هو: هل يمكن العمل بأصل الحرّيّة المطلق، وهل هذه الحرّيّة الموهوبة في المجتمع الإنسانيّ علی إطلاقها منذ وُلدت البشريّة؟ الإنسان يعيش دوماً في إطار محدّد، وتعبير الحرّيّة المطلقة اسمٌ بلا مسمّيفما يشير إليه التأريخ أنّ النوع الإنسانيّ لم يزل منذ وجد في العالم يعيش في حال الاجتماع، ولا يسعه بحسب جهازه الوجوديّ إلاّ ذلك، لذا فقد وجد دوماً قواعد وقوانين تحدّد الحرّيّة الفرديّة، لانّ الحياة الاجتماعيّة ستنجرّ إلی الاضمحلال والفناء ما لم تراعي فيها قوانين وسنن تحدّد هذه الحرّيّة. فلن يسع شخصان أن يعيشا في زمان واحد ويجلسا في مكان واحد ويأكلا من طعام واحـد ويلبسـا لباسـاً واحداً، وحـريّ أن تتعلّق إرادتهما كلاهما بنفس ذلك الشيء. ومن هذا فقد وضعوا قوانين تحديد الملكيّة وتحديد الزواج وغيرها. وبشكلٍ عامّ، فإنّ إجراء قانون مجازاة المجرمين بدون هذا المعني من التحديد أمرٌ خاطي. فالمجتمـع حين يضـع للمجـرم قانـوناً للمجـازاة من قتل وحبـس وتعذيب وغيرها لا يمكنه ذلك بدون امتلاك حقّ تحديد حرّيّة المجرم عملاً، والمجرم نفسه أيضاً سيعتبر خارجاً عن هذا المجتمع ما لم يمضِ أمر تحديد حرّيّته الاوّليّة حسب تعيين وتشخيص القانون، و علیه فإنّ قانون مجازاة الجرائم والمجرمين أنفسهم قد ألغوا حرّيّتهم المطلقة وحدّدوها بالحدود المقرّرة. هذا التقييد والتحديد واضح ومشهود للقدر الذي نجد في قوانا البدنيّة أ نّها لا يمكنها الاستمرار في عملها بدون تحديد وتقييد القوي الاُخري. فقوّة الإبصار تفعل فعلها بحرّيّة حتّي تكلّ لامسة العين أو تتعب القوّة المفكّرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيّداً بفعل مزاملها. والذائقة تلتذّ بالتقام الغذاء اللذيذ وازدراده وبلعه حتّي تكلّ عضلات الفكّ فتقيّد الذائقة فتكفّ عن مشتهاها. وإجمالاً، فإنّه لا تردّد لدي أيّ عاقل أنّ بقاء وإبقاء الحرّيّة المطلقة في المجتمع، ولو للحظة واحدة أمرٌ لا يمكن تصوّره، كما لا يمكن تصوّر السلب الكلّيّ للحرّيّة، فكلّ فرد من أفراد المجتمع يعيش دوماً بين حدّين: حدّ الحرّيّة المطلقة وحدّ سلب الحرّيّة المطلقة، وهو أمر حتميّ وضروريّ. و علیه، فإنّ اسم الحرّيّة المطلقة التي ملات وسائل الإعلام الغربيّ آذان العالم بها بالشكل الذي خُيِّل للناس معه أ نّهم هم الذين اخترعوا اسمها ومعناها، وأ نّها من لغاتهم هم لا من لغات غيرهم؛ هذه الحرّيّة ليست إلاّ تطبيلاً أجوفاً لا محتوي له، وشعاراً لا واقع له، واسماً بلا مسمّي. فالاجتماع الفطريّ لا يتمّ للإنسان إلاّ بأن يجود ببعض حرّيّته في العمل واسترساله في التمتّع، فيعيش بين حدّين. القوّة الدفاعيّة في القتل وأسر العدوّ ضروريّة لايّ مجتمع10 ـ مَا مِقْدَارُ تَحْدِيدِ الحُرِّيَّةِ؟ وأمّا المقدار الذي تحدّد به الحرّيّة الموهوبة من قبل المجتمع فهو مختلف باختلاف المجتمعات الإنسانيّة بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة وقلّتها. فإنّ المقيّد للحرّيّة ـ بعد أصل الاجتماع إنّما هو القانون المجري بين الناس، فكلّما زادت القوانين ودقّت زاد الحرمان من الحرّيّة والاسترسال؛ وكلّما نقصت نقص الحرمان من الحرّيّة المطلقة. لكنّ الذي لا مناص عنه في أيّ اجتماع لايّ مجتمع فُرِض، والواجب الذي ليس في وسع الإنسان الاجتماعيّ أن يستهين به ويتساهل في أمره، شيئان: حِفْظُ وُجُودِ الاِجْتِمَاعِ وَكَوْنِهِ، إذ لا حياة للإنسان بدونه. وحِفْظُ السُّنَنِ الدَّائِرَةِ وَالقَوَانِينِ الجَارِيَةِ فِيهِ من النقص والانتقاض. ولذلك، لستَ تجد مجتمعاً من المجتمعات البشريّة إلاّ فيه جهة دفاعيّة تذبّ عن النفوس والذراري وتقيهم من الفناء والهلاك ووليّ يلي أمرهم ويحفظ السنّة الجارية والعادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض، ويبسط الامن الاجتماعيّ وسياسة المتعدّي الجائر؛ والموجود من التأريخ يصدّق ذلك أيضاً. و علیه، فإنّ أوّل حقّ مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرّيّة من عدوّ المجتمع في أصل اجتماعه، وإن شئت فقل: أن يملك من عدوّه المُبِيدُ لحياته المفسد لحرثه ونسله وعمله ويذهب بحرّيّة إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، وأن يسلب عن عدوّ السنّة والقانون حرّيّة العمل والاسترسال في النقض، ويملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما. وكيف يسع الإنسان ـ حتّي الإنسان الفرد أن يذعن بحرّيّة عدوّ لا لحياةِ مجتمعه يحترم فيوافيه ويشاركه ويمتزج به، ولا عن إبادة مجتمعه وإفنائه يغمض فيتركهم وشأنهم؟ وهل الجمع بين العناية الفطريّة بالاجتماع وبين ترك هذا العدوّ وحرّيّته في العمل إلاّ جمعاً بين المتناقضَين صريحاً وسفهاً وجنوناً. فتبيّن ممّا مرّ أوّلاً: أنّ البناء علی إطلاق حرّيّة الإنسان أمر مخالف لصريح الحقّ الفطريّ المشروع للإنسان الذي هو من أوّل الحقوق الفطريّة المشروعة. وثانياً: أنّ حقّ الاستعباد الذي اعتبره الإسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، وهو أن يستعبد أعداء الدين الحقّ المحاربين للمجتمع الإسلاميّ فيسلب منهم حرّيّة المجتمع ويُجلبوا إلی داخل المجتمع الإسلاميّ ويُكلّفوا بأن يعيشوا في زيّ العبوديّة حتّي يتربّوا بالتربية الصالحة الدينيّة، وينعتقوا تدريجيّاً ويلتحقوا بالمجتمع الحرّ السالم. ولولي الامر أن يشتريهم ويعتقهم عن آخرهم إن رأي صلاح المجتمع الدينيّ في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقاً آخر فلا تنسخ بذلك الاحكام الإلهيّة. إلغاء لفظ الرقّ من أجل الحفاظ علیه بنحوٍ أتمّ وأكمل11 ـ إلَي مَ آلَ أَمْرُ الإلْغَاءِ؟ أجرت معظم الدول العظمي قرار مؤتمر بروسل ومنعوا بيع الرقيق أشدّ المنع وانعتقت الإماء والعبيد فلا يصطفّون اليوم في دكاك النخّاسين ولا يُساقون سوق الاغنام، وتبع ذلك أنِ انتسخ اتّخاذ الخصيان، فلا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء وأُولئك ولو نماذج قليلة، إلاّ ما ربّما يذكر من أمر الاقوام الهمجيّة. ولكن، هل يُقنع هذا المقدار ـ أي: ارتفاعُ اسم الاستعباد والاسترقاق من الالسنة وغيبةُ المسمّين بهذا الاسم عن الانظار الباحث الناقدَ في هذه المسألة؟ أو لا يسأل هذا الإنسان هل هذه المسألة هي مسألة لفظيّة يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم، ويكفي في إجرائها أن يسمّي العبد حرّاً وإن سُلِب منافع عمله وتبع غيره في إرادته؟ أو أنّ المسألة معنويّة يُراعي فيها حال المعني بحسب حقيقته وآثاره الخارجيّة؟ فهاتيك الحرب العالمية الثانية أمام أعيننا لم يمض علیها إلاّ بضع عشرة سنة [72] حملت الدول الفاتحة علی عدوّها المغلوب التسليم بلا شرط، ثمّ احتلّوا بلادهم، وأخذوا ملايين من أموالهم، وتحكّموا علی نفوسهم وذراريهم، ونقلوا الملايين من أُسراهم إلی داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاءوا وكيف شاءوا، والامر يجري علی ذلك حتّي اليوم. فليت شعري؛ هل للاستعباد مصداق في العالم ليس هذا العمل مصداق له وإن منع من إطلاق لفظ الاستعباد علیه؟ وهل للاستعباد معنيً آخر غير سلب إطلاق الحرّيّة، وتملّك الإرادة والعمل، وإنفاذ القويّ المتعزّز حكمه في الضعيف المستذلّ كيف يشاء وأراد عدلاً أو ظلماً، معنيً لم تُوقِعَه بعدُ هذه الدول الغالبة بمغلوبيها؟! فَيَا لِلَّهِ العَجَبُ، كيف يسمّي حكم الإسلام ـ بنظير الحكم علی أصلح وجه يمكن استعباداً، ولا يسمّي حكمهم بذلك؟! في حين أنّ الإسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه وأخفّها، وهم يأخذون بأشقّها وأعنفها؟! ولقد رأينا بأعيننا محبّتهم وصداقتهم حينما احتلّوا بلادنا تحت عنوان المحبّة والحماية والوقاية، فكيف حال من استعلوا علیه بالعداوة والنكاية؟! ومن هنا يظهر أنّ قرار الإلغاء لم يكن إلاّ لعبةً سياسيّة، ولا يمثّل في الحقيقة إلاّ أخذاً للعبيد في صورة المنع والردّ. أمّا الاستعباد عن حرب وغلبة وسيطرة، فقد أنفذه الإسلام وأنفذوه عملاً، وإن منعوا من التلفّظ باسمه لساناً. وأمّا الاستعباد عن طريق بيع الآباء أبناءهم الذي منعوه، فقد كان الإسلام منعه من قبل. وأمّا الاستعباد عن طريق الغلبة والسيطرة الحكميّة، فقد منعه الإسلام من قبل، وأمّا هؤلاء فقد أجمعوا علی منعه. ولكن، هل توقّف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره، أم تعدّاها إلی مرحلة المعني ووافقه العمل؟ يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تأريخ الاستعمارات الاُوروبّيّة في آسيا وأفريقيا، وفي الاستعمارات الامريكيّة، وفي الفجائع التي ارتكبوها، والدماء والاعراض والاموال التي أهرقوها واستباحوها ونهبوها، والتحكّمات والضغوط التي أتوا بها والتي فاق عددها الآحاد والمئات والاُلوف. ولا تذهب بعيداً فقد يجزيك أن تتأمّل أخبار ما قاساه أهل الجزائر من فرنسا طيلة سنين متمادية من إبادة النفوس وتخريب البلاد والتشديد علی أهلها، وما تلقاه الممالك العربيّة من الإنجليز، وما يتحمّله السود والحمر في أمريكا وما قاسته أُوروبّا الشرقيّة من الجمهوريات الاشتراكيّة الروسيّة والسوفييتيّة، وما نكابده نحن من أيدي هؤلاء وأُولئك، كلّ ذلك في لفظه نصح وإشفاق، وفي معناه الاستعباد والاسترقاق. [73] وظهر ممّا بيّنّا أ نّهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإسلام من إباحة سلب إطلاق الحرّيّة عند وجود سببها الفطريّ المتمثّل في حرب من يريد هدم المجتمع وإهلاك الإنسانيّة، وهو حكم مشروع في شريعة الفطرة، له أصل واقعيّ لا يتغيّر، وهو حاجة الإنسانيّة في بقائها إلی دفع ما يطاردها وجوداً ويناقضها بقاءً. وهو بغضّ النظر عن ذلك في المرتبة الثانية أصل اجتماعيّ عقلائيّ لا يترتّب علیه وجوب حفظ المجتمع الإنسانيّ عن الانعدام والانهدام. فهذا هو الذي راموه في عملهم وأخذوه معنيً وأنكروه اسماً، غير أ نّهم تعدّوا هذا القسم المشروع إلی غيره غير المشروع وهو الاستعباد بسبب الغلبة والسلطة. فهم لا يزالون قبل مسألة الإلغاء وبعدها يستعبدون الاُلوف والملايين من النفـوس تحت نـوع من الاسـترقـاق، فيبيعـون ويشـترون ويهبـون ويُعيرون، إلاّ أ نّهم لا يسمّون ذلك استعباداً، وإنّما يدعونه استعماراً أو استملاكاً أو قيمومة أو حماية أو عناية أو إعانة أو غير ذلك من الالفاظ التي لا يُراد بشيء منها إلاّ أن يكون ساتراً علی معني الاستعباد، وكلّما خلق أو خرق شيء من هذه الالفاظ رُمي به وجيء بآخر جديد. ويتّضح ممّا بيّنا في هذا البحث أ نّه لم يبقَ ممّا نسخه قرار مؤتمر بروسل ولا يزال يقرع به أسماع الدنيا وأهلها وتتباهي به الدول المتمدّنة التي تدعو نفسها من روّاد المدنيّة الراقية، وأنّ راية الحرّيّة الإنسانيّة بأيديهم، لم يبقَ منه إلاّ إلغاء الاستعباد من طريق بيع الابناء والبنات والإخصاء من قبل آبائهم، ولا فائدة هامّة فيه تعود إليهم، مع كونه أشبه بالمسألة الفرديّة منه بالمسألة الاجتماعيّة، ونسخه مع ذلك حجّة لفظيّة إعلاميّة بأيديهم كسائر حججهم التي لا تعدو مقام اللفظ ولا تصل مرحلة التحقّق والتنفيذ. نعم، يبقي هناك محلّ بحث آخر، وهو أنّ الإسلام يبدأ في غنائمه الحربيّة من رقيق أو مال ـ غير الحاصل من الاراضي المفتوحة عنوةً أوّلاً بالافراد من مجتمعه فيقسّمها بينهم، ثمّ ينتهي إلی الدولة، علی ما سير به في صدر الإسلام، وهؤلاء يحفظون الاستفادة من الغنائم الحربيّة حقّاً موقوفاً علی الدولة. وهذه مسألة أُخري غير مسألة أصل الاسترقاق، لعلّنا نوفّق لاستقصاء البحث عنها فيما يأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة والخُمس. [74] وكانت نتيجة البحث المفصّل للاُستاذ هي: أنّ مؤتمر بروسل ألغي اثنين من الموارد الثلاثة للاستعباد والتي كان قد ألغاها الإسلام وأبطل أساسها: أ ـ الاستعباد عن طريق ولاية الآباء في بيع أبنائهم. ب ـ الاستعباد عن طريق الغلبة والسيطرة علی نفوس الناس باستخدام القوّة. وهذا القسم الثاني ألغاه مؤتمر بروسل لفظاً، لكنّ معظم الدول في أُوروبّا وأمريكا والاتّحاد السوفييتيّ، سواء قبل حكم الإلغاء أو بعده كانت ولا زالت تسـتعبد بألفاظ وذرائـع أُخـري الملايين من أفراد الإنسـانيّة وتأسرهم وتجعلهم عبيداً أرقّاء لها. ج ـ أمّا المورد الثالث وهو الاستعباد عن طريق السيطرة علی العدوّ المحارب، فقد أمضاه الإسلام وأقرّه كما أمضوه وأقرّوه، غاية الامر أنّ الإسلام سمّاه صراحةُ بالعبد، ثمّ بذل المساعي الجميلة بمنتهي العطف والمحبّة لإرشاده وترقيته وت علیمه وتربيته تربيةً صحيحة وصولاً إلی تحريره بالإسلام وتربيته تحت إشراف وحكومة الإسلام، في حين أ نّهم نافقوا فلم يُطلقوا علیه ظاهراً اسم العبد، لكنّهم استخدموه واستعبدوه إجباراً بكلّ ما لكلمة الاستعباد من معني، وبأقسي صوره وأبشعها، وأبقوه بالعنف والخشونة رازحاً تحت وطأة الاعمال الثقيلة التي ينوء بها كاهله. إنَّ حُكْمَ الإسْلاَمِ بِضَرُورَةِ الاسْتِعْبَادِ فِي ظُرُوفِ الحَرْبِ لَيْسَ قَابِلاً لِلنَّسْخِ، وهو أمر باقٍ فعلاً، غاية الامر أنّ هذا الحكم ينبغي تحقّقه في مرحلة الجهاد مع الكفّار، فلو تحقّق الجهاد ووقع أحد الكفّار المحاربين أسيراً، لانطبق علیه حكم العبيد والارقّاء، ولتربّوا تحت نفوذ الإسلام وسيطرته حتّي ينالوا كمالهم. ويعدّ هذا الامر من الخدمات المهمّة التي أسداها الإسلام إلی البشريّة، والتي كان حاضراً للمجاهدة والحرب من أجل هدايتها إلی عالم التوحيد وقبول الدين الحقّ والمشاركة في المائدة السماويّة والارتواء من شراب الجنّة؛ فهو يدعو المحرومين للجلوس علی هذه المائدة الوسيعة، ويجرّهم ـ عند امتناعهم إليها بالحبال والسلاسل، ثمّ يتلو علیهم آيات القرآن، ويهتف بأسماعهم بنداء اللَهُ أَكْبَرُ، ثمّ يمتّعهم تحت ظلّه وفي حضوره بحياة سليمة وعيش هنيء صحيح دنيويّ وأخلاق وصفات حميدة أُخرويّة. الجهاد في سبيل الله من أعظم الفرائض الإسلاميّة، الجهاد إحياءٌ للنفوس، الجهاد هو الركن الاساس للحياة الدينيّة وركن الإيمان. الآيات والروايات الواردة في وجوب الجهاد في سبيل اللهقال رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم: مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَهِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ، أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ أَوْ مَاتَ عَلَی فِرَاشِهِ ] أَوْ [ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَهُ فَإنَّهُ شَهِيدٌ. وَإنَّ لَهُ الجَنَّةَ. [75] وقال رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم أيضاً: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ، مَاتَ عَلَی شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ. [76] وهناك في القرآن الكريم؛ كما في الروايات الواردة عن رسول الله، آياتٌ دالّة علی وجوب الجهاد، ومن جملتها: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـ'هَدُوا بِأَمْوَ لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَّ نَصَرُو´ا أُولَـ'´نءِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَـ'يَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّي' يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَي' قَوْمٍ بَيْنَكُم وَبَيْنَهُم مِّيثَـ'قٌ وَاللَهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الاْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـ'هَدُوا فِي سَبِيلِ اللَهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُو´ا أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. [77] ويتّضح جيّداً من هذه الآيات وجوب كلّ من الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله؛ و علیه فيجب: أوّلاً: علی جميع المؤمنين في الدنيا، الذين يعيشون في بلاد الكفر وفي الدول غير الإسلاميّة ـ سواء كانوا من أتباعها وأهليها وكانت لغتهم الاصليّة لغة تلك البلدان وكانوا يتوطّنونها أباً عن جدّ، أم كانوا مقيمين هناك وسبق أن ذهبوا إليها من ممالك أُخري فصارت محلّ إقامتهم المؤقّتة أو الدائميّة أن يهاجروا إلی بلد الإسلام وأن يعيشوا تحت ظلّ الإسلام. هذا وقد تحقّق هذا الامر بحمد الله في دولة إيران وتحرّرت حكومتها ظاهراً وباطناً من تبعيّة الدول الكافرة الخارجيّة، وهو أمر له أهمّيّته العظمي ويستحقّ الملاحظة. نعم، لو ارتأت الدولة الإسلاميّة لمصالح تراها، أن ترسل أفراداً للدرس والتحصيل أو التجارة أو السفارة إلی تلك الدول، فإن كان ذلك بإمضاء وإقرار الحاكم الشرعيّ وصاحب مقام الولاية وتحت إشرافه، لَمَا كان في الامر إشكال. و علی أُولئك السادة مراعاة نظر الحاكم في خصوص محيط سكناهم ومدّة إقامتهم وكيفيّتها. وثانياً: أمّا أُولئك الذين لم يهاجروا ولم يرجعوا إلی هذه الدولة وفضّلوا البقاء هناك، فإنّ رابطة الوَلاء بينهم وبين المؤمنين في هذه الدولة ستنقطع، ولن يكون لهم مطلقاً حقّ المشاركة في أُمور ولاية الناس من خلال تسلّم زمام ولايتهم، كأن يُعَيَّن أحدهم الحاكم المطلق، أو رئيس الجمهوريّة، بل ليس من حقِّهم إشغال سائر المناصب والوظائف الحكوميّة التي يشملها عنوان الولاية والإشراف والسلطة. كما يجب علی المسلمين الذين يعيشون في الدولة الإسلاميّة ولكنّهم من أتباع دولة أجنبيّة كافرة أن يخرجوا من تبعيّة تلك الدولة ويصبحوا من أتباع دولة إيران الإسلاميّة، وليس لهم ـ ما لم يخرجوا من تبعيّتهم تلك التصدي لعهدة ولاية الفقيه أو إشغال منصب رئاسة الجمهوريّة، أو أن يصبحوا من الاعضاء المنتخبين للمجلس، أو إشغال منصب رئاسة الوزراء وسائر الوزارات وحقيبة المدير العامّ، وبشكل عامّ، كلّما يتعلّق بالرئاسة وولاية أُمور المسلمين ماداموا لم يخرجوا من تبعيّتهم تلك. ويجب علی الحكومة الإسلاميّة؛ وصولاً إلی بسط الإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر في أرجاء الدنيا حسب إمكاناتها؛ إعلان الجهاد وإرسال المسلمين لإرشاد وهداية الكفّار للانضمام إلی بيضة الإسلام: وَلَيَنصُرَنَّ اللَهُ مَن يَنصُرُهُ و´ إِنَّ اللَهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـ'هُمْ فِي الاْرْضِ أَقَامُوا الصَّلَو'ةَ وَءَاتَوُا الزَّكَو'ةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَـ'قِبَةُ الاْمُورِ. [78] والمراد من التَّمْكِينِ فِي الاَرْضِ هو حكومة الإسلام، والاستقلال، والخروج من رِبقة العبوديّة للكفّار، والتمكّن من تطبيق وإقامة الاحكام الإلهيّة. و علیه، فإنّ هذه الآية تبيّن بوضوح أنّ وظيفة الحكومة الإسلاميّة لا تنحصر ـ كما هو الامر في سائر الحكومات في حفظ الامن الداخليّ، وحفظ حدود المملكة، وتأمين الرفاه المادّيّ للدولة والشعب، والاهتمام بالاُمور الاقتصاديّة، ورعاية أموال الناس وثرواتهم، وإيجاد التسهيلات في مجال الاُمور الطبّيّة والصحيّة، أو في تحصيل العلوم الفنيّة والصنائع، والعلوم التجربيّة والطبيعيّة والادبيّات والتأريخ، بل إنّ واجبها الاوّل كحكومة إسلاميّة إقامة الصلاة في أرجاء البلاد، وجمع الزكاة، والامر بالمعروف وترويج الاُمور اللائقة والمحاسن التي يعتبرها الله ورسوله معروفاً وحُسناً والترغيب فيها، ومنع المنكرات والقبائح التي يعدّها الله ورسوله منكراً. وفي المرتبة الثانية وبعد التمكّن من بسط المعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فإنّ علیها إعلان الجهاد لتطهير الارض من لوث الشرك والزندقة والكفر، وإنارتها بنور الإسلام. حَتَّي' جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَهِ وَهُمْ كَـ'رِهُونَ. [79] النهضة الجزائريّة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ الجائر كانت اتّباعاً للقرآنهذه الآيات القرآنيّة الحيّة والباعثة للحياة والامل، التي ترتعد لسماعها فرائص الاستعمار فيقوم بجميع قواه بمحاربة الإسلام، والتستّر باسم الحرّيّة للقضاء علی كلّ شيء يقف أمامه وصلاً إلی الانتفاع بأتعاب المسلمين ومصادرة جهودهم، و إلی الاستعباد الجمعيّ لهم بعشرات الملايين بل مئات الملايين، فالمسلمون لا يمتلكون حلاّ إلاّ العودة للقرآن، فلا ينبغي لهم أن يجعلوا قراءته مقصورة علی شهر رمضان، و علیهم أن يجعلوا درس القرآن وتفسيره ضمن البرامج الدراسيّة الضروريّة، بل من أهمّها وألزمها، كما فعل سكّان الجزائر بعودتهم إلی القرآن والدرس والبحث والعمل به، فوقفوا أمام دولة فرنسا الجائرة المتعطّشة للدماء التي فرضت علیهم لمائتي سنة الرقّ والاسر والاستعباد علی نحوٍ أسوأ من استعباد الحيوانات، ونهبت نساءهم وأولادهم وأموالهم وتجاوزت علی شخصيّتهم وثرواتهم الطبيعيّة وجميع كيانهم ووجودهم، حيث استطاع المسلمون بعد مقاومة بطوليّة دامت سنين عديدة، وجهادٍ مُضنٍ مليونيّ،تحمّل لاشد المحن والآلام والمصائب أن ينجوا في شرف العمل بالقرآن من مخالب عدوّهم المسمومة. ولقد اعتبرت فرنسا مسلمي الجزائر ملكاً مطلقاً لها، وعدّت أرض الجزائر جزءاً من ترابها، واعتبرت مسألة خروجها من الجزائر في عداد المستحيلات، وساندتها الدول الحليفة لها، فلم يُصْغِ أحد لآهات الضحايا الحَرَّي وأنينهم المصدِّع للافئدة، ولقد أحرق أُولئك الفرنسيّون القرآن، وهدموا المحراب، وقوّضوا الإيمان علی رؤوس شعب الجزائر، لكنّ هذا الشعب المقاتل في سبيل الحقّ قد تمكَّن من تحرير نفسه من خلال مواظبته علی الجهاد تبعاً لهداية آيات القرآن بشكلٍ صار معه عبرةً للآخرين وقدوةً لهم. طريق العلاج الوحيد للمسلمين في العودة إلی القرآنكتب أحد المعاصرين المطّلعين: لقد بدأت طلائع اليقظة والنهضة التحرّرية ضدّ الاستعمار في شمال أفريقيا يوم جاء محمّد عبده؛ وهو من أتباع نهج السيّد جمال الدين الاسدآباديّ الذي كان شعاره عودة جميع المسلمين للقرآن؛ فجمع العلماء المسلمين ودعاهم للاتّجاه إلی القرآن بدل الغرق في العلوم غير النافعة، وفي التدقيق الإفراطيّ الذهنيّ في التفاصيل والجزئيّات بلا جدوي... [80] ... ومنذ ذلك الوقت، فقد بدأ القرآن يستعيد دوره في المجتمع من جديد، فيدرّس في حوزات الدرس، وراج الاهتمام بتحقيق وتفسير القرآن بين علماء الدين، وبمسائل الإسلام في جلسات المثقّفين والمجاهدين، وانتشر ت علیم القرآن حتّي في حلقات الدرس في الارياف بصورة برنامج حيويّ وأساسيّ هامّ، وكان من نتائج ذلك أن... ويكتب أيضاً: لقد بسط الجنرال أرغو والجنرال سالان سلطة الاستعمار الفرنسيّ المعادي للإنسانيّة علی جميع الجزائر ومراكش وموريتانيا، فأذلاّ به تلك البلاد، ونهبا ثروتها وعزّتها وثقافتها، وكان الجنرال سوستيل يخرج مع ابنه إلی غابات طلمسن لاصطياد العرب، من أجل ت علیم ابنه الصيد وإطلاق النار، فيكتب لزوجته في باريس:... كلّنا بخير، أنا بخير، وكلبي بخير، وتابعي العربيّ بخير... لكنّ القرآن الذي عاد من شُرفة التقديس إلی مسند الت علیم والفكر قد علّمهم أنّ طريق الفلاح في الآخرة هو الاستقامة في الدنيا، وأنّ الإسلام هو الطريق المؤدّي إلی الجنّة... وهذه العلوم جميعها علّمها القرآن للناس فأيقظهم... وقد دام ذلك حتّي استطاع بواسطته جمعٌ من المثقّفين المتعصّبين الجامدين العودة إلی الإسلام والنجاة من التقليد الاعمي للغرب والتأثّر به، وعاد إلی الإسلام حتّي عمر أُوزغان المفكّر الماركسيّ المشهور والامين السابق للحزب الشيوعيّ، الذي جاء طوع إرادته في أفريقيا فالتحق بركب الإسلام، وكتب أثره الكبير: « Lemeilleur Combat » (= أفضل الجهاد)، الذي اقتبسه من بداية الحديث المشهور للنبيّ صلّي الله علیه وآله وسلّم: أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إمَامٍ جَائِرٍ. ويكتب رجلٌ مثل هنري آلِغ رئيس تحرير « جريرة الجمهوريّة الجزائريّة » الناطقة بلسان الحزب الشيوعيّ الجزائريّ، وكان فرنسيّ الاصل انتمي إلی صفوف مجاهدي الإسلام علی رغم تعاليم الحزب، يكتب في السجن أن: أكتبُ في حال يُرثي لها من التعذيب المهول الذي لاقيتُه... إنّهم هنا يقذفون كلّ ساعة مجاهداً من غرف أحد الطوابق إلی ساحة السجن، وأُشاهد بأُمّ عيني أ نّهم، مع التعذيب الفظيع الطويل الذي تبدو آثاره علیهم، كانوا يتمتمون، بأفواه داميةٍ محطّمة، بكلماتٍ غير مفهومة من دعاءٍ مشهور. [81] ولم أكن لاعي معني هذه الكلمات التي يلفظونها، لكنّ ما أعرفه أنّ الشيء الوحيد الذي أعتقد به الآن من بين جميع المذاهب والإيديولوجيّات العالميّة هي تلك الكلمات غير المفهومة... وهذا هو عين ما قاله الجنرال سوستيل، الذي كان كالذئب الوحشيّ للاستعمار الفرنسيّ في أفريقيا، فقد قال: ليس القرآن كتاباً مذهبيّاً ودينيّاً، بل كتاب ضدّ الدين والمذهب، فهو بدلاً من الدعوة للتقوي والعبادة والصلح والعفو والتفكّر في الله والموت والروح وأسرار ما وراء الطبيعة وفلسفة الحياة والمصير النهائيّ للإنسان، فهو يدعو العرب إلی الحرب والنصر والانتقام والتمرّد والسيطرة علی العالم وأخذ الغنائم و... وليس من كتابٍ كالقرآن بإمكانه تحريك الفئات الفقيرة التعسة وتحريضهم علی الشغب، والتأثير بكلماته السحريّة والموسيقيّة المهيّجة علی العقد والخصومات وإثارة مشاعر الغرور والحقد والغليان السياسيّ... انتهي نقل هذه المقولة. يقول كندي ـ الرئيس الامريكيّ السابق في خطابه المفصّل في مجلس الشيوخ بتأريخ 2 تمّوز 1957 م، ضمن هجومه علی فرنسا بشأن سياستها في الجزائر: إنّ التعرّف علی الشخصيّة الوطنيّة تبدأ عادة بشرارة لا يمكن لامطار القمع إخمادها، خاصّة إذا حدث هذا الحريق في منطقة تتمتّع جميعها بميراث الإسلام وتعاليمه. وكان كندي كذلك يُبدي أسفه في أحد خطبه من السياسة الخارجيّة لامريكا في دعمها للحكومات التي تنفر منها شعوبها وتكرهها، فيقول: بدلاً من قيامنا بإسناد الشعوب والوقوف إلی جانبها، فقد دعمنا الانظمة، ولعلّنا قد ربطنا بهذا العمل مستقبلنا مع مصير الدول والحكّام الذين لا شعبيّة لهم والمعرّضين للسقوط في كلّ لحظة... ولقد كانت الاشلإ والاوصال المتناثرة لنوري السعيد رئيس الوزراء العراقيّ الاسبق ـ الذي عُلِّقَ علی أحد أعمدة الكهرباء في تمّوز سنة 1958 م في بغداد مظهر المحنة التي أصابت سياستنا في العراق. [82] سيطرة الاُوروبّيّين علی العالم بعد اكتشاف كريستوف كولومبسوينبغي العلم أنّ سبب ضعف المسلمين وسيطرة الكفّار علیهم يُعزي لعاملَين، وقد أدّي ترك العمل بالقرآن إلی إلحاق هذين العاملين الهزيمة الظاهريّة بالمسلمين: العامل الاوّل: تسابق الاُوروبّيّين في السيطرة علی بلاد العالم بعد حركة كريستوف كولومبوس واكتشاف قارّة أمريكا التي أدّت إلی توسّلهم بالقوّة البحريّة لشنّ الحروب الدمويّة ضدّ المسلمين وبسط سيطرتهم ونفوذهم علیهم. فقد تحرّك كريستوف كولومبوس في مجموعة من غرب إسبانيا المطلّة علی المحيط في طريقهم إلی الهند لاكتشاف طريقٍ جديد وقريب لإسبانيا يمرّ خلال البحار والمحيطات، لكنّهم لم يصلوا إلی الهند، بل اكتشفوا الساحل الشرقيّ لامريكا الجنوبيّة، ثمّ فتحوا أمريكا الجنوبيّة بمساعدة دولة إسبانيا، ثمّ وصلوا بعد ذلك عن طريق جنوب أمريكا الجنوبيّة إلی السواحل الغربيّة لامريكا واتّجهوا إلی غرب المحيط الكبير فوصلوا إلی جزائر جنوب شرقي آسيا التي تدعي إندونيسيا، وفازوا بامتيازات هامّة، ثمّ واصلوا الطريق لفتح الهند. وقد عمل الإسبان والبرتغاليون بعد اكتشاف أمريكا علی السكني في الساحل الغربيّ لامريكا المركزيّة والجنوبيّة وجزر آنتيل وفي بعض المناطق الداخليّة. لتلك النواحي، فأبعدوا تدريجيّاً سكّانها الاصليّين واتّخذوا منازل أُولئك ومساكنهم البدائيّة مستعمرةً لهم. وقد طبق البرتغاليون عين هذا الاُسلوب في بعض جزر الخليج الفارسيّ وسواحل الهند وجزر الهند الشرقيّة، فقد سيطروا في الساحل الجنوبيّ لإيران علی منطقة تدعي اليوم بندر عبّاس، وأسّسوا بندر البرتغال (بورتو كيش)، ثمّ بسطوا نفوذهم وحكمهم من خلال هذا الميناء علی جميع سواحل الخليج الفارسيّ، حتّي أعدّ شاه عبّاس الكبير في زمن الدولة الصفويّة بتحريك من الإنجليز جيشاً مجهّزاً واستعاد هذه المنطقة التي اشتهرت بعد ذلك باسم بندر عبّاس، والتي تمكّن الإنجليز عن طريقها من التوجّه بعد هذه الفتوحات إلی القارّة الجنوبيّة لخطّ الاستواء، باسطين حكمهم علی الجزر والنقاط الهامّة الاستراتيجيّة التي في طريقهم، فصاروا أصحاب الامر والنهي علی إمارات الخليج وحكموا الكويت، قطر، البحرين، دُبَي وعُمان. وقد تابع الهولنديّون البرتغاليّين في مجال السفر البحريّ والسيطرة علی المستعمرات، فقاموا بإخضاع أفريقيا الجنوبيّة واستراليا وجزر جاوة وسومطرة. ثمّ وصلت النوبة هذه المرّة بعد الإسبان والبرتغاليّين إلی الإنجليز والفرنسيّين، فقام الفرنسيّون في البداية بضمّ القسم الاعظم من الهند وأمريكا الشماليّة إليهم وجعلوهما مستعمرةً لهم، وقد ظهرت بينهم وبين الإنجليز منافسة شديدة، لان الإنجليز كانوا يطمعون هم أيضاً في السيطرة علی هذه المناطق، وانجرّت المنافسة إلی حرب تفوّق فيها الإنجليز فأخرجوا معظم القوّات الفرنسيّة من الهند وكندا واستقرّت قوّاتهم في هاتين المنطقتَين الغنيّتَين بالذهب. وقد فقدت المستعمرات الإنجليزيّة في القرن الثامن عشر سعتها وامتدادها بسبب قيام مجموعة من المهاجرين الإنجليز الذين استوطنوا في السواحل الشرقيّة لامريكا الشماليّة بالتمرّد، فقد أعلن هؤلإ استقلالهم وانفصلوا عن دولة الإنجليز وشكّلوا دولة كانت النواة لنشوء الولايات المتّحدة الحاليّة في أمريكا الشماليّة، وفي الحقيقة فإنّ أمريكا الشماليّة لم تكن إلاّ قسماً وكياناً انتقل من أُوروبّا إلی هناك. ثمّ ظهرت حالات انفصاليّة واستقلاليّة مشابهة في نواحٍ أُخري مثل كندا واستراليا ونيوزيلاندا وأفريقيا الجنوبيّة. أمّا الفرنسيّون فقد قاموا بتنظيم قوافل تحت إشراف دولتهم، واندفعوا لفتح ممالك جنوب خطّ الاستواء في الجزء الساحليّ من أراضي أفريقيا الجنوبيّة، فوصلوا أوّلاً إلی الساحل الجنوبيّ لافريقيا، ثمّ عبروا الرأس الابيض، أو رأس الرجاء واتّجهوا صوب الشمال والشرق. ثمّ إنّ البرتغاليّين في سفرهم إلی أجزاء من السواحل الغربيّة لافريقيا، ثمّ إلی نواحي شرق أفريقيا (موزامبيق)، ومنها إلی السواحل الغربيّة للهند، وسيطروا علی الجزء الغربيّ للهند، وبنوا في بعض تلك المناطق قلاعاً حصينة لجمع الامتعة التجاريّة ولإسكان رعايا البرتغال فيها. وقد استولي الفرنسيّون في سباق الفتوحات البحريّة علی جزيرة مدغشقر وجعلوها محلّ جمع الاموال والاطعمة ليتحرّكوا منها نحو فتح الهند. وتقارن مع هذا السباق أن تحرّكت دول إنجلترا وألمانيا وهولندا في هذا الطريق، فسيطروا أوّلاً عن طريق جنوب أفريقيا علی قسم منها، ثمّ اندفعوا في هجومهم إلی جنوب شرقيّ أفريقيا ومنها إلی وسط القارّة، ثمّ شمالاً باتّجاه ممالك موزامبيق وشمالها، وبسطت ألمانيا سلطتها علی الساحل الغربيّ لافريقيا الجنوبيّة (ناميبيا). وفي نفس الوقت فقد شاءت دولة بلجيكا أن لا تتخلّف عن القافلة، فشكّلت قوافل بحريّة ووصلت إلی الساحل الغربيّ لافريقيا عند خطّ الاستواء، ثمّ اندفعت من هناك داخل قارّة أفريقيا متّجهة شمال وجنوب خطّ الاستواء وسيطرت علی منطقة باسم حكوفينزويلا. أمّا الهولنديّون، فقد وصلوا عن طريق البحر إلی سواحل الهند وجزر جنوب شرقيّ آسيا وأسّسوا هناك حكومة تابعة لهولندا، ثمّ تمكّن الفرنسيّون في هذا النزاع والصراع أن يصلوا إلی الهند الصينيّة وأسّسوا حكومة هناك باسم (أنام). وقد سيطر الإنجليز في هذا الصراع أوّلاً عن طريق بومبي علی قسم صغير من الساحل الغربيّ للهند، ونفذوا منه إلی داخل القارّة الهنديّة ووصلوا إلی أواسط الهند، ثمّ وصلوا عن طريق البحر إلی ساحل كلكتا وسيطروا علی مقاطعة بورما وسيام، وتابعوا فتوحاتهم حتّي وصلوا حدود الصين ومملكة التبت. ثمّ إنّ الإنجليز توجّهوا بعد بسط سلطتهم علی إمارات الخليج الفارسيّ إلی جنوب شرق خطّ الاستواء، فسيطروا علی جزيرة كاليدونيا وبوزه الجنوبيّة وشبه جزر الهند الصينيّة وبعض جزر إندونيسيا وهانيدي، ثمّ اندفعوا لفتح استراليا. وكان من نتائج هذه التحرّكات كشف واستعمار القارّة الخامسة التي اختصّ كلّ جزء منها بمجموعة من القوافل الاُوروبّيّة الفاتحة، ثمّ شُكّلت ـ باتّفاق هذه المجموعات دولة استراليا المستقلّة التي انشغلت بتطوير الزراعة وتربية الدواجن وخاصّة الاغنام، ثم بأمر تجارة المنتجات الحيوانيّة. علل ضعف المسلمين ناشي من ضعف العمل بالقرآنالعامل الثاني لضعف المسلمين: في زمن ضعف دولة بني العبّاس في الاندلس (إسبانيا) قُدّم طلب إلی حكومة المسلمين المحليّة هناك لبناء مستشفي لتقديم خدمات إنسانيّة في عدّة مدن إسبانيّة تتحمّل الجماعات المسيحيّة هناك نفقات بنائها، وقد نفّذ هذا الامر الذي كان يمثّل ظاهراً علاج المرضي وشفاءهم شروعاً من المسيحيّين أنفسهم، ثمّ امتدّت خدماتهم بمرور الزمن فصارت تقدّم لجميع الناس المسيحيّين منهم والمسلمين؛ لكنّه كان في الباطن محلاّ لإشاعة شرب الخمور والرقص وممارسة الجنس وغيرها، اجتذب إليه بمرور الوقت جمعاً من الشبّان المسلمين فتياناً وفتيات فصاروا يتمرّدون علی القيود الإسلاميّة ويرتبطون بجماعة الاساقفة المستعمرين. وظهرت في تلك الفترة دول إسلاميّة صغيرة في مقاطعات إسبانيا ومراكش وشمال أفريقيا، ثمّ وقعت الحروب الصليبيّة التي اجتاحت لقرنين ونصف بلاد المسلمين عن طريق البحر والبرّ وانتهت أخيراً بالهزيمة علی يد صلاح الدين الايّوبيّ، لكنّ هذا القائد الإسلاميّ قام ـ مقابل هذا الفتح والظفر علی المسيحيّين المتعطّشين للدماء بإنهاء الحكومة الإسلاميّة الشيعيّة في مصر وشمال أفريقيا، فتأسّست بدلها حكومة سنّيّة شافعيّة، مالكيّة، ثمّ حنفيّة، وكان التشديد علی الشيعة والقتل العامّ لتسعين ألف نفر من شيعة مدينة حلب في يومٍ واحد من أعمال صلاح الدين الايّوبيّ. الحروب الصليبيّة والإبادة الجماعيّة للمسلمين في الاندلسوكان تشجيع الاُوروبّيّين علی فتح البلاد الإسلاميّة من الاُمور المؤثِّرة في أُوروبّا، فقد كان الهجوم علی الدولة الإسلاميّة في الاندلس (إسبانيا) ومحاربتها، والقضاء علی الدول الإسلاميّة الصغيرة في تلك الانحاء، وإخراج المسلمين والقتل العامّ لهم في الاندلس من المسائل المحيّرة في التأريخ والحاكية عن الحدّ الا علی لقسوة المسيحيّين وهمجيّتهم. فحين سيطر المسيحيّون علی إسبانيا ظهرت هناك وجهتا نظر: أُولاهما وهي للقساوسة، تقول بوجوب قتل المسلمين جميعاً، الرجل والمرأة، الصغير والكبير حتّي الاطفال القادمين حديثاً. أمّا وجهة النظر الثانية وهي للمسيحيّين العاديّين والعوامّ، فكانت تقول بوجوب إخراجهم جميعاً من إسبانيا. وقد عمد فيليب الثاني ـ الحاكم آنذاك جمعاً لكِلا القولين إلی إصدار شروط للخروج في سنة 1610 م علی أن يُخرج من إسبانيا من توفّرت فيه تلك الشروط، ويُقتل من لم تتوفّر فيه، وفي النتيجة فقد قُتل ثلاثة أرباع جمع المسلمين هناك وأخرج الربع الباقي فقط. ولقد سقطت إسبانيا بجلالها وعظمتها ومدنيّتها إثر فقدان المسلمين وسكونت النصاري، إلی درجة هدّمت معها المكتبات والمساجد ولم يعد يوجد فيها الاطبّاء والجرّاحون المهرة، وصارت المدينة قذرة للدرجة التي صار معها الناس يلقون نفاياتهم في الشوارع والازقّة ويجلسون علیها للتغوّط. [83] وكان لتشجيع دولة فرنسا وسيطرة نابليون علی مصر [84] ثمّ علی ولايات ليبيا، تونس، الجزائر ومراكش، ونهوض شعوب أُوروبّا من أجل تشكيل دول مستقلّة، والذي كانت نتيجته تأسيس دول بروسيا الشرقيّة، والغربيّة أو ألمانيا العظمي، دولة إيطاليا، واتّفاق هذه الدول علی استعادة المقاطعات التي تسلّطت علیها الدولة العثمانيّة في حملاتها علیها ابتداءً من منطقة آسيا الصغري إلی شبه جزيرة ممالك اليونان، صربستان، ألبانيا، بلغاريا ورومانيا ـ وهو ما دوّنه التأريخ باسم مسألة الشرق انتهاءً بالحرب العالميّة الاُولي كان لذلك كلّه سهم وافر في اضعاف المسلمين. وقد جري بعد عقد الصلح في خاتمة الحرب العالميّة الاُولي تقسيم الدول التي كانت خاضعة للدولة العثمانيّة بين الدول المنتصرة في الحرب، وسمّيت الدول المنتصرة في الحرب بالحلفاء والدول المنهزمة ب المحور.[85] ففي قارّة آسيا صارت سوريا مستعمرة لفرنسا، وصار العراق وشبه الجزيرة العربيّة في نجد والحجاز واليمن وعدن وحضرموت وعُمان وإمارات جنوب الخليج والبحرين من حصّة الاستعمار الإنجليزيّ. أمّا في أفريقيا فقد آل أمر مصر والسودان إلی الاستعمار الإنجليزيّ، في حين أُعطيت ولايات طرابلس الغرب وليبيا إلی إيطاليا، وصارت ولايات تونس والجزائر ومراكش خاضعة للاستعمار الفرنسيّ. ومن الحريّ بالقول أنّ السبب لبداية الحرب العالميّة الاُولي كان هو استيلاء دولة النمسا حين تأسيسها علی مناطق من أطراف مدينة فيينا تشكيل دول هنغاريا وصربستان وألبانيا في شمال أُوروبّا ودولة الإمبراطوريّة الروسيّة القيصريّة التي تضمّ شمال شرقيّ أُوروبّا وشمال آسيا. وقد قامـت الدولة الإمبراطـوريّة الروسـيّة بمنافسـة دول ألمانيا وإنجلترا وفرنسا علی توسيع رقعة أرضها، فحاربت نتيجة لذلك دولة إيران وأخضعت ثمان عشرة ولاية ومدينة في القفقاس وولايات تركستان تحت نفوذها. وقد اشتدّت المنافسة علی توسيع رقعة النفوذ في إيران بين دولة الروس من جهة وبين الحكومة الإنجليزيّة والعثمانيّة من جهة أُخري. وفي هذه الاجواء، فقد اغتيل وليّ عهد النمسا بتحريك من دولة أجنبيّة، فقامت النمسا بإعلان الحرب علی دولة الصرب انتقاماً له، وهكذا فقد انحازت بعض الدول الاجنبيّة إلی النمسا وقامت بمساعدتها، بينما انضمّ البعض الآخر إلی صفّ الصرب، فكانت الدولة العثمانيّة وألمانيا منحازة إلی النمسا، في حين قامت إنجلترا وفرنسا وروسيا القيصريّة بإعلان الحرب منضمّة إلی صفّ صربستان. وقد قامت هاتان المجموعتان والتي دُعيت أُولاهما باسم المحور والثانية باسم الحلفاء بمحاربة مخالفيهم من الطرف الآخر في أطراف الكرة الارضيّة، وبهذه الكيفيّة وقعت الحرب العالميّة الاُولي بين دول العالم وأدّت إلی انقراض الإمبراطوريّة العثمانيّة. وقد قامت إيطاليا بمساعدة صربستان وإنجلترا وفرنسا، وقامت باستعراض قوّتها أثناء الحرب فاستولت علی ليبيا والصومال في القرن الافريقيّ و علی قسم من أرض الحبشة. وحدث أن احتاجت جبهة الحلفاء إلی مساعدات ماليّة لإدارة أُمور الحرب خلال الحرب العالميّة، فمدّت يد الاستجداء إلی أمريكا الظالمة التي جلست تنتظر وتراقب الوضع عن كثب، وكان المبادر إلی هذا العمل دولة إنجلترا، وكان ذلك بالطبع بتأييد من الفرنسيّين، فقدّمت أمريكا المساعدات الماليّة لهم مقابل حصولها علی امتيازات في الممالك المفتوحة التي ستصير من حصّة الدول المنتصرة، وبقبول دول الحلفاء للشرط الامريكيّ فقد دخلت أمريكا كطرف في الحرب. [86] وكان للسفن الحربيّة لهذه الدول أدوار ومبادرات مدهشة، وخاصّة للسفينة الالمانيّة عروس الدنيا التي قامت بقطع خطوط التموين بين دول إنجلترا وفرنسا وحلفائهما في المحيط الاطلسيّ والهندي والهادي، وكانت جبهة المحور من الدولة العثمانيّة وألمانيا علی مشارف الفتح والنصر حين اكتشف السلاح الجديد: الطائرات، وهرع لمساعدة الحلفاء. ارجاعات [71] ـ هذه المقولة مأخوذة من: «دائرة المعارف» قسم المذهب والاخلاق، تأليف جان هيسينيك، طبعة بريطانيا؛ وعن «مجمل التأريخ» تأليف ه. ج ولز، طبعة بريطانيا؛ وعن «روح القوانين» تأليف مونتسيكيو، طبعة طهران. [72] ـ كان تأريخ كتابة سماحة الاُستاذ قدّس الله سرّه لهذه العبارات سنة 1377 ه. ق. [73] ـ كتب أحمد أمين المصريّ في كتاب «يوم الاءسلام» ص 119 إلی 122 يقول: وهكذا كان في كلّ عصر ومصر مصلح ينبّه الوعي القوميّ ويحضّ علی الثورةالاءصلاح. ولمّا أحسّت الدول الاُوروبّيّة بكراهة المسلمين ظنّتهم أطفالاً فرفعت كلمة الاستعمار ووضعت موضعها كلمة الانتداب، ظنّاً منها أنّ المسألة مسألة ألفاظ، ولكن لم يكن المسلمون مغفّلين إلی هذه الدرجة. فلمّا قامت الحرب العالميّة وانتهت كان قادة الاُوروبّيّين والامريكيّين قد نادوا في أيّام الشدّة بمبادي العدالة والحرّيّة وأحقّيّة الشعوب المستضعفة في حكم نفسها بنفسها، فلمّا أرادت أن تتراجع بعد انتهاء الحرب شبّت الثورات في مصر وسورية والعراق وغيرها ضدّ الاستعمار تريد الاستقلال، ففاز بعضها، ولم يفز بعضها. ولا تزال القلوب منطوية علی ضغن، وفكرة الحروب الصليبيّة تعمل عملها إلی اليوم. الحقّ أن موقف الاُوروبّيّين المسيحيّين عجيب، فهم إذا علموا أنّ شعباً نصرانيّاً عُذِّب أو أُهين ثارت ثورتهم، أمّا إذا علموا أنّ المسلمين عُذِّبوا وأُهينوا لم تتحرّك شعرة فيهم، خُذ مثلاً هذا الذي كان بين الارمن والمسلمين، فقد تعدّي الارمن علی المسلمين وعذّبوهم وقتلوهم، فلم يتحرّك الاُوروبّيّين لنصرتهم، وتعدّي المسلمون علی الارمن وعذّبوهم وقتلوهم فثارت ثورة الاُوروبّيّين. ثمّ يستمرّ أحمد أمين في هذا الموضوع حتّي يقول: وما لنا نذهب بعيداً وقد سمعنا في الايّام الاخيرة عن القتال في فلسطين بين اليهود والمسلمين أ نّه إذا انتصر المسلمون نادوا بوقف القتال، وإذا انتصر اليهود سكتوا. ويفعل النصاري الافاعيل في المسلمين، فلا يُقال إنّهم متعصّبون، ويفعل المسلمون جزءاً صغيراً ممّا فعله الاُوروبّيّون فيُرمون بالتعصّب المقيت. والخلاصة، إنّ فكرة الحروب الصليبيّة متغلغلة في نفوسهم، فإن خفيت في عقولهم فهي كامنة في وعيهم الباطن لايصدرون إلاّ عنها، ولا يغفرون أبداً للمسلمين أ نّهم انتصروا علیهم يوماً ما، كما لا يغفرون أيضاً لهم نجاحهم في إدخال الناس في دينهم حتّي من غير تبشير، وعجزهم هم حتّي مع التبشير. وقد اجتمعت مرّةً جمعيّة الرابطة الشرقيّة وأرادت إرسال بعثة طبّيّة إلی جدّة لمساعدة جرحي الحجاز في القتال بين الشريف حسين بن علی وابن سعود، فوافقت علی ذلك، لا نّها كانت تناصر الحسين بن علی، فلمّا أرادت إرسال بعثة طبّيّة أُخري لمساعدة الريفيّين في مراكش أبت علیها، ذلك لانّ المسلمين في نفس الحرب يحاربون الفرنسيّين المسيحيّين. والامثلة علی ذلك لا تُحصي. فمن الغفلة أن نقول إنّ الحرب اليوم حرب سياسيّة لا دينيّة، لانّ المظاهر كلّها تدلّ علی ما نقول. وإنّ النصرانيّة وعداءها للاءسلام كامنة في نفوسهم لم يُزلها أيُّ عامل. غاية الامر أ نّها تحت ستار. وأوضح مثل لذلك أ نّهم عابوا علی ملك إسبانيا قوله المتقدّم، لا نّهم يريدون أن يعملوا من غير أن يقولوا، ويستتروا من غير أن يظهروا، وإنّما هي فلتات ومقارنات تدلّ علی منحاهم. فليتّعظ المسلمون. وإنّ ما يشيعونه من عدل وإخاء ومساواة ليس إلاّ ما بينهم. أمّا الاجناس المسلمة فليس واجباً علیهم فيهم عدل ولا إخاء ولا مساواة. والحوادث ترينا أنّ المسلمين أكثر تسامحاً وأقلّ تعصّباً، فإذا تعصّبوا فمقابلة للتعصّب بالتعصّب. هذا تأريخ صلاح الدين مع الصليبيّة: أيّهم أكثر تسامحاً وأقلّ تعصّباً؟ وهذا الشريف الحسين بن علی، كان يقول القول ويحتفظ به، وكان الاءنجليز يقولون القول في الظاهر ويعملون ضدّه في الخفاء. [74] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 6، ص 358 إلی 375. [75] ـ «سنن أبي داود» ت علیق محمّد محيي الدين عبد الحميد، ج 3، ص 9، كتاب الجهاد. [76] ـ «سنن أبي داود» ج 3، ص 10، كتاب الجهاد؛ ووردت هذه الرواية في «المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبويّ» ج 4، ص 487، منقولة عن «صحيح مسلم» كتاب الاءمارة، ص 158؛ و«سنن النسائيّ» كتاب الجهاد، ص 2؛ و«سنن الدارميّ» كتاب الجهاد، ص 25 (المترجَم)؛ وعن «مسند أحمد بن حنبل» ج 2، ص 374؛ مضافاً إلی «سنن أبي داود». [77] ـ الآيات 72 إلی 74، من السورة 8: الانفال. [78] ـ الآيتان 40 و 41، من السورة 22: الحجّ. [79] ـ الآية 48، من السورة 9: التوبة. [80] ـ كتب أحمد أمين المصريّ في كتاب «يوم الاءسلام» ص 127 و 128، يقول: ومن أهمّ أسباب ضعف المسلمين بُخلهم عن التضحية، وهم يريدون النصر من غير إنفاق، ويعزّ علیهم الاءنفاق لا نّهم يئسوا من النصر أمام العدوّ القاهر، وشحّوا بالمال في أن يُبذل في هذا السبيل، وإذا كانوا أشحّاء بالمال فهم بنفوسهم أشحّ. وفي الحديث يُوشَكُ أَنْ تَتَدَاعَي عَلَيْكُمْ الاُمَمُ كَمَا تَتَدَاعَي الاَكَلَةُ عَلَی قَصْعَتِهَا، قال قائل: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يُوْمَئِذٍ؟ قال صلّي الله علیه وآله وسلّم: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ المَهَابَةُ مِنْكُمْ. وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ. قال: يَا رَسُولَ اللَهِ! وَمَا الوَهَنُ؟ قال صلّي الله علیه وآله وسلّم: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَّةُ المَوْتِ. [81] ـ من الواضح أ نّهم كانوا يتمتمون بالشهادتَين، لكنّ أقوالهم لم تكن مفهومة له باعتباره فرنسيّاً. [82] ـ نقلاً عن كتاب «استراتژي صلح» (= استراتيجيّة السلام) أورده عنه مترجم كتاب «قانون اساسي در اسلام» (= القانون الاساسيّ في الاءسلام) تأليف أبي الا علی المودوديّ، ترجمة السيّد محمّد علی گرامي، في مقدّمة الكتاب المذكور، ص 21 و 22. [83] ـ يقول غوستاف لوبون في كتاب «تاريخ تمدن إسلام»: في القرن الثامن عشر الميلاديّ حين كانت العلوم وخاصّة علم الطبّ والجراحة قد حقّقت تطوّراً ملحوظاً عند المسلمين، فقد وقع في إسبانيا حيث كان الحكم الاءسلاميّ هناك قد أُسقط فيها وصار سكنة إسبانيا بأجمعهم من النصاري، وقع اتّفاق غريب، فقد اقترح بعض الناس مع التواضع والخوف إزالة الاقذار التي كانت تملا شوارع مدريد وتفسد هواءها، وقد احتجّ رجال الصحّة علی ذلك بشدّة قائلين: إنّ آباءهم العقلاء كانوا يعرفون ما يصنعون، وإنّه يمكن للسكّان أن يعيشوا مثلهم بين الاقذار، وإنّ رفعها ينطوي علی تجربة لا يقدر أحد علی كشف عواقبها! [84] ـ يقول أحمد أمين المصريّ في كتاب «يوم الاءسلام» ص 130 و 131: لقد كان نوم الشعوب الاءسلاميّة عميقاً، فلم تستطع أن تصحو إلاّ علی هدير المدافع في تركيا حين غزتهم الجيوش الاُوروبّيّة، وفي مصر حين غزاهم نابليون، فهذا الغزو أفاقهم ونبّههم. وكان في حملة نابليون كثيرون من خَبَرة العلماء الفرنسيّين المختصّ كلّ منهم بفرع من العلم من عاديّات ودينيّات واقتصاد وجغرافية، وكانت مقسّمة إلی أربع فرق، فرقة للرياضيّات وفرقة للطبيعة وثالثة للآداب ورابعة للاقتصاد. ففرقة الرياضيّات خطّطت القاهرة وهيّأت الرسوم لمشروع قناة السويس وأحصت الضرائب التي جباها المماليك من أهل البلاد. وفرقة الطبيعيّات اهتمّت بوضع إحصاء طبّيّ لامراض مصر وجوّها وتربتها وطعامها وإحصاء المواليد والوفيّات وشدّدت بوجوب الاءخبار عن أيّ مرض في نواحي كلّ بلدة. واشتغل العلماء الكيمياويّون في تصفية مياه النيل وتقطيرها وتخليص الاملاح المستخرجة من الاعشاب والنباتات. واهتمّت فرقة الآداب بإنشاء مكتبة يؤمّها رجال العلم ومن يريد المطالعة في ساعات معيّنة. وممّا عُنيت به من المسائل الاقتصاديّة جواز السفر ووجوب استخراجه وإثبات ورثة الميّت بأحقّيّتهم في الوراثة. |
|
|