|
|
إخبار القرآن با تصال الکواکب السیارة مع الکرة الأرضیة قبل انفصالها عنهاإخبار القرآن ونهج البلاغة عن فرضیة لابلاس و نیوتن وکبلروإحدي الآيات القرآنيّة المعجزة هي الإخبار عن الاتّصال والاتّحاد بين الكرات السماويّة في المنظومة الشمسيّة، وأ نّها كانت قبل نشوء الشمس والسيّارات والارض بهذه الكيفيّة متّحدة بأجمعها، ثمّ إنّ الله تعالی فتقها وفصل بينهاعلی صورتها الفعليّة المشهودة. وهذه الآية الكريمة في سورة الانبياء: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُو´ا أَنَّ السَّمَـ'وَ تِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـ'هُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ.[1] ولو ضممنا هذه الآية إلی آية سورة فصّلت: ثُمَّ اسْتَوَي'´ إلَی السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئعِينَ.[2] وعلي الاخصّ إذا أضفنا إلیهما الآية الكريمة في سورة الرعد: اللَهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَ'وَ تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَي' عَلَی الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لاِجَلٍ مُّسَمًّي يُدَبِّرُ الاْمْرَ يُفَصِّلُ الاْيَـ'تِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. [3] فسيتّضح أمر اتّصال هذه الثوابت والسيّارات في منظومتنا الشمسيّة المشهودة مع الشمس والارض قبل زمن انفصالها، أي حين كانت في هيئة كرة ناريّة، ثمّ إنّ الله تعالی فلقها وجزّأها وجعلها في هيئتها الحإلیة في مدارات دقيقة قويمة بواسطة قوّة الجاذبيّة ( التجاذب والتنافر ) في حركة وضعيّة وانتقإلیة. وجميع هذه الاُمور هي ممّا أخبر عنه القرآن الكريم إخباراً معجزاً، فقد أعلن بصراحة عن هذه الاُمور الحقيقيّة الغيبيّة في عصر لم يكن أحد فيه قد تحدّث عن كون الكرات السماويّة من دخان ونار، وعن اتّصالها جميعاً طبق فرضيّة لابلاس، وعن تجاذبها طبق كشف إسحاق نيوتن، وعن حركتها الصحيحة دونما تخلّفعلی أساس قانون كِبْلِر. قال الشيخ الطبرسيّ في « مجمع البيان » في ذيل آية ثُمَّ اسْتَوَي'´ إلَی السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ. « أي: ثمّ قصد إلی خلق السماء وكانت السماء دخاناً.[4] » وقال الفخر الرازيّ في « مفاتيح الغيب » في ذيل هذه الآية: « ذكر صاحب « الاثر » أ نّه كان عرش اللهعلی الماء قبل خلق السماوات والارض، فأحدث الله في ذلك الماء سخونةً فارتفع زبد ودخان، أمّا الزبد فبقيعلی وجه الماء فخلق الله منه إلیبوسة وأحدث منه الارض؛ وأمّا الدخان فارتفع وعلا، فخلق الله منه السماوات »[5]. ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في « نهج البلاغة »: وَكَانَ مِن اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ وَبَدِيعِ لَطَائفِ صَنْعَتِهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ البَحْرِ الزَّاخِرِ المُتَرَاكِمِ المُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً، ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا، فَاسْتَمْسَكَتْ بَأَمْرِهِ وَقَامَتْ عَلَی حَدِّهِ [6]. ونشاهد في هذه الجُمل المعدودة للإمام عليه السلام ثلاث فرضيّات إلی لابلاس ونيوتن وكبلر: فرضيّة لابْلاس [7] في عبارة: فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا. فرضيّة نيوتن[8] في عبارة: فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ. و فرضيّة كبلر[9] في عبارة: وَقَامَتْ عَلَی حَدِّهِ. وتعرف فرضيّة لابلاس في علم التنجيم والهيئة بـ فرض لابلاس. يقول: « إنّ تشابه الحركة الوضعيّة والانتقإلیة لاجزاء المنظومة الشمسيّة مع بعضها وخروجها من مركز السيّارات ليس قائماًعلی أساس الصدفة، بل ينبغي البحث عن العلّة الاُولي لهذا التشابه والاختلاف ». ثمّ إنّه يشرح فرضيّتهعلی النحو التإلی: « لقد كانت المنظومة الشمسيّة في بداية أمرها كوكباً سحابيّاً كبيراً يمتدّ إلی مدار النبتون، ثمّ إنّه فقد حرارته الخارقة تدريجيّاً، فوُجِدَتْ كرات ذات أبعاد مختلفة إثر الضغط والتراكم، وبقيت الشمس ـ وهي المركز الحقيقيّ الذي كان جزءاً من المنظومة علی هيئة كرة منفصلةعلی حدة »[10]. وذكر أيضاً في بيان فرضيّته: « أنّ كرات المنظومة الشمسيّة هي قطع قد انفصلت عن الشمس إثر قربها وارتطامها بنجم آخر » [11]. وبطبيعة الحال، فإنّ جميع هذه الفرضيّات ـ في حال تحقّقها عائدة إلی أمر الله العليم وإرادته وعلمه وحُكمه، وليس إلی الصدفة التي يظنّها الطبيعيّون، إذ قيل: « يقول كورسي موريسون في ص10 من كتاب « راز آفرينش انسان » ( = سرّ خلقة الإنسان ) ] ترجمة السيّد محمّد السعيديّ [: « يعتقد بعض المنجّمين أنّ احتمال تقارب نجمين إلی بعضهما إلی الحدود التي تجعل قوّة الجاذبيّة بينهما مؤثّرةً بحيث تجذبهما إلی بعضهما هو بنسبة واحد من عدّة ملايين. أمّا احتمال اصطدام نجمَين مع بعضهما بحيث يتلاشيان فهو احتمال نادر إلی درجة يخرج معها من سعة قدرة المحاسبة ». فيتّضح إذاً ـ فيما لو قبلنا بهذه الفرضيّة ـ: أنّ الارض هي قطعة قد انفصلت عن الشمس اثر الاصطدام، وعلينا أن نفترض أنّ هناك تعمّداً في حصول ذلك الاصطدام، وأنّ هناك هدفاً خاصّاً من ذلك العمل، وهو نشوء الحياة، ثمّ الحيوان ثمّ الإنسان، بعنوان الهدف الاصليّ لمخلوقات الارض ». [12] کلام سماحة العلامة فی کیفیة انفصال الأجرام بعد أن کانت متصلةقال سماحة الاُستاذ قدّس الله نفسه في تفسير الآية السالفة الذكر أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُو´ا: « المراد بالرؤيةِ العِلمُ الفكريّ، وإنّما عبّر بالرؤية لظهوره من حيث إنّه نتيجة التفكير في أمرٍ محسوس. و الرتق والفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في « المفردات »: الرَّتْق الضمّ والالتحام خلقةً كان أم صنعة، قال تعالی: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـ'هُمَا. وقال: الفَتْق الفصل بين المتّصلَينِ، وهو ضدّ الرتق انتهي. وضمير التثنية في كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـ'هُمَا للسماوات والارض، بعدّ السماوات طائفة والارض طائفة، فهما طائفتان اثنتان، ومجيء الخبر ـ أعني رتقاً مفرداً لكونه مصدراً وإن كان بمعني المفعول؛ والمعني: كانت هاتان الطائفتان منضمّتَينِ متّصلتَينِ ففصلناهما. ] و [ المراد بـ الَّذِينَ كَفَرُوا ـ بمقتضي السياق هم الوثنيّون، حيث يفرّقون بين الخلق والتدبير بنسبة الخلق إلی الله سبحانه والتدبير إلی الآلهة من دونه؛ وقد بيّن خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلی ما لا يُرتاب فيه من فتق السماوات والارض بعد رتقهما، فإنّ في ذلك خلقاً غير منفكّ عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد وقيام تدبيرهما بآخِرين؟! لا نزال نشاهد انفصال المركّبات الارضيّة والجويّة بعضهما من بعض، وانفصال أنواع النباتات من الارض، والحيوان من الحيوان، والإنسان من الإنسان، وظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار وخواصّ جديدة، بعد ما كان متّصلاً بأصله الذي انفصل منه غير متميّز الوجود ولا ظاهر الاثر ولا بارز الحكم، فقد كانت هذه الفعليّات محفوظة الوجود في القوّة مودعة الذوات في المادّة رتقاً من غير فتق، حتّي فتقت بعد الرتق وظهرت بفعليّة ذواتها وآثارها. والسماوات والارض بأجرامها حالها حال أفراد الانواع التي ذكرناها، وهذه الاجرام العلويّة والارض التي نحن عليها، وإن لم تسمح لنا أعمارناعلی قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئيّة التي ذكرناها، فنري بدء كينونتها أو انهدام وجودها، لكنّ المادّة هي المادّة، وأحكامها هي أحكامها، والقوانين الجارية فيها لا تختلف ولا تتخلّف. فتكرار انفصال جزئيّات المركّبات والموإلید من الارض ونظير ذلك في الجوّ يدلّناعلی يومٍ كانت الجميع فيه رتقاً منضمّة غير منفصلة من الارض. وكذا يهـدينا إلی مرحلة لم يكن فيها ميّز بين السـماء والارض، وكانت الجميع رتقاً ففتقها الله تحت تدبيرٍ منظّم متقن ظهر به كلّ منهاعلی ما له من فعليّة الذات وآثارها. فهذا ما يُعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلويّة والسفليّة كينونةً ممزوجة بالتدبير، مقارنةً للنظام الجاري في الجميع، وقد قرّبت الابحاث العلميّة الحديثة هذه النظرة، حيث أوضحت أنّ الاجرام التي تحت الحسّ مؤلّفة من عناصر معدودة مشتركة، ولكلّ منها بقاء محدود وعمر مؤجّل وإن اختلفت بالطول والقصر »[13]. کلام الطنطاوی فی تفسیر آیة: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا...وقال الشيخ الطنطاويّ في تفسيره، في ذيل الآية المباركة: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَـ'وَ تِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـ'هُمَا: « ها أنت ذا قد اطّلعتعلی ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين من أنّ السماوات والارض، أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم، كانت ملتحمةً ففصلها الله تعالی. وقلنا إنّ هذه معجزة، لانّ هذا العلم لم يعرفه الناس إلاّ في هذه العصور. ألا تري أنّ كثيراً من المفسّرين قالوا إنّ الكفّار في ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم. فكان جوابهمعلی ذلك أ نّهم أخبروا به في نفس هذه الآية، فكأنّ الآية تستدلّ عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك أنّ هذه الاُمور لم تخلق. وقد أخذ العلماء يؤّلون تأويلات شتي لفرط ذكائهم وحرصهم رحمهم الله. وها نحن أُولاء نجد هذه العلوم المكنونة المخزونة قد أبرزها اللهعلی أيدي الفرنجة كما نطق القرآن هنا، كأ نّه يقول: سَيَري الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ كَانَتْ مَرْتُوقَةً فَفَصَلْنَا بَيْنَهُمَا. فهو وإن ذكرها بلفظ الماضي، فقد قصد منه المستقبل، كقوله تعالی: أَتَي'´ أَمْرُ اللَهِ. وهذه معجزة تامّة للقرآن، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا، ولذلك تجد نفس هذه المسألة أصبحت عقيدة في جميع المدارس شرقاً وغرباً، فإنّهم يقولون للتلميذ إنّ الارض جزء من الشمس انفصلت منها، وهي تدور حولها. هذه العلوم أصبحت عقائد للذين كفروا والذين آمنوا. ها هو ذا ربّنا يقول لنا: لقد فهم الذين كفروا علوماً، فهلاّ آمنوا بي، لانّ هذه العلوم تدلّعلی عظمتي وحكمتي وإبداعي وجمإلی وإحكامي في عمل، لانّي هكذا خلقتُ الكائنات وربّيتها طبقاً عن طبق باعترافهم، وجعلتُ الماء لحياة الحيوان، والجبال لحفظ الارض من التموّج والضياع في الخلاء الذي لا يتناهي. أَيُّهَا العُلَمَاءُ! لاَ عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ، وَلاَ مَخْبَأَ بَعْدَ بوسٍ. قَدْ أُعْذِرَ مَنْ أَنْذَرَ. [14] هل بعدما تبيّن لكم الحقّ ورأيتم كيف رضي اللهُ العلوم متي كانت موافقةً للعقل وحثَّ الناس عليها، هل بعد هذا تتجافون عن النظر لعجائب ربّكم؟ كفي يا أُمّة الإسلام. أ يـّها الذكيّ القاري لهذا التفسير! اسمعْ منّي وتأمّل ما أقول: قرأ رسول الله صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم قوله تعالی: وَإِذْ أَخَذَ اللَهُ مِيثَـ'قَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـ'بَ لَتُبَيّـِنُنَّهُ و لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ. [15] فقال صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم: مَا عَلَّمَ اللَهُ عَالِماً عِلْماً إلاَّ أَخَذَ عَلَيْهِ مِنَ المِيثَاقِ مَا أَخَذَ عَلَی الاَنْبِيَاءِ: «لَتُبَيِّنُنَّهُ و لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ». هذا قوله صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم: « أخذ علينا العهد كما أخذعلی الانبياء ». إنّ الانبياء إلیوم عند ربّهم، ونحن سكّان الارض الآن مأخوذةٌ علينا العهود، والعهد تابع لنفس العلم. فأنت أ يـّها الذكيّ مسؤول عن هذه الاُمّة وعمّن حولكعلی مقدار طاقتك. هل في شرعة الإنصاف أن تكون أُمّة هذا كتابها أجهل الاُمم به وبالعلوم التي أنزلها الله؟! هل من جادّة الحقّ وطريق الصواب أنّ الله يقول: وَلَقَدْ مَكَّنَّـ'كُمْ فِي الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـ'يِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [16]، ويصبح المخاطبون بهذا القول أجهل الاُمم بهذه الارض وبما فيها. يقول الله: إنّ الارض التي جعلتُ لكم فيها معايش محلّ شكركم وأنتم لا تشكرون إلاّ قليلاً، ولا يكون الشكر إلاّ بالتذكّر والتفكّر أوّلاً، والعمل بإلید واللسان ثانياً. ها أنت ذا عرفتَ وأنت مسؤول بين يدي الله، فلتكن أنت العامل لاُمّتك الإسلاميّة. إنّها في حاجةٍ إلی النصير والمعين، فأذع هذا القول وأمثاله ممّا يفتح به عليك ما دُمتَ من الصادقين الموقنين»[17]. العلوم المادیة والطبیعیة شریفة وذات فضل مااوجبت کمال الإنسانوينبغي هنا أن يُقال للطنطاويّ: إنّ أعلي العلوم وفقاً لمنطق العقل ولمضامين الآيات ولسُنّة رسول الله وسيرته ونهجه هو العلم بالنفس، لا العلوم المادّيّة الطبيعيّة. ذلك أنّ العلوم الطبيعيّة ذات قيمة واعتبار ما دامت مقدّمة للكمال المعنويّ والخصال الروحيّة الحسنة للإنسان، فإن تجاوزت هذا الحدّ كانت خطرة ومهلكة. وعبارة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ في هذه الآية بمعني عدم الوصول إلی مقام الإنسانيّة كما هو حقّه، ولا تعني قلّة الإفادة من المعادن والزخارف، أو قلّة الغور في علائق المادّة وآثارها ونتائجها. أجل، لقد اكتسب الكفّار هذه العلوم الطبيعيّة، واستخدموها في غير رفاه البشريّة، وجعلوها وسيلة لإفساد النفوس والاموال والاعراض، ومدعاةً للتسلّط والهجوم الوحشيّعلی المسلمين، فقد صار لزاماًعلی المسلمين، بل صار من أهمّ واجباتهم، أن يكتسبوا تلك العلوم ويتفوّقوا فيها عليهم، لا لنفاسة تلك العلوم، بل لضرورة قطع أيدي الكفر الخائنة وقطع أيدي المعتدين المتجاوزين وإعلاء كلمة الإسلام وحطّ كلمة الكفر والزندقة والإلحاد، إذ الإسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَي عَلَيْهِ.[18] لقد أصبح من الضروريّعلی المسلمين في عصرنا الحاضر أن يستفيدوا من هذه العلوم بقدر حاجتهم ومقدّمةً لكمالهم وعلوّهم ورفعتهم، ليس بحسب الواجب الاوّلي، بل بحسب اقتضاء الضرورة. تماماً كصاحب دارٍ ومزرعة عزف عن الاستراحة في الغرفة، وعن النوم في ركنٍ آمن منه، والتنفّس من هوائه المنعش اللطيف، وإلیعلی نفسه أن يقفعلی سطح الدار ليلاً ليحرسها ممسكاً بالبندقيّة والرصاص، أو بالخنجر والسكّين، ويبقي خافراًعلی السطح إلی الصباح ليردّ عنها كيد اللصوص المعتدين، ويمنع عن حرمه أنظارهم الخائنة، ويحرس زوجته وأولاده وأمواله وناموسه. فهذا العمل ضروريّ من هذا الرجل، إلاّ أ نّه ليس واجبه الاوّلي أو مطلوبه البدويّ، بل هو أمر أُجبر عليه، إذ ليس من عاقل يعدّ الحرب والدفاع أمراً فطريّاً بدويّاً ومصلحةً أوّليّة في حدّ نفسه. وكلامنا هنا في منتهي الدقّة، وهو أنّعلی المسلمين أن يسعواعلی الدوام لتحصيل كمالهم المعنويّ، وليس لتحصيل العلم الدنيويّ الذي هو في الحقيقة علم الزريبة والحظيرة وعلم كيفيّة ملء بيت الخلاء وتفريغه؛ وعليهم في الوقت نفسه أن يستفيدوا من الدنيا بقدر ما يكون مقدّمة لهذا الامر الخطير، ولردع يد التجاوز عن هذا الصراط المستقيم والنهج القويم. مثلما قال المؤمنون والعلماء والعقلاء في عصر النبيّ موسيعلی نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام لقارون المغرور المعتدي: وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَبـ'كَ اللَهُ الدَّارَ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَهُ إلیكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاْرْضِ إِنَّ اللَهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.[19] ولا تغترّ بعلمك ولا بمالك الذي اكتسبته بعلمك وفكرك ولا تقلْ: إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ و عَلَي' عِلْمٍ عِندِي´[20]؛ فلا معني إذاً لإحساني إلی الفقراء ولتعييني لهم في هذه الاموال حقّاً معلوماً مفروضاً. إنّ القرآن الكريم يدعونا للنظر إلی جميع الموجودات بنظر الوحدة، وأن نعتبرها بأجمعها من أصل واحد، وأن نحصر هذا البحر العظيم الموّاج للكثرات في نفس الماء الصافي الذي لا لون له ولا طعم، وأن نعدّها ناشئةً بأجمعها من منشأ واحد، وأن نعتبر هذه الاختلافات والعجائب والغرائب والاشكال والصور التي نشاهدها في هذا العالم كلّ يوم أمراً منحصراً في إرادة الحيّ القيّوم الذي خلع عليها هذه الاردية المختلفة وألبسها هذه الخلع المتباينة. لاحظوا كيف أنّ الله الحكيم يريد أن يهدينا إلی قدرة الواحد، وعلم وحكمة الواحد، وإرادة ومشيئة الواحد عن طريق الآيات الآفاقيّة والعلوم التجريبيّة والطبيعيّة، وعن طريق مشاهدة كلّ هذه العجائب في عالم الخلقة الشامخ! وكيف يُرجع جميع هذه الاختلافات والكثرات إلی مبدأ واحد! وكيف ينبّهنا إلی هذا الامر الخطير من خلال هذه الآية الكريمة الشريفة: وَفِي الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـ'وِرَ تٌ وَجَنَّـ'تٌ مِّنْ أَعْنَـ'بٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَي' بِمَآءٍ وَ حِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَي' بَعْضٍ فِي الاْكُلِ إِنَّ فِي ذَ لِكَ لاَيَـ'تٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. [21] وحقّاً أ نّه من أعظم عجائب الخلقة، إذ تُسقي الارض الواحدة بماءٍ واحد، وعلي الرغم من عدم اختلاف ترابها وموادها المركّبة، لكنّها مع ذلك تنبت شجرة تفّاح، وشجرة كمثري، وشجرة جوز، وشجرة يقطين، وشجرة عنب، ونخلة، وتنبت نبتة حنطة فتخضّر بسنابل الحنطة، وتنبت كذلك نبتة شعير، ونبتة رزّ، ونبتة عدس، وهذه النباتات المتعددة التي لا تعدّ ولا تُحصي، وأشجار الغابات هذه، وهذه الازهار المختلفة الالوان ذوات الروائح العطرة المتفاوتة تجعل المزرعة بُستاناً للورد أشبه بجعبة العطّار. تفسیر العلامة الطباطبائی لآیة: وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَي' بَعْضٍ فِي الاْكُلِيقول سماحة الاُستاذ العلاّمة في تفسير هذه الآية: « قال الراغب: الصنو الغصن الخارج عن أصل الشجرة. يقال: هُما صِنْوا نَخْلَةٍ وفُلانٌ صِنْوُ أَبِيهِ، والتثنية صِنْوَان، وجمعه صِنْوَان، قال تعالی: صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ » انتهي. وقال: والاُكل لما يؤكل، بضمّ الكاف وسكونه؛ قال تعالی: أُكُلُهَا دَائِمٌ؛ والاَكلة للمرّة، والاُكلة كاللقمة انتهي. والمعني أن من الدليلعلی أنّ هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبّر وراءه يخضع له الاشياء بطبائعها، ويجريهاعلی ما يشاء وكيف يشاء، أنّ في الارض قطعاً متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها، وفيها جنّات من أعناب، والعنب من الثمرات التي تختلف اختلافاً عظيماً في الشكل واللون والطعم والمقدار واللطافة والجودة وغير ذلك. وفيها زرع مختلف في جنسه وصنفه من القمح والشعير وغير ذلك، وفيها نخيل صنوان ـ أي: أمثال نابتةعلی أصل مشترك فيه وغير صنوان ـ أي: متفرّقة نسقي الجميع من ماء واحد ونفضّل بعضهاعلی بعض بما فيه من المزيّة المطلوبة في شيء من صفاته. فإن قيل: هذه الاختلافات راجعة إلی طبائعها الخاصّة بكلّ منها، أو العوامل الخارجيّة التي تعمل فيها فتتصرّف في أشكالها وألوانها وسائر صفاتهاعلی ما تفصّل الابحاث العلميّة المتعرّضة لشؤونها الشارحة لتفاصيل طبائعها وخواصّها، والعوامل التي تؤثّر في كيفيّة تكوّنها وتتصرّف في صفاتها. قيل: نعم، لكن ينتقل السؤال حينئذٍ إلی سبب اختلاف هذه الطبائع الداخليّة والعوامل، فما هي العلّة في اختلافها المؤدّية إلی اختلاف الآثار؟ وتنتهي بالآخرة إلی المادّة المشتركة بين الكلّ المتشابهة الاجزاء، ومثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود، فليس إلاّ أنّ هناك سبباً فوق هذه الاسباب أوجد هو المادّة المشتركة، ثمّ أوجد فيها من الصور والآثار ما شاء. وبعبارةٍ أُخري: هناك سبب واحد ذو شعور وإرادة تستند هذه الاختلافات إلی إراداته المختلفة، ولولاه لم يتميّز شيء من شيء، ولا اختلف في شيء هذا. ومن الواجبعلی الباحث المتدبّر في هذه الآيات أن يتنبّه أنّ استناد اختلاف الخلقة إلی اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالاً لقانون العلّة والمعلول كما ربّما يتوهّم، فإنّ إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا، حتّي تتغيّر ذاته بتغيّر الإرادات، بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله ومنتزعة من العلل التامّة للاشياء، فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتّي يوافيك توضيحه في محلّ يناسبه إن شاء الله ». إلی أن يصل إلی قوله: « وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية إنّما سبقت حجّة لتوحيد الربوبيّة لا لإثبات الصانع أو توحيد الذات، وملخّصها أنّ اختلاف الآثار في الاشياء مع وحدة الاصل يكشف عن استنادها إلی سبب وراء الطبيعة المشتركة المتّحدة وانتظامها عن مشيّته وتدبيره، فالمدبّر لها هو الله سبحانه، وهو ربّها لا ربّ غيره، فما يتراءي من المفسّرين أنّ الآية مسوقة لإثبات الصانع في غير محلّه. علی أنّ الآياتعلی ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاجعلی الوثنيّين، وهم إنّما يُنكرون وحدة الربوبيّة، ويثبتون أرباباً شتّي، ويعترفون بوحدة ذات الواجب الحقّ عزّ اسمه، فلا معني للاحتجاج عليهم بما ينتج أن للعالم صانعاً. وقد تنبّه به بعضُهم فذكر أنّ الآية احتجاجعلی دهريّة العرب المنكرين لوجود الصانع، وهو مردود بأ نّه لا دليل من ناحية سياق الآيات يدلّعلی ما ادّعاه ». إلی أن يقول: « في « تفسير العيّاشيّ » عن الخطّاب الاعور، رفعه إلی أهل العلم والفقه من آل محمّد عليهم السلام، قال: وَفِي الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـ'وِرَتٌ، يعني هذه الارض الطيّبة تجاور مجاورةً هذه الارض المالحة وليست منها، كما يجاور القومُ القومَ وليسوا منهم. الروایات الواردة فی نص:أنا وأنت یا علی من شجرة واحدةوفي « تفسـير البرهان » عن ابن شهرآشـوب، عن الخركـوشـيّ في « شرف المصطفي »، والثعلبيّ في « الكشف والبيان »، والفضل بن شاذان في « الامإلی » ـ واللفظ له بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: سمعتُ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم يقول لعليّ عليه السلام: النَّاسُ مِنْ شَجَرٍ شَتَّي، وَأَنَا وَأَنْتَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ قَرَأَ: «جَنَّـ'تٌ مِنْ أَعْنَـ'بٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَي' بِمَآءٍ وَ حِدٍ»: بِالنَّبِيِّ وَبِكَ. قال: ورواه النطنزيّ في « الخصائص » عن سلمان. وفي رواية: أَنَا وَعَلِيُّ مِنْ شَجَرَةٍ؛ وَالنَّاسُ مِنْ أَشْجَارٍ شَتَّي. قال صاحب « البرهان »: وروي حديث جابر بن عبد الله الطبرسيُّ ] في « مجمع البيان » [، و عليّ بن عيسي في « كشف الغمّة ». ثمّ قال سماحة الاُستاذ قدّس الله رَمْسَهُ بعد نقل هذه العبارات عن تفسير « البرهان »: « أقول: ورواه في « الدرّ المنثور » عن الحاكم وابن مردويه عن جابر، قال: سمعتُ رسول الله صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم يقول: يَاعلی! النَّاسُ مِنْ شَجَرٍ شَتَّي؛ وَأَنَا وَأَنْتَ يَا عَلِيُّ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ ] وَآلِهِ [ وَسَلَّمَ: «وَجَنَّـ'تٌ مِّنْ أَعْنَـ'بٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ».[22] والخلاصة، فإنّ التأمّل في قوله تعالی في هذه الآية يُسْقَي' بِمَآءٍ وَ حِدٍ يفتح لنا عالماً من أبواب المعرفة، ويوضّح لنا كيفيّة ربط القديم بالحادث، ويبيّن مسألة الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة، ويجعل ربوبيّة ذات الخالق الواحد الاقـدس لجميع الممكنات بلا اسـتثناء أمراً مشـهوداً جليّاً، ولو أراد امرؤ حقّاً أن يوفي تفسير هذه الآية الكريمة المباركة حقّه، فعليه أن يؤلّف كتاباً في ذلك. كما أنّ عالماً من معرفة حقيقة الولاية وشهودها سيتّضح من خلال هذه الرواية التي نُقلت مؤخّراً، والتي فسّر فيها رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم عبارة: يُسْقَي' بِمَآءٍ وَ حِدٍ بنفسه وبأمير المؤمنين عليهما الصلاة والسلام، حيث سيتجلّي عياناً كيف أنّ جميع كثرات هذا العالم وجميع نفوس عباد الله، أخيارهم وأشرارهم، وسعداؤهم وأشقياؤهم؛ من جنّ وإنس وملائكة، ومن أصناف الحيوانات وأنواع الجمادات، ومن نور وبرق وموج، والروابط الدقيقة بين الذرّات والاحكام العجيبة الجارية في ناموس المادّة والحياة، متفرّعة بأسرها وبأجمعها من ولاية رسول الله وولاية عليّ بن أبي طالب عليهما الصلاة والسلام، وولايتهما ولاية واحدة. آیات قرآنیة أًخری تدعو الی السیر فی الآیات الآفاقیةوأحد الموارد التي يدعونا فيها القرآن إلی السير والتجوال في الآيات الآفاقيّة وفي عالم الطبيعة، ثمّ يتحوّل للدعوة إلی توحيد ذات الحقّ وإلی الخضوع والعبوديّة المطلقة أمام عظمة عرشه، هو الآيات التإلیة: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَر تٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَ نُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدُدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَ نُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالاْنْعَـ'مِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَ نُهُ و كَذَ لِكَ إِنَّمَا يَخْشَي اللَهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَـ'´ؤُا إِنَّ اللَهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ'بَ اللَهِ وَأَقَامُوا الصَّلَـو'ةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـ'هُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُـونَ تِجَـ'رَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ و غَفُورٌ شَكُورٌ [23]. ( أي يؤدّي حقّ شكر العباد ). وتدعونا هذه الآيات أوّلاً إلی سرّ التوحيد في ربوبيّة الحقّ، من اختلاف أنواع الثمار وأصنافها، واختلاف الخطوط والعروق البارزة في الجبال التي تميّز طبقاتها عن بعضها بألوان مختلفة، واختلاف الناس والحيوانات وأقسام الضأن والبقر والإبل. وتذكّرنا ثانياً أنّ العلماء من بين جميع الناس هم الذين يدركون هذا الارتباط المدهش، ويشاهدون نور وحدة الحقّ في مظاهر الكثرات. وتبيّن ثالثاً أنّ المراد بالعلماء مَن يتلو القرآن ويقيم الصلاة وينفق من أمواله سرّاً وعلانية في سبيل المحبوب والمعشوق الازليّ الابديّ. ومن هنا يتّضح معني العالِم، ويتّضح كذلك المراد بالعلم، ويتبيّن أ نّه الارتباط الوثيق بكتاب الله تعالی والخضوع لعبوديّته، من خلال الدعاء والتضرّع إلی ساحته عزّ وجلّ، والإنفاق والإيثار في سبيله، لا مجرّد الذهاب إلی الدرس وتعلّم الكتاب والقراءة ومعرفة العلوم الفكريّة. فتلك الاُمور ليست علماً، وليس أصحابها من العلماء. ولو شوهد أفراد من هذه الزمرة في عصر من العصور يُطلقونعلی أنفسهم هذه التسمية، فذلك من باب إلباس الباطل لباسَ الحقّ، وهو تصوّر إبليس في هيئة الآدميّين. وينبغي ـ بناءعلی منطق القرآن القويم ـ أن يقسّم الذين يحملون اسم العلماء إلی طائفتَينِ: الاُولي: طائفة العلماء الحقيقيّين الذين يتعاملون مع القرآن حسب مصداق هذه الآية، فيتلون آياته، فتستقرّ في نفوسهم وقلوبهم، وتزكّي تلك النفوس وتذكّيها[24] وتوصلها إلی الخضوع والخشوع الحقيقيَّين، وتجعلهم يحسّون بالانكسار والصَّغار في مقابل عظمة الحقّ وأُبّهته وجلاله. الثانية: العلماء الشكليّون الذين تنحصر معرفتهم بالقواعد وأحكام التفسير والفقه والاُصول والحِكَم، والذين يُحكِمون الظواهر والشكليّات، لكنّ هذه العلوم لم تستقرّ في أرواحهم، ولم تبلغ صُقع نفوسهم، فقد عدّوا العلم وسيلة للجاه والرئاسة، فباعوا الحقيقة والوجدان والعاطفة والآخرة ورسول الله والقرآن وكلّ المقدّسات بثمن بخس من أجل التفوّقعلی الآخرين. وأمثال هؤلاء هم الذين عبّر عنهم القرآن بأ نّهم تنزّلوا وانحطّوا إلی ما دون البهائم، وقال عنهم أُولَـ'´نءِكَ كَالاْنْعَـ'مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ[25]؛ نَعُوذُ بِاللَهِ مِنْ سَطْوَةِ جَلاَلِهِ وَعَظَمَةِ قَهْرِهِ. إنّ تلاوة القرآن والتدبّر والتفكّر في آياته يجعلنا محمّديِّينَ، ويوصلنا إلی القرآن ويجعلنا فانين فيه ومندكّين، لانّ القرآن هو أُنموذج وبيان وممثّل للنفس المحمّديّة والاخلاق المحمّديّة. القرآن هو ممثّل ومُظهر ذلك الخُلق العظيم؛ وذلك الخُلق العظيم منطبقعلی لطائف وظرائف آيات القرآن. ولقد وصف الله نبيّه في قرآنه الكريم بالاخلاق العظيمة، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَي' خُلُقٍ عَظِيمٍ. [26] ومدح نبيّه بشرح الصدر، وهو كناية عن قابليّة تحمّل أصعب المشكلات، وقابلية أعلي درجة من الفيوضات، فقال تعالی: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك ( لتحمّل ثقل الوحي وعناء الرسالة العظيمة ) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ( وهو الالتفات إلی الكثرات بواسطة سطوع نور التوحيد ) الَّذِي´ أَنقَضَ ظَهْرَكَ. [27] الآیات الواردة فی کیفیة الإنفاق وظرائف نکات الأخلاقولو تأمّلنا في تعالیم القرآن الاخلاقيّة، لوجدنا أ نّه يهدي عالَم البشريّة إلی أعلي مرتبة من التوحيد بدقّة متناهية ومُراقبة عميقة، ولاكتشفنا أَ يـَّةَ عقبات صعبة ومزالق خطرة يزيحها من طريق البشر! وتكفينا نظرة واحدة إلی أحد التعالیم القرآنيّة ـ وهو في أمر الإنفاق وكيفيّته لتقودنا إلی هذه النكتة. فالقرآن الكريم أوّلاً لا يُمضي ولا يقرّ الإنفاق في جميع صوره وأشكاله، ويُعلن بصراحة أنّ الإنفاق ينبغي أن يكون في سبيل الله تعالی وبقصد إعلاء كلمة الدين وحفظ المؤمنين من تلاعب أيدي الشياطين. وبعبارة موجزة فإنّ الإنفاق ينبغي أن يكون في سبيل الله تعالی، لا في سبيل الطاغوت. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَ لَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ( فيخسرون دُنياهم ) وَالَّذِينَ كَفَرُو´ا إلَی' جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.[28] مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَـ'ذِهِ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُو´ا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ( فلم ينتفعوا به ) وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَهُ وَلَـ'كِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. [29] وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ القرآن يبيّن أنّ الإنفاق ينبغي أن يتوسّط حدّي الإسراف والتقتير، فيعدّ من صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَ لِكَ قَوَامًا.[30] وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَی' عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا. [31] روي سماحة الاُستاذ قدّس الله رَمْسَه في تفسيره عن « تفسير القمّيّ » عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: المحسور العريان. کان سخاء رسول الله صلی الله علیه وآله یفوق الحدوفي « الكافي » بإسناده عن عجلان، قال: كنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام فجاء سائل، فقام إلی مكتل فيه تمر فملا يده فناوله، ثمّ جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله، ثمّ آخر، فقال: اللَهُ رَازِقُنَا وَإيَّاكَ! ثمّ قال ( الإمام ): إنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئاً إلاّ أعطاه، فأرسَلَتْ إلیه امرأة ابناً لها، فقالت: فاسأله فإن قال: ليس عندنا شيء، فقل: أعطني قميصك. قال: فأخذ قميصه فرماه إلیه ـ وفي نسخة أُخري: وأعطاه فأدّبه الله تبارك وتعالیعلی القصد فقال: « وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ... الآية ». قال ( الصادق عليه السلام ): الإحسار الفاقة. يقول محمّد أحمد جاد المولي بيك في كتابه الممتع والنفيس «محمّد المثل الكامل»: « جاء في « البخاري » أ نّه صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم أُتِي بمالٍ من البحرين، فقال: انثروه! ـ وكان أكثر مالٍ أُتي به فخرج صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم إلی المسجد ولم يلتفت إلیه؛ فلمّا قضي الصلاة جاء فجلس إلیه، فما كان يري أحداً إلاّ أعطاه، وما قام عليه الصلاة والسلام وثَمَّ منها درهم. وأتته امرأةٌ ببُردة، فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه. فأخذها صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم محتاجاً إلیها فلبسها، فرآها عليه رجلٌ من أصحابه، فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها. فقال: نعم. فلمّا قام عليه الصلاة والسلام لام الصحابة هذا السائل قائلين له: إنّك تعرف أنّ النبيّ محتاج إلیها، وأ نّه لا يُسأل عن شيءٍ فيمنعه. وقد شكت إلیه ابنته فاطمة ما تلقي من خدمة البيت، وطلبتْ منه خادماً يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد، وقال: «لاَ أُعْطِيكِ وَأَدَعَ أَهْلَ الصُّفَّةِ تُطْوَي بُطُونُهُمْ مِنْ الجُوعِ!» [32]. وقد جاء في القرآن الكريم أنّ المرء إن لم يكن لديه ما يعطيه ذوي قرباه والمساكين وابن السبيل، فعليه ـعلی أقلّ تقدير أن يكلّمهم بلطف وأن يعدهم خيراًعلی أمل رحمة الله تعالی وفضله ومنّه، فيسرّ بذلك قلوبهم: وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَي' حَقَّهُ و وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُو´ا إِخْوَانَ الشَّيَـ'طِينِ وَكَانَ الشَّيْطَـ'نُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا.[33] آیات الإنفاق الأربع عشرة فی سورة البقرةوقد وردت أربع عشرة آية متعاقبة في سورة البقرة المباركة في الآداب والإخلاص في النيّة، وفي الثواب والاجر، وفي ميزان الإنفاق في سبيل الله تعالی؛ وهي آيات تشكّل عالَماً في الاخلاق، وتظهر سطوع القرآن الكريم إلی الابد: 1 ـ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَ لَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَهُ يُضَـ'عِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَهُ وَ سِعٌ عَلِيمٌ. 2 ـ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَ لَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنفَقُوا مَنًّا وَلآ أَذيً لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. 3 ـ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًي وَاللَهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ. 4 ـ يَـ'´أَيـُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدقَـ'تِكُم بِالْمَنِّ وَالاْذَي' كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ و رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَهِ وَإلیوْمِ الاْخِرِ فَمَثَلُهُ و كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ و وَابِلٌ فَتَرَكَهُ و صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَي' شَيْءٍ مّمَّا كَسَبُوا وَاللَهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـ'فِرِينَ. 5 ـ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَ لَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَـَاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. 6 ـ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ و جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاْنْهَـ'رُ لَهُ و فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَ تِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ و ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ( وهو مثال كمن ينفق ماله رياءً ومَنّاً وأذيً ) كَذَ لِكَ يُبَيِّنُ اللَهُ لَكُمُ الاْيَـ'تِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. 7 ـ يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو´ا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَـ'تِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الاْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِـَاخِذِيهِ إِلآ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُو´ا أَنَّ اللَهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. 8 ـ الشَّيْطَـ'نُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَهُ وَ سِعٌ عَلِيمٌ. 9 ـ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآ أُولُوا الاْلْبَـ'بِ. 10 ـ وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَهَ يَعْلَمُهُ و ( وإن لم تنفقواعلی الفقراء والبائسين وتركتموهم مُعدمين، فاعلموا أنّ ذلك ظلم ) وَمَا لِلظَّـ'لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. 11 ـ إِن تُبْدُوا الصَّدَقَـ'تِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. 12 ـ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَب'هُمْ ( بل عليك الدعوة والبلاغ ) وَلَـ'كِنَّ اللَهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلیكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ. 13 ـ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الاْرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَـ'هُمْ لاَ يَسْـَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَهَ بِهِ عَلِيمٌ. 14 ـ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَ لَهُم بِإلیلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. [34] و الإنفاق من الاعمال المعدودة من الاخلاق، إن كان للّه تعالی، ولم يكن رياءً وسُمعةً، ولم يستتبع منّاً من المنفِق وأذي للمنفق عليه، وكان الإنفاق من المال الحلال وممّا يحبّه الفرد المنفِق، فقد ورد في القرآن الكريم: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّي' تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَهَ بِهِ عَلِيمٌ. [35] و إذا كان الإنفاق سرّاً في الموضع المناسب، وكان جهراً في الموضع المناسب، وكان من أفضل كسب المنفِق الذي اكتسبه بالعمل والجدّ، وبلغ مَن يستحقّه، وهو مَن يمنعه حياؤه وعفّته أن يُطلع أحداًعلی حاله؛ فإنّ الإنفاق سيُعدّ حينذاك من مكارم الاخلاق التي انتهجها الانبياء، والتي بُعث الرسول الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم لتكميلها. يقول جاد المولي بيك: « وقد كان الانبياء في مقدّمة المتّصفين بها ( أي بمكارم الاخلاق )، وقد حثّ القرآنعلی ذلك في آيات كثيرة تتجاوز المئات. وقد صرّح النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم بذلك في قوله بُعِثْتُ لاِتَمِّمَ مَكَارِمَ الاْخْلاَقِ. وقوله: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ. وقوله: إِنَ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلاَقاً. وقوله: أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إيمَاناً أَحْسَنُهُمْ أَخْلاَقاً. وقوله: مَكَارِمُ الاْخْلاَقِ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ. وكان من دعائه صلّي الله عليه وآله وسلّم إذا نظر في المرآة أن يقول: اللَهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي! وكان يستعيذ من سوء الاخلاق، فيقول: اللَهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الاَخْلاَقِ». [36] ويستنتج ممّا مرّ أنّ الاخلاق القرآنيّة قائمةعلی أساس التوحيد وعلي بناء النفس البشريّةعلی أساس النظر إلی وحدة تجلّيات الحقّ في جميع مظاهر عالم الإمكان. إنّ القرآن الكريم يعتبر الإنسان مخلوقاً مرتبطاً بجميع الموجودات الاُخري، كما يعتبر روح الإنسان مرتبطة بجميع الاشياء، بحيث يري نور الحقّ المتعال سارياً في الإنسان وفي جميع الاشياء بأسرها، ويسوق الإنسان إلی التوحيد في العقيدة والاخلاق عن طريق النظر والتأمّل والتفكّر في مخلوقات عالم الخلقة التي لا تُحصي. والاخلاق القرآنيّة من أسمي وأرفع الاخلاق الكريمة، حيث تبني الوجود الإنسانيعلی نور توحيد الحقّ، وبالنظر إلی وحدة ذاته القدسيّة، ووحدة صفاته وأسمائه، ووحدة أفعاله في كلّ شيء، وتُقيم لبنات هذا البناء الروحي الشامخعلی هذا الاساس والاصل. ولذلك، فإنّ الاخلاق المكتسبة من القرآن ليست منفصلة عن عالم الخلقة والاُمور الطبيعيّة والتجريبيّة ومشاهدات عالم الخلقة، كما أنّ عالم الخلقة وهذه السلسلة المتطاولة من الموجودات العجيبية المعقّدة ليست بدورها منعزلةً منفكّة عن روح الإنسان[37]؛ فهي ممتَزجة مع بعضها امتزاج السكّر واللبن، وهي مرتضعةً من ثدي واحد. آیات سورة النحل فی نعم الله تعالیومن خصائص القرآن العظيم أ نّه يعتبر الدعوة إلی العلوم التجريبيّة والتفكّر في الاُمور المادّيّة والطبيعيّة والظواهر الآفاقيّة سبيلاً للتكامل المعنويّ والارتقاء الشهوديّ وبلوغ مقام العرفان الإنسانيّ لظهور النور المطلق والوحدة الحقّة الحقيقيّة لذات الحقّ المتعال القدسيّة. [38] تأمّلوا في الآيات التإلیة في سورة النحل المباركة: وَاللَهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذَ لِكَ لاَيَةً لِّقَوْمٍ يَسْـمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الاْنْعَـ'مِ لَعِبْرَةً نُّسْـقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآنءِغًا لِّلشَّـ'رِبِينَ * وَمِن ثَمَرَ تِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَـ'بِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ( خبيثاً ) وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَ لِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَي' رَبُّكَ إلَی النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَ تِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَ نُهُ و فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَ لِكَ لاَيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.[39] إلی أن يصل إلی قوله تعالی: وَاللَهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـ'تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْـًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَـ'رَ وَالاْفْـِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْا إلَی الطَّيْرِ مُسَخَّرَ تٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَهُ إِنَّ فِي ذَ لِكَ لاَيَـ'تٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الاْنْعَـ'مِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَـ'ثًا وَمَتَـ'عًا إلَی' حِينٍ * وَاللَهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـ'لاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـ'نًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَ بِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَ بِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَ لِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ و عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ. [40] فهو في جميـع هذه الآيات يذكـر آثاره ونعمه ثـمّ يبيّـن بأنّ كلّ ذلك من أجل التفكّر والتعقّل والشكر والتسليم له سبحانه. أي أنّ جميع ذلك ينبغي أن يُعَـدّ آيةً، فتشـاهد في هـذه الآية ذاته القدسـيّة وربـوبيّته الواحدة. برگ درختان سبز در نظر هوشيار هر ورقش دفتري است معرفت كردگار [41] ولقد أبدع شيخ العرفاء: محيي الدين بن عربي حين قال: فَانْظُرْهُ فِي شَجَرٍ وَانْظُرْهُ فِي حَجَرٍ وَانْظُرْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ذَلِكَ اللَهُ [42] أمّا الفيلسوف والحكيم: الحاج الملاّ هادي السبزواريّ، فما أجمل وما أرقي ما أنشد حين قال: اي به ره جستجوي، نعره زنان دوست دوست گر به حرم ور به دير، كيست جز او؟ اوست اوست پرده ندارد جمال، غير صفات جلال نيست بر اين رخ نقاب، نيست بر اين مغز پوست جامه دران گُل از آن، نعره زنان بلبلان غنچه بپيچد به خود، خون به دلش تُو به تُوست[43] دم چو فرو رفت هاست، هوست چو بيرون رود يعني از او در همه، هر نفسي هاي و هوست يار به كوي دلست، كوي چو سرگشته گوي بحر به جوي است و جوي، اين همه در جستجوست با همه پنهانيش، هست در أعيان عيان با همه بيرنگيش، در همه زو رنگ و بوست يار در اين انجمن، يوسف سيمين بدن آينه خانه جهان، او بهمه رو به روست پرده حجازي بساز، يا به عراقي نواز غير يكي نيست راز؛ مختلف از گفتگوست مخزن اسرار اوست، سرّ سويداي دل در پِيَش أسرار باز، در بدر و كو به كوست [44] وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَی أَ نَّهُ وَاحِدُ [45] هذه هي حقيقة توحيد الحقّ تعالی، المتحقّق في أسمائه وصفاته وأفعاله. دار البحث يوماً في أحد المجالس في طهران مع أحد العلماء، وكان شيخاً كبيراً يمتّ لي بصلة قرابة؛ فتباحثنا في أمر التوحيد الافعإلی للحقّ تعالی. وكان الرجل لم يسبق له دراسة الفلسفة والحكمة، وكان يطعن في العرفاء أحياناً، وقد انتقل إلی رحمة الله تعالی. وقد انجرّ بنا الكلام إلی أن خاطبني بعصبيّة شديدة: أتقول إنّ وضع الطفل من قِبَل أُمّه هو أيضاً من فِعل الله؟! ثمّ مدّ يديه أمامه، كأ نّه يمسك امرأةً، ثمّ قال: انظر! ها هي المرأة قد أفرجت بين رجليها فانساب الطفل ساقطاً، أفهذا أيضاً من فِعل الله؟! قلتُ بلا مكث: أنا لا أقول ذلك، بل الله يقوله: وَاللَهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـ'تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْـًا. [46] فحين يصرّح بأنّ المُخرِج هو الله، وأنّ جميع سلسلة العلل الطبيعيّة وحالة انعطاف الرحم وعمل القابلة وسلسلة الاعمال الطويلة اللازمة لولادة الطفل هي معلولة ومحكومة للّه تعالی ومسخّرة لامره وإرادته، وأ نّه هو الذي يقوم بهذا العمل في الحقيقة، فهل يمكنني أن أُنكر؟! فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، ولم يفه البائس بجواب أمام الدليل الفلسفيّ القرآنيّ. إرجاعات [1] ـ الآية 30، من السورة 21: الانبياء. [2] ـ الآية 11، من السورة 41: فصّلت. [3] ـ الآية 2، من السورة 13: الرعد. [4] ـ تفسير «مجمع البيان» ج 5، ص 6، طبعة صيدا. [5] ـ تفسير «مفاتيح الغيب» للرازيّ، ج 7، ص 354 و 355، طبعة دار الطباعة العامرة. [6] ـ «نهج البلاغة» الخطبة 209؛ وفي طبعة مصر بتعليق الشيخ محمّد عبده: ج 1، ص 426. [7] ـ پييِر سيمون لابلاس، عاش بين سنة 1749 إلي 1827 م، وهو منجّم ومهندس فرنسيّ، وقد جمع هذا العالم النتائج الفكريّة ل «هاله» و«كلرو» و«نيوتن» و«دوآلمبر» و«أُولِر»، واكتشف أمر حركة المشتري وبطء سير زُحل وسرعة حركة القمر والارض التي كانت من الاُمور غير المكتشفة، كما أنّ فرضيّة انفصال الكواكب بعد اتّصالها من فرضيّاته، وتُعرف بـ «فرضيّة لابلاس». [8] ـ إسحاق نيوتن: منجّم وعالم فيزياء إنجليزيّ، عاش بين سنتَي 1643 و 1727 م، وقد أثبت عن طريق الجاذبيّة حركة الارض الوضعيّة والانتقاليّة، وقانون الجاذبيّة العامّ من اكتشافاته. وقد أثبت نيوتن أنّ كلّ ذرّتَين مادّيّتَين تجذبان بعضهما بقوّة تتناسب مع كُتلتيهما وعكس جذر الفاصلة بينهما. كما أنّ الكرتَين المتشابهتَي الاجزاء تتجاذبان بنسبة الخطّ الواصل بين مركزيهما. [9] ـ جان كبلر: عاش بين سنة 1571 وسنة 1630 م. وكان يعتقد بحركة الارض ومركزيّة الشمس لعالم المنظومة الشمسيّة. كما أ نّه عدّ مدار السيّارات بيضويّاً تبعاً لعقيدة «تيكو براها»، فقد لاحظ أنّ نتائج حسابات الرصد لا تنسجم مع بعضها، فابتكر بحثاً منفصلاً ما بين نظريّة كوبرنيكوس وتيكوبراها. (مقتبس من «ترجمة رسالة هيئت جديد» (= ترجمة رسالة الهيئة الجديدة) تأليف كاميل فلاماريون، ص 9 و 10، المطبوعة في مجلّة «گاهنامه» للسيّد جلال الدين الطهرانيّ سنة 1313 ه. [10] ـ «گاهنامه 1307 شمسي» للمنجِّم والعالِم الرياضيّ المعروف السيّد جلال الدين الطهرانيّ، ص 148. [11] ـ «أُصول فلسفه وروش رئاليسم» (= أُسس الفلسفة والمذهب الواقعيّ) ج 5، ص 59، تعليق الشيخ مرتضي المطهّريّ [12] ـ نفس المصدر السابق. [13] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 14، ص 302 إلي 304. [14] ـ يقول الميداني في «مجمع الامثال» ج 2، ص 211 و 212، تحت رقم 3491: لاَ مَخْبَأَ لِعِطْرٍ بَعْدَ عَروسٍ؛ ويروي لاَ عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ. قال المفضّل: أوّل من قال ذلك امرأة من عُذرة يُقال لها أسماء بنت عبدالله، وكان لها زوج من بني عمّها يُقال له عروس فمات عنها، فتزوّجها رجل من غير قوهما يُقال له نوفل، وكان أَعْسَرَ أَبْخَرَ بخيلاً دميماً، فلمّا أراد أن يظعن بها قالت له: لو أذنتَ لي فرثيتُ ابنَ عمّي وبكيتُ عند رَمْسه. فقال: افعلي. فقالت: أبكيكَ يا عروس الاعراس، يا ثعلباً في أهله وأسداً عند الباس، مع أشياء ليس يعلمها الناس؛ إلي أن يصل إلي قوله: قال (زوجُها): وما تلك الاشياء؟ قالت: كان عَيُوفاً للخَنَا والمنكر، طيّب النكهة غير أبخر، أيسر غير أعسر؛ فعرف الزوج أ نّها تُعرّض به. فلمّا رحل بها قال: ضُمِّي إليك عِطْرَك، وقد نَظَرَ إلي قَشْوَةِ عطرها مطروحة، فقالت: لا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ، فذهبت مثلاً ويقال: إنّ رجلاً تزوّج امرأة، فأهديت إليه فوجدها تَفِلة، فقال لها: أين الطيب؟ فقالت: خبأتُه، فقال لها: لا مخبأ لعطرٍ بعد عروس، فذهبتْ مثلاً. [15] ـ صدر الآية 187، من السورة 3: آل عمران. [16] ـ الآية 10، من السورة 7: الاعراف. [17] ـ «تفسير الطنطاويّ» ج 10، ص 207 و 208، الطبعة الثانية، مطبعة مصطفي البابيّ الحلبيّ. [18] ـ من أقوال النبيّ الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم؛ «من لا يحضره الفقيه» ج 4، ص 334، طبعة مكتبة الصدوق. [19] ـ الآية 77، من السورة 28: القصص. [20] ـ مقطع من الآية 78، من السورة 28: القصص. [21] ـ الآية 4، من السورة 13: الرعد. [22] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 11، ص 322 إلي 325. [23] ـ الآيات 27 إلي 30، من السورة 35: فاطر. [24] ـ التذكية (بالذال) من مادّة ذكاة، وتعني التطهير. أمّا التزكية (بالزاي) فمن مادّة زكاة، وتعني النموّ والرشد والازدياد. [25] ـ مقطع من الآية 179، من السورة 7: الاعراف وتمام الآية كالتالي: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالاْءِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَـ'´نءِكَ كَالاْنْعَـ'مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْغَـ'فِلُونَ. [26] ـ الآية 4، من السورة 68: القلم. [27] ـ الآيات 1 إلي 3، من السورة 94: الانشراح. [28] ـ الآية 36، من السورة 8: الانفال. [29] ـ الآية 117، من السورة 3: آل عمران. [30] ـ الآية 67، من السورة 25: الفرقان. [31] ـ الآية 29، من السورة 17: الاءسراء. [32] ـ «محمّد صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم المثل الكامل» ص 19، الطبعة الثانية، سنة 1351 ه. [33] ـ الآيات 26 إلي 28، من السورة 17:الاءسراء. [34] ـ الآيات 261 إلي 274، من السورة 2: البقرة. [35] ـ الآية 92، من السورة 3: آل عمران. [36] ـ «محمّد المثل الكامل» ص 232 و 233، الطبعة الثانية. [37] ـ يقول المستشار عبد الحليم الجندي في كتاب «الاءمام جعفر الصادق» ص 294: وفي منهج الاعتبار بالواقع أو بالآثار الدالّة علي المطلوب «واقعيّة» أدني إلي التصديق من مجازفات الفكر. وفي الواقع المادّي ضمان أن لايبعد الاستخلاص من الملموس والمحسوس بالحواس الخمس. وهذه الواقعيّة أو النزاهة الفكريّة، تسبق واقعيّة أُوجست كومت * بقرون عشرة، وعقلانيّة ديكارت ** بقرون تسعة، كما تسبق جون سيتورات مل *** في نظريّة اطِّراد العلل بقرون عشرة. وبهذه القرون يُقاس سبق الحضارة الاءسلاميّة. * أُوجسـت كومت Auguste Comte 1798 ـ 1857 صـاحب الفلسـفة الواقعيّة في القرن الماضي. انتفـع بمؤلّفات لبنتز وديكارت وفرنسـيس بيكـون والقدِّيـس توماس الاكوينيّ وروجير بيكون، والاخيران من أكبر مَن نشروا العلم الاءسلاميّ وتأثّروا به. وكثير من كتاباتهما تَستعمِل تعبيرات إسلاميّة. ** جون ستيوارت مل 1806 ـ 1873. *** ديكارت Rene Descartes ( 1596 ـ 1650 ). [38] ـ يقول عبد الحليم الجندي في كتاب «الاءمام جعفر الصادق» ص 295: وربّما كان الكلام المنقول عن جابر بن حيان أوضح كلام في الدلالة علي المنهج التجريبيّ الذي تعلّمه في مجلس الاءمام أو من كتب الاءمام. يخاطب جابر الاءمام في مقدِّمة كتابه «الاحجار» بقوله وحقّ سيّدي! لولا أنّ هذه الكتب باسم سيّدي صلوات الله عليه لما وصلتُ إلي حرفٍ من ذلك إلي الابد. ويقول جابر في كتابه «الخواصّ» عن طريقته: اتعبْ أوّلاً تعباً واحداً. واعلمْ. ثمّ اعملْ. فإنّك لا تصل أوّلاً. ثمّ تصل إلي ما تريد. وفي كتابه «السبعين» يقول: مَن كان دَرِباً (مجرّباً) كان عالماً حقّاً. ومن لم يكن درباً لم يكن عالماً. وحسبك بالدُّرْبَة في جميع الصنائع أنّ الصانع الدرب يَحذِق وغير الدرب يُعطِّل. ويحصل جابر طريقته في عبارته المأثورة: عملته بيدي. وبعقلي. وبحثته حتّي صحَّ وامتحنته فما كذب. وفي هذا المقام يقول أُستاذ الفلسفة الاءسلاميّة المعاصر في جامعة القاهرة. د. زكي نجيب محمود: فلو شئتَ تلخيصاً للمنهج الديكارتيّ كلّه لم تجد خيراً من هذا النصّ الذي أسلفناه عن جابر. [39] ـ الآيات 65 إلي 69، من السورة 16: النحل. [40] ـ الآيات 78 إلي 81، من السورة 16: النحل. [41] ـ يقول: «إنّ كلّ ورقة من أوراق الاشجار الخضراء هي في نظر العاقل النابه دفتر في معرفة الصانع». [42] ـ «ديوان ابن عربي» ص 216، طبعة بولاق ـ مصر، سنة 1271. [43] ـ ديوان «أسرار» ص 38 و 39، طبعة إصفهان. يقول: «أيّها السالك طريق البحث، صارخاً: أين الحبيب؟ مَن سواه ـ يا تري ـ في الحرم أو في الدير؟! لا ساتر للجمال إلاّ الجلال، فهذه الطلعة سافرة بلا نقاب، وهذا اللبّ بارز دونما قشر. الوردة منه تشقّ أكمامها، والبلابل تصدح بألحانها، والبرعمة تتلوّي والدماء في أعماق قلبها». [44] ـ يقول: «صوتا الشهيق والزفير يعنيان أنّ منه في الجميع في كلّ نَفَس صوتاً. الحبيب في جادّة القلب، والجادّة كالدائرة التائهة؛ والبحر متّصل بالجدول، والجدول يفتّش عنه بلا انقطاع. وهو مع كلّ استتاره ظاهر عياناً في الاعيان؛ وهو بلا لون، لكنّ في الكلّ منه لونٌ وعطر. الحبيب في هذا المحفل كيوسف ذي البدن الفضّيّ، أشبه بمرآة العالم إذ الكلّ ناظر إليه. فاصنع ستارةً حجازيّة، أو غنِّ لحناً عراقيّاً، فلا سرّ إلاّ سرّ واحد وإن اختلفت الالسن في التعبير. هو مخزن الاسرار وسرّ سويداء القلب، والاسرار لديه مُعلنة تائهة متحيّرة». [45] ـ ورد في تعليقة السـبزواريّ علي «الاسفار» ج 6، ص 108، الطبعة الحروفيّة، وقد استشهد به. [46] ـ صدر الآية 78، من السورة 16: النحل. [47] ـ وردت هذه الرواية مع مصادرها في كتاب «توحيد علمي وعيني» (= التوحيد العلميّ والعينيّ) ص 191 و 192، الطبعة الاُولي، انتشارات حكمت. [48] ـ «ديوان مغربي» ص 8، طبعة المكتبة الاءسلاميّة. يقول: «العالَم كلّه مجمـوع في طلعتك المُحيية، يا مَن ظهرتْ طـلعتك في مرآة الكون جليّة». [49] ـ يقول: «ما إن نظر شاهِدُ حُسنك في المرآة، حتّي لمح محيّاه، فاستهام والهاً. لقد أضفي محـيّاك علي نفسـه جمالاً جديـدة كلّ لحظـة، فتجلّي لناظـرَيْك بألـف رداءٍ بديع. ولقد تطلّع من أعين العشّاق ناظراً، ليتأمّل حسنه في وجوه الحسان المعبودين. ومن أجل أن يتجلّي وجهك، فقد صنع مرآة يتجلّي فيها، ودعاها بآدم وحوّاء. فشاهد حسنه فيها من كلّ الوجوه، فمن ثَمّ صار آدم مرآةً لجميع الاسماء. فيا مَن تجلّي حسنُك لناظرَيْك، فرأي بناظرَيه وجهه عياناً. أنت الناظـر والمنظـور، فليـس ثـمّـة سـواك، فـمـن أيـن نشـأت كلّ هـذه الضـجّة والزحام؟!». [50] ـ يقول: «لقد امتلات الآفاق ضجيجاً أيـّها المغربيّ، حين نصب سلطان جماله خيمته في الصحراء». [51] ـ الآية 21، من السورة 59: الحشر. [52] ـ ذيل دعاء عرفة تبعاً لرواية ابن طاووس في «الاءقبال» ص 348 إلي 350. [53] ـ «تحفة الزائر» للمجلسيّ ص 264، بسند معتبر عن الحسين بن ثُوير ويونس بن ظبيان عن الصادق عليه السلام؛ و«هديّة الزائرين» للمحدِّث القمّيّ، ص 92، ويقول في ص 91: نُقلتْ هذه الرواية في «الكافي» و«الفقيه» و«التهذيب» و«كامل الزيارات» لابن قولويه، عن الاءمام الصادق عليه السلام، وقد نقلناه كما في «تحيّة الزائر» للمحدِّث القمّيّ، المطابق لنقل «الكافي» [54] ـ «مصباح المتهجّد» للشيخ الطوسيّ، ص 545؛ و«بحار الانوار» ج 22 (المزار)، ص 192، الطبعة القديمة (الكمبانيّ)؛ و«تحفة الزائر» ص 335؛ و«هديّة الزائرين» ص 145. [55] ـ «مفاتيح الجنان» ص 439، عن الصادق عليه السلام في الزيارة الخاصّة بأوّل رجب والنصف من شعبان؛ و«هدية الزائرين» للمحدِّث القمّيّ ص 91؛ و«تحيّة الزائر» للمحدِّث النوريّ؛ ورواها المجلسيّ في «تحفة الزائر» ص 263 برواية معتبرة عن الحسـين بن ثوير، عن الصادق عليه السلام، في زيارة الحسين المطـلقة بهذا اللفظ: أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَـكَنَ فِي الخُلْدِ، وَاقْشَعَرَّتْ لَهُ أَظِلَّةُ العَرْشِ، وَبَكَي لَهُ جَمِيعُ الخَلاَئِقِ، وَبَكَتْ لَهُ السَمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالاَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَمَنْ يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا، وَمَا يُرَي وَمَا لاَ يُرَي. وذكرها المجلسيّ في مزار «البحار» ج 22، ص 181، الطبعة القديمة (الكمبانيّ). [56] ـ «شمع جمع» ص 191. [57] يقول: «إنّ نور الوجود هو من إشـراق وجه الحسين، وظلمة الاءمكان من سـواد شَـعر الحسين». ـ يقول: «ليس لشاهد الوجود جلوة بنفسه، وجلوة عالم النور هي وجه الحسين. وليـس سـير القَـدَم سـبيلَ بلوغ ذات القِـدَم، بل إنّ سـعي السـالك هـو البحـث عن الحسـين. إنّ ذات الله لن تُري يوم القيامة، فذِكر اللقاء إنّما هو لطلعة الحسين الجميلة. لست أفدي روحي إلاّ أملاً في جماله، ففي روحي أُمنية لقاء الحسين. وما التفات عاشقه إلي الجنّة؟! فجنّة العشّاق هي تراب طريق الحسين. العالَم وآدم ثملان بقدح الوجود، وهما إنّما ثملا بقدح الحسين الفخاريّ. فلا تفتّش عن ذات الله وانظر مليّاً إلي صفاته، فصفاتُه طبع وخُلق الحسين». [58] ـ يقول: «وما شأن الحقّ بعشق الخلق؟! فقضيّة العشق إنّما هي حديث الحسين. وما حُزن العاشق لموت الطبيعة، إذ حياة العارفين بعطر الحسين. وأدمع أعيننا إذ تنصبّ حُزناً له، هي حقّاً مدعاة الغفران بجاه الحسين. وليس لعقل فؤاد في هذا النور من نصيب، فجلوة هذه القطرة هي أيضاً من جدول الحسين!» |
|
|