|
|
السید جمال الدین یهاجم رینان لادعائه عجز العرب فی العلم والفلسفةيقول السيّد حميد عنايت في كتابه « سيري در انديشة سياسي عرب » ( = جولة في الفكر السياسيّ العربيّ ): « قال أَرنست رينان في خطبة له تحت عنوان « الإسلام والعلم » ألقاها في جامعة السوربون، ونشرتها فيما بعد مجلّة دِدِبا ( Journal des Debats ): « إنّ الإسلام يخالف الروح العلميّة والفلسفيّة؛ وعلي الاخص أنّ العرب كانوا عاجزين تلقائيّاً عن تعلّم العلم والفلسفة. وإنّما ظهر من العلم والفلسفة ما ظهر في العالم الإسلاميّ بهمّة مَن انتمي إلی الإسلام مِن غير العرب. ولذلك فإنّ ما اشتُهر بأ نّه علم العرب وفلسفتهم هو في حقيقة الامر العلم والفلسفة إلیونانيّين ». وفي نظر رينان فإنّ فيلسوفاً واحداً من بين الفلاسفة المسلمين الكبار، قد كان من العرب، وهو يعقوب الكِنديّ. وقد لُقّب الآخرون بالعرب، نظراً لكونهم كانوا يؤلّفون بالعربيّة؛ لذلك فإنّ تسميتهم بالعرب أمرٌ غير منطقيّ، وأشبهُ شيء بتسمية الفلاسفة الاُوروبيّيّن في القرون الوسطي بالفلاسفة اللاتينيّين. وقد ردّعلی هذه المقالة بعد نشرها عدّة من المثقّفين والمفكّرين المسلمين، منهم نامق كماك بك المفكّر التركيّ، والسيّد جمال. وكان لردّ السيّد جمال الذي كتبه بالعربيّةعلی ما يبدو، ثمّ تُرجم إلی الفرنسيّة، انعكاساً أوسع ممّا سواه. وقد لخّص في إجابته مطالب خُطبة رينان في هاتين النكتتَين اللتين أوردناهما، أي القول بأنّ الإسلام مُعادٍ في جوهره للعلم والفلسفة، وأنّ هذا العداء بلغ أوجه زمنَ حُكم العرب، ثمّ استمرّعلی قوّته زمن الاتراك، ثمّ خفّت حدّة العداء قليلاً وبصورة مؤقّتة برواج الافكار إلیونانيّة والإيرانيّة بين المسلمين، وذلك لشدة مخالفة الإسلام للعلم والفلسفة. والنكتة الثانية هي أنّ العرب كانوا في ذواتهم مخالفين للعلم والفلسفة. وكان البناء الاستدلإلی للسيّد الذي كان قبل كلام رينان مخالفاً لاُسلوب الاُوروبّيّين الفكريّ في عصره يتلخّص فيما يلي: أنّ تأريخ أيّ قوم ينبغي أن ينظر إلیهعلی أساس النهضات الخالدة والتطوّر المستمرّ الذي يمتلك درجات ومراحل مختلفة. وينبغي عند الحكمعلی خصوصيّةٍ من خصائص أُولئك القوم، أن يؤخذ بنظر الاعتبار المرحلة التأريخيّة الخاصّة ببروز تلك الخصوصيّة، كما ينبغي عدم اعتبار أيّة سيرة وخصلة في أيّ قوم أمراً ذاتيّاً ملازماً لهم. وقد ردّ السيّدعلی عقيدَتي رينان استناداً إلی هذا الاصل ». ثمّ إنّ السيّد عنايت يذكر بالتفصيل استدلال السيّد في ردّهعلی إشكال رينان الاوّل. ونظراً لانّ جواب السيّد لا يخلو في نظرنا من الإشكال، وأنّ مواضع ضعف كثيرة مشهودة فيه، وأنّ نقله في هذا المجال سيستدعي بحثاً طويلاً وردّاًعلی تلك الإشكالات، فقد صرفنا النظر عنه. ثمّ يصل إلی قوله: « وأمّا عن النكتة الثانية التي ذكرها رينان، وهي العداء الذاتيّ للعرب مع العلم والفلسفة، يقول السيّد: « يعلم الجميع أنّ العرب قد اكتسبوا عند ظهور الإسلام، وبسرعةٍ تثير الإعجاب علوم الإيرانيّين وإلیونانيّين التي استغرق تكاملها قروناً عديدة، واستفادوا منها في حضارتهم. ولقد استمرّ تقدّم العلم والفلسفة في ظلّ حكومة العرب؛ وبيُمن العرب انتقلت العلوم من الشرق إلی الغرب. ولقد كان أرسطو في إلیونان، فلم يُلقِ الاُوروبّيّون إلیه بالاً، ثمّ هاجر وأضحي عربيّاً فأضحي الجميع يفخرون به. ومن هنا، فإنّ العالم الإسلاميّ العربيّ قد سبق الغرب في الثقافة والفكر خمسة قرون». كما ردّ السيّدعلی مقولة رينان بأنّ أحداً من العرب سوي الكنديّ لم يبرز في الفلسفة، وأنّ أغلب الفلاسفة المسلمين كانوا من أهإلی حرّان والاندلس وفارس؛ بقوله: «أوّلاً: إنّ الحرّانيّين أنفسهم هم من العرب، وكانوا يتكلّمون بالعربيّة قبل الإسلام بخمسة قرون. وثانياً: ليس من اللائق ألاّ نعتبر فلاسفة الاندلس من أمثال ابن باجة، وابن رشد، وابن الطُّفَيل عرباً لمجرّد أ نّهم لم يعيشوا في البلاد العربيّة، لانّ لغتهم كانت العربيّة، واللغة من أهمّ أوجه امتياز الاقوام والاُمم وخصائصها؛ وحيثما أضاع قوم هذا الامتياز، فإنّهم سيكونون قد أضاعوا في الحقيقة امتيازهم الاصليّ ». [1] ويقـول مـؤلّـف كتـاب « شـرح حـال و آثـار سـيّد جـمـال الديـن الاسدآباديّ »: « وبعد نشر مقالة السيّد جمال الدين، ردّ عليه رينان الحكيم في إلیوم اللاحق، أي في 19 من شهر آيار 1883 م. بجواب في منتهي الادب، نشره في نفس الجريدة. ويقول رينان في مقالته الجوابيّة متحدّثاً عن السيّد جمال الدين ـ ولم يُسمع من أحدٍ وصفٌ ولا حُكمٌ ألطف منه ولا تعبيرٌ أصلح وأصوبُ منه في حقّ السيّد: « لقد قلّ أن يؤثّر فيَّ أحد مثل هذا التأثير؛ ولقد دفعني حديثي معه ( أي مع السيّد جمال الدين ) إلی اختيار عنوانٍ لموضوعي في مؤتمر السوربون هو: العلاقة بين الروح العلميّة والإسلام» [2]. ونشاهد هنا أنّ إرنست رينان يحسّ بالعجز عن إجابة السيّد، ويعترف بعظمة الإسلام والعرب. غوستاف لوبون یستجوب إرنست رینان فی مسألة حضارة العربولقد انتقد غوستاف لوبون في كتابه السابق الذكر إرنست رينان في هذا الموضوع في عدّة إشكالات متعاقبة ذكرها، حيث يقول في تعليقة بقلمهعلی بعض مباحث الكتاب الخامس في الحضارة: « حيثما تلتقي الاوهام الموروثة والثقافة في العالم الفاضل، ولا يدريعلی أيّهما يعتمد في وزن الاُمور، يتجلّي فيه ما يجتمع في شخصٍ واحد من الذاتيّة القديمة التي هي وليدة الماضي، والذاتيّة العصريّة التي هي وليدة المشاهدة الشخصيّة، فيصدر عنه من الآراء المتناقضة ما يستوقف النظر. ومن ذلك التناقض المثال البارز الذي يجده القاري في الخطبة التي ألقاها الكاتب والعالم الفاضل المسيو رينان في السوربون عن الإسلام والتي أراد مسيو رينان أن يُثبت فيها عجز العرب، ولكن ترّهاته كانت تنقض بما كان يجيء في الصفحة التي تليها. فبعد أن قال مسيو رينان مثلاً: إنّ تقدّم العلوم مديون للعرب وحدهم مدّة ستمائة عام، وذكر أنّ عدم التسامح ممّا لم يعرفه الإسلام إلاّ بعد أن حلّت محلّ العرب شعوب متأخّرة كالبربر والترك. وعاد فادّعي أنّ الإسلام اضطَهد العلم والفلسفة وقضيعلی العقل في البلاد التي دانت له. بَيدَ أنّ ناقداً بصيراً كمسيو رينان لا يستطيع أن ينام مدّة طويلةعلی مثل ذلك الزعم المناقض لاوضح ما رواه التأريخ، فذهبت عنه أوهامه ومبتسراته الموروثة ثانيةً، ورجع يعترف بتأثير العرب في القرون الوسطي، ويشهد بتقدّم العلوم في بلاد الاندلس أيّام سلطانهم. ومن دواعي الاسف أن تغلّبتعلی رينان مبتسراته غير الشاعرة بعد ذلك سريعاً، فصار يزعم أنّ علماء العرب ليسوا عرباً، بل من أبناء سمرقند وقرطبه وإشبيليّة وغيرها؛ مع أنّ الواقع أنّ تلك البلاد ممّا ملكه العرب، وأنّ الدم العربيّ ممّا جري في عروق أبنائها، وأنّ علوم العرب ممّا كان لها نصيب منه زماناً طويلاً، وأ نّه إذا أُبيح لاحدٍ أن يُجادل في الآثار التي صدرت عن مدارس العرب، كان ذلك من قبيل إباحته لنفسه أن يجادل في مؤلّفات علماء فرنسا بحجّة أ نّهم من الشعوب الكثيرة التي تأ لَّف من مجموعها الشعبُ الفرنسيّ، كالنورمان والسلت والاكيتان وغيرهم. ثمّ يظهر الكاتب الفاضل مسيو رينان أسيفاً أحياناًعلی سوء رأيه في العرب، ويصل إلی النتيجة غير المنتظرة التي سبّبها ما أشرنا إلیه سابقاً من التنازع ما بين ذاتيّة الإنسان القديمة وذاتيّته العصريّة، فيأسفعلی أ نّه ليس من أتباع النبيّ، ويقول: إنّني لم أدخل مسجداً من غير أن أهتزّ خاشعاً، أي مِن غير أن أشعر بشيء من الحسرةعلی أ نّني لستُ مسلماً ». [3] ويتّضح ممّا قيل أنّ العرب كانوا ذوي وزن وأصالة أكثر، وأنّ ذلك الوزن وتلك القابليّة الواسعة في نفوسهم قد تركّزت في قبيلة بني هاشم، فأنجبت ثمرةً يانعة ناضجة لعالم الخلق وقدّمتها لعالم البشريّة وهي رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم. ولو لم تمتلك أُسرة في ماهيّتها وقابليّتها الذاتيّة أصالة الذات ونزاهة الفطرة وسعة تحمّل هذه العلوم والمعارف، لما تحقّق فيها وجود مثل هذا النبيّ. منتهي الامر، أنّ هذه القابليّة قد انتقلت بالتوارث نسلاً بعد نسل، حتّي أذِن الله لها فظهرت بأمره، وبلغت فعليّتها التامّة، وكشفت الاستار عن طلعتها. لقد اتّبع العرب شريعة النبيّ إبراهيم عليه السلام، لكنّهم حرّفوا تلك الشريعة عن مسارها الاصيل لبُعد العهد، فأُدخل فيها من منكرات العقائد من قبيل عبادة الاصنام واتّخاذ آلهة، كما أقحموا فيها من منكرات الافعال كتقديم القرابين للاصنام، ووأد بناتهم بسبب الحميّة والعصبيّة، وكالطواف عرايا بحجّة عدم استعدادهم للبـس ملابـس ملوّثة بالذنوب عند الطـواف، ونظائر ذلك. بَيدَ أنّ أصالة تلك القبيلة وعلوّ صفاتها النفسانيّة وملكاتها الفطريّة والمكتسبة كانت مختفية تحت ستار الجهل وضعف البصيرة. وكانت الحاجة ماسّة في هذه العصر الذي كان يدعي ب الفَتْرَة إلی معلّم ومربٍّ وطبيب حاذق وحكيم مدبّر، يضع العلاج الناجع لهذا المرض بنبوّته ورسالته من قبل الله المتعال، ليشفي هذا المريض ويعيده سليماً مُعافي. ومن هنا، فقد كان للحن كلامه وَقْع في الارواح الضمأي المهيّئة. وطرد من أعينها سكرات الكري، وبلغ بقابليّاتها إلی فعليّتها، وسار بها في نهج التكامل ومسيرة العزّ والطهارة. إنّ العنصر العربيّ في حدّ ذاته عنصر رفيع غنيّ، ومن هذا العنصر ارتفع صوت الرسول الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم مذكّراً بأنّ علوّ العنصر لا يستدعي ارتفاع الدرجة والثواب النفسانيّ، لانّ الثواب والعقاب تابعان للنيّة والاخلاق والتقوي والسعي. كما نزلت الآية القرآنيّةعلی هذا النبيّ في هذا الشأن؛ وبغير ذلك فإنّ كلّ نفس وكلّ قابليّة لن يمكنها تحمّل هذا القانون العظيم، وستضيق عن استيعابه. الافتخار بالعرق والقومیة أمرمذموم، لأن العرق لیس أمرااختیاریاإنّ المباهاة والافتخار بالعرق والعنصر أمرٌ ذميم، لانّ العرق والعنصر ليس أمراً اختياريّاً، وينبغيعلی الإنسان ذي البصيرة أن يفتخر بالتقوي والعلم والجهاد في طريق التكامل ونيل مصالحه الحقيقيّة والنفسانيّة. لقد كان النبيّ الكريم يحذّر العرب بأن لا يفتخروا بقدرتهم التكوينيّة وقابليّة عنصرهم وعرقهم، وكان يُحذّر باللغة العربيّة ذاتها جميع أهل العالم بنفس التحذير حيثما اقتضي الامر تحذيرهم. ولقد وُجِدَتْ في أواخر القرن الاوّل والقرن الثاني الهجريّين القمريّين جماعة في إيران حاربت العنصر العربيّ والدم العربيّ منطلقة من انتمائها الإيرانيّ وأصالتها الإيرانيّة. وعلي الرغم من أنّ تلك الحركة والانتفاضة حملت في بداية أمرها عنوان المطالبة بالعدالة وإزالة المظالم العنصريّة، وكانت حركة ممتدحة لهذا السبب، لكنّها تحوّلت تدريجيّاً إلی حركة شعوبيّة ترفع شعار أصالة العنصر الفارسيّ في مواجهة العنصر العربيّ، وهو أمر شديد القُبح، يشبه إلی حدٍّ بعيد الاتِّجاهات والنزعات القوميّة في عصرنا الحاضر التي تتشدّق بالمحافظةعلی الهويّة القوميّة الفارسيّة والعرق الفارسيّ واللغة الفارسيّة وإحياء لغات زَند وأوِستا [4]، وبإحياء الاعياد القوميّة الإيرانيّة في مقابل اتّحاد الإسلام وحفظ حريم وحدته المقدّسة. وهذه النظرة هي بالنتيجة خيانة للنفس وللمجتمع الإسلاميّ، وتمثّل استجابه لدسائس الاستعمار وتحريكاته. وهذه الخطط قد وُضعت من أجل سلب ثقة الناس بأصالة أخلاق الإسلام وطهارة روح النبوّة والولاية، وتستهدف تفريقهم من تحت اللواء الواحد. إحراق العرب لمکتبتی الإسکندریة وإیران إشاعة کاذبةويقول هؤلاء بأنّ العرب طوائف وحشيّة قامت بإحراق مكتبة الإسكندريّة ومكتبة إيران، ودمّرت الحضارات. وهو قول ليس له ما يدعمه من التأريخ، وليس إلاّ مجرّد إشاعة نشرها المسيحيّون الصليبيّون بعد الحروب الصليبيّة تفريغاً لاحقادهمعلی المسلمين المنتصرين، شأنها شأن سائر الافتراءات والاكاذيب التي افتروهاعلی النبيّ الاكرم وعلي المسلمين. وهذه الافتراءات من الوقاحة والشناعة إلی الحدّ الذي جعل أحد محقّقيهم مُجبراًعلی تإلیف كتابٍ سمّاه « عذر تقصير به پيشگاه محمّد وقرآن » ( = اعتذار من التقصير إلی ساحة النبيّ والقرآن )[5]، فيرّد فيهعلی تهمة إحراق الكتب. ولقد صرّح كثير من محقّقي أُوروبّاً المشهورين من أمثال هِكتور، جود فري، إرنست رينان، سيدلو، كارليل، غيبون وغيرهـم بخطـأ كثير من الروايات والاخبار غير المُجدية التي انتشرت في أُوروبّا عن الإسلام والمسلمين، وردّواعلی ذلك في كتبهم، ومن جملة تلك الاخبار، شائعة إحراق مكتبة الإسكندريّة. يقول شِبلي نعمان في رسالة مكتبة الاسكندريّة حسب نقل المرحوم المطهّريّ: « وينبغي العلم أنّ من بين الشائعات التي ذكرناها، شائعة إحراق مكتبة الإسكندريّة، فقد نشرت أُوروبّا هذه القضيّة بصوت غريب ولهجة مُهيبة مُحيّرة، بحيث إنّ كتب التأريخ، القصص، المذهب، المنطق، الفلسفة وأمثالها لا تخلو من أثر منها. ( فقد سعوا ترسيخاً لهذه القصّة في الاذهان، إلی ذِكرها في كلّ كتاب مهما كان نوعه، حتّي أ نّهم ذكروها في كتب الفلسفة والمنطق ) حتّي أ نّهم جعلوها ضمن أسئلة الامتحان السنويّ لـ اونيـورسـيتي كلكتّا الهنديّة ( وكانت تحت إشـراف الإنجليـز ) الخاصّـة بدرس المنطق، حيث طبعوا من تلك الاسئلة عدّة آلاف من النسخ. فطلبوا حلّ المغلطة التإلیة: إن وافقت الكتبُ القرآنَ فلا ضرورةَ لها، وإن لم توافقه فَأَحْرِقْهَا جميعاً! ثمّ يتساءل شبلي نعمان: ما هي السياسة التي تقف خلف ذلك؟ أهي نوع من التعاطف والمشاركة القلبيّة في شأن الكتب المحترقة، أم إنّ وراء الامر ما وراءه؟! إن كان في الامر تعاطفاً وإخلاصاً، فَلِمَ لا يكون هناك تعاطف في شأن إحراق الكتب المسلّم المهيب الذي حصلعلی أيدي المسيحيّين أنفسهم في فتح الاندلس وخلال الحروب الصليبيّة؟! يجيب شبلي بنفسه بهذه العبارة: أنّ السبب الاصليّ هو أنّ تلك المكتبة ( مكتبة الإسكندريّة ) قد دمّرها المسيحيّون أنفسهم قبل الإسلام، ثمّ عادوا يُوحون إلی الاذهان من خلال إعلامهم المكثّف أنّ المسلمين هم الذين دمّروها. فهدفهم الاساس هو ـ إذاً ـ التغطيةعلی جريمتهم ). ويستمرّ المرحوم الشهيد المطهّريّ في كلامه فيقول: « إنّ السبب الذي ذكره شبلي هو أحد أسباب القضيّة، ويصدقعلی مورد مكتبة الإسكندريّة دون سواه من الموارد. وهناك سببٌ أو أسباب أُخري في الامر. إنّ المسألة الاساسيّة هي الاستعمار. إنّ الاستعمار السياسيّ والاقتصاديّ يُحرز نجاحاً حين يكون الاستعمار الثقافيّ قد أحرز نجاحاً في مضماره. والشرط الاساس لهذا النجاح هو سلب اعتقاد الناس بثقافتهم وتأريخهم. وقد شخّص الاستعمار وجرّب أنّ الثقافة التي يستند إلیها المسلمون، والنظريّة ( الآيديولوجيّة ) التي يفتخرون بها، هما الثقافة والنظريّة الإسلاميّتَيْن، وفيما عدا ذلك هراء لا يتخطّي أبداً الجدران الاربعة للمؤتمرات والاحتفالات والمجالس والندوات، ولا ينفذ إلی صميم الشعب. وينبغي لذلك أن يتمّ إفراغ الناس من ذلك الاعتقاد والإيمان، ومن ذلك الاعتماد وحسن الظنّ، ليكونوا مهيّئين لصبّهم في قوالب النماذج الغربيّة. وليس أفضلَ، لخلق سوء ظنّ الناس بتلك الثقافة وتلك النظريّة وبمن جاء بهما، من أن يُوحي إلی الجيل الجديد بأنّ مَن تتصوّرونهم حملة رسالة نجاة البشريّة وحرّيّتها وهدايتها إلی سعادتها، والذين كانوا ـ تحت هذا العنوان يهاجمون الدول الاُخري ويُسقطون أنظمتها، قد ارتكبوا بأنفسهم أشدّ الاعمال وحشيّةً، وهذا هو مثالٌ لما عملوه. ولذلك، فإنّ القاري المحترم لن يعجب إذا لم تجد لجنة الامتحان السنويّ في اونيورسيتي كلكتّا الهنديّة التي كانت تدار من قبل الإنجليز، سؤالاً لحلّ مغالطة المنطق إلاّ الامر المختلق بإحراق الكتب. وحين يكتب مؤلّف إيرانيّ ألّف كتاب « مباني الفلسفة » لطلبة الصف السادس الثانويّ، الذي يُطبع منه كلّ سنة عشرات الآلاف من النسخ، فيصل إلی مبحث القياس الاستثنائيّ في المنطق، لكنّه يعتصر ذهنه فلا يجد سؤالاً يورده في الشأن إلاّ السؤال الذي طرحه المخطّطون الإنجليز في اونيورسيتي كلكتّا، فيُجبرعلی طرح المسألةعلی النحو التإلی: « يمكن للقياس الاستثنائيّ أن يكون منفصلاً ومتّصلاً في نفس الوقت، أي أن يكون مركّباً. والمثالعلی هذا القياس هو القول المعروف المنسوب للقائد العربيّ الذي أراد تقديم تبرير استدلإلی لإحراق مكتبة الساسانيّين فقال: هذه الكتب، إمّا أن تكون موافقة للقرآن أو مُخالفة له. فإن وافقت القرآن كان وجودها زائداً، وإن خالفته كان وجودها زائداً ومضرّاً. وكلّ زائد ومضرّ يجب أن يُتلَف. فهذه الكتب ـ في جميع الاحوال ينبغي أن تُحرق. ( الدكتورعلی أكبر سياسي « مباني فلسفه » ص 254 ). ثمّ يختم المرحوم المطهّريّ كلامه في هذا الموضوع بقوله: « إنّ كلّ هذه الابواق التي ملات ما بين أُوروبّا إلی الهند، والكتب التي تؤلّف في موضوعها، والقصص التي تُصاغ عنها، وإقحامها في كتب المنطق والفلسفة والاسئلة الامتحانيّة من أجل جعلها أمراً قطعيّاً مسلّماً، ليست من أجل أحساسات وعواطف ضدّ عُمَر أو ضدّ عمرو بن العاصّ، وليست قُربةً إلی الله تعالی وخدمةً لعالـم التشـيّع ومن أجل إسقاط اعتبار خصوم أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. إنّ الإسلام ـ لا سواه ـ هو المسألة المطروحة في مثل هذا الجوّ الذي يجري فيه طرح هذه المسائل، وإنّ السلاح المؤثِّر ضدّ دين أو مذهب معيّن في عالمنا المعاصر ليس البحوث الكلاميّة والاستدلالات المنطقيّة الذهنيّة، بل إنّ طرح أُسلوب تعامل أتباع مذهبٍ معيَّن في مسيرة التأريخ مع مظاهر الثقافة والمدنيّة هو السلاح الاكثر تأثيراً في صالح ذلكما المذهب والدين أو في غير صالحهما ». [6] أجل، فإنّ هذا الصخب والضجيج حول العرب وهجوم العربعلی إيران، وهذه التهم التي اختُلقت وتُختلق، ليست موجّهة ضدّ العرب، بل ضدّ الإسلام. فهم أعجز عن أن يجسرواعلی ساحة الإسلام والقرآن والرسول، ولذا فإنّهم يهاجمونها تحت ستار الهجومعلی العرب. إحیاء اللغات الفارسیة القدیمة یمثل نکوصا عن تعالیم القرآنوقد اجتهد المجمع اللغويّ الإيرانيّ في زمن الاستعمار البهلويّ، تحت شعار المحافظةعلی الآثار القوميّة، إلی استبعاد الكلمات العربيّة باعتبارها لغة أجنبيّة دخيلة، سعياً مباشراً منه إلی القضاءعلی روح الإسلام. وها هو إلیوم أيضاً يتابع نفس النهج والمسار. وكانوا يقتفون خُطي أحمد كسروي ـ وكان نفسه من أفراد هذه الزمرة فيستخرجون المفردات البهلويّة الغريبة من طيّات الكتب المتروكة والمعاجم اللغويّة، فيجعلونها مكان الالفاظ العربيّة المليحة السهلة المأنوسة التي دخلت في الفارسيّة فأضفت عليها ملاحةً عجيبة. وكان هناك في زمن رضاخان وابنه محمّد رضا البهلويّ مؤسّسة في البلاط ترتبط بوزارة المعارف والثقافة بخصوص هذه الاُمور، وكانت تبذل قصاري وُسعها في محو الثقافة الإسلاميّة والمفردات العربيّة. وكانوا يهدرون أموال الشعب في إدارة المجمع اللغويّ الواقعة خلف مدرسة « سبهسالار » في هذا الامر. فقاموا بتغيير اسم « مسجد » إلی « دمرگاه »؛ و « قبرستان = المقبرة » إلی « گورستان »؛ و « اجتماع » إلی « گردهمائي »؛ و « خصوصاً » و « مخصوصاً» إلی « ويژه »؛ و « جمع وتفريق وضرب وتقسيم » ( العمليّات الرياضيّة الاربع ) إلی « أفزايش وكاهش وزدن وبخش ». وهكذا الامر في سائر المصطلحات الرياضيّة، بحيث كان المعلّمون أنفسهم يصابون بالدوار أحياناً ويعجزون عن بيان ما يرمون إلیه. وهذه الاُمور تحصل من أجل إبعاد الناس عن لغة القرآن، ولقطع ارتباطهم بـ « نهج البلاغة »، ولتغريبهم عن الجمعة والجماعة، ولسلب معرفتهم بهذه المعارف الاصيلة. [7] ومن هذه المقولة حذف حرف الطاء من الكلمات وإبداله بحرف التاء، كتبديل كتابة لفظ طهران إلی تهران؛ والامر كذلك بالنسبة إلی باقي الحروف العربيّة مثل ظ، ص، ض، ع، غ، ث، ذ. ولو كان تدريس العربيّة يجري في يُسر وسهولة منذ زمن الطفولة، وكان ضمن برنامج الاطفال، ثمّ يتدرّج الامر، لصار فتياننا وشبابنا قادرين عند بلوغ المرحلة الجامعيّةعلی القراءة والكتابة والتكلّم بالعربيّة، ولاضحوا قادرينعلی مراجعة الثقافة العظيمة للتأريخ والحديث والفقه والتفسير، وعلي الارتواء من مناهل العرفان. لكنّهم ـعلی العكس وضعوا دراسة العربيّة في المراحل العإلیة، بأُسلوب غير صحيح يعسر فهمهعلی المعلِّم والتلميذعلی حدٍّ سواء. فهم يتعمّدون إتعاب التلاميذ وسلب اشتياقهم للتعلُّم. ثمّ إنّهم يضعون درجة امتحانيّة للرياضيّات ( من الجبر والحساب الاستدلإلی ) وللفيزياء والكيمياء، ولا يضعون درجةً للعربيّة، بل إنّهم يضعونها في درجة تافهة يتساوي فيها وجودها وعدمه. وفي النتيجة فإنّ الشابّ الجامعيّ سيعجز عن الكتابة الصحيحة، فضلاً عن قراءة القرآن، فيكتب من أمريكا لوالده رسالةً يقول فيها: مَن طَبْ كردهام ( تب ). [8] لقد فصلوا العلاقة بين الشباب وبين القرآن، وصار بعضهم يرسل ولده في سنّ الطفولة للدراسة في الخارج، أي إلی دول الكفر، يرسل الطفل الذي ينبغي أن يتربّي في أحضان أُمّه، والذي لم يعرف بعدُ التكلّم بالفارسيّة وأداء مخارج حروفها ولهجتها، فيُدَرَّس الإنجليزيّة هناك، ويتباهي الاب بهذا العمل الخاطي. جاءني يوماً شابّ وسيم في مسجد القائم، ليسألني عن مسائل الصلاة والوضوء والغُسل والتيمّم، لكنّه لم يكن يُحسن الكلام بالفارسيّة ولا أداء مخارج حروفها ولهجتها، ويتحدّث بكلمات ممطوطة تثير الاشمئزاز، شأن الاجانب الذين يريدون التحدّث بالفارسيّة. قال: لقد أصبحت دكتوراً، فقد أُرسلتُ إلی الخارج منذ طفولتي، وعدتُ حديثاً. وقد أجريت تحقيقات حول الإسلام، فعرفتُ أ نّه الدين الصحيح، وأريد أن أعرف الآن مسائلي! فتأمّلوا في المدي الذي وصل إلیه الامر! الترویج للفردوسی ودیوانه « شاهنامه »،ترویج العداء للإسلامماذا وراء كلّ هـذه الضـجّة حـول عظـمة الفردوسـيّ، والاحتفـال بتكريمه، وبمرور ألف سنةعلی وفاته، وبناء مقبرة له، ودعوة الاجانب من جميع الدول لإحياء أمر ال « شاهنامه » [9]، وتجليل هذا الخاسر الفقير؟! لا نّه صرف ثلاثين سنة من عمره فجمع ديواناً يشتملعلی الاساطير، تحدّي به لغة القرآن ( العربيّة ) ولغة الإسلام ولغة رسول الله؛ كلّ ذلك عشقاً منه لدنانير السلطان محمود الغزنويّ. لقد قضي القرآنعلی المباهاة بعظام السلف الصدئة وأيّ عاقلٍ يتمسّك بالاوهام ويُبهج نفسه بألقاب الاجداد الموتي واعتباراتهم، وقد أضحت عظامهم في قبورهم رميماً، بعد نزول سورة أَلْهَب'كُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّي' زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ! [10] لقد أراد الفردوسيّ بديوانه الاُسطوريّ « شاهنامه » وهو ديوان تخيّليّ أن يُقيم باطلاً في مقابل القرآن الكريم، ويقيم أوهاماً في مواجهة إلیقين، فجازاه اللهعلی فعله في الدنيا، ولا علم لنا بعاقبته في الآخرة. بسي رنج بردم در اين سال سي عجم زنده كردم بدين پارسي چو از دست دادند گنج مرا نبد حاصلي دسترنج مرا[11] ولقد شاهدنا في عصرنا أنّ كلّ مَن أراد أن يرفع العجم في مقابل الإسلام، وأن يجعل الفارسيّة في مواجهة القرآن، قد توفّي في ذلّة ومسكنة عجيبَين، فَاعْتَبِرُوا يَـ'´أُولِي الاْبْصَـ'رِ! أذكر جيّداً أنّي طالعت قبل ما يقرب من ثلاثين سنة مجلّة من مجلاّت « راهنماي كتاب » ( = دليل الكتاب )، فكان فيها مقالة لعلی دشتي حول الفردوسيّ ومقامه ومنزلته، وقد أظهر هذا الرجل في تلك المقالة عداءه للإسلام في شيطنة خفيّة. وتحدّثت هذه المقالة عن الفردوسيّ وديوانه « شاهنامه »، ونورد ملخّصاً لاستنتاجاته: لقد تحدّث الكثير عن الفردوسيّ وتدوين ال « شاهنامه »، لكنّي أُريد هنا أن أكشف الستار عن هذا الامر للطلبة الجامعيِّين ولاصحاب الاطّلاع. لقد اختلج في ذهني هذا الامر سنواتٍ طوالاً دون أن أتمكّن من إظهاره لموانـع معيّنة، وها قد حان الوقـت لاُقـدّمه للشـباب والطـلاّب وأربـاب الفضل. وتلك النكتة هي أنّ دولة إيران قد تعرّضت خلال الازمنة المتمادية إلی هجمات أقوام أجنبيّة، مما ادّي إلی ضياع ثروتها وعمرانها ومكتبتها وجميـع آثارها القـوميّة، كفتنة المغـول وغيـرهم. إلاّ أنّ أيّةً مـن هـذه الهجمات لم تماثل ـ في الإضرار بإيران هجومَ العرب. لانّ تلك الحملات والهجمات كانت تتركّز في الاُمور العسكريّة والتخريب والغارة والفساد الذي كان يعقبها، والتي كانت ترمّم بعد مدّة وتُبدّل إلی صلاح وعُمران. أمّا هجوم العرب فقد اقترن بخُلُق التفاخر، وبدينهم وتعليمهم وتربيتهم، ولذلك فقد ترسّخ في نفوس الناس وتأصّل فيها. ومن الواضح أنّ النفوس والقلوب لا يمكن إصلاحها بالاصلاح والعمران الخارجيَين. وقد دام هذا الامر حتّي قام الفردوسيّ بتدوين ديوانه « شاهنامه » في مقابل العرب، فأظهر أنّ الاصالة الإيرانيّة والقوميّة هي التي يمكنها مواجهتهم. ولقد أزاح الفردوسيّ، بإحيائه اللغة الفارسيّة وبكتابه النفيس هذا، الستارَ عن آثار الاجداد وقوميّتهم، وأحيي إيران والإيرانيّين. لذا، فإنّ الخدمة التي قدّمها الفردوسيّ لهذه الارض تفوق خدمات غيره، وتستحقّ التقدير والمدح، إذ لم يبلغ أحد من شعرائنا مقامه ودرجته. ( هذا هو ملخّص كلامه في تلك المجلّة ). [12] الاستعمار یصور الجهاد الإسلامی أشبه بهجوم الإسکندر والمغولوقد قرأ الحقير في بعض رسائل الدكتورعلی أكبر الشهابيّ قوله: إنّ كتاب « بيست وسه سال » ( = السنوات الثلاث والعشرون ) الذي أُلِّف ونُشر في زمان الطاغوت دون ذكر لاسم المؤلّف أو توقيعه، وضمّ تُهماً وأكاذيباً ومكراً وحيلاً وكتماناً للحقائق وافتراءات موجّهة ضدّ رسول الله وضدّ الإسلام والقرآن، قد كان مؤلّفه علی دشتي بمعونة بعض الماركسيّين العالميّين. [13] وهؤلاء هم الاعداء الذين باعوا أنفسهم للاستعمار ووصمت جباههم منذ قديم الايّام بوصم الرّق والعبوديّة للكفر، والذين قضوا أعمارهم في محاربة الإسلام والقرآن والشرف والقوميّة مقابل ثمن بخس من ورق دنيويّ. وهويّة هؤلاء وملفّاتهم ممّا لا يعتري الناس إلیقظين فيها شكّ. إذ، أيَّ عدوٍّ، بعيدٍ عن المروءة يضع النهضة الإسلاميّة في مصافّ هجمة الإسكندر وهجمة المغول؟! لقد استقبل الإيرانيّون ذوو الفكر والاصالة الإسلام بترحاب، حيث إنّهم أسلموا تدريجيّاًعلی مدي قرنين من الزمان بعد تفكّر وتدبّر، دون أن يُجبرهمعلی ذلك شيء. ولقد عاشوا في حمي الإسلام حين كانواعلی دين زرادتشت، فكان الإسلام يُعاملهم معاملة أهل الكتاب، فيأخذ منهم الجزية بدلاً من الخُمس والزكاة، ويدعهم أحراراً في أُمور عبادتهم. وكانت معابد النار لديهم موقدة إلی القرنين الثالث والرابع. وكانوا يعيشون في حمي الإسلام وأمانه دون أيّة مضايقة ـ باعتبارهم من أهل الكتاب وكانت أرواحهم وأموالهم وأعراضهم ونواميسهم محفوظة. وقد أقرّ إدوارد براون في مواضع من كتابه بأنّ الإيرانيّين اعتنقوا الإسلام عن رغبة، فقال: « إنّ التحقيق في الغلبة التدريجيّة للدين الإسلاميّعلی مذهب زرادشت أشدّ صعوبة من التحقيق في أمر استيلاء العربعلی ممتلكات الساسانيّين من الاراضي. إذ يحصل كثيراً أن يتصوّر المرء أنّ المقاتلين المسلمين كانوا يخيّرون الاقوام والممالك المفتوحة بين أمرين: القرآن والسيف. إلاّ أنّ هذا التصوّر بعيد عن الحقيقة، لانّ إلیهود والنصاري والزرادشتية كانوا مُجازين في البقاءعلی أديانهم، وكانوا مُجبرين فقطعلی أداء الجزية. وهذا الوضع عادلٌ تماماً، لانّ أتباع الخلفاء من غير المسلمين، كانوا يُعْفَون من المشاركة في الغزوات ومن دفع الخمس والزكاة التي كانت مفترضةًعلی أُمّة النبيّ »[14]. وكان الإيرانيون يشاهدون صدق الجنود المسلمين وأمانتهم، وقِتالهم في سبيل أهداف واضحة، وعن إيمان واعتقاد كاملين برسالتهم التأريخيّة، واطمئنان كامل بصحّة هدفهم ودَورهم، سـواء في ذلك عليهم قَتلوا أم قُتلوا، وعن اعتقادٍ عميق بالله الواحد ويوم الجزاء. وأنّ التضـحيات والاسـتماتة والمحاورات والكلمات التي خلّفـوها والتي سجّلها التأريخ، تُظهر أنّ إيمان الجنود المسلمين بالله وبالقيامة وبصدق رسالة الرسول الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم وإيمانهم برسالتهم ودَورهم قد بلغت الذروة. فقد كانوا يعتقدون بعبادة الله الواحد دون سواه، وبوجوب نجاة كلّ أُمّة تعبد إلهاً غير الله الاحد بأيّ شكل وصورة كانت؛ فكان جهادهم هذا جهاداً من أجل تحرير الإيرانيّين الموثقين بأغلال الخرافات والاباطيل. يُضاف إلی ذلك أ نّهم كانوا يعتقدون بأنّ من رسالتهم إقرار العدل وتخليص الطبقات المظلومة من مخالب الظالمين. وكانت خُطبهم التي يلقونها في المناسبات المختلفة لبيان أهدافهم تشير إلی أ نّهم كانوا واعين مُدركين لما يفعلون، وأ نّهم كانوا يسيرون باتّجاه هدف مشخّص معيّن، وأ نّهم كانوا يقودون نهضةً عظيمة وثورة جليلة بتمام معني الكلمة. ولقد شاهد الإيرانيّون هذه الاُمور وسمعوها، فكانوا يُضَلّلون فيتولّهون ويؤمنون طوعاً ورغبة. فانظروا كم ابتعد عن الإنصاف والشرف هؤلاء الافراد ذوي الهويّة المعلومة من أمثال دشتي والدكاترة الذين يدرّسون في معاهد تربية المعلّمين، في نشـرهـم لهـذه الإشـاعة فـي الكتب الدراسـيّة، فقد انبعثت أصواتهم من حنجرة الاستعمار، وقد سعوا بأجمعهم لجعل جهاد مقاتلي الإسلام المقدّس أشبه بحملة جنكيز وهولاكو والافاغنة والإسكندر؟! هدف الاستعمارمن الثقافة ضعضعة المستوی العلمی للقرآن فی الأذهانوعلي العموم، فمنذ مدّة والروح المخالفة للعرب تُفرضعلی التلاميذ في مدارسنا ( من حذف الكلمات العربيّة الجميلة المليحة واستبدالها بألفاظ غير مأنوسة، مثل كتابات كسري )، وهذا المسار يصبّ في صالح هدف الاستعمار وينسجم معه. ولقد أثّر إبراهيم پور داود ـ وهو عدوّ للعرب ولكلّ ما ينتمي إلی العرب حسب قول المرحوم القزويني[15]ّ علی الدكتور محمّد معين ليكتب كتاباً لإحياء المذهب الزرادشتيّ وآدابه وسننه الجاهليّة، ويقوم بشرح مفردات مَزْديسْنا في الادب الفارسيّ، والمقصود بذلك الفكر الزرادشتيّ في الادب الفارسيّ [16]. وقد ذكر إبراهيم پور داود ـ وهو المشرفعلی تإلیف الكتاب، وكان الدكتور معين حينذاك خاضعاً لتأثيره الشديد في مقدّمة الكتاب الهدف الرئيسيّ من تإلیفه وهو: أنّ الروح الإيرانيّةعلی امتداد تأريخ إيران لعدّة آلاف من السنين، حتّي في العصر الإسلاميّ، هي الروح الزرادشتيّة. وأنّ أيّ عامل لم يستطع إخضاع هذه الروح لتأثيره ونفوذه، بلعلی العكس، فإنّ هذه الروح قد أثّرت في ذلك العامل. وعلي سبيل المثال فـ « إنّ الدين الذي جاء به الفاتحون العرب إلی الإيرانيّين قد اكتسب هنا صبغة وواجهة إيرانيّة فصار يُدعي تشيّعاً، وامتاز بذلك عن مذاهب أهل السنّة » ( التي تمثّل الإسلام الصحيح حسب عقيدة پور داود )[17]. ونشاهد هنا أنّ الحديث ليس عن الإسلام وعن محمّد وعن القرآن؛ بل هو حديث عن الفاتحين العرب. والهدف من ذلك هو إلقاء الشبهة في أذهان الشباب البسطاء، وإفساد إيمانهم وثباتهم. ومن الواضح أنّ أحداً منهم لن يصبح زرادشتيّاً، بَيدَ أنّ فتوراً وضعفاً سيطرأعلی إيمانهم وثباتهمعلی الإسلام، وفي جهادهم. وهذا هو هدف الكفر من تربية أمثال پور داود والدكتور مُعين، حيث إنّهم يحطّون من المستوي العلميّ للقرآن في الاذهان عن طريق الثقافة والادبيّات. ويصرفون أذهان الشباب إلیهم من خلال لفت أنظارهم إلی مفردات الزرادشتيّة القديمة الميّتة وأدبها، ويصدّونهم عن ماء القرآن المعين وكلماته وتفسيره، وعن السير العمليّ والفعليّ في نهجه وطريقه في نهاية المطاف.[18] القرآن کتاب محبب ومقبول حتی للکفاريقول إدوارد براون: « يتضمّن كتاب أوستا مبادي عقائد شخص شهير هو زرادشت، ويحتويعلی أحكام دين العالم القديم. وقد لعب هذا الدين دوراً هامّاً في تأريخ العالم؛ ومع أنّ عدد أتباعه الفعليّين في إيران لا يتجاوز عشرة آلاف نفر، ولا يتجاوز في الهند تسعين ألفاً، فقد كانت له آثار عميقة في الاديان الاُخري التي فاقته في أهمّيّتها. ومع ذلك، فلا يمكن وصف أوستا بأ نّه كتاب مقبول أو محبوب. صحيحٌ أنّ الشكّ يعترينا عند تفسير أكثر عباراته، وأنّ قيمة ذلك الكتاب ستتّضح بصورة أفضل إذا جري الوصول إلی مفاهيمه. لكن، بإمكاني أن أقول عن نفسي هذه النكتة، وهي أ نّني كلّما طالعتُ القرآن أكثر فأكثر، وكلّما سعيتُ لإدراك روح القرآن أكثر، زاد إدراكي لقدره ومنزلته. أمّـا التحقيق في كتاب أوسـتا فمملٌّ ومُضـجر ومتعـب، إلاّ أن يكون ذلك بهدف إجراء دراسة في علم اللغة أو علم الاساطير وغيرها من الاهداف التطبيقيّة » [19]. يقول المرحوم الشهيد المطهّريّ رحمة الله عليه: « وإذا ما لاحظتم، فقد حصلت بعد ذلك ثورات من قبل الإيرانيّين في مناطق الحكم الإسلاميّ، وكان السبب فيها عادةً أ نّهم كانوا يريدون إنقاذ أنفسهم من براثن الذين كانوا لا يطبّقون العدالة الإسلاميّة. وبعبارة أُخري فإنّهم كانوا يقاتلون الحكومات التي كانت تنحرف عن القوانين الإسلاميّة. وبصورة عامّة، فكلّما كانت الايّام تمضي، كانت محبّة الإيرانيّين للإسلام تزداد، وكانوا يتدفّقونعلی اعتناق الإسلام ويتركون أديانهم ومذاهبهم السابقة وسننهم وتقإلیدهم القديمة بسرعة تتزايد بمرور الايّام. وخير مثال لهذا الامر، هو الادب الفارسيّ. فقد كان تأثير الإسلام والقرآن والحديث في الادب الفارسيّ يتزايد بمرور الوقت، بحيث إنّ نفوذ الإسلام في آثار الاُدباء والشعراء، وحتّي في آثار الحكماء، في القرنين السادس والسابع فصاعداً أكبر وأجلي منهعلی آثار شعراء وأُدباء وحكماء القرنين الثالث والرابع. وهذه الحقيقة مشهودة بصورة كاملة من مقارنة آثار رودكي و الفردوسيّ مع آثار المولويّ وسعديّ والنظاميّ و حافظ و جامي! العصر السامانی هو عصر بدایة دخول المفردات العربیة فی اللغة الفارسیةويقول مؤلّف كتاب « أحاديث مثنوي » [20] في مقدّمة كتابه: « إنّ تأثير مضامين الاحاديث في الشعر الفارسيّ أمرٌ ملموس منذ أقدم الازمنة »، ثمّ يستشهد بأشعَار رودكي، ويقول بعد ذلك: « منذ أواخـر القـرن الرابـع، حيـث انتشـرت الثقافـة الإسـلاميّـة، وتأسّست المدارس في النقاط المختلفة، وغلب الدين الإسلاميّعلی باقي الاديان، وواجهت مقاومة الزرادشتيّين هزيمة نهائيّة في جميع أرجاء إيران، وبدأت الثقافة الإيرانيّة تتجلّي بصبغة إسلاميّة، ووضعت أُسس التعليمعلی أساس الادب العربيّ ومباني الدين الإسلاميّ، فقد تزايد بطبيعة الحال نقل الشعراء والكتّاب للالفاظ والمضامين العربيّة، بينما تناقص ـ في المقابل في النظم والنثر كلمات القدماء ( قبل الإسلام ) وكلماتهم وأمثالهم، حيث يظهر من خلال المقارنة أنّ أسماء زرادشت وأوستا وبوذرجمهر وحِكمه قد تردّدت في شعر دقيقي والفردوسيّ وشعراء العهد السامانيّ وأوائل العصر الغزنويّ أكثر منها في أشعار العنصريّ والفرّخيّ والمنوجهريّ الذين عاشوا في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس ». [21] «... يقول المستر فراي بعد إشارته إلی نهضة فارسيّة ممزوجة بالعربيّة في زمن السامانيّين: إنّ الادب الفارسيّ الحديث ( الفارسيّة الممزوجة بكلمات عربيّة ) ليس ناشئاً من تمرّدعلی الإسلام أو العربيّة. فالمضامين الزرادشتيّة التي وردت في الشعر ترتبط بالاُسلوب السائد آنذاك، وينبغي ألاّ يعدّ علامةًعلی الإيمان بالمذهب الزرادشتيّ.... ولقد كانت اللغة الفارسيّة الحديثة قد أضحت في مصافّ العربيّة كإحدي اللغات الإسلاميّة. وليس من ريب في أنّ الإسلام قد استغني الآن عن الاعتمادعلی العربيّة، فقد دخلت فيالإسلام أُمم كثيرة، وصار يمثّل ثقافة عالميّة. وكان لإيران دور كبير في إدارة الثقافة الإسلاميّة ». ويقول المستر فراي في الصفحة ( 400 ) من كتابه حول ورود مفردات عربيّة إلی الفارسيّة وتأثير ذلك، تحت عنوان «آغاز زندگي نوين ايران» ( = بدء الحياة الحديثة في إيران ): « تمتلك اللغة أهمّيّة في استمرار وثبات بعض الثقافات، تفوق أهمّيّة الدين أو المجتمع. وهذا الاصل صحيح بالنسبة إلی الثقافة الإيرانيّة، إذ لا يمكن التشكيك في ارتباط اللغة الفارسيّة الوسطي ( في العهد الساسانيّ ) مع الفارسيّة الحديثة ( في العصر الإسلاميّ )، مع أنّ هاتين اللغتين ليستا شيئاً واحداً. والفارق الكبير بين هاتين اللغتين، هو ورود كثير من المفردات العربيّة في الفارسيّة الحديثة، الامر الذي أضفيعلی هذه اللغة اقتداراً أدبيّاً، وجعلها لغةً عالميّة، بينما يُفتقد مثل ذلك في اللغة البهلويّة. وحقّاً، لقد جعلت العربيّة من الفارسيّة الحديثة لغة مقتدرة، ومنحتها القدرةعلی إنشاء أدب متفتّح وخاصّة في صناعة الشعر، حيث إنّ الشعر الفارسيّ قد بلغ في أواخر القرون الوسطي أوج جماله ولطفه. وقد سلكت الفارسيّة الحديثة طريقاً كان قُوَّاده جماعة من المسلمين الإيرانيّين الذين امتلكوا مهارةً في الادب العربيّ، وكانوا في نفس الوقت متعلّقين بلغتهم الاُمّ. وقد اكتسبت الفارسيّة الحديثة التي كانت تكتب بالحروف العربيّة في شرقي إيران رونقاً وجمالاً خلال القرن التاسع الميلاديّ، وتفتّحت في بُخارا عاصمة السلسلة السامانيّة».[22] [1] ـ «سيري در انديشة سياسي عرب» انديشه واجتماع 1، ص 104 إلي 107. [2] ـ «شرح حال و آثار سيّد جمال الدين الاسدآباديّ» تأليف الميرزا لطف الله أسدآبادي وتقديم حسين كاظم زاده إيرانشهر، ص 90 و 91. [3] ـ «تمدّن اسلام وعرب» (= حضارة الاءسلام والعرب) ص 763 و 764، الطبعة الثانية. [4] ـ أي: كتاب زرادشت. (م) [5] ـ تأليف جان ديون بورت، وقد ترجم الكتاب إلي الفارسيّة السيّد غلام رضا سعيدي. [6] ـ «كتاب سوزي ايران ومصر» (= إحراق كتب إيران ومصر) ص 98 إلي 104. [7] ـ من العجيب جدّاً أنّ هذه الامواج الغربيّة العفنة الواسعة التي أوجدها الاستعمار والطُّفيليّات الفكريّة ذات النزعات الغربيّة لا تزال إلي يومنا هذا تنتقل إلي جامعات إيران عَلناً باسم حفظ الحضارة والميراث الثقافيّ الاءيرانيّ، وباسم القوميّة والتراث الادبيّ الوطنيّ. وليس من المعلوم أنّ وسائل الاءعلام تنشر هذه الافكار ـ حين تنشرها ـ عن جهل أو عن علم وسابق إصرار. فقد نُقل عن راديو طهران أ نّه قام قبل عدّة أيـّام (منذ يوم 25 ذي الحجّة لسنة 1411 هجريّة قمريّة) بتعليم أُسلوب إحياء المفردات الفارسيّة علي أساس إحياء التراث الثقافيّ الفارسيّ. وأعجب من ذلك أنّ الالفاظ التي اختيرت للتغيير كانت بأجمعها من النصوص الشريفة للقرآن الكريم مثل لفظ «هدايت»، «مسجد»، «أمر به معروف» وغيرها؛ وكان يُذكر لكلٍّ من هذه الالفاظ بديلاً من اللغة الفارسيّة، مع تكرار الراديو القول بأنّ هذه الالفاظ العربيّة قد امتزجت بالفارسيّة، وبأنّ ثقافة الحضارة الفارسيّة غنيّة في ذاتها عن استعمال تلك الالفاظ العربيّة. وقد يتصوّر بعض السذّج والبُسطاء بأنّ هذا الامر، أمرٌ عاديّ بسيط لا ينبغي الالتفات إلي مثله. لكنّ المقولة المطروحة في العالم هذه الايـّام، بأنّ العقل الاءسلاميّ الارثوذكسيّ ـ حسب تعبيرهم ينبغي أن يُزال، وأن يُصار إلي الاعتماد علي اللغة (علي أساس القالب الذي تقولب علي أساسه فِكر كلّ شعب، وينبغي قولبة كلّ دولة وأُمّة حسب الحضارة والثقافة الخاصّة بهما، وليس اعتماداً علي اللغة بحيث تكون وسيلةً للفكر البشريّ الذي يقوم بتجهيزها للنظر إلي عالم الوجود، وذلك وفقاً لنظريّة المفكّر الالمانيّ هيردر ( Herder ) ويتّضح من ذلك ماهيّة مشروع سعيد عقل في لبنان لاءحياء اللغة اللبنانيّة علي أساس الميراث الثقافيّ الفينيقيّ الغنيّ، بحجّة اتّساعها وسهولتها وكثرة مفرداتها في مقابل لغة القرآن (اللغة العربيّة الفُصحي). وسعيد عقل المارونيّ من أتباع القدّيس المسيحيّ المعروف (مارون). كما يمكننا أن ندرك هدف أدونيس وماهيّة مشروعه بخصوص لغة سوريّة علي أساس القوميّة السوريّة (الحزب القوميّ السوريّ)، بحجّة أنّ عصر التدوين عاجز عن رسم اللغة العربيّة الفصيحة، يعني لغة القرآن ـ والعياذ بالله تعالي. كما يمكننا أنّ ندرك جيّداً أنّ قصد محمّد أركون من مشاريعه في تجديد اللغة وتأريخها ومن كلّ ما ينتهي بنفع الاستعمار ويخدم أهدافه هو نسخ الاءسلام وهو الهدف الواضح من خلال حذف هذه الاسماء والعبارات والالفاظ، بسبب دخول ألفاظ غربيّة غريبة في المجتمعات الاءسلاميّة، دخولاً يسبِّب زوال الآداب والسنن الاءسلاميّة التي تعبّر عنها تلك الالفاظ، ويستبدل بها آداب الكفر وسُننه. [8] ـ تعني العبارة: لقد أصابتني الحمّي. وواضح أنّ هناك خطأً في استبدال حرف التاء بالطاء. (م) [9] ـ «شاهنامه» اسم الديوان الذي ألـّفه الفردوسيّ، ويُعرف ب «شاهنامه فردوسي» (م). [10] ـ الآيتان 1 و 2، من السورة 102: التكاثر. و التكاثر بمعني طلب الكثرة والزيادة. أي أنّ السعي وراء الكثرة والزيادة صدّكم عن النهج المستقيم وعن الالتفات إلي الحقّ تعالي. وقد استمرّ هذا المعني مع امتداد حياتكم، حتّي حان موتكم فشاهدتم قبوركم. وقد أورد بعض المفسِّرين في شأن نزول هذه السورة أنّ قبائل العرب كانت تتفاخر بينها بعدد أفراد القبيلة، فمن كانت قبيلته أكثر عدداً افتخر بذلك وتباهي. حتّي إذا عدّوا الاحياء الذين يفتخرون بهم، زاروا المقابر فاستعانوا بعدد من مات منهم فألحقوه بالاحياء وعدّوه ضمن قبيلتهم ليباهوا بأ نّهم الاكثر عدداً. فلهذا نزلت هذه الآيات التي تنبّههم بأن تكاثركم قد جعلكم غافلين أذلاّء بحيث صرتم تستعينون بالاجساد المتهرّئة والعِظام البالية في القبور للتفاخر والمباهاة! ولمولي الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام مطالب عجيبة في هذا التكاثر في الخطبة 219 من «نهج البلاغة»، لو قَرَع بها جَبَلاً، لكان من اللائق أن ينهدّ ويتلاشي [11] ـ يقول: «تجرّعت المرّ في هذه السنوات الثلاثين، فأحييتُ العجمَ بهذه الفارسيّة. ولا نّهم أضاعوا كنزي، فإنّي لم أجْنِ من عَنائي شيئاً». رسالة المطهری ألی قائد الثورة الفقید فی تشخیص هویة الدکتور شریعتی[12] ونري عياناً أنّ الدكتور علي شريعتي قد تبنّي هذا المنطق بصورة كاملة بعد علي دشتي، وقد نشر أخيراً كتاب من «انتشارات صدرا» (بتأريخ 12 أُرديبهشت 1370 ه. ش) تحت اسم «سيري در زندگاني استاد مطهّري» (= جولة في حياة الاُستاذ المطهّري) مع مقالة لحجّة الاءسلام الهاشميّ الرفسنجانيّ. ويضمّ هذا الكتاب مطالب دقيقة وعميقة جمّة؛ وفي الحقيقة كشفاً لبعض الاسرار من قبل المرحوم الشهيد آية الله الشيخ مرتضي المطهّريّ أعلي الله مقامه. وقد طالعت محتوياته بدقّة، وأُوصي جميع طلاّب الحقيقة بمطالعته. وقد وردت في الصفحات 80 إلي 87 من الكتاب، رسالة أرسلها المرحوم المطهّريّ إلي سماحة آية الله العظمي القائد الفقيد ومؤسّس الجمهوريّة الاءسلاميّة حين كان في النجف الاشرف، تحوي مضامين شيّقة. ونكتفي في هذا المجال بإيراد مختصر لتلك الرسالة يشهد علي كلامنا في هويّة الدكتور شريعتي. ونصّ عبارة الكتاب كالتالي: «فيما يلي رسالة للاُستاذ المطهّريّ إلي الاءمام الخمينيّ، مؤرّخة في سنة 1356 ه. ش بعد وفاة المرحوم الدكتور شريعتي، وهي تؤيّد المطالب أعلاه، وجدنا من المناسب نشرها: بسم الله الرحمن الرحيم السلام علي مولانا أمير المؤمنين وإمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أُستاذي ومقتداي الجليل! إنّ الحوادث المؤسفة المتعاقبة للاءسلام من جهة، والنظرات المتبصّرة والتدبيرات الصائبة في الوقت المناسب ـ إيجاباً وسلباً من الاُستاذ الجليل من جهةٍ أُخري، قد أوجبت أن آمل وأسأل الله المتعال بجديّة وإخلاص متزايدة يوماً بعد يوم، كي يديم الوجود المبارك للقائد العظيم الشأن لجميع المسلمين، اللهّم آمين». إلي أن يصل إلي قوله: «الامر الرابع: مسألة أتباع شريعتي. ذكرتُ في الرسالة السابقة أ نّه تقرّر بعد التذاكر مع بعض الاصدقاء المشتركين أن لا أتكلّم بعد الآن في المسائل التي تتعلّق بشخصه، من قبيل الاءخلاص أو عدم الاءخلاص، ومن قبيل الالتزامات العلميّة؛ إلاّ أ نّي أُذكِّر وبطريقة ودّيّة لا عدائيّة بالانحرافات الموجودة في كتاباته. بَيدَ أ نّي أري في هذه الاواخر أنّ هناك جماعة لا تمتلك اعتقاداً ولا علاقة صحيحة بالاءسلام، وذات نزعات منحرفة، في صدد السعي من خلال إيجاد تجمّعات واسعة أن تصنع منه صنماً لا يجرؤ أيّ أحدٍ من علماء الدين مهما كان مقامه علي إظهار النظر في كلامه. وقد أُجريَ هذا البرنامج في مراسم التأبين له في مشهد بمناسبة مرور أربعين يوماً علي وفاته ـ بحضور بعض أصدقائنا الجيّدين مع الاسف وأُجريَ في أغلب الاحيان في شهر رمضان المبارك في مسجد قبا، تحت عنوان أنّ هذا الشخص ـ بعد السيّد جمال وإقبال قد أوجد التجديد الاءسلاميّ أكثر ممّا فعلا، وأ نّه قد أعاد الاءسلام جديداً وأبعد عنه الخرافات، وأنّ علينا جميعاً أن نتمسّك بأفكاره. إلاّ أنّ ذلك البرنامج قد واجه ردّ فعل عنيف من قِبل جماعةٍ أُخري، يضاف إلي ذلك حُسن إدراك ونيّة إمام المسجد الذي التفت إلي أنّ ذلك مؤامرة علي رجال الدين، فجري إصلاح الامر وتداركه في الليالي الاخيرة. عجباً! يريدون أن يصوغوا إسلاماً جديداً بأفكارٍ تمثّل عُصارة فكر ماسينيون مستشار وزارة المستعمرات الفرنسيّة في شمال إفريقيا والمشرف علي المبلّغين المسيحيّين في مصر، وفكر كورويج اليهوديّ المؤمن بالمادّيّة، وأفكار جان بول سارتر الوجوديّ المخالف للّه تعالي، وعقائد دوركهايم عالم الاجتماع اللادينيّ؛ فعلي الاءسلام السلام إذاً. أُقسم بالله، إن اقتضت المصلحة يوماً تمحيص عقائد هذا الشخص، فاستُخرجت جذورها وقِيست بالافكار الاءسلاميّة الاصيلة، لظهرت مئات المطالب المضادّة لاُسس الاءسلام ومبادئه، مضافاً إلي كونها تفتقر إلي الاساس الذي تستند إليه. ولستُ أعلم أمِن واجبي أن أفعل ذلك أم لا، إلاّ أ نّي أري أنّ التزامي بخصـوص هذا الشـخص يعدّ مُلغيً في المستقبل، مع أ نّي أُشاهد أ نّهم يصوغون منه صنماً. وأنا أنتظر أمركم وإذنكم في ذلك. إنّ أقلّ ذنبٍ لهذا الرجل هو إساءته لسُمعة رجال الدين. فقد عدّ تعاون رجال الدين مع أجهزة الظلم والقهر ضدّ عامّة الشعب هو من الاُسس الاجتماعيّة العامّة. وادّعي أنّ المَلِك والمالك والملاّ، وبتعبيرٍ آخر السيف والذهب والمسبحة تعيش مع بعضها دائماً، وتمتلك هدفاً واحداً. وهذا الاصل هو أصل ماركس المعروف، وبعبارة أفضل هو مثلّث ماركس المشهور القائل بأنّ الدين والدولة والرأسمال هي عوامل ثلاثة متعاونة ضدّ الشعب، وعوامل ثلاثة ناشئة من التغرّب الذاتيّ للبشر؛ وقد طبّقه وأجراه بألف لغة وتعبير. منتهي الامر أ نّه وضع رجال الدين بدل الدين، فصار نتيجة ذلك أن صار الشابّ ينظر إلي أهل العلم بنظرة أسوأ من التي ينظر بها إلي ضبّاط الامن. والله وحده يعلم، لو لم يكن الله له بالمرصاد. من باب وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَهُ وَاللَهُ خَيْرُ الْمَـ'كِرِينَ، ما الذي كان سيفعله في مهمّته الخارجيّة بالاءسلام وبرجال الدين. وقد روّجوا له في أُوروبّا وأمريكا بالحديث عن زهده وورعه وتقواه وخدمته للشعب، وعن فدائه وجهاده في سبيل الله وتولّهه في طريق الحقّ. ومن الواضح أنّ هناك أيادٍ خفيّة وراء ذلك، وأنّ أصدقاءكم الجيّدين في أُوروبّا وأمريكا قد خُدعوا. وأجد لِزاماً أن تبعثوا في وقتٍ ما بعض الافراد المتبصّرين ـ ولو خفيةً ـ إلي أُوروبّا وأمريكا، ليروا عن كثب جريان الاُمور ويُعدّوا تقريراً عنه، حيث يعتقد بعض أصدقائكم هناك أنّ بعض الحقائق تُخفي عن سماحتكم. والمجموعات الاربعة المذكورة تحاربني أشدّ المحاربة نظراً لكوني ـ إلي حدٍّ ما من أصحاب الفكر والنظر والبيان والقلم، فهم يثيرون الشائعات ضدّي، ويفترون عَلَيَّ، بحيث صرتُ أري نفسي مصداقاً للشعر الفارسيّ الذي ذكره المحقّق الاعظم الخواجة نصير الدين الطوسيّ في آخر «شرح الاءشارات» تعبيراً عن لسان حاله: به گرداگرد خود چندان كه بينم بَلا انگشتريّ ومن نگينم ** ثمّ يستمرّ المرحوم المطهّريّ في مطلبه حتّي يصل إلي حيث يقول: «حسناً، من الضروريّ أن يطالع سماحتكم شخصاً مجموعة مقالات هذا الشخص في مجلّة «كيهان» التي نشرت قبل سنة ونصف السنة للتعرّف علي ماهيّته. وهذه المقالات علي قسمين، أحدهما ضدّ الماركسيّة، وهي مقالات جيّدة تنطوي علي إشكالات قليلة بلحاظ المعارف الاءسلاميّة، إلاّ أنّ القسم الثاني منها هي مقالات عن القوميّة الاءيرانيّة (وقد طُبعت علي الآلة الطابعة منفصلةً)، وهي في حقيقة الامر فلسفة للقوميّة الاءيرانيّة. وقطعاً فإنّ أحداً لم يُدافع حتّي الآن عن القوميّة الاءيرانيّة بمثل هذا الدفاع الجيّد المستند إلي فلسفةٍ مقبولة في هذا العصر. ومن اللائق أن ندعوها بـ «الفلسفة الثوريّة» *. وخلاصة هذه المقالات ـ التي تبلغ في مجموعها كتاباً كاملاً هي أنّ ملاك القوميّة ليس الدم والعرق المرفوضَيْن في هذا العصر، بل إنّ ملاك القوميّة هو الثقافة. والثقافة مختلفة في الاُمم المختلفة بحكم أ نّها وليدة التأريخ لا وليدة سواه. وثقافة كلّ قوم هي التي تصوغ روح أُولئك القوم وشخصيّتهم الاجتماعيّة. فالذات و«الانا» الواقعيّة لكلّ قوم، هي ثقافتهم. وقد انمحي كلّ قوم لم يمتلكوا ثقافة مستمرّة. ولدينا نحن الاءيرانيّون ثقافة تمتد إلي ألفين وخمسمائة سنة هي ملاك شخصيّتنا الوجوديّة وهويّتنا الواقعيّة وذاتنا الاصيلة. وقد حصلت علي مدي التأريخ حوادث أرادت تغريبنا عن هويّتنا الحقيقيّة، إلاّ أ نّنا عُدنا إلي أنفسنا كلّ مرّة، واسترجعنا هويّتنا الحقيقيّة. وتلك الحوادث الثلاث هي: هجمة الاءسكندر، هجمة العرب، وهجمة المغول. ثمّ إنّه بحث عن هجوم العرب أكثر مـن غيره، مقدّساً النهضة الشعـوبيّة، ثمّ قال: إنّ الاءسلام بالنسـبة لنا يمثّل النظريّة (الآيديـولوجيّة) لا الثقافة. إنّ الاءسلام لم يأتِ ليبدّل ثقافتنا فيوجد ثقافة موحّدة. بل إنّه يعترف بتعدّد الثقافات. كما أ نّه يعدّ تعدّد العروق والعناصر أمراً واقعيّاً. والآية الكريمة إِنَّا خَلَقْنَـ'كُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَي' وَجَعَلْنَـ'كُمْ شُعُوبًا وَقَبَآنءِلَ... في أنّ الاختلافات العرقيّة وليدة الطبيعة، والاختلافات الثقافية وليدة التأريخ، ينبغي أن تُحفظ في موضعها. وقد ادّعي أنّ آيديولوجيّتنا (نظريّتنا) قد أثّرت علي ثقافتنا، وأنّ ثقافتنا قد أثّرت علي آيديولوجيّتنا، لذا أضحت إيرانيّتنا إيرانيّة إسلاميّة، وأضحي إسلامنا إيرانيّاً. وقد أنكر بهذا البيان عملاً وضمناً ـ دون تصريح وجود ثقافة واحدة باسم الثقافة الاءسلاميّة. وقد صرّح بأن شخصيّات من أمثال ابن سينا وأبي ريحان والخواجة نصير الدين والملاّ صدرا كانت تتعلّق بالثقافة الاءيرانيّة. أي أنّ ثقافة تلك الشخصيّات كانت ثقافة إيرانيّة. وهذه المقالات شيّقة جدّاً، وليس من شكّ في انتسابها إليه. وقد قال للبعض، مثل السيّد الخامنئيّ والسيّد البهشتيّ: هي لي! إلاّ أ نّه ادّعي أ نّه كتبها قبل عدّة سنين، وَأنّ البعض قد عثر عليها وقام بطبعها. في حين أنّ هناك أدلّة كافية في أنّ المقالات جديدة. وعلي أيّة حال فإنّ مطالعة سماحتكم لها مفيدة جدّاً». ثمّ يذكر المرحوم المطهّريّ مطلبيَن آخرَين مختصرَين، ويختم رسالته بهذه العبارة: «أبلغوا سلامي للسادة العظام أبنائكم دامت بركاتهم. والسلام عليكم ورحمة الله، ونسألكم الدعاء». * ـ نصّ عبارة المجلّة ورسالة الشهيد المطهّريّ بالفارسيّة. لذا اقتضي التنويه. (م) ** ـ يقول: «أري البلاء يُحيط بي من كلّ صوب، كما يُحيط الخاتم بفصّ الخاتم». [13] ـ كتاب «رهآورد يا سه گفتار»؛ ويقول في ص 94: «مؤلّف كتاب «بيست وسه سال» حسب إظهار المطّلعين هو علي دشتي، وهو المحرِّر والسياسيّ والسناتور المعروف في زمن البهلويّ (البهلويّ الاب والابن)، وقد جمعه بمعونة عدد من الملحدين اللبنانيّين والماركسـيّين العالميّين. وللتعـرّف علي هذا المشـعوذ في زمـان البهلويّ، انظروا رسـالة «دسيسههاي علي دشتي» (= دسائس علي دشتي) تأليف غلام حسين مصاحب، لتتعرّفوا علي ميزان معلومات المؤلّف وطبعه ونهجه السياسيّ وصفاته وأخلاقه». [14] ـ «ترجمة تاريخ أدبيات ايران» ج 1، ص 297. [15] ـ نقلاً عن المرحوم المطهّريّ في كتاب «كتابسوزي ايران و مصر» (= إحراق الكتب في إيران ومصر) ص 18. [16] ـ هذا الكتاب باسم «مزديسنا وأدب پارسي». وكلام پور داود في مقدّمة الكتاب. [17] ـ «خدمات متقابل ايران واسلام» ص 350 و 351، الطبعة الاُولي. [18] ـ إبراهيم پور داود من الملحدين المعاصرين. ونهجه وكلامه وكتاباته الكثيرة تجلّي هذا الامر. ومع أ نّه لم يدّعِ رسميّاً بأ نّه من الزرادشتيّة، لكنّ له عملاً ونيّةً وفعلاً نزعة قويّة إلي هذا الدين. وكان الدكتور محمّد معين علي هذه الشاكلة خلال مدّة خضوعه لاءشرافه وتأثيره؛ فقد كان يدافع عن الزرادشتيّة بصراحة. إلاّ أ نّه شارك بعد ذلك في جلسات الاُستاذ المعظّم آية الله العلاّمة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الزكيّ في ترجمة وتبادل مباحثاته مع هنري كوربن الفرنسيّ حول القرآن والاءسلام والتشيّع، فمال إلي الاءسلام. والله تبارك وتعالي هو أرحم الراحمين. والامل أ نّه سبحانه اكتفي بعقوبته في الدنيا، وطهّره بذلك عن تحمّل العقاب الاُخرويّ. فقد أُصيب آخر حياته بالجُلطة الدماغيّة فأجريت له عمليّة جراحيّة، لكنّه لم يَعُدْ إلي الوعي بعد انتهاء العمليّة الجراحيّة. واستمرّ فاقد الوعي مدّة أربع أو خمس سنوات. وكان بدنه مطروحاً علي الارض كالميّت، وأعينه مغمضة، إلاّ أنّ حواسّه كانت صحيحة. وكان عاجزاً عن تناول الطعام، فكانوا يصبّون في فمه السوائل خلال هذه المدّة المديدة، ثمّ أُعيد من المستشفي' إلي بيته، فعيل صبر أهل بيته من استقبال الزائرين، وكان تنظيفه يتمّ بصعوبة، حتّي وُضع جسده أخيراً في غرفة مجاورة لباب المنزل، وكانوا ـ من شدّة الكراهيّة يتمنّون موته باستمرار، حتّي أسلم الروح بعد سنواتٍ من فقدان الوعي بهذه الكيفيّة، فاعْتَبِرُوا يَـ'´أُولِي الاْبْصَـ'رِ! [19] ـ «تاريخ أدبيات ايران» ج 1، ص 155. [20] ـ تأليف بديع الزمان فروزانفر. [21] ـ «خدمات متقابل اسلام وايران» ص 71 إلي 73. [22] ـ «خدمات متقابل اسلام وايران» ص 94 إلي 96.کلام آیة الله الشعرانی فی ضرورة حفظ الإدب القدیم لقربه من اللغة العربیةكتب المحقّق دقيق النظر، والمدقّق حقيق الاءصابة والرأي: آية الله الفقيد المعاصر الحاجّ الشيخ أبوالحسن الشعرانيّ تغمّده الله برضوانه مقدّمة جميلة ذات محتويً ضخم، علي كتاب «نفائس الفنون في عرائس العيون» لعلاّمة الدهر: شمس الدين محمّد بن محمود الآمليّ، من علماء القرن الثامن الهجريّ ومن معاصري العلاّمة الحلّيّ (ج 1، ص 2 إلي 6، الطبعة الحروفيّة، المكتبة الاءسلاميّة) أشار فيها إلي الادب الفارسيّ في كلام رأينا الاءعراض عن نقله هنا مدعاةً للاسف، يقول فيه: «... إنّ اللغة اليونانيّة كانت أعظم لغة في العصور القديمة، أمّا في القرون الوسطي فقد احتلّت العربيّة هذا المقام؛ فكانت كلّ واحدة من هاتين اللغتين اللغة العالميّة لاكثر من ألف سنة. وقد دوّن مفكّرو البشريّة العظماء كلّ ما اكتسبوه بالعلم والعقل، وكلّ ما أنجبته أفكارهم، بهاتين اللغتين، كما أنّ من أراد الاطّلاع علي دقائق الافكار كان مجبراً علي تعلّم هاتين اللغتين، إذ إنّ اللآلي النادرة كانت كامنة في هاتين الصدفتين دون غيرهما. واللغة العربيّة بلحاظ سعة المؤلّفات والشيوع في نواحي العالم المختلفة تفوق اليونانيّة بعشرة أضعاف. ولقد كانت اللغة الفارسيّة في القرون الوسطي هي اللغة الكاملة الاُولي بعد العربيّة، وكانت متفوّقة وراجحة علي باقي اللغات، فقد كان الاديب الخبير إذا تأمّل التعبيرات الفصيحة والكلمات الممتازة والالفاظ الجزلة والعبارات المليحة والتعابير المحبّبة المستعملة في سطور الكتب، وغاص في أعماقها، فإنّه سيكتشف غنائم لا تحصي فيها، لانّ كلّ كلمة منها يمكنها أن تكون كالجوهرة التي يزدان بها الكتاب. لقد كانت العبارات التي استخدمها السلف لبيان مقاصدهم من البلاغة إلي الحدّ الذي كانت معه تقرع الآذان، فتغوص علي الفور إلي أعماق القلوب، في طعم محبّب لا تُنسي لذّته إلي سنوات طويلة. ولم تكن هذه الحلاوة والملاحة خاصّة بأشعار المدح والغزل دون غيرها، فقد كانت الاشعار العلميّة والعبارات المنثورة سهيمة في هذا الوصف. وقد اتّصفت رباعيّات يوسف الهرويّ في الطبّ؛ وأشعار الخواجة نصير الدين الطوسيّ في النجوم، و«نصاب الصبيان» لابي نصر الفراهيّ في اللغة؛ و«گلشن راز» للشبستريّ بالملاحة، بحيث كان المرء يترنّم بها لرفع الملل والضجر، من أجل أن ينبسط الخاطر المكدّر، ومن أجل أن يجلو تكرارها عن القلب صدأه؛ مع أنّ هذه الوصف لا ينطبق علي كتبنا العلميّة الحاليّة، إذ إنّنا نجبر أنفسنا العازفة عن أمثال هذه الكتب، علي قراءة عدّة سطور من كتاب علميّ منها، ونكرّر النظر فنقرأ عبارة منها عدّة مرّات، فإن فهمنا المراد بها ونجونا منها بخاطر منزعج، فإنّنا نضع الكتاب جانباً شاكرين، لنعود إليه مرّة أُخري إن الجأتنا الضرورة، سائلين الباري أن لا تسنح لنا ضرورة لمثل ذلك! أذكر أنّ عبارة وردت في كتاب الحساب لنجم الدولة كان منطوقها «هرگاه قيد نداشته باشيم به مشخّص كردن مقدار حقيقي رقم أخير حاصل ضرب وبدانستن حدّ واقعي تقريب، در چنين صورت قاعدة ما كافي باشد، ولي اگر مقصود بيش از اين باشد عمل ناتمامي دارد كه بايد به اين طور به پيش برد» (= كلّما افتقدنا القيد لتشخيص المقدار الحقيقيّ للرقم الاخير لحاصل الضرب وللعلم بالحدّ الواقعيّ للتقريب، فإنّ قاعدتنا ستكون كافية في هذه الحالة. أمّا لو كان هدفنا أبعد من ذلك، فإنّ عملنا سيكون ناقصاً، ويجب الاستمرار علي نفس الكيفيّة). وقال أحدهم بظرافة: إنّ العبارة تركيّة أو هنديّة! إلاّ أ نّنا شاهدنا نفس المعني في كتب الرياضيّات القديمة، فرأيناها أوضح واكثر اختصاراً «اگر عمل بتقريب خواهيم، چنان كنيم، واگر دقّت بيشتر، چنين» (= لو شئنا العمل بالتقريب لفعلنا كذا، ولو شئنا دقّة أكثر، فعلنا كذا). فانظر إلي عدوّ القدماء اللدود كيف يعجز عن بيان معني بسيط. واعلم أنّ أمثال جميع ذلك علي هذه الشاكلة. ولو قال أحد: إنّ ما سبق قد أضحي منسوخاً! لقلتُ: إنّ ما هو موجود فعلاً ممسوخ؛ والنسخ أشرف من المسخ. علي أبناء عصرنا أن يتركوا العناد مع القدماء، وعلي من يريد تأليف كتاب جديد، أن يقرأ كتب القدماء أوّلاً ويتعلّم أُسلوب كلامهم، فإن كان له كلام جديد يقوله، فليكتبه بالاُسلوب القديم الواضح المختصر الجميل، ولا يلوّثنّ العين المعين للّغة الفارسيّة القديمة بالالفاظ الركيكة، فذلك ذنبٌ قد أكون أنا أيضاً قد ارتكبته؛ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَظِيمِ. حفظ الاصطلاحات من مستلزمات التأليف ودواعي ترويج العلم، الاتّفاق علي المصطلحات؛ لانّ نصف عمر التلميذ إنّما ينقضي في تعلّم المصطلحات وحفظها. ولو استخدمت جميع الكتب في جميع الازمنة نفس المصطلحات، لاضحت سهلةً لايحتاج فهمها إلي تحمّل المشاقّ، ولامكن للجميع أن يستفيدوا منها. وبغير ذلك، فسينبغي صرف مدّة لتعلّم الاصطلاحات الخاصّة بكلّ كتاب. علي أنّ من المحال أن لا يكون للكتب المختلفة فوائد خاصّة، وأن توجد مطالب جميع الكتب في كتاب واحد. لكنّ اختلاف الاصطلاحات سيسبّب في نسخ كثير من الكتب وهجرها وضياع فوائدها. ويجب ـ إذاً ـ التعمّد في زيادة مشكلة اللغة بجعل اصطلاحات جديدة. إنّ الاُوروبّيّين الذيـن يكرهـون الاءسـلام والعرب كراهية شـديـدة، لكنّهم مـع ذلـك لم يغيّروا الكلمات العلميّة العربيّة في لغتهم، مثل: الجَبْر، الكحول، السَّمْت، الدبران، رجل الجوزا وآلاف من الالفاظ الاُخري. ذلك لا نّهم يعلمون أنّ تغيير تلك الالفاظ لا يعود عليهم بشيء، إلاّ إظهار تعصّبهم الجاهليّ؛ وأنّ ضرر ذلك يتمثّل في تحيّر القرّاء ونسخ أكثر الكتب السابقة، وهو أمر لا يمكن إصلاحه. إنّ نقص اللغة ليس في اكتسابها قدراً من كلمات لغة أُخري، بل النقص هو صعوبة إدراك المعاني من الالفاظ، وإيقاع القاري في الخطأ. فالمثلّث والزاوية والمغناطيس والتلغراف والتليفون ينبغي الاءبقاء علي ألفاظها لتسهيل فهم المتعلّمين، كما ينبغي المحافظة علي العلوم من أن تصبح أداةً بِيَدِ المتعصِّبين الجهلة فيلوّثونها بمقاصدهم. وكما أنّ الاتّفاق علي الاصطلاحات بسبب سهولة الفهم ونشر العلم، فإنّ حفظ طريقة كتابة الحروف لها نفس التأثير، لانّ طبيعة الاءنسان إذا حصلت علي أُنس بهيئة الكلمة، فإنّه سيفهم معناها أسرع. فلفظ «خواندن» مثلاً تكتب بالواو، فإن كتبت بدونها «خاندن» فإنّها ستسبّب حيرة القاري. وهكذا الامر بالنسبة إلي الالفاظ المشتركة في السماع والمختلفة كتابةً، كألفاظ «خاستن» بمعني قيام، و«خواستن» بمعني الاءرداة؛ و«خيش» بمعني الستارة، و«خويش» التي تعني الضمير. وبالنسبة إلي الالفاظ العربيّة المستعملة في الفارسيّة مثل «سيف» و«صيف»؛ و«ألم» و«عَلَم»، فهي تُكتب مختلفةً فلا يحصل بينها اشتباه، فإن أمكن أن يتلفّظ بها علي نحوَين مختلفَين كان ذلك أفضل. ويجب ألاّ تجعل الكتابة تابعةً للّفظ، استجابةً للمتقاعسين، لئلاّ يسري الاءبهام في اللفظ، إلي الكتابة، فيتضاعف الاءشكال. ولو تعلّم القاري مرّةً واحدة طريقتَين مختلفَتين في كتابة الحروف فكان في أمان من الخطأ طوال عمره، لكان ذلك أفضل من وقوعه ووقوع جميع الناس في الشبهة عمراً كاملاً. إنّ الاُوروبّيّين ـ الذين صار المعاصرون يقلّدونهم لم يغيّروا طريقة كتابتهـم للحـروف، فهـم يكتبـون اللفـظ الواحد المسـتعمل في معانٍ مختلفة بكيفيّات مختلفة ليأمنوا من الخطـأ. وعلي من يفتخر بامتلاك لغة واسعة كاملة، أن يتحمّل مشقّة تعلّمها، لانّ تعلّم اللغة الاكمل أكثر مشقّة. الاستعارات اللغويّة من فوائد تتبّع الكتب القديمة استنباط قواعد الاستعارة اللغويّة، حيث يجب في الفارسيّة وفي جميع اللغات الاُخري، أن تُستعار بعض الكلمات من اللغات المختلفة. ومن خصائص الفارسيّة أ نّها تقف في محاذاة العربيّة التي تعدّ أعظم لغة عالميّة وأوسعها وأنّ بإمكانها أن تغرف ما تشاء من هذا البحر الخضمّ، فلا تعجز ـ من ثَمّ ـ عن أداء أيّ معني. فهذه اللغة التي نزل بها كتاب الله تعالي فدعاها باللسان العربيّ المبين، قد سبّبت هدينا إلي العلوم المختلفة، كما سبّبت تخليصنا من الضيق والجمود. أمّا اقتباس الالفاظ العربيّة، فله أُسلوبه الذي رعاه القدماء، فإن جري تجاهل ذلك الاُسلوب صدر الكلام مستهجناً، وصارت الالفاظ مرذولةً، والجُمَل مبهمة مغلقة، وذلك ممّا لا يليق بالفصحاء. ومَثَل مَن يريد عدم استعمال كلمات عربيّة أو غير عربيّة في اللغة الفارسيّة، كمثل من يقف إلي جوار كنزٍ طافح بالجواهر النادرة الفريدة، فيمكنه أن يتناول منها ما يشاء بلا مقابل ليزيّن بها قامته، لكنّ تعصّبه الاعمي يصدّه عن ذلك. ومثل من يستعير بلا أُسلوب صحيح، كمثل من يعصّب رأسه بمعضدٍ ينبغي شدّه علي العضد، وكمثل من يعلّق في عنقه خلخالاً. ولقد استعمل القدماء كلمات معيّنة في معانيها، وأدخلوا تغييرات طفيفة في كلماتٍ أُخري، وعزفوا عن استعمال كلمات أُخري؛ وينبغي متابعتهم في ذلك. أمّا المتأخّرون فكانوا علي العكس من ذلك، فقد أوردوا أحياناً ألفاظاً غريبة ووحشيّة في الكلام، واستعملوا أحياناً، ودونما سبب جليّ، لفظاً واحداً في معنيَين مثل «مراجعه كردن» و«مراجعت كردن»؛ وتحرّوا أحياناً من اللفظ العربيّ معني ليس مذكوراً في العربيّة ولا في الفارسيّة، مثل لفظ «وَبَا» في مرض الاءسهال الهنديّ، ولفظ «حصبه» في نوعٍ من الحمي الوبائيّة، ولفظ «محصِّل» في طالب العلم، وأمثال ذلك. وأمثال هذا التوسّع واللامبالاة جائز في اللغات العالميّة المنحطّة، لانّ طائفة معدودة تستفيد منها؛ أمّا اللغات العلميّة والادبيّة العظيمة، فينبغي أن تُستعمل فيها الكلمات، طبقاً للقاعدة المقرّرة، في نفس المعاني التي استعملها فصحاء أهل اللغة. ويعدّ الانضباط من مسـتلزمات لغات العالـم الكبري، لانّ علي أهل اللغة والاجـانب علي حدٍّ سواء أن يراعوا تلك المسألة، وينبغي أن تتوفّر وسائل التعليم للجميع. ولو جري تجاهل القواعد، لتسبّب ذلك في تحيّر الاجانب، بل في تحيّر أهل اللغة أنفسهم، إذ يُقال مثلاً «مأمور مربوطه چنان كرد» و«رئيس مربوطه چنان گفت»؛ بينما لا يعلم أحد ما معني كلمة «مربوطه»، ووفق أيـّة قاعدة من قواعد الفارسـيّة أو العربيّة أُضيفت؟ ومن هذا القبيل كثير. إنّنا إذا أضعنا الكتب القديمة فإنّنا لن نجد لها بديلاً، أمّا إذا حذفنا كلّ جديد غير فصيح فإنّنا لن نخسر شيئاً، لانّ أصل المعاني موجود باللغات الاجنبيّة في روعة الملاحة والفصاحة، ويمكننا أن نطالع كتب القدماء، في أيّ علم نشاء، فنتعلّم منها أُسلوب البيان ونهج كمال اللغة الفارسيّة، فنصوغ المطالب الجديدة بلغتنا وفق الاُسلوب القديم». |
|
|