بسم الله الرحمن الرحيم

وظيفة‌ الفرد المسلم‌ في‌ إحياء حكومة‌ الإسلام‌ / المقدمة

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

مقدمة المؤلف:

أَعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ

وَصَلَّي‌ اللَهُ عَلَي‌ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ

وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَي‌ أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ

 

 وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ'كِنَّ الْمُنَـ'فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ .[1]

 العزّةُ تعني‌ الاستقلال‌ ، والاعتماد علي‌ الذات‌ ، والثبات‌ والرسوخ‌ ، والنهوض‌ الذاتي‌ّ ، في‌ قبال‌ الذلّة‌ التي‌ تعني‌ النُّكوص‌ ، والانفعاليّة‌ ، وعدم‌ الاستقرار ، والانهيار ، والاعتماد علي‌ الغَير .

 وقد عدَّ القـرآن‌ المجـيد العـزّة‌ من‌ مخـتصّات‌ الله‌ ورسـول‌ الله‌ والمؤمنين‌ ؛ حيث‌ إنّها : أوّلاً وبالذات‌ ، مختصّة‌ بالله‌ سبحانه‌ :

 أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا .[2]

 وكذا :  مَن‌ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا .[3]

 وثانياً وبالعرض‌ ، مختصّة‌ برسول‌ الله‌ ، الذي‌ تخطّي‌ ذاته‌ في‌ مرحلة‌ العبوديّة‌ المطلقة‌ ، وعفّر جبينه‌ بالتراب‌ ؛ وتختصّ بالمؤمنين‌ حال‌ اتّباعهم‌ للرسول‌ ، وتخطّيهم‌ لذواتهم‌ وتحقّقهم‌ بحقيقة‌ الحقّ تعالي‌ .

 المسلم‌ عزيزٌ   ؛   لانّ الاءسلام‌ هو التسليم‌   للحقّ وكفي‌   .   وعليه‌ فلا يُواجَه‌ بالخيبة‌ والخسران‌ في‌ أي‌ّ منزلٍ وطريق‌ ، ولا يخمد أو يتوقّف‌ ؛ ولا ينفعل‌ ولا يقبل‌ لنفسه‌ غير الحقّ ، لا   نّه‌ استمدّ العزّة‌ من‌ الله‌ سبحانه‌ .

 قال‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ :  مَن‌ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللَهُ لَهُ .[4]

 فلهذا ، لا تثنيه‌ المنعطفات‌ ، لا في‌ المال‌ ، ولا في‌ القوّة‌ ، ولا في‌ الطريق‌ والاُسلوب‌ ، ولا في‌ العلم‌ ، ولا في‌ الفكر والعقيدة‌ .

 أمّا عدم‌ تأثّـره‌ بالمال‌ : فلانّ اقتصاد الاءسلام‌ هو يد الاءسلام‌ ، وليس‌ للكفر أي‌ّ تصرّف‌ وتدبير فيه‌ .

 وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي‌ جَعَلَ اللَهُ لَكُمْ قِيَـ'مًا .[5]

 وأمّا من‌ جهة‌ القوّة‌ ، فالسيف‌ دائماً في‌ قبضة‌ المسلم‌ ؛ وأينما حلّ السيف‌ فهناك‌ ستكون‌ الحياة‌ .

 آزاديـت‌ به‌ دسـتة‌ شـمـشـير بسـته‌اند             مردان‌ هميشه‌ تكية‌ خود را بدو كنند[6]

 وقد شملت‌ آيات‌ الجهاد ووجوب‌ الدفاع‌ معظم‌ القرآن‌ العزيز .

 وَأَعِدُّوا لَهُم‌ مَّا اسْتَطَعْتُم‌ مِّن‌ قُوَّةٍ وَمِن‌ رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن‌ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن‌ شَيْءٍ فِي‌ سَبِيلِ اللَهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَتُظْلَمُونَ .[7]

 وأمّا من‌ جهة‌ السياسة‌ والمنهج‌ ، فالولاية‌ والاءمامة‌ من‌ أهمّ مسائل‌ الاءسلام‌ ، إذ    كان‌ مدار الحكومة‌ والسياسة‌ قائماً علي‌ كون‌ الحاكم‌ في‌ عهد رسول‌ الله‌ هو نفس‌ رسول‌ الله‌ ، ثمّ أوصياؤه‌ بالحقّ ، وصولاً إلي‌ بقيّة‌ الله‌ الاعظم‌ .  النَّبِيُّ أَوْلَي‌' بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ .[8]

 إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَهُ وَرَسُولُهُ و  وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَو'ةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَو'ةَ وَهُمْ رَ   كِعُونَ .[9]

 وقد نزلت‌ هذه‌ الآية‌ في‌ ولاية‌ أمير المؤمنين‌ علي‌ّ بن‌ أبي‌ طالب‌ عليه‌ السلام‌ ، حين‌ كان‌ في‌ حال‌ الركوع‌ فمدّ يده‌ نحو السائل‌ وتصدّق‌ بخاتمه‌ .

 وأمّا من‌ جهة‌ العلم‌ والثقافة‌ ، فقد أضاءت‌ علوم‌ المسلمين‌ الدنيا ؛ والكلّ يعترف‌ بأنّ شرق‌ العالم‌ وغربه‌ سيبقيان‌ مدينين‌ إلي‌ علوم‌ المسلمين‌ في‌ رُقيّهما وحضارتهما ، وإلي‌ آلاف‌ السنين‌ القادمة‌ .

 وأمّا من‌ جهة‌ الفكر ، فالمسلم‌ مفكّر ، وهو صاحب‌ منهجٍ وخطٍّ فكري‌ّ ثابت‌ .

 يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن‌ دُونِكُمْ[10]   ( ممّن‌ لا يتّفق‌ معكم‌ في‌ الدين‌ والمنهج‌ ، كاليهود والنصاري‌ )   لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَ   هِهِمْ وَمَا تُخْفِي‌ صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ'تِ إِن‌ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ .[11]

 وعليه‌ ، فإنّ عزّة‌ الاءسلام‌ تتجلّي‌ من‌ خلال‌ الاستقلال‌ الاقتصادي‌ّ ، والسـياسي‌ّ ، والعسـكري‌ّ ، والثقافي‌ّ والفكـري‌ّ . في‌ قبال‌ الذلّة‌ الموجـودة‌ علي‌ كافّة‌ الاصعدة‌ التي‌ إذا ما وجـدتَ أرضاً رخوة‌ متعفِّـنة‌ ، أنبتت‌ بذورها وترعرعت‌ .

 وعلي‌ أثر غفلة‌ وتغاضي‌ المسلمين‌ وعدم‌ اهتمامهم‌ بالاُمور المهمّة‌ الاصيلة‌ ، والغفلة‌ أو التغافل‌ عن‌ العواقب‌ الوخيمة‌ الموحشة‌ لذلّ عبوديّة‌ الكفّار ، فقد رضخوا للاسر فنفذ الكافر في‌ جميع‌ شؤونهم‌ :

 ففي‌ الاقتصاد ، أغار المستعمِر علي‌ التجارة‌ والصناعة‌ ، ونهب‌ الثروات‌ المعدنيّة‌ والزراعيّة‌ والحيوانيّة‌ .

 وفي‌ المجال‌ العسكري‌ّ فقد احتلّ المستعمِر بلدانهم‌ بجيوشه‌ الجرّارة‌ المجهَّزة‌ ، وغلبهم‌ ونكبهم‌ بأجهزته‌ المتطوّرة‌ .

 وعلي‌ الصعيد السياسي‌ّ ، فقد انتزع‌ المستعمِر منهم‌ الرئاسة‌ والحكومة‌ ، وتآمر عليهم‌ ، واختلس‌ منهم‌ السياسة‌ وتدبير الاُمور والقدرة‌ علي‌ تشخيص‌ النافع‌ من‌ الضارّ .

 وعلي‌ الصعيد الثقافي‌ّ ، فقد اختطف‌ المستعمِر علومهم‌ وآدابهم‌ وكتبهم‌ ومدارسهم‌ وأخلاقهم‌ وشمائلهم‌ ، وبدلاً من‌ ذلك‌ أشرب‌ فيهم‌ عاداته‌ وآدابه‌ المشؤومة‌.

 والاشدّ قبحاً والاكثر كراهة‌ من‌ ذلك‌ : الاستعمار الفكري‌ّ ، فقد أغلق‌ المستعمِر علي‌ المسلمين‌ أبواب‌ أفكارهم‌ ، وسدّ عليهم‌ طريق‌ التعقّل‌ وجادّة‌ التفكير ، بحيث‌ جعلهم‌ لا يقوون‌ علي‌ التفكير بشكل‌ صحيح‌ ، ممّا أدّي‌ إلي‌ أن‌ تكون‌ طريقة‌ تفكير المسلمين‌ حسب‌ ما تمليه‌ عليهم‌ إرادة‌ المستعمِر ، فأضحوا يميلون‌ إلي‌ ما يُريد ، ويبتعدون‌ عمّا لا يُريد .

 فكانت‌ هذه‌ المصيبة‌ الكبري‌ ، كالجذام‌ الذي‌ أَلَمَّ بجسد المسلمين‌ .

 إذ    كيف‌ للمسلم‌ الذي‌ يقف‌ بثبات‌ أمام‌ الكفر علي‌ كافّة‌ أصعدته‌ من‌ العقيدة‌ والاخلاق‌ والعادات‌ والتقاليد ، والذي‌ لا عِزّ له‌ غير ذلك‌ ، أن‌ يكون‌ كمن‌ دار حول‌ نفسه‌ في‌ زاوية‌ منفرجة‌ ، ليقف‌ في‌ مسير الكفر وأُسلوبه‌ وصفاته‌ وأفعاله‌ ، ويرغب‌ بها  ؟

 ولمّا استيقظ‌ المسلمون‌ من‌ نوم‌ الغفلة‌ ، ورأوا أنفسهم‌ في‌ حالة‌ ضياع‌ ، وشعروا بألم‌ الصفعة‌ والغارة‌ التي‌ تعرّضوا لها ، عندها أخذوا يعدّون‌ العدّة‌ لتلافي‌ ما فات‌ ، ففركوا أعينهم‌ ليصحوا من‌ آثار الخدر والثمالة‌ ، فكانت‌ ثمّة‌ نظرة‌ إلي‌ الوراء وإلي‌ الطريق‌ الشائك‌ الذي‌ سلكوه‌ ، وثمّة‌ نظرة‌ إلي‌ الامام‌ والخطو في‌ طريق‌ العزّة‌ ، علي‌ أمل‌ نيل‌ فضل‌ ورحمة‌ الحقّ جلّ شأنه‌ .

 وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَي‌' ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم‌ بَرَكَـ'تٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالاْرْضِ .[12]

 وسيُحرز المسلمون‌ جميع‌ هذه‌ الخصال‌ والمزايا حينما يحكمون‌ أنفسهم‌ بأنفسهم‌ ، ويكون‌ منهم‌ الآمر والناهي‌ فيهم‌ ، وكذا قائد القوّات‌ ، والمعلِّم‌ في‌ مجال‌ التربية‌ ، والمسؤول‌ علي‌ الاموال‌ ، والقائد والموجِّه‌ في‌ مجال‌ الثقافة‌ والفكر ، أي‌ أن‌ يكون‌ لهم‌ استقلالهم‌ السـياسي‌ّ ، ولا يمكن‌ جني‌ ذلك‌ إلاّ تحت‌ ظلّ حكومة‌ الاءسلام‌ .

 إنّ تشكيل‌ حكومة‌ الاءسلام‌ ، والخروج‌ من‌ ربقة‌ الكفر وولاية‌ الاجانب‌ من‌ اليهود ، والنصاري‌ ، والمجوس‌ ، والمشركين‌ ، والماديّين‌ ، والمنافقين‌ ، لهو من‌ أوجب‌ الفرائض‌ الاءلهيّة‌ ، ومن‌ ألذّ ثمار تلك‌ الشجرة‌ التي‌ يمكن‌ للشخص‌ المسلم‌ معها أن‌ يستثمر بقيّة‌ مزاياه‌ الاءنسانيّة‌ ـ سواء الفطريّة‌ أم‌ العقليّة‌ أم‌ الشرعيّة‌  ويستفيد منها ، وبدون‌ ذلك‌ فستكون‌ تلك‌ المزايا باهتة‌ وضحلة‌ ، إذ لا يبقي‌ من‌ الاءسلام‌ إلاّ اسمه‌ ، ومن‌ القرآن‌ إلاّ درسه‌ ، ومن‌ الحجّ إلاّ صورته‌ ، ومن‌ الصلاة‌ إلاّ هيكلها .

 ونحن‌ لم‌ نجد في‌ تأريخ‌ الاءسلام‌ حكومة‌ واقعيّة‌ حقّة‌ وأُسلوب‌ رئاسة‌ لجماهير المسلمين‌ إلاّ في‌ عهد رسول‌ الله‌ وفي‌ الفترة‌ المحدودة‌ لخلافة‌ أمير المؤمنين‌ عليهما أفضل‌ الصلوات‌ والسلام‌ . أمّا في‌ فترة‌ الخلافة‌ بعد رسول‌ الله‌ ، فقد ابتليت‌ الحكومة‌ بانحرافات‌ وغدت‌ كحجر الطاحونة‌ الذي‌ قلق‌ عن‌ محوره‌ ، وانحرف‌ إلي‌ حدٍّ استحال‌ تلافيه‌ .

 أمّا في‌ فترات‌ بني‌ أُميّة‌ وبني‌ مروان‌ وبني‌ العبّاس‌ ، فقد تحوّلت‌ حكومة‌ الاءسلام‌ إلي‌ حكومة‌ ملكيّة‌ مُطلقة‌ ؛ وأصبحت‌ مفاهيم‌ المساواة‌ والمواساة‌ والجـهاد في‌ سبيل‌ الله‌ بين‌ أوسـاط‌ الطـبقة‌ الحاكمة‌ ذات‌ مفاهيم‌ لا تتجاوز حدود جمع‌ الثروات‌ ، وحبّ السلطة‌ ، والترف‌ ، والعيش‌ الرغيد ، والحياة‌ الناعمة‌ .

 وعلي‌ الرغم‌ من‌ ذلك‌ ، بما أنّ محور الحكومة‌ قد ابتني‌ علي‌ أساس‌ الاءسلام‌ ، وأنّ قوانينها لم‌ تكن‌ غير القرآن‌ والسنّة‌ ، وأنّ جميع‌ عالَم‌ الحكومة‌ قد تمثَّل‌ في‌ حكومة‌ واحدة‌ ، فقد استقرّ الناس‌ تحت‌ ظلالها ، واستفادوا من‌ بعض‌ المظاهر الإسلاميّة‌ الشكليّة‌ التي‌ كانت‌ سائدة‌ ، ولم‌ تكن‌ يد الكفر والطغيان‌ والاءلحاد لاعداء الاءسلام‌ قد استطالت‌ بعدُ علي‌ كيان‌ المسـلمين‌ ، فبقي‌ المسـلمون‌ مصـونين‌ من‌ تسـلّط‌ الكفّار من‌ اليهـود أو النصاري‌ أو الدهريّين‌ .

 أمّا بعد انقراض‌ دولة‌ بني‌ العبّاس‌ وانتهاء دور مركزيّة‌ الحكومة‌ ، وتجزئة‌ دولة‌ الاءسلام‌ بين‌ مختلف‌ السلاطين‌ ، وظهور ملوك‌ جُدد ، كالمغول‌ وغيرهم‌ ، فقد ظهرت‌ آثار الضعف‌ علي‌ مراكز الحكومة‌ ، فتطاولت‌ يد العدوان‌ والتجاوز للمسيحيّين‌ السفّاكين‌ علي‌ بلاد الاندلس‌ ، وقمعت‌ المسلمين‌ هناك‌ ، وحاربت‌ أدب‌ وعلم‌ وثقافة‌ وعقيدة‌ وشرف‌ تلك‌ البلاد ، وظهرت‌ في‌ تلك‌ القرون‌ الحروب‌ الصليبيّة‌ ضدّ المسلمين‌ ، فانسلخ‌ المسلمون‌ هناك‌ عن‌ وحدة‌ الاءمارة‌ ومركزيّة‌ الحكومة‌ ، وضاعوا بين‌ أودية‌ الحيرة‌ والتِّيه‌ وابتلوا بمواجهة‌ هجوم‌ الكفّار الغادر .

 حتّي‌ وصلوا ـ علي‌ ما قاله‌ غوستاف‌ لوبون‌  إلي‌ حالٍ لم‌ يبقَ فيها للمسلمين‌ من‌ الحكومة‌ السياسيّة‌ سوي‌ ما سُطِّرَ في‌ كتب‌ التأريخ‌ ، لكنّ الديانة‌ التي‌ أرست‌ أساس‌ هذه‌ الحكومة‌ كانت‌ لا تزال‌ ـ علي‌ وسعتها  في‌ تزايد ، وكان‌ ظلّ نبي‌ّ الاءسلام‌ ما برح‌ يبسط‌ ظلاله‌ الوارفة‌ ـ من‌ قبره‌  علي‌ ملايين‌ النفوس‌ ، ويشعّ عليها بأنواره‌ ، من‌ مراكش‌ إلي‌ الصين‌ ، ومن‌ بحر الروم‌ حتّي‌ خطّ الاستواء ، وكذا في‌ أفريقيا وآسيا .[13]

 لقد تدارستُ كثيراً منذ قديم‌ الايّام‌ مواضيع‌ إحياء دولة‌ الاءسلام‌ ، وكيفيّة‌ الحكومة‌ ، ومقوّمات‌ الاءمارة‌ ، وأُسلوبها البديع‌ الرائع‌ ، وتناولت‌ الحديث‌ بها مع‌ الطلاّب‌ في‌ جلساتهم‌ وحلقاتهم‌ ، وعزمت‌ مرّات‌ عديدة‌ علي‌ تأليف‌ كتاب‌ نفيس‌ حول‌ هذه‌ الدولة‌ علي‌ ضوء المواضيع‌ القرآنيّة‌ والتفسيريّة‌ والاستفادة‌ من‌ نهج‌ وسيرة‌ الرسول‌ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ ، آخذاً بنظر الاعتبار الكتب‌ المؤلَّفة‌ في‌ هذا الموضوع‌ ، لترسيم‌ طليعة‌ تلك‌ الحكومة‌ في‌ الاذهان‌ والبشارة‌ بشعاعها المتلالي‌ من‌ بعيد .

 لكنّ توارد الهموم‌ والانغمار في‌ كثرة‌ الاشغال‌ اليوميّة‌ المستمرّة‌ مع‌ الطلاّب‌ والمحقّقين‌ في‌ العلوم‌ الإسلاميّة‌ الاصيلة‌ قد ألحقت‌ بذلك‌ العزم‌ الاءرجاء ، حتّي‌ شرعتُ بعد رجوع‌ القائد الفذّ ، ومؤسِّس‌ حكومة‌ الاءسلام‌ : سماحة‌ آية‌ الله‌ الخميني‌ّ رحمة‌ الله‌ عليه‌ ، من‌ باريس‌ إلي‌ طهران‌ ، بتقديم‌ درس‌ تحـت‌ عنوان‌  « دولة‌ الاءسلام‌ »  في‌ طهران‌ جري‌ تسـجيله‌ علي‌ أشرطة‌ التسجيل‌ .

 ولم‌ تُعِقني‌ كثرة‌ المشاغل‌ عن‌ تنفيذ ، ومتابعة‌ ، وتصحيح‌ ، وتنقيح‌ ، وطبع‌ ذلك‌ الدرس‌ فحسب‌ ، بل‌ منعتني‌ من‌ الاستمرار في‌ البحث‌ ، فبقي‌ مبتوراً .

 وخلال‌ مدّة‌ إقامتي‌ في‌ أرض‌ خراسان‌ المباركة‌ ، عند عتبة‌ الاءمام‌ الرضا عليه‌ أفضل‌ السلام‌ والاءكرام‌ ، وحصر اهتماماتي‌ وانشغالي‌ في‌ المسائل‌ العلميّة‌ دون‌ سواها ، لكنّ الاهتمام‌ في‌ تدوين‌ أُصول‌ معارف‌ الاءسلام‌ من‌ « معرفة‌ الله‌ »  ،  « معرفة‌ الاءمام‌ »  ،  « معرفة‌ المعاد »  للمسلمين‌ الذين‌ فتحوا أعينهم‌ في‌ إيران‌ ـ علي‌ هذا النور المحيي‌ ، والنسيم‌ المنعش‌ ، لم‌ يُبقِ مجالاً للتوفيق‌ في‌ تدوين‌  « حكومة‌ الاءسلام‌ »  في‌ كتابٍ مستقلٍّ ، مع‌ أنّ بيان‌ الكثير من‌ أحكام‌ حكـومة‌ الاءسلام‌ قد تحـقّق‌ بين‌ طيّات‌ المواضـيع‌ الآنفة‌ الذكـر ، والمستقبل‌ موكول‌ بما يشاء الله‌ سبحانه‌  ؟

 هل‌ يوفّقنا لتدوين‌ هذا الكتاب‌ بعد إتمام‌ دورة‌ المعارف‌ ، والانهماك‌ في‌ بقيّة‌ المواضيع‌ المختارة‌ في‌ دورة‌ العلوم‌ أو لا  ؟   بِيَدِهِ الاَمْرُ وَهُوَ عَلَي‌ كُلِّ شَي‌ْءٍ قَدِيرٌ .[14]

 الآن‌ ـ بعد رحيل‌ القائد الفقيد  وقد كنّا علي‌ أعتاب‌ أيّام‌ التأبين‌ لذلك‌ الرجل‌ الكبير ، وحيث‌ إنّ كثيراً من‌ الطلاّب‌ يستفسرون‌ عن‌ وظيفتهم‌ بعد رحيله‌ ، فقد ارتأيت‌ أنّ من‌ المصلحة‌ أن‌ أجمع‌ تلك‌ المواضيع‌ وأُحاول‌ بيان‌ بعضها لاءيضاح‌ الوظيفة‌ الشرعيّة‌ والتكليف‌ الاءلهي‌ّ ، ومنعاً لتكرار الاسئلة‌ والاجوبة‌ .

 وهذه‌ المباحث‌ عبارة‌ عن‌ تقريرات‌ لستّة‌ دروس‌ مُسَجَّلة‌ علي‌ أشرطة‌ التسجيل‌ ، تمّت‌ كتابتها علي‌ ما    كانت‌ عليه‌ في‌ الاشرطة‌ ، ثمّ قام‌ الفاضل‌ الجليل‌ سماحة‌ حجّة‌ الاءسلام‌ : الحاجّ الشيخ‌ محسن‌ سعيديان‌ وفّقه‌ الله‌ لمرضاته‌ ـ وهو من‌ أعزّ الفضلاء والمدرّسين‌ ، وكان‌ من‌ المستمعين‌ لتلك‌ الدروس‌  بمهمّة‌    كتابتها وتنقيحها .

 عسي‌ الله‌ جلّ شأنه‌ أن‌ يمنّ عَلَي‌َّ بالتوفيق‌ مجدّداً لاُطالع‌ الكتاب‌ مرّة‌ أُخري‌ بإمعان‌ ، وأستدرك‌ عليه‌ بعض‌ الزيادات‌ اللازمة‌ ، ليكون‌ مؤهّلاً للنشر والاستفادة‌ منه‌ من‌ قِبَل‌ الاءخوان‌ في‌ الاءيمان‌ والاخلاّء الروحانيّين‌ .

 وكنتُ كذلك‌ قد كتبتُ رسالة‌ إلي‌ سماحة‌ القائد الكبير حول‌ مُسوَّدة‌ القانون‌ الاساسي‌ّ ، طُبعـت‌ ونُشـرت‌ من‌ قِبَل‌ الجمعـيّة‌ الإسلاميّة‌ لمسـجد « القائم‌ »  في‌ طهران‌ ، مع‌ إدراج‌ صورة‌ توضيحيّة‌ لكيفيّة‌ تشكيل‌ اللجان‌ الثوريّة‌ التي‌ كانت‌ تحت‌ إشراف‌ رئاسة‌ هذه‌ الجمعيّة‌ في‌ آخر تلك‌ الرسالة‌ ، ليطّلع‌ عليها المحقّقون‌ والمهتمّون‌ بيُسر وسهولة‌ ، خلال‌ الاءشارة‌ إليها أثناء الدروس‌ .

وَمَا تَوْفِيقِي‌ إِلاَّ بِاللَهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ .

  مشهد المقدّسة‌19محرّم‌ الحرام‌ 1410

 السيّد محمّد الحسين‌ الحسيني‌ّ الطهراني‌ّ

 

مقدمة الناظم:

 بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ نَسْتَعِين‌

 إذَا ظَهَرت‌ البِدَع‌ ، فعلي‌ العالِم‌ أن‌ يُظهر عِلمه‌ وإلاّ فعليه‌ لعنةُ الله‌ .

 يا له‌ من‌ زمانٍ مظلم‌ بهيم‌ كانت‌ الخفافيش‌ المصّاصة‌ للدماء تحتفل‌ فيه‌ بغروب‌ الشمس‌ ، لتقطع‌ شفاه‌ الحقّ القانئة‌ الدامية‌ فتقدِّمها هديّة‌ لاسيادها من‌ أجل‌ ياقوتة‌ حمراء ، وتحوِّل‌ الشال‌ الاخضر لابناء رسول‌ الله‌ إلي‌ حبل‌ إعدام‌ ليحصلوا علي‌ الياقوت‌ الاخضر ، وتصنع‌ من‌ صفرة‌ وجوه‌ اليتامي‌ إكلـيلاً ، ثمّ تمـزج‌ الحُـمرة‌ بالصفـرة‌ والخـضرة‌ ، فتصـوغ‌ منها تاج‌ العار والذلّة‌ .

 أجل‌ ، إنّ الطاغية‌ المتعجرف‌ قد أغار علي‌ هذه‌ المملكة‌ ، حتّي‌ ارتدي‌ تاج‌ حكومتها ، فوأد البلابل‌ المغرِّدة‌ بصوت‌ الحقّ حيّة‌ في‌ التراب‌ ، ودعا الغربان‌ السود إلي‌ الرياض‌ بدلاً منها .

 أجل‌ ، فقد كان‌ الدين‌ والتديّن‌ في‌ ذلك‌ الزمان‌ أُلعوبة‌ بِيَدِ من‌ لا شعور له‌ ، حيث‌ قدّموا للناس‌ كلَّ ماءٍ آسنٍ باسم‌ ماء الحياة‌ ، وكلَّ قانونٍ فاسدٍ باسم‌ الثورة‌ البيضاء ، حتّي‌ أشرق‌ فجأة‌ نداء إمامنا المعصوم‌ في‌ القلوب‌ الطاهرة‌ لرجال‌ الدين‌ والعلماء الربّانيّين‌ ، حيث‌ قال‌ :

 إذا ظهرت‌ البِدَعُ فعلي‌ العالِم‌ أن‌ يُظهر علمه‌ ، وإلاّ فعليه‌ لعنة‌ الله‌ .

 وقد شاهدنا جميعاً أنّ يد القدرة‌ الاءلهيّة‌ قد ظهرت‌ من‌ بين‌ أكمام‌ الغيب‌ ، وأنّ الشعب‌ قد انتفض‌ وسلك‌ طريق‌ عظمته‌ وتعاليه‌ بشكل‌ جعل‌ تلك‌ الخفافيش‌ خاضعة‌ ذليلة‌ ، كما أفشل‌ مخطّطاتها في‌ محاولة‌ إخفاء الشمس‌ المتلالئة‌ ، وأبطل‌ مساعيها من‌ أجل‌ إخماد نورها الساطع‌ ، فقد شاءت‌ الاءرادة‌ الاءلهيّة‌ للحقّ تعالي‌ بأن‌ يكون‌ صدي‌ هذه‌ الدعوة‌ رنّاناً في‌ جميـع‌ أرجاء العالم‌ الاءسلامي‌ّ ، وليـدوّي‌ نداء التكبـير من‌ هذا البلـد إلي‌ ما شاء الله‌ ، ليكون‌ مقدِّمة‌ موطِّئة‌ لظهور المصلح‌ الاءمام‌ بقيّة‌ الله‌ الاعظم‌ الحجّة‌ ابن‌ الحسن‌ العسكري‌ّ .

 وسنبيِّن‌ لكم‌ بعون‌ الله‌ تعالي‌ في‌ هذا الكتاب‌ جانباً من‌ هذا الحدث‌ النورانيّ والثورة‌ الإسلاميّة‌ المقدَّسة‌ .

 أعزّائي‌ القرّاء  !

 إنّ الكتاب‌ الذي‌ بين‌ أياديكم‌ عبارة‌ عن‌ مجموع‌ ستّة‌ مجالس‌ للدرس‌ والخطابة‌ لسماحة‌ العلاّمة‌ آية‌ الله‌ السيّد محمّد الحسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ مدّ ظلّه‌ العالي‌ ،   قدّمها لبعض‌ الطلاّب‌ والاصدقاء في‌ مدينة‌ مشهد المقدّسة‌ من‌ اليوم‌ الثاني‌ عشر حتّي‌ السابع‌ عشر من‌ شهر ذي‌ القعدة‌ لسنة‌1409 ه  ، وبحث‌ خلالها أحد الابعاد العديدة‌ للثورة‌ الإسلاميّة‌ المقدّسة‌ ، وهو أسمي‌ أهداف‌ هذه‌ الثورة‌ ، ألا وهو «استقرار حاكميّة‌ الاءسلام‌ والولاية‌ الشرعيّة‌» إذ إنّ تحـقّق‌ الحـكومة‌ الإسلاميّة‌ يغـطّي‌ علي‌ جمـيع‌ المسـائل‌ الاُخـري‌ ، وينبغي‌ أن‌ يتمثَّل‌ جلّ جهد الاءنسان‌ المسلم‌ في‌ استقرار حاكميّة‌ الاءسلام‌ في‌ المجتمعات‌ البشريّة‌ ، ومن‌ ثَمَّ السعي‌ الحثيث‌ الجادّ من‌ أجل‌ حفظ‌ هذا الاستقرار بكلّ ما أُوتي‌ من‌ قوّة‌ .

  مشهد المقدّسة‌

 الاحقر محسن‌ سعيديان‌

 الثامن‌ من‌ محرّم‌ الحرام‌1410

تتمة النص

الارجاعات


[1] الآية‌  8  ، من‌ السورة‌  63  : المنافقون‌

[2] الآية‌  139  ، من‌ السورة‌  4  : النساء .

[3] الآية‌  10  ، من‌ السورة‌  35  : فاطر

[4] جاء في‌ «مرصاد العباد» ص‌  468  : وقال‌ في‌ ص‌  660  : حديث‌ نبوي‌ّ ورد أيضاً في‌ «كشف‌ الاسرار» ج‌  1  ، ص‌  371  و 562  .

[5] الآية‌  5  ، من‌ السورة‌  4  : النساء .

[6] يقول‌ : حرّيّتك‌ مرهونة‌ بقبضة‌ السيف‌ ، و الرجال‌ أبداً يعتمدون‌ عليه‌»

[7] الآية‌  60  ، من‌ السورة‌  8  : الانفال‌ .

[8] الآية‌  6  ، من‌ السورة‌  33  : الاحزاب‌

[9] الآية‌  55  ، من‌ السورة‌  5  : المائدة‌

[10] الآية‌  118  ، من‌ السورة‌  3  : آل‌ عمران‌

[11] الآية‌  96  ، من‌ السورة‌  7  : الاعراف‌

[12] الآية‌96 من‌ السورة‌  الاعراف

[13] «تمدّن‌ اسلام‌ و عرب‌» (= حضارة‌ الاءسلام‌ والعرب‌) ص‌  569  ، الباب‌ الخامس‌ ، الفصل‌ الثالث‌ ، الدين‌ والاخلاق‌ ، الطبعة‌ الثانية‌

[14] تمّ إعداد هذا الكتاب‌ في‌ حياة‌ سماحة‌ العلاّمة‌ قدّس‌ الله‌ نفسه‌ الزكيّة‌ . (م‌)

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com