|
|
الصفحة السابقةبِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ وَصَلَّي اللَهُ عَلَي سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَي أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ
ليس من جديد في أكثر المواضيع التي سأعرضها اليوم، ولطالما نُشرت متفرِّقة هنا وهناك، وسأجمع هذا الشتات بما يسعني من توفيق الله، علي أن أُوكل البقيّة إلي الجلسات الآتية حتّي يتّضح روح وسرّ هذه المواضيع. يدور أصل الموضوع حول الولاية الشرعيّة للعليّ الاعلي سبحانه التي جعلها غير مهملة في حياتنا علي الارض، والتي أراد بها أن تكون حركتنا علي أساس صحيح وخُطي صائبة وبصورة خاصّة، وهو الذي أُطلق عليه: الصراط المستقيم إلي الله. ووصول الإنسان إلي الصراط المستقيم معني دقيق له لطافته وعُمقه. وذلك أنّ الصراط المستقيم واحدٌ، أنّه:أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ. ينبغي للإنسان حين يعيش في الدنيا أن تكون حجّته معه إذا فاجئه الموت أيّة لحظة، وأن يكون قلبه محكماً، وغير متزلزلٍ؛ وكلّ ما يريده ربّ الكون والارواح الطيِّبة والنفوس الزكيّة من الإنسان أن يكون قد أدّي ما عليه بحسب قدرته وسعته. وكنت في هذا الخصوص أعيش حالة الهمّ والغمّ منذ الطفولة، حتّي أنّي أذكر حينما كنتُ في السادسة أو السابعة من عمري، أنّ المرحوم والدي رحمة الله عليه كان يدير مجـالساً في طهـران، ويؤُمّ المصـلّين في أحد مساجدها، حينما بدت ظواهر الدعوة إلي التبرّج، ومحاربة الحجاب ومجالـس العزاء، وحظر الوعـظ والإرشاد في طهران وسائـر المـناطق الاُخري؛ وكان والدي يأخذ بيدي ـ وأنا في ذلك العمرويصحبني معه إلي تلك المجالس. وكانت أذهاننا مشغولة فيما يجري حينها؛ فمثلاً نحن رأينا والدنا وعرفناه كإنسان مستقيم في نهجه، كلامه صحيح صائب، فلماذا يخالفه الجهاز الحاكم؟لماذا ينزعون القبّعة العاديّة المحلِّيَّة من علي رؤوس الرجال ويبدلونها بقبّعة أُخري؟لماذا يهتكون حجاب المرأة؟ولماذا يركل رجال الشـرطة النسـاء ويسـحبون الحـجاب من علي رؤوسـهنّ ويُمزِّقونه؟! كانت هذه الافكار تجول في ذهني؛ وخلاصة المآل، كنتُ ألعنهم في باطني، إذ ما هذه الحياة التي نعيشها، حين تراهم يجبرون الإنسان بالحراب، ويقولون للمرأة: اكشفي حجابكِ!أو: قصِّري لباسك؟أو يقولون للرجل: أحْلِقْ لحيتك!أو: يجب أن تلبس القبّعة الفلانيّة! فترة الظلم الملكيّة الحالكةلقد أُجبِر الناس في ذلك الوقت علي لبس القبّعة، فإن رفض أحدهم وضع القبّعة علي رأسه ـ ولم يُستثن من ذلك حتّي الكسبة والعمّال والبنّائين أُخذ وحُبس في أحد مراكز الشرطة، ولاقي هناك ما يلاقي من الجَلد والتعذيب!وكان ذلك الوضع عجيباً جدّاً. واستمرّت الحال علي هذا المنوال حتّي اكتسبت مسألة إلغاء الحجاب وإعلان التبرّج طابعاً عمليّاً ورسميّاً في سنة1354هجريّة قمريّة ـ قبل ما يقارب خمس وخمسين سنةوكانت الاوضاع في ذلك الزمان مخجلة جدّاً، ويدرك مدي بشاعتها كلّ مَن عايشها، فهي غير قابلة للتحدّث عنها أو الكتابة حولها. وكان المرحوم والدي ملتزماً في أوائل عهد رضا خان البهلويّ بارتقاء المنبر بعد إقامة الصلاة بإمامته في مسجده، وكنت حينذاك يافعاً، ولا أذكر تفاصيل ذلك الوقت جيّداً( وهو الوقت الذي تمّ فيه التتويج المؤقّت، من بعد أيّام التاسع من آبان1304ه. ش )حيث قال والدي آنذاك من علي المنبر: أيّها الناس!استيقظوا؛ فإنّ المخاطر المهولة تتحرّك باتّجاهنا، ولقد حذّر النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم الناس من زمن تهبّ فيه ريح صفراء من جهة الغرب، فيسـتيقظ الناس صبيـحة أحد الايّام، فيجدون دينهم وإيمانهم قد ضاعا من أيديهم. وهذا اليوم هو ذلك اليوم الموعود، فقبل مائة سنة رفع غلادستون الإنجليزيّ القرآن ورماه علي منصّة الخطابة، وقال: يا عينة أعيان الإنجليز!مادام هذا الكتاب في المجتمع الإسلاميّ، فمن المستحيل أن يُطاع لنا أمر في مستعمراتنا!يجب إزالة هذا القرآن من علي الارض! وقد تحدّث أبي من علي المنبر في هذه المواضيع، ثمّ تطرّق إلي ما ستؤول إليه الحال من جرّاء الحوادث الواقعة بما فيها من هجمة المفاسد والغزو الاستعماري الرهيب؛ ورفع يديه في آخر كلامه للدعاء لمن يعيش حالة اليقظة والحفاظ علي دينه رغم الصعاب الحاصلة، فدعا لهم بالحفظ، ثمّ لعن أعداء آل محمّد صلّي الله عليه وآله وسلّم وكلّ مَن قصد النيل من الدين. وحكت لنا الوالدة أنّ مجموعة من رجال الشرطة داهمت بيتنا بعد عودة أبي بساعة ومعهم أمر بإلقاء القبض، فاقتادوا أبي ـ وكان صائماًإلي مركز الشرطة، فقام والدي بإبلاغ عمّنا السيّد محمّد كاظم بالإشراف علي بيتنا ورعاية أموره، ثمّ قال لافراد العائلة: إنّي ذاهب إلي مكان ما لإنجاز أحد الاعمال. وقد اقتيد والدي إلي مركز الشرطة، ثمّ نقل علي الفور إلي دائرة الامن ووضع في إحدي زنزانات الحبـس رقم واحد، وبات هناك ليـلة ونهارها دون استجـواب، ولم يأتِ أحد للتحـدّث معه بشـيء يذكـر، ولم تُوَجَّه إليه أيّة تهمة! ورويداً رويداً تعالت أصداء الاعتراض من طهران، وبذل بعض الاشخاص بعض الجهود والمساعي، ومن جملتهم آية الله الميرزا محمّد رضا الشـيرازيّ ابن المرحوم آية الله الميرزا محمّد تقي الشـيرازيّ رحمة الله عليه ـ وكان والده أُستاذاً لوالديحيث بعث ببرقيّة إلي الملك بهذا الخصوص؛ وكذلك فقد قرّر جمع من أهالي تلك المحلّة وبعض الذين تغلو في عروقهم الغيرة الدينيّة الذهاب إلي قصر الملك في اليوم التالي ورميه بالحجارة، لكنّ الوالد قد أُطلق سراحه بعد أربع وعشرين ساعة من الاعتقال. لقد ذكرتُ آنفاً أنّ ذلك قد حدث وأنا صغير السنّ جدّاً وضعيف الإدراك، لكنّ خلاصة الوضع يومذاك، أنّ أحداً لو قال« اهتموا بدينكم وإيمانكم »لكان قوله بمثابة جريمة نكراء، وذروة حالات الشغب! التبرّجلقد أقرّت الدولة التبرّج رسميّاً، ثمّ أنشأتْ كلّيّة المعقول والمنقول لضعضعة طلبة العلوم الدينيّة والإطاحة بالحوزات العلميّة؛ وضيّقت علي المنابر، وقالت: ليس من حقّ أحد ارتقاء المنبر، لانّهم كانوا قد مزّقوا جميع العمائم، إلاّ عمائم أُولئك الذين حصلوا علي إجازة رسميّة، وكانوا قد أجبروا كلّ معمّم علي الحضور في مركز الشرطة وأخذوا منهم تعهّداً بخلع العمامة بعد انتهاء مهلة معيّنة ومزقوا الرداء الخاصّ برجال الدين( القَباء ). قال المرحوم والدنا: أنا لا أخلع عمامتي ولا أروم الحصول علي الإجازة الرسميّة لارتدائها، لانّي لن أضع علي رأسي عمامة تُجيزها الدولة! ـ وكان جميع علماء طهران بلا استثناء قد حصلوا في تلك الفترة علي إجازة من الدولة للبس العمامةوكان من يرتدي العمامة مُجبراً علي أخذ الإجازة، لانّهم كانوا سيرفعونها عن رأسه بوقاحة فيما لو لم يتّخذ ذلك الإجراء. قال والدي: يمكنني القيام بعملي وتأدية وظيفتي ولو بدون عمامة، وسأخـرج في هذا القَباء وهذه اللبّادة،وأضع القبّـعة علي رأسـي ليلاً، ولن يكون لي من شغل شاغل من الصباح حتّي الغروب سوي التجوال في الشوارع. قيل له: لماذا التجوال؟ قال: حتّي يراني الناس!وهذا هو إعلامي وإرشادي لا غير؛ وهذه هي وظيفتي التي سأنجزها في الوقت الحاضر. وكان الوالد ملتزماً بزيارة كربلاء في كلّ عام مرّة، وبإحياء ذكري عاشوراء هناك خلال العشرة الاُولي من شهر محرّم فكان مسؤول الجوازات يقول له لعدّة سنوات ـ قبل أن يسلّمه جواز السفر: يجب أن يكون الزيّ بدون عمامة، فيقول: أنا لا أذهب إلي كربلاء بدون عمامة أبداً، ولا أضع صورة ـ علي الجوازبدون عمامة. وكانوا يصرّون: إذا أردت جوازاً للسفر، فنفِّذ ما نقول. قال: لن أذهب إذاً. وفعلاً لم يذهب إلي كربلاء حتّي انحلّ ذلك الجـهاز الحاكم، فسُـمِحَ بأخذ الصـور بالعـمامة وإلصـاقها علي الجوازات. لمّا أرادت الدولة إعلان التبرّج أصدرت أوامرها للنقابات المهنيّة في طهران والمدن الاُخري بإقامة حفلات ترفيهيّة، علي أن يشارك الجميع مع نسائهم وهنّ سافرات، وكلّ منهنّ تضع علي رأسها قبّعة نسائيّة علي ما هو متعارف في عالم الغرب؛ وقد توسّـعت دائـرة هذه الحفلات فشـملت مختلف الدوائر الرسميّة، ومديريّات الشرطة، والمحاكم، والمجلس، والكسبة، والتجّار، وأرباب المهن، وأُقيمت في جميع المدن. كفاح المرحوم والد المؤلِّفوكانت الدولة قد أجبرت السادة العلماء حينذاك علي إقامة مجالس علي ذلك الغرار، وكان علي جميع العلماء أن يشاركوا فيها، ثمّ عيّنوا أربعة من العـلماء المشـهورين ومن الطـراز الاوّل في طهران ليقيـموا تلـك المجالس، علي أن تجري دعوة الجميع مع عقائلهم؛ وهؤلاء الاربعة هم: والدنا، والمرحوم آية الله الشيخ عليّ المدرِّس، والمرحوم آية الله إمام الجمعة في طهران، والمرحوم آية الله شريعتمدار الرشتيّ؛ حيث عُيِّن هؤلاء الاربعة كرؤساء علي أن يدعوا جميع العلماء مع نسائهم ـ اللاتي ينبغي أن يحضرن وهنّ سافراتإلي كلّ واحد من تلك البيوت الاربعة. وكان ذلك الزمان غير هذا الزمان، بل وغير زمان محمّد رضا أيضاً، فصحيح أنّ عصر محمّد رضا تميّز بالشدّة والضغط، لكنّه كان يجري وفق برنامـج مدروس. أمّا في تلـك الفـترة فلـم يكن إلاّ الإهانةوالغـدّارة والبندقيّة، ومَن لم يكن علي منوالهم فيسأخذه الشرطيّ إلي حيث يريد، هكذا كان الوضع، بل ونفس رضا شاه ـ الملكقد كرّر حالة نزوله من سيّارته عند مروره في شوارع المـدينة، ليركل إحدي النسـاء في بطـنها ويكشف حجابها من علي رأسها؛ أجل، كان رضا شاه علي هذه الشاكلة. ومن أراد الاطِّلاع علي التأريخ الصحـيح لهؤلاء ـ ولو إجمـالاً فليراجع كتابحسينمكّيالموسومبـ« مقدّماتتغيير سلطنت » ( =مقدّمات تغيير المَلَكيّة )في ثلاثة أجزاء تقع في ألف وخمسمائة صفحة تقريباً، وقد استعرت الكتاب المذكور يوم كان ممنوعاً من أحد السادة العلماء في قم ـ وكنت آنذاك فيهاهو آية الله الحاجّ السيّد أحمد الزنجانيّ، ثمّ تمكّنت من الحصول عليه بعد مدّة وهو الآن في حوزتي؛ ويحوي الكتاب تفاصيل الانقلاب العسكريّ الذي قاده نورمان الإنجليزيّ عن طريق السيّد ضياء ورضا خان، وما تلي ذلك الانقلاب، وكيفيّة انتهاء عهد أحمد شاه وظهور البهلويّة ورضا خان، ومن الضروريّ أن يطّلع الجميع علي هذا الكتاب، وخاصّة علي حياة أحمد شاه لاهمّيّتها، وقد ألّف حسين مكّي كتاباً خاصّاً تحت عنوان« زندگاني أحمد شاه »( = حياة أحمد شاه )يحوي الكثير من التفصيلات، كما ألّف ملك الشعراء« بهار »كتاباً حول حياة أحمد شاه. علي أيّة حال، فقد تقدّم أنّ والدنا هو أحد المخاطبين بأمر الدولة بإقامة دعوة العلماء؛ وكان مدير الامن هو العميد محمّد خان الدرگاهيّ، الذي ينبغي عدّه من أشرار الزمان، ففي شرّه وجرائمه من الصور ما يعجز المرء عن وصفها، وهو من حثالات رضا خان. وكانوا إذا ألقوا القبض علي شخص ما ساقوه إلي حيث لا رجعة، ولم يكن من معني لعودة مَن يُعتقَل، ولا حصر للافراد الذين قُتلوا علي أيديهم، ولا الرؤوس التي وضعوها في أوعية جلديّة ثمّ صبّوا عليها الكلس وأغلقوها. كان والدنا في ذلك الوقت مصاباً بحمّي التيفوئيد وقد رقد في البيت للمعالجة، وكان أحد مأمومي مسجده ـ مسجد لاله زارصاحب ورشة لتصليح الساعات في شارع إسلامبول ـ اسمه السيّد علي رضا صدقي نجاد وهو رجل متـديّن، لكنّه ـ بحـكم مهنـتهكان قد تعـرّف علي العـميد محمّد خان الدرگاهيّ. في ظهيرة أحد الايّام، بينما كنتُ راجعاً من المدرسة إلي البيت، وكانت حقيبتي في يدي وأنا صغير السنّ، دخلت القسم البرّانيّ من البيت لاجلس عند أبي حيث كان مضطجعاً هناك ـ وهو مريضوإذا بالباب تُطرق، وكان الطارق السيّد علي رضا صدقي نجاد وقد جاء لعيادة والدنا، فجلس واستفسر عن وضع الوالد، وكان الوالد حينها في حالة غير جيّدة، وفي أثناء الحديث قال السيّد علي رضا: جاءني العميد محمّد خان الدرگاهيّ إلي الورشة وقال لي: اذهب إلي السيّد وأخبره بأنّه أحد الاربعة المعيّنين لإقامة تلك المجالس المقرّرة في طهران. ولكنّني قلت له: إنّ السيّد مريض، وهو الآن علي فراش المرض. فقال العميد: سنصبر حتّي تتحسّن حالته الصحّيّة؛ سنصبر. وما أن سمع والدنا هذه الجملة حتّي انتفض وقام من نومته، ثمّ جلس علي السـرير قائلاً: خسـئتَ إذ قلـتَ أنّ فلاناً مريـض، من أين جـاءني المرض؟ها أنا سليم معافي!فهذا الدرگاهيّ ابن الكلب، ابن الزنا، عديم الغيرة يتصـوّرنا مثله! ثمّ راح يتكلّم بالالفاظ الفاحشـة القبيحة جدّاً، ليس من تلك الالفاظ الفاحشة العاديّة... وكان يقول هذا الملوط به مجهول الاب ـ إشارة إلي رضا خانالذي جُلِبَ من مازندران ـ وكان يُقال في المحافل إنّ جدّة رضا خان جلبته من مازندران، وهذا يعني أنّه مجـهول الابهذا اللوّاط الذي أخذ بيد بنتَـيه( أشرف وشمس)في احتفالٍ في السابع عشر من شهر ديوجعـلهما فرجة لافراد جنده، هل يتصوّر أنّنا مثله بدون غيرة، كي نعرض بناتنا أمام الناس؟كي نُريهم نساءنا؟ ثمّ عاد إلي الشتم والسباب بتلك الالفاظ، واحمرّ لونه كالتوت الشاميّ، أمّا ذلك المسكين ـ سيّد علي رضا ـ فقد اختطف لونه وصار كالليمونة، كأنّه لون محتضر! ثمّ قال له: اذهب لولد الزنا هذا ـ إشارة إلي العميد الدرگاهيّ و بلِّغ هذا الغول الصحراويّ عين ما تسمعه منّي: نحن عندنا دين، عندنا شرف، عندنا عِزّة، نحن مسلمون، عندنا حَياء، نساؤنا عفيفات، نجيبات، فأبْعِدْ هذه الخيالات عن رأسك! أمّا أنا، فلا أملك إلاّ رأساً واحداً، ولو كان لي عدّة رؤوس لضحّيتُ بها جميعاً علي هذا الطريق، لكنّني ـ للاسفلا أملك إلاّ رأساً واحداً!أمّا زوجتي وأطفالي، فلا يستطيعون أن يأخذوهم ـ ولو بعد قتليإلاّ بعد أن يوثقـونهم بالحـبال ويجـرّوهم إلي الزقاق، وعنـدها سيلفظـون أنفاسـهم بدورهم. فانهض واذهب! قال صدقي نجاد: جناب السـيّد!كيف لي أن أقول للعـميد هذا الكلام؟أذهبُ وأقولُ نفس هذه الكلمات!كيف أقول؟! قال: ستُحرم من شفاعة جدّي يوم القيامة إذا أنقصت حرفاً ممّا قُلتُه لك. قام السيّد علي رضا صدقي نجاد وانصرف وهو كئيب منزعج. ثمّ نقل لنا والدنا فيما بعد أنّ العميد محمّد خان ذهب إلي ورشة سيّد علي رضا، فنقل له ما جري بحذافيره، فهزّ العميد رأسه وقال: سنري... سنرييعني: سنري هل سيفعل ذلك حقّاً أم لا؟ وعلي أثر موقف والدنا،قال الشيخ علي المدرِّس:وأنا أيضاً لا أفعل ذلك، وقال الشيخ شريعتمدار الرشتيّ: وأنا لا أفعل ذلك، وقال المرحوم إمام جمعة طهران: عندي رأس واحد، وسأبذله في هذا الطريق!نحن لا نفعل ذلك. وامتـنع أُولئك الثلاثة عن القيام بما أُمروا به. أمّا الآخـرون فقد استجاب الكثيرة منهم لامر الحكومة. ولجأ بعض الغياري إلي الانتحار بسـبب دعوتـهم للمشـاركة في تلك الحـفلات مع زوجاتـهم، وكانـوا غير مسـتعدّين لتنفيذ ما طُلِبَ منهم، فأقدموا علي الانتحار، وخاصّـة في مدينة طهران. وكان أحد المنتحـرين من أقربائـنا، وهو من المحـسـوبين علي محمّد خاني، ويدعي شريف زاده ـ وهو زوج ابنة خالة المرحومة والدتنا وكان من دعائم الجهاز القضائيّ في ذلك الوقت، علي الرغم من كونه من المتديّنين؛ قيل له: يجب أن تجلب عقيلتك في الليلة الفلانيّة إلي بناية المحكمة للاشتراك في الحفلة الفلانيّة. ولمّا حلّ الليل، تناول مقداراً كبيراً من التِّرياق، وراح يجول في الشوارع ذهاباً وإياباً دون أن يذهب إلي البيت، ثمّ شرب ماءً كثيراً وعاد للتجوال لكي يسري السمّ القاتل في بدنه، ثمّ خرّ إلي الارض في الشارع قُبيل طلوع الشمس، فجيء به إلي البيت، لكنّه لم يقاوم أكثر من ساعة واحدة حتّي لفظ أنفاسه الاخيرة. وانتحر أفراد آخرون علي هذه الشاكلة. وتزامنت عمليّات الانتحار تلك مع سفر رضا خان إلي مازندران، وهناك سمع ـ رضا خانأنّ الجيش الروسيّ قد أجري مناورات عسكريّة علي الحدود الإيرانيّة، فدبّ الخوف في نفسه بعد مشاهدته الحشود الروسيّة في المنطقة الحدوديّة، فرأي أنّ المصلحة تقتضي إيقاف مسألة محاربة الحجاب، لانّها قد جعلت الاوضاع الداخليّة مضطربة] وهو ما ينفع الروس دون رضا خان [، ومن هناك ـ أي من مازندرانبعث ببرقيّة إلي رئيس الوزراء في ذلك الوقت« جم »بأن يوقف تلك الإجراءات حتّي إشعار آخر. فقام جم بتعطيل ذلك البرنامج بالكامل، وجم هو ذلك الشخص الذي قال لرضا خان أثناء حركته للسفر إلي مازندران: إذا عاد صاحب الجلالة من مازندران، فسيري أنّ الحجاب قد رُفِعَ بالكامل. وحينما رحل رضا خان من إيران، حيث تزامن رحيله مع دخول الإنجليز والروس، أسرع والدنا لشراء الحلوي وجلبها إلي البيت، وقد عمّته الفرحة والبهجة علي نحوٍ لم أعهده فيه إلاّ نادراً، وقد أقسم إنّه لم يذق طعم الراحة في نومه، منذ سنين( ربّما منذ عشر سنين )وإنّه لم يكن مطمئنّاً ـ مع كلّ ليلة تأتيأنّه سيبقي حيّاً حتّي الصباح. هكذا كان الوضع. فما كان يجري لم يكن منحصراً بالعباءة والحجاب وما شابهها، بل كان الهدف إزالة القرآن، يعني نفس كلام رئيس الوزراء ورئيس الحزب الاشتراكيّ الإنجليزيّ المسيحيّ اسماً والصهيونيّ انتماءً، ذلك الرجل الذي بثّ الروح في الاستعمار الإنجليزيّ حقّاً، فقد كان رجلاً مذهلاً وتأريخه رهيب وممارساته ذات شراسة ومعادية للإنسانيّة. ولقد دخل أُولئك علي نحوٍ صادروا معه الدِّين والإيمان والشرف والبنت والولد والحميّة والحياة والمال والثروة والعِزّة وكلّ شيء.... سير المؤلِّف في ارتقاء مراتب العلومكان هذا نَموذجاً من مسألة التبرّج التي شاهدناها بتفاصيلها، عندما كنّا نذهب إلي المدرسة ـ سواء الابتدائيّة منها أم الثانويّةكان المعلِّمون والناظر والطلبة يلاحقوننا بالهزء والسخرية، يقولون: أنت ابن الملاّ! الملالي يأكلون بالمجّان، الملالي كذا وكذا، ويصرفون أموالهم عند أُولئك الاعراب آكلي الضبِّ، لماذا يحجّون؟لماذا لا يعطون أموالهم لمن يريد الذهاب إلي إنجلترا، لماذا لا يصرفون علي أبنائهم حتّي يدرسوا في فرنسا؟ وكانت فرنسا في ذلك الوقت أكثر عمراناً وصيتاً من إنجلترا اليوم، واللغة الفرنسيّة أكثر رواجاً من مثيلتها الإنجليزيّة. ثقوا أنّه ليس من كلام قارص إلاّ أسمعونا إيّاه، ولم يكن باليد حيلة. وكان كثير من الاطفال في المدرسة الابتدائيّة يؤذوننا. بل كان المعلّمون ـ من خرّيجي المعاهد العلميّة والادبيّة العاليةلا يدعون كلاماً جارحاً إلاّ وقذفونا به، وكانوا يصادرون حقوقنا، لكنّنا كنّا نحسّفي وجدانناأنّهم لا يلفظون إلاّ هراء، وأنّ كلامهم القارص هراء لا حقيقة له. ولمّا انتقلنا إلي مرحلة أعلي، لم نُواجَه من الطلبة بالسخرية، لانّنا كنّا من المتفوّقين في الدروس النظريّة والعلميّة، وكان زملاؤنا يستعينون بنا، ولذا فقد أكنّوا لنا احتراماً خاصّاً، ولكن دون أن ينصت أحد لِما نقول] ما هو خارج عن إطار الدرس [، وقد أنهيتُ في هذه المرحلة دراستي في الفروع الفنيّة، أنهيتها برأسٍ حليق، كنت أُداوم علي تقصير شعره بماكنة الحلاقة ولم ألبس سروالاً قصيراً، علي الرغم من أنّ معلّمينا كانوا من أصحاب الشهادات من ألمانيا و. و. و... وكان أمير سهام الدين الغفّاري( ذكاء الدولة ) مديراً للمدرسة في بادي الامر، ثمّ حلّ محلّه الدكتور مفخّموهو بتلك الاُبّهة!ولكنّهما كانا ينظران لي باحترام، لانّهما لا يتمكّنان أن يقولا للآخرين بأنّي أفعل ما أفعل لانّي بليد جاهل متخلّف! فمثلاً كان معلّمنا في اللغة الالمانيّة هو الاُستاذ علي أصغر صبا ـ ولعلّه لا يزال علي قيد الحياةوكان ذا أطوار عجيبة، فلم يسبق له أن سجّل درجة في دفتر الصفّ، وكان له دفتر خاصّ من الحجم الصغير ويضعه في جيبه، ومن تلك الدرجات التي يسجّلها في ذلك الدفتر كان يعطي المعدّل والدرجات النهائيّة للطلبة دون أي امتحان، وكان جدّيّاً في التدريس، كان يُوقع بمَن لم يؤدِّ واجبه أشدّ العقوبات، وكان مسلّطاً علي اللغة الالمانيّة، فلم يُشاهَد منه قطّ ـ خلال مدّة دراستيأنّه اشتبه في جملة أو فقرة أو أداة تعريف أو تنكير، ولم يُعَرف عنه أنّه أعطي درجة( 18)لطالبٍ قطّ، وكان يضع لي في دفتره درجة( 17 )باستمرار، إذ كان يودّني؛ قال لي ذات يوم: تعال يا فلان واقرأ لنا الحكاية الفلانيّة، فقرأت الحكاية بالالمانيّة من أوّلها إلي آخرها دون أيّ خطأ ـ ولو بسيطكأن أقول( دِ )بدلاً من( دِن )، وكان يندر أن لا يخطأ بها المرء، فكيف بطالب مدرسة!فأعطاني في ذلك اليوم درجة( 18 )في دفتره، وقال: حسيني!قسماً بالله، منذ خمسة عشر عاماً لم أعطِ لاحد درجة( 18 ). وباختصار، فقد انقضت هذه المرحلة أيضاً، وكانت رغبتي عميقة خلال دراستي في فرع التكنولوجيا في إنهاء هذا المشوار، ثمّ أري ما ستؤول إليه الاحوال. ذلك أنّي كنت أعتقد بأنّ والدنا رجل مجتهد، وأنّه لم يجبرنا علي دراسة العلوم الدينيّة، لكنّه كان يرغّبنا في هذا الامر كثيراً ولذا ما أن انتهت دراستي الاكاديميّة حتّي أقدمت برغبة علي خوض هذا الغمار الذي كنت أطمح إليه. عندما أنهيت دراستي الاكاديميّة، عُرِضت علَيَّ ثمان عشرة فرصة عمل: الدراسة في أميركا، الدراسة في الاتّحاد السوفييتي، معاون مهندس في شركة سمنت شاه عبد العظيم، الذهاب إلي منطقة حفر الآبار الارتوازيّة في منطـقة« لار »... لكـنّي علي الرغـم من جمـيع تلـك العـروض اختـرت الدراسة الحوزويّة دون أيّ ضغط أو إجبار من أحد. وصادف في ذلك الوقت أن قدم علينا ضيف قادمٌ من سامرّاء، وهو المرحوم آية الله الميرزا محمّد الطهرانيّ، صاحب كتاب« مستدرك البحار » وكان معدوداً من أعاظم علماء العصر، وهو خال والدنا، وقد صحبته حين سافر إلي مدينة مشهد، وهناك، ومن غير أن يدري أحد فقد ألبسني العمامة، ولبست القباء، ومنها رجعنا إلي طهران ليراني الوالد بهذا الزيّ، وبقينا في طهران لمدّة ثمانية أيّام حتّي تهيّأت لي المستلزمات الاوّليّة، ومن ثمّ ذهبنا إلي قم فسكنت في حجرة في مدرسة المرحوم آية الله السيّد محمّد حجّت رحمة الله عليه. وقد خضتُ أثناء فترة دراستي العلوم الجديدة الكثير من المواجهات والصدامات والمجادلات والمحاججات والمباحثات مع الطلاّب والمعلّمين ومَن هم أعلي منهم، ومع الشيوعيّين والملحدين، وكنتُ في جميع ذلك المخاض بعنوان المدافع عن الدين والإسلام وأصالة الدين والقرآن. ثمّ دخلت الحوزة العلميّة في قم، وعكفتُ علي الدراسة بشكل جيّد، فمضافاً إلي وقت الحصص الدراسيّة المقرّر، كنت مواظباً علي القراءة والمطالعة لمدّة عشر ساعات يوميّاً؛ كان هذا ديدني الذي اعتدتُه منذ دراستي في الفروع الفنّيّة، حيث لم أقتصر علي إنهاء واجباتي في البيت، بل كنت أستثمر حتّي الفترة التي هي بين البيت والمدرسة للمطالعة ومراجعة الدروس، ولهذا السبب كنت من المتفوّقين دائماً، والذي كنت أحلّ مسائله في البيت هو الرسم الفنّيّ والحساب الفنّيّ والرياضيّات فقط، لانّه لم يكن عمليّاً أن أرسم وأنا أسير في الشارع. أمّا في قم، فعلي الرغم من المطالعة عشر ساعات في اليوم، لكنّي كنت أدعو الله سبحانه أن يمنّ عَلَيَّ بساعات أُخري، وأن يطيل تلك الساعات حتّي أتمكّن من بلوغ ما أطمح إليه في الدرس والتأليف، وكنت علي هذه الحال حتّي نهاية المرحلة الدراسيّة في قم وللّه الحمد والشكر؛ وحين أردت إكمال دراستي والانتقال من قم إلي النجف الاشرف، فقد أظهر بعض أساتذتي تقييمهم لي ونعتوني بالمجتهد. وصار الكثير من الاصدقاء ينظرون لي نظرة خاصّة ويتعاملون معي وفق ذلك التقييم، ومنهم المرحوم آية الله الشيخ محمّد صدوقي اليزديّ الذي كان من الصلحاء المقدّمين. جاءني ذات يوم إلي حجرتي وهو يقول: ما جئتك إلاّ لاقول بأنّك مكلّف ومُلزَم من قِبل الله سبحانه للذهاب إلي النجف الاشرف والمكوث فيها لمدّة ستّ سنين علي أقلّ تقدير؛ هذا مضافاً إلي إصرار أكثر الزملاء بأن أستمرّ علي مواصلة منهجي والذهاب إلي النجف لتكملة الدراسات العلميّة، وبالفعل ذهبت إلي هناك، فأقمت في النجـف سبع سنـين تناولـت فيها بحـوثاً حول ولاية الفقـيه، وبحـوثاً اجتهاديّة، ومسائل متفرّقة أُخري؛ وألّفتُ هناك رسالة حول« الوجوب العينيّ والتعيينيّ لصلاة الجمعة »وهي الآن موجودة، مضافاً إلي البحوث الولائيّة في ولاية الفقيه وأمثال ذلك من البحوث الخاصّة بطلبة الحوزة، حتّي ظهر لنا علي نحوٍ ملموس أنّ الله قد عيَّن لهذا العالَم صاحب أمر ووليّ، وأن ليس لهذه الاجهزة الحاكمة الظالمة والجائرة أيّ اعتبار يُذكر يؤيِّد حاكميّتها. وقد عيّن الله سبحانه لنا طريقاً ومنهاجاً يلزمنا العمل للوصول إليه. وجوب تشكيل الحكومة الإسلاميّةوقد بُنِيَ الإسلام ـ علي ما بحوزتنا من الروايات العديدةعلي خمس: الصلاة والصيام والزكاة والحجّ والولاية،وَمَا نُودِيَ بِشَيْءٍ مِثْلَمَا نُودِيَ بِالوِلاَيَةِ، وعلي أساس الآيات القرآنيّة والروايات فإنّ تشكيل الحكومة الإسلاميّة من أهمّ الاُمور وأكثرها وجوباً. فصحيح أنّنا مسلمون، نصلِّي، ونصوم، ونزكِّي وندفعالخمس، ونحجّ، لكن كلّ ذلك يبقي بلا أصل، وبلا صبغة، مادامت راية الكفر تخفق فوق رؤوسنا. افرض ـ علي سبيل المثال ـ أنّك تملك بيتاً صغيراً متواضعاً، تُعَلِّق المنشفة علي شبابيكه بدلاً من الستائر، ولا يحتوي مطبخه علي باب، لكنّ البيت ملكك وتحت تصرّفك، وأنّك مطمئنّ أن ليس ثمّة من عين خائنة تسترقّ النظر إلي أهل بيتك، فهل هكذا بيت أفضل في نظرك أم البيت المشتمل علي بستان بعشرة هكتارات وفيه ما فيه مضافاً إلي الاشجار الكثيرة، لكنّك لست حرّاً في التصرّف فيه، ولا في أمان من نظرات الاجانب، بل ليس لك حقّ التصرّف حتّي في ذلك البستان، فأيّهما أفضل لك؟من الطبيعيّ أن تميل إلي بيتك الصغير في الجواب. كلّ ما عندنا في زمان الطاغوت كان علي ذلك الغرار،فقد كانت راية الكفر ترفرف فوق رؤوسنا، حتّي أنّي أذكر أنّه حينما احتجت إلي أخذ طلب الإقامة في النجف الاشرف، ذهبت إلي القنصل هناك، فقال لي: يجب أن تتقدّم بكتابة طلب، فكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم... إلي آخره. قال: ينبغي أن يخلو طلبك من البسملة. قلت: لماذا؟ قال: لا داعي للسؤال، لانّ المتعارَف هكذا، وليس لدينا من ورقة عليها البسملة. وبعد ما يقارب الساعة من المناقشة، قلت له: ليس لديك مقرّرات ولا مادّة قانونيّة تمنع من ذلك، وليس ثمّة أمر إداري يمنع كتابة البسملة علي الاوراق الرسميّة، وإذا لم تكن كتابة البسملة من الموضة، فهي ليست أمراً غير متعارف، ثمّ ليس ثمّة من عيب في كتابتها، وأخيراً... علماً أنّه من الرجال المتديّنين ويؤدّي الصلاة، لكنّه كان علي تلك الشاكلة، فقد صرفنا ما يقارب الساعة من الوقت في النقاش والجدال من أجل أن يوافق علي كتابة البسملة علي ورقة طلب الإقامة. لاجلأيّ شيء كلّذلك؟بسببتلكالرايةالتيتخفقفوقرؤوسنا، لانّها ليست راية الإسلام، فإذا عشنا في دولة الكفر، أيّاً كانت تلك الدولة ـ سواء كانت إيران أم العراق أم مصر أم أيّة بقعة أُخريفسنري أنّ راية الكفر حاكمة هناك،يعنيرايةالاجانب،وأنّجميعأُولئك عملاء للاجانب، الاجانب الذين يبذلون المال والوعود لمن يختارون... فيقوم ذلك الشخص بانقلاب عسكريّ، انقلاب مادّيّ ومعنويّ، ظاهريّ وباطنيّ ليسوق الناس به إلي حيث يريد الاسياد، ولكن تحت راية مَن؟ ربّما كان علم الدولة يحمل عبارة( لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله )، لكنّه يبقي راية الإنجليز الكفرة لا راية الإسلام. راية الإسلام تخفق فوق المكان الذي يري الموظّف البسملة فيرفع الورقة ليقبّلها ويضعها علي عينيه، أو أنّه ـ علي أقلّ تقديرلا يرفض الورقة الحاملة للبسملة، لانّ البسملة ليست أمراً سيّئاً. وكما رأينا فإنّ القضيّة غير منحصرة في هذه المسائل، بل تشمل الاولاد والنساء، مروراً بطراز البيت وموضة الالبسة النسائيّة والولاّديّة حتّي طريقة التعليم في المدارس وتوجيه الصحافة والإذاعة، وباختصار: تشمل جميع شؤون الحياة. وقد كنّا لا نتمكّن من فتح أفواهنا لنقول لشخص ما: افعل كذا، ولا بإمكاننا القول: لا تفعل كذا، ولم يكن بإمكاننا أن نقول لإحدي محارمنا: إنّ هذه الجورب التي تلبسينها شفّافة لا تستر السيقان وليس من الصحيح أن تخرجي بها، لانّها كانت ستقول: إذا لبست الجورب العاديّ فسيسخر منّي الآخرون، والكلّ يرتدي مثل هذه الجورب، ولقد مضي الزمان علي هذا الكلام. أوَ كان بمقدورنا أن نقول لشخص: يا سيّد!لا تذهب إلي المدرسة، أو أن نقول له: اذهب إلي تلك المدرسة؟فهذا وأمثاله سيذهبون إلي تلك المدارس، وسيخسرون حينها كلّ شيء، والذاهب منهم يذهب فلا يعود. ولا نقصد بكلامنا المدرسة بنفسها، بل نقصد ذلك المحيط وتلك الثقافة والتعليمات، فذلك ما يقلق الإنسان ويرهقه، ولولاه فالذهاب للمدرسة ـ بحدِّ ذاتهأمرٌ صائب وصحيح. والخلاصة، فليس للإنسان من حيلة في قبال منهجيّة الطاغوت سوي المواجهة مع تلك الحكومة الجائرة من أجل تشكيل حكومة العدل، لانّ تشكيل الحكومة الإسلاميّة من أوجب الواجبات وأهمّ الفرائض؛ وعلي سبيل المثال، فإنّك لو تركت الصلاة لسبب ما، فستتعرّض للمؤاخذة بمقدار أقلّ ممّا لم تكن مهتمّاً أو ساعياً في تشكيل الحكومة الإسلاميّة، لانّها مقدّمة علي تلك، ولانّ صلاة الظهر تكون مقبولة في ذلك الوقت الذي يكون فيه الإنسان تحت ظلال حكومة الإسلام، وكذا الحال بالنسبة للصيام والحجّ؛ بل سيكون كلّ شيء مقبولاً حينما يكون الإنسان تحت راية النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم، أمّا حينما يترك الإنسان النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم وينضوي تحت راية معاوية وأبي سفيان، فأيّة صلاة سيؤدّي وأيّ صيام! فمن الواضح أنّ ذلك الاداء ليس بصلاة،لانّها الصلاة المقبولة عند أبي سفيان ومعاوية والمُمضاة من قبلهما، فهي ليست بصلاة لانّ أوضاعهما ورسالتهما تحطيم الصلاة، فقد وظّفا نفسيهما علي إلغاء الصلاة وليس علي أدائها. توعية الناس عن طريق الوعظأجل، انتهت دراستنا في النجف الاشرف وللّه الحمد، فعدنا إلي طهران، وكان حديثنا في مجالسها ومحافلها هو التساؤل بـ: إلي متي يقرعنا القرآن بخطابه فلا نعيه؟يجب علينا تشكيل الحكومة الإسلاميّة لازاحة النفوذ الاجنبي من علي رؤوسنا. وقد فهمنا الآن بأنّا لم نكن نقرأ القرآن من قبل، لماذا لم نكن نقرأ هذه الآيات؟لماذا لم نكن نعي هذه الآيات؟لماذا حين نتكلّم مع شخص حول ذلك الامر، يقول: دع عنك هذا الكلام يا سيّد، إنّ ذلك من مختصّات دولة إمام الزمان عليه السلام. وقد سمعت ذلك أثناء عودتي من النجف الاشرف من أحد السادة العلماء المعروفين المتضلّعين ـ وكان رحمة الله عليه معدوداً في الاخيار والصالحينحين رددتُ زيارته، إذ ما إن تناولنا طرفاً من هذا الحديث، حتّي قال: يرجع هذا الكلام لدولة الإسلام، وهو من مختصّات حكومة إمام الزمان عجّل الله فرجه، فلا تتحدّث فيه أبداً. أجل، كان صادقاً في قوله علي ضوء اعتقاده بأن ليس للإنسان التحدّث في هذا الامر،ولا حتّي تصوّره.ولكن ما في اليد من حيلة!فحينما التزمنا علي أنّا مسلمون، وأنّ نهجنا هو القرآن، وحين اخترنا بملء إرادتنا هذا الطريق، واعتقدنا أن ليس ثمّة طريق سواه؛ فما الذي ينبغي للإنسان عمله والحال هذه؟ومن هنا بدأتُ العمل من المسجد من خلال تفسير هذه الآيات القرآنيّة وبيانها. وحين شرعت في الموعظة من علي منبر المسجد بعد أداء صلاة العصر في شهر رمضان الاوّل، فقد خصّصت حديثي في مواجهة الكفّار ومحاربتهم، مضافاً إلي بيان آياتٍ من قبيل: لاَ تَجدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَهَ وَرَسُولَهُ وَ... وآية:يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَيَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ.... [1] وتكلّمت حينها حول سيطرة الإنجليز وكيفيّة غَلَبتهم، مضافاً إلي مسألة إعدام المرحوم مرجع ذلك العصر العالِم الربّانيّ آية الله الحاجّ الشيخ فضل الله النوريّ. وحين انتهي المجلـس، أقبل عَلَيَّ عسـكري برتـبة عقـيد ـ وكان حاضراً في ذلك اليوم في المسجد، وتربطني به صلة رحمفقال: أيّها السـيّد!لا تتحـدّث بهـذا الكلام!وأنـت صاحـب زوجة وأولاد!وإلاّ فسيعتقلوك ويأخذوك إلي حيث لا يبقي لك أثر. وباختصار، فقد كان جلّ فكرنا هو الإجابة علي سؤال: ما العمل الآن؟فقد كان علينا أن نبدأ العمل من مكان مؤثِّر وصحيح؛ فليس المهمّ أن آمر عائلتي ـ ولو بالمشاجرةأن يفعلوا كذا وكذا، ولا أن أُمارس الضـغط علي فردٍ ما ليفـعل هذا الامر أو ذاك، بل لابدّ أن يكـون عمـلنا أساسيّاً. تماماًكدخولك في مطعم كباب، ورائحة الكباب قد عمّت كلّ أرجاء المكان، وحين تنفخ لتبعد هذه الرائحة عنك، فإلي أين سيؤول هذا النفخ؟وإذا ذهب دخان الكباب إلي جهةٍ ما، فسيأتي من مائة جهة أُخري، أشبه بالضبط بعمارة تلتهب فيها ألسنة النيران، فالدخان والغازات الخانقة تتلاحق متصاعدة، فليس ثمّة من فائدة للنفخ بعد، ولابدّ من تدبير الاُمور بشكل أساسيّ مشفوع بالمنطق السليم والاُسلوب الصائب والاهتمام التامّ.
وأخيراً، قرّرت أن أشرع في تشكيل نواة للعمل السرّيّ كخطوة أُولي
للعمل، فتحرّكت علي بعض الافراد ممّن يجمعني وإيّاهم الانسجام الفكريّ
والتوافق في النظرة إلي الاوضاع السائدة، فاجتمعنا علي ذلك ـ وكنّا في
حدود عشرة أشخاصوقمنا بعقد جلسات خاصّة سرّيّة لهذا الغرض، وكان أحد
المنضوين بين صفوفنا ذلك العالِم الذي واجهنا ثمّ أُطلق سراحه، فذهبت لزيارته وقلتُ له: أحسنت، بارك الله فيك، فقام الرجل رحمه الله وقبّلني، ثمّ قال: أيّها السيّد!رحم الله والدك، ورحم الله والدتك، لقد كنتُ سجـيناً، وقد لاقيـت ما لاقيـت من ألوان التعذيب وضروب المصائب، وكلّ مَن يأتي لزيارتي يقول لي: لماذا فعلتَ ذلك؟!فهذا الزمان ليس زمان هكذا كلام، وعلي الإنسان أن يعمل بالتقيّة، والضرب بالقبضة علي المشرط غير صحيح و... بينما تأتي أنت في هذا الخضمّ لتقول: أحسنت، بارك الله فيك لانّك فعلت ذلك! وأخيراً، فقد كان ذلك الرجل الكبير، من الصادقين وذوي الغيرة والمتحمّلين للمتاعب والمشاقّ، وقد أُصيب باليرقان علي أثر كثرة تحمّله لاذي وملامة الآخرين، وتوفّي بعد فترة من المعالجة قضاها في مستشفي بازرگانان( = التجّار )رحمة الله عليه، ولقد كان من المتعصّبين لدينه، وفي أعلي مراتب الفهم وأرقي درجات الغيرة. تشديد رقابة الجهاز الامنيّ للمؤلِّفوعلي أيّة حال، فقد كانت لنا مجالس انشغلنا فيها بدراسة المواضيع المطروحة، طبعاً في تقيّة تامّة، لانّ الدولة لو اطّلعت علي علاقتنا فستذهب جميع جهودنا هدراً، ومع ذلك فإنّ البيت الذي كنّا نلتقي فيه في منطقة « أحمديه دولاب »ـ والذي لم يكن فيه خطّاً هاتفيّاًكان مراقباً من قبل مديريّة الامن، حتّي أنّهم أشخصوا أحد أفرادهم في البيت المقابل لنا ليتابع حركاتنا ويضبطها لهم، سوي أُولئك الافراد الذين يأتون إلي المسجد، ولكن بأيّ شكل وأيّة هيئة، الله العالم، فقد جاؤونا بصورة متسوّل وفقير محتاج، وبصورة متخنِّت وطبيب، وبصورة تاجر ومتديِّن، وبصورة طالب مدرسة وطالب حوزة. وكان بعض طلاب دار المعلّمين العالي ـ الواقعة في الطبقة الفوقانيّة للمسجدمن مأموري مديريّة الامن، وكانوا يأتون إلينا وآثار اللحي علي وجوههم والمسـبحة في أيديـهم وقد حفظـوا شيـئاً من القـرآن، يأتـون ويستفسرون منّا، بل كانوا في بعض الاحيان ـ إذا اقتضت الحاليصبّون الدموع مدراراً؛ لاحظوا! وكنتُ لا أعرف حقيقة بعضهم، فلمّا اتّضح لي أمره بعد ذلك؛ قلتُ: اللهمّ بك ألوذ، فهـذا الرجل ملتـحٍ، وهو طالب جامـعيّ، ومهـندم، ومن أهل القرآن، وأهل التفسير أيضاً، وحينما يأتي يطلب ثلاث أو أربع استخارات وهو صاغٍ منتـبه، ثمّ يُشـاغلنا في أطراف الحـديث من هنا وهناك، فكيف للإنسان أن يُشَخِّصه؟ حينما ألقيتُ خطبة صلاة عيد الفطر، أشرتُ في تلك الخطبة إلي الحكومة الإسلاميّة، وقمت بتفسير آية:وَأُخْرَي' تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ،[2]كان أحد أُولئك الجامعيّين من الحاضرين ـ وقد عرفت حقيقته يومئذٍفما أن أتممت الخطبة حتّي اقترب منّي فجلس وقال: علي ضوء مفاد كلامكم، فلابدّ من تشكيل حكومة الإسلام. فمن أين يجب البدء؟فأنا علي استعداد تام بكلّ طاقتي لان أكون في خدمتكم علي هذا الطريق، كما أنّ بعض زملائي حاضرون للتضحية في هذا المجال، بيَّنوا لنا برنامج العمل، وعرّفونا علي أوقات الاجتماع ليلتحق بكم هؤلاء الشباب نفساً وقلباً. واتّضح بعد ذلك أن ذلك الشابّ هو أحد أفراد السـلك الامنيّ، وقد تفضّل علَيَّ الله سبحانه بأن أجبتُه بأنّ خطبتي هذه عبارة عن مواضيع عامّة، وليس ثمّة من تنظيم ولا خطّة للعمل.
أَعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ وَصَلَّي اللَهُ عَلَي سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَي أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ
قدّمنا آنفاً بأنّ الوضع الدينيّ في ذلك الزمان كان سيّئاً جدّاً وصعباً، وأنّ مظاهر الكفر كانت رائجة في كلّ مكان في المملكة، وأنّ الاوضاع كانت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وأنّ تسلّط الدولة الجائرة كان يزداد باستمرار، ولم يكن لنا ـ أمام ذلك من حيلة سوي الارتباط السِّرِّيّ مع بعض العلماء الذين وجدنا فيهم التحمّس والغيرة والإيثار، من الذين يمكن تداول الاُمور معهم حول الاوضاع السائدة. جلسات المؤلِّف السرّيّةكان عدد الذين يمكن اللقاء بهم علي هذه الشاكلة في طهران ضمن جلستنا الخاصّة ـ في ذلك الوقت لا يتجاوز عشرة أشخاص، وكان العلاّمة الطباطبائيّ أحد المشاركين في تلك الجلسة، ولكن بندرة، حيث إنّه نادراً ما يأتي من قم إلي طهران، وعلي أيّة حال فهو محسوب من المشاركين، وكان منهم أيضاً سماحة الحاجّ السيّد رضيّ الشيرازيّ ـ وهو الآن إمام جماعة في طهران ومشغول بالدرس والبحث العلميّ ومنهم سماحة الحاجّ محي الدين الانواريّ، وعلي ما يبدو حاليّاً أ نّه أحد أعضاء مجلس الخبراء، وقد حُكِمَ عليه بالإعدام ثمّ خُفِّف الحكم إلي خمس عشرة سنة، وبعد أن قضي عشر سنوات في السجن أُطلق سراحه في أوائل الثورة، ومنهم سماحة الحاجّ الشيخ بهاء الدين الصدوقيّ الهمدانيّ، وسماحة الحاجّ الشيخ محمّد تقي الجعفريّ، وكان كلُّ منهم عالماً نزيهاً ومؤمناً متديّناً وملتزماً صامداً، وكان منهم كذلك سماحة الحاجّ السيّد محمّد علي السبط والحاجّ السيّد صدر الدين الجزائريّ، وابنه الفاضل، وسماحة الحاجّ الميرزا محمّد باقر الآشتيانيّ، وهو من العلماء الواعين الدؤوبين. وكنّا منشغلين بالعمل فيما بيننا دون أن يعلم بنا أحد، وكانت الاوضاع التي يعيشها آية الله البروجرديّ في ذلك الزمان صعبة جدّاً، أي أنّ ضغوط الدولة كانت شديدة جدّاً، فقد أُحكمت الرقابة علي بيته بالكامل، وكانوا لا يسمحون له بالتحرّك، وكان متأثّراً ومنزعجاً من كثرة الممارسات اللاشرعيّة الحاصلة في البلد، ومن جرّاء ذلك كان يصاب بالحمّي، وقدتعاوده الحمّي يومين أو ثلاثة حتّي تنهار قواه، وحينها كان يرسل إلي الشاه ـ عن طريق بعض الاشخاص الذين يأتون من طهران لزيارته مبعوثين من قِبَل الشاه، كصدر الاشراف أو القائمّقام ويطلب منه الكفّ عمّا يقوم به. وكان هؤلاء من العلماء الذين خلعوا زيّ رجال العلم وارتدوا اللباس المدنيّ العاديّ ( السترة والسروال ) في عهد البهلويّ، وانخرطوا في سلك الجهاز الحكوميّ، وكانوا ـ بدورهم من روّاد المجالس الدينيّة والمصلّين والصائمين والملتحين، لكنّهم ضمن الجهاز الحاكم، وممّن يقومون بدور الوساطة بين العلماء والحكومة، ولكنّ المرحوم آية الله البروجرديّ لم يتمكّن من إحضارهم وتسليمهم توجيهاته في الاُمور العاديّة البسيطة. وكانت الاعمال المشينة جارية في كلّ مدينة ومكان، حتّي أنّ السلطة أرادت أن تفتح دار سينما في مدينة قم، وكان المقرّبون لآية الله البروجرديّ علي عِلم بذلك، إلاّ أ نّهم لم يُخبروه، وبعد مدّة طرق سمعه مسألة افتتاح السينما فاحمرّ غضباً ولام مقرّبيه علي عدم إطلاعه، فقالوا له: لو أخبرناك فسوف تنزعج وتصاب بالحمّي وتنهار قواك كالعادة؛ فقال: لايّ شيء أُريد عمري! وبعد ذلك أوصل نداءه إلي مَن يهمّه الامر، فتوقّف العمل مؤقّتاً في مشروع السينما. والخلاصة، فقد كان الجهاز الحاكم ينظر إلي آية الله البروجرديّ بعين الخشية والترقّب بكلّ ما للكلمة من معني، لا نّه كان يُمَثِّل اليد الوحيدة المرفوعة أمام الحكومة، لكنّهم كانوا قد وضعوا خططاً وأرجأوا تنفيذها لما بعد وفاته، حتّي أصبح هذا الموضوع حديث المكالمات الهاتفيّة الدائر فيما بين الرؤساء ـ وعلي الاخصّ بين البهائيّين الذين ازداد نفـوذهم حول رغبتـهم في تحـويل البلد إلي حكـومة بهائيّة، وتوظـيف البهائيّات لمزاولة أنشطتهنّ، ووصول رجالات بهائيّة إلي الوزارة والنيابة ورئاسة الدوائر الحكوميّة؛ وباختصار كانوا يريدون أن يحلّ هنا ما حلّ بلبنان، حيث تشكّلت هناك حكومة صهيونيّة إسرائيليّة، وأن تكون إيران مملكة بهائيّة رسميّاً، وأن تكون جميع مراكز القوي تحت سلطتهم؛ وكما هو معلوم فإنّ جذور البهائيّين واليهود الصهاينة واحدة، وتطلّعاتهم واحدة. حتّي كان البعض منهم في ذلك الوقت يبعث ببرقيّة أو يخاطب صاحبه من خلال الهاتف أن: لماذا لم تنجز العمل الفلانيّ؟ فيجيبه جهرةً أن: لا زال الرجل حيّاً ـ إشارة إلي البروجرديّ فاصبر حتّي يموت، ثمّ نبدأ بإنجاز أعمالنا. قيل لآية الله البروجرديّ: ما دُمتَ منزعجاً لهذا الحدّ من أعمال الملك وبلاطه وزبانيته، فلماذا لا تتحرّك لإزالته؟! فأجاب قائلاً: إزالة هذا الصبيّ بالنسبة لي سهلة، لكنّ خصمنا هو أميركا. أجل، ففي شهر شوّال 1380 ه، أي قبل تسع وعشرين سنة انتقل إلي رحمة الله آية الله البروجرديّ رحمة الله عليه، ولم يمض علي وفاته شهر واحد أو شهور قلائل، حتّي بدأ أولئك بتنفـيذ مآربـهم وخطـطهم المعطّلة. منشور علماء وروحانيي طهرانكان أسد الله عَلَم هو رئيس الوزراء في ذلك الوقت، وفي أثناء فترة عطلة المجلس قامت الهيئة الوزاريّة برئاسته بالمصادقة علي قرار رسميّ، في خصـوص مجالـس المحافظـات والمدن وجعـلته قَيد التنفـيذ، تلـك المجالس المشكّلة في كلّ محافظة من قبل أفراد منتخبين لإدارة شؤون محافظاتهم، وقد جاء في ذلك القرار ثلاثة أُمور مهمّة كانت الدافع لاتّخاذه، وهي: الاوّل: كانـت العادة جارية حتّي ذلـك الوقـت علي وجـوب كون المنتخِب والمنتخَب في مجالس المحافظات في المدن من المسلمين، أي أنّ العمليّة الانتخابيّة قد أُحكمت ـ علي ما جاء في الدستور بقيد الإسلام، وذلك لانّ أُمور الدولة ستكون تحت سلطة المنتخَبين، لذا ينبغي أن يكونوا مسلمين، كما يجب أن يكون المنتخِب مسلماً أيضاً. وقد سحق هؤلاء قيد الإسلام حين قالوا: لا مانع من انتماء المنتخِب والمنتخَب لايّ دين كان: بهائيّ أو يهـوديّ أو مسـلم، من الاقلّـيّات الرسمـيّة أو غير الرسميّة. الثاني: القَسَم بالقرآن، حيث نصّ القانون: علي كلّ مَن يدخل في المجلس أن يُقسم بالقرآن بعدم الخيانة، فحذف هؤلاء عبارة القَسَم بالقرآن وأبدلوها بعبارة القَسَم بكتاب سماويّ، فقالوا: فلان البهائيّ يأتي للمجلس أيضاً، ويُقسم بكتاب « البيان » أو كتاب « الإيقان »، لا نّهما كتابان سماويّان أيضاً! الثالث: دور النساء؛ فحتّي ذلك الحين لم يكن للمرأة حقّ المشاركة في مجالس المحافظات والمدن بأيّ وجه من الوجوه، فمنحوها حقّ المشاركة، وكان من المعلوم أ نّهم لم يقوموا بهذا الإجراء رحمةً بالمرأة ولا شفقةً عليها، بل كانوا يبغون عن هذا الطريق جلب الساقطات من أمثال ( فرخ رو پارسا ) التي شغلت منصب وزيرة الثقافة لفترة ومَن علي شاكلتها، لتصبح واحدتهنّ رئيسةً للشرطة أو رئيسة للبلديّة أو المحافظة، فتسير أُمور تلك الإدارات علي هذه الحال. كانت هذه الاُمور الثلاثة هي الدافع الاساسيّ لاتّخـاذ ذلـك القـرار، وقد ذكـرنا بأ نّه قد أُعِدَّ ونُفِّـذ بعد رحـيل آية الله البروجرديّ بفاصلة زمنيّة قصيرة. وكنّا في جلستنا بطهران قد أصدرنا منشوراً تحت واجهة « علماء وروحانيّو طهران » ووقّع فيه أعضاء الجلسة الاصليّين وبعض آخر من العلماء، وقد أدرج سماحة الحاجّ الشيخ عليّ الدوانيّ هذا المنشور في كتابه « نهضت دو ماهة روحانيون ايران » ( = نهضة الشهرَين لروحانيي إيران )، ثمّ أثبته أيضاً في كتابه الآخر الموسوم بـ « نهضت روحانيون ايران » ( = نهضة روحانيي إيران ) في الجزء الثامن من أجزائه العشرة، ص 53 و 54؛ وننقله لكم من الكتاب المذكور: منشور علماء وروحانيي طهران جمادي الاُولي سنة 1382 ه ق. المصادف: 2 / 8 / 1341 ه ش. بسم الله الرحمن الرحيم يا مسلمي إيران، رجالاً ونساءً! إنّ حالة الفوضي والاضطراب لا تخفي علي أحد، فقد عمّت مظاهر التفسّخ الخلقيّ والفوضي، وتفشّت أنواع الاعمال اللاشرعيّة وبات الدين والدنيا في أسفل درك الانحطاط، وفي كلّ يوم يزداد وطء البلاء والآلام علي كاهل الجماهير المضطهدة. وقد صيغت أخيراً ترنيمة أُخري من خلال قرار مجالس المحافظات والمدن، ومشاركة النساء التي هي بمثابة العزف علي نغمة جديدة؛ يا شعبنا الإيرانيّ! لسنا بصدد الحديث عن موادّ هذا القرار، أو بيان ما يمليه علينا الدين الإسلاميّ المقدّس، لانّ توجيهات السادة الاعلام والمراجع لم تترك شيئاً مخفيّاً من الامر. بل نريد أن نسأل، أبإمكان الدولة أن تتخطّي القانون بإصدار قرار؟ أيمكن أن يُسَنّ قانون يتعلّق بمصير أُمّة كاملة بغياب ممثِّليها الحقيقيّين؟ إنّ من الظُّلم أن يلجأ بعض الاشخاص إلي نفوذهم الشخصي فيقلبوا مصير أُمّة علي حسب رغبتهم، أو يحاولوا ـ فرضاً تغيير القواعد الدينيّة والاُصول المسلّمة والقوانين السائدة. مَن ترون اسمه وتوقيعه في أسفل هذا المنشور يأمل أن يكون من خَدَمة الدين الصادقين، وليس له أيّ ارتباط بأيّة جهة أو منظّمة معيّنة، وينظر إلي جميع المسلمين بعين الاُخوّة، ومَن يعرفنا فقد عرفنا علي هذه الشاكلة، وليس لنا من غاية من هذا القول سوي طلب الخير وبيان الحقيقة. ولا شكّ ـ تحت رعاية الباري تعالي شأنه والعنايات الخاصّة للإمام وليّ العصر أرواحنا له الفداء أنّ الاُمّة تعي اليوم مدي أهمّيّة وحساسيّة الظرف الراهن، وتعمل علي ضوء وظائفها الدينيّة والإنسانيّة، هدانا الله تعالي وإيّاكم إلي طريق الرقيّ والصلاح والهداية. والسلام علي مَنِ اتّبع الهدي وقد خُتم هذا المنشور بتواقيع أفراد قلائل، وكان توقيعي من ضمنها مع اسمي الصريح ـ محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ علماً أ نّه كانت في مسوّدة المنشور: مَن تري يقول للمرضعات اللاتي يدّعين أ نّهن أشفق من الاُمّ: علي أساس أيّ حقّ تتدخّلون في شؤون الناس؟ وتستحوذون علي مصيرهم؟ لكنّ بعض الرفقاء قالوا بأنّ هذه العبارة حادّة جدّاً، وستجرّ إلي عواقب وخيمة. وكما لاحظتم، فإنّ المنشور لم يُوَجَّه إلي الدولة والرئيس والوزراء وأمثالهم، بل إنّ أهمّيّة الموضوع ترتكز علي جملة « إنّ من الظلم أن يلجأ بعض الاشخاص إلي نفـوذهم الشخـصيّ فيقلبـوا مصـير أمّة علي حسـب رغبتهم ». وكانت جميع المنشورات الصادرة من قم والمناطق الاُخري قد وجّهت خطاباتها إمّا إلي الدولة أو إلي الملك، سوي منشورنا الذي ترك الدولة والملك وتناول أصل موضوع الساعة، وبعد أيّام أصدرنا منشوراً آخر بتواقيع كثيرة في هذه المرّة، قد يصل عددها إلي مائة توقيع، وقد أُدرج في الكتاب المذكور في الصفحات 143 إلي 148، وكان أكثر تفصيلاً من سابقه، كما أنّ جميع السادة العلماء في قم قد أصدروا منشورات جيّدة وبعثوا البرقيّات إلي الملك، ومن جملة السادة المراجع الذين أبرقوا إلي الملـك في ذلـك الوقـت: سـماحة آيـة الله الخـميـنيّ وسـماحة آيـة الله الكلبايكانيّ. وبعد ستّة أيّام ردّ الملك علي البرقيّات بجواب سطحيّ غير موزون، فهو أوّلاً لم يخاطب السادة العلماء بعناوينهم العلميّة، فبدلاً من آية الله مثلاً، قال: سماحة حجّة الإسلام السيّد فلان دامت إفاضاته؛ وأجاب ثانياً بـ: أ نّنا بأنفسنا أكثر سعياً من جميع أفراد الاُمّة من أجل الحفاظ علي الإسلام، وسأبعث برقيّاتكم إلي الدولة، ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ عالم اليوم قد اتّخذ شكلاً آخراً، وأنّ الايّام لا تبقي علي تلك الوتيرة السابقة، وآمل أن توجِّهوا أفكار العامّة من خلال إرشاداتكم. ثمّ ختم ذلك بإمضائه. وقد أُدرج هذا الجواب أيضاً في الكتاب المذكور، وكانت هذه المنشورات والاتّصالات فيما بين المدن وعقد الاجتماعات وإلقاء الخطب وأمثالها في جميع أرجاء إيران قد أحدثت ضجّة ذات آثار حسنة، وأسرعت الخطو في العمل، حتّي أنّ البعض قد اتّصل بعلماء النجف، ممّا حدا بهم أن يرسلوا برقيّات ذات تأثير قويّ جدّاً؛ وفي قبال ذلك بذلت الدولة كلّ ما تستطيعه من أجل الحدّ من هذه الظاهرة، لانّ توجّهاتهم لم تكن لتنحصر في إقرار تلك الموادّ الثلاث ومجالس المحافظات والمدن فحسب، بل كانت تشمل إلغاء القرآن وتهيئة الاجواء لدخول النساء في مجلـس الشـوري الوطـنيّ أو تقلّدهنّ منصـب رئاسـة الوزراء أو منصـب الملكيّة. ولذا، حلّت ( فرح ) كوليٍّ للعهد بعد الاستفتاء العامّ الذي أجراه الملك في السادس من بهمن، علي اعتبار أن ابنها لم يبلغ سنّ الرشد بعد، علي الرغم من أنّ الدستور الإيرانيّ لا يسمح للمرأة أن تتقلّد منصب ولاية العهد، كلّ ذلك من أجل تقويض كلّ ما هو إسلاميّ في البلد ابتداءً بالقرآن؛ وجري في المجلس إلغاء القَسَم بالقرآن، وكان لايّ منتخِب أو منتخَب الحقّ في أن يذهب ليعطي رأيه؛ وبات معلوماً أن ليس ثمّة شيء سيبقي علي حاله، وذلك غاية ما يبغونه. برقيّة ومنشور آية الله الخمينيّ وشكر المؤلِّف لهوقد كانت الشخصيّات الإسلاميّة مستوعبة لكلّ هذه النقاط الحسّاسة بدقّة عالية، ومن هذا المنطلق فقد دخلت المعترك، حيث بعث آية الله الخمينيّ ببرقيّة إلي الملك مضافاً إلي إصداره منشوراً، سرعان ما انتشر في طهران، وما أن وصل منشوره بيدي ـ في ساعاته الاُولي حتّي كتبت له ورقة شكر وتأييد لما قام به، وقد ابتدأت الكتابة بالآية: مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا. وكان مفاد ما كتبته إليه: لا ينبغي لنا أن نتأثَّر من فقدان آية الله البروجرديّ، فإنّ الله تعالي إذا نسخ آيةً أتي بمثلها أو خيرٍ منها، فسيروا في طريقكم إن شاء الله، ولا يُقلقنّكم شيء. وكان إصدار منشور، أو إرسال برقيّة في ذلك أمراً غير يسير، فاليد التي يُقبض عليها ممسكةً بمنشور سوف يُقتاد صاحبها إلي قلعة فلك الافلاك: وهو ما يدعي بسجن فلك الافلاك. وأصبحت حركة السيّارات تحت الرقابة المشدّدة، وأضحت جميع السيّارات معرّضة للتفتيش الدقيق، وبات الضبّاط لا يبرحون في أداء مأموريّاتهم حتّي وصلت الحال لان يتمدّدوا تحت السيّارات ليروا هل ثمّة شخص هناك أو لا؛ حقّاً إنّها لحالة مذهلة ووضع مزريّ؛ ولم يكن في ذلك الوقت ثمّة خطّ مباشر للهاتف بين طهران وقم، ولم يكن من حيلة لمن له حاجة ما، أن يذهب لإحدي دوائر البريد أو أن يذهب بنفسه إلي قم، ولذا كتبنا له رسالةً وأجابنا عليها برسالةٍ أعلن فيها عن شكره. علماً أ نّه كانـت لنا علاقة خاصّـة مع سماحة آية الله المـيلانـيّ، وآيـة الله الآخـونـد المـولي علي الهمـدانيّ، وبعـض العـلماء الآخـرين كالمرحـوم آية الله الصـدوقيّ في مدينة يزد الذي كان يتحـرّك بنشـاط وفاعليّة، والمرحوم آية الله دستغيب في مدينة شيراز، الذي بذل جهوداً كبيرة في هذا المجال، وكذلك سماحة السيّد محمّد علي القاضي في تبريز، وسماحة آية الله عِزّ الدين الزنجانيّ الذي يسكن في مدينة مشهد حاليّاً، وكان من المناوئين الفعّالين للجهاز الحاكم في مدينة زنجان، وقد قضّي ـ علي أثر ذلك شهرين بين زنزانات السجن. وباختصار، فقد أحكمنا الرابطة من خلال المراسلة بين كلّ مَن لنا معه أدني علاقة من العلماء البارزين في إيران، لا نّه كان من المهمّ جدّاً أن تتوحّد خطوات العلماء البارزين في تعيين الهدف وكيفيّة التحرّك. وبطبيعة الحال فقد ظهر في البين بعض المثبّطين والمُتْعِبين الذين يخنقون الانفاس، لكنّنا تحمّلناهم وواصلنا في إنجاز ما علينا من مهامٍّ. اقتراحات المولف لآية الله الخمينيفي تلك المدّة ـ فترة مناقشة قرار مجالس المحافظات والمدن أصدر آية الله الخمينيّ منشورات وزِّعت بين الناس في طهران بسرِّيّة تامّة، وما أن حصل عليها رفقاؤنا حتّي أوصلوها لنا، فرأيناها جيّدة جدّاً، ولكن يبدو ثمّة إشكال علي بعضها، حيث جاء في أحدها، مثلاً: أنّ الإسلام يحرم المرأة من المزايا الاجتماعيّة، وأنّ المرأة لا يمكنها مزاولة الانشطة الاجتماعيّة، وما شابه ذلك، وبعد مدّة ألصقوا هذه المنشورات علي أبواب الجامعة، فجاء الشباب الجامعيّ من حزب المعاندين وكتبوا ـ بجانب المنشور عبارة: المرأة = الكلب، يعني أنّ المنشور تضمّن هذا المعني. فكتبتُ له رسالة طويلة بيَّنتُ فيها أنّ للمرأة في الإسلام مقاماً رفيعاً وقلتُ له: إنّك تعتقد بهذا أيضاً، وتعلم أنّ تعبير حرمان الإسلام للمرأة ليـس تعبيراً مناسـباً، وينبغي أن نقول بأنّ الإسلام قد أعطي للمرأة حقّاً، وأنّ الحـجابُ حقّ المرأة، يعـني أنّ الإسلام قد أعطي حقّاً للمـرأة في الحجاب وفي ستر نفسها عن الاجانب، وليس أنّ التبرّج كان من حقوقها البديهيّة التي صادرها الإسلام، فحرمها بذلك من حقّها. وكذلك فإنّ من الحقوق التي منحها الله تعالي للمرأة أن تكون ربّة بيت ومربّية للاولاد، ومدبّرة لشؤون المنزل، وفي الحياة في كنف البيت، ولم يأمرها ـ مع هذه الظرافة واللطافة والاحاسيس ووظائف الاُمومة التي تُعدّ من أهمّ وظائفها وأساسيّاتها بالخروج والعمل بالحدادة، وبالجهاد، بل قال: علي الرجال أن يقوموا بالاعمال الثقيلة لتتمكّن المرأة من نيل حقوقها. ولا ينبغي أن نقول ـ والحال هذه ـ إنّ الإسلام يحرم المرأة ويمنعها الخـروج من البيـت للعـمل، ويمنعـها من المشـاركة في المـواجـهات والمخاصمات، بل ينبغي أن نقول: إنّ الإسلام أعطي للمرأة حقّ الجلوس في بيتها لتؤدّي ما عليها من أعمال منسجمة مع طبيعة خلقتها؛ وهذا هو جوهر الموضوع. وهكذا استُغِلَّ هذا الاختلاف في التعبير، حيث قالوا: بناء علي هذا، فما دام الإسلام يمنعنا، فلنذهب للبحث عن دين آخر لا يمنعنا؛ وكانت الفتيات الجامعيّات يحملن منشورات تقول بأنّ الإسلام يمنع المرأة؛ لذا قلن: إنّ الإسلام دين الرجعيّين؛ دين عبدة الازمنة الغابرة؛ وعلينا البحث عمّن لا يمنعنا من حقوقنا. فَلِمَ لا يكون تعبيرنا هكذا « أنّ الإسلام أعاد للمرأة حقوقها الاوّليّة » ومن ذلك الوقت تغيّرت لهجة منشورات آية الله الخمينيّ، ولم يعد فيها شيء من تلك النكات. والمسألة الاُخري هي تعبير الروحانيّين، فقد كان يقول: الروحانيّون هكذا، الروحانيّون كذا؛ فتناولت الحديث معه بشكل مبسوط، وبيّنت له أنّ تعبير الروحانيّين من مصطلحات النصاري، حيث يعتبرون قساوستهم آباءهم الروحانيّين؛ وباختصار فإنّ لفظة الروحانيّ قد أتتنا من جهة الاستعمار الذي فصل السياسة عن الروحانيّة. وليس ثمّة من لفظة الروحانيّ في بيان القرآن وحديث الروايات؛ والكلّ مسلمون، والكلّ مأمور بالعبادة والحكومة والقضاء والجهاد والحجّ والخمس، وكلّ ذلك عبادة؛ نعم، يُطلق علي أعلام الدين وعلمائهم لفظ العلماء والفقهاء، وأنت أدري بهكذا تعابير وما تحمل، لذا صار يقول ـ منذ ذلك الوقت في جميع منشوراته: علماء الإسلام، وفقهاء الإسلام وأمثال هذه التعبيرات. كانت المواضيع المطروحة كثيرة جدّاً، وكنت في بداية الامر أكتب الرسائل وأرسلها عن طريق البريد، لكنّي وجدت في هذا الطريق ثمّة مخاطر، فقمت بإرسال ما أكتبه إليه عن طريق بعض رفقائي ليوصلوا الرسائل إليه يداً بيد، وكان يهتمّ كثيراً بما أكتبه إليه، فيطالعه بدقّة ويردّ عليه؛ وبعد مدّة باتت كتابة الرسائل تشكّل خطراً علَيَّ، أي إذا وقعت إحدي الرسائل بيد الآخرين فالعواقب ستكون وخيمة، لذا... فقد اتّجهت لطباعة رسائلي له علي الآلة الطابعة مع إمضائها باسم مستعار متّفق عليه فيما بيننا، ولم يكن ثمّة شخص علي علم بذلك، فلم تكن الرسائل سوي ورقة مطبوعة علي الآلة الطابعة تصل إليه. وأذكر أ نّني كتبتُ ذات مرّة رسالة في أربع أو خمس صفحات وأعطيتها إلي السيّد عبد الصاحب ( سيّد علي أكبر الحسينيّ ) ـ الذي يشغل منصب المدير العامّ في وزارة الثقافة، ولا زال علي وظيفته إلي الآن ليطبعها لي علي الآلة الطابعة، ثمّ أرسلتها إليه، وكان المرحوم الحاجّ السيّد مصطفي الخمينيّ قد قال لاحد أصدقائنا في النجف الاشرف: كان والدي ـ في قم حينما تصله رسائل الشخص الفلانيّ يعمد إلي مكان إمضاء الرسالة فيمزّقه بيده حذراً من وقوع الرسالة بيد الجهاز الامنيّ، فيقع صاحبها في مخاطر محتملة. ذكرتُ بأ نّه كان يهتمّ كثيراً برسائلي، وفي بعض الاحيان كان علَيَّ في بعض الاُمور المهمّة أن أذهب إلي قم فألتقي به، وكان يدور بيننا الحوار والمشاورة؛ وعلي هذا الاساس كانت طريقة عملنا. ولقد استمرّت قضيّة مجالس المحافظات والمدن لمدّة شهرين، وكانت إيران خلال تلك الفترة في حالة ثورة بين المتديّنين وعناصر الدولة، وآلت الاوضاع إلي عقد اجتماع في مسجد الحاجّ السيّد عزيز الله في طهران، علي أن يأتي آية الله البهبهانيّ ويلقي كلمة، ولاهمّيّة المسألة فقد جاء آية الله البهبهانيّ وشارك في ذلك الاجتماع وتحدّث بالمناسبة. وكان القرار الذي أقرّته الدولة مخالفة للإسلام، فتقرّر ـ في هذا الاجتماع أن يحتشد الناس في المسجد لاتّخاذ موقف أكثر شدّة تجاه ذلك القرار في حال عدم إلغائه حتّي يوم الخميس القادم. كان القرار الرسـميّ مخالفاً للإسـلام، مخالفاً للقانـون الاساسـيّ، وبمثابة قراءة الفاتحة علي كلّ شيء ظاهراً وباطناً. والخلاصة فإنّ الدولة لم تَرَ بُدّاً ـ وقد باتـت كمن يُمسـك أحد بعُـنقه من أن تبـادر في ليـلة الخميس التي تقرّر أن يجتمع الناس صبيحتها في المسجد لاتّخاذ ما يلزم، فيبعث أسد الله عَلَم برقيّةً يُعلن فيها إلغاء القرار الرسميّ، ويصرّح بعدم قابليّته للتنفيذ، ويطلب إخبار السادة الاعلام بذلك، ولذلك فقد أصدر في تلـك الليـلة آية الله الحـاجّ الشـيخ محـمّد تقـي الآمليّ وآية الله الحـاجّ محمّد رضا التنكابنيّ ـ من رؤساء علماء طهران منشوراً بالمناسبة، ففهم الناس ولم يذهبوا صباح ذلك اليوم إلي مسجد الحاجّ السيّد عزيز الله. ثورة الملك والشعبإلي هنا كان النصر حليف الإسلام والعلماء والفقهاء، وباءت الدولة بالفشل والخيبة، لانّ الناس واجهوا الحالة بالتلاحم والتآزر؛ لكنّ رموز الدولة لم يقرّ لهم قرار بعد هذا الفشل الذريع جرّاء ضربة الجماهير القاصمة لهم، فراحوا يعملون بالخفاء في رسم خطط المواجهة الآتية، فيما كان المجلس معطّلاً لاسبابٍ ما، وطالت مدّة التعطيل. قالوا: علينا البحث عن مخرج، فجاؤوا باسم الاستفتاء العامّ وباسم ثورة الملك والشعب في السادس من بهمن بعدد من الجنود والقوّات الخاصّة متنكّرين بزيّ الفلاّحين وجلبوهم إلي قم، وقالوا: هؤلاء فلاّحون، جاؤوا إلي قم لإحقاق حقوقهم. لقد جلبوا كلّ هؤلاء، ووضعوهم في الصحن المقدّس وهم بزيّ الفلاّحين، في حين أ نّهم من القوّات الخاصّة جُلبوا من طهران بحافلات النقل العسكريّة، وأوهموا الناس بأ نّهم من فلاّحي قري كَهَك قم والمناطق المحيطة بها، وبعد أن دخل هؤلاء الصحن المقدّس شرعوا برفع شعار: يحيا الملك، الحياة والخلود للملك، فكان ذلك هو ثورة الملك والشعب! ومن ثمّ أعلنوا بعض موادّ ثورة الملك والشعب، قالوا فيها: ثورة الملك والشعب كذا وكذا و... ثُمّ أقرّوا تلك الموادّ بعد أن أضافوا لها موادّاً أسوأ منها، ومرّروها علي الناس في قرار رسميّ يحمل اسم ثورة الملك والشعب، والثورة البيضاء. وكان من اللازم ـ من أجل أن تحصل جميع هذه الممارسات علي السمة القانونيّة استحصال الموافقة التامّة المرتبطة بتشكيل المجلس وانتخاب أعضائه؛ لذا... فقد خصّصوا يوماً للانتخاب امتدّ من الصباح حتّي الغروب، علي الرغم من مقاطعة الناس وعدم ذهابهم إلي صناديق الاقتراع سوي أفراد القوّات المسلّحة، وكان العسكريّون يرتدون الملابس العاديّة ويتنقّلون عبر حافلاتهم بين الصناديق للإدلاء بأصواتهم، وكنتُ من الشاهدين علي القضيّة؛ وبهذه الكيفيّة تمّت عمليّة الانتخاب، علماً بأنّ جميع العلماء أعلنوا بأنّ الانتخابات محرّمة، وأنّ التصويت ممنوع شرعاً؛ وعليه فقد بات وضع النوّاب المنتخبين معلوماً، وما أن عُقِد المجلس حتّي وافق النوّاب علي جميع الموادّ العشر إلي الاثنتي عشرة، وبدأ العمل بتطبيقها؛ ثمّ مارسوا ضغوطاً شديدة علي الناس، واحتجّوا عليهم بأنّكم قلتم سابقاً: لا يوجد مجلس، وبدون المجلس لا يمكن المصادقة علي قرار من الناحية القانونيّة. أمّا الآن، فقد شكّلنا مجلساً، ونوّابه أصليّون مُسَلَّم بهم، وقد صادقوا جميعهم علي ثورة الملك والشعب هذه، فماذا تقولون الآن؟ وليس ثمّة من معني بعد الذي جري لما يقوله سماحة آية الله الخمينيّ وآية الله الكلبايكانيّ. نعم، لقد رأينا أنّ الاوضاع باءت إلي الاسوأ، وأنّ أُولئكم سرقوا بالمكر والخديعة ـ وخلال شهور عديدة جميع تلك الجهود. ارجاعات [1] الآية22، من السورة58: المجادلة [2] الآية13، من السورة61: الصفّ
|
|
|