|
|
الصفحة السابقةلقاء المؤلِّف بآية الله الخمينيّ في قمذات يوم من أيّام شهر رمضان، قلتُ لاحد الرفقاء: لنذهب إلي قم ونري ما هي أحوال السادة الاعلام هناك؟ وما عندهم من مواقف؟ فذهبت إلي قم مع صديقي الذي كان من العلماء ـ وهو الآن علي قيد الحياة، وقد بات عجوزاً، فحللنا في منزل عديلي سماحة السيّد هادي الروحانيّ، وكان بيته قريباً من بيت آية الله الخمينيّ، وبعد الإفطار وأداء صلاتي المغرب والعشاء ذهبنا إلي بيت آية الله الخمينيّ، فتجاذبنا أطراف الحديث في مواضيع مختلفة، وأخيراً قلتُ: والآن ما العمل؟ ماذا تريدون أن تفعلوا؟! قال: أخبِرونا أنتم ما العمل. نعم، ماذا نفعل؟ فقلتُ: مادام هؤلاء قد مارسوا كلّ ضغوطهم وتوصّلوا إلي ما أرادوه، فلا ينبغي علينا الجلوس، فكما خطّط هؤلاء، علينا أن ندخل الميدان من باب أُخري، إذ لا يصحّ أن نبقي هكذا. قال: نعم، فما العمل في رأيكم؟ قلتُ: ألم يقل القرآن: وَعَدَ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرْضِ؟ قال: يا سيّد! هذا متعلّق بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا يتعلّق بنا! فقلتُ: يا سيّد! لنأخذ مجاز الآية، فربّما تلطّف علينا الله تعالي بقبول أعمالنا علي المعني الحقيقيّ؛ فسيروا والناس معكم إن شاء الله. وكان آية الله الخمينيّ في ذلك الوقت محطّ الانظار إثر ما أصدره من منشورات، ولذلك غطّي علي البقيّة، وعلي الرغم من قوّة ومتانة منشورات آية الله الكلبايكانيّ إلاّ أ نّها لم تحضَ بتلك الحيويّة التي امتازت بها منشورات آية الله الخمينيّ، أمّا منشورات الآخرين فقد كان الغالب عليها البساطة، لكنّ منشورات آية الله الخمينيّ كانت حيّة ومحفّزة. لذا قال لي: حسناً، قولوا أيّ نوع من المنشـورات أُصدر؟ وكانت وجهة نظره كالآتي: ينبغي أوّلاً أن نقوم بتربية وتهذيب الروحانيّين، ومن ثمّ تربية وتعليم الناس؛ وقال: إذا لم ينتظم عمل الروحانيّة ولم يتهذّب الروحانيّون، فليس بالإمكان ترغيب الناس. قلتُ: اكتبوا منشوراً معنوناً إلي المسلمين، تقولون فيه: أيّها المسلمون! يا أهل هذا البلد! هلمّوا وانهضوا؛ ولا تكتبوا: الروحانيّون كذا وكذا، فأنا وأنتم علي علم بأنّ بعض روحانيينا فاسدين، وهذا ما تقبلونه أنتم أيضاً، فذلك الروحانيّ ـ علي سبيل المثال الذي ذهب إلي النجف الاشرف للدراسة وقضي أربعين سنة في تلك الاجواء الصيفيّة الحارّة وتحمّل تنفّس ذلك الغبار القاتل، وأمضي الايّام في أعماق تلك السراديب ذات الاربعين درجة يقرأ ويطالع من أجل أن يصبح ذات يوم مرجعاً، فإنّه لا يأتي ذلك اليوم الذي يعطيكم فيه يده من أجل الله وفي الله، إذ كيف يحصل ذلك وقد قضي أربعين سنة في البحث والدرس، وقدّم ما قدّم من الجهود من أجل الرئاسة لا رضا الله. ولا أقصد الغالبيّة بكلامي، بل أقصد أنّ ثمّة أشخاص علي هذه الشاكلة، وهم غير مستعدّين بأيّ وجه من الوجوه للعمل من أجل الحقّ، كما لا يمكنكم إصلاح الروحانيّين ثمّ الانتقال إلي الآخرين، ( حيث كان يقـول: ينبـغـي إصلاح الروحـانيّـين أوّلاً ) لا، لن تتـمكّنـوا مـن ذلـك فالروحانيّون لا يفسـحون لكم مجالاً. فذلك الشـخص الذي تحمّل مرارة تلك السنين المتمادية من أجل أن يتسلّم زمام القيادة اليوم، لا يأتي ويقبل الامر الإلهيّ، فنفسه لا تخشع، ولا يمكنه أن يقبل الحقّ أبداً ما دام يتنافي مع مصلحته. فقال آية الله الخمينيّ: فما العمل؟ قلت: وجِّهوا نداءكم بصورة عامّة، وقولوا: أيّها المسلمون! أيّتها النساء! أيّها الرجال! وكلّ من يصل إلي سمعه هذا النداء ويري نفسه مسلماً فسوف يتحرّك؛ من أين نعلم أنّ الاشرار هم ليسوا أقرب إلي الله من هذا النوع من الروحانيّين؟ لقد نشأ هؤلاء البنات والاولاد المنحرفون في أجواء برامج مغلوطة، فهم لم يتربّوا، ومع ذلك ربّما عايشوا حالة المواجهة مع أنفسهم بإحساسهم حالة اقتراف الذنوب، فرغبوا بالتوبة علي إثر إحساسهم بالذنب، فتلك الراقصة قد جاءت من عائلة لا تصلّي ولا تصوم، بل يُشرب فيها الخمر، ثمّ دخلت المدرسة، ومن بين محيطَي البيت والمدرسة ذوَي التوجيه السقيم، تخرّجت تلك البنت لتكون راقصة، وربّما تأثّرت وتيقّظت من نداء الحقّ فتابت، أمّا ذلك الروحانيّ الذي لم يدرس إلاّ من أجل الرئاسة فيعتقد أنّ كلّ أفعاله صحيحة وتصبّ في رضا الله؛ فأيّهما يا تري أقرب إلي الله؟ نادوا بنداء الإسلام، وسيدعمكم الجميع ونحن من ضمنهم. فأنتم الآن واجهة التصـدّي وسيتجاوب الناس مع هذا النـداء وسينضـوون تحت هذا اللواء. أجل، فقد طال حوارنا في تلك الليلة الرمضانيّة الصيفيّة ما يقارب الساعتين، حيث استمرّ إلي حدود الساعة الحادية عشرة، وبعدها قفلنا أنا وذلك السيّد الذي أتيت معه راجعين إلي البيت بعد توديع سماحة الخمينيّ. خطاب آية الله الخمينيّ التأريخيّ في مدرسة الفيضيّةاستمرّ حوارنا مع آية الله الخمينيّ إلي ما يقارب الحادية عشرة، وقد بدأت نشاطاته تنطلق من أساسيّات ذلك الحوار، حتّي حصلت قضيّة مدرسة الفيضيّة، فأبدع فيها بذلك الخطاب التأريخيّ الخطير؛ أمّا الخطيب الذي تحدّث قبل السيّد الخمينيّ في ذلك اليوم ـ وهو من أقاربنا وكنت قد بعثته من طهران، ولا زال علي قيد الحياة ـ فقد وجّه خطاباً حماسيّاً مثيراً، وثمّ تواري عن الانظار. وقد بذل أفراد مديريّة الامن جهوداً كبيرة شملت جميع المدن الإيرانيّة في البحث عنه، لكنّ الفشل كان حليفهم؛ والله وحده يعلم ماذا كانوا سيفعلون به لو ألقوا عليه القبض. ولو أ نّهم أرادوا القبض علي آية الله الخمينيّ لاكتفوا بسجنه، أمّا بالنسبة لذلك المنبريّ العاديّ فلا يعلم سوي الله مدي ما سيناله من ألوان التعذيب بين زنزانات دائرة الامن، ولذلك فقد التجأ إلي إحدي قري طهران متنكّراً، وحصر نفسه في غرفة لمدّة ثلاثة أشهر بتمامها، وانشغل الجهاز الامنيّ في البحث عنه خلال هذه المدّة دون جدوي، فأذعنوا أخيراً إلي أ نّه قد تُوفّي أو تمكّن من الهروب إلي خارج الحدود الإيرانيّة؛ وبعد هدوء الاوضاع بدأ ذلك الشخص بالتردّد هنا وهناك متنكِّراً، فلمّا انتصرت الثورة عاد إلي ارتداء العمامة علي رأسه من جديد. أجل، فقد كانت كلمة آية الله الخمينيّ في مدرسة الفيضيّة في العاشر من المحرّم كلمة خطيرة جدّاً ـ وقد جلبوا لنا تسجيلها إلي طهران حيث ألقي الكلمة عصر يوم عاشوراء المصادف للثالث عشر من شهر خرداد وتمّ اعتقاله يوم الثاني عشر من المحرّم ( 15 خرداد ) في مدينة قم وجُلب إلي طهران. كما تمّ إلقاء القبض علي جميع العناصر الفعّالة في كافّة المدن الاُخري، فقد اعتُقل في شيراز كلّ من: الحاجّ السيّد عبد الحسين دستغيب، وسماحة مصباح الواعظ، وآية الله الحاجّ الشيخ بهاء الدين المحلاّتيّ، وابنه الحاجّ الشيخ مجد الدين المحلاّتيّ، واعتُقل في تبريز: آية الله الحاجّ السيّد محمّد علي القاضي، وفي زنجان: آية الله الحاجّ عزّ الدين إمام الجمعة، وقد تمّ إلقاء القبض علي هؤلاء وأودعوهم السجن لمدّة شهرين، وشمل الاعتقال الكثير من الشخصيّات، منهم آية الله الآذريّ الذي هو حاليّاً أحد أعضاء مجلس الخبراء الفعّالين، وكان يتردّد علي مسجدنا ـ مسجد القائم بعد صلاتَي المغرب والعشاء فيرتقي المنبر ويتحدّث بكلام مفيد جدّاً. وقد حدث أن اعتُقِل كلّ مَن ارتقي المنبر ليلة العاشر في جميع مساجد طهران، لكنّ الصدفة لعبت دورها بالنسبة لآية الله الآذريّ حيث حدث له طاري منعه من المجيء إلي المسجد في تلك الليلة، فأفلت من الاعتقال. نعم، كان من الشخصيّات الفاعلة، وقد اندفع للعمل بقلبٍ مفعم بالوازع الدينيّ الذي يحرّكه. جهود المؤلِّف الحثيثة لإطلاق سراح آية الله الخمينيّ من سجن الطاغوتأجل، فقد اقتادوا آية الله الخـمينيّ وأودعـوه في منطـقة ( عشـرت آباد )، حينها كنّا في طهران أثناء أحداث ( 15 خرداد )، يعني 12 محرّم ( فأنا لا أقول 15 خرداد )، وقد حصل ما حصل في الثاني عشر من المحرّم في طهران و ( ورامين ) وقم وبقيّة المدن... إلي ما شاء الله، والذي أصبح إجماله معروفاً لدي الجميع، فقد قُتِل في طهران بين عشرة آلاف إلي خمسة عشر ألف شخص، فكلّ من لبس السواد قتلوه، علماً بأ نّهم لم يرتدوا السواد لآية الله الخمينيّ، بل كان لبس السواد للإمام الحسين عليه السلام. كان عدد القتلي كثيراً، ممّا اضطرّ الحكومة إلي جمع الجثث وحفظها، وأجبروا مَن يريد استلام جثّة ـ من أهل القتيل علي دفع ثمن الرصاص الذي في جسد القتيل! فيسألون عن عدد الرصاصات التي أُصيب بها بعد أن عيّنوا مبلغاً لكلّ رصاصة، ولم يكتفوا بقيمة الرصاصة بل أضافوا إليها قيمة الإطلاقة بكامل محتوياتها مضافاً إليها مبلغ اندثار قطعة السلاح وأُجرة الرامي والناقلة، ولذلك كانت قيمة الرصاصة ـ مثلاً 500 تومان، 1000 تومان، 2000 تومان! وكانوا يقولون ـ مثلاً: لقد أُصيب ابنكم بثلاث رصاصات، فعليكم أن تدفعوا ثلاثة آلاف تومان بالتمام، وليس من حقّكم أن تأخذوا الجنازة قبل دفع المبلغ كاملاً. التفتوا! إنّها ليست بأُسطورة؛ وأخيراً فقد أودعوا آية الله الخمينيّ السجن، والآن... ماذا ينبغي أن نفعل؟ لقد وقفنا معه، وكنّا نتشاور في جميع الاُمور، وباختصار كنّا معاً علي الدوام، لكنّهم أخذوه الآن وعلينا العمل بكلّ ما يمكن لخلاصه. لم يكن ثمّة هاتف في بيتنا في ذلك الوقت، فذهبت من أجل ذلك إلي بيت أحد الاقارب، وبقيت هناك حتّي الليل منشغلاً بالاتّصال بكلّ مَن خطر علي ذهني. وقد قرّرنا في طهران أن يجتمع العلماء في مكان معيّن يتوجّهون منه إلي مديريّة الشرطة، لنقول لهم: إنّ الخمينيّ ليس وحيداً، فكلّنا معه، ونحن شركاؤه في الاتّهام، لا نّا كنّا معاً في كلّ شيء؛ وكان علينا جمع العلماء. لم يكن عند البعض هاتف، فأخبرناهم عن طريق بعض الافراد، أمّا من كان عنده هاتف فقد اتّصلنا به وأخبرناه بقرارنا، ولا أدري كم وصلت دفعات الاتّصال، أهي ثلاثمائة أو أربعمائة مرّة! رحم الله والد صاحب البيت المذكـور، لما قد سيتحـمّله في تسـديد فاتورة الهاتف جـرّاء ما قمنا به. والخلاصة، فقد اهتمّ علماء طهران بتلك الاتّصالات الهاتفيّة بجدّيّة، وعلي الاخصّ كبارهم، مثل: آية الله الحاجّ الشيخ محمّد تقي الآمليّ رحمة الله عليه، وآية الله سماحة الآشتيانيّ، وآية الله الحاجّ السيّد صدر الدين الجزائريّ، وآية الله الحاجّ السيّد محمّد علي السبط الذين كانوا يحضرون جلساتنا ويتعاونون معنا مباشرة، مضافاً إلي العلماء المعروفين من الطراز الاوّل في طهران، وشارك الجميع في ذلك اللقاء، واتّفقوا علي أن يكون الملتقي في بيت سماحة الحاجّ السيّد الخلخاليّ الواقع في شارع خراسان، وأن يذهبوا من هناك إلي مديريّة الشرطة، فيعرّفوا أنفسهم بالقول: نحن مع الخمينيّ، ولن ندعه لوحده. تقرّر جميع ذلك في الثاني عشر من المحرّم، علي أن يتمّ الحضور في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي ( الثالث عشر من المحرّم ) للذهاب إلي مديريّة الشرطة، وتقرّر أن أبقي في البيت ثمّ ألتحق بالركب، لا نّي كنت المحرِّك الاصليّ لكلّ ذلك. واجتمع في صباح اليوم الثاني جميع السادة، وكان سماحة الحاجّ الشيخ محمّد تقي الآمليّ ـ وهو أحد تلاميذ المرحوم القاضي البارزين في العرفان مضافاً إلي بعض أفراد المجلس الذين أتوا للتحرّك معنا، وكان عمّي آية الله الحاجّ السيّد محمّد تقي الطهرانيّ يسألني باستمرار عن موعد التحرّك، وكان يقول: أنا معكم أيضاً. وفي ذات الوقت كنت متهيّئاً للذهاب، ولم يكن أحد يعـلم متي سنرجع، بل هل سنرجع أو لا؟ فقلتُ لاهل البيت: أعدّوا الحمّام لاغتسل؛ فإذا ذهبنا ورمونا بالرصاص كنّا في حال غسل إنابة وتوبة إلي الحقّ المتعال، لانّ المعروف عن ظرف ذلك الوقت أنّ مَن يذهب، يذهب بلا رجعة، وكان في البيت الحاجّ هادي الابهريّ وبعض الرفقاء، وكان الحاجّ هادي منهمكاً بالتدخين من غليونه، وكان يذرف الدمع ويقول: هذا سيّدنا، أسفاً له. ـ وكان بكاؤه من أجلي وكرّر عبارة: أسفاً لسيّدنا هذا، أسفاً، ولكن ما في اليد من حيلة، وكان الحاجّ هادي يروم المجيء معنا بدوره، ويقول: علينا أن نذهب. أجل، كنّا علي وشك الخروج، وإذا بالخبر يصلنا أنّ أفراد مديريّة الشرطة حاصروا بيت سماحة الحاجّ السيّد الخلخاليّ وألقوا القبض علي مَن كان هناك وحملوهم إلي مديريّة الشرطة، لقد داهموا البيت واعتقلوا الجميع؛ كيف حصل ذلك؟ ثمّ قيل أنّ سماحة السيّد صادق شريعتمداري ـ وكان حاضراً في ذلك التجمّع كان قد اتّصل من ذلك المكان ببيت سماحة الشريعتمداري في قم، وقال له: نحن مجتمعون في المكان الفلانيّ وسنتحرّك بعد ربع ساعة أو نصف ساعة. وسواء كان هاتف سماحة شريعتمداري تحت المراقبة أم كان هناك أمر آخر، فقد اطّلع الجهاز الامنيّ علي محتوي المكالمة، فتمّت علي الفور محاصرة ذلك البيت من قِبَل ضبّاط ومراتب الجيش؛ وقيل: إنّ الضبّاط ارتقوا سطح البيت مدجّجين بالاسلحة، بينما كان العلماء يتحلّقون حول بعضـهم في غرف البـيت، فخاطـبهم الضـبّاط: ما الخـبر؟ لماذا أنتـم مجتمعون؟ تحيكون المؤامرات من هنا؟ وردّ العلماء: لا، لسنا متآمرين، فنحن لا نملك سيفاً، وليس عندنا الرصاص، ولا نبغي هجوماً؛ فطلبوا منهم في آخر المطاف الذهاب معهم إلي مديريّة الشرطة؛ فقالوا: ما اجتمعنا إلاّ للذهاب إلي مديريّة الشرطة، فقالوا لهم: سواء كنتم ترومون الذهاب أو لا، فسنأخذكم فوراً إلي هناك؛ ثمّ قاموا بتكديس الجميع في شاحنات النقل دون مراعاة لاعمار المعتقلين الذي تجاوز البعض منهم السبعين والثمانين سنة، ونقلوهم إلي مديريّة الشرطة. وكان صهرنا سماحة الحاجّ السيّد علي النقيّ الجلاليّ الطهرانيّ من الذين شملهم الاعتقال في تلك الواقعة. ثمّ قيل لهم هناك: علي أيّ شيء كنتم تتآمرون؟ قالوا: كنّا نريد أن نأتي إليكم لنقول لكم إنّ الخمينيّ ليس وحده، ولا تتصوّروا أنّنا سندعه وحيداً؛ كانوا يسـتجوبونهم في مديريّة الشـرطة واحداً تلو الآخـر، ثمّ يقولون لكلّ منهم: قم واذهب إلي بيتك، فنحن نقبض علي مَن نراه مجرماً لا علي من يدّعي ذلك! ثمّ أطلقوا سراح بعضهم واحتفظوا بالبعض لليلة أو ليلتين أو ثلاث ليالٍ، واحتجزوا بعضاً منهم لعدّة أسابيع، وأخيراً تمّ الإفراج عن الجميع. قضي بعض الافراد في الحجز عشرة أيّام، وبعضهم خمسة عشر يوماً، والبعض الآخر عشرين يوماً؛ وأخيراً نقلوا آية الله الخمينيّ إلي ( عشرت آباد )، فلم تثمر جهودنا المبذولة تلك سوي عرقلة محاكمته ميدانيّاً وتخليصه من عمليّة الإعدام السريعة. وقد سمعتُ من المذياع عصر يوم الثاني عشر من المحرّم ـ حينما كنت في البيت أنّ ( پاكروان ) ـ رئيس مديريّة الامن في ذلك الحين قال: لقد ثبت لنا أنّ أموالاً قد تسرّبت من خلف الحدود بواسطة شخص يُدعي علي جوجو وسُلِّمت إلي الخمينيّ من أجل القيام بثورة، وباختصار فقد ثبت لنا أ نّه مجرم ويجب محاكمته ميدانيّاً. وطبيعة المحكمة الميدانيّة أن لا تتجاوز الساعتين في إصدار حكمها بالإعدام، وقد أخبَرَنا بعض معارفنا من العسكريّين أن الاوضاع بين صفوف الجيش خطيرة جدّاً، حيث كانوا قد ألصقوا صور سماحة الخمينيّ علي جدران الثكنات بصورة مشوّهة وقبيحة وسيّئة، وأظهروه علي أ نّه إنسان مُفسِد ونالوا منه بالتهم والافتراء، كلّ ذلك من أجل تهيئة الاجواء فيما لو أرادوا إعدامه. رأينا أن نشاطاتنا لم تؤتِ ثمارها المرجوّة، إذ اقتصرت علي عرقلة مسير المحاكمة الميدانيّة فحسب؛ أمّا سماحته فقد نقل بعد قضائه ثلاثة أيّام في إحدي زنزانات النظارة، إلي سجن ( عشرت آباد ) حيث سُجِن شهرين كاملين في غرفة وسط المعسكر تحتوي علي طِنفِسة من غير فراش أو وسادة في انتظار صدور حكم إعدامه؛ وقد تأثّر كثيراً لحاله كلٌّ من آية الله سماحة الحاجّ السيّد أحمد الخوانساريّ وسماحة الحاجّ الشيخ أبو الفضل الزاهديّ القمّيّ بعد أن قاما بزيارته وتفقّد حاله. ورأينا أن من غير المـمكن أن نكـون من القاعـدين إلي أن يتـمّ إعدامه؛ وزبدة القول: قدّمنا كلّ ما بوسعنا من أجل تخليصه من الإعدام. رمز موفّقيّة المؤلِّف في ممارساته السياسيّةوعلينا هنا أن نشير بصورة مختصرة إلي رمز موفّقيتنا في مساعينا المشار إليها ونظائرها. وتوضيح ذلك أوّلاً: أ نّي انشغلتُ ـ بعد عودتي من النجف الاشرف إلي طهران في ربيع الثاني سنة 1377 ه في العمل العلميّ وصلاة الجماعة والخطابة والوعظ والتدريس وبيان المسائل والاحكام وتفسير القرآن الكريم في مسجد القائم الواقع في شارع السعديّ وهو مسجد أُسِّس في حياة المرحوم الوالد، وكان رحمة الله الواسعة عليه من المواظبين علي الصلاة فيه حتّي آخر عمره، مضـافاً إلي شدّة دأبه في بيان المسـائل والاحكام والتفسير. وكنتُ ـ علي دأب المرحوم الوالد ملتزماً ببيان شيء من التفسير في المسجد في كلّ ليلة بعد صلاتَي المغرب والعشاء، ومواظباً علي قراءة دعاء كميل في كلّ ليلة جمعة، وأمّا في ليالي كلّ ثلاثاء، فكان ثمّة دورة في التجويد وقراءة القرآن، ودأبتُ خلال شهر رمضان من كلّ سنة علي التحدّث لنصف ساعة، أتطرّق فيها إلي المسائل الضروريّة واللازمة، وكان حديثي بعد صلاة العصر، ثمّ أرتقي المنبر لإلقاء محاضرة مبسوطة تستمرّ بين ساعة ونصف إلي ساعتين تقريباً. وكنّا نُحيي ليالي الاعياد والمواليد، كليلة النصف من شعبان، والغدير، وليلة مولد الرسول الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم، وليلة مولد الإمام أمير المؤمنين والإمام سيّد الشهداء، ومبعث رسول الله ومولد الإمام الحسن المجتبي عليه السلام. وكنتُ في أغلب هذه المناسبات أرتقي المنبر لاُلقي كلمة بالمناسبة، وبالاخصّ في ليالي النصف من شعبان والغدير وميلاد رسول الله والمبعث، مضافاً إلي الخطب الحيّة عن تأريخ الإسلام والسيرة ونهج أُولئك العظام، وتعريف الناس بأوضاع الساعة، عن طلائع ظهور بقيّة الله الاعظم: الحجّة ابن الحسن العسكريّ عجّل الله فَرَجَهُ الشريف، لتوطئة الارضيّة المساعدة لظهور دولته، من خلال دعوة الناس إلي التقوي، وعمل الخير، وحماية القرآن الكريم، والامر بالمعروف، وتشكيل حكومة الإسلام، وتطبيق أحكام القرآن، والنهي عن المنكر والترهيب من المفاسد والقبائح والاعمال المشينة المخالفة للدين، والترغيب في مواجهة الظلم والعدوان وتحطيم صروح الظلم وإعلاء راية العدل، ونظير هذه الاُمور. كان أغلب المتردّدين علي مسجد القائم ليس من سكنة المنطقة، وكانوا يأتون من مناطق بعيدة، وأغلبهم من الناس الواعين ومن الشباب المتديّن الغيور علي سمعة دينه؛ وكان من برامجنا دورة للقرآن تبدأ منذ ثلاث ساعات قبل الظهر كلّ يوم جمعة، وكنتُ أعطي للناس دروساً في التفسير والعقيدة من قبل الظهر بساعة ونصف حتّي الظهيرة، يتطرّق الحديث فيها إلي كثير من المواضيع الحِكَميّة والفلسفيّة والعرفانيّة، وعند تمام ساعة الظهر نقوم مع الجمع الحاشد في المسجد وباحته بأداء الصلاة جماعةً، ومن ثمّ يتفرّق الناس. وكنتُ في جميع المناسبات الدينيّة، مثل ليالي القدر، وعاشوراء، ووفاة خاتم الانبياء صلّي الله عليه وآله وسلّم ملتزماً بإلقاء كلمة بالمناسبة، وكان عنوان الاُخوّة هو الرابط بيني وبين أُولئك الناس من ذوي الغيرة والإحساس وأُولئك الشباب المهذّبون؛ إذ لم تكن الخطب والمواعظ من باب الإلزام والتكليف ولا أُزاولها كمهنة، فلهذا كان ما يجمعني وإيّاهم الاُنس والارتياح المتبادل. وثانياً: كان عدد الخطباء المعروفين محدوداً آنذاك، وكان لكلٍّ منهم مجلسه الخاصّ، فكان يعسر عليهم تلبية دعوتنا لهم؛ أمّا الخطباء غير المعروفين فمن الصعب عليهم ارتقاء منبر كمنبرنا، والتحدّث مع الجمع الغفير المحتشد، ناهيك عن حضور أساتذة الجامعة والمدراء والمسؤولين بين ذلك الحشد. وثالثاً: أنّ رغبة العامّة في دعوة الوعّاظ والخطباء كانت ملحّة، لكنّها محفوفة ببعض السلبيّات، فالخطيب يتناول الحديث فيما يراه مناسباً، لا فيما نريده نحن. كما أنّ المواضيع المنتخبة السائدة بين الخطباء حينذاك لا تتماشي مع منهجيّتنا، ولا تنسجم مع البرنامج المعدّ لرقيّ الطلاّب والشباب، كما أ نّنا لم نحصل علي نتيجة ملموسة خلال عقد من الزمن من جرّاء دعوة الوعّاظ، بل أتعبوا الناس وأصابوا الافكار والمعنويّات بالخمول. لذا، فقد حمّلتني هذه المسألة مسؤوليّة كبيرة، فاضطررت إلي الوعظ والخطابة حتّي الايّام الاخيرة، علي الرغم من كبر سنّي وحاجتي الملحّة للاستراحة، حيث كنتُ أتواجد في عيدَي الفطر والاضحي وشهر رمضان وسائر أيّام المناسبات الاُخري علي الرغم من المشقّة الكبيرة، وكنتُ مضطراً إلي الخطابة في بعض الايّام مع أنّ المشقّة كانت تصل إلي حدّ العسر والحرج. وعلي أيّة حال، فقد كنّا ندعو الناس إلي الإسلام الواقعيّ والحقيقيّ، وكان هذا الامر يستدعي المواجهة مع الجهاز الحاكم، الذي كان يريد للناس أن يبقوا مشغولين، وأن تُحجب الحقائق وفهم المجريات عنهم، ولذا فقد كنّا في صراع دائم مع المتصدّين للاُمور الداخليّة وإدارة المسجد في خصوص دعوة الوعّاظ، والله وحده يعلم كم عانيت خلال تلك المدّة ـ البالغة أربعاً وعشرين سنة، منذ تأريخ عودتي من النجف إلي طهران من أُولئك الاشخاص وكم واجهـت من المشـاكل والصـعاب غير القابلة للتحمّل. ونغلق هذا الملفّ الآن، في انتظار يوم العدل وموقف جلالة ربّ العزّة، لنري أيّة أسرار ستكشف؟ وما تلك المسائل التي كانت قابعة وراء الاستار؟ كان ثَمَّ أمران مهمّان في تأييد وتسديد الباري سبحانه لحفظنا، الاوّل: كنّا خلال تلك المدّة الطويلة نرتقي المنبر ونتكلّم في العموميّات في التفسير، وفي الخطب، وفي بيان التأريخ وسنن رسول الله والائمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، ولم نتناول أيّة شخصيّة بالنبز أو الانتقاد؛ وكان تفسيرنا يتطرّق إلي آيات الجهاد والنهوض والحركة، وتبيان أخلاق رسول الله، من غير أن نتهجّم علي الملك والبلاط ورئيس الوزراء والوزراء وأمثالهم، إذ لو حصل ذلك لما تمكّنّا من الاستمرار في العمل، ولتمكّنوا منذ البدء بإجهاض مشاريعنا. فلهذا كان من اللازم بيان العموميّات، وذكر التطبيقات التي لا تثير مداهمات الجهاز الامنيّ، للوصول إلي ما عقدنا عليه النيّة في تربية الناس ـ والشباب خاصّة وبيان المفاهيم الرساليّة. وكان هذا الامر مهمّاً جدّاً. فمثلاً، أقمنا احتفالاً في مسجد القائم بمناسبة النصف من شعبان في سنة 1378 ه، وزّعنا فيه أربعة آلاف نسخة من منشور التبريك ـ علي الصورة المدوّنة أدناه ولم نكتفِ بتوزيعه علي الحاضرين في الاحتفال وإرساله إلي الشخصيّات المهمّة، بل أرسلنا بالبريد كمّيّة منه إلي العلماء والفضلاء في النجف وكربلاء والكاظميّة، كما أرسلنا كمّيّة منه إلي الكثير من علماء إيران في المدن المختلفة. منشور التبريكوأدناه ترجمة منشور التبريك: بسم الله الرحمن الرحيم نبارك لجميع مسلمي العالم بذكري الولادة المباركة لقائم آل محمّد: الحجّة ابن الحسن المهديّ العسكريّ عجّل الله فرجه الشريف. اللهمّ اجعل هذه الذكري مباركة للجميع، واجعل سلوكهم حسناً، وأحيي قلوبهم، وانصرهم في إعلاء كلمة التوحيد الحقّة والحفاظ علي حياض قانون الإسلام المقدّس وراية العدل. اللَهُمَّ إنَّا نَرْغَبُ إلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الإسْلاَمَ وَأَهْلَهُ وَتُذِلُّ بِهَا النِّفَاقَ وَأَهْلَهُ وَتَجْعَلُنَا فِيهَا مِنَ الدُّعَاةِ إلَي طَاعَتِكَ وَالقَادَةِ إلَي سَبِيلِكَ وَتَرْزُقُنَا بِهَا كَرَامَةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. من مجموع الاخبار والاحاديث المتواترة الواردة حول ظهور الإمام وليّ العصر أرواح العالمين له الفداء نفهم بأنّ ظهور الإمام يكون في وقت تملا فيه الارض ظلماً وجوراً، وأ نّه يتزامن مع تهيئة الاجواء لذلك الظهور من خلال إيجاد العدد الكافي من الانصار والاصحاب لنصرته، أي: في نفس الوقت الذي يُهَدَّد فيه هذا العالم علي سعته من قِبَل جماعات عديدة ـ وهي الاكثريّة بالظلم والعدوان، فثمّة جماعة ـ تمثِّل الاقلّيّة تقف أمامها راسخة الإيمان، وهي ذات عقيدة ثابتة، صامدة، مضحّية، مجاهدة، علي أتمّ استعداد لنصرته. وقد أُشير إلي ذلك في كتاب « الاحتجاج » ضمن توقيع الإمام المهديّ للشيخ المفيد رضوان الله عليه في قوله عليه السلام: وَلَوْ أَنَّ أَشْيَاعَنَا وَفَّقَهُمُ اللَهُ لِطَاعَتِهِ عَلَي اجْتِمَاعٍ مِنَ القُلُوبِ فِي الوَفَاءِ بِالعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَمَا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ اليُمْنُ بِلِقَائِنَا. لذا أصبح لزاماً علي جميع العشّاق المولهين بظهوره، والظمأي للماء المعين، والمتطلّعين إلي اهتزاز لواء الحقّ وراية دولته أن يهتمّوا ـ بإرادة قويّة وفكر حُرّ متطلِّع بإرشاد الناس إلي حقائق الإسلام وعلوم القرآن الكريم الرفيعة، حتّي تُبثّ الروح في النفوس تدريجيّاً وتصبح مهيّئة للنفـحات الباعثة علي الحـياة... اللهمّ نوّر عيـون العالمـين برؤية وجـهه المنير. اللَهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ ابْنِ الحَسَنِ صَلَوَاتُ اللَهِ عَلَيْهِ وَعَلَي آبَائِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيَّاً وَحَافِظاً وَقَائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْنَاً حَتَّي تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً. نسألُ الله تعالي أن يوفّقنا وجميع إخواننا لما يحبّ ويرضي. السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
بملاحظة نصّ المنشور بدقّة، يظهر مدي سعينا في توسعة الطرق الصحيحة لنهضة وتحرّك الجماهير، ولكيفيّة المواجهة في زمن الاختناق المذكور، فقد ذكّرنا من خلال منشور التبريك بمواضيع مهمّة وأساسيّة ودقيقة ومحطّ تأمّل، ووجّهنا من خلاله ـ في الوقت ذاته دعوة عامّة إلي تهذيب الاخلاق، والعمل بالقرآن، وحفظ وإعلاء كلمة التوحيد الحقّة، والحفاظ علي حياض قانون الإسلام، توطئةً لظهور دولة إمام الزمان الحقّة. ومن المعلوم أنّ الجهاز الحاكم سيعجز عن العثور علي ثغرة في المنشور يعدّها دليلاً علي مخالفته. وفي السنة التي سبقت تلك، أي في النصف من شعبان 1377 ه ـ قبل اثنتين وثلاثين سنة، المصادفة للسنة الاُولي من هجرتي من النجف الاشرف إلي طهران طبعت ( 14 ) ألف نسـخة من منشـور تبريك بعـدّة صفحات ذات إطار جميل جدّاً مزيّن بخمسة ألوان، كُتِبَ في وسطه سطر عريض بخطّ النستعليق، يحمل عبارة: يَا حُجَّةَ ابْنَ الحَسَنِ المَهْدِيِّ. وعلت الصحفة عبارة: اللَهُمَّ إنَّا نَرْغَبُ إلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ... إلي: وَتَرْزُقُنَا بِهَا كَرَامَةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وجاء في أسفلها الترجمة الفارسيّة للعبارة المذكورة في صدر المنشور، كما في منشور سنة 1378 ه. وقد وُزِّعَتْ تلك النسخ ـ بذلك العدد المذكور في طهران وبعض المدن، وطُلِـبَ من الناس فيـها المحافـظة عليـها وتعليقـها علي جـدران المحلاّت والمكاتب والبيوت في إطار مناسب. ويشاهد الآن ذلك المنشور معلّقاً في الكثير من البيوت، فهل التفتّم إلي دقّة معني ومحتوي ذلك، وكيفيّة تحريكه للناس من أجل إعلاء حكومة الإسلام الحقّة؟ نعم، فقد كان علي صورة ترجمة دعاء يُقرأ في الليالي الرمضانيّة، وبصورة دعاء ينبغي قراءته لتعجيل فرج الإمام بقيّة الله، الذي ينبغي أن يكون أُمنية كلّ شيعيّ ومسلم. من المعلوم أ نّه ليس بإمكان الجهاز الجائر أن يمنع صراحةً أو يسجن أو يعدّ ملفّات الإجرام لهكذا أنشطة. أجل، كانوا يعملون علي محاولة إحباط هذه المجالس بصورة غير مباشرة. لتلافي آثارها المتوقّعة. ففي ليالي بعض الاحتفالات، نراهم يقطعون التيّار الكهربائيّ في المحلّة من دون سبب، أو يأتون إلي المجلس ليُحدثوا الضوضاء والمضايقات، ونظائر هذه الاُمور، وقد استمرّوا علي هذا المنوال حتّي الايّام الاخيرة، وكانت ممارساتهم من الكثرة بحيث تشمئزّ منها النفوس ويضيق الصدر من ذكرها. وكان إعلامنا لدرجة عالية من الوضوح والإثارة والإيقاظ، وفي الوقت ذاته كان منطقيّاً بحيث لم يعطِ للسلطة ما تتذرّع به حتّي سُمِعَ أ نّه في أحد مجالس الاحتفال بذكري مبعث خاتم النبيّين صلّي الله عليه وآله وسلّم في مسجد هدايت ( = الهداية ) الواقع في شارع إسلامبول، وهو من المجالس المهمّة المهيبة ـ كان حجّة الإسلام المرحوم الحاجّ السيّد محمود الطالقانيّ رحمة الله عليه إمام جماعة ذلك المسجد، وهو من أعلام تلك الجماعة وخطيبهم أنّ الخطيب أعلن بصراحة بأ نّه: لم يسبق أن طرق سمعنا صوت ينادي بإيقاظ الناس وتحذيرهم في جميع مساجد طهران، حتّي جاءنا النداء الاوّل من مسجد القائم هاتفاً: اللَهُمَّ إنَّا نَرْغَبُ إلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الإسْلاَمَ وَأَهْلَهُ وَتُذِلُّ بِهَا النِّفَاقَ وَأَهْلَهُ وَتَجْعَلُنَا فِيهَا مِنَ الدُّعَاةِ إلَي طَاعَتِكَ وَالقَادَةِ إلَي سَبِيلِكَ. ويمكننا أن نعدّ الامر الثاني الذي كان له الدور الكبير في أعانتنا علي سرعة التقدّم ـ وهو من الالطاف الخفيّة للباري سبحانه هو: أنّ جميع انشطتنا وتعاضدنا من أجل إسقاط الحكومة الجائرة إنّما تمّت بسرّيّة تامّة، فلم تتمكّن الدولة وجهاز السافاك ( مديريّة الامن ) من الاطّلاع علي ما نقوم به بأيّ وجه من الوجـوه، سوي حالة جزئيّة بسـيطة قدّموا لها مقـدّمات لا تخطر بالذهن؛ وقد أيقظتنا تلك المسألة إلي ضرورة مراعاة السرّيّة التامّة في العمل في هذه المواقع، بحيث نضع في الحسبان احتمال وصول الامر إلي الجهاز الحاكم حتّي وإن تعدّدت الوسائط، وإلاّ باء العمل بالفشل وآلت النتيجة إلي العقم. والله تبارك وتعالي هادينا في هذا المجال، ولولا عنايته لانتفت ثمرات جهودنا؛ وإذا كُشِف ارتباط الاشخاص الحركيّين وكيفيّة العمل، فسنتحمّل حينها مسؤوليّة دنيويّة وأُخرويّة. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. هنا، بان لنا كوضوح الشمس معني دعاء: إلَهِي لاَ تَكِلْنِي إلَي نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ!
أَعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ وَصَلَّي اللَهُ عَلَي سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَي أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ
وصل بنا الحديث إلي أنّ القصد من اعتقال سماحة آية الله الخمينيّ هو إعدامه، عن طريق محاكمته ميدانيّاً وإصدار الحكم الفوريّ بالإعدام؛ وتعتبر هذه القضيّة من القضايا المهمّة جدّاً، إذ لم يسبق لهم أن اعتقلوا مرجعاً من أجل إعدامه، فصحيح أ نّه لم يصل درجة المرجعيّة التامّة في ذلك الوقت، لكنّه كان قد حظي برتبة المرجعيّة بين مراجع النجف وإيران. بقيت الدولة ومديريّة الامن ( السافاك ) في انتظار الفرصة المناسبة لتنفيذ ما عزمت عليه، فلم تتهيّأ لهم تلك الفرصة بعد أن وصلت الاُمور إلي طريق مسدود، فلم يتمكّنوا من عمل أي شيء مضادّ لسماحته، وبذات الوقت لم يتمكّنوا من إقناعه بالسكوت أو انتهاج طريق المصالحة مع الدولة، ولذا عمدوا إلي محاولة إسقاطه عبر وسائل الإعلام، وافتروا عليه بمختلف ألوان الكذب والبهتان من خلال الجرائد والمحطّات الإذاعيّة التابعة لهم، راجين من ذلك إسقاط سمعته أمام الناس ليتمكّنوا من تنفيذ حكم الإعدام. بعد أن شاهدنا عدم جدوي تشكيل تلك الجلسة التي كان الغرض منها ذهاب العلماء إلي مديريّة الشرطة، إذ قابلتهم مديريّة الشرطة بعنوان غير مجرمين؛ قلنا: حسناً، ماذا يجب أن نفعل؟ في ذلك الوقت كان آية الله الميلانيّ شخصيّة بارزة ومرموقة في مدينة مشهد، وكان لنا معه سابقة يطول الحديث عنها، وكنتُ أكتب له في بعض الاحيان بعض الرسائل، وكان يعمل بكلّ ما أكتب له، وقال لي: كنتُ احتفظ ببعض رسائلك لكي أُطالعها مراراً، وذات مرّة قال للحاجّ هادي الابهريّ ـ المعروف بيننا: إنّه ( يقصدني ) كثير ما يستشهد بالآيات القرآنيّة في رسائله، فهل هو حافظ للقرآن؟ فقال الحاجّ هادي: لا علم لي بذلك، ولكنّي أعلم أ نّه يقرأ سورة الجمعة في الصلوات اليوميّة أيّام الجُمَع في المسجد. أجل، أرسلـتُ في ذلك الوقـت السـيّد الحاجّ حسـن معين ـ أخو زوجتي، وهو من الطلبة المخلصين الصادقين الطيّبين، وأحد المنضوين بين صفوفنا إلي مشهد لكي يطلب من آية الله الميلانيّ المجيء فوراً إلي طهران! فذهب السيّد حسن في حافلات السفر العامّة إلي مشهد، وفي الطريق بين مدينتَي سبزوار ونيشابور توقّفت الحافلة قرب إحدي المقاهي للاستراحة وتناول الغذاء، ومن غير معرفة سابقة يأتي أحد المسافرين ويجلس جنب السيّد حسن فيبادله الحديث بحرارة، وكان ذلك الشخص أحد أفراد الجهاز الامنيّ جاء بمهمّة تجسّسيّة؛ ومن خلال الحديث قال السيّد حسن: نعم، أنا الآن أُريد السفر إلي مشهد، وأروم اللقاء بآية الله الميلانيّ بسبب المجريات السالفة الذكر؛ فأظهر ذلك الرجل تأسّفه، وقال بأنّ هذا الامر لازم جدّاً لما حلّ بالمسلمين من مصيبة كبري. ولكن، بمجرّد وصول السيّد حسن مدينة مشهد أُلقي القبض عليه وأُودع في السـجن لمدّة أُسبوع، ثمّ أطلقـوا سراحه دون أيّة مقـدّمة، أمّا آية الله الميلانيّ فقد اتّجه إلي مطار مشهد دون أن يحجز مسبقاً بطاقة سفر لئلاّ يلتفت إليه الجهاز الامنيّ، وحصل علي بطاقة سفر من المطار، وارتقي الطائرة، وحلّقت الطائرة وتجاوزت أجواء مشهد، لكنّ الاوامر صدرت للطيّار وهو بين مشهد وطهران بالعودة إلي مطار مشهد! أجل، رجعت الطائرة إلي مشهد وحطّت مع جميع ركّابها علي أرض المطار. ومن جهة أُخـري فقد شـرعوا من ذلك اليوم بتشـكيل إضـبارة لآية الله الخمينيّ، وسوّدوها بمختلف الاتّهامات السيّئة. قيل: إنّ الطابع الحاكم في الجيش هو أن ليس ثمّة من محاكمة بعد الاستجواب وتشكيل إضبارة الاتّهام، بل المعروف هو إصدار الحكم ومن ثمّ تشـكيل الإضـبارة؛ فيُقال لمن يُراد إعدامه: إنّ هذا قد حُكِمَ بالإعدام، ثمّ يبدأون تشكيل الإضبارة التي تستمرّ بشكلٍ آليّ حتّي الوصول لحكم الإعدام، وكانوا يعرفون جيّداً كيف يُنَظِّمون الإضبارات. قضيّتا المرحوم طيِّب والمرحوم الحاجّ إسماعيل رضائيومن الاشخاص الذين انتفضوا في طهران في الثاني عشر من المحرّم ( الخامس عشر من خرداد ): طيِّب والحاجّ إسماعيل رضائي، وهما من الشخصيّات المعروفة في طهران، فالحاجّ إسماعيل رضائي هو الذي جلب ناقلة حمل كبيرة مليئة بالخشب إلي جنوب المدينة ووزّعه بين الناس المتهيّئين للمواجهة مع الدولة. قيل عنه: إنّه رجل متديّن جدّاً، ومن المواظبين علي صلاة الليل، وإنّه لم يقُم بذلك العمل إلاّ غيرة علي دينه، وقد حكموه بالإعدام، فقُتِل. أمّا طيِّب فقد كان من شقاوات طهران المعروفين، وكانت ثمّة مجموعة تعمل تحت إمرته، وكان يأخذ الاتاوات بالإجبار من المحلاّت، وله الكثير من أمثال هذه الممارسات، ولكنّه ـ في الوقت ذاته صاحب مجلس عزاء حسينيّ منظَّم وموزون في أيّام المحرّم، كما كان له موكب حسينيّ معروف، ومن دأبه أن يذبح الابقار أمام مسير موكبه. انتفض طيِّب ضدّ الدولة في الخامس عشر من خرداد وقام بتحريك الناس، أي وزّع جميع أفراده العاملين تحت إمرته في الشوارع وهم يرفعون الشعارات المضادّة للدولة. وقد قتلت الدولة كلّ مَن قدرت عليه وتمكّنت من إلقاء القبض علي طيِّب. يُوصَف طيِّب بأ نّه ( لم تسبق لي رؤيته، لكنّ صوره حاكية عنه ) طويل القامة، ضخم الجثّة، قويّ البنية، وباختصار فهو شبيه شعبان الجعفريّ المعروف في طهران باسم شعبان تاج بخش؛ وكان وليّ العهد وكبار رجال الدولة يحضرون في مجالس طيِّب الحسينيّة، ويذهبون إلي ناديه، وكان هو أيضاً آمراً وناهياً، وتراه في أمره ونهيه وكأ نّه ملك طهران. ويعتبر مقر تواجد طيِّب ركناً من أركان طهران، حتّي أ نّه في حفل التتويج قد نصب الزينة وجلب النساء وأقام الحفلات الراقصة، فقد كان من هذا النوع من الرجال أيضاً؛ فهو ليس بالرجل المتديّن مائة في المائة، ونحن لا نعلم إلاّ ظاهره، والله العالم ببواطن الاُمور. وبسبب غيرة طيِّب الدينيّة فقد انتفض، وتحمّل ألوان التعذيب بسبب ذلك؛ وقيل له: قدِّم إقراراً بأ نّك قد استلمت مبلغاً من السيّد الخمينيّ، وإذا فعلت ذلك فلا نرفع عنك حكم الإعدام فحسب، بل سنعيد إليك كلّ ما فقدته من جهاز وأُبّهة وزعامة وتأريخ، وسنفسح لك المجال رحباً لتعود علي ما كنت عليه بالسابق أو أكثر. ولكنّ طيِّب قال لهم: لا أفعل ذلك. فقيل له: لماذا؟ قال: أنا لم أستلم مبلغاً، وأنا لا أتّهم السيّد. قيل له: ما هذا الكلام يا أحمق؟! فالآدميّ هو الذي يُطَوِّر نفسه إلي الاحسن. فقال: لم أستلم مبلغاً، ولا أتّهم أحداً. وكلّ ما ستقولونه لي سأفعله، قولوا كلّ ما تريدون وسأُنفذه لكم، لكنّني لا أستطـيع أن أُلصق التـهم بالآخـرين، وأنا لا أتّهمُ السـيّد لا نّي لم أستلم منه مبلغاً. وضعوه في الاعتقال إلي ما يقارب الشهرين، وشكّلوا له إضبارة طويلة عريضة، قيل إنّ حملها كان يصعب لثقل وزنها، بعد أن مُلئت بالتهم والافتراءات. لاقي طيّب ما لاقي من ألوان التعذيب في السجن، حتّي أحرقوا بدنه بأنواع الآلات الحارقة الموجودة في وسائل تعذيبهم؛ وقيل: أحرقوا جميع بدنه، حتّي أنّ طيِّباً ذلك الطويل المهيب القويّ بات مجرّد إنسان مريض ضعيف البنية، ومع كلّ ذلك فقد كان مصـرّاً علي موقفه المتجـسِّد في: لا أفعل ذلك، لا أتّهم أحداً. واستمرّ علي ذلك الموقف، فاضطرّوا إلي إصدار حكم إعدامه، ثمّ أُعدم في يوم واحد هو والحاجّ إسماعيل معاً. وقيل إنّه نزع قميصه في المحكمة أمام ضبّاط التحقيق وأظهر لهم آثار الجروح والحروق التي ما زالت مطبوعة علي بدنه جرّاء التعذيب. علي الإنسان أن يأخذ من هؤلاء الدرس والعِبرة، إذ كيف غيّر الله هكذا أُناس وجعلهم علي هذه الشاكلة. كان طيّب رجلاً ارتكب كلّ ما يمكنكم تصوّره من المعاصي، وفي أقبح صورها، لكنّه كان يقول: أنا لا أتّهم السيّد، مع أنّه لم يفهم معني أنّ آية الله الخمينيّ عالمٌ، ومرجع و. و. وكان لا يبرح يكرّر القول: لم أستلم مبلغاً، ولا أتّهم أحداً، ولا أُوَقِّع علي شيء. أجل، آل أمر هذين الرجلين إلي الإعدام، وقد تأثّرت لهما كثيراً ولطيِّب بالذات، حيث إنّ الحاجّ إسماعيل إنسان مُصَلٍّ متديّن، ومن المواظبين علي صلاة الليل، فليس من المهمّ أن يودع السجن ويُعدَم، لا نّه صاحب هدف، ولاجل هدفه قد أُودع السجن؛ أمّا أن يأتي شقيّ من الشقاوات مثل طيِّب فيتنازل عن كلّ شيء، عن حفلاته، عن ندمائه، عن مجالسه الحسينيّة، عن ذبح الابقار خدمةً للمواكب، عن الزعامة التي كانت تماثل رئاسة السلطنة... يتجاوز كلّ ذلك ويكون مستعدّاً لان يُقَطَّع بدنه إرباً إرباً، ومن ثمّ يُقاد إلي خشبة الإعدام، ففي ذلك عِبرة للجميع، وأمثال هؤلاء أفراد ذوو قابليّات، ولو كانوا قد تربّوا لبلغوا شأناً في الشرع، علي العكس من أصحاب التزمّت والتشدّد الاجوف. ولو تربّي طيِّب هذا ـ مثلاً منذ الطفولة علي يدي أمير المؤمنين، فمن يدري أ نّه لا يكون مثل مالك الاشتر، ولكنّ والديه قد تركاه منذ الطفولة يرتع بين المقاهي، ولمّا كبر بقي علي حالته أمّيّاً جاهلاً، لا يذهب إلي مسجد، ولا يستمع إلي موعظة، ثمّ اتّخذ مسيره ذاك في الحياة، فأضحي علي هذه الشاكلة. فطيّب من الذين ينبغي قيد أسمائهم بحقّ في سجل هذه الثورة، ولابدّ من تكريم مواقفه، لا نّه قدَّم نفسـه وكلّ ما يملـك قرباناً في هذا الاتّجاه. وبعد إعدامه ذهبتُ لزيارة قبره؛ ويقع قبره قرب مرقد الشاه عبد العظيم، في الركن الذي بين صحنَي الشاه عبد العظيم والسيّد حمزة؛ ويقع قبر الحاجّ إسماعيل في ذلك الصحن، داخل إحدي المقابر. وصادف أن رأيتُ في ليلة إعدامهـما رؤيا مذهـلة، علي الرغم من عدم علمي بأ نّها ليلة إعدامهما. رأيت في المنام أنّي جالس جنب حوض مليء بالماء الزلال، يفوق زلاله رقّة صفاء دمع العين، وتحيط بنا أشجار الصفصاف والسرو وأمثالها فتُلقي بظلالها علي الماء الذي تلالا برّاقاً، وكان ثمّة شابّ يعوم في الماء له ضفائر طويلة، وغالباً ما تخرج ضفائره عن الماء وتعود ثانية لتنغمس فيه؛ وكنتُ جالساً جنب هذا الحوض، وعلي مقربة من الحوض طريق ترابيّ شبيه بطرق القري والارياف، تتردّد فيه الحمير والبغال ذهاباً وإياباً. وكلُّ مَن يسلك هذا الطريق يُواجَه بغبار كثيف؛ هكذا كان المنام. وكان في يدي كأس ـ في تلك الرؤيا ففهمت بعد ذلك أ نّه ينبغي لشخصَين عبور هذا الطريق، ولكي يصفي لهما الطريق من الغبار والتراب، قمتُ برشّه من ذلك الكأس، فتهيّأ الطريق بشكل جيّد، ومن ثمّ جاء الشخصان وسارا فيه. مرّ الحلم علَيَّ ولم أفقه منه شيئاً، وفي غد تلك الليلة، وبالذات بعد ساعة أو ساعتين من شروق الشمس، جاءنا خبر إعدام كلّ مِن طيِّب والحاجّ إسماعيل. دعوة المؤلِّف لعلماء البلاد لتثبيت مقام المرجعيّة لآية الله الخمينيّأجل، لقد كان قرار إعدام آية الله الخمينيّ من قِبَل الدولة جادّاً، وأُقيمت في طهران وأطرافها اجتماعات وندوات للحيلولة دون تنفيذ ذلك القرار، لكنّ جميع تلك الجهود باءت بالفشل، لا نّها لم تكن مؤثّرة بحيث تُلغي عمليّة الإعدام تلك. فرأينا أن نقف وقفة جدّيّة لتخليصه من الإعدام، فتدارسنا المسألة من جميع جوانبها، فقيل بأنّ هناك طريقاً واحداً لا أكثر، وهو ضرورة تعريفه كمرجع للمسلمين، إذ كان المرجع حينها يتمتّع بالحصانة وفق القانون المطبّق في إيران، وإذا عُرِفَ بالمرجعيّة فسيتعذّر ـ من وجهة النظر القانونيّة للجـهاز الحاكم ومديـريّة الامن إصدار الحـكم ضدّه، وحينئذٍ لن تجدي ملفّاتهم نفعاً مهما كانت. قلتُ: كيف نُثبت مرجعيّته؟ فلا يكفي بأن يكتب زيد ويكتب عمرو بذلك. ثمّ قلتُ: ينبغي أن يحضر في طهران جميع العلماء من الطراز الاوّل من المتواجدين في المدن الإيرانيّة، فيُقرّر إعلان مرجعيّته من قِبَل الجميع في جلسة خاصّة لهذا الامر. فقمت بكتابة الرسائل إلي جميع البقاع، إلي آية الله الميلانيّ في مشهد، وإلي آية الله الصدوقيّ في يزد، وإلي آية الله الخادميّ، وآية الله الحاجّ رضاي أرباب، وشمس آبادي في أصفهان، وإلي آية الله السيّد محمّد علي القاضي في تبريز، وإلي السيّد حسن بحر العلوم، والسيّد الضيابريّ في رشت، وإلي آية الله الآخوند المولي علي الهمدانيّ في همدان ـ وكان محتاطاً جدّاً ولم يكن من المساهمين فيما مرّ من الاحداث، ولمّا وصلت رسالتي إليه ( وكانت تربطني به رابطة ما سابقة )، قال: خطُّ جميلٌ جدّاً، ثمّ أردف قائلاً: إنشاؤه جيّد جدّاً أيضاً؛ فقال له المبعوث الذي أوصل إليه الرسالة: حسناً، ما الجواب؟ هل تستجيبون للطلب وتأتون إلي طهران أو لا؟! فقال: لابدّ لي من الذهاب إلي طهران للمعالجة، لانّ عيني تؤلمني. ( وكان يتخوّف، ولست أُريد تخطئته ) وأخيراً، فقد جاء إلي طهران بعنوان علاج عينه، وشارك في تلك الجلسة الطارئة؛ وكان من الحضور أيضاً أية الله السيّد علي الرامهرمزيّ، وبدأ العلماء يتوافدون علي طهران واحداً بعد الآخر، ومن ضمنهم آية الله الميـلانيّ، وحلّ الجـميـع ضيـوفاً في منـزل وسط بسـتان قـرب الشاه عبد العظيم، أمّا آية الله الميلانيّ فقد أقام في شارع وليّ العصر الحالي ( شارع أميريّة سابقاً ) في أحد البيوت الكبيرة، وقد عقدت في ذلك البيت الجلسة المقرّرة، وطالت الجلسات وتتابعت لمدّة شهر تقريباً، ودارت خلالها اللقاءات والمباحثات والمجالسات فيما بين العلماء، وكانت حالة راقية تجسّد فيها ائتلاف العلماء والوصول إلي نتائج إيجابيّة مُرْضِيَة جدّاً. وكان ثمّة أفراد من الجهاز الحاكم يأتون يوميّاً بشكل منظّم لاجل الحوار والنقاش والمباحثة مع العلماء في ملابسات الحالة الكائنة، وكان العلماء بدورهم يعطون وجهات نظرهم، وبعد اللتيّا واللتي وقّع الجميع علي أنّ، آية الله الخمينيّ قد نال درجة المرجعيّة. وقد عمل الجهاز الحاكم كلّ ما يمكن خلال تلك المدّة للسيطرة علي الشارع خوفاً من التحرّك الجماهيريّ، وكان الناس حينها قد طلبوا من آية الله الميلانيّ ـ بعد انتهاء الامر بأن يأتي إلي قم ويبقي فيها، وأبدي استعداده لذلك. تقرّر أن يذهب آية الله الميلانيّ إلي قم، وفي اليوم المعيَّن للذهاب، داهمت مجموعة من الجهاز الامنيّ محلّ إقامته في منطقة الزعفرانيّة، وبعد القيام بعمليّة التفتيش، أخرجوه من البيت وأركبوه في سيّارة سارت به إلي المطار مباشرة؛ وقالوا له هناك: تفضّل بالذهاب إلي مشهد. هكذا كان الوضع، ولكن وللّه الحمد، فقد تخلّص آية الله الخمينيّ من حكم الإعدام، وبعد مدّة أُطلق سراحه وأُودع في إحدي البيوت السكنيّة في شارع شميران؛ وعلمنا بعد مدّة أنّ ذلك البيت من البيوت التابعة لمديريّة الامن، وكانوا قد قالوا بأ نّه بيت فلان، فالبيت من بيوت مديريّة الامن وتحت الرقابة. وقرع سمعنا خبر إطلاق سراحه، فذهب لزيارته كلّ مَن سمع ذلك، وذهبت ـ بدوري لزيارته بمعيّة وَلَدَيَّ: السيّد محمّد صادق والسيّد محسن ـ وكانا حينها يافعَين بعد ساعتين من سماعي للخبر، ثمّ عدتُ في اليوم التالي، ومكثت عنده لمدّة يومين؛ ومن ثمّ بدأ العلماء يتقاطرون عليه زرافات زرافات، مضافاً إلي مجيء الناس، وأثارت الجموع القادمة لزيارته بتلك الشاكلة مخاوف الجهاز الحاكم، فرأوا أنّ زيارته تشكّل ظاهرة خطيرة، فأنزلوا الشرطة في الشوارع المحيطة، وصاروا يقولون لمن جاء لزيارته: إنّ حال آية الله ليست علي ما يرام، وقد امتنع من مقابلة الناس؛ فتفضّلوا وعودوا من حيث أتيتم! وكان آية الله الخمينيّ يقول: كنت حينذاك جالساً أسمع ما يقوله رجال الشرطة للناس من أجل تفريقهم وأصغي إلي ادّعائهم بأ نّي لا أُواجه أحداً. وبعد يومين من مكوثه هناك، نقلوه إلي منطقة قيطريّة ـ وهي من نواحي قلهك طهران وبقي هناك لمدّة ثلاثة أشهر أُخري دون أن يسمحوا لاحد بزيارته ـ إذ خضع للإقامة الجبريّة وتدريجيّاً بدأ العلماء المراجع في طهران يتحرّكون لانقاذه من هذا الوضع، فذهبوا إلي قم لهذا الغرض، وكان قد قضي شهـرين في « عشـرت آباد ) وفتـرة شهـرين أو ثلاثة أشـهر في ( قيطريّة )، وكانت فترة الشهرين في السجن الاوّل صعبة جدّاً عليه، حتّي قيل إنّه قال عن الثلاثة أيّام التي قضاها في الزنزانة: لو طال مكوثي فيها يوماً أو يومين آخرين، لَلَقَيتُ حتفي فيها. وقد تزامن معه اعتقال علماء آخرين من أمثال سماحة السيّد دستغيب، وسماحة الحاجّ الشيخ بهاء الدين المحلاّتيّ وابنه الشيخ مجد الدين المحلاّتيّ وأُودعوا الزنزانات؛ وكانت مدّة المكوث في الزنزانات متفاوتة. وبعد إطلاق سراح سماحة السيّد دستغيب، ذهبت لزيارته، فقال لي كنّا جميعاً قلقين عليك، وقلنا: إن كانوا عذّبونا نحن بهذه الكيفيّة، فماذا تراهم سيفعلون بك؟! فكنّا قلقين حقّاً؛ وكان سماحة السيّد دستغيب يريد القول إنّ قلقهم من أجلي فاق قلقهم علي أنفسهم، ثمّ تساءل: كيف لم يلقوا القبض عليك؟ قلتُ: لا أدري والله! فالله لم يُقدِّر ذلك، أو أنّ الاعمال التي قمتُ بها غير ظاهرة؛ لا أدري! حيث لم يكن لي في ذلك الوقت عنوان بارز ولم أُمثّل ـ في نظر السلطة أكثر من إمام جماعة بسيط يتردّد علي المسجد، كما كنتُ أتجنّب الهجوم علي شخص ما من علي المنبر حين أقوم بتفسير الآيات القرآنيّة وبيان الاحكام الكلّيّة والإشارة إلي وظائف المسلمين العامّة؛ ولذا لم يكن ثمّة مبرّر لاعتقالي من قِبَل الجهاز الامنيّ، ولو تجـاهـرت بالعمل، وصرّحـت بما أُريده علانـيةً، لما تمكّـنتُ من الاستمرار ولا القيام بخطوة عمليّة واحدة. لقد اقتصر عملنا علي جماعتنا خاصّة عبر الرسائل الخاصّة وتناقل التعليمات الجارية فيما بيننا، فكان ثمّة مانع قويّ أمام اختراق الجهاز الامنيّ والوصول لما نحن فيه، ولو تمكّنوا من الحصول علي بعض المعلومات، فسوف لا تكون بتلك الدرجة التي تعطيهم مبرّراً لاعتقالنا أو وضعنا تحت الرقابة، ولم نكن نمتلك هاتفاً، فتوضع رقابة علي مكالماتنا، مضافاً إلي ذلك أ نّنا كنّا نوصل رسائلنا باليد حذراً من احتمال وقوعها في يد السافاك فيما لو أرسلناها عبر البريد. وكان السيّد السبزواريّ ـ وهو من أفرادنا الفاعلين في همدان، وكان يوزّع جميع منشوراتنا حاذقاً، وكذا السيّد إبراهيم إسلاميّة الذي كان ـ مع السيّد مهدوي نيا في ذلك الوقت في همدان، وهما من الافراد النشطين الفاعلين؛ وحصل ذات يوم أ نّهما سألا ـ من باب الامتحان أحد الاشخاص المعروفين الذي كان يروم السفر إلي طهران، بعد أن دار الحديث عن نهضة علماء طهران وطريقة تحرّكهم ونهضتهم، فقالا له: فما تقول في فلان؟ ( وذكرا اسمي )، وماذا يفعل؟ فقال: دع عنك هذا، إنّه إنسان منزوٍ، وليس له من دور فيما يجري. تمعّنوا فالمسألة مهمّة جدّاً ( طبعاً، كلّ شيء يسير في رعاية الله ولطفه ) ولكن علي الإنسان أن يؤدّي ما عليه، وأن لا يفتح للعدوّ ثغرة ليتسلل منها إليه، فلابدّ من الحيطة والحذر والحفاظ علي سرّيّة العمل إلي آخر المطاف. وخلاصة الموضوع: أ نّنا كنّا منهمكين في أداء وظائفنا الدينيّة والشرعيّة والتفسير والتدريس، وبالطبع فقد كانت مديريّة الامن تحسب لنا حساباً، ولكن دون جدوي، حيث باءت تحقيقاتهم وجهودهم بالفشل، حتّي أ نّهم خصّصوا ميزانيّة خاصّة لمراقبتنا؛ وقد ذكرتُ سابقاً أ نّني عندما كنت في ( الاحمديّة ) فإنّهم استأجروا البيت المقابل وعيّنوا أحد أفرادهم لمراقبة حركاتي، ولكن ماذا سيرون ممّن لا يظهر من عمله شيء؟ فليس لنا إلاّ سيّارات بعض الاصدقاء التي تقف أمام باب البيت بين الفينة والاُخري؛ وقد اقتادوني ذات مرّة إلي مديريّة الامن، فقالوا لي: أ نّكم تعقدون اجتماعات خاصّة، فما هي مواضيعكم المطروحة؟ وكأنّ بعض مواضيع اجتماعاتنا الخاصّة قد طرق أسماعهم. إطلاق سراح آية الله الخمينيّ ونظرة المؤلِّف في تشكيل حكومة الإسلامتحرّك آية الله الخمينيّ للإقامة في قم، وأُقيم له هناك حفل خاصّ ابتهاجاً بالمناسبة، فمضت الاحداث بحمد الله علي خير؛ ولكنّه في قم أيضاً لم يكن مطلق اليدين، بل بقي تحت الرقابة المشدّدة، وقد تشرّفت بزيارته في بعض الاوقات، فقلتُ له ذات ليلة: كنا لحدّ هذه اللحظة ندعو للإسلام، ويبدو أ نّه من الآن فصاعداً ينبغي أن نصبّ جميع جهودنا في الدعوة لكم، فبيّنوا لنا الخطـوط العريضة لعملكم، ما هو برنامجكم العامّ؟ ما هي خطّة عملكم؟ من أيّ منطلق ستعرّفون الإسلام؟ وتشاورنا في هذا الامر خلال هذه المدّة، إذ لابدّ من وضوح معالم الطريق والحال هذه. فقد أُشيع فجأة، مثلاً ـ بعد أحداث مدرسة الفيضيّة بأنّ الملك قد هرب من البلد، وكان الجهاز الحاكم هو الذي أشاع ذلك بنفسه ليروا ما هو ردّ الفعل الجماهيريّ العامّ؛ ما هو الموقف العامّ للناس؟ وكنتُ حينها في قم، فقلـتُ: إذا رحل الملـك فعلاً، فما هي خطّة عمل سماحـتكم؟ مَن ستُعيِّنون؟ ومن ستنصبون لرئاسة الوزراء؟ مَن هم وزراؤكم؟ فقال: سماحة الحاجّ السيّد محمّد الحسين! نحن في هذا المجال في وضع متغيّر غير مستقرّ ( بهذا المعني: نحن لحدّ الآن لم نهيِّيء أحداً فقد حدث هذا الحدث الطاري دون مقدّمة ). وقد حدثت جميع تلك الاُمور في زمن رئاسة أسد الله عَلَم للوزراء، وأفضل من تصدي لرئاسة الوزراء قبله هو الدكتور علي الامينيّ، وهو من الشخصيّات البارزة في المجتمع، وكان الناس يرغبون في عودته إلي منصبه السابق، لما له من سابقة أخلاقيّة حسنة، مضافاً إلي كونه من ذوي الاختصاص ومن المسلمين المتديّنين الملتزمين؛ وكانت الدولة تعتبره من القوي الاحتياطيّة في الظروف المتأزّمة، فحينما تُهدّد الدولة بالسقوط مثلاً، يأتون به لامتصاص نقمة الناس؛ وبما أنّ عَلَم من الشخصيّات غير الملتزمة دينيّاً، فقد دار الحديث بين أوساط بعض الشخصيّات حول ضرورة تنحيته عن منصبه والإتيان بالدكتور الامينيّ من جديد. وكنّا نعلم بأنّ الدكتور الامينيّ وأمثاله لم يكونوا متديّنين مائة في المائة، لذا فقد دار الحديث طويلاً في تلك الليلة حول هذا الموضوع، ومن جملة ما دار بيننا أنّني قلتُ له: ينبغي عليكم في هذه المرحلة أن تؤسّسوا حزبَين، حزب سرّيّ وآخر علنيّ، وبإمكانكم بالنسبة للحزب العلنيّ الذي ستقودونه أن تطلبوا من جميع المسلمين الانضواء بين صفوفه؛ أمّا الحزب السرّيّ فسيكون تشكيلة خاصّة تضمّ مَن تجدون فيه الصلاحيّة اللازمة، والبلد مليء بالشخصيّات من أهل الغيرة والحميّة، وهم علي استعداد للعمل وستكون جهودهم مثمرة، فبالإمكان استثمار هكذا أشخاص، إذ بإمكان أحدهم التأثير في جماعة كبيرة، فليكن لكم بهؤلاء ارتباط سرّيّ، وليكن هذا التنظيم هو روح التشكيلة العلنيّة. فقال: ليست ثمّة من فائدة في الحزب، سواء كان سرّيّاً أم علنيّاً. قلتُ: فما الحلّ؟ قال: نُحرّك الناس علي هذه الشاكلة، فقلتُ: سيتشكّل المجلس غداً، وعندما يجلس النوّاب كلاّ في موقعه، ويسنّون القانون، فما الذي سيمكنكم عمله قبالهم؟ قال: سنبعث أُناساً ليحطّموا باب المجلس ويقتحمونه. قلتُ: وهل سيمنحونكم الفرصة للقيام بهذا العمل؟ إذا افتُتِحَ المجلس فسوف لا يتمكّن أحد من الاقتراب منه ولو علي بُعد مائة متر، لما سيتّخذون من إجراءات أمنيّة، ثمّ إنّ الظروف ستتغيّر عمّا هي عليه الآن، وستكون أكثر شدّة وضراوة. فلابدّ من تأسيس حزب، لما له من فوائد كثيرة، ثمّ ذكرتُ جملة من تلك الفوائد. قال: ليس من الصالح بأيّ وجه من الوجوه تأسيس حزب. قلتُ: حينما أرادوا خلع المرحوم أحمد شاه عن الملكيّة والإتيان بالبهلويّ، اضطرّ للسفر خارج إيران مرّتين ( ثمّ رحل عن الدنيا مظلوماً في نهاية المطاف )، وكان من الملوك المعتبرين بسبب مجاهدته وحبّه للدين والإسلام، وبذل جهوداً مشكورة من أجل إيران، وعمل بكلّ طاقاته من أجل عدم وقوع المملكة تحت سطوة السيادة الإنجليزيّة. وكان الإنجليز يطمحون تنفيذ كلّ جرائم البهلويّ علي يد أحمد شاه، لكنّه قال: لا أفعل ذلك ولا أُوَقِّع علي هذا، ثمّ جيء برضا خان إلي دفّة الحكم فنفّذ جميع مآرب الإنجليز شعرة بشعرة. علي أيّة حال، فقد قيل لاحمد شاه: أسِّس حزباً، فتشكيل الاحزاب من أساليب الرقيّ. قال أحمد شاه: أنا لا أُأَسِّس حزباً؛ للسببَين التاليَين: فأوّلاً: أنا ملـك إيـران ( يعـني أ نّه ملـك علي جميـع أفراد الشـعب ) ولا تقتصر سيادتي علي فئة ـ أفراد الحزب دون أُخري، بل جميع الافراد هم حزبي. وثانياً: إذا أسَّسْتُ حزباً، فسيكون في قبال هذا الحزب حزب آخر، وسيكون لكلٍّ منهما أفراده، وعندها ستحدث المواجهة بين الحزبَين، وإذا حلّت المواجهة فمن المعلوم ما ستؤول إليه الحال. كان هذا منطق أحمد شاه، ولكن أيّة نهضة في العالم لا تثمر إلاّ بأُسس تنظيميّة، وإلاّ تخلّفت عن قافلة الاحداث، وبقيت تراوح في مكانها! وأمّا فيما لو راعت النهضة مقدّمات العمل وضروراته بحيطة وحزم، مع امتلاكها للافراد المتربّين علي منهجيّة معيّنة، فبإمكانها والحال هذه من السيطرة علي الحوادث الواقعة وتسييرها؛ ومن الفوائد الكثيرة للحزب: أوّلاً: أنّ أيّ حزب لا يطمح لاستلام السلطة في أوائل تأسيسه، بل يبدأ بتربية أفراده تدريجيّاً حتّي يترقّوا في كافّة الاصعدة، فواحد يتخصّص في الاقتصاد، وآخر في الماليّة، وواحد يرتقي المناصب في المحافظيّة، وآخر في مديريّة الشرطة، علي أن يكون الجميع أفراداً متديّنين ملتزمين منتخَبين وفي مستوي الطموح. ثانياً: يتواجد أشخاص متفرّقون في بقاع البلد المختلفة من ذوي القابليّات الرفيعة، وهم من الساخطين علي الجهاز الحاكم، ولكن لا توجد بينكم وبينهم معرفة متبادلة، ويمكن كشف هذه الطاقات وبرمجة العمل للاستفادة منهم بواسطة العمل الحزبيّ؛ وفي حال سقوط الدولة الحاليّة مثلاً، فبالإمكان استثمار هذه الكوادر فوراً ليمارسوا أدوارهم التي ستوكل إليهم كلٌّ حسب إمكاناته المشخّصة من قبل. وكما أنّ جميع مقاليد الحكومة قد أصبحت تحت قبضة سلطة عَلَم مثلاً المُمثَّلة بعشرة وزراء، تلك الحكومة التي أخذتْ بأنفاس الناس، فبإمكاننا ـ نحن أيضاً أن نمارس إدارة البلد فيما لو امتلكنا عشرة رجال أكفّاء ومتخصّصين؛ فالمهمّ هنا هو العشرة من الكوادر المتخصّصة، وليس عن عامّة الناس. وتعتمد كلّ دولة في بداية تشكيلها علي كوادرها التنظيميّة المتربّية علي منهجيّة حزبها؛ وكيفما كانوا، فهم من الكوادر المخلصة والملتزمة بمبادي ذلك الحزب. ثالثاً: نري حاليّاً أنّ الجهاز الحاكم يخشي التنظيم بكل ما للكلمة من معني؛ إنّه يخاف من التنظيم، ولا يرهب الجموع المحتشدة وإن كانت ألفاً إذا كانت تلك الحشود غير منظّمة، ولكنّه يرتعد من لقاء اثنين إذا كان يجمعهم عامل تنظيميّ، فهو لا يخاف من الافراد كأفراد، بل يخاف من تنظيمهم؛ والتنظيم يمدّ الناس بهذا العامل المخيف للجهاز الحاكم ( بطبيعة الحال، فالتنظيم السرّيّ يأتي بالدرجة الاُولي ويليه التنظيم العلنيّ ). ومن ميزة العمل التنظيميّ أ نّه لا يعطي الفرصة للتسلّل إلي تشكيلته لاختراقها وتمزيقها وضعضعتها، وإذا وقع ذلك فسوف يردّ الحزب بالمواجهة المناسبة، وستتحرّك مجموعاته بشكل منظّم مدروس لمعالجة الموقف؛ وسيكون النصر أخيراً حليف تلك الفئة المؤمنة المبتنية علي عقيدة الإسلام والقرآن، ولكنّ هذا العمل ـ تشكيل الحزب يحتاج إلي مدّة طويلة؛ وهو من الضرورات الملحّة؛ وكلّما كان سرّيّاً فإنّه أفضل وأكثر أماناً. قال ( آية الله الخمينيّ ): أبداً؛ ليس في الحزب صلاح بأيّ وجه من الوجوه؛ ولا ينبغي أن تذكر اسم الحزب بأيّة صورة كانت. قلتُ: حسناً، فلا تذكروا اسم الحزب، وتعالوا باسم مجمع أو جمعيّة أو أيّ اسم آخر، بشرط ارتباط الافراد في تشكيلة منظّمة، لا نّكم لو قمتم حينذاك بنهضة فإنّ الشخص الفلاني ـ مثلاً الساكن في مدينة خرّمشهر أو في أيّة مدينة أُخري سيعرف وظيفته علي الفور، كما سيعرف وظيفته ذلك العالِم الساكن في أقصي بقاع البلد الذي عاني وقاسي من أجل الإسلام، فيؤدّي دوره تجاه ما يجري علي أفضل الوجوه، وسيضحي له جليّاً ما ينبغي عليه عمله، وستجري الاُمور علي هذه الشاكلة علي أحسن ما يرام؛ أي أنّ تلك المشاقّ الكبيرة التي يتحمّلها عادةً ـ بعد انتصار الثورات غير الحزبيّة مثل هؤلاء الافراد، ستـزول من خلال هذه المقـدّمة البسـيطة وسيطـمئنّ الإنسان الثوريّ علي سلامة واستمرار المسيرة. ومن حسن الصدف أ نّه بعد وصول آية الله الخمينيّ طهران قادماً من باريس أثناء مخاض انتصار الثورة وتشكيل الحكومة، فقد كان أوّل اقتراح قُدِّم إليه هو: تأسيسُ حزبٍ، حيث أقنعه الحاجّ السيّد محمّد البهشتيّ بضرورة تأسيس حزب! ونقل لي هذا الامر المرحوم المطهّريّ بحضور سماحة الهاشميّ الرفسنجانيّ الذي كان يري ـ بدوره ضرورة تأسيس الحزب. وردّ عليهم آية الله الخمينيّ: لا، لا صلاح في الحزب، بأيّ وجه من الوجوه، فأصرّوا علي أ نّه لا يمكن الوصول بالحكم إلي حالة من الثبات والاستقرار إلاّ من خلال تأسيس حزب. قال آية الله الخـمينيّ: حسـناً! اذهبوا وافعـلوا كلّ ما تريـدونه، ثمّ أذن للسـيّد البهشـتيّ بتأسـيـس حزب جمهـوري إسلامي ( = الجمهـوريّة الإسلاميّة )، فتمّ تشكيل الحزب، وصحيفة « جمهوري إسلامي » المعروفة هي الصحيفة الناطقة بلسان الحزب. وزبدة القول، فقد كان آية الله الخمينيّ مخالفاً لفكرة تأسيس حزب، وربّما بقي علي هذه العقيدة حتّي لحظاته الاخيرة؛ وبطبيعة الحال فإنّ نظرته صائبة من جهة عدم صحّة تصدّي مرجع لجميع المسلمين لرئاسة حزب سياسيّ؛ لكن المشكلة تكمن في الفترة التي تسبق تحقّق المرجعيّة العامّة والحكومة العامّة، حيث ستعمل المنظّمات والاتّحادات الاُخري المنافسة له علي إضعافه ـ وقد رأينا ما فعله المنافسون من أعمال مخلّة ويؤدّي هذا الحزب إلي انتماء أصحاب الكفاءات المؤيّدين للثورة إلي هذه التشكيلة وتوظيف جهودهم ضمن وحدة تنظيميّة مركزيّة. فإذا ما أشرف أحد الوزراء علي السقوط، أو طلب الاستقالة، أو أصبح مريضاً، فثمّة خمسة أشخاص آخرون يماثلونه بكلّ إمكانيّاته، وعندئذٍ تنتفي الحاجة للتأمّل والتريّث لانتخاب البديل، والحزب يصنع الافراد، من هنا قامت كلّ التنظيمات القائمة في عالمنا المعاصر علي أساس الحزب علي هذا الاساس.
|
|
|