|
|
الصفحة السابقةمسوّدة الدستور ونظرة المؤلِّف فيهاكان ينبغي علي الخبراء أن يدوّنوا الدستور، وهم من أفراد الاُمّة من أهل الفهم والتعقّل والتجربة، وتمييز السليم من السقيم، وكان لابدّ لهم أوّلاً من كتابة مسوّدة الدستور وعرضها علي مجلس الخبراء للتصويت علي موادّها. وحين نُشـرت مسـوّدة الدسـتور في الصحف؛ ألقيتُ عليها نظرة إجماليّة، فرأيتها سيّئة جدّاً، وليست إسلاميّة؛ قلتُ: عجباً! لماذا صيغت بهذه الكيفيّة؟ ومَن الذي كتبها؟ علماً أنّ كاتب مسوّدة الدستور لم يدرج اسمه عليها. وقد قيل عنها: إنّها ليست أكثر من مسوّدة، ولكنّ الصحف قد تناولتها بالتأييد علي الرغم من عدم صلاحيتها مطلقاً، فهي لم تتطرّق حتّي لعنـوان واحد يحـمل اسم التشـيّع، بل اقتصـرت علي تعريف الحـكومة بحكومة الإسلام فحسـب، ولم تحمل أيّ عنوان للتشـيّع بأيّ وجه من الوجوه، كما لم تتطرّق جميع صفحاتها لمسألة ولاية الفقيه، بل انحصر حديثها في مجلس الشوري الوطنيّ، وفصل السلطات الثلاث، ونفس مسائل العهد الطاغوتيّ في صور وعبارات أُخري. أجل، لم يتغيّر شيء في القوانين عمّا كان عليه في السابق، سوي حذف كلمة سلطة الملك ووضع كلمة رئيس الجمهوريّة بدلها. وحين جلبوا لي الصحيفة، قرأت فيها: حظي علماء أصفهان بلقاء آية الله الخمينيّ في قم؛ وخطب بهم قائلاً: أيّها العلماء! لا تقعدوا وتدعوا هذا القانون يُصادق عليه؛ لا تلزموا الصمت والسكون! اكتبوا في الصحف، واملؤوا صفحاتها؛ لا تُمهلوا الآخرين! وكان الوقت حين قرأت الصحيفة في حدود ساعة أو ساعتـين قبل غروب الشمس ليوم الجمعة وكنتُ حينـها متهـيّئاً للذهاب إلي الجـلسة، فتأ لّمت كثيراً لآية الله الخمينيّ. فقلتُ في نفسي: إنّ الرجل وحيد في الساحة، وها هو ينادي بأنّ اليد الواحدة لا تصفّق؛ وحقاً، ماذا يمكنه أن يفعله لوحده؟ والخبراء يقولون: نحن منتخَبون من قِبَل الاُمّة، والرأي ما نراه، وأنت لست أكثر من قائد، وما عليك إلاّ إبداء وجهة نظرك. لذا، فقد نادي بأعلي صوته: أيّها العلماء! عليكم خوض المعترك! والدخول في صلب القضيّة! وسُنّوا الدستور! فقلتُ: إنّ السيّد يطلب النصرة، فماذا علينا أن نفعل؟ فلم أذهب إلي تلك الجلسة، وتناولت الصحيفة وطالعت مسوّدة الدستور من أوّلها إلي آخرها؛ وقلتُ: بسم الله الرحمن الرحيم، وبدأت بكتابة رسالة له، وانتهيت من كتابتها في الساعة العاشرة أو الحادية عشرة، أي بعد مضي ثلاث أو أربع ساعات من الليل، وفي صباح اليوم التالي استنسخت عشرين نسخة من تلك الرسالة ذات الخمس أو الستّ صفحات، وسلّمت أصل الرسالة إلي ولدي سماحة الحاجّ السيّد محمّد محسن ليوصلها إليه في قم، ثمّ أرسلت صورة الرسالة المستنسخة إلي كلّ من آية الله الكلبايكانيّ، والاُستاذ المعظّم آية الله العلاّمة الطباطبائيّ، وآية الله الحاجّ مرتضي الحائريّ مضافاً إلي بعض الاعلام في قم وطهران، وكان البعض منهم من غير علماء الدين، ممّن تصدّوا لارتقاء المناصب الحسّاسة في الدولة يومئذٍ. ذهب ولدي الحاجّ السيّد محمّد محسن لإيصال الرسالة إلي سماحة آية الله الخمينيّ، وحينـما سلّمه الرسالة، قال له: هذه الرسالة من فلان؛ فأخـذها ووضعـها جانباً ووضـع نظّارته الخاصّة للمطـالعة فوقـها، وقال: سنطالعها. وكما ذكرتُ سابقاً فإنّه يهتمّ كثيراً جدّاً برسائلي المرسلة إليه، والنسخة الاصليّة لتلك الرسالة ليست بحوزتي الآن، لانّي قد أرسلتها له معنونة باسمه، ومن ثمّ ذهب ولدي لإيصال صورة الرسالة المستنسخة إلي سماحة آية الله الكلبايكانيّ ـ كان راقـداً علي سريـر المـرض في بيـته ولا يقوي علي الحركة قال ولدي: قلتُ: جئت من قِبَل فلان، فسمحوا لي بالدخول، فمثلت بين يديه وسلّمته الرسالة، فقرأها وهو راقد، ثمّ حاول الجلوس، وبعد نصف ساعة تقريباً تمكّن من قراءة نصف الرسالة، ثمّ قال: بخٍ بخٍ، يا لها من رسالة! إنّ هذه لَرسالة حقّاً! يا لها من مطالب جيّدة! وباختصار، فقد أعجبته كثيراً، ثمّ قال: ينبغي عليكم تسليمها لتُقرأ من علي المذياع والشاشة الصغيرة! لابدّ من فِعل ذلك؛ وراح يؤكّد علي ضرورة قراءتها. وبعد عودة ولدي الحاجّ السيّد محمّد محسن إلي طهران وإخباري بوجهة نظر آية الله الكلبايكانيّ، قلتُ: حسناً جدّاً، قدِّموها إلي المذياع، وقلتُ لاحد الرفقاء: خذها وسلّمها إلي مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون لبثّ مطالبها، فقالوا له: لا نقرأها. تساءل: لماذا؟ قالوا: لا نقرأها. قال: ما هو السبب؟ فاليوم يوم الحرّيّة، ويجب أن تُعرض جميع المواضيع المطروحة أمام الرأي العامّ، وعلي الاخصّ في مثل هذه القضيّة الهامّة، حيث تتناول دستـور البلاد، وحياة الناس مرتبـطة بهـذا القانـون، وجمـيع القتـلي، والمعوّقين، ووابل الرصاص الذي صبّه الجيش علي الناس إنّما حصل من أجل أن يحكم قانون الإسلام، فكيف نوجّه عدم الكتابة؟ وماذا يعني عدم قراءة هذه الرسالة؟ وباختصار، فقد أرسلت رفقائي إلي مديرَي الإذاعة والتلفاز ليتكلّموا معهما؛ وأخيراً قالا لهم: إنّ محتويات الرسالة تخالف منهجيّتنا؛ إنّكم تريدون أن تحرفوا مسيرتنا، وهذا ما لا يمكن أن نوافق عليه. قلنا: نرسل الرسالة إلي صحيفَتي « اطلاعات » ( = الإعلام ) و « كيهان » ( = العالَم ) لنشرها، لكنّ صحيفة « اطلاعات » لم توافق علي نشرها مطلقاً؛ أمّا صحيفة « كيهان » فقد نشرت الرسالة في آخر صفحاتها ـ الصفحة الثانية عشرة بعد أن اقتطعت فقرة من بدايتها؛ وأصرّت صحيفة « اطلاعات » الكثيرة الانتشار في ذلك الوقت علي عدم نشر الرسالة، ثمّ وافقت رئاسة تحريرها علي نشرها بعد شهر من الضغوط المستمرّة من هنا وهناك، ولكن بأيّ شكل! لقد مثّلوا بها تمثيلاً لا يغتفر، فقد أسقطوا جميع الآيات القرآنيّة الواردة فيها، ونشروا المطالب التي تمتاز بالعموميّة وتخدم مآربهم وأسقطوا المطالب الخاصّة بجوهر الموضوع، وذكروا اسمي في أسفل الرسالة: السيّد محمّد، بدلاً من السيّد محمّد الحسين. وأخيراً قدّمنا الرسالة إلي صحـيفة « جمهـوري إسلامي » لطـبعها، فاحتفظوا بها يوماً أو يومين، ثمّ قالوا: نحن لا نطبعها، فعرضناها علي صحيفة « انقلاب إسلامي » ( = الثورة الإسلاميّة ) التي كان بني صدر رئيس تحريرها، فبقيتْ عندهم مدّة، ثمّ أجابونا: كيف لنا أن نطبع هكذا مواضيع؟! نحن لا نوافق علي طبعها أبداً؛ فذهب سماحة الحاجّ قاسم حقيقت ليتكلّم معهم، فقال لرئيس التحرير: ألكم اعتراض علي نصّ الرسالة؟ أو علي كيفيّة استدلالها؟ فقال بني صدر: ما تقول يا سيّد؟! إنّها تتعارض مع منهجيّتنا تماماً؛ فتأتي أنت لتقول: نريد أن نطبع هذه في صحيفتكم، إنّ طريقتنا علي الضدّ منها، فما هذا الكلام يا عزيزي: الرِّجَالُ قَوَّ مُونَ عَلَي النِّسَآء بِمَا فَضَّلَ اللَهُ بَعْضَهُمْ عَلَي' بَعْضٍ، دعوا هذا الكلام! فقال الحاجّ قاسم: إنّ تأييد أو رفض الرسالة ليس من شأنك؛ إنّ شخصاً كتب رسالة وفق آرائه الخاصّة به ويريد نشرها، وما عليك إلاّ أن تقوم بنشرها! فقال: لن ننشرها! ورفضوا نشرها مطلقاً. علماً أنّ بعض الصحـف والمجـلاّت قامت بنشـر الرسـالة دون أن نطلب منهم ذلك، منها: صحيفة « نداي ملّت » ( = نداء الشعب ) أو ( = نداء الاُمّة )، يقال إنّ رئيس تحريرها الكرباسجيّ، وقد طُبعت مع مقدّمة تحثّ علي قراءتها، جاء فيها: أيّها الناس! إنّ الدستور حقيقةً، يعني هذا! فاقرؤوه، واعملوا بما جاء فيه! علماً بأنّنا لم نقل لهم شيئاً ولم نُشِر إليهم بكتابة مقدّمة، وثمّة مجلة أُخري قامت بنشر أكثر فقرات الرسالة وحثّت علي قراءتها بإمعان؛ أمّا المجلاّت المعروفة فلم تستجب لطلبنا كما بيّنّا سابقاً. وحين شاهدنا أن ليس ثمّة فائدة، وكان السادة يلحّون علي ضرورة نشرها لتصل إلي أسماع الجميع؛ فقد قلنا: ما العمل الآن بعد رفض الإذاعة والتلفاز والصحف نشر هذه الرسالة؟ ثمّ قرّرنا أن نقوم بأنفسنا بإيصالها إلي أسماع الجميع، فقمنا باستنساخ ألفَي نسخة مصوّرة لاصل الرسالة، وطبعنا سبعة آلاف نسـخة أُخري بالطبعة الحروفيّة ووزّعناها في مخـتلف مناطق إيران. أي أ نّنا جمعنا رفقاءنا الخاصّين، وعيّنّا شخصين منهم ليتحرّكا إلي كرج ويوصلا الرسالة إلي سماحة العالِم فلان وإمام الجماعة فلان وأن يحيطوهما علماً بالتوضيحات اللازمة، ثمّ ينتقلا إلي قزوين، ومن هناك إلي تاكستان، ثمّ همدان، ثمّ يتمّا المسير حتّي يصلا إلي كرمانشاه وقصر شيرين. ويمرّا في طريق العودة علي ملاير وأراك ونهاوند والمدن الفلانيّة والفلانيّة حتّي يصلا طهران. وعيّنّا بعض الاشخاص لخطّ تبريز وزنجان، وبعضاً آخر لخطّ رشت ومازندران، وبعضاً آخر لخطّ خراسان: لمدن سمنان ودامغان وشاهرود ومشهد المقدّسة، وطلبنا من أفرادنا أن يذهبوا إلي عشرة علماء في مدينة مشهد المقدّسة فيسلّمونهم نسخاً من الرسالة، كما أرسلنا مجموعة إلي شيراز وأصفهان وكذلك إلي كرمان وبلوجستان، فتحرّك الجميع بحركة دؤوبة خلال أيّام معدودة، وأوصلوا جميع النسخ سوي كمّيّة يسيرة بقيت بحوزتنا لتوزيعها في طهران، وعاد الجميع بعد إنجاز المهمّة علي أحسن ما يرام. وقد أثمرت هذه الجهود عن إيجاد نقلة نوعيّة عظيمة علي مستوي جميع البلاد، فقد اطّلع جميع أئمّة الجماعة ومَن يهمّه أمر الساعة علي مواضيع بعضها لم يطرق أسماعهم، وكان بعضهم لا يعلم عن الدستور إلاّ اسمه، وكانوا يريدون القول إن هذا الدستور الإسلاميّ كافٍ، لانّ اسم الإسلام أُلحق به! لذا، فقد كتبتُ رسائلاً إلي بعض العلماء، وقلتُ لهم فيها: عليكم أن تأخذوا تواقيع مَن يؤيّد المطالب الواردة في الرسالة المذكورة، التي تطالب بإعادة صياغة الدستور. ومن الذين اهتمّوا كثيراً بهذا الامر: المرحوم الشهيد السيّد فخر الدين الرحيميّ، وهو من أصدقائي في خُرَّم آباد، وكان يكنّ محبّة خاصّة لآية الله الخمينيّ، وكان فرط محبّته له أ نّه إذا ذُكر اسم الخمينيّ أمامه انهمرت الدموع من عينيه سيّالة، وهو سيّد طيّب ونزيه ومجاهد أُلقي في السجون، وقد عاني ما عاني من ضيم العهد البائد، وكان يكنّ محبّة كبيرة لنا أيضاً. ومن جملتهم أيضاً: أخوه سماحة السيّد نور الدين الرحيميّ، وهو أحد الذين نالوا شرف الشهادة في عمليّة تفجير مقرّ حزب الجمهوريّة الإسلاميّة، وكان أحد نوّاب مجلس الشوري الإسلاميّ، وهو رجل نزيه ومتديّن ومخلص؛ وقد زارني لمرّات في بيتي عندما أقمت في مدينة مشهد المقدّسة؛ وكان هو وسماحة الشيخ فضل الله المحلاّتيّ من المهتمّين بهذا الامر والجادّين فيه، وقد نالا شرف الشهادة ضمن ثلاثين شهيداً من نوّاب المجلس الذين أسقط النظام العراقيّ طائرتهم في أجواء الاهواز بالتآمر مع المنافقين، رحمة الله عليهم جميعاً. أجل، وكتبتُ رسالة إلي سماحة السيّد فخر الدين ليطالعها من أجل أن يرتِّب طوماراً يجمع فيه تواقيع الناس، وبالفعل قام السيّد فخر الدين بتهيئة قطعة كاملة من القماش لإنجاز هذه المهمّة، وقد امتلات تلك القطعة بالتواقيع فاشتري قطعة أُخري وربطها بالاُولي، فامتلات بالتواقيع أيضاً، وجاء بثالثة وهكذا حتّي صار طوماراً طويل جدّاً يحمل آلاف التواقيع، وجاء به إليّ، فقلتُ له: لماذا أتيـتم به إلي هنا؟ قال: فماذا نفعل؟ قلتُ: عليكما ـ أنت والسـيّد فخر الدين أن تأخـذا هذا الطـومار إلي مجـلس الخبراء، وقولا لهم: هذا ما يُساند وجهة نظرنا؛ وكذلك كان دعم ما جاء في الرسالة كبيراً من بعض المدن الاُخري. وقد تركّز التحرّك العمليّ في طهران في أربعة أماكن، ومسجدنا ( مسجد القائم ) أحدها، حيث وضعنا منضدة أمام باب المسجد وعليها نصّ الرسالة، ووضعنا قطعة قماش طويلة؛ وقلنا: إنّنا نوافق علي دستور إيران إن كان علي هذا الاساس؛ وكان الناس يأتون فيقرؤون الرسالة، وكلّ مَن أراد للدستور أن يكون علي هيئة ما كتبنا في الرسالة، فإنّه يوقّع علي الطومار؛ وكان المكان الثاني أمام مسجد الشاه الذي تبدّل اسمه حالياً إلي مسـجد الإمام الخـمينيّ؛ والثالـث في منطـقة دولاب؛ والاخيـر في شرق طهـران، حيـث امتـلات قطـعة القماش تلـك بالتواقيع، فربطـت بها قطـعة أُخـري، وبهذا الشـكل جري إعـداد هذه الطومارات، ثمّ حُمِلَـتْ الطومارات الضخـمة جدّاً لتسـليمها إلي مجـلس الخبراء، قائلين لهم: نحن نوافق علي الدستور إن كان علي هذه الكيفيّة. ألحَّ علَيَّ بعض السادة والاصدقاء أن أكون من المشاركين في جلسات مناقشة مسوّدة الدستور في مجلس الخبراء؛ ومنهم: آية الله الكلبايكانيّ الذي ألحّ بشدّة؛ وحين رفعوا اسمي مع بقيّة أسماء المرشّحين الطهرانيّين إلي آية الله الخمينيّ للإمضاء عليها، قال: انا أعرف الجميع فرداً فرداً، وكلّهم مورد تأييدي، ولكنّ موقعي الحالي لا يسمح لي بذلك، إذ لابدّ للجماهير من أن تقوم بهذا العمل بنفسها، فليس من المصلحة الآن أن أكون آمراً. كنتُ في تلك الايّام قد جئت إلي مدينة مشهد للقيام بزيارة النصف من شعبان، وحين عودتي إلي طهران، رأيت تلك المجموعة من العلماء الذين كنّا نعمل معهم، كآية الله السيّد محمّد علي السبط وآية الله الميرزا باقر الآشتيانيّ رحمة الله عليهما، وآية الله الحاجّ الشيخ حسن آقاي سعيد دامت معاليه ـ الذي لا زال علي قيد الحياة وأمثالهم، رأيناهم منهمكين في البحث عنّي، وما أن شاهدوني حتّي قالوا: أين أنتم؟ أين كنتم؟ ولابدّ لكم من الترشيح لمجلس الخبراء! قلتُ لهم: حسناً جدّاً، أنا علي استعداد للذهاب إلي مجلس الخبراء، لا نّه مجلس ذو أهمّيّة فائقة، فماذا علَيَّ أن أفعل الآن؟ قالوا: عليك أن تقدّم صورة إلي وزارة الداخليّة، وأن تتقدّم للترشيح! وإلاّ فلا يصحّ من غير هذا. قلتُ: حسناً جدّاً، أنا جاهز. قالوا: لقد انقضي الآن يومان علي انتهاء مدّة الترشيح إلي مجلس الخبراء. قلتُ: لا إشكال في ذلك، سأتّصل بوزير الداخليّة هاتفيّاً لتمديد فترة الترشيح، ثمّ قمت بنفسي بالاتّصال هاتفيّاً إلاّ أنّ وزير الداخليّة لم يكن موجوداً حينها، فتكلّمت مع معاونه، فقال: لا مانع في ذلك، نوافق علي اقتراحكم، وبالفعل مُدِّدت فترة الترشيح إلي يومين آخرين؛ فقلتُ لاصدقائيّ: يا الله، لاذهب وأُعَرِّف نفسي لممارسة العمل؛ وكان من المقرّر أن يُمَثِّل طهران في مجلس الخبراء سماحة الميرزا محمّد باقر الآشتيانيّ ـ وكان في ذلك الوقت شيخ علماء طهران، وهو أكبر الجميع سنّاً بمعيّة عشرة أو اثني عشر آخرين. ومن جهة أُخري فإنّ حزب الجمهوريّة الإسلاميّة تقدّم بترشيح مجموعة من رجالاته، وكان العدد محدوداً، لذا اقترحنا علي الحزب المذكور أن يطرح أسماء مرشّحينا علي أ نّهم مرشّحيه، لكنّ سماحة الشهيد البهشتيّ ـ الذي كان حينها رئيساً للحزب ذهب صباح اليوم التالي إلي بيت سماحة الميرزا محمّد باقر الآشتيانيّ، وقال له: بإمكاننا إدخال شخص واحد في قائمـتنا من العشـرة الذين عيّنتمـوهم، والبقـيّة هم أُولئـك الذيـن تمّ انتخابهم من قبل الحزب.
أَعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ وَصَلَّي اللَهُ عَلَي سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَي أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ
وصلنا إلي أ نّه كنّا نُعدّ أنفسنا للمشاركة في جلسات مجلس الخبراء؛ وقد رشّحنا قائمة، كما رشّح حزب الجمهوريّة الإسلاميّة قائمة أُخري لهذا الغرض. ولم يُفسح الحزب المجال لوصول علماء طهران المعروفين إلي مجلس الخبراء عَبر قائمته بدلاً من رجالاته؛ وقال: بإمكاننا ترشيح واحد منكم، علي أن نُدرجه ضمن الاسماء المتقدّمة، لهذا فقد انزعج سماحة الحاجّ الشيخ محمّد باقر الآشتيانيّ من هذا الموضوع ورفضه ـ علماً أ نّه كان يُعدّ شيخ علماء طهران وأكبرهم سنّاً وقال: لن أُرشّح نفسي لمجلس الخبراء أبداً. ورأينا أن ندخل المعترك من باب أُخري، وبلا شكّ سيكون الظفر حليفنا فيه؛ ولمّا كانت قائمة حزب الجمهوريّة الإسلاميّة تمثّل أفراداً غير معروفين علي صعيد الناس، لذا رأينا أ نّه في حال تقديم قائمتنا فإنّ أكثر أهالي طهران سينتخبون مرشّحينا، لا نّهم من علماء طهران المعروفين بين أوساط الناس. ولم يبق وقت للإعلام والدعاية للمرشّحين، وإن لم يكن ثمّة حاجة لذلك، فلو اقتصرنا علي إعطاء أسمائهم إلي المساجد والتكايا وإعلام أئمّة الجماعة بذلك لكفي هذا لكسب الآراء؛ فكان قرارنا علي هذا الغرار، وأن ندع حزب الجمهوريّة الإسلاميّة ليرشّح جماعته، وبذلك نكون قد عملنا بواجبنا بما يقتضي. ثمّ قيل: إنّكم إذا قمتم بهذا الإجراء، فإنّ حزب الجمهوريّة الإسلاميّة سيقف في الصفّ المعارض، أي أ نّه لن يلتزم جانب الصمت تجاهكم! وكان قد حصل في بعض المدن أن رشّح بعض الافراد أسماءهم في قبال مرشّحي حزب الجمهوريّة الإسلاميّة فانجرّ الامر إلي التهديد، ممّا اضطرّ ذلك العالِم إلي الانسحاب ليترك المجال للحزب. وابتداءً، قلنا: ما العيب في المعارضة إن كان الإنسان يتصرّف من خلال أداء واجبه، فهذه المعارضة والمصادمات موجودة بطبيعة الحال، وسنفوز في الانتخابات حتّي لو انجرّ الامر إلي التعارض، لانّ قائمتنا تحمل أسماءً معروفة لعلماء طهران، والناس يعرفونهم جيّداً، وسيعجز الحزب عن منافستهم. ثمّ أطلعونا بعد ذلك بـ: أنّ آية الله الخمينيّ أصدر أمراً مشدّداً يؤكّد علي عدم فسح المجال للاختلاف في مسألة تعيين المرشّحين، وأن تجري الاُمور بصورة سلميّة؛ وكان هذا الامر مهمّاً جدّاً؛ فنحن نريد أن نحافظ علي الإسلام في هذا الموقف وهذه الظروف؛ وعلينا أن نضع نصب أعيننا مسـألة وجـوده وقيادته وجهـوده، وأن نتجـنّب الاختـلافات واحتـدام المنـازعات، وأن نعـمل مـن أجل الإسـلام، مـن خـلال هذا المنطـلـق والمقتضيات، وليس لنا وظيفة وراء ذلك. ولذلك، امتنع جميع من يروم ترشيح نفسه إلي وزارة الداخليّة في طهران، فلم يشارك أيٌّ منهم في مجلس الخبراء بسبب عدم الترشيح؛ وتقدّم حزب الجمهوريّة الإسلاميّة بقائمته التي ربّما كان الفوز حليف جميع أفرادها، فجري تشكيل مجلس الخبراء المذكور. ثمّ قلنا: ماذا ينبغي أن نعمل الآن؟ المؤلِّف يضع أعضاء مجلس الخبراء أمام نظراتهفقرّرنا أن نرفع كلّ ما بحوزتنا من مطالب علميّة وما قمنا بطبعه في هذا المجال إلي مجلس الخبراء لإعلان تأييدنا لما جاء فيها، لذا أرسلنا تلك الرسالة الموجّهة إلي سماحة آية الله الخمينيّ حول مسوّدة الدستور ـ التي استُنسخت بأعداد كبيرة إلي جميع لجان مجلس الخبراء ـ وكانت في ذلك الوقت سبع لجان، ووظيفة كلّ لجنة النظر في إحدي فقرات الدستور ـ كما أرسلنا لكلّ لجنة رسالة توضيحيّة منفصلة، ثمّ أرسلنا لكل فرد من الخبراء رسالة خاصّة له؛ وحين تمّ تشكيل مجلس الشوري الإسلاميّ أرسلنا لكلّ عضو من أعضائه نسخة من تلك الرسالة. أجل، جاءنا عدد من الطومارات من عدّة مدن، مضافاً إلي عدد آخر من أصفهان يحكي عن موافقتهم علي ما جاء في رسالة مسوّدة الدستور، وقد جلب سماحة السيّد فخر الدين الرحيميّ بنفسه بعض الطومارات، وقد عاني هذا السيّد ما عاني في سبيل الإسلام، وكان من المجاهدين حقّاً، ثمّ كان في عداد الشهداء السبعين الذين استشهدوا في انفجار مقرّ حزب الجمهوريّة الإسلاميّة رحمه الله تعالي؛ وقد قدّمنا أنّ له أخاً ملتزماً يكبره سنّاً واسمه السـيّد نور الدين الرحيـميّ، انتُخـب نائباً في المجـلس، وهو الذي تكفّل بعائلة أخيه بعد شهادته، وقد زارني في منزلي في تلك الفترة خلال إحدي مناسـبات الاعياد التي كنّا نقيـمها، فرأيته رجلاً في منتـهي اللطافة والظرافة وذا نيّة حسـنة وعقيدة سليمة ومن المتحـرّقين لدينـهم، وكان رحمه الله ضمن مسافري تلك الطائرة التي سقطت في أجواء الاهواز فقُتل جميع ركّابها ومن جملتهم سماحة الشيخ فضل الله المحلاّتيّ. «وَاللَهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطٌ» وهو علي كلّ شيءٍ كفيلٌ. وكان الشيخ المحلاّتيّ ـ بدوره رجلاً ذا فهم ثاقب وصاحب غيرة علي دينه، وذا نشاط وحيويّة. وعلي كلّ تقدير، فقد انتقل الجميع إلي رحمة الله. وعلي أيّة حال، فقد جلب سماحة السيّد فخر الدين الرحيميّ تلك الطومارات من مدينة خُرَّم آباد، وأرسلها إلي مجلس الخبراء ـ وربّما هي الآن من ضمن الاسناد والوثائق المحتفظ بها في مجلس الخبراء ومن حيث المجموع يمكننا القول بأنّ تلك الكتابات قد فعلت فعلها، بحيث غيّرت حدود خمسين في المائة من مسوّدة صياغة الدستور، ومَن يراجع مسوّدة الدستور التي نُشِرت في الصحف آنذاك سيجد أنّ خمسين في المائة منها قد اتّخذ مساراً آخر. وكنتُ أُتابع أحداث الثورة يوميّاً عبر صحيفة « اطلاعات » لمدّة سنتين، فأُطالع الصحيفة بكامل صفحاتها، وجلّدتُ تلك الاعداد في ستّة مجلّدات ضخمة، وهي تُمثِّل اليوم جزءاً من الوثائق المهمّة لتأريخنا، الحاكية عن زوال الحكومة الجائرة وظهور حكومة الإسلام، لا نّها دوّنت جميع المقالات والمواضيع السياسيّة في تلك الفترة. علي أيّة حال، فقد أثّرت تلك الكتابات بنسبة خمسين في المائة، وهو أقصي ما بإمكانهم فعله، لا نّه ـ وكما يعلم الجميع وُجد في مجلس الخبراء في دورته الاُولي ثمّة أفراد غير مرغوبين لم يسمحوا للدستور أن يكون إسلاميّاً مائة في المائة؛ كما لم يكن بإمكان آية الله الخمينيّ حينها الضغط أكثر من ذلك باعتباره الوليّ الفقيه، لانّ جلسات مجلس الخبراء لم تنتهِ بعد ولم يصدر إقرار حاكميّة ولاية الفقيه، وما دامت الولاية غير ثابتة بعد، فليس له أكثر من الإشراف علي الاُمور. وأخيراً، وعلي مشارف تشكيل مجلس الخبراء لإعادة النظر في الدستور، ارتأي بعض الرفقاء في طهران بأن يأخذ رسالة مسوّدة الدستور، مضافاً إلي « رسالة جديدة في بناء الإسلام علي الشهور القمريّة » و « رسالة بديعة، في تفسير آية: الرِّجَالُ قَوَّ مُونَ عَلَي النِّسَآءِ» فيضعها بين أيادي أُولئك السادة ليكونوا علي اطّلاع بما فيها، وليتحمّلوا أعباء المسؤوليّة الإلهيّة أثناء قيامهم بإعادة النظر في الدستور، لانّ معني إعادة النظر، هو: عدم واقعيّة وإلهيّة تلك القوانين المصادق عليها مائة في المائة؛ إذ من موادّ هذا الدستور الفصل بين السلطان الثلاث، وهي: السلطة القضائيّة، السلطة التنفيذيّة، والسلطة التشريعيّة، ومبني الفصل مستمدّ من دستور الكفر، وهو ما أقرّته الثورة الفرنسيّة الكبري علي ما جاء به مونتسكيو في كتابه « روح القوانين » في موقفه أزاء التعدّي والظلم الحاصل المتجسّد في قوله: ليس من الصواب تسليم زمام الاُمور لشخص واحد جائر، ولابدّ من فصل السـلطات، وأن تكـون لكلّ سلطة استقـلاليّة تامّة غير مرتبـطة بباقـي السلطتَين الاُخريَين. وهذا ليـس بجـديد، فلفصـل السـلطات سابقة تأريخـيّة عند بعض حكماء اليونان، حيث كانوا يفصـلون هذه السـلطات الثلاث عند تشـكيل الحكومة. أمّا في الإسلام فلا يقال بالفصل بين السلطات، فحكم الوليّ والحاكم جارٍ علي كافّة الاصعدة، والوليّ يقف علي رأس السلطات التنفيذيّة والقضائيّة والتشريعيّة، كما أ نّه لا يوجد في الإسلام تشريع للقوانين، بل إنّ الجاري هو بيان الاحكام، وإنّه لا حاكميّة لغير القرآن وأحكام رسول الله القطعيّة، ولا مجال حتّي للفقيه من أن يجعل حكماً من عنده. تأليف كتاب «رسالة بديعة»ومن المسائل الاُخري المثارة في تلك الفترة التي تزامنت مع انعقاد جلسات مجلس الخبراء، أنّه طرق سمعنا تحرّك القاضيات اللاتي كنّ في عهد الطاغوت للتجمّع في طهران والقيام بحركة منظّمة، حيث تركّزت خطبهنّ علي سؤال: لماذا لا تكون المرأة قاضية؟ وأجابت بعض الصحف علي تساؤلهن، ولكن ليس بذاك القدر الشافي والمتقن؛ حيث قيل بأنّ مجلس الخبراء بصدد إصدار قرارات يسمح بموجبها للنساء لترشيح أنفسهنّ لنيابة المجلس بل قد يُصبحن برتبة قائم مقام أو محافظ أو رئيس جمهوريّة. ولهذا السبب شرعتُ في تأليف كتاب « رسالةٌ بديعةٌ » باسم « الرِّجَالُ قَوَّ مُونَ عَلَي النِّسَآءِ »، وعكفتُ علي إتمامه لمدّة خمسة أسابيع، حيث بدأتُ به في اليوم الثامن من شوّال، وانتهيت منه في الخامس عشر من ذي القعدة، ولاهمّيّة الموضوع والظرف واختزالاً للوقت، فقد طبعته علي ما هو بخطّ يدي دون تنضيد بالحروف الطباعيّة. وقد تجلّي في هذه الرسالة جيّداً أنّ عنوان نائب في المجلس لا يعني النيابة بل الولاية، كما أنّ هذه الولاية ليست ولاية شخصيّة، بل ولاية عامّة، والقانون يعطي لنوّاب المجلس هذه الولاية التي هي أقوي بكثير من الولاية الشخصيّة، فلا يتعلّق أصل الكلام بالنيابة، ليقال إنّ بإمكان أيّ شخص ـ سواء كان رجلاً أم امرأة أن ينوب عن آخر بغضّ النظر عن الجنسيّة؛ لا، فالمسألة ليست كذلك. وبعد أن أتممت المباحث أتيتُ في آخر الرسالة بالكثير من المطالب التأريخيّة والوثائقيّة من سيرة رسول الله والائمّة والآيات القرآنيّة والشواهد التي لا تدع أيّ مجال للشكّ والشبهة. وتطرّقت في الاثناء إلي مسألة ولاية الفقيه، وقدّمتُ فيها أدلّة لم يأتِ بها لحدّ الآن عالم من علماء الإسلام علي هذا النحو، ولم يستدلّ أحد منهم بهذا النهج الاستدلاليّ من قبل. ومن الادلّة التي لم يتطرّق إليها أحد: تلك الرواية التي يقول فيها أمير المؤمنين عليه السلام لكميل: العُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ... وبعد أن يُبيِّن أربعة أصناف من العلماء عديمي الفائدة، يقول: اللَهُمَّ بَلَي! لاَ تَخْلُو الاَرْضُ مِن قَائِمٍ بِحُجَّةٍ، إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللَهِ وَبَيِّنَاتُهُ. وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟ أُولَئِكَ وَاللَهِ الاَقَلُّونَ عَدَداً، وَالاَعْظَمُونَ عِندَ اللَهِ قَدْراً. يَحْفَظُ اللَهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّي يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، وبعد ذِكر عِلمهم وحالاتهم النفسانيّة، يقول عليه السلام: أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إلَي دِينِهِ. آهِ آهِ شَوْقاً إلَي رُؤْيَتِهِمْ... فما أن يصل عليه السلام إلي تشخيص خلفائه حتّي يقول: آهِ آهِ شَوْقاً إلي لِقَائِهِمْ.... وقد أطبق جميع العلماء الذين بحثوا في هذه الرواية علي القول بأنّ الحجّة هنا هو إمام العصر عليه السلام، وأنّ آهِ آهِ شَوْقاً إلَي لِقَائِهِمْ قرينة علي أنّ أمير المؤمنين يريد أن يقول: إنّني مشتاق إلي رؤية ذلك المقام المقدّس، وأنّ خُلَفَاءَ اللَهِ فِي الاَرْضِ من مختصّات ذلك الإمام، وأنّ المقصود بـ: إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً هو ذلك الإمام في غيبته. لكنّني استدللتُ هناك بعدّة قرائن علي أ نّه لا يمكن اعتبار الحجّة هنا هو الإمام عليه السلام، بل المقصود هو هؤلاء الفقهاء الذين يمتازون بصفاء القلب والإخلاص والفِطرة السليمة، والمتّصلين بعالم الربوبيّة، وهم هؤلاء الذين كُشِفَتْ عنهم الحجب الظلمانيّة وصاروا عالمين بالله وبأمر الله، وهذا هو أحد أدلّة ولاية الفقيه المحكمة. ومن الادلّة التي لم يستدلّ بها أحد أيضاً: الآية المباركة: يَـ'´أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي´ أَهْدِكَ صِرَ طًا سَوِيًّا. وكذلك الرسالة التي كتبها أمير المؤمنين عليه السلام إلي مالك الاشتر النخعيّ حين ولاّه علي مصر، حيث يستفاد من الرسالة جملة الشروط التي يجب توفّرها في الحاكم والتي تُمَثِّل أدلّة ولاية الفقيه المحكمة؛ بطبيعة الحال فإنّ أدلّة ولاية الفقيه التي ذكرها العلماء علي مكانتها وقد ذكرتها في ذلك الكتاب، لكنّ هذه الادلّة مبتكرة، لم يأتِ بها أحد من قبل. وقد قمنا بنشر هذه الرسالة، وقد كتبتها باللغة العربيّة لسببين؛ الاوّل، لانّ هذه الرسالة من حيث الاصل داخلة ضمن المباحث الفقهيّة في مدرسة الإسلام، وسيتـناولها العلـماء في الحـوزات العلمـيّة، أي أ نّها جزء من النصـوص الفقهـيّة، ومثل هذه النصـوص لا تنحـصر بالناطـقين باللغة الفارسـيّة، بل لابدّ لها أن تشـمل نطاق الدنيا بأكمله لتـذهب إلي جمـيع المدارس العلميّة، وأن تصل لايادي جميع العلماء، كبقيّة الرسائل وكتب العلماء الفقهيّة المدوّنة باللغة العربيّة، وكما هي عليه الآيات والروايات وطريق البحوث الاُصوليّة والاستدلالات الاُصوليّة والفقهيّة، ومن حيث الاساس لا يمكن الكتابة بالفارسيّة إلاّ بعد الترجمة من العربيّة، والقرآن الكريم والروايات والمصطلحات الفقهيّة والاُصوليّة والرجاليّة والروائيّة كلّها عربيّة، ولابدّ لهكذا كتب التي تتحدّث في هذه الاُصول أن تدوّن باللغة العربيّة. ومن جهة أُخري، كنّا قد احتملنا أن يرسل مجلس الخبراء نساء إلي المجلس، ويقرّر أنّ بإمكانهنّ أن يصبحن منتخِبات ومنتخَبات، وكان من الممكن أن يكون علي رأس الموقّعين آية الله الخمينيّ. ونحن لا نبغي في هذه الرسالة معارضته ومواجهته. وبطبيعة الحال فإنّ آراء جميع المجتهدين محترمة، وللعلماء في كلّ عصر وعهد آراء اجتهاديّة مختلفة في مسألة واحدة، ولم يُشاهَد ـ في زمان واحد مجتهدان اتّفقا في الآراء الفقهيّة والاُصوليّة من جميع الجهات، والاختلاف بينهم عادة دارجة ورائجة مع بقاء الاحترام المتبادل والحفاظ علي حالة التجليل والتكريم فيما بينهم بكلّ ما للكلمة من معني. ولمّا كان آية الله الخمينيّ علي رأس المجتهدين حاليّاً، وكنّا في صدد إبداء وجهة نظر علميّة، لذا لم نشأ تدوينه بالفارسيّة لئلاّ يقع في أيدي العوامّ، فيقولون: إن كان هذا هو الصواب، فماذا يعني ذاك؟ وإن كان ذاك، فما هذا؟ فكتبنا الرسالة باللغة العربيّة لتكون بعيدة عن متناول عامّة الناس، ولكي تكون موجّهة إلي العلماء وأصحاب الدراية والاطّلاع وأهل مطالعة ومراجعة الكتب الفقهيّة، لا نّهم أسرع فهماً للمطلب، وإذا ما استوعب العلماء المطلب فالمسألة محلولة. وقد قمنا قبل طبع الرسالة باستنساخ عشرين نسخة منها، وأرسلنا النسخة الاُولي إلي آية الله الخمينيّ، والبقيّة إلي الاُستاذ العلاّمة الطباطبائيّ وسائر العلماء والشخصيّات، ثمّ قمنا علي الفور بطبع ألفي نسخة ووزّعناها علي مكتبات طهران والمدن الاُخري. وتصدّي بعض رفقائنا للذهاب بالسيّارات إلي بعض المدن كشيراز وأصفهان لتوزيع نسخ الكتاب علي المكتبات هناك، لتتناولها أيدي من يروم مطالعتها. كما أرسلنا نسخاً إلي العلماء وكبار الشخصيّات في المدن وإلي جميع أعضاء مجلس الخبراء؛ ثمّ أرسلنا إلي أعضاء مجلس الشوري بعد تشكيله ثلاثمائة نسخة من أجل أن يكون الاعضاء علي علم بما جاء فيها. وبحـمد الله فقد أخـذت هذه الرسـالة العلمـيّة المتقـنة مأخـذها، ولم يوجّه لها أيّ انتقاد لحدّ الآن، وكان لها وقع مؤثّر. وقد نجم من تدويني للرسالة باللغة العربيّة، أوّلاً: أ نّها نُشرت في بعض الدول العربيّة. ثانياً: أنّ الرسالة حظيت بمطالعة شخصيّات من أهل الدراية في الدول العربيّة. حتّي أنّ الرسالة وقعت في أيدي بعض النساء المسلمات المتعلّمات العاملات بين أوساط الرجال في المجالات العامّة والجامعيّة، فغيّرت قناعاتهنّ وقُلن: هذا هو الإسلام حقيقة؛ وفي الحقيقة فإنّنا ما كنّا نفهم الإسلام لحدّ الآن؛ وهذا هو الإسلام في حقيقته؛ وهذه هي المرأة، وها هي وظيفتها؛ وها هو كمال المرأة؛ وها هو معني تطوّر المرأة؛ فأين ذهب بنا الطاغوت تحت واجهة الإسلام! وراحت التساؤلات الاستنكاريّة تتكاثر، وامتدّت رقعتها إلي الحدّ الذي فكّرنا معه بتقليل حدّتها خوفاً من غلبة هياج الحالة، من أجل أن تُناقش المسألة بمنطق علميّ هادي رصين. وبعد ما يقارب السنتين تُرجمت الرسالة المذكورة إلي اللغة الفارسيّة، بعد أن توضّحت المسألة للجميع، وأصبح ليس ثمّة خطورة فيما لو انتشرت بين عامّة الناس، فتناولتها الايدي، وتأثّر بمضامينها كثير من المسلمات، ونجمت عنها تغييرات جذريّة في واقع حياتهنّ، وجاءتني إحداهن ـ وهي امرأة فاضلة جدّاً، وكاملة، وعالمة، وفاهمة، ومجاهدة، وذات فكر ثاقب فقالت: لقد انقلب وضعي منذ تلك اللحظة التي قرأت فيها الرسالة، فتبدّل أُسلوبي في الحياة تماماً، ثمّ أدركتُ بأ نّي لم أكن سابقاً علي جادّة الصواب، وأنّ الصحيح هو ما وجّهتنا به هذه الرسالة. ولم نكن قد اقتصرنا في بحثنا علي الادلّة الشرعيّة لوحدها، بل شفعنا قسمه الاوّل بالادلّة العقليّة والعلميّة عند بحث: ما هي المرأة؟ ما هي بُنيتها؟ ما هو تركيبها البدنيّ؟ ما هي حقوقها الفطريّة التي وهبها الله؟ أين يكمن كمالها؟ وبعد أن بيّنّا الترابط العضويّ بين كلّ ما تقدّم، وصلنا إلي أ نّه لا يجوز للمرأة المشاركة في مجلس الشوري؛ واعتماداً علي الشواهد، بان بشكل قاطع أنّ الصحيح هو ما ذهبنا إليه. وللّه الحمد، فقد أثّرت هذه الرسالة بما ينبغي كما أسلفنا، ولم يُقدم أحد علي الردّ عليها، إذ لم يطرق سمعنا أ نّه قد كُتِب موضوع مخالف لها ولو بجملة واحدة عَبر جميع وسائل الإعلام المختلفة، لوضوح مطالبها، ولانّ جميع أسانيد الادلّة والشواهد المذكورة معيّنة، وكذا كتابها وبحثها الفقهيّ والاُصوليّ، مضافاً إلي البحث القرآنيّ المتعلّق بها، ولا يمكن لايّ مسلم حين مراجعته لهذه الرسالة توجيه أيّ اعتراض علي ما جاء فيها، لاعتمادها علي تلك المصادر المحكمة؛ اللهمّ إلاّ أن يكون ممّن لا يقبلون القرآن! أمّا مَن يعتقد بالقرآن ويُصَدِّق بالنبيّ ويقرّ أنّ هذا الكلام كلامه، فلا يبقي له مجال لإنكار ما جاء في الرسالة، ولهذا السبب كانت مؤثّرة جدّاً؛ وهكذا أخذت مسارها ودخلت باب النصوص الفقهيّة علي ما كنتُ أتوقّع. نحن نكتبُ شيئاً ولا نحسب أ نّه ذا أثر، ثمّ تنبع فيه عين الحياة فيجري رويّاً! فممّا لا شكّ فيه أ نّها إرادة الله ومشيئته؛ ويشهد الله أ نّي ما كتبت شيئاً إلاّ وأروم فيه عظمة الإسلام وإحقاق الحقّ والدفاع عن حقوق المظلومين، وإظهاراً لحقيقة الإسلام، والله علي ما نقول وكيل. اقتراح حول ولاية الفقيهكان ابن أُختي الفاضل سماحة السيّد عبد الصاحب ( السيّد علي أكبر الحسينيّ ) قد سألني في وقت ما: خالي العزيز! لماذا لا تدوّن المواضيع التي تعرفها؟ لماذا لا تكتب شيئاً؟ قلتُ: إنّ الخجل ليخالجني والله، فماذا أكتب في قبال كلّ هذه الكتب، ولقد أ لّف العلماء الاعلام كلّ هذه المؤلّفات في الفقه والاُصول والفلسفة والعرفان فلم يبق لي شيء للخوض في كتابته. قال: إنّكم تماثلون آية الله البروجرديّ. وكان آية الله البروجرديّ محتاطاً جدّاً في الكتابة، فعلي الرغم من جلالة مكانته وعلمه الغزير في الفقه ومبادي الاُصول والرجال والحديث، واضطلاعه في التفسير والتأريخ، وفي فقه العامّة، لكنّه لم يكتب شيئاً، حذراً من أن يشطح قلمه في كلمة واحدة! وقد كتب رسالة في علم الرجال باسمه، وهي رسالة نفيسة جدّاً، واستمرّ لآخر عمره وهو يهمّ بطبعها، لكنّه كلّما عزم علي إرسالها للطبع ألقي عليها نظرة، فرأي أ نّها بحاجة إلي تنقيح، وبقي هكذا حتّي رحل عن الدنيا ورسالته لم تطبع بعد. أجل، قال لي: أنتم مثله؛ وإنّكم علي درجة من الوسوسة بحيث تحرمون الناس من هذا العطاء! فاكتبوا ما تعلمونه وقدّموه للناس. وباختصار، فقد هزّني هذا الكلام، فقلـتُ: ماذا علَيَّ أن أفعـل؟ فلنكتب ونُقدّم للناس؛ والباقي علي الله، وكلّ إناءٍ بالذي فيه ينضح. لذا فقد دوّنتها علي هذه الكيفيّة، أمّا هل كانت الساحة خالية أم أنّ الناس كانوا بحاجة إليها، فالمهمّ أنّ الله هو الذي بعث الروح فيها وأراد لها أن تكون مؤثّرة، وقد أثمرت بشكل فاق ما كنّا نتصوّره، وللّه الحمد فقد دُوِّن الدستور ـ كما بيّنّا علي أساس ولاية الفقيه، في وقت لم يكن فيه ثمّة اسم يُذكر لولاية الفقيه، حتّي أ نّه حينما اقترح في مجلس الخبراء طرح مسألة ولاية الفقيه غضب بعض الاعضاء وجلسوا في زاوية المجلس قائلين: وا ويلتاه! ها قد عادت الرجعيّة وحكومة الملالي إلي الساحة، وعاد علينا أصحاب النعال من جديد، وشدّ اللجام أمام عنان الانفلات وتلك الحرّيّات غير المقيّدة وحالة عدم الالتزام واللاأُباليّة و... وتلاشي هذا الطموح بين أدراج الرياح؛ وباختصار، فقد نصبوا لهم عزاءً. وقال البعض: أفيمكن هذا؟ إنّما كانت نهضتنا من أجل الحرّيّة والرفاه، فكيف نأتي بولاية الفقيه علي رأس الاُمور؟ لكنّ رسالة « ولاية الفقيه » المقدّمة بأدلّتها المكتوبة قد أثّرت تأثيراً شديداً، لفتت الناس إلي حقيقة الامر، وأثبتت أنّ حكومة الملالي ليست حكومة الاستبداد والجاهليّة، بل هي حكومة عظمة الحقّ، ومتانة الواقع، وأصالة الإسلام، وحكومة التمتّع بجميع المواهب الإلهيّة. وولاية الفقيه تعني الخروج من زيّ العبوديّة والفرعنة والتجبّر، وإزاحة راية الكفر والتبعيّة بواسطة أشفق المسلمين الملتزمين وأصلحهم وأعلمهم وأكثرهم نكراناً للذات. وبعد الرسالة التي بعثـتها إلي آية الله الخمينيّ في خصوص مسوّدة الدستور والتي لاقت رواجاً واسعاً بين الناس، فقد بدأت الصحف بكتابة المواضيع المتعلّقة بهذا الشأن، وكنتُ أُطالع جميع ذلك. وكان آية الله النجفيّ المرعشيّ قد كتب ـ قبل رسالتنا مقالة حول ولاية الفقيه لم تتجاوز سبعة أو ثمانية أسطر، وبعد نشر رسالتنا كتب مقالة أُخري بحدود ربع صفحة تقريباً، وكان هذا الامر باعثاً للامل في ضرورة نشر هكذا مطالب وإيصالها إلي أسماع الناس بأيّ شكل كان؛ كما طُبع لآية الله المنتظريّ أيضاً مقالة حول ولاية الفقيه نشرت في الصحيفة اليوميّة، وكانت مفيدة ومثمرة. وكانت جميع المواضيع المطروحة ذات أساس وجوهر واحد، وما كنّا نطلب غير هذا؛ يعني أ نّنا كنّا نريد لهذا الموضوع أن يصل إلي أسماع الناس ليفهموا أنّ ولاية الفقيه تلك هي التي يقولها الله ويقول بها الإسلام، وأنّ الفقيه ليس ذلك الذي يذهب لحفظ قواعد الفقه المعهودة، ولا صاحب العمامة الكبيرة الذي يمسك بيده عصا ويلتفّ حوله بعض الافراد بشكل يوحون فيه للآخرين علي أ نّه فقيه؛ إذ لابدّ للفقيه الوليّ من أن يكون عالِماً بالله وبأمر الله، وأن يكون في أعلي درجات الفقاهة، وفي أعلي درجات الحكمة والمعرفة بالله عزّ وجلّ كما عليه أن يكون بصيراً بأُمور الدين، وأن يكون مخلصاً مشفقاً محيّاً للناس، وأن يكون خبيراً بمقتضيات واحتياجات زمانه، وعلي اتّصال مستمرّ بالله وبعالَم الغيب. وإذا لاحظتم فقد كرّرت ذِكر هذه العبارة في أكثر من مكان، وهي: ينبغي أن يكون ذلك الفقيه من الذين تخطّوا عالم الجزئيّة والتحق بالكلّيّة. وقد سألني الكثير عن معني هذه الجملة: « التحق بالكلّيّة »؟ إنّ هذه الجملة ذات أهمّيّة فائقة، وهي أفضل قيد عيّنه الله لوليّ أمر مجتمع المسلمين؛ حيث إنّ ثمّة مصدر للقرار في كلّ دولة أو دين أو منهج، فأين هو مركز القرار في الإسلام؟ إنّ وليّ الامر في الإسلام هو: أنزه، وأسمي، وأعلم، وأوعي وأكثر مَن كان مُنكِراً لذاته، وأشدّ ارتباطاً واتّصالاً بالربّ؛ فأيّة عبارة أفضل من هذه العبارة يمكـنك أن تعـثر عليها أو تتصوّرها؟ إنّ الفقيه هو ذلك الشخص الذي يماثل رسول الله وأمير المؤمنين والائمّة، أو ذلك الشخص المنصوب من قِبَلِهم إمّا بالنيابة الخاصّة أو بالنيابة العامّة، وفق الشروط التي سيتمّ ذكرها. وقد حصلنا علي هذه الشروط عن طريق الادلّة الفقهيّة، ومنها أ نّه ينبغي للفقيه أن يكون عارفاً بالله، وإلاّ فليس بفقيه؛ الفقيه ليس مَن يدّعي لنفسه الفقاهة، ولا الذي يُدرِّس مقداراً محدوداً من دروس الفقه والاُصول؛ لا، فأغلب أُولئك ليسوا من الفقهاء حتّي يصلوا إلي درجة الإفتاء وامتلاك رأيٍ اجتهاديّ! أو جمع شروط الحاكميّة! وهذا الموضوع يفتح الطريق واسعاً أمام الإنسان، ويبصّره بأنّ الحكومة ليست أُلعوبة بيد الناس يلعبون بها علي هواهم، بل هي أمر إلهيّ يتعلّق بها حياة الناس ومماتهم ودنياهم وآخرتهم بمقدار ظريف ودقيق وخطير، يمكن أن يقال عنه إنّه أحَدُّ من السيف وأرفع من الشعرة. فدقّة وظرافة أوامر الإسلام كالصراط الممتدّ علي جهنّم، ولابدّ لمن يدخل الجنّة من اجتيازه؛ وإن شاء الله تعالي سيتمّ اجتيازه بسرعة فائقة كالبرق الخاطف. وباختصار، فقد كانت الرسالة مؤثّرة جدّاً، وكان ما فعلناه مُثمراً وكان لنا اتّصال ببعض العلماء الكبار من أعضاء مجلس الخبراء، من أمثال المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ مرتضي الحائريّ رحمة الله عليه الذي قال ذات يوم: إنّ بعض أعضاء مجلـس الخـبراء كان يريد سنّ قوانين شيـوعيّة، فكانوا ينهضون ويتكلّمون فلا تحسّ في القوانين التي يتحدّثون عنها أثراً من الإسلام، فماذا نفعل؟! فقلتُ: عليكم بالصبر والتحمّل، وبيان آرائكم. ثمّ حصل في النهاية أ نّه نهض فتكلّم لمدّة ساعة، ثمّ قدّم استقالته وغادر المجلس. ولكنّنا مارسنا أنشطتنا بصورة عمليّة، واتّصلنا بالناس، وتعرّفنا علي ما يريدون، فاستمدّينا منهم القوّة، فقد ولّي عهد تلك الحكومة الجائرة وأضحت الحكومة الحاليّة بيد الجماهير، ولابدّ لهذه الجماهير من أن تسيّر أُمورها بنفسها. فعّاليّة المؤلِّف في دائرة مسجد القائم المحلّيّةوانطلقنا من مسجد القائم نمارس نشاطاتنا، وأصبحت المساجد المعروفة والمشهورة في المحلاّت المختلفة مركز إشعاع في مجال دائرتها، وكانت تلك المساجد بمثابة قاعدة الانطلاق لمختلف النشاطات. لذا، دعونا الناس ذات يوم للمجيء إلي المسجد، فهبّ الاصدقاء والمعارف وملؤوا صحن المسجد ورواقه، فخطبتُ فيهم بكلمة مسهبة جدّاً تناولت فيها مسألة تشكيل لجان المسجد لتلبية احتياجات أهل المحلّة بقدر المستطاع، بل تكفّلنا ممارسة الاعمال بأعلي من طاقاتنا المتاحة آنذاك؛ ولإنجاز هذه المهمّة كنّا قد هيّأنا بطاقات مطبوعة ووزّعناها بين الناس، وبيّنّا فيها الدائرة التي تشملها نشاطات المسجد. يعني من شارع السعدي إلي تقاطع مُخبر الدولة، وشارع استانبول ولاله زار حتّي تقاطع نادري، ثمّ شارع الفردوسيّ، ساحة الفردوسيّ، شارع انقلاب ( = الثورة ) إلي دروازه شميران ( = بوّابة شميران ) وپل چوبي ( = الجسر الخشبيّ )، ومن هناك أيضاً شارع بهارستان إلي مجلس الشوري القديم وشارع الجمهوريّة الإسلاميّة، فهذه هي حدود منطقة لجان مسجد القائم ومنطقة نشاطاته التي علينا إدارتها. وكنّا قد وزّعنا هذه البطاقات علي جميع البيوت، وكان عملنا بمثابة القيام بعمليّة إحصائيّة كاملة، حيث تمّ السؤال فيها عن ربّ العائلة، اسمه، تأريخ الولادة، رقم دفتر النفوس، هل هو أعزب أو متزوّج، آخر شهادة دراسيّة حصل عليها، في أيّ فرع كان تحصيله الدراسيّ، الشغل الحاليّ، رقم هاتف البيت ومحلّ العمل، الديانة: مسلم أو مسيحيّ أو يهوديّ أو زرتشتيّ، وسؤال « مَن يَرغب في العمل ضمن إحدي هذه اللجان مِن أفراد العائلة؟». ونوّهنا بأنّ علي مَن يري في نفسه الاهليّة، فليكتب في أدني القائمة اسم المجال الذي يرغب فيه: في القرآن، التحقيق، التبليغ والإرشاد، المسرح، النحت، الخطّ، الرسم، التصميم والكاريكاتير، الصحافة، التحقيق في النصوص الدينيّة، الكتابة والتأليف، المطالعة، ترجمة النصوص غير الفارسيّة، فنّ البيان، التحقيق في النصوص الفلسفيّة؛ ثمّ أدرجنا مجموعة أسئلة كالتالي: هل تجيد اللغة العربيّة؟ ما هي اللغات الاجنبيّة التي تتكلّم بها: الإنجليزيّة، الالمانيّة، الروسيّة، الفرنسيّة، الإيطاليّة؟ ما هي أنشطتك الفنّيّة والثقافيّة والمهنيّة والتعاونيّة؟ منذ متي تعيش في طهران؟ اذكر الاوقات المناسبة التي يمكنك فيها أُسبوعيّاً التواجد في الجمعيّة الإسلاميّة في مسجد القائم؛ ما هي آراؤك واقتراحاتك؟ ثمّ كتـبنا: يرجـي ملء هذه الاستـمارة وسنـراجعـكم بعد يومـين لاسترجاعها. وكنّا في ذلك الوقت قد شكّلنا ثماني عشر لجنة، علي رأسها إمام الجماعة، ثمّ هيئة التوجيه والإرشاد، ثمّ الهيئة التنفيذيّة، فكانت هذه عبارة عن ثلاث لجان شملت الشؤون الاجتماعيّة والثقافيّة والرفاهيّة. وتنقسم الشؤون الاجتماعيّة إلي خمس لجان، هي: لجنة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لجنة التحكيم وحلّ النزاع، لجنة الاتّصال والتنسيق مع سائر اللجان الإسلاميّة، لجنة الإحصاء والاستفتاء، لجنة الشؤون الدفاعيّة والتدريب العسكريّ. أمّا الشؤون الثقافيّة فلها ثمان لجان، هي: لجنة درسَي القرآن والتفسير، لجنة الحوزة العلميّة والطلاّب، لجنة المكتبة والنشر، لجنة التحقيق في المسائل العلميّة والفلسفيّة، لجنة التبليغ والخطابة والبحث الحرّ، لجنة تعليم اللغة العربيّة واللغات الاجنبيّة، لجنة إعداد الافلام والصور والمعارض، لجنة الانشطة الرياضيّة والتربويّة مع تسلّق الجبال والسباحة وغيرها. أمّا الشؤون الرفاهيّة فلها خمس لجان، هي: لجنة الشؤون العلاجيّة والصحّة، لجنة صندوق القرضة الحسنة، لجنة الجمعيّات التعاونيّة والشؤون الخيريّة، لجنة رعاية الفقراء والمستضعفين، لجنة معرض المبيعات الإسلاميّ. كانت هذه مجموعة اللجان الثماني عشر المدرجة في الاستمارة المذكورة؛ حينها سنفهم من خلالها كم هو عدد العوائل الفقيرة في المحلّة، ومن المذهل أ نّنا وجدنا عجائزاً مستحقّات للعون، وعوائلاً فقيرة محتاجة إلي رغيف خبز في عشائها، مع أنّ أهالي تلك المنطقة يُعدّون أفضل حالاً من سواهم في باقي مناطق طهران، وقد لا يُصدّق المرء بوجود عوائل فقيرة مستحقة هناك، والله أعلم كم كانت هذه الاستمارات مفيدة ونافعة. ولهذا السبب فقد باشرت لجنة القرضة الحسنة ولجنة الجمعيّات التعاونيّة والشؤون الخيريّة أعمالها علي الفور، وكذا كان من المقرّر لوحدة الشؤون العسكريّة أن تبدأ بتجنيد كافّة أفراد المحلّة لتدريبهم علي الفنون العسكريّة، وأرسلنا كثيراً من رجالنا لإنجاز هذه المهام؛ لا نّنا قدّمنا ضمن الموادّ العشرين التي اقترحناها علي آية الله الخمينيّ، أنّ علي جميع أبناء البلاد بين سنّ الخامسة عشر إلي الاربعين أن يلتحقوا بدورات الإعداد والتدريب العسكريّ الإجباريّة، سواء كنّا في حالة حرب أم غير ذلك، وسواء كان أُولئك الافراد من الحرس أم من غيرهم، لانّ علي جميع المسلمين أن يتعلّموا الفنون العسكريّة في حدود الرماية والتعليمات الاوّليّة. وهذا أمر خطير وحساس. لماذا؟ لانّ العدوّ قد يهاجمنا ونحن في عقر دورنا ولابدّ للمرء أن يدافع عن نفسه، ليس بسكّين المطـبخ، بل لابدّ له من تعلّم الرماية وكيفيّة استعمال البندقيّة الآليّة والتعرّف علي فنون القتال الحـديثة، والدفاع من الواجبات الملقاة علي جميع أبناء البلد. وحين كانت إيران ذات نظام عشائريّ، فقد كان لكلّ عشيرة حدود خاصّة لا تسمح لاعدائها بتجاوزها. وحين جاء الإنجليز بنظام الطاغوت إلي البلد، فإنّه ألغي تلك الحدود، فقضي البهلويّ علي جميع عشائر التركمان وعرب خوزستان والبختياريّة والاكراد والاتراك. وباسم تشكيل الحكومة المركزيّة، فقد تمركزت جميع القوي في يد النظام الكافر، وصار الملك قائداً عامّاً للقوّات، وهو تحت إمرة الاستعمار الكافر؛ وكان جنود الدولة في السابق بأعداد قليلة، وكان الناس هم الذين يدافعون عن شؤون البلد، وكانت الناس تهبّ للدفاع والمواجهة مع الاعداء قبل وصول الجيش والقيام بمهمّته، وهكذا هو البرنامج الإسلاميّ، الذي يحثّ ويؤكّد علي أ نّه لابدّ للناس من الدفاع، وليس في الإسلام مجموعة خاصّة باسم الجنود والجيش، فالكلّ مكلّف بالدفاع عن حياض الإسلام، من الصبي الحديث العهد بالبلوغ حتّي الشيخ المسنّ البالغ من العمر مائة سنة. ومرّ علينا أنّ أحد شهداء معركة أُحُد هو حنظلة غسيل الملائكة، ذلك الشابّ الذي كان في ريعان شبابه، وكانت ليلة زفافه ليلة المعركة، ففضّل الجهاد علي العرس والتحق بصفوف المجاهدين واستُشهد في اليوم التالي. وقُتِل عمّار بن ياسر في واقعة صفّين وهو يقاتل بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام وله من العمر ثلاث وتسعون سنة أو أربع وتسعون سنة؛ نعم، فبين جنود الإسلام مَن هو بسنّ الثلاث وتسعين سنة. إذ لا معني للصغير والكبير هنا، فالكلّ جنود الإسلام، وعلي الجميع أن يكونوا علي أُهبة الاستعداد من خلال تعلّم فنون الحرب وكيفيّة استعمال الاسلحة؛ وعلي الجميع أيضاً أن يتعلّموا السباحة، ويتمرّنوا علي العَدْو، وعلي كلّ ما يدخل ضمن مستلزمات الدفاع إذا ما دعت الضرورة إليه. ومرّ علينا أنّ من المقترحات التي وجّهناها إلي آية الله الخمينيّ، تأسيس تشكيلة حرس الثورة، طبعاً ليس بهذه التسمية المعروفة اليوم، بل اقترحناها تحت واجهة جمعيّة المقاومة الوطنيّة. وقلتُ: لا ينبـغي الاعتـماد علي الجيـش الحاليّ المتعـرِّض لحالة انكسار من خلال انتصار الثورة، ولا بقائده الفلانيّ، لانّ فيهم ميلاً إلي ذلك الجانـب! وعليـنا في أسرع وقت ممـكن تشـكيل جبـهة من الناس باسم المقاومة الوطنيّة. وكان المرحوم الشهيد الحاجّ الشيخ مرتضي المطهّريّ علي قيد الحياة حينها، فقال: لقد عُيِّن عشرة آلاف شابّ للتدريب علي الفنون العسكريّة علي حساب ميزانيّة الدولة، ومن المقرّر أن يلتحق بهم عشرة آلاف آخرين كوجبة ثانية؛ وشكّلت تلك المجاميع حرس الثورة المعروف اليوم؛ ولو لم يكن حرس الثورة لضاعت البلاد تماماً في الحرب بين إيران والعراق. حيـث كان كسـب الحـرب متعـذّراً بذلك الجـيش الفاقد للشـعور بالمسؤوليّة وغير المضحّي؛ تلك الحرب التي لا يمكن أن نقول عنها إنّها حرب بين إيران والعراق، بل هي حرب عالميّة ضدّ إيران، يعني أنّ قدرات التسلّط العالميّ كانت تساند العراق في حربه مع إيران من حيث العِدّة والعُدّة وبأعلي ما يمكن، وبهذه المقاومة الوطنيّة تمّ الحفاظ علي البلاد، وإلاّ لانتهي كلّ شيء منذ الوهلة الاُولي. وهذه أيضاً من المسائل المهمّة التي انتهت بحمد الله ومنّه علي أحسن وجه، وستبقي أسماء هؤلاء الشـباب في بسـالتـهم دفاعاً عن الإسلام والوطـن شامخة علي صفـحات التأريخ ما كرّ الجديدان. ومرّ أيضاً أنّ من الاشياء التي اقترحناها، السماح للشخصيّات البارزة من المجتهدين والفضلاء الذين لمعت أسماؤهم بحمل السلاح الشخصيّ، وكما أنّ ضبّاط مديريّة الشرطة أو قوّات الدرك ( حرس الحدود والطرق الخارجيّة ) يحملون معهم سلاحهم الشخصيّ، فلابدّ للعلماء من ذلك، لانّ عدم حمل السلاح يعني إلغاء المسؤوليّة. وقد كان جميع المسلمين في عهد أمير المؤمنين يحملون أسلحتهم معهم، لانّ السلاح يعني القدرة، والذي يضع سلاحه علي الارض فكأ نّه قد فَقَد كلّ قدرته، طبعاً علي ضوء الظروف السائدة، إذ ليس من الصحيح اليوم أن يتسلّح عامّة الناس بالاسلحة الشخصيّة، لكنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر مستثنون عن ذلك، لا نّهم إذا جُرِّدوا من السلاح جُرِّدوا من قدرتهم التنفيذيّة. تصوّروا ـ مثلاً لو صادف أحد المجتهدين أو مراجع التقليد في طريقه أحد بائعي الكباب، وقال له: لا تَبِع بيض الغنم فإنّه محرّم. فماذا سيحدث؟ سيقول بائع الكباب ضاحكاً: انصرف إلي عملك أيّها السيّد! ولكن لو قال له أحد الشرطة المتسلّحين: لا تَبِع بيض الغنم، فإنّه سيخاف، لانّ الشرطيّ يحمل صفة تنفيذيّة، فحمل السلاح مؤشِّر علي أنّ بإمكان الشرطيّ أن يلقي القبض عليه. وبطـبيعة الحال لا يعـني حمل السـلاح ممارسة شهره يومـيّاً، فإنّنا لم نشاهد يوماً أنّ أحد الضـبّاط قد شهر سلاحه، ولكنّ حمله دليل علي القدرة. تشكيل الحكومة الإسلاميّة وبيعة الناس لآية الله الخمينيّوعلي كلّ حال، فقد لاقت اللجان التي شكّلناها تأييداً كبيراً في طهران والمدن الاُخري، وطلبوا منّا إرشادهم إلي كيفيّة تشكيل لجان تماثل لجاننا، فقدّمنا لهم كلّ ما يمكننا من مساعدة في هذا المجال، وأخبرناهم بماينبغي عليهم القيام به، ثمّ شُكِّلت لجان مماثلة في أمكنة أُخري وكانت ذات أثر حسن، حتّي مجيء يوم الثاني عشر من فروردين الذي أعلن فيه آية الله الخمينيّ عن تشكيل الحكومة الإسلاميّة بعد إجراء الاستفتاء العامّ الذي شمل جميع البلاد. ذلك أنّ آية الله الخمينيّ لم يكن حتّي ذلك التأريخ حاكمَ الإسلام، بل كان واحداً من العلماء والفقهاء لا يختلف عنهم في شيء، لكنّه حظي بصبغة إلهيّة خاصّة أهّلته لان يحتلّ مكانة خاصّة بين الناس لما بدر منه من رشادة ونبوغ فكريّ وسرعة بديهة وشجاعة فائقة؛ أجل، ما كانت حكومة الإسلام مشكّلة منذ عودته من باريس حتّي الثاني عشر من فروردين. ومنذ ذلك الوقت بايعه الناس حاكماً واستقرّت له الحكومة. أي أنّ جميع الناس قالوا: نحن جميعاً نعرفك بعنوان حاكم الإسلام، وتمّت البيعة علي هذا الاساس. وأيّ يوم كان هو يوم البيعة؟ لقد تمّ في تلك الجمعة التي هرع الناس فيها إلي صناديق الاقتراع منذ الصباح الباكر حتّي الغروب للتصويت علي انتهاء الحكومة الملكيّة وحكومة الطاغوت وانتخاب الحكومة الإسلاميّة. وكانت نسبة الذين قالوا للإسلام « نعم » قد تجاوزت الـ 98% ولم أكن ـ شخصـيّاً قد رأيت صناديق الاقتراع بعيني، ولم أعرف شيئاً عنها منذ يوم ولادتي حتّي ذلك اليوم، لكنّي بكّرت في تلك الجمعة وكنتُ أوّل الحاضرين في المسجد، وبقيت هناك واقفاً إلي جانب الصندوق إلي الساعة العاشرة مساءً بدون انقطاع، ثمّ أُفرزت الآراء، فاتّضح أنّ جميع الناس كانوا قد بايعوا الإسلام في ذلك اليوم وانحازوا إلي صفّه. ولقد مثّل ذلك الاسـتفـتاءُ العامّ البيـعةَ، سواء سمّيـتمـوه بيـعة أم لم تسمّوه، فقد كان بيعة بمعناها الحقيقيّ. البيعة في الإسلامويعتقد البعض أنّ سيادة حاكم الإسلام لا تحتاج إلي البيعة، فالحاكم هو عبارة عن المجتهد الجامع للشرائط، وله منصب الحكم والقضاء والإفتاء من قِبَل الإمام عليه السلام علي ما جاء في الروايات بغضّ النظر عن قبول الناس لذلك أو عدم قبولهم! وسواء تمّت له البيعة أم لم تتمّ. فقد نصب الشارعُ المقدّس المجتهدَ الحائز علي العلم والورع ثبوتاً بعنوان قائد وحاكم شرع. وهذا الاعتقاد غير صحيح، لا نّه أوّلاً: من الممكن أن يكون في زمن واحد ثمّة أعداد غفيرة ممّن يمتازون بالاعلميّة بين المجتهدين، ويكونون ثبوتاً في صفّ ودرجة ومقام واحد. وعلي فرض التسليم بأ نّه لابدّ لكلّ فترة زمنيّة من حاكم شرعٍ واحد، فسوف لا يتحقّق استقرار الحكومة بولاية أحدهم بدون قبول الآخرين وسائر أفراد أهل الحلّ والعقد، أمّا إذا وافق جميع المجتهدين وأهل الحلّ والعقد والتزموا بحكومته، فهذا يعني البيعة. وثانياً: تدلّ الروايات علي أنّ لكلّ مجتهد أعلم الاهليّة للحكومة الشرعيّة، لا المباشرة لها، وممّا لا شكّ فيه أنّ تحقّق الحكومة الشرعيّة متعلّقاً بجميع الافراد الذين يخضعون لتلك الحكومة. وبعبارة أُخري: أنّ كلّ واحد من المجتهدين ذوي الاعلميّة مؤهّل بدرجة تامّة باللحاظ الشخصيّ، لكنّ الانضواء تحت حكومتهم بحاجة إلي عقد التحكيم من قِبَل المحكوم عليه، وما لم يكن الشخص ملتزماً بالتبعيّة فلا يصدق عليه عنوان ولاية الحاكم. وحين كانت الحكومة في العهد البائد بيد الطاغوت، فقد كانت المرجعيّة مرجعيّة في الحكومة الحقيقيّة وفي الإفتاء أيضاً، إذ لا يصدق عنوان التقليد إلاّ من خلال التبعيّة والالتزام بالعمل بآراء المجتهد وأوامره، ولا يتحقّق بمجرّد أخذ رسالة المرجع الجامع لشرائط الفقاهة والمرجعيّة، وكلّ هذا يعني لزوم البيعة للحاكم، وبغير ذلك فلا داعي للالتزام في المرجعيّة في الفتوي، حيث يستفسر المرء حينذاك في المسائل الحادثة من المجتهد ويعمل بقوله؛ وقد انقضت سيادة الطاغوت حاليّاً، وأضحت الحكومة بحاجة إلي التعهّد والقبول اللذين يعنيان البيعة بالنسبة للحاكم، بغضّ النظر عن أخذ الفتوي من مرجع التقليد. وهكذا الحال في باب إمامة وإمارة الائمّة عليهم السلام. فهم يملكون من الله تعالي مقام ومرتبة العصمة والطهارة وهم أعلم مَن في الاُمّة، لكنّ تحقّق إمرتهم في الخارج بحاجة إلي قبول عامّة الناس وإلي البيعة، ومن حيث الاصل فالامر تامّ لهم سواء بايع الناس تلك الذوات المقدّسة المرتقية لاسمي مقام ورتبة أم لم يبايعوا، لكنّ إمارتهم وحكومتهم في الخارج منوطة بالمعاهدة والميثاق من جانب الاُمّة، وذلك عبارة عن البيعة. وقد حاز أمير المؤمنين عليه صلوات المصلّين علي مقام الإمامة والإمارة من قِبَل الله ورسوله، وهو الخليفة بعد النبيّ الخاتم بلا فصل، ولكن لم تتحقّق الحكومة والرئاسة الخارجيّة دون بيعة القابلين والمسلمين؛ وقد أمر رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم يوم غدير خم جميع المسلمين رجالاً ونساءً بالبيعة له في تلك الخطبة الغرّاء التي نصبه فيها في مقام الإمامة والولاية. لقد أذنب الناس لمدّة خمس وعشرين سنة بنقضهم البيعة ولكن حين وصلت الإمارة والحكومة إليه كان من اللازم علي الناس أن يعلنوا قبولهم، لذا فقد جاء جميع أهل المدينة وأهل الحلّ والعقد ليعلنوا بيعتهم له عليه السلام؛ أمّا المتخلّفون عن البيعة فقد باتوا محطّ سخط التأريخ، كما أ نّهم عند الله من المجرمين. وبعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام، جاء الإمام الحسن عليه السلام إلي المسجد، فأمر ابن عبّاس جميع الناس بالمجيء إليه ومبايعته. وفي زمان نهضة سيّد الشهداء عليه السلام، ولاجل إعلان حكومته وإمارته علي المسلمين، فقد أرسل مسلم بن عقيل عليه السلام إلي الكوفة لاخذ البيعة له منهم، علي الرغم من كونه إماماً ـ مُفترض الطاعة من قِبَل الله ورسول الله وأمير المؤمنين، ولكن لا يمكن تحقّق الحكومة والإمارة علي الناس في الخارج بدون تقبّلهم لها، وهذا هو معني البيعة. وينبغي العلم أنّ هذه البيعة ليست أمراً شكليّاً، بل هي عقد من العقود، وعهد وقبول للإمارة والإمامة، ولذا فهي بحاجة إلي القبول من جهة الإمام أو وكيله. وهذا هو ذات معني الفعليّة والتنجيز الذي بيّنّاه في الإمارة والحكومة. إنّ الإمارة والإمامة عبارة عن أمر بين شخص الإمام والمجتمع، ويستحيل تحقّق هذه الرئاسة والحكومة بدون الربط والارتباط بين هذين الطرفين، وإمكان تحقّق هذا الارتباط بالبيعة فقط، لانّها توحي بالقبول والتعهّد. ومع أنّ إمامة الإمام في حدّ ذاتها تامّة وكاملة، إلاّ أنّ الانضواء تحت إمامته بحاجة إلي البيعة. وإمرة الإمام وحاكميّته من صفاته الفعليّة، ومن جهةٍ أُخري فإنّ وجوده له شأنيّة بالنسبة للمأموم، ومع بيعة المأموم، يصل إلي مرحلة الفعليّة. وعند ظهور الإمام بقيّة الله الاعظم عجّل الله تعالي فَرَجه الشريف، فإنّ بيعة الناس له من الشروط الحتميّة لقبول ولايته وإمامته، ولا يختصّ هذا الامر بالإمامة فقط، لا بل البيعة لازمة حتّي للنبوّة. يعني أنّ النبيّ مُرسَل من قِبَل الله تعالي، وهو ذو كمالات وارتباط مع عالم الغيب ويري الملائكة وينزل عليه الوحي، سواء قَبَل الناس نبوّته أم لا. أمّا بالنسبة لإسلام الناس، أي: بالنسبة لقبول نبوّته، فالمسألة بحاجة إلي البيعة، وما دام الناس لا يقبلون الشهادتَين بلوازمهما، فسوف لا تغشاهم ظلال نبوّة النبيّ، ولا يتحقّق الربط والارتباط والآمريّة والمأموريّة. كان رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم يقبل إسلام الناس بشروط خاصّة وبصور متباينة مع مَن أسلم من الافراد، أو مع وكلاء مَن يأتون نيابة عن طائفة أو قبـيلة أو مجـموعة من الناس في مراحل مخـتلفة في مكّة والمدينة. ويكون قبول الإسلام هذا بشرطٍ خاصّ، بمثابة قبول بيعتهم بهذا الشرط. وكان النبيّ الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم في أواخر حياته في المدينة يقبل إسلام الرجال بشرط إقامة الصلاة، وأداء الزكاة، والاشتراك في الجهاد، كما كان يشترط علي القبائل والطوائف أن تشترك في الدفاع ما دام العدوّ يشنّ هجوماً علي الإسلام، وأن لا يُحالفوا الطوائف المخالفة للإسلام، وأن لا يقدّموا العون للكفّار في حروبهم مع المسلمين. وكان يقبل إسلام النساء بشرط البيعة علي أن لا يُشركن بالله تعالي، وأن لا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهنّ، ولا ينسبن إلي أزواجهنّ من الاولاد من هو ليس منهم، وأن لا يعصين أمر رسول الله، وفي حال نقضهنّ للبيعة سيستحقّنّ العقوبة والنكال. جاء في الآية 12، من السورة 60: الممتحنة: يَـ'´أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَـ'تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَي'´ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَهِ شَيْـًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلَـ'دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَـ'نٍ يَفْتَرِينَهُ و بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَهَ إِنَّ اللَهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. أجل، فقد عرف الناسُ آيةَ الله الخمينيّ في ذلك اليوم بالحكومة. وحين صار حاكماً للمسلمين، فإنّ مجرّد نسبة الحاكميّة له سيُعطيه مزايا وخصائصَ أُخري نسبةً إلي الناس الآخرين، من حيث لزوم التجليل والتبعيّة الدقيقة، والطاعة له من قِبَل الآخرين. أي منذ أن أصبح حاكماً للإسلام فسوف تقع تلك الوظائف الإلهيّة في أعناق الافراد، وهذا يعني أنّ أمره هو ذات أمر الله وأمر رسول الله وأنّ طاعته واجبة علي الجميع، ولا يجوز عصيانه والتمرّد علي أوامره، وعند حصول البيعة ستكتسب ولاية الفقيه فعليّتها، وستكون قد انتقلت من مرحلة الإنشاء واكتسبت فعليّتها، حيث يتحـقّق عندها في الخارج عنـوان الحاكم الفعـليّ. ولا معني في الإسلام من وجود حاكمَين، فقد يتواجد في زمان واحد ألف مجتهد، ولكن لا يكون ثمّة حاكمَين، بل يجب أن يكون حاكم المسلمين واحداً، ويكون حكمه نافذاً حتّي علي المجتهدين الآخرين. وإذا أصدر الحاكم حكماً، فطاعته واجبة علي جميع المسلمين، حتّي علي المجتهد الاعلم منه، أي في حال وجود مجتهد أعلم من الحاكم من بعض الجهات، فيجب علي المجتهد الاعلم الطاعة لحكم الحاكم، فإذا قال الحاكم ـ مثلاً في مسألة رؤية الهلال: إنّ الليلة هي أوّل شوّال. فيجب علي الجميع الامتثال، حتّي علي المجتهد الاعلم وإن لم يثبت له ذلك، وعليه أن يفطر في اليوم التالي.
الدرس السادس: وظيفة الفرد المسلم عدم جواز تقليد المجتهد لغيره، ولزوم تنفيذ حُكم حاكم الشرع المطاع
أَعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ وَصَلَّي اللَهُ عَلَي سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَي أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ وظيفة المجتهد أو المتخصِّصلو أُعطي مشروع بناء بناية بيد معمارَين أو مهندسَين، وكان كلٌّ منهما بارعاً في فنّه ـ ومن المعروف أنّ الاستقلال الفكريّ من لوازم البراعة في الفنّ ـ وأراد أحدهما علي ضوء فكرته أن تكون البناية علي ما يراه شرقيّة، وارتأي الآخر أن تكون جنوبيّة، أو ارتأي أحدهما أن يكون ارتفاع الغرف ثلاثة أمتار ونصف، فقال الآخر: ينبغي أن يكون ارتفاعها مترين وثمانين سانتيمتراً، أو صمّم أحدهما ـ مثلاً علي أن يكون أساس البناية من الخرسانة ( الكونكريت )، فقال الآخر: لا، فالإسمنت والكلس يكفيان، وليس ثمّة لزوم لاكثر من ذلك. في هكذا اختلاف، إمّا أن يجلس الطرفان ويتشاوران من أجل تقريب وجهات النظر وصولاً إلي فكرة ترضي الطرفين، أي أن يُقنع أحدهُما الآخر، ويتوصّلان بالحوار والمناقشة إلي رسم خارطة البناية بما يُرضيهما معاً فيوقّعان عليها؛ أو أن لا يرضي الطرفان بالعمل مشاركةً، لانّ أيّاً منهما يعتزّ بمهارته ويري لنفسه ضرورة الاستقلاليّة في الرأي، لذا فهو غير مستعدّ للتنازل عمّا يراه. وهنا، إذا اتُّخِذَ القرار بإعطاء أمر بناء البناية لاحدهما ليكون معمارَ أو مهندسَ هذا المشروع، ويقوم بمهامه علي ضوء ما يري، فلنرَ ما هي وظيفة ذلك المعمار أو المهندس الآخر؟ مع كونه من العاملين وممّن يودّ المساهمة في العمل، ومع طموحه أن يكون من العناصر الفعّالة في هذا المشروع، هذا إذا افترضنا أنّ المشروع هو بناء مكان مقدّس كأن يكون مسجداً، فما هي وظيفته حينذاك؟ قد يحصل أن يكون المعمار الثاني تابعاً لذلك المعمار الاوّل في جميع ما يراه، فيقول له: بما أ نّك وقّعت علي هذه الخارطة فأنا كذلك أُوقِّع عليها، ومن المسلّم أنّ هكذا تبعيّة تُعدّ خاطئة، لا نّنا افترضنا أنّ المعمار الثاني بارع في مهنته، وأنّ له نظرة فنّيّة مغايرة لما أقرّه المعمار الاوّل في خارطته أو تصميمه، وعندئذٍ لا يمكن له التوقيع علي ما لا يراه مناسباً، ولو تابع الاوّل في كلّ شيء وأقرّ ما أقرّه، عُدّ ذلك خيانةً منه، لانّ من الممكن أن تتعرّض البـناية غداً للسـقوط، أو أن تكون الاستحـكامات اللازمة لمقاومة الهـزّات الارضـيّة والزلازل غير كافية، أو أنّ التهـوية لا تتناسب مع عدد المدعوّين والمتواجـدين داخل البناية ولربّما تعرّضوا للاختناق، أو أنّ تأسـيسات الغاز السائل والكهرباء لا تطابق المواصفات المطـلوبة فتسـبّب خطـورة في حال نشـوب حريق. وحينـئذٍ يُعدّ إمضاء المعـمار الثاني تبعاً لإمضـاء المعـمار الاوّل إقراراً لجـميـع هذه المخـاطر المحتملة. وعليه، فالتبعيّة للآخرين في الرأي والفكر في مجالات التخصّص أمرٌ خاطي تماماً، أيّاً كان مجال الاختصاص. أي عندما يكون الإنسان صاحب نظر، فإنّ بصيرته ستحول بينه وبين اتّباع الآخرين. ولو وافق معمارٌ ما علي تصاميم معمار آخر ووقّع عليها من أجل أن يُثبِّت اسمه ضمن دائرة المعمارين مثلاً، أو لكي يضع اسمه في قائمة المعمارين المعروفين، عُدّ عمله خيانةً، فما هي ـ إذاً الوظيفة العمليّة لذلك المعمار في هذه الحال؟ يمكنه التحرّك هنا علي وجهين؛ بأن يقول أوّلاً: إنّ فلاناً مستقلٌّ في أفكاره، وقد سُلِّمت إليه البناية؛ فلماذا لم يسلّموها لي؟ ولِمَ ولِمَ؟ ثمّ يشرع في الهدم والتخريب، فيبادر إلي تضعيف أساس البناء، ويُشير علي البنّائين بعدم صفّ الطابوق وعدم صبّ موادّ البناء كما ينبغي، وباختصار يقـوم بعـمليّة تخـريبيّة، بعد رشـوة هذا وذاك، ويتّـفق مع القائـم علي التأسيسات الكهربائيّة بأن يخلّ في عمليّة الربط وما شاكل ذلك... فهذا الوجه كما هو بيِّن يمثِّل خيانة أيضاً. أمّا الوجه الآخر، فهو أن يقول: إن نظراتي في هذا المشروع لم تحظَ بالقبول، وعلَيَّ ألاّ أمتنع عن تقديم كلّ ما يمكنني لدعم هذا المشروع المقدّس، وأن أكون كأحد العاملين في المشروع، فتكون وظيفتي تطبيق الاوامر الصادرة لتنفيذ مراحل العمل وتصحيح ما يلزمه ذلك، وفي هذه الحالة فمع كون ذلك الشخص مهندساً، إلاّ أ نّه يمارس دوره في المشروع المفترض كأحد المشرفين الموجّهين للعمّال، فتراه يمرّ علي المتعهّد بتأسـيـس الكهربائـيّات ويلاحـظ دقّة عمله، ويوصي العمّال أن يصـفّوا الطابوق بعناية، وأن يجدّوا في العمل! فهذه بناية مسجد، وينبغي ألاّ تقع علي رؤوس الناس. وباختصار فإنّه ينهمك في العمل، ولكنّه ليس من الكادر الفوقيّ المسؤول المباشر عن إدارة العمل. وتمثِّل هذه الطريقة أفضل صورة مناسبة للمساهمة في العمل بشكل غير مباشـر، حيـث يقدّم المرء من الناحية العـمليّة كلّ طاقاته من أجل استمرار المشروع واستتباب وضعه علي أحسن وجه. مثال آخر: افرضوا أنّ مريضاً خضع لمعالجة طبيبَين متخصّصَين، وأ نّهما كانا يعالجانه في وقت واحد كلٌّ حسب تشخيصه، وأنّ أحدهما قال: لابدّ من إجراء عمليّة جراحيّة، وإلاّ فليس ثمّة من أمل، فأصرّ الآخر علي قوله: إنّ تشخيصك خاطي، ولابدّ من الاستمرار علي العلاج باستعمال الادوية، لانّ نسبة نجاح العمليّة صفر، وأ نّها ستؤدّي إلي موت المريض. ونلاحظ في تشخيص الطبيبَين تضادّاً حادّاً، فما العمل والحال هذه؟ وإذا سلَّم المريض نفسه لاحدهما، فليس من حقّ الآخر أن يقول بأ نّه موافق علي تشخيص الطبيب الآخر، وأ نّه سيوقّع علي ما يرتئيه! لانّ هكذا توقيع يُعتبر خيانة، إذ لو مات المريض أثناء إجراء العمليّة الجراحيّة، كان التوقيع بمثابة اشتراك في الجناية، وكذا الحال لو قال: ما العمل! فنحن متنازعان في هذه الحالة، فلاُوقِّع وليقع ما يقع! فهذا الموقف خيانة أيضاً. بطبيعة الحال فإنّ هذا الموضوع يرتبط بالمتخصّصين، أمّا سواهم فليس من حقّهم إبداء وجهات نظرهم، بل عليهم الانصياع لما يقول أصحاب الاختصاص دائماً. وعليه، فإنّ الطبيب سيُعدّ خائناً إذا قام بخلاف ما يعتقد في مجال تخصّصه، إذ ليس من حقّه التنازل أو التساهل من أجل أغراض خارجيّة مهما كانت، فهو والحال هذه مجرمٌ أمام محكمة الإنسانيّة ومقام الحَكم العدل، لا نّه سَـيُلـزَم بمخـالفته تشـخيصـه وعِلمه، وعمله وفق تشـخيص الآخرين وعِلمهم. كذلك ليس من الصحيح أن يقوم ذلك الطبيب بأعمال مخلّة بذريعة أنّ الاُمور خارجة من يده وأنّ توقيعه غير معتبر، فيقوم بأعمال مناهضة ويقلب الاوضاع رأساً علي عقب كأن يغيِّر البرنامج الغذائيّ للمريض، ولا يعطيه الادوية المقرّرة، ويحاول إفشال عمليّات ذلك الجرّاح، وما إلي ذلك. يقال: انتُدب في العهد البائد أحد الاطبّاء البلجيكيّين المسيحيّين للعمل في مستشفي الإمام الرضا عليه السلام في مدينة مشهد، وكان حاذقاً جدّاً ومن الجرّاحين المعروفين، وقد انتمي لدين الإسلام بعد أن أدرك حقّانيّة هذا الدين واطّلع علي معـجزات الإمام الرضا عليه السـلام، وقبره في مقبرة الخـواجة ربيع المعروفة، وكان اسمه البروفيسور رُشْ بُول وين فأبدله إلي عبد الله، ومارس مهنته في هذه المسـتشـفي منذ سنة 1333 إلي 1348 ه. ش. قيل: إنّ براعته في إجراء العمليّات الجراحيّة أثارت حسد بعض أطبّاء تلك المستشفي، فمارسوا بدافع الحسد أعمالاً غير إنسانيّة بعد قيامه بكلّ عمليّة جراحيّة ناجحة، كأن يذهبوا إلي المريض ويسكبوا ماءً علي الجرح ليلتهب حتّي يقال بأ نّه لم يُجرِ العمليّة بنجاح! فهذا العمل خيانة، بل خيانة كبـري! ولو تأمّل المـرء في هذا العـمل المشـين لرآه من أعظـم الجرائم، إذ حين يبذل ذلك المسكين كلّ جهده من أجل انقاذ المريض، أفلا تُعدّ محاربته بهذه الطريقة خيانة؟! لماذا تشوّهون عمله الإنسانيّ، ثمّ لماذا تجرّون ذلك المريض المسكين الفاقد للحسّ والحركة إلي أعتاب الموت؟ إن كنتَ تريد أن تعمل فكن طبيباً وأجر العمليّات الجراحيّة علي نحوٍ أفضل، لا أن تبقي قابعاً في مكانك تسكب الماء علي جراح المرضي لتُهلكهم وتُسيء إلي سمعة الطبيب المعالج! وهنا تكمن بؤرة جميع المفاسد في العالم. ولذا فالطريق الافضل أن يقول ذلك الطـبيب: ما دامت المسـؤوليّة لم تقع علي عاتقي، فما علَيَّ إلاّ أن أُقدِّم ما بوسعي، فأذهب إلي المستشفي وأُراجع أحوال المرضي، وأزرقهم الحقن وأتأكّد من ضغط الدم، وأُساهم في تهيئة المقدّمات اللازمة للعمليّات الجراحيّة، وأبقي يقظاً ليل نهار، وباختصار أُوَظّف كلّ طاقاتي، بغضّ النظر عن قبول وجهات نظري أو رفضها. ومثل هؤلاء الاشخاص وجوههم بيضاء أمام الله والوجدان والإنصاف والإنسانيّة، حيث ألقوا الحُجّة بإبدائهم وجهات نظرهم، وحيث لم يهمّهم رفض آرائهم من قِبَل الآخرين، وحيث إنّهم ظلّوا علي استعداد لتقديم كلّ ما يمكنهم فِعله. وهذا جارٍ في كلّ فنّ وحرفة من غير استثناء حتّي في مجال الاجتهاد، والذي يصل إلي درجة الاجتهاد ـ الاجتهاد المطلق يكون صاحب نظر في الاُمور الدينيّة، ولا يستطيع أيّ إنسان أن يصدّه عن آرائه، إلاّ أن يجالسه ويباحثه بأن يقول له مثلاً: إنّ الاصل الذي اعتمدتَ عليه في هذا الرأي مبنيٌّ علي هذه المقدّمة وهذه الرواية وهذا الدليل، لكنّ هذه الرواية ـ مثلاً ضعيفة السند، لانّ الراوي الفلانيّ قد ضعّفه كلٌّ من الكشّيّ والنجاشيّ، مضافاً إلي أ نّه لم يوثقه أحد من المتأخّرين، وبما أنّ الرواية ضعيفة السند ففتواك هذه غير صحيحة. وفي هذه الحالة إمّا أن يرضخ لما قيل له، أو يردّ قائلاً بأ نّك قلت كذا وكذا، وهذا الكلام غلط بدلالة كذا، وإنّ المعني الذي استنتجته من الآية الفلانيّة غير صحيح، لانّ دلالتها تُشير إلي معني آخر، وقد دفعك الوهم لتخيّل ما رأيته. ويري المرء أ نّه يقول صواباً، ثمّ يردّ الفرد الذي أخطأ في تقديره: لقد قُلتم الحقّ، ولقد أخطأتُ في تقديري، وسأعدل عن رأيي وأقبل بكلامك وأعمل به. ولذا نري أنّ مسائل الخلاف بين الفقهاء كثيرة جدّاً، وما أكثر المسائل التي شوهد فيها أنّ الفقهاء رجعوا عن آرائهم السابقة، وثمّة كثير من الفقهاء كان لهم رأي في مسألة ما، ثمّ باحثهم أحد تلامذتهم وأشكل عليهم في إحدي حلقات الدرس، فاقتنع الفقيه بعدم صواب رأيه، وهذه الحالة جارية علي قدم وساق في هذا المجال، ومَن له اطّلاع علي الفقه يعلم بأنّ هكذا مسائل كثيرة الوقوع في هذا المجال. وها هو العلاّمة الحلّيّ ـ وهو من كبار فقهائنا له في كلّ كتاب من كتبه فتوي خاصّة، ففتواه في « المختلف » تخالف فتواه في « التذكرة »، وكذا الحال في كتبه الاُخري كـ « التحرير » و « المنتهي ». أمّا أن يأتي مجتهد ليقول لمجتهد آخر: إنّك اشتبهتَ في الفتوي الفلانيّة، فلا يجوز له أن يتنازل عن رأيه دون قناعة، بل يمكن القول إنّه يحرم عليه ذلك حرمة فطريّة وعقليّة وشرعيّة، لانّ الاجتهاد يعني التخصّص، والتخصّص يعني البصيرة والعلم الوجدانيَّين، ومن هكذا مطلب يشعّ النور الباطنيّ، ويشعّ النور، فينظر الإنسان بكلتا عينيه ما هو الواقع، فمن الخطأ ـ والحال هذه أن يغمض الإنسان عينيه ويقرّ بخلاف الواقع تبعاً لقول فلان وفلان، وتسمّي هذه الحالة تقليد المتخصِّص للآخرين وإغماض عينه وهو الإنسان البصير، ولهذا نري عبارة: ويحرّم الله عليه التقليد، في الإجازة الاجتهاديّة المعطاة من الفقهاء إلي تلاميذهم، وهي تعني أ نّه من الآن فصاعداً يحرم عليه التقليد. فالذي يصل إلي درجة الاجتهاد، لا يُقتصر علي جواز اجتهاده، بل ليس بإمكانه التقليد، والتقليد والحال هذه حرام. وهذه الحرمة علي ثلاث مراحل: حرمة شرعيّة، وحرمة عقليّة، وحرمة تكوينيّة، أي ليس بإمكان الشخص فطرةً ووجداناً أن يتراجع عمّا تبصّر به مادام ذلك الشخص بصيراً ويري بذلك النور الشاخص في داخله، وقد ذكرتُ مثالاً في أنّ الطبيب الذي يري جليّاً أنّ الآلام الحاصلة للمريض الفلاني من جرّاء التهاب الزائدة الدوديّة ( المصران الاعور ) وأن لا علاقة لها بالتـهاب كيس الصـفراء، لا يقتـنع بكلامـك لو أتيـته وقلـتَ له إنّ التشخيص بعكس ذلك، فهو لا يستطيع التقليد هنا، أي لا يمكنه التنازل عمّا ثبت له مهما كانت الضغوط، إذ لا يمكنه أن يغالط نفسه ويكون تبعاً للآخرين في مجال تخصّصه. وكذا الحال بالنسبة للمجتهد، فليس بإمكانه أن يكون تابعاً لآراء الآخرين. ويرجع هذا الامر إلي مسائل الاجتهاد الكلّيّة. نفوذ حكم الحاكم ولزوم إطاعة الناس لهأمّا فيما يخصّ حكومة الإسلام، فقد قلنا بأنّ حاكم الإسلام واحد، ولا ينبغي ـ للسيطرة علي زمام الاُمور في الإسلام وجود حاكمَين في آن واحد، فلو تصدّي أحد المجتهدين للحكومة، لاضحي حكمه نافذاً علي جميع أفراد الاُمّة حتّي علي المجتهدين الآخرين، بل حتّي علي مَن هو أعلم مِن الحاكم منهم، وقد أمدّ الله تعالي حكم الحاكم بالحجّة حفظاً لمصالح النظام؛ وهنا، ما هي وظيفة المجتهدين الآخرين؟ ليس من حقّ المجتهدين الآخرين تقليد ذلك الحاكم في العبادات والمعاملات والحجّ وكلّ ما يتعلّق بالاُمور الشخصيّة، لانّ هذه الاُمور ليست تقليديّة، ويحرم علي المجتهد التقليد فيها. أمّا في الاُمور الوِلائيّة المتعلّقة بالحكومة التيجعل شرع الإسلام المقدّس اختيارها بيد الحاكم، فالواجب علي جميع المجتهدين أن يتبعوا فيها حكم الحاكم، ويجب عليهم العمل بكلّ ما يقول في حالَتي الحرب والسلم، وفي جباية الضرائب، وفي تخريب الشوارع، وفي تشكيلة الدوائر الحكوميّة، وفي قوانين حركة السير والمرور، وفي صلاة عيدَي الفطر والاضحي، وتعيين يومَي عيدَي الفطر والاضحي، والحكم بدخول الشهر ورؤية الهلال، وما إلي ذلك من المسائل الاجتماعيّة التي لا تُعدّ ولا تحصي، التي ينبغي أن تحمل حكماً واحداً في مجتمع الإسلام، وليس من حقّ أحد الاعتراض إذا لو لم يكن عنده علم قاطع بخلاف ذلك الحكم. مثلاً، إذا حَكَمَ حاكم الإسلام بأنّ غداً عيد، وكان حكمه في ليلة غير معلومة ـ هل هي آخر ليلة من شهر رمضان أو أوّل ليلة من شهر شوّال فالواجب علي الجميع أن يفطروا ويعيّدوا في اليوم التالي، وليس من حقّ أحد الاعتراض بالقول: إنّ العيد لم يثبت لنا، لا نّنا نستصحب شهر رمضـان، وقد جاء في الحـديـث النبـويّ الشـريف: « صُمْ للرؤية وأفطِـرْ للرؤية »، لانّ رسول الله قال بحجّيّة حكم الحاكم، وهذا من كلام رسول الله أيضاً، وإن ضممنا الدليلَين معاً فسنفهم أنّ أمر « صم للرؤية وأفطر للرؤية » صادق مع عدم حُكم الحاكم، وأمّا إذا صدر حكم الحاكم، فهو يدلّ علي الحكومة. لقد بايع الناس في إيران آية الله الخمينيّ علي الحكومة لمّا اجتمعوا في الثاني عشر من فروردين وصوّتوا بنسبة تزيد علي 98% علي انتهاء الحكم الملكيّ وإقرار حكومة الإسلام، وكان هذا الذهاب إلي صناديق الاقتراع بمثابة استفتاء عامّ شمل كافّة أرجاء البلاد، وقد كان بمثابة البيعة له علي حكومته، وإذا كنّا نعتبر لزوم البيعة للحاكم ـ وهو الحاصل ولزوم البيعة في الحكومة، فإنّ الناس في إيران في ذلك اليوم قد بايعوه ـ مضافاً إلي اجتهاده ومقاماته العلميّة فأضحي من ذلك اليوم حاكماً للشرع. وبناء علي ما تقدّم، فليس من حقّ المجتهدين الآخرين ـ من ذلك اليوم فصاعداً مخالفته في الاُمور الحكومتيّة بلحاظ المدارك الشرعيّة، مع أنّ آراءهم محترمة في المسائل الشرعيّة، وفيما يفهمون من آيات القرآن والاخبار، وما هو علي هذا الغرار، وعليهم أن يكونوا تابعين للحاكم في المسـائل السـياسـيّة والاجتـماعيّة وفي تلك المسـائل الراجـعة لحـكومة الإسلام، إذ لابدّ أن يكون مركز صنع القرار واحداً في الحـكومة، وتعدّد مراكز صنع القرار في هذه الحال ممنـوع، لانّ إظهار الآراء والنظـريّات المتباينة يزلزل الحكومة ويُسـقطها، لذا فهذا الباب مسـدود علي الجميع، سوي الحاكم. وهو الآن علي رأس الحكومة، فجميع الدوائر الحكوميّة والمجلس والجيش الثوريّ واللجان الثوريّة بجميع أعضائها تمثِّل حكومة الإسلام، وحكم الحاكم نافذ، ويجب إطاعة قوانين ومقرّرات الدولة، وإذا أردنا تقريب ذلك فتصوّروه في نقطة رأس الشكل المخروطيّ، وأنّ أحكامه الصادرة تتنزّل طبقة طبقة حتّي تصل إلي قاعدة المخروط الممثّلة بعموم الناس؛ وعلي الجميع مراعاة إطاعة مَن هم فوقهم في هذه السلسلة. ولو أصدرت البلديّة أو مديريّة الشـرطة العامّة أمراً ما ـ علي سبيل المثال فلا يحقّ للإنسان مخالفته أو التهرّب منه، لانّ مخالفة هكذا أمر حرام شرعاً، لانّ البلديّة ومديريّة الشرطة قائمة بأمر حاكم الإسلام، وكذا الحال بالنسبة للحارس الذي يقوم بمهمّة حراسة الزقاق لا نّه مأمور ذلك الحاكم، فلا يحقّ للإنسان مخالفته أو إعطائه الرشوة، فالرشوة كانت رائجة في العهد البائد للتخلّص من شرّه، أمّا الآن فقد أُغلق باب الرشوة، لا نّا نعيش تحت ظلال حكومة الإسلام، ولابدّ من الطاعة لاوامر ذلك الحارس، فإذا قال « لا تقف هنا »، فعليك أن تسمع له؛ كما أنّ مراعاة قوانين السير والمرور واجب شرعيّ، فليس من حقّك أن تجتاز الطريق مادامت إشارة الضوء الاحمر مضاءة وإن كان الوقت في منتصف الليل وقد تأكّدتَ تماماً من عدم وجود واسطة نقل يميناً ويساراً، وبما أنّ الوجوب الشرعيّ متعلّق بهذا الامر، فلابدّ من التوقّف حتّي انقضاء الوقت المقرّر. وأنتم ترون مدي سعة اللطف، ومدي سمو ورقيّ هذه الحالة، فالواجب علي الجميع إطاعة القوانين والمقرّرات الصادرة من الدولة، فحين يقال ـ مثلاً: يجب دفع الضرائب، يكون إعطاء الضرائب واجباً، وليس من الصحيح عندها أن تقول: « لا توجد ضرائب في الإسلام، إذ الخمس والزكاة من مختصّات الإسلام وليس غير »، لانّ سنّ الضرائب علي أساس الاحكام الإسلاميّة الكلّيّة، وعلي أساس ما يعيّنه الحاكم من ضرورة وتشخيص ووجهة نظر؛ فحين يقول: أعطِ، فيجب القول: سمعاً وطاعة. وإذا لم يعطِ الإنسان يكون مَديناً، وعليه أن يودع ما عليه في صندوق الدولة، وإذا لم يعطِ حتّي آخر لحظات عمره، فعليه أن يكتب في وصيّته: أنا مدين بمبلغ كذا ضريبة ويجب دفعه إلي مديريّة الضريبة، لانّ الحاكم يقول: أيّها المسلمون! لحفظ هذا البلد، أري باعتباري حاكماً أ نّه من اللازم علي كلّ فرد أن يدفع كذا مبلغ ضريبة. حينما جاء العلاّمة الكبير المرحوم كاشف الغطاء إلي إيران، كان الروس قد نزلوا في أطراف منطقة جيلان، فطلب منه ( فتح علي شاه ) إجازة الملوكيّة، فكتب المرحوم كاشف الغطاء كتاباً مهمّاً جدّاً تحت عنوان « كشف الغطاء » جاء فيه: أُعطي للسلطان ( فتح علي شاه ) الإجازة في جباية الاموال من أهل هذه البلاد من أجل إخراج الروس عن هذه البلاد، وإذا لم يكفه ذلك فمن أماكن ومدن أُخري، وإذا لم يكفه ذلك فعليه أن يأخذ ما يكفيه من بيت المال، وإذا لم يكن كافياً فعليه أن يأخذ من أموالهم الخاصّة لهم لإخراج الروس. يعني: اذهب واستولِ علي بساتين الناس ومحلاّتهم التجاريّة واطرد الروس من البلاد. وينبغي علي الناس ـ والحال هذه ـ أن لا يقولوا: لماذا يأخذون أموالنا؟ ولماذا يستولون علي محلاّتنا التجاريّة؟ أفهل كان النبيّ يقوم بمصادرة المحلاّت التجاريّة؟! أفهل كان يصادر بساتين الناس؟! وإذا تفحّصنا التأريخ نري أنّ النبيّ الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم قد قام بأكثر من هذا، لكنّنا لم نطالع التأريخ، فقد كان النبيّ يبعث الجيش إلي مَن يمتنع عن أداء الزكاة ليأخذها بالقوّة، وإذا امتنعوا عن أدائها ثانية فإنّه يعتبرهم في عداد المرتدين، فيقتل الرجال ويأسر النساء والاطفال؛ فحكم الإسلام بهذه الدرجة من الاعتبار وله قدسيّة خاصّة، وعندها سترون مدي عظم المسـؤوليّة الملقاة علي عاتقـنا. إنّ االخـمس والزكاة ينبـغي توزيعها علي مستحقّيها من الفقراء والضعفاء من مختلف طبقات الناس لا نّها في عداد الصدقات، أمّا نفقات الدولة وميزانيّتها التي من ضمنها رواتب الموظّفين وما إلي ذلك، فلم تكن تؤخذ من الخمس والزكاة في عهد رسول الله، بل كانت تؤخذ من الخراج. ليس بإمكاننا أن نقول: إنّ آية الله الخمينيّ متربّع في جماران ويُصَدِّر لنا آراءه، أو أن نقول: مساكين هذه الناس فقد غُلِبَتْ علي أمرها، فأضحت تعيسة، وما إلي ذلك من الهذيانات المسموعة. لو أدرك الإنسان حسّاسيّة موقف آية الله الخمينيّ والظرف الذي يعيشه، وكيف قضي عمره، وعلي أيّ أساس وفي أيّ وضع قضاه، وما يواجهه الآن من صعاب، لمدّ يده إلي الله تعالي متضرّعاً ليمدّه بالتأييد والتسديد وطول العمر. علي الإنسان أن يفدي أبناءه في هذا الطريق لكي يصدّ الفساد المهول، ذلك الفساد الآتي كالسيل الجارف للبيوت، ولكنّنا مشغولون في كيفيّة المحافظة علي الشال، مع أنّ السيل حين يأتي سيجرف الشال والقبّعة والكوفيّة، بل ويأخذ معه رأس ويد ورِجل الإنسان المالك للكوفيّة، وسيقضي علي المرأة والطفل والبيت والمزرعة والمحلّ، أوَ ليس من الانسب هنا أن يرفع الإنسان الشال ليسدّ به الثغرة التي ينفذ منها ماء السيل المخـرِّب لمـنع جريانه إلي الداخل كي لا تُهـدَم البيـوت علي رؤوس مَن فيها؟ لذا، أقول لكلّ من يسألني: إنّ حكم الإسلام لازم الإجراء، وآية الله الخمينيّ هو الحاكم حاليّاً، وعلي الجميع إطاعة أوامره، ويجب دفع الضرائب الماليّة. وحين تصلنا فاتورات الماء والكهرباء والهاتف، فإنّني أقول لمن في البيت: ادفعـوها بأسرع وقت، لاحتمال احتياج الدولة لهذا المبلغ. حينما تقول الدولة: لا يجوز ممارسة معاملات البيع والشراء بشكل حرّ، فلا يجـوز للإنسـان ممارسـة ذلك، وليس من حقّه أن يقول: لماذا؟ لانّ الدولة قرّرت ذلك، وبما أ نّها معيّنة من قِبَل الحاكم، فكأن الحاكم قد قال: لا تفعل هذا العمل. حينما كان يرسل رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم حاكماً إلي إحدي المناطق، فأوامر ذلك الحاكم تصبح واجبة الطاعة علي الجميع، وعليهم قبول كلّ ما يقول به، لانّ الحاكم من قِبَل رسول الله، وجاء في الروايات أنّ فقهاء أُمّتي ورواة أحاديثنا حجّة الله منّا عليكم، ونحن حجّة عليهم مـن قِبَل الله، الرادُّ عليهم كالرادِّ علينا، والرادُّ علينا كالرادِّ علي الله، والرادُّ علي الله في حكم المشرك بالله. ويجب علي الإنسان العمل بهذه المسائل بتمام حذافيرها، لكي لا يخالط هوي النفس ـ والعياذ بالله ـ شيئاً منها، ولا يكون ثمّة مجال للحسد والانا. فإذا لم تقع الرئاسة تحت يدك ووقعت بيد غيرك، فطوبي لك إذ لم تقع بيدك، واشكر الله لانّ غيرك تقبّل تلك المسؤوليّة وتحمّل أعباءها، ثمّ ما الفرق في ذلك فيما لو كنتَ مخلصاً صادقاً وكانت نيّتك صافية، فليس ثمّة من فرق لو كان العمل باسمك أو باسمه، فالمهمّ هو عزّة المسلمين وسعادتهم، وتحرّرهم من راية الكفر، والمهمّ أن لا يرفرف العَلَم الإسرائيليّ فوق رؤوسهم، ولا العلمان الاميركيّ والروسيّ، وهذا هو أصل وأساس الموضوع. وليكن سعر الرز الآن باهضاً، وليعزّ الحصول علي الزيت، لا نّها مشكلات ليس ذات أهمّيّة كبيرة، وأقصي ما يمكن أن يحصل أن تؤدّي إلي موت الإنسان، فهل حياة الإنسان تحت راية أميركا أفضل أو موته تحت راية الإسلام؟ ولاضربُ لكم مثلاً: إذا كنتم ذات ليلة مع أفراد عائلتكم نائمين في بستانكم، فشاهدتم علي حين غرّة العدوّ يريد انتهاك حرمتكم والاعتداء علي شرفكم، فهل تلتزمون الصمت أو تهبّون للدفاع عن شرفكم؟ إنّ العدوّ يريد الاعتداء علي شرفكم، علي الاُمّ والاولاد، ويريد أن يجتثّ نسلكم، وبما أنّ حياتكم وبقاءكم مرهونة بشرفكم، فمن الطبيعيّ أن تهبّوا للدفاع عنه وإن ضحّيتم بأنفسكم، لانّ مَن يموت دفاعاً عن عرضه يدخل الجنّة، ومَن يقتل عدوّاً معتدٍ يدخل الجنّة أيضاً، فهل تُقدمون علي هذا العمل أو لا؟ أتقولون: لا، لاستمتع بنومي، وأتلذّذ بطعامي، ولو أ نّني قُتِلتُ فمن سيتفيّأ ظلال هذه الشجرة بعدي؟! ومن سيستطيب عذب هذا النسيم؟! لا، فهكذا تصوّر خطأ فادح، لانّ العدوّ حين يأتي سيستولي علي كلّ شيء، لا نّه لا يكتفي بالاعتداء علي الشرف، بل سيقطع رؤوسكم أمام نسائكم. آزاديت به دستة شمشير بستهاند مردان هميشه تكية خود را بدو كنند امر طبيعت است كه بايد شود ضعيف هر ملّتي كه راحت و عيش خوكنند فالمسألة علي هذا الغرار، وبما أ نّنا رزحنا تحت ذلّ العبوديّة والاستعمار لمدّة طويلة، فقد أصبحنا كالمدمن علي الافيون والهيروئين الذي غطّت تلك الادخنة عينيه وملات أُذنيه، فصار لا يحسّ بلطافة عذب الهواء المحيط به. وكأنّنا لا نريد أن نفهم جيّداً أن: ما هو الإسلام؟ ما هي حكـومة الإسلام؟ وما هو الاستـقلال؟ ولا زال ذهنـنا منشـغلاً بمسـائل هامشيّة، مثل: لماذا أسعار الاقمشة مرتفعة؟ ولماذا هذا وذاك؟! يا أخي! إذا ارتفعت أسعار الاقمشة، فإنّ بإمكان المرء أن يستغني عن شراء القماش، فيقـوم بترقيع ملابسه، ومهما يكن الامر فإنّه لن يصل إلي مستوي أصحاب الصفّة الذين كانوا لا يملكون حتّي ما يستر عوراتهم ولا يتمكّنون من أداء الصلاة، فأمرهم النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم بأن يجثموا علي الرُّكَب وظهورهم علي الجدار لكي لا تُري عوراتهم ويصلّوا علي هذه الحالة وهم عرايا. ولم يكن عندهم شيئاً من الطعام، وكانوا يقسمون التمرة الواحدة بينهم فيلوك الواحد منهم بشطر منها، ومن تلك المحنة صاروا حُماة الإسلام. قال سبحانه وتعالي: لَئِن شَكَرْتُمْ لاَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، أفلا ينبغي لنا أن نُقَدِّر عطاء الباري بتقديمه لنا هذه العطيّة الجزيلة؟ إنّ قرارات حاكم الإسلام لازمة الإجراء، لذا يلزم دفع الضرائب الماليّة، ويجـب الحـضور في صلاة الجـمعة، وينبـغي علي الإنسـان أن لا يُشكِل علي عدالة إمام الجمعة ويشكّ فيه، لانّ إمام الجمعة منصوب من قِبَل الحاكم، وعدالته في ذمّة الحاكم وليست في ذمّتنا، كما أ نّه لا يمكن إقامة أكثر من صلاة جمعة واحدة في كلّ مدينة، وعلي الجميع أن يشاركوا فيها، ولو أرسل حاكم الإسلام في ليلة من الليالي أحد الاشخاص لإمامة الجمعة في المدينة الفلانيّة، فعلي الناس أن يشاركوا في الصلاة وليس من المهمّ أن يعلموا عدالته أو لا، لا نّها معتمدة باعتبار أنّ قول الحاكم واجب علي الجميع، فلابدّ لهم من المجيء إلي الصلاة والاقتداء بذلك الإمام الجديد، وإذا قالوا: نحن نجهل عدالته، فإنّهم سيكونون مذنبين؛ فنقول: إنّ معرفة عدالة إمام الجماعة في الصلوات العاديّة في ذمّتنا، وأمّا في صلاة الجمعة فهي في ذمّة الحاكم، بالضبط كمسألة تعيين القاضي، فمسألة عدالته علي عاتق الحاكم وليس علي الناس فيها من شيء. فلابدّ لنا من إطاعة أوامر الحاكم والذهاب للمشاركة في أيّة صلاة جمعة تقام، كما علينا الجدّ الحثيث بمقدار وسعنا في مسائل حكومة الإسلام عن طيب نفس، وأن نقدِّم كلّ ما يمكننا تقديمه فِكراً وممارسة. وظيفة الناس في مواجهة المشاكللقد كرّرت القول لمرّات عديدة للاصدقاء والرفقاء بأنّ هذه الحكومة التي تعدّدون نقاط ضعفها، اعلموا يقيناً أنّه ليس بإمكان آية الله الخمينيّ بعد استلامه زمام السلطة أن يجلب طائفة من ملائكة السماء ليقوموا بإدارة أُمور الناس، علينا أن ندير شؤون هذه الحكومة بأنفسنا، ونحن نعرف أنفسنا جيّداً، ونعرف مدي تملّقنا، وأنت الذي تنتقد زيداً وتسيء القول إلي فلان وفلان، فها هي حالنا، وها قد وصلت السلطة بأيدينا، فصرنا نجترح الخيانات. وبناء علي هذا، فنحن أمام وظيفتين في هذه الحكومة: إحداهما: أن نسـاند الاعمال الجـيّدة ونظـهر محاسـنها فنقول: ما شاء الله، ما هذه الصلاة المقامة! يا لروعة هذه الخطب! ليس لاحد أن يجد محلاّ واحداً للمشروبات الكحوليّة في جميع أرجاء البلاد، في حين كانت هناك عدّة محلاّت لبيع المشروبات الكحوليّة في المسافة بين بيتنا ومسجد القائم علي الرغم من قصرها بحيث يقطعها المرء خلال سبع دقائق، ولقد كنتُ أخرج من المسجد بعد الظهيرة عائداً إلي البيت، فأري طلبة المدارس بناتاً وبنيناً وقد ملؤوا الشوارع وهم في تلك الحال المزرية بعد انتهاء دوامهم في نفس الساعة، فالبنات في ذلك اللباس القصير المزري، والاولاد بتلك الملابس المخزية، كنّا نري ذلك بأُمّ أعينـنا كلّ يوم، أمّا الآن وبحمد الله فليس هناك من أثر لتلك المظاهر الممقوتة، ألم يكن هذا التغيير من مزايا حكومة الإسلام؟ مضافاً إلي هذا، فماذا تريدون؟ هل تريدون أن تعودوا ثانية محنيي الظهور أمام محمّد رضا؟ أو أمام السيّدة أشرف المتصدرة لقائمة أكبر تجّار السوق السوداء في العالم، والتي كانت تشرف بنفسها علي استيراد صناديق الهيروئين، حتّي تحنوا لها ظهوركم وتقبّلوا يدها! أتريدون هذا؟ فإن كنتم ترغبون في ذلك فمبروك لكم! إِنَّ اللَهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي' يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ. أمّا إن كنتم لا تقبلون ذلك، فعليكم أن تتكيّفوا مع هذه الصعاب، وممّا لا شكّ فيه أنّ العزّة لا تأتي مع الراحة وطيب الطعام والتنعّم، بل العزّة مع تحمّل الصعاب والصبر والقناعة، وقد كان أئمّتنا ونبيّنا العظيم الشأن علي هذه الشاكلة وكان هذا طريقهم، فعلينا دائماً أن ندعم الاعمال الجيّدة ونسندها. أمّا وظيفتنا الاُخري فهي: محاولة إصلاح الاعمال السلبيّة، فإذا رأيت جداراً ناقصاً، فلا تقل مادام كذلك فلنكسر طابوقة أُخري، بل خذ الطابوقة الساقطة وضعها في مكانها وابنها بإحكام. وإذا رأيتم أحد المسـؤولين قد ارتكب مخالفة ما، فما فائـدة أن ننال منه بالشـتيمة في مجالسنا، ما فائدة شتمكم له؟ إذا ارتكب عملاً مشيناً، فعلينا أن نُقنعه عن قرب بخطأ ما قام به دون أن يطّلع علي ذلك أحد غيره. فهذا هو طريق الإصلاح، لا شتـمه في غيابه، إذ لا طائل من الشـتم سـوي التخـريب والإفساد. وباختصار أقول: إنّ ما قمتُ بإيضاحه يمثِّل أساس حكومتنا الشرعيّة، وأساس ديننا وقانوننا، كما هو أساس نهجنا ووجداننا، وقد أمرنا بذلك عظماء ديننا وأولياؤه، وعلينا أن نتحرّك ضمن هذا الإطار، فإذا أصدر الحاكم ـ مثلاً حكماً بالذهاب إلي الحرب، فيكون ذلك واجباً كفائيّاً علي الجميع، أي يجب علي مَن يجد في نفسه الكفاية الذهاب إلي الحرب، وينبغي علي الجميع الذهاب إلي جبهات الحرب حتّي يعلنوا الاكتفاء عن الحاجة، وكما لاحظتم فإنّهم قالوا: لا نشكوا الحاجة، فكُفّوا عن المجيء حتّي إشعار آخر. وقد قلتُ للرفقاء تكراراً في مدّة حياة آية الله الخمينيّ: لو قال لي اذهب إلي الحرب بعنوان واجب تعيينيّ! فسوف أذهب. لماذا؟ لا نّه لا ينبغي هنا إظهار وجهات النظر الشخصيّة، فالنظرة الخاصّة هنا، كأن يقال: هل في هذه الحرب صلاحٌ أو العكس؟ متي نشبت الحرب! متي يجب إنهاؤها؟ ما هو الوقت المناسب للصلح؟ وما إلي ذلك، تمثّل مسائل ووجهات نظر خاصّة بالنسبة للإنسان، ولا مانع من أن يعيش الجميع هذه الحالة. أمّا في مسألة صنع القرار واتّخاذ الموقف الحاسم، فعلي الإنسان أن يكون تابعاً، ومَن لا يرضي بهذه التبعيّة يُعَدّ مجرماً وعاصياً من الناحية العمليّة. قيادة سماحة الحاجّ السيّد علي الخامنئيّوكذلك بعد وفاة آية الله الخمينيّ وإيكال القيادة إلي سماحة السيّد الحاجّ علي الخامنئيّ، حيث علينا هنا أن نعرف وظيفتنا، لا نّه ممّا لا شكّ فيه أنّ عنوان التقليد من الآن فصاعداً قد انفصل عن عنوان الحكومة، يعني أنّ سماحة السيّد الخامنئيّ ليس من مراجع تقليد الناس، ولابدّ من وجود عنوان الاعلميّة في مسألة التقليد، أمّا في الحكومة فعلي الرغم من لزوم الاعلميّة، إلاّ أ نّه في بعض الظروف يتعذّر جمع الاعلميّة الفقهيّة والقدرة القياديّة في شخص واحد، فنري شخصاً بلحاظ استنباط المدارك الفقهيّة والدينيّة هو الاعلم بين الجميع، ونجد شخصاً آخر بلحاظ القدرة القياديّة هو الافضل بين الناس والاكفأ والاكثر وعياً في استيعاب أُمور الساعة، لذا فقد حصل هذا الفصل. وبلحاظ عنوان البيعة له، فله قيادة الاُمور بعد آية الله الخمينيّ، وتكون إطاعته واجبة في الشؤون الاجتماعيّة والسياسيّة في حدود مهامه القياديّة، وهو وللّه الحمد رجلٌ مجاهد وعامل ومدبِّر ومتديّن، وصحيح أ نّي لحدّ الآن لم ألتقِ به، لكنّي سألتُ ذات يوم المرحوم الشهيد المطهّريّ عند زيارته لي في بيتي: مَن هم المشاركون في جلسات شوري الثورة؟ فذكر أسماءً كان من ضمنها اسم السيّد الخامنئيّ الذي ما كان يمتلك شهرة واسعة بين الناس حتّي ذلك الحين، فسألته ثانية: ما هي صفات السيّد الخامنئيّ؟ فقال: إنّه إنسان طيِّب، ذو شخصيّة، عاقل، مدبِّر، وإنسان مجاهد. وخلاصة القول فقد أثني عليه كثيراً، ورأيناه خلال السنين السبع أو الثمان المنصرمة بعد أن تقلّد زمام الاُمور قد قدّم خدمات جيّدة علي ما سمعنا، سواء في خطبه في صلاة الجمعة، أو بما أدّاه خلال سفراته إلي خارج البلاد، أو من خلال التقائه بالشـخصيّات ومقابـلاته مع الصـحافة ووكالات الانبـاء المخـتلفة، أو من خدمـاته المنـجـزة لإعـلاء الإسلام والمسـلمين، وباختصـار فهو من حيـث المجـموع إنسـان مناسـب وعاقل متلهِّف للدين، وقد صقل في بوتقة الثورة وخاض امتحانات كثيرة خرج منها بنتائج جيّدة، ولا يبعد أن يكون انتخاب نوّاب مجلس الخبراء له علي ضوء ما تقدّم له من سمات، فهذه الخصال التي تجمّعن فيه من المسائل المهمّة لجذب أنظار وتوجّهات النوّاب من أهل الخبرة إليه، فالخبراء هم من أهل التخصّص والحنكة، ولي سابق معرفة ببعضهم كآية الله الحاجّ الشـيخ أحمد الآذريّ القـمّيّ، وآية الله الحاجّ السـيّد مهـدي الروحانيّ، وآية الله الحاجّ الشيخ عبّاس الإيزديّ النجف آباديّ الذين كانوا بأنفسهم مجتهدين، وهم منزّهون بتمام معني الكلمة، ومن ذوي السوابق الحسنة، وكلٌّ منهم قد أنهي دورات من دروس آية الله البروجرديّ، وكانوا من تلامذة الحاجّ السيّد محمّد الداماد الجيّدين. وبما أنّ كلّ واحد من الخبراء هو نائب لجماعة كبيرة من الناخبين، فيكون تصويت كلّ واحد منهم بمثابة البيعة من قِبَل تلك الجماعة الكبيرة، لانّ هذا الشخص من أهل الخبرة بمثابة مكبّرة صوت ووكيل ونائب تلك الجماعة، فانتخابه ومبايعته هو في الواقع مبايعة تلك الجماعة من الناس الذين عيّنوه بانتخابهم له فأكثريّة آراء الخبراء هي بذاتها أكثريّة آراء أهل الحلّ والعقد، وإذا لم يكن ثمّة من بيعة لجميع الناس، فلا أقلّ من تحقّق عنوان الحكومة ببيعة أكثريّة الخبراء الممثِّلين لآراء الناس. وحين تمّت هذه البيعة، فإنّه قد نُصب للحكومة من قِبَل الإسلام، وعلي الناس السمع والطاعة له بتلك الكيفيّة التي عرضناها في أمر الحكومة والسياسة واتّخاذ القرارات المتعلّقة بأصل المجتمع الإسلاميّ ـ ما عدا أمر التقليد المختصّ بأعلم الاُمّة ومن هنا فعلي أعلم الاُمّة أن يقرّ هذه القيادة ويؤيّدها، كما يلزم علي الحاكم أن يجري الاُمور في الحوادث الواقعة طبقاً لنظر ورأي أعلم الاُمّة. ولا يبقي للناس في هذه الصورة أن يقولوا إنّه لم يأمرنا في المسألة الفلانيّة ـ مثلاً بل إنّه حين ينصب وزيراً لإحدي الشؤون، فيُعيِّن ذلك الوزير مديراً عامّاً ومعاوناً له، وكلٌّ منهما يعيّن مَن سيعمل تحت إشرافه، وهكذا حتّي يصل الامر إلي تعيين الخادم والحارس... فإنّ ذلك كلّه معدود تحت قيادة وحكومة الحاكم. فلهذا، إذا أردنا الآن عبور الشارع مثلاً، فينبغي عبوره من المكان المخصّص للعبور، لانّ الحاكم قد أمر بذلك، وعلي سائقي السيّارات أن يلاحظوا مكان توقّفهم في تقاطع الطرق بحيث لا يسدّوا مجال العابرين المميَّز بالخطوط الفارقة، فكلّ هذه هي أُمور شرعيّة، وإذا طبّقنا كلّ هذه الاُمور بدقّة وتكيّفنا معها بوجداننا، فسنري مدي ما سيطبع الإسلام علي أرواحنا من آثار إيجابيّة، فيأخذ بأيدينا في حياتنا الدنيويّة صوب السعادة والرقيّ والكمال، مع بقاء عاقبة أعمالنا علي ما فيه الخير. قال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: ثَلاَثٌ لاَ يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ: إخْلاَصُ العَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لاِئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَاللزُومُ لِجَمَاعَتِهِمْ. فلا يطرأ علي قلب المسلم في هذه الاُمور الثلاثة أيّ كدر واضطراب، بل يبقي قلبه معموراً بالطهارة والصفاء والإخلاص قُربة إلي الله تعالي، فأوّلاً عليه أن يمحو حسابات الانانيّة والحسد، فيشعر أنّه جزء من جسد هذا المجـتمع، ويعـمل علي توظـيف كافّة قدراته ضمن محـور الإسلام وحكومته ومصالح المسلمين، وعليه ثانياً أن يقوم بدور الناصح إلي أئمّة المسلمين والمتصدّين للسلطة وأئمّة الجمعة والجماعة والحكّام، وعليه ثالثاً أن يلزم جماعة المسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
|
|
|