|
|
الصفحة السابقةالإ جابة الثالثة علی إشكال الشرور ، والآثار الحسنة للشرورنعم ، كان هذا قسمين من عدّة أقسام في الجواب حول الإشكال الوارد علی مسألة الشرور والذي سبق لنا ذكره . وقد ورد جواب آخر في كتب حكماء الإسلام وهو عبارة عن البحث في فوائد الشرور وآثارها الحسنة ، وأنّ كلّ شرّ مُوَلِّدٌ للخير . ففي القسم الثاني حول كون الشرور أُمور عدميّة ، يُجاب فيه علی أتباع الثنويّة القائلين بوجود أصلَيْن للوجود ؛ وبإضافة القسم الاوّل فقد أُجيب علی المادّيّين الذين يعتقدون بأنّ الشرور هي إشكال وارد علی الحكمة الإلهيّة ، وعلی مَن استندوا إلي إشكال الشرور في انتقاص العدل الإلهيّ . ويُعرض القسم الثالث من البحث النظام الجميل والبديع لعالَم التكوين ، حيث يمكن اعتباره جواباً مستقلاّ لكن إقناعيّاً ، أو جواباً مُكَمِّلاً ومفيداً للجواب الاوّل .[1] ولصديقنا الراحل المرحوم بيان موجز حول عجز الفلسفة الغربيّة عن حلّ إشكالات المسائل الواردة في فلسفة الشرق ، لكنّه بيان جامع يستحقّ أن نذكره هنا : فلاسفة أُوروبّا عاجزون عن حلّ معضلات المسائلنحن وفلاسفة الغرب : لا شكّ في أنّ مسألة النظام الاحسن هي من أهمّ المسائل الفلسفيّة . وكما بيّنا في القسم الاوّل فإنّ هذه المسألة كانت السبب في ظهور الفلسفة الثنويّة و المادّيّة و التشاؤميّة . وقَلّما يوجد شخص لم يُعرِ هذه المسألة أهمّيّة واضحة أو يُبيّن فيها رأيه . فقد استرعت مسألة إشكال الشرور إنتباه فلاسفة الشرق والغرب علی السواء ، إلاّ أنّ فلاسفة الغرب ، حسب ما آل إليه عِلمي ودراسَتي ، لم يفلحوا في صياغة الجواب القاطع لهذا الإشكال [2] . ولقد صادفني أثناء بحوثي في الفلسفات الاُوروبّيّة أنّ الاُوروبّيّين لم يتمكّنوا من حلّ هذه الشبهة . في حين قام فلاسفة الإسلام وحكمائه بتحليل ودراسة هذا الإشكال ، والحقّ أ نّه يجب أن نعترف أ نّهم قد أحسنوا الإجابة عنه فحلّوا بذلك لغزاً مهمّاً . ومن المناسب أن نذكر جملة تخصّ الحكمة الإلهيّة في الشرق وأن نُثني جزيل الثناء علی هذه المكتبة المعنويّة الكبيرة . إنّ الحكمة الإلهيّة في بلاد الشـرق هي تراث عظيم وقيّم وُلِد في أحضـان نور الإسـلام الوهّاج ؛ لكن وممّا يؤسَف له لم تسبر أعماق هذا التراث إلاّ فئة قليلة وأشخاص معيّنون ، وما أكثر الظلم الذي لحق بهذا التراث من قِبل العابثين والاعداء المتعصّبين . ويعتقد البعض أنّ الحكمة الإلهيّة الإسلاميّة هي نفسها الفلسفة اليونانيّة القديمة ، حيث دخلت الإسلام خِلسة . فأُولئك قد وقعوا في خطأ جسيم مرتكبين وعن قصد أو بغير قصد ، جناية عظيمة بحقّ الإسلام والمعارف الإسلاميّة . فنحن نعتقد أنّ هذه الفكرة إنّما هي وليدة الاستعمار . فما بين الحكمة الإسلاميّة والفلسفة اليونانيّة بون شاسع يشبه إلي حدّ كبير البون الموجود مثلاً بين الفيزياء عند أينشتَين والفيزياء عند اليونان . وهناك الكثير من الدلائل التي تشير إلي أنّ حكمة ابن سينا كذلك لم تصل أُوروبّا كاملة ، إذ لا زال الاُوروبّيّون يجهلون هذا التراث القيّم . وكما ذكرنا في هوامش الجزء الثاني لـ « أُصول الفلسفة ومنهج الواقعيّة » [3] فإنّ مقولة ديكارت المعروفة : « أنا أفكّر إذن أنا موجود » ، والتي لقيت رواجاً كبيراً في الفلسفة الاُوروبّيّة باعتبارها فكرة جديدة وإلماعة قيّمة ، لم تكن غير كلمة جوفاء لا معني لها . وقد نقلها ابن سينا في النمط الثالث في « الإشارات » في صراحة تامّة ووضوح كامل ؛ ثمّ دحضها ببرهان محكم فلو كانت فلسفة ابن سينا تُرجِمَتْ إلي الاوروبّيّين بدقّة ، ما كان كلام ديكارت ليكون أساساً للفلسفة الجديدة تحت عنوان « اكتشاف جديد » و « فكرة بِكر » . لكن ما العمل والحال أنّ كلّ شيء مختوم بختم أُوروبّيّ يكون مرغوباً وجذّاباً ، وإن كان ذلك الشيء كلاماً فاسداً أكل الدهر علیه وشرب » [4] . وللحكيم الباحث والفقيه المتبحّر المعاصر الذي كان وجوده لطفاً من لدن الحقّ سبحانه وتعالي وفقدانه خسارة كبيرة للإسلام والتشيّع وعالَم البشريّة والإنسانيّة المرحوم آية الله أبو الحسن الشعرانيّ تغمّده الله في بحار رضوانه وبحبوحات نعيمه ، بحث موجز بهذا الخصوص من المناسب ذكره هنا : قيمة عمل صدر المتأ لّهين : يجب التذكير بأنّ عقيدة الشيعة تعني وجوب اللطف علی الله تعالي ؛ أي ما يقرّبنا إلي الطاعة من غير إجبار ، لإتمام الحجّة علی الناس من قِبل الحقّ جلّ شأنه . وكان وجود صدر المتأ لّهين في هذا المقطع الزمنيّ هو لطف من قِبل الله تعالي . ففي الوقت الذي بدأت فيه الصناعات المادّيّة تأخذ طريقها إلي التقدّم ، ونحا الناس باتّجاه العلوم الطبيعيّة واستُخِفّ بآراء أصحاب المدرسة اللاهوتيّة ؛ جاء الله بهذا الرجل العظيم في العصر المذكور ( القرن السابع عشر الميلاديّ ) وألهمه إحكام القواعد الإلهيّة عن طريق الاستدلال والبحث وبقالب من الفصاحة لا نظير له واقتفاء للاخبار بشكل وَلِهَت قلوب الكثيرين إليه دون أن يكون له أيّ مطمع دنيويّ ، إذ قضي جلّ عمره في كسب مرضاة الله ونشر علومه ، حتّي غدا معظم العلماء في الوقت الحاضر يهتدون بأفكاره ويستندون إليها في دفاعهم عن الشريعة [5] . علم الحكمة مستقلّ عن العلوم الطبيعيّة وقائم علی البراهين العقليّةومحصّلة كلام المحقّق الشعرانيّ في هذه المسألة هي أنّ الفلسفة الاُولي والحكمة الإلهيّة فنّ وعلم مستقلاّن عن العلوم الطبيعيّة ، وهي قائمة علی أُصول عقليّة ثابتة ورصينة . ولا تأثير يُذكر لتطوّرات العلوم الطبيعيّة علی مسيرة الاُمور الاساسيّة فيها . وحسب قول الفيلسوف الشهيد المطهّريّ فإنّ « المسائل الرئيسيّة في الفلسفة والتي تشكّل العمود الفقريّ لها هي من نوع المسائل الفلسفيّة الصرفة باستثناء بعض من المسائل الفرعيّة في باب العلّة والمعلول وقسم من بحوث القوّة والفعل والحركة وجانبٍ من فروع أُخري تعتمد علی النظريّات العلميّة . والحقيقة أنّ المسائل ذات العلاقة بمعرفة عالم الوجود من الناحية الكلّيّة والعموميّة كمسائل الوجود والعدم ، والضرورة والإمكان ، والوحدة والكثرة ، والعلّة والمعلول ، والمتناهي واللامتناهي وغيرها . لها بُعد فلسفيّ صِرف » [6] . ومن هنا يمكن استنباط سذاجة القائلين بأنّ مصير المسائل الفلسفيّة مرهون بآراء العلوم الطبيعيّة وفرضيّاتها والقائلين بأنّ تطوّر المعارف العلميّة هو أساس تطوّر المسائل الفلسفيّة . فهؤلاء لم يعرفوا حقيقة الفلسفة الاُولي حقّ معرفتها فراحوا يخلطون بينها وبين الفلسفة العلميّة . وقد تحدّثنا عن ذلك في موضع آخره » [7] . أبيات الحكيم الكمبانيّ في خيريّة مبدأ وعالم الامروينشـد الحكيم والفقـيه المحقّق آيـة الله الشـيخ محمّد حسـين الإصفهانيّ الكمبانيّ قدّس سرّه الابيات التالية ، فيما يخصّ خيريّة الذات وخيريّة الافعال ، وعدميّة الشرور واقتصارها علی عالم الخلق وليس عالم الامر : وَالمَبْدَأُ الكَامِلُ خَيْرٌ مَحْضُ وَحُبُّ صِرْفِ الخَيْرِ حَتْمٌ فَرْضُ إلَي أنْ قالَ : وَحَيْثُ إنَّ الذَّاتَ مَرْضِيٌّ بِهَا فَفِعْلُهَا كَذَا لَدَي أُولِي النُّهَي وَهْوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ كَمَا وُصِفْ وَكَوْنُهُ خَيْراً بَدِيهِيَّاً عُرِفْ وَلاَ يَكُونُ الشَّرُّ إلاَّ عَدَمَا فَلَيْسَ بِالذَّاتِ مُرَاداً فَاعْلَمَا وَعَالَمُ الاَمْرِ هُوَ القَضَاءُ لاَ بِدْعَ فِي أَنْ يَجِبَ الرِّضَاءُ إذْ هُوَ نُورٌ لاَ تَشُوبُهُ الظُّلَمْ فَكُلُّهُ خَيْرٌ عَلَی الوَجْهِ الاَتَمْ وَعَالَمُ الخَلْقِ هُوَ المَقْضِيُّ فَالفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا مَرْضِيُّ فَإنَّهُ تَصْحَبُهُ الشُّرُورُ فَفِي الرِّضَا بِحَدِّهِ المَحْذُورُ [8] ويُشير في البيت الاخير هذا إلي مصاحبة الشرور للإنسان في عالم الخَلق والتحذير من الرضا بذلك ، والمراد مصاحبة الشيطان الذي يقتصر تأثيره علی عالم الخَلق وليس عالم الامر ، ووقوع الإنسان في دركات الجحيم إنّما هو علی أثر إتّباع الشيطان والانقياد له ، والتجرّد من جميع المقامات الإنسانيّة . وخلاصة الامر ، فإنّ انجراف النفس الامّارة بالسوء وراء وساوس الشيطان ، تودي بالإنسان المختار في الإرادة والعمل معاً إلي أسفل السافلين من جهنّم وتُلقي به في السعير . وبما أنّ الحديث قد آل بنا إلي هذا المآل ، فإنّه من المناسب هنا أن نتوسّع بالبحث قليلاً ونتحدّث عن الشيطان وكيفيّة وجوده وظهوره وعمله ، وذلك لتبرز عظمة الإسلام الذي يستند إلي التوحيد ، وكذلك ليتوضّح الفارق بينه وبين أهريمن الذي تؤمن به الثنويّة : تقول الثنويّة : «أهريمن» قطب مستقلّ مقابل «أهورامزدا»الشيطان : يُعتبر الشيطان من عجائب عالم الخلقة ، حيث دلّ علیه القرآن الكريم دلالة صريحة في مواضع عديدة ، وهو بمثابة المحك للإنس والجنّ وهو مُكلَّف بمهمّة تفتيشيّة ؛ ومن خلاله ( أي الشيطان ) يبلغ الإنسان الفعلیة التامّة والكمال الإنسانيّ وذلك عن طريق القابليّة والاستعداد . تخالف هذه النظريّة بشكل تامّ النظريّة الثنويّة . فالشيطان ( أهريمن ) باعتقادهم يمتلك وجوداً استقلاليّاً إزاء ( أهورامزدا ) . ولهذا فَهُمْ يعزلونهما عن الاقطاب والمحاور الثلاثة : الشهود والوجدان ، والعقل والبرهان ، والشرع والإيمان . ويتكرّر اسم موجودٍ في تعاليم الاوِسْتا هو أهورامزدا باعتباره منشأ ومصدر جميع الخيرات والبركات كالحياة والسلامة والرفاه والعافية والنور والحيويّة وما شابه ذلك . ويتكرّر اسم موجود آخر هو انگره مئنيو وهو مصدر جميع السيّئات والآفات والشرور والظلمات والوفيّات والامراض وأمثال ذلك . ويظهر من خلال التعاليم الاوِسْتائيّة وخاصّة القسم المسمّي بـ « وَنديداد » أنّ مَثَل أهريمن كمثل أهورامزدا مخلوق أزليّ أبديّ بحدّ ذاته مستقلّ بالذات لم يُخلَق من قِبَل أهورامزدا ، بل اكتُشِفَ من قِبَله . في حين يبدو واضحاً من خلال تعاليم أُخري في الاوِسْتا تدعي بالـ « گاتا » أنّ أهورامزدا كان قد خَلَق موجودَيْن هما : الاوّل « انگره مئنيو » ( = الفكرة الخبيثة ) ، والثاني « سپنت مئنيو » ( = الفكرة المقدّسة ) . ومهما يكن من أمر فإنّ انگره مئنيو ، الموجود القبيح والخبيث ، يمتلك استقلاليّة في العمل . وكان الزرادشتيّون يعتقدون وما زالوا بأنّ الموجودات والمخلوقات في العالم تنقسم إلي مجموعتين : الخير والشرّ ؛ أو الخيرات المفروض وجودها والمفيدة لنظام العالم الكلّيّ والتي يُفتَرض بجميع البشر الاجتهاد والسعي لإنمائها وإكثارها ، والشرور التي تُعتَبر مُضرّة للعالم ، وهذه لم يخلقها أهورامزدا ، بل هي نتاجات أهريمن ، وعلی الناس جميعاً تقع مسؤوليّة محوها وإزالتها من العالم . فهذه الشـرور مخلوقات أهريمن سـواء أكان هو نفسـه مخلوق أهورامزدا أم لم يكن . وعلی هذا ، فإنّ ما يمكن استنباطه من الاوِسْتا هو أنّ أهريمن خالق الشرور والظلمات والسيّئات ، وبذلك يقع القسم القبيح والخبيث من العالم هذا في قبضته . فهو إمّا أن يكون شريكاً لاهورامزدا في الذات وأصلاً قديماً أزليّاً . وإمّا أن يكون مخلوقه لكنّه شريك له في الخِلقة والتكوين . وأيّاً كان ذلك فإنّ ( أي أهريمن ) يمتلك استقلالاً وجوديّاً في العمل والخَلق ، والمحنّك في الخَلْق وعالم التكوين والتدبير . يقول القرآن الكريم إنّ الله خلق جميع الموجودات فأحسن تصويرهالكنّ الامر مختلف تماماً في نظريّة الإسلام . ففي إطار التفكير والعرفان الإسلاميّينِ جميع الموجودات في العالم خاضعة لمسألة الجمال والخير والقبول والحمد والشكر والتمجيد والتحميد والمدح والإطراء . فالخالق واحد وكلّ ما هو مخلوق بيده واحد كذلك . وذلك هو منتهي الروعة والبهجة والنزاهة والكمال والتمام والإتقان . ذَ لِك عَـ'لِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـ'دَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي´ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ و وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَـ'نِ مِن طِينٍ . [9] قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَـ'مُوسَي' * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي´ أَعْطَي' كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ و ثُمَّ هَدَي' . [10] سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاْعلی * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّي' * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَي' . [11] إنّ أصل خِلقة الشيطان في الاساس هو خير ، لانّ ذلك حادث طبقاً لحكمة الله . وقد علمنا أ نّه هو أيضاً مخلوق من مخلوقات الله ؛ وكلّ مخلوق من مخلوقات الله هو خير . كلا الجنّ والإ نس مكلّفان بالتكليف الإ لهيّوطبقاً لما ورد في الآيات القرآنيّة الكريمة فإنّ الشيطان لا أثر له في عالم الخِلقة والتكوين ؛ ولا سلطان له في عالم الامر والملكوت . وتقتصر دائرة إحاطته وفعلیته في عالم الخَلق والدنيا وحسب ، وحتّي تلك الإحاطة والفعلیة تكون مقتصرة علی أفكار الجِنّ والإنس ، وعلی نحو الاختيار والوسواس لا الإجبار والاضطرار ؛ حتّي يتمّ لهُ تضليل أي موجود شاء من الجِنّ أو الإنس إذا ما انقادوا لوساوسه واتّبعوا أغراضه وأهواءه ، ففي الواقع هو مأمور من قِبل الله لتمييز الصالح عن الطالح ، والجميل عن القبيح والسعيد عن الشقيّ ، وأصحاب الجَنّة عن أصحاب النار ؛ فيكون الإنسان حيئنذٍ مخيّراً في انتقاء طريق السعادة أو الشقاء بملء إرادته في هذه الدنيا التي هي دار تكليف . وما كان بالإمكان وقوع هذا الامر أو حصوله بغياب الشيطان ووساوسه في أفكار الإنس والجنّ . في البدء ، أي قبل عالم التكليف كان الشيطان مَلَكاً من الملائكة ، ولذلك تشير الآية التالية أيضاً في خطابها إلي زمرة الملائكة وأمرهم بالسجود : وَلَقَدْ خَلَقْنَـ'كُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـ'كُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـ'´نءِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُو´ا إِلآ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّـ'جِدِينَ . [12] ولانّ الشيطان كان مخلوقاً من النار وكان من زمرة الجِنّ كان علی صورة مَلَك وفي صفّ الملائكة وذلك قبل التكليف ولهذا امتنع عن الامتثال لامر الله سبحانه : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـ'´نءِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُو´ا إِلآ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ و وَذُرِّيَّتَهُ و´ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّ بِئْسَ لِلظَّـ'لِمِينَ بَدَلاً . [13] الآن وقد تبيّن أنّ الشيطان كان من الجِنّ ، ومن ناحية أُخري علِمنا أنّ الله سبحانه خَلق الجِنّ من ريح حارّة طبقاً للآية الشريفة التالية : وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـ'هُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ . [14] والآية الشريفة : وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ . [15] ومن ناحية أُخري نعلم أنّ خلقة الإنسان كانت من تراب كما تبيّن الآية الشريفة : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَـ'نَ مِن سُلَـ'لَةٍ مِّن طِينٍ . [16] وعلی هذا تكون خلقة كليهما ( الجنّ والإنس ) من عالم الطبيعة والكون والفساد وملوَّثة بالشرور والنقائص ؛ خاضعة للتكليف الإلهيّ والامر والنهي والطاعة والمعصية ، وأخيراً التحرّك باتّجاه المقصود والمطلوب الاصليّينِ . وقد شرّفهما الله معاً بأمر التكليف والعبادة ، مُبَيِّناً أنّ الغاية من خلقتهما هي العبادة والعبوديّة : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونَ * إِنَّ اللَهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ . [17] ولهذا ذرأ الله جهنّم لكلا الفريقَينِ من الجِنّ والإنس لتكون مآلاً ومستقرّاً لكلّ مَن يتمرّد علی أوامره ويعصيه ويتّبع الشيطان الرجيم : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُولَـ'´نءِكَ كَالاْنْعَـ'مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْغَـ'فِلُونَ . [18] ثمّ سيخاطب هؤلاء بشدّة من قبل الحقّ تعالي في اليوم الآخِر أن لماذا لم تتّبعوا رسلنا الذين نصحوا لكم وحذّروكم يومكم المُستَطير هذا ؟! يَـ'مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَیكُمْ ءَايَـ'تِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـ'ذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَی'´ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَو'ةَ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَی'´ أَنفُسِهِمْ أَ نَّهُمْ كَانُوا كَـ'فِرِينَ . [19] فلمّا كان ذلك مفعولاً علی بيّنة منهم وطبقاً لانتخابهم هم أنفسهم واختيارهم طريق الجَنّة أو النار بأيديهم ونيّاتهم فإنّ جميع المخلوقات من الجِنّ والإنس ممّن تنطبق علیهم هذه الصورة مشمولون بكلمة العذاب أو الرحمة هاتين وسوف يخلدون في مأواهم هناك إلي الابد سواء أكان ذلك المأوي هو الجَنّة أم النار : أُولَـ'´نءِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَیهِمُ الْقَوْلُ فِي´ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَـ'سِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَـ'تٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـ'لَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . [20] ولا يختلف الشيطان إلاّ إلي الذين يعنيهم ما يعنيه هو ؛ فيغويهم ويزلّهم عن الطريق . ولانّ هؤلاء لم يخطوا في هذه السبيل أو يتّبعوا خطوات الشيطان إلاّ بمحض إرادتهم وكامل قواهم العقليّة ، وذلك بعد إتمام الحجّة علیهم من جانب الحقّ تعالي بواسطة الرسل والوحي ، فإنّهم سيوردون موارد الهلاك والعذاب في الدنيا ويكون مصيرهم الجحيم والغضب الإلهيّ في الآخرة : وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَي' وَمَا كُنَّا ظَـ'لِمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَـ'طِينُ * وَمَا يَنـبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ . [21] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَی' مَن تَنَزَّلُ الشَّيَـ'طِينُ * تَنَزَّلُ عَلَی' كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـ'ذِبُونَ . [22] ويدخل الشيطان بين نبي البشر بالكلام القبيح والتهمة والغيبة والحديث غير اللائق والغريب والتحريض علی ارتكاب المعصية والفساد والقبائح والترغيب فيها : وَقُلْ لِّعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَـ'نَ يَنزَغُ [23]بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَـ'نَ كَانَ لِلإنسَـ'نِ عَدُوًّا مُّبِينًا . [24] الشَّيْطَـ'نُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَهُ وَ سِعٌ علیمٌ . [25] وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَـ'نَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـ'نُ إِلاَّ غُرُورًا . أُولَـ'´نءِكَ مَأْوَب'هُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا . [26] ومع ذلك كلّه فإنّ كيد الشيطان ضعيف ولا يكون التغلّب علیه إلاّ بقوّة رحمانيّة إيمانيّة إنسانيّة من الله سبحانه ، فلو استطاع المخلوق التخلّص تماماً من وساوس الشيطان وحبائله فإنّه لا جَرَمَ سيحوز علی الظفر والنجاح والانتصار علیه . الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَـ'تِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَـ'تِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّـ'غُوتِ فَقَـ'تِلُو´ا أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَـ'نِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـ'نِ كَانَ ضَعِيفًا . [27] فليس للشيطان أيّ سلطان علی المؤمنين والمتوكّلين علی الله . إنّ سلطانه إنّما يكون علی الذين مهّدوا لانفسهم طريق ولايته ، واتّخذوه شريكاً مع الله سبحانه وكفؤاً له ، فتركوا باب غوايته لهم مفتوحاً علی مصراعيه ثمّ انفعلوا بسبب ضعف نفوسهم ، وفتحوا نوافذ قلوبهم كاملة أمام وساوسه الضعيفة وترّهاته الواهية وادّعاءاته السخيفة ، فيتهيّأون للتلّوث بأيّة قذارة ويلقون أنفسهم بأنفسهم وبمعونة أهواءهم ومساعدة ذلك الخبيث المُخَبِّث . فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطَـ'نِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ و لَيْسَ لَهُ و سُلْطَـ'نٌ عَلَی الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَی' رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـ'نُهُ و عَلَی الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ و وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ . [28] علی المعتدين أن يلوموا أنفسهم ـ لا الشيطان ـ يوم القيامةوفي اليوم الآخر عندما يلوم المستضعفون المستكبرين قائلين : أنتم الذين أكرهتمونا علی أن نطيعكم ونرتكب الآثام والمعاصي ، فعلیكم اليوم أن تحملوا عنّا إصرنا والوِزر الذي حَمّلتمونا إيّاه وترفعوا عذاب الله . فيُجيبهم المستكبرون حينئذٍ : إنّما نحن مثلكم متورّطون في هذا الامر ، ولا حيلة لنا لا نّنا لا نمتلك الإرادة أو الاختيار وليـست أزِمّة الاُمور بيدنا ! في هذا اليوم سيقول لهم الشيطان صراحة : لقد وعدكم الله وعد الحقّ لكنّي وعدتكم باطلاً وأخلفتكم وها أنتم الآن تَرَوْن نتيجة ذلك ، فأنتم الذين تستحقّون اللوم ، لا نّه ما كان لي علیكم من سلطان أو قوّة إلاّ أن دَعَوتُكم إليّ وإلي وساوسي فجئتموني مُلبّين دعوتي بملء إرادتكم واختياركم ؛ فلا تلوموني أو توبّخوني علی ذلك !! فكلانا متورّط في هذا الامر ، فلا أنا أستطيع أن أُزيح همّاً عن قلوبكم فأُعدّ لكم طريق الخلاص وأدلّكم علیه ولا أنتم قادرون علی الاخذ بيدي وتخليصي ممّا أنا فيه ! لقد كنتُ كفرتُ بما أشركتُموني منذ اللحظة التي دعوتكم فيها فاستجبتم دعوتي واعتبرتموني مؤثّراً في مقابل الله سبحانه وتعالي ولم أقبل بذلك الشِّرك القديم ، وكنتُ أعلم أنّ الله الواحد القهّار هو وحده المؤثّر في جميع عوالم الوجود : وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَـ'´ؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُو´ا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِن عَذَابِ اللَهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَب'نَا اللَهُ لَهَدَيْنَـ'كُمْ سَوَآءٌ عَلَینَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ . وَقَالَ الشَّيْطَـ'نُ لَمَّا قُضِيَ الاْمْرُ إِنَّ اللَهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَیكُم مِّن سُلْطَـ'نٍ إِلآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُو´ا أَنفُسَكُم مَّآ أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّـ'لِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . [29] الشيطان مأمور مطيع للّه للتمييز بين الخبيث والطيِّبوممّا ذُكر يمكن استنباط بعض الاُمور المهمّة والاساسيّة في العقيدة الإسلاميّة النابعة عن التعاليم القرآنيّة : أوّلاً : لقد تبيّن أنّ الشيطان لا يملك استقلاليّة لا في الوجود ولا في الذات ولا في الاثر ولا في الفعل . فوجوده وفعله أمران موكولان إلي الله تعالي وأمره سبحانه . ثانياً : أ نّه ( أي الشيطان ) يؤثّر في الجِنّ والإنس معاً لا في الإنس وحدهم . ثالثاً : ليس لتأثيره أيّ أمر قهريّ أو اضطراريّ أو اجباريّ ، فهو لا يستطيع سحب الإنسان من يده وجرّه إلي ارتكاب المعاصي ، بل يقتصر تأثيره في مجرّد الوساوس وصرافة الدعوة ، علی نحوٍ ضعيف . رابعاً : يتّبع البشر الشيطان ووساوسه بمحض إرادته واختياره ، ولذا فالإنسان لا يملك أن يؤنّب الشيطان أو يلومه في عالم الحقّ والحقيقة وعند الوقوف أمام الله سبحانه ، أو أن يقول له : أنت السبب في كلّ هذا فعلیك أن تحمل اليوم عنّي إصري ! خامساً : أنّ أصل خلقة الشيطان خير ؛ وإنّما خُلِقَ لامتحان البشر واختبارهم حتّي يتمكّن ( أي البشر ) من السير في الطريق الصعب واللطيف في نفس الوقت ، وذلك في عالم التكليف والامر والنهي الإلهيّين بملء إرادته . فلولا الشيطان لاختَفتْ كلّ الاستعدادات والقابليّات في بوتقة الإجمال والإبهام . إذ لو كان العالم مملوء بدعوات الخير ـ سواء أكان ذلك من ناحية الشيطان الداخل والنفس الامّارة أم من ناحية الشيطان الخارج وإبليس اللعين لانعدمت الحركة نحو الكمال ، ولم تحصل النهضة باتّجاه ذُري المعرفة وقممها . ولولا الشيطان لما كان هناك من خيرٍ أو شرّ أو تكليف أو أمر أو نهي ، وما كان للعاطفة والحبّ والجهاد من أثر يُذكَر . ولولا الشيطان لما كان من وجود للشقاء أو السعادة أو الجنّة أو النار . وبالجملة فلو لم يوجد الشيطان ما وُجِدَت كلّ تلك العجائب والبدائع في الخلقة والجمال البشريّ الواقعيّ الفتّان ؛ ولولاه لتبدّل العالَم بأجمعه ولكان مختلفاً عمّا هو علیه الآن ، كثير الشبه بسلسلة من الموجودات الثابتة غير العاشقة وغير المتحرّكة ، كما هو الحال مع عالم الملائكة . وفي هذه الحالة ، كان يكفي وجود عالَم الملائكة ولم تكن هناك حاجة إلي إيجاد عالَم الخِلقة بواسطة عالَم المادّة وخلق البشر وإبليس وسجود الملائكة وتمرّد إبليس ، وحركة البشريّة ومسيرتها من مبدأها حيث الاستعداد والقابليّة إلي منتهاها حيث أعلی درجة الكمال واكتمال الذات في مقابل جنس الملائكة . كأنّ الله الخالق والعلیم والحكيم قد ذرأ الشيطان وادّخره لعالم الكثرة هذه ودار الاعتبار والتكليف لكي يتحقّق به اكتمال الخلقة ولعلّه السبب في أكمليّة الإنسان وأفضليّته وكونه أشرف من الملائكة المقرّبين . إنّ الشيطان مكلَّف ومأمور من لدن الحقّ تعالي بالاختبار والتحقيق وتمييز الافراد المُلوَّثين بإرادتهم ـ التي لا تنفصل عن إرادة الله تعالي ، بل هي عين اختياره ونفس إرادته والذين اختاروا السبيل المُعوَجّ ، المُدَنّسون بعفونة الكثرات المتعفّنة والذين هم غير مؤهّلين للدخول إلي حرم الامن وحريم الامان الإلهيّ ، عن الافراد الصالحين الطاهرين الطيّبين ، مانعاً أُولئكم من أن يخطوا خطوة واحدة في عوالم قرب الحقّ . ويسمح الذين دخلوا عالم الخلوص وأفنوا عمراً في حبّ الحقّ الازَل والابد وأضحوا بذلك من المقرَّبين ، دفعة واحدة ، حتّي يتمكّنوا ببساطة وسهولة من التحليق في عوالم الحضرات ، ويدخلوا ذلك الحرم المنيع دون مانعٍ أو رادعٍ ويتعطّروا بعبير التوحيد الطيّب والاريج الفوّاح للعرفان والفَناء في ذات الحقّ ، بعد أن اجتازوا حالة التعفّن الحاصلة بالتوجّه نحو الكثرات والملوِّثات الإنسانيّة المرهقة والمهلكة والمخرّبة ، وبعد أن طرحوا عنهم لباس الخلقة والتعيّن والتقيُّد وخُلِعَت علیهم خِلَع ربّانيّة ، وأووا إلي ركن شديد ورَوح وريحان ، حاملين لواء الحمد والتوحيد يوم القيامة . إنّ الشيطان مأمور مطيع وممتثلٌ لاوامر الله ؛ مهمّته تمييز الطيّب عن الخبيث ؛ تماماً كالحرّاس من زنابير العسل الذين يؤمَرون بالوقوف عند باب قَفير النحل وتفتيش الزنابير التي طعمت الازهار الكريهة الرائحة والمتعفِّنة ليمنعوا دخولها إلي الخليّة ويلسعونها شاطرين إيّاها نصفين ؛ ويُجيزون لتلك التي أدّت مهمّتها علی أكمل وجه فطعمت الازهار الطيّبة الرائحة والعطرة الدخول إلي القفير . الشيطان يقول : سألجم جميع ذرّيّة آدم ـ إلاّ قليل منهم ـ بلجاميوما أروع ما يصف القرآن الكريم ويبيّن مهمّة إضلال الشيطان البشر والتي شُرِّفَ بها من قِبَل الله ، حيث يقول : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـ'´نءِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُو´ا إِلآ إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا . قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـ'ذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَی لَنءِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَي' يَوْمِ الْقِيَـ'مَةِ لاَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ و´ إِلاَّ قَلِيلاً . قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُورًا . وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَیهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الاْمْوَ لِ وَالاْوْلَـ'دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـ'نُ إِلاَّ غُرُورًا . إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَیهِمْ سُلْطَـ'نٌ وَكَفَي' بِرَبِّكَ وَكِيلاً . [30] وتشير الآيات الشريفة التالية من سورة الاعراف إلي الامر بالهبوط بعد أن تستعرض قضية خلق آدم وسجدة الملائكة ورَفض إبليسَ السّجود ؛ وتبيّن كذلك مهمّة الشيطان في إغواء الإنس بصورة وافية : قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ و مِن طِينٍ . قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّـ'غِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي´ إِلَي' يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ . قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لاَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَ طَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ'نِهِمْ وَعَن شَمَآنءِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ'كِرِينَ . قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا [31] مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ . [32] كلام سماحة العلاّ مة في إبليس وعملهولاُستاذنا سماحة العلاّمة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه بحث موجز لكنّه شيِّق ومتين وأساسيّ فيما يخصّ إبليس وحقيقة وجود وتكوين بني آدم وسرّ ذلك وخلقته والملائكة ، وذلك خلال تفسيره الآيات الشريفة الواردة في سورة الاعراف . [33]ثمّ ذكر كلاماً حول إبليس وعمله وطريقته وأُسلوبه في العالم الإنسانيّ وفيما يلي نصّ الكلام المشار إليه : كلام في إبليس وعمله : عاد موضوع « إبليس » موضوعاً مبتذلاً عندنا لايُعبأ به دون أن نذكره أحياناً ونلعنه أو نتعوّذ بالله منه أو نقبّح بعض أفكارنا بأ نّها من الافكار الشيطانيّة ووساوسه ونزغاته دون أن نتدبّر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسّنا ، وما له من عجيب التصرّف والولاية في العالَم الإنسانيّ . وكيف لا وهو يصاحب العالَم الإنسانيّ علی سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتّي ينقضي أجله وينقرض بانطواء بساط الدنيا ، ثمّ يلازمه بعد الممات ثمّ ، يكون قرينه حتّي يورده النار الخالدة ، وهو مع الواحد منّا كما هو مع غيره هو معه في علانيّته وسرّه يجاريه كلّما جري حتّي في أخفي خيال يتخيّله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته ، لا يحجبه عنه حاجب ، ولا يغفل عنه بشغل شاغل . كلام العلاّ مة في جميع الإ شكالات المذكورة في قصّة إبليسوأمّا الباحثون منّا فقد أهملوا البحث عن ذلك وبنوا علی ما بني علیه باحثوا الصدر الاوّل سالكين ما خطوا لهم من طريق البحث ، وهي النظريّات الساذجة التي تلوح للافهام العامّيّة لاوّل مرّة ، تلقّوا الكلام الإلهيّ ثمّ التخاصم في ما يهتدي إليه فم كلّ طائفة خاصّة ، والتحصّن فيه ثمّ الدفاع عنه بأنواع الجدال والاشتغال بإحصاء إشكالات القصّة وتقرير السؤال والجواب بالوجه بعد الوجه . لِمَ خلق الله إبليس وهو يعلم من هو ؟ لِمَ أدخله في جمع الملائكة وليس منهم ؟ لِمَ أمره بالسجدة وهو يعلم أ نّه لا يأتمر ؟ لِمَ لم يُوفّقه للسجدة وأغواه ؟ لِمَ لم يُهلِكْهُ حين لم يسجد ؟ لِمَ أنظره إلي يوم يُبعثون أو إلي يوم الوقت المعلوم ؟ لِمَ مَكّنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجري الدم ؟ لِمَ أيّده بالجنود من خيل ورَجِلْ وسلّطه علی جميع ما للحياة الإنسانيّة من مساس ؟ لِمَ لم يُظهْرهُ علی حواسّ الإنسان ليحترز مساسه ؟ لِمَ لم يؤيّد الإنسان بمثل ما أيّده به ؟ ولِمَ لم يكتم أسرار خِلْقَة آدم وبنيه من إبليس حتّي لا يطمع في إغوائه ؟ وكيف جازت المشافهة بينه وبين الله سبحانه وهو أبعد الخليقة منه وأبغضهم إليه ولم يكن بنبيّ ولا مَلَك ؟ فقيل بمعجزة وقيل بإيجاد آثار تدلّ علی المراد ، ولا دليل علی شيء من ذلك . ثمّ كيف دخل إبليس الجنّة ؟ وكيف جاز وقوع الوسوسة والكذب والمعصية هناك وهي مكان الطهارة والقدس ؟ وكيف صدّقه آدم وكان قوله مخالفاً لخبر الله ؟ وكيف طمع في المُلك والخلود وذلك يخالف اعتقاد المعاد ؟ وكيف جازت منه المعصية وهو نبيٌّ معصوم ؟ وكيف قُبِلَت توبته ولم يَرِد إلي مقامه الاوّل والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ؟ وكيف ... ؟ وكيف ... ؟ وقد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقيّ واسترسالهم في الجدال إشكالاً وجواباً أن ذهب الذاهب منهم إلي أنّ المراد بآدم هذا ، آدم النوعي والقصّة تخيليّة محضة ، واختار آخرون أنّ إبليس الذي يخبر القرآن الكريم عنه هو القوّة الداعية إلي الشرّ من الإنسان . وذهب آخرون إلي جواز انتساب القبائح والشنائع إليه تعالي وأنّ جميع المعاصي من فعله وأ نّه يخلق الشرّ والقبيح فيُفسِد ما يُصلحه ، وأنّ الحَسَن هو الذي أمر به والقبيح هو الذي نهي عنه . وآخرون : إلي أنّ آدم لم يكن نبيّاً . وآخرون : إلي أنّ الانبياء غير معصومين مطلقاً . وآخرون إلي أ نّهم غير معصومين قبل البعثة وقصّة الجنّة قبل بعثة آدم . وآخرون : إلي أنّ ذلك كلّه من الامتحان والاختبار . ولم يبيّنوا ما هو الملاك الحقيقيّ في هذا الامتحان الذي يضلّ به كثيرون ويهلك به الاكثرون ، ولولا وجود ملاك يحسم مادّة الإشكال لعادت جميع الإشكالات . والذي يمنع نجاح السعي في هذه الابحاث ويختلّ به نتائجها هو أ نّهم لم يفرّقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقيّة من جهاتها الاعتباريّة ، ولم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختلّ بذلك نظام البحث ، وحكموا في ناحية التكوين غالباً الاُصول الوضعيّة الاعتباريّة الحاكمة في التشريعات والاجتماعيّات . ارجاعات [2] ـ كتب المرحوم الحكيم الجليل آية الله المحقّق الشعرانيّ قدّس سرّه في كتاب «الفلسفة الاُولي» نقلاً عن مجلة «نور العلم» العددان الثاني والثالث من المجلّد الخامس ، برقم 50 و 51 ، ص 68 و 69 ، حول الثنويّة يقول : الثنويّة ( Dualisme) هي القول بأصلين أزليّ وقديم ، كما هو معروف من خلال المذهب المانويّ . وقال بعض الاُوروبّيّين إنّ أفلاطون وأرسطو كانا يقولان بقدم الله والمادّة ، أيّ أنّ الله لم يخلق المادّة من العدم ، بل إنّه يحوّلها من حالة إلي أُخري .وأمّا ما نعلمه نحن عن أرسطو فهو أنّ هذا الحكيم كان يعتقد بقِدَم المادّة ، علي أنّ هذا القِدَم يكون عندما لا يتنافي والخِلقة . كافتراضنا قِدَم الشمس وأزليّتها ، فيكون نورها كذلك قديماً وأزليّاً ؛ لكنّه مع ذلك موجود ومخلوق من قِبَل الشمس . ولمّا كان الجسم باعتقاد أرسطو مركّباً من مادّة وصورة وأنّ كلّ واحد منهما في حاجة إلي الآخر ؛ فليس أيّاً منهما واجب الوجود ، بل هما مخلوقا الله من الازل . ولمّا كانت بحوث العلّيّة والمعلوليّة عند فلاسفة أُوروبّا غير منقّحة بشكل جيّد ، جاز أن يكون ناقل كلام أرسطو الذي قال : المادّة قديمة قد فهم من ذلك عدم خِلقتها» . [3] ـ طبعة سنة 1333 قمريّة شمسيّة (= 1954 ميلاديّة) ـ (التعليقة) . [4] ـ «العدل الإلهيّ» ص 35 و 36 . [5] ـ تعليقات «أسرار الحِكَم» ص 27 ـ (التعليقة) . [6] ـ «أُصول الفلسفة ومنهج الواقعيّة» ج 3 ، ص 14 ـ (التعليقة) . [7] ـ مجلّة «نور العلم» السلسلة الثالثة ، رقم 11 ، مقالة «العلاقة والاختلاف بين الفلسفة والعلوم العمليّة من وجهة نظر الشهيد المطهّريّ» ؛ وكتاب «إيضاح الحكمة» ج 1 ، ص 21 إلي 23 (التعليقة) ؛ مجلة «نور العلم» السلسلة الخامسة ، العدد الثاني والثالث : في الذكري العشرين لرحيل العلاّمة الشعرانيّ ، مقالة لجناب العالم الجليل الحاجّ الشيخ علي الربّانيّ الگلبايگانيّ تحت عنوان «نظرة إلي الافكار الفلسفيّة والكلاميّة لآية الله الشعرانيّ» ص 120 و 121 . [8] ـ «تُحفة الحكيم» ص 79 و 80 ، طبعة النجف الاشرف . [9] ـ الآيتان 6 و 7 ، من السورة 32 : السجدة . [10] ـ الآيتان 49 و 50 ، من السورة 20 : طه . [11] ـ الآيات 1 إلي 3 ، من السورة 87 : الاعلي . [12] ـ الآية 11 ، من السورة 7 : الاعراف . [13] ـ الآية 50 ، من السورة 18 : الكهف . [14] ـ جاء في «أقرب الموارد» : السموم : الريح الحارّة ، مؤنّثٌ . ج : سمائم . قال أبو عبيدة : السَّموم بالنهار وقد تكون بالليل ؛ والحَرور بالليل وقد تكونُ بالنهار . وقيل السَّمومُ الحرُّ الشديدُ النافذُ في المَسامّ . سُمَّ يومُنا ، مجهولاً : اشتدَّ حَرّه وكان فيه سَمومٌ اي ريحٌ حارَّةٌ . و النباتُ : أحْرَقَتْهُ السَّمومُ فهو مَسْمُومٌ . والآية هي الآية 27 ، من السورة 15 : الحجر . [15] ـ الآية 15 ، من السورة 55 : الرحمن . [16] ـ الآية 12 ، من السورة 23 : المؤمنون . [17] ـ الآيات 56 إلي 58 ، من السورة 51 : الذاريات . [18] ـ الآية 179 ، من السورة 7 : الاعراف . [19] ـ الآية 130 ، من السورة 6 : الانعام . [20] ـ الآيتان 18 و 19 ، من السورة 46 : الاحقاف . [21] ـ الآيات 208 إلي 212 ، من السورة 26 : الشعراء . [22] ـ الآيات 221 إلي 223 ، من السورة 26 : الشعراء . [23] ـ جاء في «أقرب الموارد» : نَزَغَه (ع) نَزْغاً : طعَن فيه واغْتابَه وذَكَره بقَبيحٍ . و بكلمة : نخَسهُ وطعَن فيه ، مثل نَسغه ونَدغه . و ـ بينَ القومِ (ع ، ض) : أغرَي وأفسَد وحمَل بعضَهم علي بعضٍ ؛ ويُقال : «نَزَغ الشَّيطانُ بينَهم» . نَزَغه الشَّيطانُ إلي المعاصي : حَثَّه (عليها) . «لم تَرْمِ الشُّكوكُ بنوازغِها عَزيمةَ أيْمانِهم» : أي بِمُفسِداتِها ؛ جمعُ نازِغة ، من النَّزْغ . [24] ـ الآية 53 ، من السورة 17 : الإسراء . [25] ـ الآية 268 ، من السورة 2 : البقرة . [26] ـ ذيل الآية 119 والآيتان 120 و 121 من السورة 4 : النساء . [27] ـ الآية 76 ، من السورة 4 : النساء . [28] ـ الآيات 98 إلي 100 ، من السورة 16 : النحل . [29] ـ الآيتان 21 و 22 ، من السورة 14 : إبراهيم . [30] ـ الآيات 61 إلي 65 ، من السورة 17 : الإسراء . [31] ـ جاء في «أقرب الموارد» : ذَأَمَه (ع) يَذأَمُهُ ذَأْمًا : عابَه . و : حَقَّره ؛ كقولهِ : فَذَرْني وأكرمْ مَن بَدا لك وأذأَمِ . و ـ : ذَمَّهُ . و ـ : طرَدهُ ؛ وفي القرآن : اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا . و : خَزاه فهُوَ مَذءُومٌ . الذَّأْم : العَيْب ، وتَرْك الهَمزة أكثر ؛ وفي المَثَل : وقد لا تَعدَمُ الحَسناءُ ذَأْما . [32] ـ الآيات 12 إلي 18 ، من السورة 7 : الاعراف . [33] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ج 8 ؛ ص 17 إلي 33 ، الآيات 10 إلي 25 من السورة المذكورة . |
|
|