|
|
الصفحة السابقةمعيار معرفة المنافق من المؤمنومن ترك ما جاء به الرسول ـ بغـير سهوٍ أو خطـأ أو نسـيان فقد انتمي إلی زمرة المنافقين، حيث جاء في الحديث الذي رفعه محمّد بن خالد إلی أمير المؤمنين عليه السلام قال: فَاعْتَبِرُوا إنْكَارَ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ بِأَعْمَالِهِمُ الخَبِيثَةِ. [1] ولو هاجر مثل هذا الشخص وجاهد، فإنّ هجرته لن تكون هجرة إلی الرسول، وجهاده لن يكون جهاداً في سبيل الله، فقد قال صلّي الله عليه وآله وسلّم: مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلی اللَهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلی اللَهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلی امْرَأَةٍ مُصِيبُهَا أَوْ غَنِيمَةٍ يَأْخُذُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَيْهَا. [الشرح] وحيث علمتَ أنّ الجهاد الاصغر مثال للجهاد الاكبر، علِمتَ أنّ هذا الفصل والانفصال موجودان في الجهاد الاكبر أيضاً، وأنّ المنافقين موجودون في هذه المراحل أيضاً. وباعتبار اشتراك كلا الجهادَين في المرحلتَين الاُولتَين: الإسلام والإيمان، عدا بعض المراتب والدرجات التي سيُشار إليها فيما بعد، فإنّ الفاصل بين المؤمن والمنافق من هؤلاء المجاهدين هو الإيمان أيضاً. وباعتبار أنّ الإيمان الواقع في مراحل الجهاد الاكبر أشدّ من الإيمان الواقع في الجهاد الاصغر ـ كما سيُعلَم فيما بعد فإنّ الملازمة بين مقتضي الشهادتَين لدي المجاهدين في هذا الطريق ستكون أكثر ضرورة وعمليّة، وأنّ الشخص لو تخلّف أدني تخلّف عن مقتضي أحدهما، فإنّه سيدخل في مسلك المنافقين. ولهذا السبب فإنّ سالكي طريق الله تعإلی إذا شاهدوا لدي أحد تخطّـياً لظاهر الشـريعة ولو قَيْد شـعرة، لم يعدّوه سالكاً، بل كاذباً مُنافقاً. وإلی هذا يُشير ما رواه ثقة الإسلام بسنده المتّصل عن مِسمَع ابن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: مَا زَادَ خُشُوعُ الجَسَدِ عَلَی خُشُوعِ القَلْبِ، فَهُوَ عِنْدَنَا نِفَاقٌ. [3] وكما أنّ منافقي الجهاد الاصغر هم الذين هاجروا مع الرسول خوفاً من بأسه، أو طمعاً في غنيمة، أو رجاء الظفر بما يحبّون، ولم تكن هجرتهم للّه وفي الله، ولا لمحاربة أعداء الله واستئصالهم. وأمثال هؤلاء ظواهرهم في ميدان الجهاد، أمّا بواطنهم ففي تحصيل المشتهيات أو دفع العقوبة والنقمة ؛ فإنّ منافقي الجهاد الاكبر هم الذين ليست مجاهدتهم من أجل كسر سَورة القوي الطبيعيّة، وتسليط القوّة العاقلة عليها، ومن أجل تخليص أنفسهم للّه تعإلی في سبيله. [الشرح] وكما أنّ منافقي الصنف الاوّل في الظاهر ممّن يتفوّهون بالشهادتَين، وممّن يسافرون بأبدانهم مع رسول الله صلّي الله عليه وآله ويقاتلون الكفّار، وأنّ نفاقهم يُعرف بالا´ثار والعلامات والإتيان بالاعمال المنافية لحقيقة الإيمان، وأ نّهم لو أظهروا كلم الكفر دخلوا في زمرة الكفّار. فإنّ منافقي الصنف الثاني الذين يتلبّسون في الظاهر بلباس سالكـي سبيل الله تعإلی، ويتـشـبّثون بإطـراق الرأس وتنفّـس الصعداء، ويرتدون اللباس الخشن أحياناً، والصوف أحياناً، ويزاولـون ختـم الاربعـينات، ويتـركـون أكل اللحـم الحيـوانيّ، ويمارسـون الرياضـات، ويلتزمـون بالاوراد والاذكار الجلـيّة والخفيّة، ويتحدّثون حديث السالكين، وينسجون معسول الكلام: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ] الآية 4، من السورة 63: المنافقون [، أمّا آثارهم وعلاماتهم وأفعالهم وأعمالهم، فلا توافق المخلصين، ولا تنطبق علی المؤمنين. وعلامتهم عدم ملازمة أحكام الإيمان، فهم في ذلك أكثر من نظرائهم من الصنف الاوّل. فإن رأيتَ أحداً يدّعي السلوك، ثمّ لم تجده ملازماً للتقوي والورع، متّبعاً لجميع أحكام الإيمان، ووجدته منحرفاً عن الصراط المستقيم للشريعة الحقّة ولو قيد شعرة، فاعلم أ نّه منافق ؛ إلاّ أن يكون قد بدر منه ذلك بعذر أو خطأ أو نسيان. وكما أنّ الجهاد الثاني هو الجهاد الاكبر بالنسبة إلی الجهاد الاوّل، فإنّ منافق هذا الصنف أشدّ نفاقاً من نظيره في الصنف الاوّل. وأنّ ما ورد في حقّ المنافقين في كتاب الله، فإنّ حقيقته ستكون لهؤلاء المنافقين بوجهٍ أشدّ. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَنءِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ'نِ يَقُولُونَ بِأَفْوَ هِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ] الآية 167، من السورة 3: آل عمران [ ؛ فَاحْذَرْهُمْ قَـ'تَلَهُمُ اللَهُ أَ نَّـي' يُؤْفَكُـونَ ] الآية 4، من السورة 63: المنافقون [ ؛ إِنَّ الْمُنَـ'فِقِينَ فِي الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ] الآية 145، من السورة 4: النساء [. ومن منافقي هذا الصنف فرقةٌ يسمّون أنفسهم مُجاهدين، وينظرون إلی أحكام الشريعة نظر احتقار، ويعدّون الالتزام بها من شأن العوام، بل يعدّون علماء الشريعة أدني منهم، ويخترعون من عند أنفسهم أُموراً، فيفضّلونها علی ما سواها بوصفها سبيلاً إلی الله تعإلی، ويظنّون أنّ الطريق إلی الله طريق وراء طريق الشريعة. وقد ورد في حقّهم: وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَ لِكَ سَبِيلاً * أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْكَـ'فِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـ'فِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ] الا´يتان 150 و 151، من السورة 4: النساء [. وفي حقّهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلی' مَآ أَنزَلَ اللَهُ وَإلی الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَـ'فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ] الآية 61، من السورة 4: النساء [. وورد فيهم: فَقَالُو´ا أَبَشَـرٌ يَهْـدُونَنَا فَكَـفَرُوا ] الآية 6، من السـورة 64: التغابن [. وهم يصلّون ويصومون، لكن عن غير رغبة أو شوق ؛ ويعبدون، ولكن عن غير خلوص نيّة ؛ ويذكرون الله، ولكن لا علی الدوام والاستمرار. وقد أخبر الله تعإلی عنهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَهَ وَهُوَ خَـ'دِعُهُمْ وَإِذَا قَامُو´ا إلی الصَّلَو'ةِ قَامُوا كُسَإلی' يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَ لِكَ لاَ´ إلی' هَـ'´ؤُلاَ´ءِ وَلاَ´ إلی' هَـ'´ؤُلاَ´ءِ ] الا´يتان 142 و 143، من السورة 4: النساء [. فاحذر لا يغرّنّك العبادة والذِّكر القاصر.
وأمّا المنازل الاربعون لعالَم الخُلوص: فالمراد بها طيّ منازل القابليّة والقوّة ؛ وحصول هذه المرحلة إنّما يتمّ بحصول ملَكة الفعليّة التامّة، لانّ مثل ظهور القوّة وبلوغها مرحلة الفعليّة كمثل الحطب والفحم اللذان فيهما القوّة الناريّة، فإن قُرِّبا إلی النار زاد تأثير الحرارة فيهما، ثمّ يزداد التأثير آناً فآناً، حتّي تتحقّق الفعليّة فجأةً فيسودّ الحطب والفحم، ثمّ يحمرّان فتلتهب فيهما النار. بَيدَ أنّ هذه هي بداية ظهور الفعليّة، حيث إنّها لم تتحقّق بعدُ بتمامها، بل لا تزال كامنة في باطن الفحم والحطب. لذا فإنّ تلك الفعليّة الظاهرة قد تنتفي وتخمد بمجرّد هبوب ريح خفيفة، أو بالابتعاد عن النار، فتنطفي تلك الناريّة العَرَضيّة مُنكفئة إلی حالتها الاُولي. فإن قربت النار من الفحم، واستمرّ قربها، زالت معه جميع آثار الفحميّة والحطبيّة، وظهرت معه جميع القوّة الناريّة، وتبدّلت القابليّة إلی الظهور والفعليّة، وأضحي جميع باطن الحطب والفحم ناراً، فإنّ الرجوع إلی الحطب والفحم الاُوليَين سيكون أمراً ممتنعاً، وإنّ ناريّتها سوف لن تخمد بهبوب أيّة ريح، إلاّ إذا فنيت النار واستحالت رماداً. عدم كفاية مجرّد الدخول في عالم الإخلاصولذا فلا يكفي المجاهد السائر في طريق الدين، والسالك مراحل المخلصين، أن يدخل في عالمٍ ما وتظهر فعليّته فيه، إذ لا تزال بقايا العالَم السافل كامنة في زوايا ذاته، ممّا يجعله غير متجانس مع مطهّري العالَم الاعلي، ويجعل وصوله إلی فيوضاتهم ودرجاتهم أمراً متعذّراً، بل يعرّضه ـ في زمن قليل إلی العودة إلی العالَم السافل علی إثر عقبة تعترضه أو زلّة بسيطة أو تكاهل يسير في الجهاد والسلوك: وَنُرَدُّ عَلَی'´ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَب'نَا اللَهُ ] الآية 71، من السورة 6: الانعام [. ولقد كان أكثر صحابة سيّد المرسلين صلّي الله عليه وآله إذا حصل منهم مجاورة ظاهريّة وقُرب ظاهريّ منه صلّي الله عليه وآله، بدا في ظواهرهم نور الإيمان، لكنّ آثار الكفر والجاهليّة كانت كامنة في بواطنهم، لم تُستأصَل بعدُ فيهم، فكانوا بمحض ابتعادهم عنه صلّي الله عليه وآله غلبت عليهم آثارهم الذاتيّة، وانطفأ في ظواهرهم نور الإيمان برياح حبّ الجاه والمال والحسد والحقد التي تعصف بهم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَی'´ أَعْقَـ'بِكُمْ ] الآية 144، من السورة 3: آل عمران [. ولهذا فإنّ الترك الظاهريّ للمعصية لا ينفع شيئاً في النجاة، بل ينبغي أن يترك ظاهره وباطنه: وَذَرُوا ظَـ'هِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ ] الآية 120، من السورة 6: الانعام [. كما أنّ العوالم الواقعة في طريقَي الصعود والنزول أشبه بالليل والنهار وساعات كلٍّ منهما، فما لم ينتهِ المتقدّم تماماً [الشرح]وتبلغ قابليّته مرحلة الفعليّة، فإنّ الوصول إلی العالَم المتأخّر سيتعذّر ؛ وما دامت ذرّة واحدة من المتقدّم موجودة، فإنّ الخطو في العالَم المتأخّر سيمتنع. [6] ويتّضح ممّا ذكرنا أنّ مجرّد الورود في عالَم الخلوص ليس كافياً في حصول الخلوص، بل ينبغي أن تصل جميع مراتبه إلی فعليّتها وظهورها التامَّين، وصولاً إلی تخلّص صاحبها من شوائب العالَم الاسفل، وإلی إشراق نور الخلوص في زوايا قلبه، وحذف آثار الإنِّيَّة بِالمَرَّة، ليمكنه في هذا الصعود أن يخطو علی بساط قُرب أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي، الذي هو بداية منزل ينابيع الحكمة. وهو ممّا لا يحصل إلاّ بحصول ملَكَة الخلوص وظهور فعليّتها التامّة. ولمّا كان أقلّ ما يوصِل إلی تمام الفعليّة الملَكة في عالَم معيّن هو الكون في ذلك العالَم مدّة أربعين يوماً، وهو ما سبقت الإشارة إليه، فإنّ السالك ـ لهذا السبب ما لم يسير في عالَم الخلوص أربعين يوماً فيُتمّ منازله الاربعين (التي هي مراتب فعليّته التامّة)، فإنّه لن يتمكّن أن يخطو أبعد من ذلك. وأمّا تفصيل العوالم المتقدّمة علی عالَم الخلوص، فقد أُشير إليها علی نحوٍ مُجمل في كتاب الله، وهي ـ بعد عالَم الإسلام ثلاثة عوالم:[الشرح] الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـ'هَدُوا ] الآية 20، من السورة 9: التوبة [... إلی آخره. شرحٌ إجمإلی للعوالم المتقدّمة علی عالم الخلوصشرح إجمإلی للعوالم المتقدّمة علی عالَم الخلوص: الاوّل: الإسلام، فقد قال أبو عبد الله عليه السلام: الإسْلاَمُ قَبْلَ الإيمَانِ...، وهو ما يميّز المسلم عن الكافر، وممّا يشترك فيه المسلم والمنافق الثاني: الإيمان، وهو ما يميّز المؤمن عن المنافق، وما يشترك فيه جميع أصحاب الإيمان، وهو مجتمع الشريعة والطريقة. الثالث: الهجرة مع الرسول، وهي ما يمتاز بها السالك عن العابد، والمجاهد عن القاعد، والطريقة عن الشريعة. [الشرح] الرابع: الجهاد في سبيل الله، فكلّ مجاهد هو مهاجر ومؤمن ومسلم، وكلّ مهاجر مؤمن ومسلم، وكلّ مؤمن مسلم، ولا عكس. ولذا فقد ورد في الروايات المتعدّدة: الإسْلاَمُ لاَ يُشَارِكُ الإيمَانَ، وَالإيمَانُ يُشَارِكُ الإسْلاَمَ. وجاء في حديث سَماعة بن مِهران: [الشرح] الإيمَانُ مِنَ الإسْلاَمِ مِثْلُ الكَعْبَةِ الحَرَامِ مِنَ الحَرَمِ، قَدْ يَكُونُ فِي الحَرَمِ وَلاَ يَكُونُ فِي الكَعْبَةِ، وَلاَ يَكُونُ فِي الكَعْبَةِ حَتَّي يَكُونَ فِي الحَرَمِ. ولهـذا قال تعـإلی: «وَمَـا يُؤْمِـنُ أَكْـثَـرُهُم بِاللَـهِ إِلاَّ وَهُـم مُّشْرِكُونَ» ] الآية 106، من السورة 12: يوسف [. والمراد بالهجرة مع الرسول والجهاد في سبيل الله في هذه العوالم: الهجرة الباطنيّة والجهاد الباطنيّ، وهما الهجرة الكبري والجهاد الاكبر. أمّا الهجرة الصغري والجهاد الاصغر، فداخلان في وظائف العالَم الثاني (وهو عالم الإيمان)، وخليفتهما والقائم مقامهما في زمن عدم التمكّن من الهجرة الصغري والجهاد الاصغر هو الهجرة بالظاهر والباطن من أرباب المعاصي وأبناء الدنيا، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر. [10] وكما أنّ الهجرة في هذا السفر هي الهجرة الكبري، وأنّ جهاد هذا المسافر هو الجهاد الاكبر ؛ فإنّ شرط هذا السفر (وهو إسلام المجاهد وإيمانه) هو الإسلام والإيمان الاكبرين. فما لم يدخل في الإسلام الاكبر والإيمان الاكبر ويطوي عالميهما، فإنّه لن يتمكّن من الجهاد في سبيل اللهِ كما هو حقّه الذي أُمِر به في آية: جَـ'هِدُوا فِي اللَهِ حَقَّ جِهَادِهِ ] الآية 78، من السورة 22: الحجّ [. وبعد طيّ الإسلام الاكبر والإيمان الاكبر، يصل الطالب إلی حيث يتفرّغ للطلب، فيُهاجر مع الرسول الباطنيّ بمعونة الرسول الظاهريّ ـ أو خليفته ويضع أقدامه في ميدان المجاهدة، فيطوي هذين العالمين ليفوز بفوز «القتل في سبيل الله». ولكن ـ أيّها الرفيق إذا كنتَ قد واجهتَ ـ حتّي الا´ن أخطاراً كثيرة وعقبات جمّة لا تُحصي، واعترضك قطّاع طرق ولصوص بلا حصر، فنجوتَ منها وتخلّصتَ من براثنها وتخطّيتَ صعابها، فإنّ بعد عبور هذه العوالم، وبعد القتل في سبيل الله بداية الخطر الاكبر والداهية العظمي. لانّ وادي الكفر الاعظم والنفاق الاعظم يقعان وراء هذا العالَم، والشيطان الاعظم (وهو رئيس الابالسة) يقطن في هذا الوادي، أمّا سائر شياطين العالم فجنوده وأعوانه وأذنابه. فلا تظنّنَّ أ نّك ـ وقد عبرتَ هذه العوالم قد نجوتَ من الخطر، وحظيتَ بمرادك. وحَذارِ حذارِ من الغرور والاوهام. وبعد هذه العوالم عوالم أُخري لا يمكن ـ بدون طيّها وعبورها بلوغ المنزل المقصود. الاوّل: الإسلام الاعظم. الثاني: الإيمان الاعظم. الثالث: الهجرة العظمي. الرابع: الجهاد الاعظم. وبعد طيّ هذه العوالم يأتي عالم الخلوص رزقنا الله وإيّاكم. شرحٌ تفصيليٌّ للعوالم الاثني عشر المتقدّمة علی عالم الخلوصشرح تفصيليّ للعوالم الاثني عشر المتقدّمة علی عالم الخلوص: تبيّن ممّا قيل أنّ علی المسافر أن يمرّ في سيره باثني عشر عالَماً بعدد بروج الفَلَك وشُهور السنة وساعات الليل والنهار ونقباء بني إسرائيل وخلفاء آل محمّد صلّي الله عليه وآله وسلّم، وسرّ هذا العدد واضح لاصحاب البصيرة. والعوالم الاثني عشر بهذا التفصيل: الإسلام الاصغرالاوّل: الإسلام الاصغر: وهو إظهار الشهادتين والتصديق بهما باللسان، والإتيان بالدعائم الخمس بالجوارح والاعضاء. [الشرح] وتُشير إليه الا´ية: قَالَتِ الاْعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـ'كِن قُولُو´ا أَسْلَمْنَا.[12] الآية 14، من السورة 49: الحجرات. وهذا الإسلام هو الذي أُشير إليه في حديث قاسم الصيرفيّ، حيث قال الإمام الصادق عليه السلام: الإسْلاَمُ يُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ، وَيُؤَدَّي بِهِ الاَمَانَةُ، وَيُسْتَحَلُّ بِهِ الفُرُوجُ، وَالثَّوَابُ عَلَی الإيمَانِ. [13] وفي حديث سفيان بن سمط، عن الصادق عليه السلام، قال: الإسْلاَمُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ بِشَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَهِ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحِجِّ البَيْتِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ. ارجاعات [1] ـ جاء كلام أمير المؤمنين عليه السـلام ذيل حديـث حـول معني الاءسلام، وسنذكر تمام الحديث لاحقاً في حاشية الصفحة التي تكلّم فيها المصنّف عن الإسلام الاكبر. حديث إنَّمَا الاَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ[2] ـ جاء هذا الحديث في «منية المريد» ص 27، طبعة النجف، وورد في «بحار الانوار» ج 15، القسم الثاني (في الاخلاق)، ص 87، نقلاً عن «منية المريد». قال النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم: إنَّمَا الاَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِيٍ مَا نَوَي. فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلی اللَهِ وَرَسوُلِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلی اللَهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلی دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلی مَا هَاجَرَ إلَيْهِ. ثمّ قال المرحوم الشهيد الثاني ناقل هذا الحديث: وَهَذَا الخَبَرُ مِنْ أُصُولِ الاءسْلاَمِ وَأَحَدُ قَوَاعِدِهِ وَأَوَّلُ دَعَائِمِهِ. قِيلَ: وَهُوَ ثُلْثُ العِلْمِ. وَوَجَّهَهُ بَعْضُ الفُضَلاَءِ بِأَنَّ كَسْبَ العَبْدِ يَكُونُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَبَنَانِهِ، فَالنِّيَّةُ أَحَدُ أَقْسَامِ كَسْبِهِ الثَّلاَثِ، وَهِيَ أَرْجَحُهَا، لاِ نَّهَا تَكُونُ عِبَادَةً بِمُفْرَدِهَا (بانفرادها)، بِخِلاَفِ القِسْمَيْنِ الا´خَرَيْنِ. وَكَانَ السَّلَفُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ تَابِعِيهِمْ يَسْتَحِبُّونَ اسْتِفْتَاحَ المُصَنَّفَاتِ بِهَذَا الحَدِيثِ تَنْبِيهاً لِلْمُطَّلِعِ عَلَی حُسْنِ النِّيَّةِ وَتَصْحِيحِهَا وَاهْتِمَامِهِ بِذَلِكَ وَاعْتِنَائِهِ بِهِ انتهي كلامُه رحمه الله. كما وردت هذه الرواية في «البحار» ج 15، الجزء 2، ص 77، نقلاً عن «غوإلی اللئإلی». بَيدَ أنّ هذا الحديث ليس موجوداً في كتب أُصول أحاديث الشيعة، ومعلوم أنّ المرحوم الشهيد الثاني وابن أبي جمهور الاحسائيّ ـ وكان من دأبهما الاستفادة من الروايات الاخلاقيّة الواردة في كتب العامّة قد نقلاها من كتب العامّة. وقد وردت هذه الرواية في أُصول العامّة، حيث وردت في «صحيح البخاريّ» كتاب الإيمان، ج 2، ص 20 ؛ وفي كتاب العتق ص 80 ؛ وفي ج 2، كتاب مناقب الانصار، ص 330 ؛ وفي ج 3، كتاب النكاح، ص 238 ؛ وفي ج 4، كتاب الايمان والنذور، ص 158 ؛ وأوردها كذلك: مسلم في «الصحيح» ج 6، كتاب الاءمارة، ص 48 ؛ والنسائيّ في «السنن» ج 1، كتاب الطهارة، ص 59 ؛ وفي ج 5، كتاب الطلاق، ص 159 ؛ وفي ج 7، كتاب الإيمان، ص 12، كلاهما بإسنادهما عن يحيي بن سعيد، عن علقمة بن الوقّاص، عن عمر بن الخطّاب (بأدني اختلاف في اللفظ). وروي أيضاً الترمذيّ في باب «فضائل الجهاد» ؛ وابن ماجة في كتاب الزهد ؛ وأحمد بن حنبل في «المسند» ج 1 (حسب نقل المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبويّ)، قال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: إنَّمَا الاَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِيٍ مَا نَوَي، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلی اللَهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلی اللَهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلی دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلی مَا هَاجَرَ إلَيْهِ. [3] ـ ورد هذا الحديـث في «أُصـول الكافي» ج 2، ص 396، بلفـظ «علی ما في القلب». دخـول عالم التوحيد لا يسـتلزم فناء القوي الطبيعيّة ، بل يسـتلزم تخطّي عالم الهوي النفس[4] ـ اعلم أنّ كثيراً من كلمات العرفاء وعلماء الاخلاق ذكرت بأنّ التسلّط علی عالَم المِثال والعقل، والورود في عالَم التوحيد متوقّفان علی كسر صولة القوي الطبيعيّة والقضاء عليها. وكثيراً ما يفسّر هذا التعبير تفسيراً خاطئاً، فقد يمكن أن يُخال إلی البعض بأنّ بلوغ المراتب العالية والدرجات الرفيعة أمر متعذّر مادامت القوي الطبيعيّة والنفس والطبع والمادّة موجودة، ومادام المرء يعيش في عالَم الاكل والمشي في الاسواق ؛ مع أنّ الامر ليس كما يتصوّر، لانّ نيل جميع المراحل العالية، وبلوغ عوالم ما وراء المادّة، والوصول إلی مقام القلب والعقل والتوحـيـد المطـلـق، وتحـقّـق المـوت النـاسـوتـيّ والملـكـوتـيّ والجبروتيّ، والتحقّق والعبور من القيامة الانفسيّة الصغري والوسطي والكبري أمر ممكن في هذه النشأة. وعلی الرغم من مباشرة المرء لاُمور الزراعة والتجـارة والنكاح، فإنّ بإمكانه ـ من خـلال مجـاهـدة النفـس الامّارة أن يجتاز جميع المراحل السالفة الذِّكر، وأن يطوي في هذا العالَم مراحلَ البرزخ والقيامة وسؤال مُنكَر ونكير وعوالم الحشر والنشر والسؤال والعَرض والميزان والصراط والحساب وتطاير الكتب والاعراف والجنّة والشفاعة والنار، وأن يرد الجنّة من دون حساب: فَأُولَـائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (الآية 40، من السورة 40: غافر)، وقد قال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم في الحثّ عليه: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا (ورد هذا الحديث في «مرصاد العباد» الباب 4، الفصل 2، ص 179 و 182 ؛ وفي الباب 4، الفصل 2، ص 193) ؛ ويشير إليه أيضاً كلام أمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة»: وَأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُخْرَجَ مِنْهَا أَبْدَانَكُمْ. وأكثر منها صراحة: الخطابات المعراجيّة المصدّرة بخطاب «يا أحمد! يا أحمد!»، التي خاطب بها الله تعإلی رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم ليلة المعراج، وقد وردت مفصّلة في «بحار الانوار» ج 17، ص 6 فما بعد ؛ ومن جملتها خطابه في شأن محبّي الله وأوليائه: قَدْ صَارَتِ الدُّنْيَا وَالا´خِرَةُ عِنْدَهُمْ وَاحِدَةً، يَمُوتُ النَّاسُ مَرَّةً وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةٍ مِنْ مُجَاهَدَةِ أَنْفُسِهِمْ وَمُخَالَفَةِ هَوَاهُمْ... (إلی أن قال): فَوَعِزَّتِي وَجَلإلی لاَحْيِيَنَّهُمْ حَيَاةً طَيِّبَةً إذَا فَارَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ جَسَدِهِمْ ؛ لاَ أُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مَلَكَ المَوْتِ، وَلاَ يَلِي قَبْضَ رُوحِهِمْ غَيْـرِي، وَلاَفْتَـحَنَّ لِرُوحِـهِمْ أَبْـوَابَ السَّـمَاءِ كُلِّهَا، وَلاَرْفَعَنَّ الحُجُبَ كُلَّهَا دُونِي... (إلی أن قال): وَلاَ يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَ رُوحِهِ سِتْرٌ... (إلی أن قال): وَأَفْتَحُ عَيْنَ قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ حَتَّي يَسْمَعَ بِقَلْبِهِ وَيَنْظُرَ بِقَلْـبِهِ إلی جَـلإلی وَعَظَـمَتِي... (إلی أن قال): وَأُسْـمِعُهُ كَلاَمِـي وَكَلاَمَ مَلاَئِكَتِي، وَأُعَرِّفُهُ السِّرَّ الَّذِي سَتَرْتُهُ عَلَی خَلْقِي.... ولو عبّر العلماء عن هذا العبور ـ والامر علی هذه الكيفيّة بالعبور من عالَم الهوي والنفس الامّارة، كان أفضل. الارتقاء إلی العوالم العليا يستلزم طيّ جميع المراتب والدرجات الدني[5] ـ إنّ ممّا لا يعتريه الشكّ أ نّه ما لم تُطوَ جميع مراتب العالم الاسفل، فإنّ الصعود إلی العالَم الاعلی سيكون متعذّراً. بَيدَ أنّ هناك نكتتَين تستحقّان التأمّل: النكتة الاُولي: أنّ الاءقامة في العالَم الاعلی متوقّفة علی الاءقامة في العالَم الاسفل ؛ أمّا محض الاطّلاع المؤقّت وحصول مجرّد حالٍ ما، وإدراك بعض خصائصه، متوقّف علی الاءقامة في العالَم الاسفل. فإذا أراد أحد أن يُقيم في عالَم العقل ـ مثلاً فينبغي حتماً أن يكون قد تخطّي جميع مراحل عالَم المِثال. إلاّ أ نّه قد يمكن لمن لم يتخطَّ عالَم المثال بعد أن تظهر لديه بعض خصائص وآثار عالَم العقل في هيئة حالٍ يكون عليها ؛ والامر كذلك بالنسبة إلی عالم العقل مع عالم اللاهوت. النكتة الثانية: أنّ عبور عالَم معيَّن لا يستلزم الاطّلاع علی جميع آثار وخصائص ذلك العالَم ؛ فكثيراً ما يحصل أن يتخطّي أفراد معيّنون عالَم المِثال دون أن تظهر لديهم المكاشَفات الصوريّة تفصيلاً، بل يُدركون ـ بواسطة الرؤيا في المنام بعض الصور المثاليّة، أو تنكشف لديهم في المنام بعض الاُمور المثاليّة عن الماضي أو المستقبل ؛ حيث نُقل عن المرحوم آية الحقّ الحاجّ الميرزا علی القاضي رضوان الله عليه أ نّه كان يقول: «إنّ المرحوم الشيخ زين العابدين السلماسيّ ـ وكان من خواصّ المرحوم آية الله السيّد مهدي بحر العلوم ومقرّبيه كانت جميع مكاشفاته تحصل في المنام». وعلی أيّة حال، فإنّ عبور عالَم معيّن يستلزم ـ حتماً الاطّلاع علی آثار ذلك العالَم، والكشف الاءجمإلی لخصائصه. * ـ اعتبر سماحة الشـيخ رضا الاُسـتاديّ ـ وفق ذوقه الخـاصّ أنّ الكتاب الذي أ لّفه المرحوم بحر العلوم ينتهي إلی هذا الحدّ ؛ فقام بحذف باقي الكتاب. وعلی الرغم من أ نّه نوّه في مقدّمة الكتاب بأ نّه ليس من أهل السير والسلوك، إلاّ أ نّه ليس من الواضح أيّ سبب جعله يقوم بما قام به، ودفعه ليوقع بالكتاب هذه المُثلة. قال: لقد فعلت ذلك من باب الاحتياط. ولكن هل التصرّف في عبارات الاعلام والحذف والتنكيل ينسجم مع الاحتياط؟ أم أنّ طبع رسالة علی هذه الاهمّيّة بمثل هذه الكيفيّة يوافق الاحتياط؟ ولمّا كانت الرسالة المطبوعة بإشرافه قد نُشرت بعد الطبعة الاُولي لهذه الرسالة، التي صدرت مع حواش وتعليقات للحقير، فقد ارتأيت كتابة هذه السطور ـ لاءطلاع الباحثين علی حقيقة الامر لتضاف إلی التعليقات في الطبعة الثانية. [6] ـ علی الرغم من أنّ المصنّف رحمه الله قد ذكر ترتّب العوالم في الصعود والنزول ضمن بيانه مراتب عالَم الخلوص، إلاّ أ نّه ذكر هذا القانون ـ كما هو الملاحَظ بصورة عامّة لجميع العوالم، سواء عوالم قبل الخلوص، أو مراتب العوالم بعد الخلوص. ومن جملة ذلك: العوالم التي تسبق الخلوص، وهي عوالم المثال والعقل، والعبور من عوالم الطبيعة والمثال والعقل الذيذكره المصنّف رحمة الله عليه ضمن العوالم الاثني عشر. أمّا بلحاظ ترتيبها فقد أقام المرحوم صدر المتأ لّهين البرهان عليه مفصّلاً، وقد بحث في شأنه المرحوم العارف الكامل الحاجّ الميرزا جواد المَلِكيّ التبريزيّ رحمة الله عليه في نهاية رسالة «لقاء الله» وبرهن عليها. وجاء في الرسالة التي أرسلها إلی المرحـوم آية الله الحاجّ الشـيخ محمّد حسـين الكمـبانيّ الاءصفهانيّ قوله: وأمّا عن الفِكر للمبتدي، فإنّه (يعني أُستاذه المرحوم الا´خوند المولي حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله عليه) كان يقول: «فكِّر في الموت». إلی أن يفهم من حاله أ نّه قد أصابه ما يشبه الدوار إثر المداومة علی هذه المراتب، وأ نّه قد حدثت لديه قابليّة علی العموم، فيُلفِته آنذاك ـ أو يلتفت بنفسـه إلی عالم خياله. ثمّ إنّه يسـتمرّ في هذا الفِكر ليلَ نهار، ليفـهم أنّ كلّ ما يتخـيّله ويراه إنّما هو نفسـه لا يتعـدّاها ؛ فإن صار له ذلـك ملَكةً، فإنّه كان يأمـره بتغيير الفِكر وبمحو جميـع الصـور والموهومات والتفكير في العدم. فإن صار ذلك ملَكة للاءنسان، فلابدّ أن يحصل له تجلٍّ لسلطان المعرفة... أي أ نّه سيفوز بتجلّـي حقيقته بنورانيّتها وانعدام صورتها وحدّها وكمال بهائها. فإن هو رآها في حال من الجَذْبة بعد طيّه طريق ترقّيات العوالم العلويّة كان أفضل... فإنّه مهما سار وَجَدَ أثره حاضراً. ونظراً لترتّب هذه العوالم التي يتوجّب علی الإنسان طيّها، فإنّ عليه أوّلاً أن يرقي من عوالم الطبيعة إلی عالَم المِثال، ثمّ إلی عالَم الروح والانوار الحقيقيّة. وبطبيعة الحال، فإنّكم تستحضرون ـ أفضل منّي البراهين العلميّة علی الامر... ويا للعجب... فقد صُرِّح بهذه المراتب في سجدة دعاء ليلة النصف من شعبان (وهو أوان وصول الرسالة) في قوله: سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وَخَيَإلی وَبَيَاضِي. وأساس المعرفة إنّما يتحقّق حين يفني الثلاثة، إذ حقيقة السجدة هي الفناء عِنْدَ الفَنَاءِ عَنِ النَّفْسِ بِمَرَاتِبِهَا يَحْصُلُ البَقَاءُ بِاللَهِ... رَزَقَنَا اللَهُ وَجَمِيعَ إخْوَانِنَا بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ انتهي موضع الحاجة. عدّة نكاتحول التقسيمالاثني عشريّللمصنّف بعوالمما قبلالخلوص[7] ـ اعلم أنّ المصنِّف رحمه الله قسّم العوالم التي تسبق عالم الخلوص إلی أربعة عوالم: الاءسلام، الإيمان، الهجرة، والجهاد ؛ ثمّ قسّم كلّ واحد من هذه العوالم إلی ثلاث مراتب: أصغر، أكبر، وأعظم ؛ وسيكون ـ لذلك قد عدّ العوالم التي تسبق الخلوص اثني عشر عالماً. ثمّ يليها عالَم الخلوص الذي يتوجّب علی السالك أن يسير فيه أربعيناً كاملة لتصل جميع قابليّات الخلوص لديه إلی فعليّتها. وقد فسّر حديث مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ بالسير في عوالم الخلوص، واعتبر عالَم ظهور ينابيع الحكمة عالَمَ البقاء بعد الفناء (وهو البقاء بالمعبود) ؛ وذكر ـ لاءثبات هذا الامر شواهد وأدلّة شيّقة جديرة بالتأمّل، بحيث يمكن القول بأنّ هذا الكتاب لم يسبق له مثيل في أُسلوبه وتبويبه وفي تعيين المنازل والعوالم. ولذلك علينا أن نذكّر بجملة أُمور: الامر الاوّل: أنّ المصنّف رحمه الله لمّا قسّم العوالم إلی اثني عشر عالَماً، وعدّ منها عالمَي الهجرة الصغري والجهاد الاصغر، فإنّه ـ في مقام التفصيل أخرج هذين العالمَين وعدّهما ضمن عالم الإيمان الاكبر ؛ ثمّ أضاف ـ تلافياً للنقص الحادث في العوالم عالمَين آخرَين هما: عالم الفتح والظفر بعد الجهاد الاكبر، وعالم الفتح والظفر بعد الجهاد الاعظم. ولم يتّضح للحقير سرّ هذا الامر، علی الرغم من أ نّه إن قصد بذلك أنّ السالك لا يمكنه طيّ هذين العالمَين في زمن الغَيبة، وأنّ العوالم ينبغي أن تُنظّم لتنسجم مع مقتضيات هذا العصر، ولذا ينبغي ـ إجمالاً أن يُعتبر عبور هذين العالمَين من لوازم عالم الإيمان ؛ فإنّ كلامه هذا يبقي موضع تأمّل، ولذا: 1) فقد صرّح المصنّف رحمه الله بنفسه بأ نّه مع عدم التمكّن من طيّ ذينك العالمَين، فإنّ الهجرة (في الباطن والظاهر) من أرباب المعاصي وأبناء الدنيا ستكون بديلاً عن الهجرة الصغري، وأنّ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سيكون بديلاً عن الجهاد الاصغر. 2) وقد صرّح بأنّ العوالم شأنها شأن الليل والنهار في تعاقبهما ؛ فما دام المتقدّم لم يتمّ طيّه تماماً، فإنّ السالك لن يمكنه أن يخطو في العالَم الاعلي. 3) فلاصل الهجرة الصغري والجهاد الاصغر المدخليّة التامّة في حصول الكمال، وأنّ السالك في عصر الغَيبة إذا لم يُنهِ السير في هذَين العالمَين، فإنّه لن يتمتّع بجميع درجات الكمال. ذلك أنّ الله تعإلی قد خلق النفس الإنسانيّة بحيث إنّ جميع مراتب السلوك ـ ومن ضمنها خصوص الهجرة الصغري والجهاد الاصغر ضروريّة لاءيصال جميع قابليّات الإنسان إلی مرحلة الفعـليّة. أمّا إذا طوي الإنسان العوالمَ الاُخري متخطّياً سير العالمَين المذكورَين، كان كماله ناقصاً. وقد ورد في «سنن أبي داود» باب الجهاد، أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله قال: مَنْ لَمْ يَغْزُو وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ، مَاتَ عَلَی شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ. ونظير هذا المعني الامر بالنكاح ؛ ذلك أنّ السالكين الذين منعتهم مشاكل النكاح وموانعه وصوارفه من العمل بتلك السنّة، قد حُرموا من عالم سيرٍ تكامليّ يحصل عليه الإنسان من خلال العمل بهذه السُّنَّة، ولذلك نري أن الرسول الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم قد عدّ النكاح سُنّته وطريقته. وفي المثل، فإنّ من حُرم من حسّ الاءبصار، إذا طوي في سلوكه المراتب والعوالم، فإنّه ـ مع ذلك سيبقي محروماً من التجلّيات الاءلهيّة في مظاهر المُبصَرات، وإنّ بلوغ الفناء في الذات والوصول إلی الحَرَم لن يكون بديلاً عن هذا الحرمان. ولذا فإنّ هؤلاء سيكونون محرومين ـ وإلی الابد من مشاهدة أنوار الله تعإلی في السير الا´فاقيّ وفي مرائي البصر ومجاليه. والامر كذلك بالنسبة إلی الحرمان في حاسّة السمع وغيرها من الحواسّ. إذ إنّ كلّ حسّ يفقده الإنسان يُغلق في وجهه عالماً كبيراً. 4) إنّ عالم الفتح والظفر ليس عالماً خاصّاً، ليمكن وضعه ـ من ثَمَّ في مقابل تلك العوالم، لانّ الفتح والظفر من لوازم الجهاد والورود في العالَم الذي يليه. وبغير ذلك فإنّ من الممكن في الاعتبار أن نعدّ عالم الفتح والظفر عالمَين: أحدهما الفتح، والا´خر الظفر ؛ لانّ السالك يفتح الاوّل بواسطة الجهاد، ثمّ يظفر بالخصم بعد ذلك. الامر الثاني: جاء في الحديث: مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ، وظاهره أنّ علی السـالـك أن يتـمّ أربعـين الاءخـلاص (الذي هو فِعـله). بَيـدَ أنّ كلام المصنّف رحمه الله يوحي بأنّ علی السالك أن يسير الاربعين بعد عالم الخلوص والورود في صفّ المُخلَصين. ومن الجليّ أنّ السالك إذا ورد عالَم الخلوص، لم يبقَ له ثمّة اختيار أو إرادة ليختار بهما سير الاربعين، إذ سيكون اختياره في تلك الحال بِيَدِ الله تعإلی، وسيكون مُسيَّراً له تعإلی. اللهمّ إلاّ أن نقول بأ نّه ليست هناك عبارة أُخري ـ غير عبارة مَنْ أَخْلَصَ ليمكن بها تفهيم هذا السير الاربعينيّ. الامر الثالث: يستفاد من بيان المصنّف رحمه الله أنّ الاختيار سيبقي في مقام (البقاء بالله) بعد بلوغ الفناء. وأنّ الحديث الشريف وعد بالوصول إلی هذا المقام بواسطة طيّ الاربعين، والله العالِم. المقصود بالشريعة والطريقة[8] ـ قيل: الشريعة: هي مراعاة ظاهر الاحكام، والطريقة: هي مراعاة باطن الاحكام. فإن كان مراد المصنّف رحمه الله من هذه العوالم مرتبة الظاهر فقط، فإنّ الهجرة هي من الشريعة، وهي لن تفرّق بين الشريعة والطريقة. وإن كان مراده أعمّ من العوالم الظاهريّة والباطنيّة، فإنّ تلك المرتبة من الإيمان ستكون طريقة، وإنّ الإيمان الاعمّ لن يكون ـ من ثَمَّ مجتمع الطريقة والشريعة. إلاّ أنّ المصنّف رحمه الله كان علی الظاهر في مقام الاءجمال وليس التفصيل والتدقيق. الروايات الدالّة علی مشاركة الإيمان للإسلام وعدم مشاركة الإسلام للإيمان[9] ـ الروايات الدالّة علی عدم مشاركة الإسلام للاءيمان، ومشاركة الإيمان للاءسـلام كثيرة وجمّة، وقد أورد طائـفة منها المرحـوم الكُلينيّ في «أُصول الكافي» ج 2، ص 25 إلی 27، والبرقيّ في «المحاسن» ج 1، ص 424 و 425. وأمّا حديث سَماعة بن مِهران، فهو أيضاً في بيان مجرّد اشتراك الإيمان مع الاءسلام، وفيه مثال الكعبة والحرم. وقد ذكر هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج 2، ص 28. هذا، وقد وردت ثلاثة أحاديث سواه ذكرت مثال الكعبة والحرم: الاوّل في «أُصول الكافي» ج 2، ص 26 ؛ وفي «محاسن البرقيّ» ج 1، ص 285، ح 425، عن أبي الصباح الكنانيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام جاء فيه: مَا تَقُولُ فِيمَنْ أَحْدَثَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ مُتَعَمِّداً؟ قَالَ، قُلْتُ: يُضْرَبُ ضَرْباً شَدِيداً. قَالَ: أَصَبْتَ. قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ أَحْدَثَ فِي الكَعْبَةِ مُتَعَمِّداً؟ قُلْتُ: يُقْتَلُ. قَالَ: أَصَبْتَ. أَلاَ تَرَي أَنَّ الكَعْبَةَ أَفْضَلُ مِنَ المَسْجِدِ، وَأَنَّ الكَعْبَةَ تُشَارِكُ المَسْجِدَ، وَالمَسْجِدُ لاَ يُشَارِكُ الكَعْبَةَ؟ وَكَذَلِكَ الإيمَان يَشْرَكُ الاءسْلاَمَ، وَالاءسْلاَمُ لاَ يَشْرَكُ الإيمَان. الثاني في «أُصول الكافي» ج 2، ص 26، عن حمران بن أعيَن، عن أبي جعفر عليه السلام، جاء فيه أ نّه عليه السلام قال: كَمَا صَارَتِ الكَعْبَةُ فِي المَسْجِدِ، وَالمَسْجِدُ لَيْسَ فِي الكَعْبَةِ، وَكَذَلِكَ الإيمَان يَشْرَكُ الاءسْلاَمَ، وَالاءسْلاَمُ لاَ يَشْرَكُ الإيمَان. ثمّ يذكر حدود الإسلام والإيمان مفصّلاً، ثمّ يقول: أَرَأَيْتَ لَوْ بَصُرْتَ رَجُلاً فِي المَسْجدِ، أَكُنْتَ تَشْهَدُ أَ نَّكَ رَأَيْتَهُ فِي الكَعْبَةِ؟ قُلْتُ: لاَ يَجُوزُ لِي ذَلِكَ. قَالَ: فَلَوْ بَصُرْتَ رَجُلاً فِي الكَعْبَةِ، أَكُنْتَ شَاهِداً أَ نَّهُ قَدْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرَامِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: إنَّهُ لاَ يَصِلُ إلی الكَعْبَةِ حَتَّي يَدْخُلَ المَسْجِدَ. فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ. ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ الإيمَان وَالاءسْلاَمُ. الثالث في «أُصول الكافي» ج 2، ص 27 و 28، عن عبد الرحيم القصير، قال: كتبتُ مع عبد الملك بن أعين إلی أبي عبد الله عليه السلام أسأ لُه عن الإيمان ما هو، فكتبَ إلی مع عبد الملك بن أعين يقول: سَأَلْتَ رَحِمَكَ اللَهُ عَنِ الإيمَانِ... إلی أن يقول: وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَخَلَ فِي الحَرَمِ، ثُمَّ دَخَلَ الكَعْبَةَ وَأَحْدَثَ فِي الكَعْبَةِ حَدَثاً، فَأُخْرِجَ عَنِ الكَعْبَةِ وَعَنِ الحَرَمِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَصَارَ إلی النَّارِ. [10] ـ ورد في «محاسن البرقيّ» ج 1، ص 285، ح 426، عن أبي النعمان، عن الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِالمُؤْمِنِ؟ المُؤْمِنُ مَنِ ائْتَمَنَهُ المُؤْمِنُونَ عَلَی أَمْوَالِهِمْ وَأُمُورِهِمْ. وَالمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَيِّئَاتِ وَتَرَكَ مَا حَرَّمَهُ اللَهُ عَلَيْهِ الاحاديث الواردة في الدعائم الخمس ، وسرّ الاختلاف فيما بينها[11] ـ يُطلق اصطلاح «الدعائم الخمس» علی الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والولاية ؛ حيث روي في «أُصول الكافي» ج 2، ص 18 عن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: بُنِيَ الاءسْلاَمُ عَلَی خَمْسٍ: عَلَی الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالحَجِّ وَالوَلاَيَةِ، وَمَا نُودِيَ بِشَيْءٍ (وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ) كَمَا نُودِيَ بِالوَلاَيَةِ. ووردت أيضاً في «أُصول الكافي» ج 2، ص 18 و 19 و 21 ؛ وفي «المحاسن» ج 1، ص 286 عدّة روايات بهذا المضمون بسلسلة أُخري للرواة، عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما السلام، حصرا فيها الدعائم الخمس في هذه الاُمور، وأهمّها الولاية، وورد في معظمها لفظ «دعائم خمس». بَيدَ أنّ الظاهر هو أنّ مراد المصنّف رحمه الله من الدعائم الخمس التي ذكرها في هذا المجال لم يكن أمر الولاية، وذلك لعدّة أُمور: 1) أ نّه عدّ الدعائم الخمس من آثار الإسلام الاصغر، مع أنّ أمر الولاية عائد إلی الإيمان الاصغر أو إلی الإسلام والإيمان الاكبرَين. 2) أ نّه ذكر تعبير الاءتيان بالدعائم الخمس بالجوارح والاعضاء. ومن المسلّم أنّ الولاية ليست ممّا يؤتي بالاعضاء والجوارح. 3) أ نّه أورد ذيل حديث سفيان بن سَمط شاهداً علی أنّ الشـهادتَين ـ وليس الولاية هما جزء الاءسلام، مضافاً إلی الصلاة والصوم والحجّ والزكاة. فيكون مسلّماً أنّ مراد المصنّف رحمه الله من الدعائم الخمس هو: الشهادتان والصلاة والصوم والزكاة والحجّ. أمّا حديث سفيان بن سَمط، فقد روي في «أُصول الكافي» ج 2، ص 24، قال: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الاءسْلاَمِ وَالإيمَانِ مَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ التَقَيَا فِي الطَّرِيقِ وَقَدْ أَزِفَ مِنَ الرَّجُلِ الرَّحِيلُ، فَقَالَ لَهُ أَ بُو عَبْدِ اللَهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كَأَ نَّكَ قَدْ أَزِفَ مِنْكَ رَحِيلٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: فَالْقَنِي فِي البَيْتِ. فَلَقِيَهُ فَسَأَلَهُ عَنِ الاءسْلاَمِ وَالإيمَانِ مَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: الاءسْلاَمُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ. وذكر تمام الحديث، ثمّ قال: فَهَذَا الاءسْلاَمُ. وَقَالَ: الإيمَان مَعْرِفَةُ هَذَا الاَمْرِ مَعَ هَذَا، فَإنْ أَقَرَّ بِهَا وَلَمْ يَعْرِفْ هَذَا الاَمْرَ كَانَ مُسْلِماً وَكَانَ ضَالاَّ. وبنـاءً علی صريـح هذه الرواية، فإنّ الاءقـرار بالولاية من شرائط الإيمان ـ لا الإسلام وأنّ الشرط الوحيد في الإسلام هو الاءقرار بالشهادتَين. ومن ملاحظة ومقارنة طائفة من الروايات الواردة لدي أهل السنّة في دعائم الإسلام الخمس، مع طائفة أُخري من الروايات سابقة الذكر التي وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في دعائم الإسلام الخمس، يتّضح سرّ هذا الاختلاف في التعبير. وبيان ذلك أ نّه ورد في «صحيح مسلم» ج 1، كتاب الإيمان، ص 34 و 35 أربعة أحاديث عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: 1) روي بإسناده عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر، عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم قال: بُنِيَ الاءسْلاَمُ عَلَی خَمْسَةٍ: عَلَی أَنْ يُوَحَّدَ اللَهُ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالحَجِّ. 2) بإسناده عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر، عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم قال: بُنِيَ الاءسْلاَمُ عَلَی خَمْسٍ: عَلَی أَنْ يُعْبَدَ اللَهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحِجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ. 3) بإسناده عن سبط ابن عمر، عن جدّه، قال عبد الله: قال رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم: بُنِيَ الاءسْلاَمُ عَلَی خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحِجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ. 4) بإسناده عن حنظلة، قال: سَمِعْتُ عِكْرَمَةَ بْنَ خَالِدٍ يُحَدِّثُ طَاوُوساً أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَهِ بْنِ عُمَرَ، أَلاَ تَغْزُو؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إنَّ الاءسْلاَمَ بُنِيَ عَلَی خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحِجِّ البَيْتِ. وهذه الروايات تبيّن أنّ رسول الله ذكر أنّ الإسلام يقوم علی هذه الاُسس الخمس. بيد أنّ العامّة لمّا كانوا يكتفون بظاهر الشهادتَين، ويعدّون مجرّد الاءقرار بالنبوّة من دعائم الاءسلام، ولو اقترن بمعصية أمر رسول الله في شأن الولاية. أمّا أئمّة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، فقد فسّـروا الرواية الواردة عن رسـول الله بهذا التفسـير: أنّ الاءقرار بالتوحيد والنبوّة بدون الاءقرار بالولاية لا يتعدّي كونه ظاهراً، وأنّ حقيقة الاعتراف به تتمثّل بالاءقرار بالولاية، وأنّ ذينك الاثنين لا ينفكّان عن بعضهما. فحقيقة الإسلام مرتبطة بالولاية التي هي مفتاح التوحيد في مظـاهر الاسـماء والصـفات والافعـال، وهي أيضـاً باطـن النبـوّة وجوهرها. ولذلك فإنّ هذه الطائفة من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام تمثّل تفسيراً وتأويلاً للروايات التي ذُكرت عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم حول دعائم الإسلام الخمس، كما أنّ نظير هذا الاختلاف في التعبير يُشاهَد في حديث السلسلة الذهبيّة، وقد ذكر هذا الحديث بعدّة مضامين: الاوّل: رواه الصدوق في «عيون أخبار الرضا» عليه السلام ص 314، بإسناده قال: يَقُولُ اللَهُ جَلَّ جَلاَلُهُ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَهُ أَمِنَ مِنْ عَذَابِي. كما يروي في نفس الصفحة بإسناده قال: قَالَ اللَهُ سَيِّدُ السَّادَاتِ جَلَّ وَعَزَّ: إنِّي أَ نَا اللَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ أَ نَا، فَمَنْ أَقَرَّ لِي بِالتَّوْحِيدِ دَخَلَ حِصْنِي، وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي. وقد نُقلت هذه الرواية في «الجواهر السنيّة» ص 147، نقلاً عن «العيون». الثاني: أ نّه عدّ الاءخلاصَ شرطَ التوحيد: حيث يروي في «العيون» بإسناده قال: قَالَ اللَهُ جَلَّ جَلاَلُهُ: إنِّي أَ نَا اللَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ أَ نَا فَاعْبُدُونِي، مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ بِشَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ بِالاءخْلاَصِ دَخَلَ حِصْنِي، وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي. الثالث: أ نّه فسّر الاءخلاصَ بالولاية. فقد روي الطوسيّ في «الامإلی» ج 2، ص 201، بإسناده: عَنِ اللَهِ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَجَلَّ وَجْهُهُ قَالَ: إنِّي أَ نَا اللَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ أَ نَا وَحْدِي، عِبَادِي فَاعْبُدُونِي، وَلْيَعلَمْ مَنْ لَقِيَنِي مِنْكُمْ بِشَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ مُخْلِصاً بِهَا أَ نَّهُ قَدْ دَخَلَ حِصْنِي، وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ عَذَابِي. قَالُوا: يَابْنَ رَسُولِ اللَهِ، وَمَا إخْلاَصُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ؟ قَالَ: طَاعَةُ اللَهِ وَرَسُولِهِ وَوِلاَيَةُ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ. ونقل في «معاني الاخبار» ص 370 ؛ و«ثواب الاعمال» ص 7 ؛ و«توحيد الصدوق» ص 25 ؛ و«الجواهر السنيّة» ص 222، عن «أمإلی الصدوق» ذيل رواية كَلِمَةُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ حِصْنِي عن الرضا عليه السلام قال: فَلَمَّا مَرَّتِ الرَّاحِلَةُ نَادَانَا: بِشُرُوطِهَا، وَأَ نَا مِنْ شُرُوطِهَا. الرابع: أ نّهم عدّوا الولاية حِصناً. فقد روي الصدوق في «معاني الاخبار» ص 371 بإسناده: يَقُولُ اللَهُ تَبَارَكَ وَتَعَإلی: وِلاَيَةُ علی بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ نَارِي. وورد هذا الحديث بسند آخر في «الجواهر السنيّة» ص 225، نقلاً عن «أمإلی الصدوق». وروي في «الجواهر السنيّة» عن أبي علی الحسن بن محمّد الطوسيّ في أماليه، عن أبيه المرحوم الشيخ الطوسيّ بإسناده المتّصل قال: قَالَ اللَهُ تَعَإلی: وِلاَيَةُ علی بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِصْنِي، مَنْ دَخَلَهُ أَمِنَ نَارِي. أجل، يستفاد من مجموع هذه الروايات أ نّها ـ بأجمعها تريد بيان حقيقة واحدة، وهي التسليم المطلَق أمام إرادة الله تعإلی والاعتراف بربوبيّته المطلقة في جميع مظاهر الاءمكان، لذلك فإنّ الطائفة من الروايات التي عدّت مطلق «لا إله إلاّ الله» حِصناً قد أرادت حقيقة هذه الكلمة، وهي ـ بطبيعة الحال غير معقولة بدون الاءخلاص والولاية. كما أنّ الروايات التي جعلت الولاية هي الحصن، أو جعلت التوحيد المشروط بالولاية حِصناً، إنّما هي تفسير وتأويل للطائفة الاُولي من الروايات، ولم تذكر أمراً جديداً زائداً. فتأمّل وافهم. وينبغي إعمال نظير ما فعلنا في شأن الكثير من الروايات وجمعها بهذا الطريق، وهو ـ في حقيقة الامر جمعٌ بين المُجمَل والمُبيَّن، أو بين المُطلَق والمقيَّد، ولذلك فقد فصّلنا الامر بعض التفصيل. [12] ـ ورد في «أُصول الكافي» ج 2، ص 25، في تفسير هذه الآية عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام قال: فَمَنْ زَعَمَ أَ نَّهُم آمَنُوا فَقَدْ كَذَبَ، وَمَنَ زَعَمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُسْلِمُوا فَقَدْ كَذَبَ. |
|
|