|
|
الصفحة السابقةالإيمان الاصغرالثاني: الإيمان الاصغر: وهو عبارة عن التصديق القلبيّ والإذعان الباطنيّ بالاُمور المذكورة. [1] ولازمها الاعتقاد بجميع ما جاء به الرسول من الصفات والاعمال ومصالح الافعال ومفاسدها ونصب الخلفاء وإرسال النُّقباء. لانّ الإذعان برسالة الرسول تستلزم الإذعان بحقّيّة ما بجميع ما جاء به الرسول. ويشير إلی هذا الإيمان قول الصادق المُصدَّق عليه السلام في حديث سماعة بعد أن سأله عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟ قال: الإسْلاَمُ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ وَالتَّصْدِيقُ بِرَسُولِ اللَهِ. بِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ، وَعَلَيْهِ جَرَتِ المَنَاكِحُ وَالمَوَارِيثُ، وَعَلَی ظَاهِرِهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَالإيمَانُ الهُدَي وَمَا يَثْبُتُ فِي القُلُوبِ مِنْ صِفَةِ الإسْلاَمِ. [2] الإسلام الاكبرالثالث: الإسلام الاكبر: ومرتبته بعد الإيمان الاصغر. وهو المراد في قول الحقّ عزّ اسمه: يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ] الآية 208، من السورة 2: البقرة [، لا نّه أمر المؤمنين بالإسلام. وهذا الإسلام عبارة عن التسليم والانقياد والطاعة وترك الاعتراض علی الله تعإلی والإطاعة في جميع لوازم الإسلام الاصغر والإيمان الاصغر، والإذعان بكلّ ما جاء به نفياً أو إثباتاً. ويشير إلی هذا الإسلام قول أمير المؤمنين عليه السلام في الحديث الذي رفعه البرقيّ: إنَّ الإسْلاَمَ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ اليَقِينُ. [الشرح] وكما أنّ الإسلام الاصغر هو التصديق بالرسول، فإنّ الإسلام الاكبر هو التصديق بالمُرسِل. وكما أنّ مقابلة الإسلام الاصغر ـ في حدّ ذاتها كُفر أصغر، إذ هي كُفرٌ بالرسول، وتقديمٌ لعقل الإنسان ـ أو لسائر الرسل علی الرسول، وهو لا يتنافي مع الإسلام بالله، كما هو أمر اليهود والنصاري ؛ فإنّ مقابلة الإسلام الاكبر كفرٌ أكبر، لانّ العاري من هذا الإسلام إذا كان معتقداً برسالة الرسول وبصدقه، إلاّ أ نّه يعترض علی الله تعإلی ويناقش في أحكامه، ويقدّم رأيه علی رأيه تعإلی. وإلی هذا الكفر يشير الإمام الصادق عليه السلام في حديث الكاهليّ قال: لَوْ أَنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَحَجُّوا البَيْتَ الحَرَامَ وَصَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا لِشَيْءٍ صَنَعَهُ اللَهُ أَوْ صَنَعَهُ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ صَنَعَ بِخِلاَفِ الَّذِي صَنَعَ؟ أَوْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ... إلی أن قال: فَعَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ. [4] فإذا ترك المرء الاعتراض، وجعل عقلَه ورأيه وهواه مطيعة للشرع، أضحي مسلماً بالإسلام الاكبر، ودخل آنذاك في مرتبة العبوديّة. وهذه هي أدني مراتب العبوديّة،[الشرح] أمّا ما سبق له فعله، فهو العبادة. ويشير إلی هذه المرتبة قوله تعإلی: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَهِ الإسْلَـ'مُ ] الآية 19، من السورة 3: آل عمران [. ومن هذه المرتبة من الإسلام يتحقّق قولُه: أَفَمَن شَرَحَ اللَهُ صَدْرَهُ و لِلإسْلَـ'مِ فَهُوَ عَلَی' نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ] الآية 22، من السورة 39: الزمر [. ويظهر في هذه المرتبة ما أشار إليه في قوله: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَـائِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ] الآية 14، من السورة 72: الجنّ [. لانّ من الجليّ أنّ الإسلام الاصغر الذي يشترك فيه المنافقون بعيد عن هذه المرحلة بعدّة مراحل. وهي المرتبة التي عناها الرسول الاكرم صلّي الله عليه وآله وسلّم في قوله: فَمَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنِّي. لانّ المنافقين ـ علی الرغم من امتلاكهم للإسلام الاصغر في الدرك الاسفل من النار، وليسوا في جوار الرسول المختار. الإيمان الاكبرالرابع: الإيمان الاكبر: ويشير إليه قوله تعإلی: يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو´ا ءَامِنُوا بِاللَهِ وَرَسُولِهِ. [6] الذي أمر المؤمنين بإيمانٍ آخر. وكما أنّ الإيمان الاصغر هو روح الإسلام الاصغر ومعناه، وأنّ الإسلام قالبه ولفظه، وأنّ حصوله مشروط بتخطّي الإسلام الاصغر اللسانَ والجوارح إلی القلب. فكذلك الإيمان الاكبر هو روح الإسلام الاكبر ومعناه، وهو عبارة عن تجاوز الإسلام الاكبر لمرتبة التسليم والانقياد والطاعة إلی مرتبة الشوق والرضا والرغبة، وتعدّي الإسلامِ العقلَ إلی الروح. والآية الكريمة: أَفَمَن شَرَحَ اللَهُ صَدْرَهُ و لِلإسْلَـ'مِ، هي مصداق هذه الحال. [الشرح] وكما أنّ في مقابل الإيمان الاصغر النفاق الاصغر المشتمل علی التسليم والانقياد والإطاعة للرسول في الظاهر، والتكاسل والتثاقل في القلب، فإنّ في مقابل الإيمان الاكبر النفاق الاكبر، وهو التسليم والانقياد والطاعة القلبيّة المولودة عن العقل، والمسبّبة عن الخوف، والخالية من الشوق والرغبة واللذّة واليُسر علی الروح والنفس. وما جاء في وصف المنافقين في قولهتعإلی: وَإِذَا قَامُو´ا إلی الصَّلَو'ةِ قَامُوا كُسَإلی'، إنّما جاء في حقّ هذه الفرقة. [8] فإذا سري التسليم والانقياد إلی الروح، وقويت معرفةُ الافعال والاوامر الإلهيّة، انتفي هذا النفاق لدي المرء. وهذه المرتبة من الإيمان تستلزم السريان إلی جميع الاعضاء والجوارح، لانّ الروح إذا غدت منشأ الإيمان ـ وهي سلطان البدن والمتسلّط علی جميع الاعضاء والجوارح سخّرت الجميع لها، ويسّرت الامر للجميع، وجعلت الجميع مطيعين مُنقادين، ولم تقصّر في دقيقة من دقائق الطاعة والعبوديّة. وقد ورد في حقّ أصحاب هذه المرتبة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَـ'شِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَو'ةِ فَـ'عِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ'فِظُونَ ] الا´يات 1 إلی 5، من السورة 23: المؤمنون [. لانّ الإعراض عن اللغو لا يتحقّق إلاّ باستعمال كلّ عضو من الاعضاء فيما هو مخلوق له. وقد ذكر أبو عبد الله عليه السلام في حديث الزبيريّ وحمّاد هذه المرتبة من الإيمان، وخلاصة الحديث هي: الإيمَانُ فَرْضٌ مَقْسُومٌ عَلَی الجَوَارِحِ كُلِّهَا، فَمِنْهَا قَلْبُهُ وَهُوَ أَمِيرُ بَدَنِهِ، وَعَيْنَاهُ وَأُذُنَاهُ وَلِسَانُهُ وَرَأْسُهُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ وَفَرْجُهُ. ثمّ إنّه ذكر عمل كلّ واحد منها. [9] وكذلك أشار إلی هذه المرتبة حديثُ ابن رئاب: إنَّا لاَ نَعُدُّ الرَّجُلَ مُؤْمِناً حَتَّي يَكُونَ لِجَمِيعِ أَمْرِنَا مُتَّبِعاً مُرِيداً. أَلاَ وَإنَّ مِنِ اتِّبَاعِ أَمْرِنَا وَإرَادَتِهِ الوَرَعَ. [10] وما ورد في كتاب الله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُو´ا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَهِ ] الآية 16، من السورة 57: الحديد [، هو أمر بالسفر من الإيمان الاصغر إلی الإيمان الاكبر. وينبغي أ لاّ نتصوّر أنّ ما قيل من تفاوت مراتب الإسلام والإيمان يتنافي مع ما ورد في طائفة من الروايات وصرّح به طائفة من المحدِّثين من أنّ الإيمان غير قابل للزيادة والنقصان ؛ لانّ ما قيل هو تفاوت المراتب في الشدّة والضعف (في الا´ثار)، وليس تفاوتها في الزيادة والنقصان (في أصل الإيمان). بلي، من لوازم الشدّة والضعف الزيادة والنقصان في الا´ثار ولوازمها. [11] فما جاء ـ إذاً في نفي الزيادة والنقصان، ففي أصل الإيمان ؛ وما جاء في إثباتها، فإمّا مراده الشدّة والضعف، أو الزيادة والنقصان في الا´ثار واللوازم، مثل قوله تعإلی: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَـ'تُهُ و زَادَتْهُمْ إيمَـ'نًا ] الآية 2، من السورة 8: الانفال [. يعني أ نّهم إذا سمعوا في الا´يات أمراً أو نهياً، شمّروا هممهم وظهر فيهم أثر من الإيمان يزيد علی ما كان عليهم من قبل. وإذا تُلي عليهم ـ بلسان الحال من الا´يات الا´فاقيّة والانفسيّة، اشتدّت (آثار) إيمانهم. وهذا هو المراد ممّا ورد في الاحاديث التي عدّت مراتب كثيرة للإيمان، حيث ورد: إنَّ الإيمَانَ لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمَانِ، وَلاَ يُحْمَلُ السَّهْمَانِ عَلَی صَاحِبِ السَّهْمِ. [الشرح] أي أنّ آثار وأعمال السهمَين يجب أ لاّ تُحمَل علی صاحب السـهم الواحد من المـعرفة، إذ سيشـقّ ذلك عليه. وما لم تشـتدّ المعرفة وتقوي، فإنّ العمل سيشقّ علی الجوارح. وروي عبد العزيز القراطيسيّ قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يَا عَبْدَ العَزِيزِ! إنَّ الإيمَانَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ... إلی أن قال: وَإذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ، فَارْفَعْهُ إلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لاَ يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ. [13] ودرجات الإيمان في المعرفة والعمل كليهما. ومن الظاهر أن الاعمال الواجبة ممّا يلزم كلّ شخص العمل بها. فتفاوت الدرجات في الا´ثار (المستفاد من الاخبار) إنّما يحصل باتّباع جميع الاوامر والسنن والافعال والاخلاق. الهجرة الكبريالخامس: الهجرة الكبري: وكما أنّ الهجرة الصغري هي الهجرة بالبدن من دار الكفر إلی دار الإسلام ؛ فإنّ الهجرة الكبري هي الهجرة بالبدن عن مخالطة أهل العصيان ومجالسة أهل البغي والطغيان وأبناء الزمان الخوّان. [الشرح] وقد ورد في حديث مِهزَم الاسديّ في صفة الشيعة: وَإنْ لَقِيَ جَاهِلاً هَجَرَهُ. [15] والهجرة بالقلب من مودّتهم والميل إليهم، فقد قال سيّد الاولياء عليه السلام: وَالجِهَادُ عَلَی أَرْبَعِ شُعَبٍ، حيث عدّ إحدي الشعب شنئان الفاسقين. [16] والهجرة بكليهما (بالبدن والقلب) من العادات والا´داب، إذ العادات والا´داب من مهمّات بلاد الكفر. فقد روي فـي جامـع الكلينـيّ، فـي روايـة السـكونـيّ عـن الصادق عليه السلام، عن الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم قال: أَرْكَانُ الكُفْرِ أَرْبَعَةٌ: الرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالسَّخَطُ، وَالغَضَبُ. [17] وفُسّرت «الرَّهبة» بالرهبة من الناس في مخالطتهم في عاداتهم ونواميسهم. وبعد هذه الهجرة، الالتحاق بالرسول وقصد طاعته في جميع الاُمور، وخدمته بالمجادلة مع جنود الشيطان وقهرها. الجهاد الاكبرالسادس: الجهاد الاكبر: وهو عبارة عن محاربة جنود الشيطان بمعونة حزب الرحمن (وهم جُند العقل). حيث ورد في حديث سماعة بن مهران عن الصادق عليه السلام: ثُمَّ جَعَلَ لِلْعَقْلِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ جُنْداً، فَلَمَّا رَأَي الجَهْلُ مَا أَكْرَمَ اللَهُ بِهِ العَقْلَ وَمَا أَعْطَاهُ، أَضْمَرَ لَهُ العَدَاوَةَ، فَقَالَ الجَهْلُ: يَا رَبِّ! هَذَا خَلْقٌ مِثْلِي خَلَقْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَقَوَّيْتَهُ، وَأَنَا ضِدُّهُ وَلاَ قُوَّةَ لِي بِهِ فَأَعْطِنِي مِنَ الجُنْدِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ (إلی أن قال:) فَأَعْطَاهُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ جُنْداً... (إلی أن قال:) فَإنَّ أَحَدَهُمْ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الجُنُودِ حَتَّي يَسْتَكْمِلَ وَيُنْقَي مِنْ جُنُودِ الجَهْلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الدَّرَجَةِ العُلْيَا مَعَ الاَنْبِيَاءِ وَالاَوْصِيَاءِ. [18] الفتح والظفر علی جنود الشيطانالسابع: الفتح والظفر بجنود الشيطان: والنجاة من تسلّطهم، والخروج من عالَم الجهل والطبيعة. ويشير إلی أصحاب هذه المرحلة (العرصة) الإمام الصادق عليه السلام في حديث اليمانيّ: شِيعَتُنَا أَهْلُ الهُدَي، وَأَهْلُ التَّقْوَي، وَأَهْلُ الخَيْرِ، وَأَهْلُ الإيمَانِ، وَأَهْلُ الفَتْحِ وَالظَّفَرِ. [الشرح] الإسلام الاعظمالثامن: الإسلامُ الاعظم: وبيان هذه المرحلة أنّ الإنسان ـ قبل دخوله في عالَم الفتح والظفر والغلبة علی جُند إبليس والطبيعة مبتلي في عالَم الطبيعة، وأسير جنود الوَهم والغضب والشهوة، ومغلوبٌ للاهواء المتضادّة في لجّة الطبيعة. تحيط به الا´مال والاماني، وتستولي عليه الهموم والغموم، يتناهبه تزاحم العادات والا´داب المتناقضة، وتؤلمه منافيات الطبع ومنافرات الخواطر، يترقّب الاُمور المخوفة العديدة، ويتهيّأ للاحداث المهولة الجمّة، في كلّ زاوية من خاطره تشويش، وفي كلّ ركن في صدره نارٌ متأجّجة، أنواع الفقر والاحتياج أمام ناظرَيه، وأصناف الا´لام والاسقام تمسك بتلابيبه، فهو تارةً مُبتلي بالاهل والعيال، وتارةً في الخوف من تلف التجارة والاموال. يسعي إلی الجاه حيناً فلا يناله، وإلی المنصب حيناً فلا يُعطاه. قد أحاطت به أشواك الحسد والغضب والكبر والامل، وغدا في براثن حيّات وعقارب وسِباع عالم الجسمانيّة والمادّيّة ذليلاً حقيراً. قد ادلهمّ قلبُه بظلمات الوَهْم، وأوثقته في أسرها آلاف مؤلّفة من الهموم المتضادّة. أينما ولّي وجهه، صفعتْهُ يدُ الدهر، وحيثما وضع رِجلَهُ غرس فيها الدهر أشواكه. ولمّا نال ـ بتوفيقٍ غير مشروط الظفر والانتصار في حربه وقتاله مع جنود الوهم والغضب والشهوة، وتخلّص من براثن العلائق والعوائق، وودّع عالَم الطبيعة والمادّيّة، ووضع أقدامه خارج بحر الوهم والامل، فإنّه سيري نفسه جوهرة فريدةً لا مثيل لها، ويضحي محيطاً بعالَم الطبيعة، مصوناً من الموت والفناء، فارغاً من منازعة المتضادّات، مطمئنّاً من أذي المتناقضات، وسيري في نفسه صفاءً وبهاء ونوراً وضياء فوق إدراك عالَم الطبيعة ؛ لانّ الطالب ـ في تلك الحال سيكون قد مات بمقتضي مُتْ عَنِ الطَّبِيعَةِ،[20] ووجد حياةً جديدة، ولا نّه سيكون ـ بسبب تخطّيه للقيامة الانفسيّة الصغري (وهي موت النفس الامّارة) قد حظي بالمشاهدات المعنويّة الملكوتيّة. وما أكثر ما سينكشف له من أُمور مخفيّة وما سيحصل له من أحوال عجيبة، وسيكون قد بلغ القيامة الوسطي. [الشرح] فإن لم تدركه العناية الازليّة في ذلك الوقت، اكتنفه العُجب والغرور لما يشاهده في نفسه، فتتملّكه الانانيّة، ويتصدّي لقطع الطريق عليه رئيس الابالسة والعدوّ الكامن في نفسه بين جنبيه، بعد أن تصدّي له حتّي الا´ن الاعداء الخارجيّون وأذناب الشيطان. وقد ورد: أَعْدَي عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ. [22] وهذا العُجب وهذه الانانيّة هما اللذان صيّراه مبتلي بعالَم الطبيعة. وقد ورد أنّ الله تعإلی لمّا خلق الروح المجرّد خاطبه فقال: مَنْ أَنَا؟، فلم تخطُ الروح خارج البهاء الذي اكتنفها وأحاط بها، فقالت: مَنْ أَنَا؟ فأخرجها الله تعإلی من عالم النور والابتهاج، وأرسلها إلی عالم الفقر والفاقة لتعرف نفسها. [23] فإذا خرجت من عالم الطبيعة وعادت إلی حالتها الاُولي، اكتنفها ذلك الكِبر والانانيّة، حيث حملت طائفة حديث مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إلی رَبِّهِمْ إلاَّ رِدَاءُ الكِبْرِيَاءِ علی هذا. يعني أ نّهم يصلون موضعاً إذا لم يرتدوا فيه رداء الكبرياء، ولا تملّكهم العُجب، لنظروا إلی أنوار عالم اللاهوت. فإن لم تنقذ السالك في هذه الحال العناية الإلهيّة، ابتُلي بالكفر الاعظم، إذ الكفر في المراحل السالفة إمّا كفر بالرسول، وإمّا شرك سبّبته الاُمور الخارجيّة (كالشيطان والهوي). أمّا كفر هذه المرحلة، فعبارة عن متابعة الشيطان والهوي، وقد قال تعإلی: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـ'بَنِي´ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَـ'نَ إِنَّهُ و لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ] الآية 60، من السورة 36: يس [. وقال: أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـ'هَهُ و هَوَب'هُ ] الآية 23، من السورة 45: الجاثية [. وقال الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم: الهَوَي أَنْقَصُ (أَبْغَضُ ظ) إلَهٍ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَهِ فِي الاَرْضِ. [24] وتخصيص «في الارض» عائد إلی أ نّه ـ بعد الخروج من أرض الطبيعة ليس من إله أنقص من النفس، لا نّها تُتّخذ إلهاً بعد الفراغ من عالم الطبيعة والبدن والصعود إلی مدارج النفس والذات. وإلی هذا الكفر يشير قول: النَّفْسُ هِيَ الصَّنَمُ الاَكْبَرُ. وعبادة هذه الاصنام هي التي عناها إبراهيم عليه السلام حين دعا ربّه أن يجنّبه إيّاها: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الاَصْنَامَ.[25] لانّ من أوضح الواضحات أنّ عبادة الاصنام المصنوعة من قِبل الخليل عليه السلام وأبنائه (الذين كانوا من الانبياء) ممّا لا يمكن تصوّره. وهذا الشرك هو الذي كان خاتم الانبياء صلّي الله عليه وآله وسلّم يستعيذ بالله تعإلی منه، في قوله: أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِـيِّ، وهو المُخاطَـب بخطـاب: ] وَ [ لَنءِنْ أَشْـرَكْـتَ لَيَحْـبَطَنَّ عَمَلُكَ ] الآية 65، من السورة 39: الزمر[. وهذا الكفر هو الذي أشار إليه بعض أكابر أهل الله في قوله: إذا ارتحل العبد عن الكون والمكان، فإنّ أوّل مقام سيُعرَض عليه مقامٌ إذا بلغه تصوّر أ نّه هو الصانع. وأيّ كفر أعلی من هذا! إذَا قُلْتُ مَا أَذْنَبْتُ قَالَتْ مُجِيبَةً وُجُودُكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ[الشرح] ويقابل هذا الكفر الإسلام الاعظم، وهو الإسلام الذي أمر الحقّ جلّ شأنه به إبراهيم عليه السلام: إِذْ قَالَ لَهُ و رَبُّهُ و´ أَسْلِمْ. وحقيقته عبارة عن التصديق بفناء النفس والإذعان بالعجز والذلّة والعبوديّة والرقّ، بعد كشف الحقيقة والاعتقاد بأنّ ما يشاهده في نفسه من إحاطة ونور هو عين الفقر وسواد الظلمة، بل بقطع النظر عنها وفنائه واضمحلاله في جنب الوجود المطلق والنور المحض. الإيمان الاعظمالتاسع: الإيمان الاعظم: وهو عبارة عن مشاهدة ومعاينة فنائه، بعد التصديق والإذعان بالإسلام الاعظم. وحقيقته شدّة ظهور ووضوح الإسلام الاعظم، وتجاوزه حدود العلم والإذعان إلی مرتبة المشاهدة والعيان. ولذلك قالتعإلی لخليله: أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـ'لَمِينَ[27] ] الآية 131، من السورة 2: البقرة [. ويشير إلی الدخول في هذا العالم قوله سبحانه وتعإلی: فَادْخُلِي فِي عِبَـ'دِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ] الا´يتان 29 و 30، من السورة 89: الفجر [، لانّ حقيقة العبوديّة قد تحقّقت حينذاك، ولانّ الدخول في هذا العالم كناية عن المشاهدة والعيان. ويكون السالك في هذه الحال قد ارتحل عن عالم الملكوت، وقامت قيامته الكبري الانفسيّة، وورد في عالم الجبروت، وفاز بالمشاهدات الملكوتيّة والمعاينات الجبروتيّة، وورد من عالم النفوس المعلّقة بالافلاك إلی العالم المنزّه عن الاجسام. وفي طلب هذه المنزلة قيل: بَيْنِي وَبَيْنَكَ إنِّيٌّ يُنَازِعُنِي فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ إنِّيِّ مِنَ البَيْنِ [28] aارجاعات [1] ـ روي الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج 2، ص 14، الطبعة الثانية، بسنده المتّصل عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام ؛ وبسند متّصل آخر عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما (واللفظ للثاني) في قول الله عزّ وجلّ «صِبْغَةَ اللَهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَهِ صِبْغَةً». قَالَ: الصِّبْغَةُ هِيَ الاءسْلاَمُ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ «فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـ'غُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَي'» قَالَ: هِيَ الإيمَان. [2] ـ وهو بعض كلام الإمام الصادق عليه السلام الذي ورد في رواية «أُصول الكافي» ج 2، ص 25، عن سماعة. الإسلام الاكبر في رواية أمير المؤمنين عليه السلام[3] ـ ورد هذا الحديث في «أمإلی الصدوق»، ص 211، مسنداً عن الصادق عليه السلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام ؛ وفي «أُصول الكافي» ج 2، ص 45، عن محمّد بن خالد، عن بعض أصحابنا مرفوعاً عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لاَنْسِبَنَّ الاءسْلاَمَ نِسْبَةً لاَ يَنْسِبُهُ أَحَدٌ قَبْلِي وَلاَ يَنْسِبُهُ أَحَدٌ بَعْدِي إلاَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ. إنَّ الاءسْلاَمَ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ اليَقِينُ، وَاليَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الاءقْرَارُ، وَالاءقْرَارُ هُوَ العَمَلُ، وَالعَمَلُ هُوَ الاَدَاءُ. إنَّ المُؤْمِنَ لَمْ يَأْخُذْ دِينَهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَلَكِنْ أَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ فَأَخَذَهُ. إنَّ المُؤْمِنَ يُرَي يَقِينُهُ فِي عَمَلِهِ، وَالكَافِرَ يُرَي إنْكَارُهُ فِي عَمَلِهِ. فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَرَفُوا أَمْرَهُمْ. فَاعْتَبِرُوا إنْكَارَ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ بِأَعْمَالِهِمُ الخَبِيثَةِ. وقال في «سفينة البحار» ج 1، ص 644 بعد نقل هذا الحديث: وقد تصدّي لشرح هذا الحديث ابن أبي الحديد، وابن ميثم، والشهيد الثاني، والمجلسيّ، فراجِع. وأورده البرقيّ في «المحاسن» ج 1، ص 222، ح 135. وقد ورد هذا الحديث مختصراً في «نهج البلاغة»، أمّا في «شرح نهج البلاغة» للمولي فتح الله، ج 2، ص 542 ؛ و«شرح نهج البلاغة» ج 2، ص 165، فقد ورد بهذا اللفظ: وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لاَنْسِـبَنَّ الاءسْلاَمَ نِسْـبَةً لَمْ يَنْسِـبْهَا أَحَـدٌ قَبْلِي. الاءسْلاَمُ هُوَ التَّسْـلِيمُ، وَالتَّسْـلِيمُ هُوَ اليَقِينُ، وَاليَقِينُ هُوَ التَّصْـدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الاءقْرَارُ، وَالاءقْرَارُ هُوَ الاَدَاءُ، وَالاَدَاءُ هُوَ العَمَلُ الصَّالِحُ. [4] ـ ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج 1، ص 390، الطبعة الثانية، وفيه بدل لفظ «إلی أن قال» الذي أورده المصنّف علی سبيل الاختصـار: ثُمَّ تَلاَ هَـذِهِ الا´يَةَ «فَلاَ وَرَبِّـكَ لاَ يُؤْمِنُـونَ حَتَّي' يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»، ثُمَّ قَالَ أَ بُو عَبْدِ اللَهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: عَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ. رواية الإمام الصادق عليه السلام في حقيقة العبوديّة[5] ـ حيث ورد في حديث «عنوان البصريّ» أن العبوديّة تستلزم التسليم المحض والطاعة الخالصة، ومادام الإنسان لم يبلغ ـ بتمام معني الكلمة مرحلة التسليم، ومادام لم يجعل إرادته واختياره وفق إرادة الله تعإلی واختياره، فإنّه لن يرد مرحلة العبوديّة. وقد أورد المجلسيّ هذا الحديث في «بحار الانوار» ج 1، باب آداب العلم وأحكامه، عن عنوان البصريّ، عن الإمام الصادق عليه السلام، وهو حديث مفصّل... يصل فيه إلی حيث يقول عنوان مخاطباً الصادقَ عليه السلام: يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! مَا حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ؟ قَالَ: ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ: أَنْ لاَ يَرَي العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَهُ مِلْكاً. لاِنَّ العَبِيدَ لاَ يَكُونُ لَهُمْ مِلْكٌ، يَرَونَ المَالَ مَالَ اللَهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أَمَرَهُمُ اللَهُ بِهِ. وَلاَ يُدَبِّرُ العَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً. وَجُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِيمَا أَمَرَهُ اللَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ. فَإذَا لَمْ يَرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَهُ مِلْكاً، هَانَ عَلَيْهِ الاءنْفَاقُ فِيمَا أَمَرَهُ اللَهُ تَعَإلی أَنْ يُنْفِقَ فِيهِ. وَإذَا فَوَّضَ العَبْدُ تَدْبِيرَ نَفْسِهِ عَلَی مُدَبِّرِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَصَائِبُ الدُّنْيَا ؛ وَإذَا اشْتَغَلَ العَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اللَهُ تَعَإلی بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ، لاَ يَتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلی المِرَاءِ وَالمُبَاهَاةِ مَـعَ النَّاسِ. فَإذَا أَكْرَمَ اللَهُ العَـبْدَ بِهَـذِهِ الثَّلاَثَةِ، هَانَ عَلَيْهِ الدُّنْـيَا وَإبْلِيـسُ وَالخَلْقُ، وَلاَ يَطْـلُبُ الدُّنْـيَا تَكَاثُـراً وَلاَ تَفَاخُـراً، وَلاَ يَطْلُبُ مَا عِنْدَ النَّاسِ عِزَّاً وَعُلُوَّاً وَلاَ يَدَعُ أَيَّامَهُ بَاطِلاً. فَهَذَا أَوَّلُ دَرَجَةِ التُّقَي.... وعلی أيّة حال، وكما يُلاحَظ في هذا الحديث الشريف، الذي يقول بعض الاساطين بأنّ آثار صدوره عن المعصوم مشهودة من نفس مضامينه ؛ فإنّ العبوديّة الحقّة قد اعتُبرت عين التسليم والطاعة في الافعال والاءرادة والاختيار وسائر الاُمور. ثمّ يرد السالك بعد حصول هذه الدرجات في أوّل درجات التقوي، والتي عدّها المصنّف رحمه الله مرتبة الإيمان الاكبر. [6] ـ الآية 136، من السورة 4: النساء، وتكملتها: وَالْكِتَـ'بِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَی' رَسُولِهِ.... الإسلام الاكبر والإيمان الاكبر في: أَفَمَن شَرَحَ اللَهُ صَدْرَهُ و لِلإسْلَامِ[7] ـ لانّ شرح الصدر في هذه الا´ية، المتحقّق بواسطة الإسلام قد عُزي إلی الله تعإلی، وذُكر أثره ـ فوق ذلك ـ بأ نّه نُورٌ مِنْ رَبِّهِ، فيتبيّن أنّ المراد من الإسلام في هـذه الآية هو الإسلام الاكـبر وليـس الاصغر ولا الاعمّ من الاصغر والاكبر. ولمّا كانت مرتبة الإيمان الاكبر مرتبة التفضيل وتجاوز الإسلام الاكبر لمرتبة التسليم والطاعة إلی مرتبة الشوق والرضا والرغبة، فقد عُبّر في القرآن الكريم عن هذه المرتبة بشرح الصدر للاءسلام، لانّ تعبير فَمَن شَرَحَ اللَهُ صَدْرَهُ و لِلاْءسْلَـ'مِ يستعمل حيث يوجد الإسلام ثمّ إنّ الله تعإلی يشرح الصدر للاءسلام. وهذا هو معني الإيمان الاكبر. وباعتبار أنّ الإسلام الاكبر هو أدني مرتبة من الإيمان الاكبر، فإنّ المصنّف رحمه الله لمّا كان في مقام بيان الإسلام الاكبر في الصفحة السابقة، فإنّه استعمل كلمة «من» الابتدائيّة في بيانه ؛ فقد قال: «ومِن هذه المرتبة من الإسلام يتحقّق قولُه: أَفَمَن شَرَحَ اللَهُ صَدْرَهُ و لِلاْءسْلَـ'مِ فَهُوَ عَلَی' نُورٍ مِّن رَّبِّهِ. [8] ـ حصر مفاد هذه الآية في منافقي النفاق الاكبر ممّا لا دليل عليه، إذ لو اكتفينا بظاهر الآية وسياقها، لكانت منحصرة في منافقي النفاق الاصغر. فقد جاء في الآية التي سبقتها: الَّذيِنَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَهِ قَالُو´ا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ'فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُو´ا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ... إلی قوله: إِنَّ الْمُنَـ'فِقِينَ يُخَـ'دِعُونَ اللَهَ وَهُوَ خَـ'دِعُهُمْ وَإِذَا قَامُو´ا إلی الصَّلَو'ةِ قَامُوا كُسَإلی' يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَهَ إلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَ لِكَ لاَ´ إلی' هَـ'´ؤُلاَ´ءِ وَلاَ´ إلی' هَـ'´ؤُلاَ´ءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ و سَبُيلاً (الا´يات 141 إلی 143، من السورة 4: النساء). [9] ـ ورد حديث الزبيريّ عن الصادق عليه السلام في «أُصول الكافي» ج 2، ص 33، وهو حديث مفصّل يستغرق أربع صفحات. أمّا حديث حمّاد، فقد رواه عن «العالِم» عليه السلام في ص 38 من نفس الكتاب، وهو حديث مفصّل أيضاً يستغرق صفحة كاملة، (فمَن أراد تمامهما، فليراجع مصدرهما). [10] ـ ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج 2، ص 78، بإسناده المتّصل عن ابن رئاب، عن الصادق عليه السلام، وفي خاتمته: فَتَزَيَّنُوا بِهِ يَرْحَمْكُمُ اللَهُ وَكَبِّدُوا أَعْدَاءَنَا (بِهِ) يَنْعَشْكُمُ اللَهُ. [11] ـ يمكن حمل الروايتين الشريفتين الواردتَين في «أُصول الكافي» ج 2، ص 15، الطبعة الثانية، علی الاختلاف في مراتب الإيمان. وقد أورد الاُولي بسنده المتّصل عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام، والثانية بسنده المتّصل عن جميل، عن أبي عبد الله عليه السلام (واللفظ للثاني): سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «هُوَ الَّذِي´ أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ...»، قَالَ: هُوَ الإيمَان. قَالَ: «وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ»، قَالَ: هُوَ الإيمَان. وَعَنْ قَوْلِهِ: «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَي»، قَالَ: هُوَ الإيمَان. الروايات الواردة في اختلاف درجات الإيمان[12] ـ نقل الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج 2، ص 42 و 43 و 45 ثلاثة أحاديث: الاوّل: عن عمّار بن الاحوص، عن أبي عبد الله عليه السلام. الثاني: عن يعقوب بن الضحّاك، عن رجلٍ من أصحابنا ـ وكان خادماً لابي عبد الله عليه السلام عن أبي عبد الله عليه السلام. الثالث: عن سَدير، عن أبي جعفر عليه السلام. وقد قُسّم الإيمان في هذه الروايات الثلاث إلی سبعة أسهُم. وروي في ص 44 من نفـس الكتاب عن شـهاب، عن أبـي عبد الله عليه السلام حديثاً إجماله ما يأتي: أنّ الله تعإلی خلق الإيمان في تسعة وأربعين جزءاً، ثمّ جعل الاجزاء أعشاراً، فجعل الجزء عشرة أعشار، فجعل في رجلٍ عُشر جُزء، وفي آخر عُشري جُزء، وهكذا حتّي بلغ به جُزءاً تامّاً، ثمّ جعل في رجل جزءاً وعُشر الجُزء، وفي آخر جُزءاً وعُشري جُزء، وهكذا... (إلی أن بلغ إلی قوله) حتّي بلغ بأرفعهم تسعةً وأربعين جُزءاً. (ثمّ قال في خاتمة الجديث:) لَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ هَذَا الخَلْقَ عَلَی هَذَا، لَمْ يَلُمْ أَحَدٌ أَحَداً. [13] ـ وردت رواية عبد العزيز القراطيسيّ بتمامها في «أُصول الكافي» ج 2، ص 45، حيث جاء فيها قوله عليه السلام (الذي اختُصر بلفظ «إلی أن قال»): فَلاَ يَقُولَنَّ صَاحِبُ الاثْنَيْنِ لِصَاحِبِ الوَاحِدِ لَسْتَ عَلَی شَيْءٍ، حَتَّي يَنْتَهِي إلی العَاشِرِ. فَلاَ تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ، فَيُسْقِطْكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ. كما جاء في آخر الحديث بعد لفظة «فتكسره» قوله عليه السلام: فَإنَّ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِناً فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ. الرواية الواردة في الهجرة الكبري[14] ـ نقل المجلسيّ في «بحار الانوار» ج 15، ص 177، قسم الاخلاق، عن كتاب «الغارات» خطبة لامير المؤمنين عليه السلام جاء فيها: وَيَقُولُ الرَّجُلُ: هَاجَرْتُ، وَلَمْ يُهَاجِرْ. إنَّمَا المُهَاجِرُونَ الَّذِينَ يَهْجُرُونَ السَيِّئَاتِ وَلَمْ يَأْتُوا بِهَا. وَيَقُولُ الرَّجُلُ: جَاهَدْتُ، وَلَمْ يُجَاهِدْ. إنَّمَا الجِهَادُ اجْتِنَابُ المَحَارِمِ وَمُجَاهَدَةُ العَدُوِّ. وَقَدْ يُقَاتِلُ أَقْوَامٌ فَيُحِبُّونَ القِتَالَ، لاَ يُرِيدُونَ إلاَّ الذِّكْرَ وَالاَجْرَ.... [15] ـ ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج 2، ص 238، بإسناده المتّصل عن مِهزم الاسديّ قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يَا مِهْزَمُ! شِيعَتُنَا مَنْ لاَ يَعْـدُو صَوْتُهُ سَمْعَهُ، وَلاَ شَحْـنَاؤُهُ بَدَنَهُ، وَلاَ يَمْتَدِحُ بِنَا مُعْلِناً، وَلاَ يُجَالِسُ لَنَا عَائِباً، وَلاَ يُخَاصِمُ لَنَا قَالِياً. إنْ لَقِيَ مُؤْمِناً أَكْرَمَهُ، وَإنْ لَقِيَ جَاهِلاً هَجَرَهُ. [16] ـ وردت هذه الرواية في «أُصول الكافي» ج 2، ص 50 بإسناده المتّصل عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام: سُئِلَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الإيمَانِ، فَقَالَ: إنَّ اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الإيمَان عَلَی أَرْبَعِ دَعَائِمٍ: عَلَی الصَّبْرِ وَاليَقِينِ وَالعَدْلِ وَالجِهَادِ. ثمّ بيّن كلّ واحـدة منها، حتّي بلـغ إلی الجهاد فقال: وَالجِهَادُ عَلَی أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَی الاَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَالصِّدْقِ فِي المَوَاطِنِ، وَشَنَئَانِ الفَاسِقِينَ. ثمّ ذكر كلّ واحدة من هذه الشعب، ثمّ قال عن شنئان الفاسقين: وَمَنْ شَنَأَ الفَاسِقِينَ غَضِبَ لِلَّهِ، وَمَنْ غَضِبَ لِلَّهِ، غَضِبَ اللَهُ لَهُ. ثمّ قال: فَذَلِكَ هُوَ الإيمَان وَدَعائِمُهُ وَشُعَبُهُ. [17] ـ وردت هذه الرواية في «أُصول الكافي» ج 2، ص 289. [18] ـ أورد الكلينيّ هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج 1، ص 20، وهو حديث مفصّـل، حيث ذكر الإمام الصادق عليه السـلام للعقل خمسة وسبعين جُنداً، وبيّنها واحداً فواحداً، ثمّ ذكر للجهل خمسة وسبعين جُنداً، يقابل كلّ واحد منها واحداً من جنود العقل، فذكرها بأسمائها، وذكر بإزائها ما يقابلها من جنود العقل، ثمّ قال في خاتمة الحديث: فَلاَ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الخِصَالُ كُلُّهَا مِنْ أَجْنَادِ العَقْلِ إلاَّ فِي نَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ أَوْ مُؤْمِنٍ قَدِ امْتَحَنَ اللَهُ قَلْبَهُ لِلاْءيمَانِ، وَأَمَّا سَائِرُ ذَلِكِ مِنْ مَوَالِينَا، فَإنَّ أَحَدَهُمْ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الجُنُودِ، حَتَّي يَسْتَكْمِلَ وَيُنْقَي مِنْ جُنُودِ الجَهْلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الدَّرَجَةِ العُلْيَا مَعَ الاَنْبِيَاءِ وَالاَوْصِيَاءِ. وَإنَّمَا يُدْرَكُ ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ العَقْلِ وَجُنُودِهِ، وَبِمُجَانَبَةِ الجَهْلِ وَجُنُودِهِ. وَفَّقَنَا اللَهُ وَإيَّاكُمْ لِطَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ انتهي. وأنا أقول (آمين) ثلاث مرّات. حديث الفتح والظفر[19] ـ ورد حديث الفتح والظفر في «أُصول الكافي» ج 2، ص 233، بإسـناده المتّصـل عن إبراهـيم بن عمر اليمانيّ، عن رجـل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: شَيعَتُـنَا أَهْلُ الهُـدَي، وَأَهْلُ التُّقَي، وَأَهْلُ الخَيْرِ، وَأَهْلُ الإيمَانِ، وَأَهْلُ الفَتْحِ وَالظَّفَرِ. واعلم بأنّ المجلسيّ رحمه الله أورد هذه الرواية في «البحار» في المجلّد الخامس عشر، في الجزء الاوّل منه، ص 152، وبعد بيان له في شأن الفتح والظفر قال: فَالمُرَادُ بِهِ إمَّا الفَتْحُ وَالظَّفَرُ عَلَی المُخَالِفِينَ بِالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ، أَوْ عَلَی الاَعَادِي الظَّاهِرَةِ ـ إنْ أُمِرُوا بِالجِهَادِ فَإنَّهُمْ أَهْلُ اليَقِينِ وَالشَّجَاعَةِ. أَوْ عَلَی الاَعَادِي البَاطِنِيَّةِ، بِغَلَبَةِ جُنُودِ العَقْلِ عَلَی عَسَاكِرِ الجَهْلِ وَالجُنُودِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِالمُجَاهَدَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ العَقْلِ. أَوِ المُرَادُ أَ نَّهُمْ أَهْلٌ لِفَتْحِ أَبْوَابِ العِنَايَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالاءفَاضَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَأَهْلُ الظَّفَرِ بِالمَقْصُودِ، كَمَا قِيلَ: إنَّ الاَوَّلَ إشَارَةٌ إلی كَمَالِهِمْ فِي القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَالثَّانِي إلی كَمَالِهِمْ فِي القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ حَتَّي بَلَغُوا إلی غَايَتِهِمَا، وَهُوَ فَتْحُ أَبْوَابِ الاَسْرَارِ وَالفَوْزُ بِقُرْبِ الحَقِّ. [20] ـ نُسـبت هذه العـبارة إلی أفلاطـون الحكيم، حيث قال: مُتْ عَنِ الطَّبِيعَةِ، تَحْيَي بِالحَقِيقَةِ. العوالم الاربعة التي يجب علی السالك إلی الله أن يطويها[21] ـ اعلم أن العوالم التي بين الإنسان وبين الله تعإلی، التي يتوجّب علی السالك عبورها قد عُبّر عنها بأربعة عوالم: الاوّل: عالم الطبع: ويدعي أيضاً بعالَم النفس، وعالم الحسّ، وعالم الشهادة، وعالم المادّة، وعالم المُلك، وعالَم الناسوت. الثاني: عالم المثال: ويدعي أيضاً بعالَم البرزخ، وعالم الخيال، وعالم القلب، وعالم الملكوت. ويُعبَّر عنه بالفارسيّة بـ «عالَمِ دِلْ». الثالث: عالَم العقل: ويدعي أيضاً بعالَم الروح، وعالم التجرّد عن المادّة والصورة، وعالم الجبروت. ويُعبَّر عنه بالفارسيّة بـ «عالَمِ جانْ». الرابع: العالم الربوبيّ: ويدعي أيضاً بعالَم اللاهوت. ويُعبَّر عنه بالفارسيّة بـ «جانِ جانْ» أو «عالَمِ جانانْ». وحين يريد الإنسان عبـور عالم الناسـوت والطـبع، سواء بالموت الاءراديّ وهو مـوت النفـس الامّـارة، أم بالمـوت القهـريّ، أي المـوت الطبيعيّ، فإنّه سيكون قد عبر عالَم القيامة الصغري. ذلك أنّ منازعة النفس الامّارة ومحاربتها في ميدان المجاهدة هو عبارة عن تحقّق القيامة الصغري، وأنّ عبور تلك المرحلة يعني العبور من القيامة الصغري. ثمّ إنّ المرء يري نفسـه حيـنذاك في عالم المثال، وينبغـي عليه المجاهدة أيضاً للعبور من ذلك العالم، حيث يدعي جهاده ذلك: قيام القيامة الوسـطي وتحقّقها. وهذا القيام والتحقّق يحصـل في عالم المثال والملكوت. أمّا العبـور من عالم المثال إلی عالم العقل والجبروت، فيدعي بالعبـور من القيامة الوسـطي. فإن ورد المـرء في عالـم العقل والجبـروت، توجّـب عليه المجاهـدة أيضـاً من أجل طـيّ مراحـل هذا العالم، ولذلـك تقـوم قيامته الكبـري الانفسـيّة وتتحقّق. ومن ثـمّ فإنّ القيامة الكـبري واقعة في عالم العقل والجـبروت، ويدعي عبـور عالم العقل والجبروت إلی عالم اللاهوت بالعبور من القيامة الكبري الانفسيّة. [22] ـ ورد هذا الحديث في بحار الانوار» ج 15، الجزء الثاني، ص 40، في الاخلاق، نقلاً عن «عدّة الداعي». [23] ـ ظاهـر عبارة المصـنّف رحمه الله في قولـه «وقد ورد»، أنّ مخاطبة الله القهّار للروح وجواب الروح قد وردا في حديث للمعصـوم، وقد صرّح البعض أيضاً بكونه حديثاً، إلاّ أ نّي لم أعثر عليه في كتب الحديث. وقد نُقل ما يشبه هذا الخطاب والعتاب من الله تعإلی للروح في كلام لافلاطـون في كتاب «تيماؤوس». وقد أورده المرحـوم السـيّد علی خان الكبيـر في «شـرح الصحـيفة السـجّاديّة» حسـب نقل «تلخيص الرياض» ج 1، ص 282. [24] ـ روي في «إحياء العلوم» ج 1، ص 85، عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم قال: أَبْغَضُ إلَهٍ عُبِدَ فِي الاَرْضِ عِنْدَ اللَهِ هُوَ الهَوَي. وقال في التعليقة: رواه الطبرانيّ من حديث أُمامة. وفي «المحجّة البيضاء» ج 1، ص 85، عن «إحياء العلوم»، وقال في تعليقته: أخرجه الطبرانيّ من حديث أُمامة كما في «المغني». [25] ـ حصر دعاء إبراهيم عليه السلام في هذه الآية في صنم النفس ممّا لا وجه له. ذلك أ نّنا إذا نظرنا إلی مراتب بطون القرآن الكريم وحقائقه، فإنّ الآية ستشمل جميع أنواع الاصنام، المصنوعة وغير المصنوعة، من النفس الامّارة والجنّ والملك والشيطان وأفراد الإنسان. وإذا نظرنا إلی ظاهر الآية ـ دون باطنها فإنّها ستكون عائدة إلی الاصنام المصنوعة فقط، لانّ إبراهيم عليه السلام قال في الآية التي تليها في مقام التعليل: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ. ومـن الجـليّ أنّ إبراهيم عليه السلام قد قام في ذلك العصـر في وجه عبادة الاصنام المصـنوعة التي كان الناس يعبدونها، وكان أكبر همّه عليه السلام تخليصهم من ذلك. أمّا الدعاء من الانبياء فهو ممدوح دائماً وفي أيّ مجال كان، سواء كان لاجتناب الاصنام المصنوعة أم حذراً من عبادة النفس الامّـارة، لانّ المنجي هو الله تعإلی علی أيّة حال، سواء في بداية الطريق أم بعد بلوغ المقامات والكمالات ؛ وهذه هي وجهة النظر الواقعيّة وحقيقة الامر. وأمّا بلحاظ الظاهر، فكما أنّ عبادة الاصنام الظاهريّة غير متصوّرة في حقّ إبراهيم وباقي الانبياء عليهم السلام، فإنّ عبادة النفس (الامّارة) غير متصوّرة كذلك في حقّهم. قصّة الجُنيد والجارية المُغنيّة[26] ـ جاء هذا الشـعر في «ريحـانة الادب» ج 1، ص 433، ضمن ترجمة الجُنيد، وهو شعر أنشدته جارية في زمن الجنيد. قال: وكلمات الجنـيد في العرفان وأُصول الطريقة مشـهورة ومدوّنة في الكتب المختصّة. ومن جملتها قوله: ما انتفعتُ بشيء كما انتفعتُ بهذه الابيات التي «تغنّت» بها جارية في أحد البيوت: إذَا قُلْتُ أَهْدَي الهَجْرُ لِي حُلَلَ البِلَي تَقُولِينَ لَوْلاَ الهَجْرُ لَمْ يَطِبِ الحُبُّ وَإنْ قُلْتُ هَذَا القَلْبُ أَحْرَقَهُ الهَوَي تَقُولِي بِنِيرَانِ الهَوَي شَرُفَ القَلْبُ وَإنْ قُلْتُ مَا أَذْنَبْتُ؟ قَالَتْ مُجِيبَةً وُجُودُكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ فلمّا سمعتها صحتُ صيحةً وسقطتُ مغشيّاً عَلَی، فجاءني صاحب الدار وسألني عن حإلی، فقلت: إنّ أبيات هذه الجارية فعلتْ بي هذا. فوهب لي صاحب الدار تلك الجارية، فأعتقتُها. [27] ـ يُلاحَظ أنّ المصنّف رحمه الله قد عدّ خطاب الله تعإلی لإبراهيم عليه السلام بلفظ «أسلِم» علی أ نّه الإسلام الاعظم، وعدّ استجابة إبراهيم عليه السلام بلفظ «أسلمتُ لربِّ العالَمين» علی أ نّها مرتبة أعلی من سابقتها، أي مرتبة الإيمان الاعظم. ولعلّه استفاد هذا المعني من إضافة كلمة «ربّ العالَمين»، لانّ التسليم بعد التصديق بفناء النفس مقابل مشاهدة آثار عظمة الله تعإلی بالنسبة إلی جميع الموجودات، ومشاهدة فناء النفس مقابل ربّ العالمين (الذي له جانب الربوبيّة لجميع الموجودات)، والاعتراف بهذا المعني ومشاهدته، هو الإيمان الاعظم. [28] ـ هذا البيت للحسـين بن منصـور الحلاّج، وقد أورده المرحـوم صدر المتأ لّهين في «الاسفار» ج 1، ص 116. |
|
|