|
|
الصفحة السابقةحديث الذُّبابالخامس: حديث الذُّباب. قال أبو ريّة: روي البخاريّ، وابن ماجة عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّي الله عليه وآله قال: إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ فَإنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالآخَرِ شِفَاءً. ولهذا الحديث ألفاظ مختلفة منها: فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سَمٌّ وَفِي الآخَرِ شِفَاءٌ وَإنَّهُ يُقَدِّمُ السَّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشَّفَاءَ. ومنها: إنَّ تَحْتَ جَنَاحِ الذُّبَابِ الاَيْمَنِ شِفَاءً وَتَحْتَ جَنَاحِهِ الاَيْسَرِ سَمّاً. فَإذَا سَقَطَ فِي إنَاءٍ أَوْ فِي شَرَابٍ أَوْ فِي مَرَقٍ فَاغْمِسُوهُ فِيهِ، فَإنَّهُ يَرْفَعُ عَنْهُ ذَلِكَ الجَنَاحَ الَّذِي تَحْتَهُ الشِّفَاءُ، وَيَحْفَظُ الَّذِي تَحْتَهُ السَّمُّ.[1] هذا الحديث قد وجد من نقد الباحثين ما لم يجده حديث آخر؛ ذلك بأنّ الذباب في نفسه قذر تنفر النفوس من رؤيته. فكيف يأمر النبيّ بغمسه إذا سقط في الإناء الذي فيه طعام أو شراب ثمّ يتعاطون بعد ذلك ما في الإناء ؟! ومنذ سبع عشرة سنة هبّ النطاسيّ البارع الدكتـور سالم محمّد يشكّ في هذا الحديث مرتكناً علي ما أثبته الحسّ والعلم، وأجمع عليه الاطبّاء قاطبة من ضرر الذباب، وأنّه أكبر أعداء الإنسان، لانّه يسبّب أمراضاً كثيرة تفتك بالملايين من البشر كلّ عام، فوقف في وجهه شيخ جامد يدرّس ـ للاسف الشريعة الإسلاميّة بإحدي الجامعات المصريّة، فرمي هذا الطبيب الفاضل بالجهل، وأنّه لم يحترم ( البخاريّ المقدّس ) . وقد رأيتُ حينئذٍ إنصافاً للعلم، وتنزيهاً لمقام النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم، وتأيـيداً لهذا الدكـتور الباحـث أن أنشـر في العـدد 964 24 كانون الاوّل سنة 1951 م من مجلّة « الرسالة » ـ كلمةً هذا نصّها: معركة الذباب قامت في الشهور الاخيرة معركة حامية بين مجلَّتَي « لواء الإسلام » ، والدكتور حول حديث الذباب. فالاُولي تتمسّك بهذا الحديث، وتصرّ علي إثباته، ليأخذ الناس به، ويصدّقوا بمدلوله، مرتكنة علي أنّ كتب الحديث قد أوردته ـ ومنها البخاريّ. وأمّا الثانية فتدفع هذا الحديث وتستبعد صدوره عن النبيّ الذي لاَ يَنْطِقُ عَنِ الهَوَي،[2] وحجّتها ما أثبته العلم وحقّقته التجربة من ضرر الذباب، وأنّه ناقل للعدوي في أمراض كثيرة. وإنّ المـرء ليأسي أن يقـوم إنسـان في هذا العصـر الذي زخرت فيه بحار العلم وأخرجت من عجائب المخترعات والمستكشفات ما يُدهش العقول، وتسابق أهلوه في مضمار ما استطاعوا للانتفاع بما خلق الله لهم وسخّره لعلومهم في السماوات والارض، متّخذين في ذلك كلّ سبب من أسباب العرفان والتجربة، فيشغل الناس بهذه الابحاث العقيمة التي لا تنفع ولا تفيد، بل هي إلي إساءة الدين أدني، وإلي ضرر الناس أقرب ! ولقد كان جديراً بمجلّة « لواء الإسلام » ألاّ تسوّد صفحاتها بمثل هذا البحث العقيم الذي يفتح ولا ريب علي الدين شبهة يستغلّها أعداؤه، ويتواري منها أولياؤه، وأن تدع الامر في مثل هذا الحديث إلي العلم وتجاربه، وما وصلت إليه أبحاثه الدقيقة التي لا يمكن نقضها، ولا يردّ حكمها ! وماذا يضرّ الدين إذا أثبت العلم ما يخالف حديثاً من الاحاديث التي جاءت من طريق الآحاد ؟! أمّا الاخبار التي جاءت من طريق الآحاد فإنّها لا تعطي اليقين، وإنّما تعطي الظنَّ الذي لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْـًا .[3] فللمسلم أن يأخذ بها ويصدّقها إذا اطمأنّ قلبه بها، وله أن يدعها إذا حاك في صدره شيء منها. وهذا أمر معروف عند النـظّار، ولا يعارض فيه إلاّ زوامل الاسـفار من الحشـويّة الجامدين الذين لا يُقام لهم وزن. وإذا نحن أخذنا حديث الذباب علي إطلاقه ولم نسلّط عليه أشعّة النقد فإنّا نجده من أحاديث الآحاد وهي التي تفيد الظنّ. فإذا لم يسعنا ذلك في ردّه بعد أن أثبت العلم بطلانه، فليسعنا ما وصفه العلماء من قواعد عامّة في ذلك، مثل: لَيْسَ كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ يَكُونَ مَتْنُهُ صَحِيحاً، وَلاَ كُلُّ مَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ يَكُونُ مَتْنُهُ غَيْرَ صَحِيحٍ. [4] وإذا قيل: إنّ هذا الحديث قد رواه البخاريّ، وهو لا يروي إلاّ ما كان صحيحاً، فإنّا نردّ علي ذلك بأنّه قد روي فيكتابه ما عدّه هو صحيحاً عملاً بظاهر الإسناد، لا ما ثبت أنّه صحيح في الواقع. ولذلك لا يلزم غيره ما اعتبره هو لنفسه. قال الزين العراقيّ في شرح ألفيّته: وحيث قال أهل الحديث: هذا حديث صحيح، فمرادهم فيما ظهر لنا عملاً بظاهر الإسناد، لا أنّه مقطوع بصحّته في نفس الامر لجواز الخطأ والنسيان علي الثقة. هذا هو الصحيح عند أهل العلم المحقّقين، ولهذه القاعدة قال ابن أبي ليلي: لاَ يَفْقَهُ الرَّجُلُ فِي الحَدِيـثِ حَتَّي يَأْخُـذَ مِنْهُ وَيَدَعَ ! ... أمّا راوي هذا الحـديث وهو أبو هريرة، فقد ردّوا له أحاديث كثيرة في حياته وبعد مماته، حتّي من التي صرّح بأنّه سمعها من النبيّ مثل حديث: خَلَقَ اللَهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ.[5] وإنّا نكتفي اليوم بهذه الكلمة القصيرة ونشكر لحضرة النطاسيّ البارع الدكتور سالم محمّد الذي أثار هذا البحث النافع. وندعوه وسائر زملائه الاطبّاء، ثمّ رجال العلم جميعاً من مهندسين، وفلكيّين، وجغرافيّين، وغيرهم أن يستمرّوا في أبحاثهم العلميّة النافعة بوسائلهم الصحيحة التي دعا إليها الإسلام، ولا تخشوا أحداً في ذلك... . المنصورة ـ محمود أبو ريّة وفي نفس اليوم الذي نشرت فيه مجلّة « الرسالة » هذه الكلمة، وهو يوم 24 / 12 / 1951 م تلقّيت من سيادة الدكتور سالم محمّد، وكان حينئذٍ مديراً لمستشفي كفر الشيخ، هذه البرقية ننشرها بنصّها لتسجّل علي وجه التأريخ. الاُستاذ محمود أبو ريّة بك ـ المنصورة ـ بمَقالِكَ مُغْتَبِطُونَ، وَلَكَ شَاكِرُونَ ! دكتور سالم محمّد ثمّ تحدّث الشيخ محمود أبو ريّة مفصّلاً عن هذا الحديث والردّ المفصّل الذي كتبه السيّد محمّد رشيد رضا ودحض فيه هذا الحديث بالدليل المتقن. وختم كلامه ببيان ضرر الذباب وقذارته عند العرب.[6] ومثل هذه الاحاديث المخالفة للواقع كثير عند العامّة. ولمّا كان سندها صحيحاً بزعمهم ـ كأحاديث عِكْرَمة، ومقاتل بن سليمان، وابن عمر، وعائشة، وابن الزبير، وكعب، وأمثالهم ـ فإنّهم يتمسّكون بها ولا يتركونها ويصرّون علي صحّة متونها ومضامينها بألف دليل سقيم غير وجيه. ومن هذه الاحاديث: الاحاديث المتعلّقة بالصلاة والصوم والنكاح والحجّ عندهم، كغسل الرِّجلين في الوضوء علي خلاف النصّ القرآنيّ، وغسل اليدين من أطراف الاصابع إلي المرافق علي عكس ما هو معتاد، فإنّهم يبـدأون من الاصابع ويخـتمون بالمرافق، من الاسـفل إلي الاعلي. وما زالوا يصرّون علي هذا الامر، لانّ الاجتهاد محظور في مذاهبهم. وكلّهم مضطرّون مقسورون علي أن يضعوا عقولهم تحت أقدامهم، ويقلّدوا أحد العلماء الاربعة الذين ربّما سبقهم أو جاء بعدهم مَن هو أعلم منهم. والسبب الآخر هو أنّهم يعتقـدون بعـدالة الصـحابة أيّاً كانوا حتّي معاوية بن أبي سفيان، وأبي هريرة الكذّاب. فلهذا يذهبون إلي صحّة كلّ حديث ينقلونه ويعملون بمفاده حتّي لو كان فيه مائة إشكال علي صعيد الرجال والدراية. نقاش عامل شيعيّ مع فؤاد الآلوسيّإنّ موضوع حديث الذباب لابي هريرة، وإصرار ذلك السنّيّ الحشويّ علي صحّته خلافاً للعقل والعلم ذكّراني بحكاية جميلة رائعة ذاتِ سَماعٍ نقلها لي أحد أصدقائي الاعزّاء، وهو: الحاجّ أبو علي موسي محيي نجل الحاجّ أبي موسي جعفر محيي، الذي وُلد في النجف الاشرف، وكان ساكناً في الكاظميّة. ونوردها فيما يأتي كما نقلها باللهجة العربيّة البغداديّة الدارجة غير الفصـيحة لمزيد اللطف ولفت الانظار كي لا يخلو كتابنا من ذكر مثل هذه اللهجة، ونكون قد استفدنا من أصل الموضوع. چَانْ شابْ سَاكِنْ بَغْدَادْ بَسْ بِالاَصْلِ نَجَفِي اسْمَه حَمُّودِي إبْن عَبْدِ الزَّهْـرَه أَلْكُرُكْچِـي، نِقَلِّي فَدْ يَومْ گَالْ طَبَّـيْتِ الْجَامِـعْ مَرْجَـانْ إبْـرَاسِ الشَّورْجَه أَصَلِّي فَرِحِتْ إلْمَحَلِّ الْوُضُو، وِابْدَيتْ بِالْوُضُو، إجَانِي الإمامي فُؤَادِ الآلُوسِي نِزَلْ عَلَيَّ عَبَالَكْ دَيْرِيدْ يِتْعَارَكْ وِيَّايَه. گَلِّي: وُلَكْ هَذَا اشْلَونْ وُضُو ؟! إلَي مَتَي تَُبْقُونْ مَتِفْتَهْمُونْ ؟! فَحَمُّودِي ايْگُولْ: إتْرِيدِ الصُّدُگْ، آنِي أَوَّلاً شَخِصْ عَامِلْ مَا أَگْدَرْ أجَادْلَه، أُو ثَانِياً آنِي عَصَبِي نَارْ كَبْرَه، وَلَكِنْ أَللَهْ سُبْحَانَه اوْ تَعَالَي ألْهَمْنِي اشْلَونْ أَحَاچِيه وَابْكُلْ بُرُودَه ! فَحَـمُّـودِي گَلَّه: شَـيْخَـنَه، مُمْكِـنِ اتْعَلِّـمْنِـي اشْـلَـونِ الْوُضُـوءِ الصَّحِيحِ ؟! إلْجَاهِلْ غَيرِ أيْعَلْمُو لَوْ يِتْعَارْكُونْ وِيَّا. الإمامي گَالْ: إبْنِي، چَفْ إيدَكْ إتْصَعْدَه لِيفَوگْ وِادِّيرِ الْمَايْ عَلَه چَفْ إيدَكْ لِيجَوَّه إلْحَدِّ الْعِكِسْ. حَمُّودِي گَلَّه: آنِي اهْوَايَه أَشْكُرَكْ ! بَسْ أَرِيدْ أَسْأَلْ مِنَّكْ: لُوَيشْ، يَعْنِي شِنُو السَّبَبْ ؟! الإمامي گَلَّه: إبْنِي الاْطِبَّاء إيعِرْفُوهَه الْهَايِ الشَّغْلَه. بِلْجِسِمْ أَكُو اثْقُوبْ يِسَمُّوهَه الْمَسَامَاتْ، فالْمَايْ لَمَّنْ يِنْزِلْ مِنْ فَوگْ لِيجَوَّه يِدْخُلِ ابْهَايِ الْمَسَامَاتْ فَلْوُضُو ايْصِيرْ صَحِيحْ ! حَمُّودِي گَلَّه: آنِي اهْوَايَه اَشْكُرَكْ وِانْتَه نَبَّهِتْنِي عَلَه شِي ثَانِي آنِي هَمَّينَه چِنِتْ مُدَّه امْنِ الزَّمَنْ مِشْتِبِهْ بِي ! الإمامي گَلَّه: شُنُو هُوَّه ؟! حَمُّودِي جَاوَبِه، گَلَّه: آنِي مِنْ چِنِتْ أَغْتِسِلْ غُسْلِ الْجَنَابَه، كُلْ غُسْلِي بَاطِلْ ! الإمامي گَلَّه: لُوَيشْ ؟! حَمُّودِي جَاوَبِه، گَلَّه: لاِ نَّهُ مِنْ چِنْتِ أغْتِسِلْ أَوگَفُ او أَغْتِسِلْ فَهَسَّه بَعَدْ مَا نَبَّهِتْنِي عَنْ هَايِ لِزْرُوفْ إلِّي بِلْجِسِمْ، جَوَّه الدُّوشْ لاَزِمْ وَكْتِ الْغُسُلْ أَضْرُبْ چُقْلُنْبَه، يَعْنِي أَصَعِّدْ رِجْلِي لِيفَوگْ، أُوْ رَاسِي لِيجَوَّه ! الإمامي گَلَّه: إي هَايْ لَيشْ ؟! حَمُّودِي جَاوَبَه، گَلَّه: مُو إنْتَه اللِّي گِلِتْ إلْمَايْ لاَزِمِ ايطُبْ بِزْرُوفِ الْجِلِدْ ! الإمامي گَلَّه الْحَمُّودِي: وُلَكْ إنْتُو اشْلَونْ مِلَّه مَحَّدْ يِگْدَرْ عَلَيكُمْ ! دعم الآلوسيّ لجريمة نجيب باشاعلماً أنّ فؤاد الآلوسيّ هو من أحفاد السيّد محمود بن السيّد عبد الله الآلوسيّ صاحب تفسير « روح المعاني » ، وكان يسكن في بغداد، وله مقام الإفتاء فيها علي المذهب الحنفيّ أيّام السلطان محمود وابنه السلطان عبد المجيد العثمانيَّين، مع أنّه كان سلفيّ الاعتقاد في الاُصول شافعيّ المذهب في الفروع. وشهد هذا الرجل غارة محمّد نجيب باشا علي كربلإ والمذبحة التي ارتكبها بحقّ أهلها بأمر من الحكومة العثمانيّة، وهاجم دورها ما عدا دار السيّد كاظم الرشتيّ. فنظم الآلوسيّ ـ بوصفه قاضي العسكر بيتين من الشعر يفتخر بهما بقتل شيعة كربلإ، الذين قتل منهم تسـعة آلاف خلال ثلاثة أيّام. ونوردهـما هنا نقلاً عن كتاب « زنبـيل » للمرحوم الحاجّ فرهاد ميرزا رضوان الله عليه.[7] علماً أنّ من استطاع الفرار من الناس فقد فرّ، ومن لم يستطع فقد قُتل. وكُسرت الالواح في الروضة المنوّرة، وجُرحت قلوب الاحبّة، وَكَانَ مَا كَانَ وَوَقَع مَا وَقَعَ . وبعد المذبحة الجماعيّة صدر قرار بأمر الولاية، ورجع في الرابع عشـر من الشـهر المـذكـور. ونظـم ابن الآلـوسيّ، الذي كان من فضـلاء أهل السـنّة وكان قاضـياً لعسـكر محـمّد نجـيب باشـا، البيتـين الآتيـين آنذاك: أَحُسَيْنُ دَنَّسَ طِيبَ مَرْقَدِكَ الاُولَي رَفَضُوا الهُدَي وَعَلَي الضَّلاَلِ تَرَدَّدُوا حَتَّي جَرَي قَلَمُ القَضَاءِ بِطُهْرِهَا يَوْماً فَطَهَّرَهَا النَّجِيبُ مُحَمَّدُ[8] السادس: حديث: خَلَقَ اللَهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ. قال أبو ريّة: روي مسلم في كتابه عن أبي هريرة: أَخَذَ رَسُولُ اللَهِ بِيَدِي ! فَقَالَ: خَلَقَ اللَهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الجِبَالَ يَوْمَ الاَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثَّلاَثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الاَرْبَعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي آخِرِ الخَلْقِ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ الجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إلَي اللَّيْلِ.[9] حديث خلق الارض في سبعة أيّام !وقد روي هذا الحديث كذلك الإمام أحمد ، والنسائيّ عن أبي هريرة ، ورواية النسائيّ: إنَّ اللَهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي عَلَي العَرْشِ فِي اليَوْمِ السَّابِعِ. وقد ذكر الائمّة ومنهم البخاريّ في « التاريخ الكبير » وابن كثير أنّ أبا هريرة قد تلقّي هذا الحديث عن كعب الاحبار، لأنّه يخالف نصّ القرآن في أنّه خلق السماوات والارض في ستّة أيّام !! وممّا يدلّ علي أنّ أبا هريرة قد استقي هذا الحديث من كعب الاحبار كما نصّ الائمّة علي ذلك، وأنّه من نبع إسرائيليّ، أنّ هناك خبراً آخر يشابهه مرويّاً عن عبد الله بن سلام ـ الذي كان من أحبار اليهود وأسلم رواه الطبرانيّ،[10] وهذا نصّه: إنَّ اللَهَ بَدَأَ الخَلْقَ يَوْمَ الاَحَدِ فَخَلَقَ الاَرَضِينَ فِي الاحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الاَقْوَاتَ وَالرَّوَاسِيَ فِي الثَّلاَثَاءِ وَالاَرْبَعَاءِ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ فِي الخَمِيسِ وَالجُمُعَةِ، وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ عَلَي عَجَلٍ. فَتِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا السَّاعَةُ. وعبد الله بن سلام هذا قد حدّث عنه أبو هريرة كما حدّث عن كعب الاحبار.[11] ومن العجيب أنّ أبا هريـرة قد صرّح في هذا الحـديث بسماعه من النبيّ وأنّه صلّي الله عليه وآله قد أخذ بيده حين حدّثه به. وإنّي لاتحدّي الذين يزعمون أنّهم علي شيء من علم الحديث، أن يحلّوا هذا المشكل وأن يخرجوا شيخهم من هذه الورطة التي ارتطم فيها ! إنّ الحديث صحيح السند علي قواعدهم، لا خلاف في ذلك بينهم، وقد رواه مسلم في صحيحه. ولم يصرّح بسماعه من النبيّ فحسب، بل زعم أنّ رسول الله قد أخذ بيده وهو يحدّثه به. وقد قضي أئمّة الحديث بأنّ أبا هريرة قد أخذه من كعب الاحبار وأنّه مخالف للكتاب العزيز. ولو رواه عنعنةً لقلنا عسي، ولالتمسنا له مخرجاً يخرج منه، ولكنّه صرّح بسماعه ووضع يده في يد النبيّ عندما تلقّاه منه. فمثل هذه الرواية تعـدّ ولا ريب كذباً صراحاً وافتراءً علي رسول الله، فما حكم من يقترفها ؟! وهل تدخل تحت طائلة حكم حديث الرسول: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ؟ أم هناك مخرج لراوي هذا الحديث بذاته، لأنّه صاحب الثوب، والوعاءين، والمِزْوَد ؟ [12] إنّي والله لفي حاجة إلي الانتفاع بالجواب المقنع عن ذلك ! لانّ هذا الحديث وحده لو حقّق لإنسان نظره فيه وأمعن في ظاهره ومطاويه، لكشـف ولا ريب عن حقيقة روايات أبي هـريـرة كلّها. لأنّه إذا كان هذا شأنه في رواية ما يصرّح بسماعه بأذنه من النبيّ صلّي الله عليه وآله، فكيف يكون الامر فيما يرويه عنعنةً عن غيره ؟! ولقد أحسـن علماؤنا في تكـذيـب هذا الحـديث، وأن يقطـعوا بأنّ أبا هريرة قد كذب في أنّه رواه عن النبيّ. وأنّه قد تلقّاه عن كعب الاحبار اليهوديّ الذي لم يكن له من عمل إلاّ أن يدسّ في الإسلام ما يشوّه بهاءه، وأن يفتح باب الطعن في علم من جاء به... . روي أحمد عن أبي هريرة أنّه قال: إنَّ رَسُولَ اللَهِ قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ رَايَاتٌ سُودٌ لاَ يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّي تُنْصَبَ بِإيلِيَا ! ( إيليا في الشام ) . رواه البيهقيّ، وقد قال الحافظ ابن كثير: إنّه من كعب الاحبار،[13] وليس كلام رسول الله. قال أبو ريّة في الصفحات الاخيرة من الكتاب: وقد طعن في هذا الحديث الائمّة، وقالوا: إنّه ليس من قول النبيّ صلّي الله عليه وآله، وجزموا بأنّه من قول كعب الاحبار، وإليك ما قاله ابن تيميّة الذي يلقّبه أهل السنّة بشيخ الإسلام. قال: وأمّا الحديث الذي رواه مسلم في قوله: خَلَق اللَهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ فهو حديث معلول ، قدح فيه أئمّة الحديث كالبخاريّ وغيره . قال البخاريّ : الصحيح أنّه موقوف علي كعب الاحبار، وقد ذكر تعليله البيهقيّ أيضاً وبيّنوا أنّه غلط، ليس ممّا رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم. وهو ما أنكر الحذّاق علي مسلم إخراجه إيّاه. وقال: وقد نوزع مسلم بن الحجّاج في عدّة أحاديث ممّا خرّجها، وكان الصـواب مع من نازعه. كما روي في حديث الكسـوف أنّ النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم صلّي بثلاث ركوعات، والصواب أنّه لم يصلّ إلاّ بركوعين. وكذلك روي مسلم: خَلَقَ اللَهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ . ونازعه فيه من هو أعلم منه كيحيي بن معين، والبخاريّ فبيّنوا أنّه غلط وليس من كلام النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم، والحجّة مع هؤلاء. فإنّه قد ثبت بالكتاب والسنّة والإجماع أَنَّ اللَهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وكذلك روي أنّ أبا سفيان لمّا أسلم طلب من النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم أن يتزوّج بأُمّ حبيبة، وأن يتّخذ معاوية كاتباً له. وغلّطه في ذلك طائفة من الحفّاظ. وذلك بأنّ النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم قد تزوّج بأُمّ حبيبة وأبو سفيان كافر ![14] أجل، لقد بذل معاوية قصاري جهده علي جبهتين: جبهة الدعايات والاحاديث الموضوعة؛ وجبهة الحرب والمذابح المتكرّرة التي ارتكبها بحقّ الشيعة فتمكّن من الإطاحة بالنبوّة واستبدال المَلَكيّة بها. كما تمكّن من اجتـثاث الحـياة المعـنويّة من جـذورها، وإحلال شـجرة الاستبـداد والطاغوتيّة الحنظليّة محلّها علي امتداد أربعين سنة من حكومته بالشام يوم كان أمير اً عليها في العشرين سنة الاُولي، ويوم تقمّص خلافة المسلمين في العشـرين الثانية. ومع أنّ للحكّام الغاصـبين الذين سبقوه قسـطاً كبيراً في هذا الامر ـ إذ انطلق السهم من سقيفتهم حقّاً واستقرّ في حلقوم عليّ الاصغر لكنّ هذا الطاغي المكّار الغدّار الاثيم قد بزّهم في تنفيذ خطّته وبلوغ هدفه المنشود. لقد كان وضع الاحاديث وقتل الشيعة المظلومين وأسرهم أشياء مألوفة منذ البداية، بَيدَ أنّها نضجت وتطوّرت أكثر فأكثر في عهد معاوية. بعض الاحاديث الموضوعةقال المحدّث القمّيّ رحمه الله في بعض الاحاديث الموضوعة: ذكر بعض الاحاديث الموضوعة عن الصنعانيّ من علماء العامّة أنّه قال في كتاب « الدُّرر الملتقطة » : ومن الموضوعات ما زعموا أنّ النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم قال: إنَّ اللَهَ يَتَجَلَّي لِلْخَلاَيِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَامَّةً، وَيَتَجَلَّي لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ خَاصَّةً ! وأنّه قال: حَدَّثَنِي جَبْرَئِيلُ: إنَّ اللَهَ تَعَالَي لَمَّا خَلَقَ الاَرْوَاحَ اخْتَارَ رُوحَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الاَرْوَاحِ. ثمّ قال الصنعانيّ: وأنا أنتسب إلي عمر، وأقول فيه الحقّ لقول النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم: قُولُوا الحَقَّ وَلَوْ عَلَي أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ! فمن الموضوعات ما روي: إنَّ أَوَّلَ مَا يُعْطَي كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَلَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ. قِيلَ: فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ ؟ قَالَ: سَرَقَتْهُ المَلاَئِكَةُ! وقال الصنعانيّ: ومنها: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَر قُتِلَ، وَمَنْ سَبَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا جُلِدَ الحَدَّ . إلي غير ذلك من الاحاديث المختلفة. ومن الموضوعات : زُرْ غِبَّاً تَزْدَدْ حُبَّاً ! النَّظَرُ إلَي الخُضْرَةِ تَزِيدُ فِي البَصَرِ. مَنْ قَادَ أَعْمَي أَرْبَعِينَ خُطْوَةً غَفَرَ اللَهُ لَهُ. العِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الاَبْدَانِ وَعِلْمُ الاَدْيَانِ. الجَنَّةُ دَارُ الاَسْخِيَاءِ. طَاعَةُ النِّسَاءِ نَدَامَةٌ. دَفْنُ البَنَاتِ مِنَ المَكْرُمَاتِ. اطْلُبُوا الخَيْرَ عِنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ ! لاَ هَمَّ إلاَّ هَمُّ الدَّيْنِ. لاَ وَجَعَ إلاَّ وَجَعُ العَيْنِ. المَوْتُ كَفَّارَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. إنَّ التُّجَّارَ هُمُ الفُجَّارُ . إلي غير ذلك.[15] هل كان نهج معاوية في حكمه القائم علي القتل والدعايات بُغية بقاء مُلكه واستمراره من بنات أفكاره أو كان متأسّياً بمن سبقه من الحكّام الذين انتهجوا هذا الاُسلوب من أجل المحافظة علي سياستهم وإمارتهم ؟ لقد هدّد عمر بحـرق بيت فاطـمة توطـيداً للبيعة، وصَرَفَ الآية الكريمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَـ'مَ دِينًا[16] التي نزلت في عيد الغدير يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، والادلّة التأريخيّة القطعيّة علي ذلك كثيرة لا يأتي عليها الإحصاء عن موضوعها الحقيقيّ، وذكر أنّها نزلت يوم عرفة. أليس هذا التحريف وضعاً ودسّاً وتزويراً في التأريخ والتفسير والحديث ؟! تحدّث الدكتور السيّد محمّد التيجانيّ التونسيّ عن هذه الآية وذكر أنّ اليهود والنصاري قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً. وأورد أحاديثاً عن « صحيح البخاريّ » ،[17] و « الدرّ المنثور »[18] للسيوطيّ، يقول فيها عمر: إنّي لاعلم أيّ مكان أُنزلت، أُنزلت ورسول الله واقف علي جبل الرحمة يوم عرفة. ثمّ قال التيجانيّ: ولا يستبعد أن يكون عمر بن الخطّاب نفسه هو الذي صرف نزولها إلي يوم عرفة، لانّه كان بطل المعارضة لخلافة عليّ، كما كان هو مؤسّس ومشيّد البيعة لابي بكر يوم السقيفة حتّي وصل به الامر إلي تهديد المتخلّفين عنها في بيت فاطمة الزهراء بحرق البيت بمن فيه إن لم يخرجوا لبيعة أبي بكر.[19] نبذة تأريخيّة عن الوهّابيّةفمن كانت همّته بهذه القوّة وعزيمته بهذه الشدّة لا يصعب عليه إقناع الناس بأنّ الآية إنّما نزلت يوم عرفة. وإذا كان النصّ بالخلافة علي عليّ بن أبي طالب قد حرفوه عن حقيقته وباغتوا الناس ( بما فيهم عليّاً نفسه والذين كانوا منشغلين معه بتجهيز الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم ودفنه ) بالبيعة لابي بكر في سقيفة بني ساعدة علي حين غفلة، وضربوا بنصوص الغدير عرض الجدار، وجعلوه نسياً منسيّاً، فهل يمكن لايّ أحد بعد الذي وقع أن يحتجّ بنزول الآية يوم الغدير ؟! وتلك السلسلة هي التي أسّست الوهّابيّة وروّجتها.[20] أبو بكر وعمر أوّل الوضّاعينفليست الآية أوضح في مفهومها من حديث الولاية، وإنّما تحمل معناها إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الربّ فليكن ذلك اليوم ( عند عمر ) عيداً بالمعني، لا بالفعل ![21] وذكر السيّد هاشم البحرانيّ رواية مفصّلة عن كتاب سليم بن قيس في احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام علي أبي بكر بعد غصب الخلافة، وإلزامه بحقّانيّته وحقّه، إلي أن بلغ كلام أبي بكر إذ قال: كلّما قلت حقٌّ قد سمعناه بآذاننا وعرفناه ووعته قلوبنا ولكن سمعتُ رسول الله صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم يقول: إنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اصْطَفَانَا اللَهُ تَعَالَي وَاخْتَارَ لَنَا الآخِرَةِ عَلَي الدُّنْيَا، فَإنَّ اللَهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ لَنَا أَهْلَ البَيْتِ النُّبُوَّةَ وَالخِلاَفَةَ ! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: هل أحد من أصحاب رسول الله شهد هذا معك ؟ فقال عمر: صدق خلـيفة رسول الله قد سمعـته منه كما قال. وقال أبو عُبـيدة، وسالـم مولي حُذيـفة، ومعاذ بن جبل: قد سمعـنا ذلك من رسول الله ! فقال لهم عليّ عليه السلام: لقد وفيتم بصحيفتكم التي تعاهـدتم عليها في الكعبة إن قتل الله محمّداً ومات لنذودُّنَّ هذا الامر عنّا أهل البيت ![22] نلحظ هنا بوضوح أنّ أبا بكر نفسه قد وضع حديثاً، وصدّقه عليه أقطـاب بيعة السـقيفة: عمر، وسالم، وأبو عُبـيدة، ومعاذ. ولكـن أيّ حديث هذا وهو مخالف للقرآن والاُصول الإسلاميّة الثابتة ؟! ومخالف أيضاً للاحاديث القطعيّة والادلّة العقليّة والنقليّة ؟! وأيّ حديث هذا الذي لم يسمعه أهل البيت، والمهاجرون والانصار إلاّ أفراداً قلائل منهم ؟! الله وحده أعلم ! لقد تحدّثنا سابقاً عن سقم هذا المنطق القائل بتعذّر الجمع بين النبوّة والخلافة، وبعده عن العقل في هذه الدورة من المعارف والعلوم، فيُرجع إليه للاطّلاع علي أساس هذا الموضوع وأصله.[23] ألم يكن أبو بكر نفسه فارس الحلبة في وضع هذا الحديث: نَحْنُ مَعَاشِرَ الاَنْبِياءِ لاَ نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ ؟ [24] هذا الحديث يعارض منطوق عموم آية الإرث في القرآن الكريم، ولم يسمعه أحد المسلمين من النبيّ لا في مكّة ولا في المدينة، ولا في سفر ولا في حضر، ولا في الغزوات ولا في أيّام السلم، ولا ولا ولا... فكيف يظهر أعرابيّ بغتةً بعد وفاة النبيّ فيصير هو وأبو بكر شاهِدَي صِدْقٍ، ويسلبا فاطمة الزهراء سلام الله عليها حقّها عناداً واستكباراً وتوحّشاً ؟! ألم يكن هذا الامر قد جري بإشراف مباشر من لدن أبي بكر وعمر ؟!
صلاح الدين الايّوبيّ يقتل الشيعة في حلبقتل صلاح الدين الايّوبيّ الشيعة في حَلَب وسجن العلويّين في مصر وفصل الرجال عن النساء قطعاً لنسل الشيعة وهو أوّل من اتّخذ يوم عاشورا عيداً في مصر كان قتل الشيعة ونهبهم وأسرهم من جهة، ووضع الاحاديث ضدّهم وخلع أُمرائهم وقضاتهم وحكّامهم ومفتيهم من جهة أُخري، منذ غصب الخلافة حتّي اليوم أُموراً مألوفةً وشائعة في العالم. ويعود هذا إلي استقلالهم الفكريّ ومنهاجهم الاصيل. وكلّ شخصٍ كان يتقلّد الامر ويقبض علي السلطة يمارس ضروب الضغط والتنكيل ضدّهم خوفاً من نهضتهم ضدّ الظلم والجور، وخشيةً من تأسيسهم حكومة مسـتقلّـة. وأفضـل دليل نذكـره كنمـوذج علي ذلـك هو أنّ صـلاح الدين الايّوبيّ عندما استولي علي الحكم عزل الخليفة الفاطميّ العاضد، وألوي بالحكومة الفاطميّة التي امتدّت في مصر وأفريقية مائتين واثنتين وسبعين سنة. قال آية الله المحقّق الخبير السيّد محسن الامين العامليّ رحمه الله: فولّي العاضدُ صلاح الدين الوزارة، ولقّبه بالملك الناصر. ويقول أبو الفداء في تاريـخه: إنّه تاب عن شرب الخـمر، وضعـف أمر العاضـد، وعزل صلاح الدين قضـاة المصـريّين، وكانـوا شيعة إسماعيلـيّة، ورتّـب قضـاة شافعيّة. وفي سنة 567 قطع خطبة العاضد وخطب للعبّاسيّين. وكان العاضد مريضاً، فتُوفّي ولم يعلم بقطع خطبته. واستولي علي قصـر الخـلافة وجمـيع ما فيه، وكان يخـرج عن الإحصاء. وكانت مدّة ملكهم 272 سنة. وحبس صلاح الدين العلويّين، ومنع الرجال من النساء حتّي لا يتناسلوا. وهو أوّل من جعل يوم عاشوراء عيداً بمصر [25]. قال آية الله الشيخ محمّد حسين المظفّر في هذا المجال: كان التشيّع مخـيّماً علي القاهرة، وضارباً أطنابه في القري والبلـدان، إلي أن قوي صلاح الدين يوسف الايّوبيّ ، وبلغ من الشأن أن استوزره العاضد لدين الله الفاطميّ. فكان جزاؤه منه حينما عرف من نفسه القوّة والغلبة أن حَجَرَ علي العاضد ومنعه من الخروج واستلب جميع ما لديه من الصفايا والاموال حتّي لم يبق عنده إلاّ فرس واحد. وبعد ذلك استلبه منه. ثمّ شرع في قلب الدولة والدعوة للمستنصر بأمر الله العبّاسيّ ببغداد، فساعده الطالع علي ما أراد. فدعا للعبّاسيّ، والفاطميّ مسجّي علي فراش المرض. فلم يعلم بالحال حتّي جاءه الموت.[26] ولمّا تمهّدت للايّوبيّ قواعد الدولة أوقع بالاُمراء والجند، وأنشأ بمدينة مصر مدرسة للفقهاء الشافعيّة، وأُخري للمالكيّة. وصرف قضاة الشيعة كلّهم. وفوّض القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارتيّ الشافعيّ، فلم يستنب عنه في إقليم مصر إلاّ من كان شافعيّ المذهب.[27] فتظاهر الناس من ذلك اليوم بما كان عليه هوي الملك. وكيف لا يختفي مذهب أهل البيت والايّوبيّ يستقدم العلماء الذين علي رأيه، ويبني المدارس ويخصّص لها الرواتب، ويحمل الناس علي عقيدة الاشعريّ. ومَن خالف ضُربت عُنقه. وساعد علي ذلك أنّ السلطان نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي تعصّب فنشر مذهب أبي حنيفة في بلاد الشام. فما زال من ذلك الوقت تنتشر مذاهبهم وتقوي، وتزداد فقهاؤهم، وتكثر بمصر والشام. وجروا علي ذلك في جميع البلاد التي لهم عليها سلطان، وعُودِيَ مَن تمذهب بغيرها، وأُنكر عليه. ولم يُولَّ قاضٍ ولا قُبلت شهادة أحد. ولا قُدِّم للخطابة والإمامة والتدريس إنسانٌ ما لم يكن مقلّداً لاحد المذاهب الاربعة. وافتي فقهاؤهم في طول مدّة الايّوبيّين وبعدهم بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها.[28] وما قنع الايّوبيّ بما ارتكبه من الفاطميّين ومذهب أهل البيت حتّي ناصب العداء للبيت الطاهر نفسه. فقابل الشيعة والفاطميّين بالعكس ممّا كانوا يعملونه يوم عاشوراء. قال المقريزيّ في ج 2 ، ص 385 : كان الفاطميّيون يتّخذون يوم عاشوراء يوم حزن تتعطّل فيه الاسواق ويعمل فيه السماط العظيم المسمّي سماط الحزن وكان يصل إلي الناس منه شيء كثير. فلمّا زالت الدولة اتّخذ الملوك من بني أيّوب يوم عاشوراء يوم سرور يوسّعون فيه علي عيالهم، ويتبسّطون في المطاعم، ويصنعون الحلاوات، ويتّخذون الاواني الجديدة، ويدخلون الحمّام جرياً علي عادة أهل الشام التي سنّها لهم الحجّاج أيّام عبد الملك بن مروان ليرغموا بذلك آناف شيعة عليّ بن أبي طالب، الذين يتّخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن علي الحسين بن عليّ، لانّه قُتل فيه. وقد أدركنا بقايا ممّا عمله بنو أيّوب من اتّخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسّط. لا أدري إذا كان الايّوبيّون أعداء بني فاطمة فهل ساغ لهم أن يعادوا الرسول وأهل بيته ؟ ولماذا صنعوا يوم مقتل الحسين عيداً، وقد بكاه الرسول وحزن عليه قبل ذلك اليوم بعشرات السنين والحسين في الاحياء ؟ وإنّ الاغرب أن يُطري الايّوبيّ ويكال له المدح جزافاً وهو صاحب يوم عاشوراء ! فـ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَ جِعُونَ ! [29] سبب كتمان النصوص المأثورة في أهل البيت عليهم السلام تحدّث آية الله المتضلّع الخبير والعالم الواعي البصير في عصرنا المرحوم السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ عن سرّ كتمان فضائل أهل البيت، والاحاديث المدسوسة الموضوعة، والظلامة التي عانوا منها بسردٍ رائع وتفصيلٍ مُطَعَّمٍ بالدليل. ولمّا كان حديثه غنيّاً بالموضوعات الواعية الواقعيّة، فمن الخليق بنا أن نورده هنا. قال السيّد المذكور في جواب الشيخ سليم البشريّ المصريّ زعيم السنّة في العالم والعميد العلميّ للازهر حين سـأله عن سبـب خلوّ صحاح السـنّة ومسـانيـدهم من تلـك النصوص الجليّة: أمّا عدم إخراج تلك النصوص فإنّما هو لشنشنة نعرفها لكلّ من أضمر لآل محمّد حسيكةً، وأبطن لهم الغلّ من حزب الفراعنة في الصدر الاوّل، وعَبَدة أُولي السلطة والتغلّب الذين بذلوا في إخفاء فضل أهل البيت وإطفاء نورهم كلّ حول وكلّ طول، وكلّ ما لديهم من قوّة وجبروت، وحملوا الناس كافّة علي مصادرة مناقبهم وخصائصهم بكلّ ترغيب وترهيب، وأجلبوا علي ذلك تارة بدراهمهم ودنانيرهم، وأُخري بوظائفهم ومناصبهم، ومرّة بسياطهم وسيوفهم، يُدنونَ من كذّب بها، ويُقصون مَن صدّق بها، أو ينفونه أو يقتلونه، وأنت تعلم أنّ نصوص الإمامة وعهود الخلافة لمّا يخشي الظالمون منها أن تدمّر عروشهم وتنقض أساس ملكهم، فسلامتها منهم ومن أوليائهم المتزلّفين إليهم، ووصولها إلينا بالاسانيد المتعدّدة، والطرق المختلفة، آية من آيات الصدق، ومعجزة من معجزات الحقّ، إذ كان المستبدّون بحقّ أهل البيت والمستأثرون بمراتبهم التي رتّبهم الله فيها، يسومون من يتّهمونه بحبّهم سوء العذاب، يحلقون لحيته، ويطوفون به في الاسواق، ثمّ يُرَذِّلونه ويُسقطونه ويحرمونه من كلّ حقّ، حتّي ييأس من عدل الولاة،[30] ويقنط من معاشرة الرعيّة، فإذا ذكر عليّاً ذاكرٌ بخير برئت منه الذمّة وحلّت بساحته النقمة، فتُستصفي أمواله، وتضرب عنقه، وكم استلّوا ألسنةً نطقت بفضله، وسملوا أعيناً رمقته باحترام، وقطعوا أيدياً أشارت إليه بمنقبة، ونشروا أرجلاً سعت نحوه بعاطفة، وكم حرقوا علي أوليائه بيوتهم، واجتثّوا نخيلهم، ثمّ صلبوهم علي جذوعها، أو شرّدوهم عن عقر ديارهم. فكانوا طرائق قدداً. وكان في حَمَلة الحديث وحفظة الآثار، قوم يعبدون أولئك الملوك الجبابرة وولاتهم من دون الله عزّ وجلّ ، ويتزلّفون إليهم بكلّ ما لديهم من تصحيف، وتحريف، وتصحيح، وتضعيف، كالذين نراهم في زماننا هذا من شيوخ التزلّف وعلماء الوظائف وقضاة السوء، يتسابقون إلي مرضاة الحكّام بتأييد سياسـتهم عادلة كانـت أو جائـرة، وتصحـيح أحكامـهم، صحيحة كانت أو فاسدة، فلا يسألهم الحاكم فتوي تؤيّد حكمه، أو تقمع خصمه إلاّ بادروا إليها علي ما تقتضيه رغبته، وتستوجبه سياسته، وإن خالفوا نصوص الكتاب والسنّة، وخرقوا إجماع الاُمّة، حرصاً علي منصب يخافون العزل عنه، أو يطمعون في الوصول إليه، وشتّان بين هؤلاء وأولئك، فإنّه لا قيمة لهؤلاء عند حكوماتهم، أمّا أولئك فقد كانت حاجة الملوك إليهم عظيمة، إذ كانوا يحاربون الله ورسوله بهم، ولذا كانوا عند الملوك والولاة أُولي منزلة سامية، وشفاعة مقبولة فكانت لهم بسبب ذلك صولة ودولة وكانوا يتعصّبون علي الاحاديث الصحيحة إذا تضمّنت فضيلة لعليّ أو لغيره من أهل بيت النبوّة، فيردّونها بكلّ شدّة، ويسقطونها بكلّ عنف، وينسبون رواتها إلي الرفض ـ والرفض أخبث شيء عندهم هذه سيرتهم في السنن الواردة في عليّ، ولا سيّما إذا تشبّث الشيعة بها، وكان لاولئك المتزلّفين من يرفع ذكرهم من الخاصّة في كلّ قطر، ولهم من يروّج رأيهم من طلبة العلم الدنيويّين، ومن المرائين بالزهد والعبادة ومن الزعماء وشيوخ العشائر، فإذا سمع هؤلاء ما يقولون في ردّ تلك الاحاديث الصحيحة اتّخذوا قولهم حجّة، وروّجوه عند العامّة والهمج، وأشاعوه وأذاعوه في كلّ مصر ، وجعلوه أصلاً من الاُصول المتّبعة في كلّ عصر . وهناك قوم آخرون من حَمَلَة الحديث في تلك الايّام، اضطرّهم الخوف إلي ترك التحديث بالمأثور من فضل عليّ وأهل البيت وكان هؤلاء المساكين إذا سئلوا عمّا يقوله أُولئك المتزلّفون في ردّ السنن الصحيحة المشتملة علي فضل عليّ وأهل البيت يخافون ـ من مبادهة العامّة بغير ما عندهم أن تقع فتنة عمياء بكماء صمّاء فكانوا يضطرّون في الجواب إلي اللواذ بالمعاريض من القول، خوفاً من تألّب أُولئك المتزلّفين، ومروّجيهم من الخاصّة، وتأ لّب مَن ينعق معهم مِن العامّة ورعاع الناس. وكان الملوك والولاة أمروا الناس بلعن أمير المؤمنين، وضيّقوا عليهم في ذلك، وحملوهم بالنقود وبالجنود، وبالوعيد والوعود، علي تنقيصه وذمّه وصوّروه للناشئة في كتاتيبها بصورة تشمئزّ منها النفوس وحدّثوها عنه بما تستكّ منها المسامع وجعلوا لعنه علي منابر المسلمين من سنن العيدين والجـمعة، فلولا أنّ نور الله لا يُطفأ وفضل أوليائه لا يخفي، ما وصلـت إلينا السـنن من طريق الفريقـين صحيـحة صريـحة بخـلافته ولا تواترت النصوص بفضله ! وَإنِّي وَاللَهِ لاَعْجَبُ مِنَ الفَضْلِ البَاهِرِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ عَبْدَهُ وَأَخَا رَسُولِهِ عَلِيُّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، كَيْفَ خَرَقَ نُورُهُ الحُجُبَ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ المُتَرَاكِمَةِ وَالاَمْوَاجِ المُتَلاَطِمَةِ، فَأَشْرَقَ عَلَي العَالَمِ كَالشَّمْسِ فِي رَائِعَةِ النَّهَارِ. [31] الموالاة والبراءة أصلان ثابتان من أُصول الشيعةأجل، يستبين ممّا ذكرناه منهج الشيعة ومنهاجهم وسنّتهم في جميع مراحل الاعتقاد والفكر والعمل في مقابل غيرهم من جميع المذاهب الاربعة والظاهريّة والخوارج وسواهم. وقد جعل الشيعة أساس عملهم دعامة الحقّ، واستهدوا بالكتاب والسنّة فرأوا أنّ موالاة أولياء الله والبراءة من أعدائهم جزءاً لا يتجزّأ من أُصولهم وعقائدهم، وعرفوا التشيّع علي أنّه التعبّد بولاية الائمّة الاثني عشر في كافّة الاُمور وفي مراحل الاخذ والبطش والفكر والفعل في الحياة والممات، بَيدَ أنّ العامّة بجميع أقسامهم وأصنافهم يرون أنّ كلام الخلفاء حجّة في مقابل الكتاب والسنّة، وجعلوه من شؤونهم العمليّة اليوميّة، وقدّموا الاعتباريّات علي الحقائق. إنّ الاشاعـرة أغلـظ من المعـتزلة في الفكـر والعـقيدة والعـمل، والمعتزلة قريبون من الشيعة في عقائد كثيرة، إلاّ أنّهم لا يبرأون من الشيخين، بل يرونهما، وعثمان، وأمير المؤمنين عليه السلام خلفاء حقيقيّين. ويذهب المعتزلة إلي أنّ معاوية رجل خبيث فاسد علي عكس الاشاعرة الذين كانوا يقدّسونه، وجميع بني أُميّة وبني مروان. والمعتزلة ملمّون بالحـكمة والمطالب العقلـيّة والبـرهان، في حين أنّ الاشاعرة لم يقطعوا شوطاً علي هذا الطريق مبدئيّاً، وهم خصوم العقل والعقليّات. يتحدّث ابن أبي الحديد المعتزليّ في شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام: يَهْلَكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَرٍ ، فيقول: ولهذا كان أصحابنا أصحاب النجاة والخلاص والفوز في هذه المسألة، لأنّهم سلكوا طريقة مقتصدة: قالوا إنّ عليّاً أفضل الخلق في الآخرة، وأعلاهم منزلةً في الجنّة، وأفضل الخلق في الدنيا، وأكثرهم خصائص ومزايا ومناقب. وكلّ من عاداه أو حاربه أو بغضه فإنّه عدوّ الله سبحانه، وخالد في النار مع الكفّار والمنافقين، إلاّ أن يكون ممّن قد ثبت توبته، ومات علي توليته وحبّه. فأمّا الافاضل من المهاجرين والانصار الذين ولوا الإمامة قبله، فلو أنّه أنكر إمامتهم، وغضب عليهم وسخط فعلهم، فضلاً أن يشهر عليهم السيف، أو يدعو إلي نفسه لقلنا: إنّهم من الهالكين، كما لو غضب عليهم رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، لانّه قد ثبت أنّ رسول الله قال له: حَرْبُكَ حَرْبِي، وَسِلْمُكَ سِلْمِي، وَأنّه قَالَ: اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ. وَقَالَ لَهُ: لاَ يُحِبُّكَ إلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُكَ إلاَّ مُنَافِقٌ ! ولكنّا رأيناه رضي إمامتهم وبايعهم، وصلّي خلفهم، وأنكحهم، وأكل من فيئهم، فلم يكن لنا أن نتعدّي فعله، ولا نتجاوز ما اشتهر عنه. ألا تري أنّه لمّا بري من معاوية برئنا منه، ولمّا لعنه لعنّاه، ولمّا حكم بضلال أهل الشام، ومَن كان فيهم مِن بقايا الصحابة كعمرو بن العاص، وعبد الله ابنه وغيرهما حكمنا أيضاً بضلالهم ؟! والحاصل أنّا لم نجعل بينه وبين رسول الله صلّي الله عليه وآله إلاّ رتبة النبوّة، وأعطيناه كلّ ما عدا ذلك ـ أي: ما عدا النبوّة من الفضل المشترك بينه وبينه. ولم نطعن في أكابر الصحابة الذين لم يصحّ عندنا أنّه طعن فيهم، وعاملناهم بما عاملهم هو عليه السلام به. ثلّة من الصحابة القائلين بتفضيل عليّ عليه السلامفصل: فيما قيل في التفضيل بين الصحابة والقول بالتفضيل ـ أي: تفضيل عليّ علي جميع الصحابة قول قديم قال به كثـير من أصحاب رسول الله والتابعـين. فمن الصـحابة عمّار، والمقداد ، وأبو ذرّ ، وسلمان ، وجابربن عبد الله ، وأُبيّ بن كعب ، وحُذَيفة ، وبريدة، وأبو أيّوب، وسهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف، وأبو الهيثم ابن التَيِّهان، وخزيمة بن ثابت، وأبو الطفيل عامر بن وائلة، والعبّاس بن عبد المطّلب، وبنوه، وبنو هاشم كافّة، وبنو عبد المطّلب كافّة. وكان الزبير من القائلين به في بدء الامر، ثمّ رجع. مناظرة في تفضيل عليّ عليه السلاموكان قوم من بني أُميّة يقـولون بذلـك، منـهم خالد بن سعـيد بن العاص، ومنهم عمر بن عبد العزيز. ونذكر هنا الخبر المرويّ المشهور عن عمر، وهو من رواية ابن الكلبيّ. قال: بينا عمر بن عبد العزيز جالساً في مجلسه إذ دخل حاجبه ومعه امرأة أدماء ( سمراء ) طويلة حسنة الجسم والقامة، ورجلان متعلّقان بها، ومعهم كتاب من ميمون بن مهران إلي عمر، فدفعوا إليه الكتاب، ففضّه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم . إلي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من ميمون بن مهران، سَلاَمٌ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَهِ وَبَرَكَاتُهُ؛ أَمَّا بَعْد ، فإنّه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور، وعجزت عنه الاوساع، وهربنا بأنفسنا عنه، ووكلناه إلي عالمه، لقول الله عزّ وجلّ: وَلَوْ رَدُّوهُ إلَي الرَّسُـولِ وَإِلَـي'´ أُولِـي الاْمْرِ مِنْـهُمْ لَعَـلِمَهُ الَّذِيـنَ يَسْتَنبِطُونَهُ و مِنْهُمْ.[32] وهذه المرأة والرجلان، أحدهما زوجها، والآخر أبوها. وإنّ أباها يا أمير المؤمنين زعم أنّ زوجها حلف بطلاقها أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام خَيْرُ هَذِهِ الاُمَّةِ وَأَوْلاَهَا بِرَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ. وأنّه يزعم أنّ ابنته قد طُلّقت منه، ولا يجوز له في دينه أن يتّخذ صهراً، وهو يعلم أنّه حرام عليه كأُمّه. وأنّ الزوج يقول له: كذبتَ ! وأثمتَ ! لقد بَرَّ قسمي، وصدقت مقالتي، وأنّها امرأتي علي رغم أنفك، وغيظ قلبك. فاجتمعوا إليَّ يختصمون في ذلك، فسألتُ الرجل عن يمينه، فقال: نعم، قد كان ذلك ! وقد حلفتُ بطلاقها إنَّ عَلِيّاً خَيْرُ هَذِهِ الاُمَّةِ وَأَوْلاَهَا بِرَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، عَرَفَهُ مَن عرفه، وأنكره مَن أنكره، فليغضب من غضب، وليرضي من رضي. وتسامع الناس بذلك، فاجتمعوا له، وكانت الالسنة مجتمعة والقلوب شتّي. وقد علمتَ يا أمير المؤمنين اختلاف الناس في أهوائهم، وتسرّعهم إلي ما فيه الفتـنة. فأحجـمنا عن الحكم لتحكم بِمَا أَرَاكَ اللَهُ . وإنّهما تعلّقا بها، وأقسم أبوها ألاّ يدعها معه، وأقسم زوجها ألاّ يفارقها ولو ضُرِبَت عنقه إلاّ أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته والامتناع منه، فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين، أَحْسَنَ اللَهُ تَوْفِيقَكَ وَأَرْشَدَكَ! فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أُميّة وأفخاذ قريش، ثمّ قال لابي المرأة: ما تقول أيّها الشيخ ؟! قال: يا أمير المؤمنين، هذا الرجل زوّجته ابنتي، وجهّـزتها إليه بأحسـن ما يجـهّز به مثلها، حتّي إذا أمّلـتُ خَيْرَهُ، ورجوتُ صلاحه، حَلَفَ بطلاقها كاذباً، ثمّ أراد الإقامة معها ! فقال له عمر: يا شيخ ! لعلّه لم يطلّق امرأته ! فكيف حلف ؟! قال الشيخ: سبحان الله ! الذي حلف عليه لابينُ حِنثاً وأوضح كذباً من أن يختلج في صدري منه شكّ، مع سنّي وعلمي، لأنّه زعم أَنَّ عَلِيّاً خَيْرُ هَذِهِ الاُمَّةِ وَإلاَّ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلاَثاً . فقال للزوج: ما تقول ؟ أهكذا حلفت ؟ قال: نعم، فقيل إنّه لمّا قال، كاد المجلس يرتجّ بأهله، وبنو أُميّة ينظرون إليه شزراً، إلاّ أنّهم لم ينطقوا بشيء، كلّ ينظر إلي وجه عمر. فأكبَّ عمر مليّاً ينكـت الارض بيده والقوم صامتـون ينظـرون ما يقوله، ثمَّ رفع رأسه وقال: إذَا وَلِيَ الحُكُومَةَ بَيْنَ قَوْمٍ أَصَابَ الحَقَّ وَالتَمسَ السَّدَادَا وَمَا خَيْرُ الإمام[33] إذَا تَعَدَّي خِلاَفَ الحَقِّ وَاجْتَنَبَ الرَّشَادَا ثمّ قال للقوم: ما تقولون في يمين هذا الرجل ؟ فسكتوا. فقال: سبحان الله ! قولوا. فقال رجلٌ من بني أُميّة: هذا حكم في فرج، ولسنا نجتري علي القول فيه، وأنت عالم بالقول، مؤتمن لهم وعليهم، قل ما عندك، فإنّ القول ما لم يكن بحقّ باطلاً ويبطل حقّاً جائز عَلَيَّ في مجلسي. قال: لا أقول شيئاً؛ فالتفت إلي رجلٍ من بني هاشمٍ من ولد عقيل بن أبي طالب. فقال له: ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقـيليّ ؟ فأغتنمـها، فقال يا أمير المؤمنين ! إن جعلتَ قولي حكماً، أو حُكمي جائزاً قلتُ، وإن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي، وأبقي للمودّة. قال: قل وقولُك حُكم، وحكمكُ ماضٍ. فلمّا سمع ذلك بنو أُميّة قالوا: ما أنصنغتنا يا أمير المؤمنين إذ جعلت الحكم إلي غيرنا، ونحن من لحمتك وأولي رحمك ! فقال عمر: اسكتوا أَعَجَـزاً ولؤماً ! عرضـت ذلك عليـكم آنفاً فما انتـدبتم له. قالـوا: لا نّك لم تعطنا ما أعطيتَ العقيليّ، ولا حكّمتنا كما حكّمته. فقال عمر: إن كان أصاب وأخطـأتـم، وحـزم وعجـزتم، وأبصـر وعمـيتم فمـا ذنـب عمر، لا أبا لكم ! أتدرون ما مثـلكم ؟ قالوا: لا ندري، قال لكنّ العقيليّ يدري، ثمّ قال: ما تقول يا رجل ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، كما قال الاوّل: دُعِيتُم إلَي أَمْرٍ فَلَمَّا عَجَزْتُمُ تَنَاوَلَهُ مَنْ لاَ يُدَاخِلُهُ عَجْزُ فَلَمَّا رَأَيْتُمْ ذَاكَ أَبْدَتْ نُفُوسُكُمْ نَدَاماً وَهَلْ يُغْنِي مِنَ الحَذَرِ الحَرْزُ قال عمر: أحسنتَ وأصبتَ ! فقل ما سألتك عنه ! قال: إنّ الزوج برّ قسمه، ولم تطلّق امرأته ! قال عمر: كيف عرفتَ هذا؟ قال العقيليّ: نشدتك الله يا أمير المؤمنين ! إنّ رسول الله صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم قال لفاطمة وهو عائد لها: يا بُنيّة ! ما عليك ؟! قالت: الوعك يا أبتاه. وكان عليّ غائباً في بعض حوائج النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ وسلّم. فقال لها: أتشتهين شيئاً ؟! قالت: أشتهي عنباً، وأنا أعلم أنّه عزيز، وليس الوقت وقت عنبٍ. قال النبيّ صلّي الله عليه ] وآله [ : إنّ الله قادر علي أن يجيئنا به. ثمّ قال: اللَهُمَّ ائتِنَا بِهِ مَعَ أَفْضَلَ أُمَّتِي عِنْدَكَ مَنْزِلَةً . فطرق عليّ الباب، ومعه مكتل قد ألقي عليه طرف ردائه. فقال النبيّ: ما هذا يا عليّ ؟! قال: عنـب التمسـته لفاطـمة ! فقال النبيّ : اللَهُ أَكْبَرُ ، اللَهُ أَكْبَرُ ، اللَهُمَّ كَمَا سَرَرْتَنِي بِأنْ خَصَصْتَ عَلِيّاً بِدَعْوَتِي فَاجْعَلْ فِيهِ شِفَاءَ بُنَيَّتِي ! ثمّ قال: كُلي علي اسم الله ! وما خرج النبيّ حتّي برأت. فقال عمر: صدقتَ وبررتَ ! أشهد لقد سمعته ووعيته. يا رجل خذ بِيَدِ امرأتك، فإن عرض لك أبوها، فاهشم أنفه. ثمّ قال: يا بني عبد مناف ! والله ما نجهل ما يعلم غيرنا، ولا بنا عميً في ديننا، ولكنّا كما قال الاُوَل: تَصَيَّدَتِ الدُّنْيَا رِجَالاً بِفَخِّهَا فَلَمْ يُدْرِكُوا خَيْراً بَلِ اسْتَقْبَحُوا الشَّرَّا وَأَعْمَاهُمُ حُبُّ الغِنَي وَأَصَمَّهُمْ فَلَمْ يُدْرِكُوا إلاَّ الخَسَارَةَ وَالوِزْرَا وكأ نّما ألقم بني أُميّة حجراً، ومضي الرجل بامرأته. وكتب عمر بن عبد العزيز إلي ميمون بن مَهران: عَلَيْكَ سَلاَمٌ، فَإنِّي أَحْمَدُ إلَيْكَ اللَهَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ . أمّا بعد؛ فإنّي قد فهمتُ كتابك، وورد الرجلان والمرأة، وقد صَدَق الله يمين الزوج، وأبرّ قسمه، وأثبته علي نكاحه، فاستيقِن ذلك، واعمل عليه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. فأمّا من قال بتفضيله علي الناس كافّة من التابعين فخلق كثير كأُوَيس القرنيّ، وزيد بن صُوحان، وصعصعة أخيه، وجندب الخير،[34] وعُبيدة السلمانيّ، وغيرهم ممّن لا يُحصي كثرةً، ولم تكن لفظة الشيعة تُعرف في ذلك العصر إلاّ لمن قال بتفضيله. ولم تكن مقالة الإماميّة ومَن نحا نحوها من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذٍ علي هذا النحو من الاشتهار، فكان القائلون بالتفضيل هم المسمّون الشيعة. وجميع ما ورد من الآثار والاخبار في فضل الشـيعة، وأنّهم موعودون بالجـنّة، فهؤلاء هم المعنيّون به دون غيرهم، ولذلك قال أصحابنا المعتزلة في كتبهم وتصانيفهم: نحن الشيعة حقّاً. فهذا القول هو أقرب إلي السلامة وأشبه بالحقّ من القولين المقتسمين طرفي الإفراط والتفريط إن شاء الله.[35] وقال العالم البصير والمحقّق الخبير المعاصر الشيخ محمّد جواد مغنيّة بعد أن ذكر الكلام المتقدّم عن « شرح نهج البلاغة » مفصّلاً: وكان من نتيجة هذه الحادثة وغيرها أن دسّ الامويّون السمّ لعمر بن عبد العزيز، كما فعلوا من قبل بمعاوية الثاني، لأنّهم لا يطيقون أن يكون بينهم من يناصر الحقّ وأهله. لقد تعجّلوا عليه خشية أن يعرف الناس من فضل عليّ ما يعرف الامويّون، فيتفرّقوا عنهم إلي أولاد أمير المؤمنين عليه السلام. كما قال عبد العزيز الامويّ الذي كان يتلعثم عند ذكر سيّد الكونين، وهو الخطيب البليغ. خاف الامويّون من الحقّ، لانّه يسلّبهم الملك والسلطان، وهابوا العدل، لانّه يقضي عليهم بالموت، لذا حاولوا إخفاء الحقّ قبل أن يقضي عليهم، ولكن مهما حاول المشعوذون والمنحرفون إخفاءه فلابدّ أن يظهر وينتصر، ويكشف أمر المبطلين. توضيح حول عمر بن عبد العزيزوقال قائل : إنّ عمر بن عبد العزيز رجل عادي ، وإنّما عظم أمره لأنّه أعور بين عميان كما قال المنصور، قام عمر بعد قوم بدّلوا شريعة الدين وسنن النبيّ، وكان الناس قبله من الظلم والجور والتهاون بالإسلام ما لم يسبق بمثيل، أو يجرِ بحُسبان، وحسبك من ذلك أنّهم كانوا يعلنون سبّ عليّ علي المنابر، فلمّا نهي عنه عمر عدّ محسناً، بل جُعل في عداد الائمّة الراشدين، ويشهد لذلك قولُ كثير. وَلَيْتَ وَلَمْ تَشْتِمْ عَلِيّاً وَلَمْ تُخِفْ بَرِيّاً وَلَمْ تُتْبِعْ مَقَالَةَ مُجْرِمِ وبكلمة: إنّ عمر استمدّ حسناته من سيّئات غيره. والجواب: إنّ هذا القائل أراد أن يحطّ من مكانة عمر فدلّ كلامه علي عكس ما أراد، لقد عرفنا وعرف التأريخ كثيرين نشأوا في بيت صلاحٍ وتُقي وأفنوا حياتهم في دراسة علوم الإسلام والقرآن، ومع ذلك رأيناهم ينحـرفون عن طريق الدين، ولا يصـمدون أمام المغـريات الشـيطانيّة والشهوات الدنيويّة، أمّا عمر فقد تمرّد علي بيئته وقومه، وتعالت نفسه عن عاداتهم وتقاليدهم ولم تغترّ بشهوة الحكم وفتنة السلطان، وهنا مكان عظمته وسرّ عبقريّته، نقم عمر علي آبائه وأجداده، وشهد عليهم بالفعل قبل القول بأنّهم ضالّون مضلّون، ولم يكترث بما تجرّه هذه الشهادة عليه من المتاعب والمصاعب. لذلك نحن نُكبره ونعظّم فيه يقظة الضمير. وقوّة الإيمان والجهاد في سبيل الحقّ، والتمرّد علي الباطل، باطل أهله وبيته. والسلام علي روحه الطيّب، وبدنه الطاهر، لقد كانت سيرة ابن عبد العزيز انقلاباً في السياسة الامويّة، وإصلاحاً جذريّاً لما أفسد الامويّون، وهذه فضيلة لا يُدانيها شيء، ومكرمة لا يعادلها إلاّ الجهاد بين يديّ الرسول الكريم. ارجاعات [1] ـ قال في الهامش: يبدو أنّ أبا هريرة قد ذكر هذا الحديث وهو علي إحدي الموائد الفاخرة ـ إذ كانت الاحاديث تُروي في المناسبات ورأي ذبابةً وقعت في أحد الاواني وخشي أن يستقذر الآكلون ما فيها فيفوته شهيّ طعامها، فقال هذا الحديث. [2] ـ اقتباس من الآية 3. من السورة 53: النجم: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي'. [3] ـ الآية 28. من السورة 53: النجم. [4] ـ ارجع إلي كتابنا «أضواء علي السنّة المحمّديّة» في طبعته الثالثة تجد هذه القواعد مبسوطةً هناك. [5] ـ ممّن اعترضوا علي حديث الذباب في عصرنا الدكتور محمّد توفيق صدقي. [6] ـ «شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسيّ» ص 221 إلي 228. الطبعة الثانية. ونقل أبو ريّة في كتاب «أضواء علي السنّة المحمّديّة» ص 223. الطبعة الثالثة، حديث الذباب أيضاً عن أبي هريرة وردّ عليه. [7] ـ قال الحاجّ فرهاد ميرزا في كتابه «زنبيل» ص 350 و 351: تخلخل النظم في كربلاء بسبب كثرة الطغام والاوغاد. فقد تقاطر عليها كلّ من كان مُلاحَقاً من الفجّار من أيّ بلدٍ كان خوفاً من بطش السياسة الحاكمة، ولجأوا إليها اهتداءً بقوله تعالي: وَمَن دَخَلَهَا كَانَ ءَامِنًا حتّي بلغ الامر بحاكم كربلاء الذي نصبه النظام الملكيّ ببغداد أن يفقد السيطرة عليها لتراكم الاوغاد الذين يسمّيهم أهالي كربلاء الاشقياء المتهوّرين. ومن الهيّن علي كلّ أحد ألاّ يطيع حكومة بغداد ولا يدفع إليها الخراج، بل لم يبق للزوّار والاهالي مجال للسكن والعيش. فلكلّ جماعة كان يرأسهم شخص يرفع راية العصـيان. ولم يستطع علي رضا باشا الذي كان يحكم هناك اثنتي عشـرة سنة أن يقوم بالامر كما ينبغي إلي أن كلّفـت الحكـومة العثمانيّة محمّد نجيب باشا الذي كان قد عُزِل من حكومة الشام أن يتولّي حكومة بغداد وتوابعها ـ وكان حاكم بغداد في العهد العثمانيّ بمنزلة الوزير الثاني وكان أثيماً سفّاكاً متهوّراً غدّاراً مكّاراً. ولم يسـتقرّ بعد في منصـبه حتّي سيّر الجيـش نحو كربـلاء وضرب قلعـتها بالطوربيدات. ومن الواضح أنّ إجماع العوامّ لا يتحقّق أمام جيش النظام، لهذا شهر سيف القسوة والبطش وقتل وأسر من الاهالي ما شاء. حاصر المدينة ثلاثة أيّام ثمّ دنّسها في الحادي عشر من شهر ذي الحجّة الحرام سنة 1258 ه وجرح قلوب الموالين لاهل البيت وأصدر حكمه بارتكاب مذبحة جماعيّة خلال ثلاث ساعات. والثابت هو أنّ تسعة آلاف نسمة فارقوا الحياة يومئذٍ، ونُهب من الاموال والمجوهرات والاثاث والكتب والذهب والفضّـة ما لا يُحصـيه أحد. ورُبطت الخيل والبغال في صحن العبّاس، وقُتل كلّ من وُجد في الرواق الواقع بين حرم العبّاس وحرم الحسين خامس أصحاب الكساء عليهما السلام. ولم يسلم إلاّ بيت السيّد كاظم الرشتيّ إذ كانوا قد آمنوه ـ إلي آخر ما نقلناه عنه في متن الكتاب. من الجدير ذكره أنّ ابن الآلوسيّ هذا الذي عدّه الحاجّ فرهاد ميرزا في زنبيله من فضلاء أهل السنّة وقاضي عسكر محمّد نجيب باشا هو نفسه صاحب تفسير «روح المعاني» وهو الذي نظم البيتين تشفّياً بقتل تسعة آلاف من أهالي كربلاء خلال ثلاث ساعات وإباحة المدينة ثلاثة أيّام. وورد فيكتاب «أَرْيَح الندِّ والعُود في ترجمة شيخنا أبي عبد الله شهاب الدين محمود» المؤلَّف في ترجمته، والمطبوع في الصفحات الواقعة قبل تفسير «روح المعاني»، طبعة بولاق، سنة 1301 ه: أنّه حسنيّ من جهة الاُمّ حسينيّ من جهة الاب، وينتهي نسبه إلي موسي المبرقع، وأنّه ولد سنة 1217 ه وتوفّي سنة 1270 ه عن ثلاث وخمسين سنة. عيّنه علي رضا باشا رئيساً للمفتين الحنفيّين في بغداد سنة 1248 ه. وذهب إلي القسطنطينيّة سنة 1263 ه لحضور الوليمة التي أُقيمت بمناسبة ختان ابن السلطان محمود العثمانيّ. وفي السنة نفسها بدأ بتأليف تفسيره وأتمّه سنة 1267 ه وأخذه إلي القسطنطينيّة، وأقام فيها سنتين، وبعد عرض التفسير المذكور واستلام الوسام الملكيّ رجع منها سنة 1269 ه. ومرض في الطريق بسبب المطر والبرد، ثمّ توفّي بعدها بقليل. ومن الضروريّ أن نذكر هنا عدداً من النقاط: الاُولي: أنّه هو الذي كان قاضياً للعسكر في كربلاء عند هجوم محمّد نجيب باشا عليها إذ كان له من العمر إحدي وأربعون سنة آنذاك. وكان فقيهاً وله عدد من المناصب الرسميّة التي تقلّدها بأمر الحكومة العثمانيّة، فلا يمكن أن يكون أحد أبنائه صاحب الامر، لانّ أكبرهم وهو السيّد عبد الله أفندي وُلد سنة 1248 ه فكان عمره وقتذاك عشر سنين. ومن البيّن أنّ أولاده الاربعة الآخرين الذين ولد بعضهم بعد إباحة كربلاء لا يمكن أن يكونوا أصحاب الامر أيضاً. كما لا يمكن أن يكون أبوه السيّد عبد الله أفندي، إذ لم تُذكر له المناصب المشار إليها، بل كان يشغل منصب رئيس المدرّسين فحسب، يضاف إلي ذلك أنّه لمّا كان مشهوراً بالآلوسيّ، فقد ذكر الحاجّ فرهاد ميرزا ابنه السيّد محمود علي أنّه ابن الآلوسيّ. ولا نسـتبعد أن يكون متوفّي يومـذاك، إذ لا اسم ولا ذكر له في تلـك الفتـرة من الزمان. الثانية: كانت بين السيّد كاظم الرشتيّ والسيّد محمود الآلوسيّ علاقات ودّيّة، ولهذا كتب السيّد كاظم تقريظاً عالياً علي تفسيره أيّام علي رضا باشا، وقد جاء في ص 6 إلي 8 قبل مقدّمة التفسير المطبوع بطبعة بولاق. وبسبب هذه العلاقات الودّيّة لم تُنهب دار الرشتيّ في الغارة علي كربلاء ولم يُقتل أحد من أفراد أُسرته. الثالثة: لا نستبعد أن يكون الآلوسيّ سيّداً لانّ كثيراً من السادة كانوا أتباعاً لحكّام الجور. ومع وجود الإمام بالحقّ لم يستسلموا لولايته. ويدلّ التأريخ علي أحوالهم وأوضاعهم جيّداً. وموسي المبرقع المذكور هو ابن الإمام الجواد عليه السلام ويعدّ الجدّ الاعلي للآلوسيّ. تأريخه مجهول، وكان يختلف إلي بلاط المتوكّل العبّاسيّ. وكان أخوه الإمام الهاديّ عليه السلام ساخطاً عليه. [8] ـ «زنبيل» ص 351. وقال الشيخ عزيز بن الشيخ شريف النجفيّ في جوابه: إخْسَأْ عَدُوَّ اللَهِ إنَّ نَجِيبَكُمْ رَفَضَ الهُدَي وَعَلَي العَمَي يَتَردَّدُ وَلَئِنْ بِهِ وَبِكَ البَسِيطَةُ دُنِّسَتْ فَأَبْشِرْ يُطَهِّرُهَا المَلِيكُ مُحَمَّدُ وقال الملاّ محمود التبريزيّ في جوابه أيضاً: إخْسَـأْ عَدُوَّ الـلَـهِ كُلُّ نَجِـيبَـكُـم ْ كَيَـزِيـدِكُمْ شُـرْبَ الدِّمَـاءِ تَعَوَّدُوا هـذا ابـنُ هِــنْــدٍ وَالـمـديــنــة والدَّمُ المهراق فيها والنبيّ محمّدُ وقال كذلك: تَبّاً لاِشـقَي الاشقِـيَاءِ نَجِـيبكُم نَصَبَ الحسين وفي لَظَي يتخلَّدُ لا تعجـبوا ممَّا أتـي إذ قد أتـي بصـحـيـفـةٍ ملـعـونةٍ يـتـقـلَّـدُ [9] ـ قال في الهامش: هل كانت هذه الايّام مع أسمائها وساعاتها هذه يوم خَلَقَ الله السماوات والارض ؟! وهل يكون اليوم عند الله مثل يومنا ؟! أو هو كما قال الله سبحانه في كتابه: «إِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَ لْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ» (الآية 47. من السورة 22: الحجّ). [10] ـ الطبرانيّ، ج 1. ص 24. [11] ـ «سِيَر أعلام النبلاء» للذهبيّ، ج 2. ص 296. وعبد الله بن سلام هو أبو الحارث الإسرائيليّ. أسلم بعد أن قدم النبيّ المدينة وهو من أحبار اليهود. وحدّث عنه أبو هريرة، وأنس بن مالك، وجماعة. اتّفقوا علي أنّه توفّي سنة 43 ه. [12] ـ المِزْوَد (بكسر الميم): وعاء التمر يُعملُ من أدم (جلد مدبوغ). وذكر العلاّمة السيّد شرف الدين في كتاب «أبو هريرة» حديث الثوب، والوعاءين، والمزود مفصّلاً، وانتقده بشدّة. واقتدي به أبو ريّة في كتاب «شيخ المضيرة» وذكر ذلك أيضاً، وردّ عليه بإيجاز من ص 184 إلي 202. وهذه الاشياء الثلاثة من اختلاق أبي هريرة. وضعها لإعلاء شأنه ورفع التهمة عن نفسه. يدلّ حديث الثوب علي أنّ أبا هريرة يقول: قال النبيّ يوماً: ابسـط رداءك، فبسـطته علي الارض، وكان النبيّ مشغولاً بالكلام حتّي إذا قضي مقالته ضممته إلي صدري فما نسيتُ من مقالته تلك شيئاً إلي يومي هذا. وأمّا حديث الوعاءين فيعني أنّ العلوم التي أُبيّنها هي من أحدهـما، أمّا العلوم السـرّيّة الخـفيّة التي لم أُبيّنها ولا أستطـيع أنْ أبيّـنها فهي من الآخر، وعلوم هذين الوعاءين هي من مواهب رسول الله لي، ومع أنّي لا أعرف القراءة والكتابة لكنّي مليءٌ بهذه العلوم. وأمّا حديث المزود فملخّصه أنّي كنت مع النبيّ في أحد أسفاره فقال لي: جي بالمـزود الذي عندك ! فجـئتُ به. فأعطي الجيـش كلّه تمـراً منه وأشبعه ولم يفرغ المزود من التمر. وكنـت آكل منه حياة النبيّ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان. فلمّا قُتل عثمان، انتُهب ما في يدي وانتهب المزود. ألا أخبركم كم أكلتُ منه ؟! أكلتُ منه أكثر من مائتي وَسَق. والوسق حمل بعير. [13] ـ «البداية والنهاية» ج 2. ص 275؛ «شيخ المضيرة أبو هريرة» ص 79 إلي 82. الطبعة الثانية. ونقل أبو ريّة أيضاً في كتاب «أضواء علي السنّة المحمّديّة» ص 209. الطبعة الثالثة، حديث خلق العالم في سبعة أيّام عن أبي هريرة، وردّ عليه. [14] ـ «شيخ المضيرة أبو هريرة» ص 242. الطبعة الثانية. [15] ـ «سفينة البحار» ج 1. ص 231. مادّة (حَدَثَ). [16] ـ قسم من الآية 3. من السورة 5: المائدة. [17] ـ «صحيح البخاريّ» ج 5. ص 127. [18] ـ «الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور» لجلال الدين السيوطيّ، ج 3. ص 18. [19] ـ «تاريخ الخلفاء» لابن قتيبة الدينوريّ: كيف كانت بيعة أبي بكر، ج 1. ص 6. [20] ـ قال الحاجّ فرهاد ميرزا في كتاب «زنبيل» ص 348 إلي 350: كان شخص يعرف بعبد الوهّاب من عرب البادية في البصرة تلمذ مدّةً لشخصٍ اسمه محمّد، وهو أبو جهل في تصرّفه. وبعد برهة أعرض عن أستاذه البصريّ ونزل إصفهان. ودرس علوم العربيّة والعلوم الغريبة وأجري بعض التغييرات علي أحكام الشرع بزعمه. وأرسي دعائم مذهب جديد خليط من عقائد الشيعة والسنّة، ومن عقائده: أنّ تزيين مراقد الائمّة بدعة، وأنّ السجود علي التـربة في الصلاة كالسـجود علي الاوثان، وأنّ زيارة الاضرحة الشـريفة المقـدّسـة إلاّ بيت الله الحرام حرام. وسمع به عبد العزيز أحد مشايخ نجد فاستحسن عقائده كثيراً. ولمّا كانت فكرة الرئاسة تراود نفس عبد العزيز، ورأي أنّ أفضل طريق للارتقاء إلي مناصب مهمّة هو اختراع مذهب جديد . لهذا روّج لكتبه في بلاد نجد . وسمّي أتباعه الضالّين : الوهّابيّين . وبعد مدّة قصيرة جمع عدداً وافراً من الناس وتوجّه بهم لاحتلال الحرمين الشريفين. وجهّز جيشه بذخائر المدينة المنوّرة وكنوزها، وانطلق في عمله من وحي حقده وضغنه، وبني قلعة الدرعيّة. وتحرّك لمهاجمة النجف الاشرف وأغار عليه مرّة أو مرّتين لكنّه لم يستطع أن يفعل شيئاً أمام قلاعه الحصينة وتعبئة العرب الخزاعيّين الذين كانوا شيعة صحيحي الاعتقاد لصدّ هجومه. ثمّ أرسل ولده الاكبر سعود غير السعيد في اثني عشر ألف فارس غدّار إلي كربلاء المقدّسة، فدخلها يوم عيد الغدير سنة 1216 ه علي حين غفلة. ولم يرعو عن الفتك والنهب والقتل والاسر ما استطاع إلي ذلك سبيلاً. واسـتشـهد معظـم علماء الدين المبين ومنهم الملاّ عبد الصمد الهمدانيّ. وصنع سعود اللاسعيد قهوةً علي نار موقدة من خشب الصندوق المطهّر لخامس أصحاب الكساء سلام الله عليه، وجلس في رواق الطاق وشربها هو وزبانيّته. واستشهد خلال ستّ أو سبع ساعات قرابة ستّة آلاف من الناس متباهين أنّهم في غرفات الجنان. ولمّا كان معظم أهالي كربلاء والزوّار قد يمّموا مهبط الملائكة مرقد الامير مولي الصغير والكبير سلام الله عليه في النجف الاشرف لزيارته يوم الغدير لهذا سلموا من خطر هذا السيل الجارف ولهيب نار العناء الحارق. وعاد ذلك الاثيم المشؤوم إلي دياره عصر ذلك اليوم. وبعد مدّة قُتل عبد العزيز فاستقلّ سعود. ولم يبق للوهّابيّة ولسعود أثر في ذلك البلد باهتمام محمّد علي باشا والي مصر وإيفاد نجله إبراهيم باشا إليه. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُو´ا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (الآية 227. من السورة 26: الشعراء) انتهي كلام الحاجّ فرهاد ميرزا. وأقول أنا: وبعد مدّة دفعت السياسة الإنجليزيّة سعوداً إلي أن يتماشي معها ويؤسّس حكومةً ويُطيح بأشراف مكّة. وما زالت حكومتهم قائمة حتّي يومنا هذا السادس والعشرين من شهر شوّال المعـظّم سنة 1414 ه. وملكـها فهد. ولم يألوا جهداً في الجـناية والخـيانة وقتل الشيعة وأسرهم خلال هذه المدّة الطويلة. وستنتهي حكومتهم ويزول استكبارهم واستبدادهم في القريب العاجل إن شاء الله تعالي. وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّي' يَأْتِيَ وَعْدُ اللَهِ إنَّ اللَهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (الآية 31. من السورة 13: الرعد). [21] ـ «لاِكون مع الصادقين» ص 53 إلي 56. الطبعة الثانية. [22] ـ «غاية المرام» القسم الثاني . ص 552 . الحديث الاوّل من الباب الرابع والخمسين. [23] ـ تحـدّثنا عنه مفصّـلاً في الجـزء الثامن من كتابنا هذا «معـرفة الإمام» الدرس 110 إلي 115. [24] ـ «الغدير» للعلاّمة الامينيّ، ج 6. ص 190: «نوادر الاثر في علم عمر». وتحدّثنا عن هذا الحديث في ج 8 من كتابنا هذا. وناقشه السيّد شرف الدين مناقشة وافية رائعة في كتاب «أبو هريرة» ص 137 إلي 145. الفصل 20. الطبعة الثالثة. [25] ـ «معادن الجواهر ونزهة الخواطر» ج 2. ص 378. طبعة دار الزهراء، بيروت. [26] ـ وذلك عام 567. انظر: «خطـط المقـريـزيّ» ج 3. ص 379؛ و«تاريخ ابن الاثير» وغيرهما. [27] ـ قال ابن الاثير في حوادث عام 566 (ج 11. ص 137 ): وعزل قضاة المصريّين وكانوا شيعة. وأقام قاضياً شافعيّاً في مصر. فاستناب الشافعيّة في جميع مصر في العشرين من جمادي الآخرة. [28] ـ انظر: «الخطط» ج 4. ص 161. [29] ـ «تاريخ الشيعة» للمظفّر، ص 192 إلي 194. والآية المذكورة هي الآية 156. من السورة 2: البقرة. وممّا ذكره المظفّر أيضاً في «تاريخ الشيعة» ص 145 إلي 148 حول مدينة حلب ما يأتي: وما زال التشـيّع في حلب راسي البناء، حتّي أنّ السـلجـوقيّين الاتراك حاولوا مرّات عديـدة القضـاء عليه فيـها فما اسـتطـاعوا، إلاّ أنّه تمكّن من ضربه صلاح الدين الايّـوبيّ وسلالته، وكان المؤذّن يؤذّن في جوامعها بـ: حَيَّ عَلَي خَيْرِ العَمَل 1 (انظر: مجلّة «المقتبس» ج 6. ع 10 ). وأمّا ابن كثير الشاميّ فقد ذكر أنّ صلاح الدين لمّا جاء إلي حلب ونزل بظاهره اضطرب واليه. 2 ورغب أهل حلب في حرب صلاح الدين. فعاهده جميعهم في ذلك، ولكن شرطوا عليه أُموراً، ومنها: أن يفوّض أُمور عقودهم وأنكحتهم إلي الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسينيّ الذي كان مقتدي شيعة حلب، فقبل منهم الوالي جميع تلك الشروط، إلاّ أنّه لم يدخل صلاح الدين إلي حلب بحربٍ، بل دخلها سلماً. 3 ولم يثنه ذلك عن الفتك بالشيعة الفتك الذريع. ولمّا تصرّمت حبال الدولة الايّوبيّة لم يقض التشيّع في حلب كما قضي في مصر، بل بقي رصين الاُسّ، كما يُخبرنا بذلك ياقوت الحمويّ في «معجم البلدان» قال في «حلب»: والفقهاء يفتون علي مذهب الإماميّة، وقال: وعند باب الجنان مشهد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه رُؤي فيه في النوم، وداخل باب العراق مسجد غوث فيه حجر عليه كتابة زعموا أنّه خطّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وفي غربي البلد في سفح بلد الجوشن قبر المحسن بن الحسين يزعمون أنّه سقط لمّا جيء بالسبي من العراق ليحمل إلي دمشق، أو طفل كان معهم فدُفن هناك. 4 وبالقرب منه مشهد مليح العمارة، تعصّب الحلبيّون وبنوه أحكم بناء، وأنفقوا عليه أموالاً يزعمون أنّهم رأوا عليّاً رضي الله عنه في المنام في ذلك المكان. وهذه الآثار التي يذكرها ياقوت هي من دلائل تشيّع الحلبيّين، فهي علي التشيّع إلي عهده. وكتب ذلك عن حلب عام 636. فيكون ذلك بعد دخول الايّوبيّ لها سلماً بسبع وخمسين سنة. وإلي ذلك اليوم كان فيها أعلام من بني زهرة. وهكذا استمرّ التشيّع في حلب رفيع البناء لم تقلعه تلك الهزّات العنيفة، ولم تردمه تلك العواصف الشديدة، إلي أن أفتي الشيخ نوح الحنفيّ في كفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم تابوا أو لم يتوبوا. 5 فزحفوا علي شيعة حلب وأبادوا منهم أربعين ألفاً أو يزيدون، وانتُهـبت أموالـهم، وأُخـرج الباقـون منـهم من ديارهم إلي نبـل، والنغـاولة، وأُمّ العـمد، والدلبوز، والفوعة، وغيرها من القري. واختـبأ التشـيّع في أطراف حلـب في هذه القري والبلدان، ولم يبق في حلب شيعـيّ أبداً. ويقال: إنّ لبني زهرة اليوم ذرّيّة في الفوعة ولكن لا يُعرَفون ببني زهرة. ويوجد اليوم في حلب قليل من الشـيعة سكنوها بعد تلـك الحادثة المؤلمة. وهذه إحدي الوقائع الممضّة التي شاهدها الشيعة من أجل ولائهم لاهل البيت وتمسّكهم بعري مذهبهم. وهاجم الامير ملحم بن الامير حيدر بسبب هذه الفتوي جبال عاملة عام 1048. فانتهك الحرمات واستباح المحرّمات يوم وقعة قرية أنصار. فلا تَسَل عمّا أراق من دماء، واستلب من أموال، وانتهك من حريم. فقد قتل ألفاً وخمسمائة، وأسر ألفاً وأربعمائة، فلم يرجعوا حتّي هلك في الكنيف ببيروت. 6 فيا للّه من هذه الجرأة الكبري. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ) كان ولا يزال الهتاف في الاذان بحيَّ علي خير العمل من شعار الشيعة. وقد قامت الادلّة الصريحة الواردة من طرقهم بأنّه من فصول الاذان. ويدلّ عليه أيضاً ما في «كنز العمّال» ج 4. ص 266. عن الطبرانيّ قال: كان بلال يؤذّن بالصبح فيقول: حيَّ علي خير العمل؛ وما في «السيرة الحلبيّة» في باب بدء الاذان ومشروعيّته ج 2. ص 105. الطبعة الثانية قال: إنّ ابن عمر، والإمام زين العابدين كانا يقولان في الاذان: حيّ علي خير العمل. نعم، إنّ عمر بن الخطّاب نهي عنه كما ذكره القوشجيّ ـ وهو من متكلّمي الاشاعرة ـ في أواخر مبحث الإمامة من «شرح التجـريد»، قال: صعد عمر المنـبر وقال: ثـلاثٌ كنَّ علي عهـد رسـول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم أنا أنهي عنهنّ وأُحرّمهن وأُعاقب عليهنّ، وهي متعة النساء، ومتعة الحجّ، وحيّ علي خير العمل. ولعلّ أهل السنّة تركوه كذلك كما تركوا المتعتَين. 2 ) كان صاحب حلب يومئذٍ عماد الدين زنكي بن مورود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر كما ذكر أبو الفداء. 3 ) كان دخول الايّوبيّ إلي حلب عام 579. 4 ) وعن «نسمة السَّحر» أنّ الذي بناه سيف الدولة، وذلك لانّه رأي نوراً علي مكانه وهو بأحد مناظره في حلب. فلمّا أصبح ركب إلي هناك وأمر بالحفر فوجدوا حجراً مكتوباً عليه: هذا المحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فجمع العلويّين وسألهم، فقال بعضهم: إنّهم لمّا مرّوا بالسبي في حلب طرحت إحدي نساء الحسين عليه السلام بهذا الولد، فعمّره سيفُ الدولة. 5 ) كتب ردّاً علي هذه الفتوي العلاّمة الحجّة السيّد عبد الحسين شرف الدين، وهو كتابه «الفصول المهمّة». وقد طُبع مرّتين. ولو قرأتَه لَدَلَّكَ علي علم غمر، وتبحّر واطّلاع واسعَين، ولاَوضحَ لك ظلم ذلك الرجل في فتواه، وقتل أُولئك المساكين ظلماً وعدواناً. 6 ) انظر «الفصـول المهـمّة» ص 140. الطبعة الثانية؛ ومجـلّة «العرفان» ج 2. ع 6. ص 286. من مقال للعلاّمة البحّاثة الشيخ أحمد رضا، عنوانه «المتأولة أو الشيعة في جبل عامل». علي النفوس والاعراض؛ ومن تلك الفتيا التي غرّرت بأُولئك علي تلك الفظائع والجرائم، فالله الخصم والحكم. [30] ـ راجع «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، ج 3. ص 15. تجد بعض ما وقع من المحن لاهل البيت وشيعتهم في تلك الايّام، وللإمام الباقر ثمّة كلام في هذا الموضوع، ألفت إليه الباحثين. [31] ـ «المراجعات» ص 194 إلي 196. المراجعة 64. الطبعة الاُولي، مطبعة العرفان، صيدا، سنة 1355 ه. [32] ـ الآية 83. من السورة 4: النساء. [33] ـ في «شرح الشامل» أربعة أجزاء: (الانام). [34] ـ في نسخةٍ: «حبيب الخير». [35] ـ «شرح نهج البلاغة» ج 20. ص 220 إلي 226. شرح الحكمة 476. طبعة دار إحياء الكتب العربيّة، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، وفي طبعة دار الكتب العربيّة الكبري، مصطفي البابي الحلبيّ: ج 4. ص 520 إلي 522. وقد أشرنا إلي أنّ ابن أبي الحديد المعتزليّ كان يعدّ نفسه شيعيّاً علي أساس الاحاديث النبويّة الثابتة المأثورة في فوز الشيعة ونجاتهم. بَيدَ أنّ أعاظم الشيعة لا يرونه شيعيّاً ويذهبون ـ بعامّة إلي أنّ المعتزلة هم شركاء الاشاعرة وهم قسم من أهل السنّة. وشرط التشيّع الإقرار بخلافة أمير المؤمنين عليه السلام ووصايته وولايته بلا فصل. فكلّ من قال بخلافة الشيخين وعثمان فهو ليس شيعيّاً. وكذلك كلّ من لا يبرأ منهم ومن نهجهم. وما قاله ابن أبي الحديد إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يخالفهم كذب محض. فالتأريخ كلّه والاخبار والآثار والسير والخطب، بل شرحه علي «النهج»، كلّ ذلك مشحون باعتراضات الإمام علي الحكومة الجائرة لابي بكر، وعمر، وعثمان، وبيعة الإمام لهم بعد ستّة أشهر لا تدلّ علي الرضا والقبول، إذ كانت علي أساس المصلحة الخارجيّة كما صرّح نفسه عليه السلام.
|
|
|