|
|
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام علی خاتم النبيّين محمّد المصطفي، ووصيّه المنتجب صاحب الولاية الكبري علیّ المرتضي، وأبنائه الائمّة الطاهرين، سيّما بقيّة الله في الارض والسماء الحجّة بن الحسن العسكريّ، أرواحنا لتراب مقدمه الفداء. إنَّ حسّ الانجذاب نحوالدين ورغبة الاندفاع نحو عوالم الغيب وكشف أسرار ماوراء الطبيعة يعتبر جزءاً من الغرائز الطبيعيّة للبشر، ويمكن عدّ هذه الغريزة ناشئة عن جاذبة حضرة الربّ الودود الذي يجذب عالم الإمكان وبالاخصّ الإنسان الاشرف إلی مقامه المطلق اللامتناهي. ومغناطيس الروح هوروح الروح الذي يعبّرون عنه بـ «جانان» (بالفارسيّة) وحقيقة الحقائق، والاصل القديم، ومنبع الجمال، ومبدأ الوجود وغاية الكمال. الكُلُّ عِبارةٌ وأنتَ المَعْنَي يا مَن هُوَلِلقُلوبِ مِغْناطِيسُ [1] هذه الجذبة المغناطيسيّة الحقيقيّة التي تكون نتيجتها وأثرها تحطيم قيود الطبيعة، والحدود الانفسيّة، والاتّجاه نحوعالم التجرّد والإطلاق، وأخيراً الفناء في الفعل والاسم والصفة والذات المقدّسة لمبدأ المبادي وغاية الغايات، وبقاء الموجود ببقاء المعبود، هذه الجذبة هي أعلی وأرقي من كلّ عمل يمكن تصوّره. جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الرَّحْمَنِ تُوازِي عِبَادَةَ الثَّقَلَيْنِ. [2] فالإنسان من أعماق ذاته وفطرته يدرك تحرّكه نحوكعبة المقصود وقبلة المعبود، ويسافر بقوّة الغريزة والفطرة الإلهيّة ويتّجه بكلّ وجوده نحوهذا الهدف، ولذا فعلی جميع أعضائه وجوارحه أن تشترك معاً في هذا السفر. فعالم الجسم والمادّة الذي هوطبعه، وعالم الذهن والمثال الذي هوبرزخه، وعالم العقل والنفس الذي هوحقيقته، كلّ هذه الاُمور، يجب أن تكون حاضرة في هذا السفر وتشارك فيه. يجب أن تكون وجهة البدن عند الصلاة نحوالكعبة في الركوع والسجود وسائر الافعال، والذهن مصوناً من الخواطر ومتّجهاً نحوسدرة المنتهي، والروح مستغرقة في أنوار حريم الحرم الإلهيّ، تذوب وتنصهر داخل حرم الحضرة الاحديّة الآمنة. ومن هنا يتبيّن أنَّ هؤلاء الذين اهتمّوا بالظاهر، واكتفوا من العبادات والاعمال الحسنة بالافعال الشكليّة، واقتنعوا بالقشور بدلاً من اللُّبّ والجوهر، كم هم بعيدون ـ كلّ البعد ـ عن كعبة المقصود وكم هم محرومون من جماله ولقائه. وكذلك الذين ارتكز جهدهم علی المعاني تاركين الاعمال الحسنة والعبادات الشرعيّة بعيدون عن متن الواقع، وقد اقتنعوا بالمجاز والوهم بدلاً من الحقيقة. أوَ ليس نور الله سارياً في تمام مظاهر عوالم الإمكان وجارٍ فيها ؟! فلماذا إذَن نعفي البدن من العبادة ونعطّل هذا العالم الجزئيّ من تجلّي الانوار الإلهيّة، ونكتفي بألفاظ الوصول واللبّ والقلب والعبادة القلبيّة ؟ أليست هذه عبادة من جانب واحد ؟ أَمَّا النَّمَطُ الاوْسَطُ والاُمَّةُ الوَسَط، فهم أُولئك الذين جمعوا بين الظاهر والباطن، وحملوا جميع درجات ومراتب وجودهم علی العبادة والانقياد لحضرة المحبوب، وتجهّزوا لهذا السفر الملكوتيّ. فجعلوا الظاهر عنواناً للباطن، والباطن روحاً وحقيقة للظاهر ومزجوا كليهما معاً كما يمتزج الحليب والسكّر، فمرادهم من الظاهر الوصول إلی الباطن وقد عدّوا الباطن بدون الظاهر هباءً منثوراً. اللَهُمَّ نَوِّرْ ظَاهِرِي بِطَاعَتِكَ، وَبَاطِنِي بِمَحَبَّتِكَ، وقَلْبِي بِمَعْرِفَتِكَ، وَرُوحِي بِمُشَاهَدَتِكَ، وَسِرِّي بِاسْتِقْلاَلِ اتِّصَالِ حَضْرَتِكَ، يَا ذَاالْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ. [3] ومن هنا يتّضح أنَّ الاقتصار علی العلوم الإلهيّة والذهنيّة والفكريّة، كتعلّم الفلسفة وتعلیمها من أجل تكامل النفس وطيّ مدارج ومعارج الكمال الإنسانيّ لن يكون كافياً بأيّ وجه من الوجوه. فترتيب القياس والبرهان علی أساس المنطق الصحيح والمقدّمات السليمة يُعطي الذهن نتيجة مقنعة، ولكنّه لا يُشبع الروح والقلب، ولا يُروي النفس من عطش الوصول إلی الحقائق وشهود دقائق السير. فالفلسفة والحكمة وإن كانت تتمتّع بالاصالة والمتانة، وتقوم علی إثبات أشرف العلوم الذهنيّة والفكريّة ـ ألاَ وهوالتوحيد ـ علی أساس البرهان، وتسدّ الطريق أمام الشكوك والشبهات، وعلی هذا الاساس كذلك أمر القرآن الكريم والراسخون في العلم علیهم الصلاة والسلام بالتعقّل والتفكّر وترتيب القياس والبرهان والمقدّمات الاستدلاليّة، ولكنّ الاكتفاء بالتوحيد الفلسفيّ والبرهان في مدرسة الاستدلال، دون انقياد القلب ووجدان الضمير وشهود الباطن هوأمر ناقص. فتجويع القلب والباطن من الاغذية الروحيّة والمعنويّة لعالم الغيب والانوار الملكوتيّة الجماليّة والجلاليّة، والاكتفاء بالسير في بواطن الكتب والمكتبات والدرس والتدريس، وحتّي إذا بلغ أعلی درجاته، ليس إلاّ إشباع لعضوٍ من الاعضاء وتجويع لعضوٍ أعلی وأرفع. فالدين القويم والصراط المستقيم يُراعي كلا الجانبين، ويُكمل القوي والقابليّات الكامنة في الإنسان في الحالين. فهو ـ من جانب ـ يحثّ ويُرَغِّبُ بالتعقّل والتفكّر، ومن جانب آخر يأمر بالإخلاص وتطهير القلب من صدأ الرواسب الشهوانيّة، وتهدئة القلب وطمأنة وتسكين الخاطر. فبعد أحد عشر قَسَماً عظيماً وجليلاً يقول تعالي : قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّيهَا * وقَدْ خَابَ مَن دَسَّـيهَا. [4] انظر إلی هذه الآيات القرآنيّة الكريمة التي تخاطب روح الإنسان، وتتكلّم مع باطنه، كيف تدعو المفكّرين والمدرّسين وأساتذة الفلسفة والاستدلال إلی التعبّد والمراقبة ومحاسبة النفس للإخلاص في العمل من أجل رضا الله، كما جاء علی لسان رسول الله صلّي الله علیه وآله : مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحَاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ إلَي لِسَانِهِ [5]، فينابيع المعارف الإلهيّة من قلوبهم متفجّرة، وعلی ألسنتهم سارية، وقد انبعث السيل الجارف من الافكار والإلهامات والواردات الرحمانيّة من عمق وجودهم. وقد حصل مثل هذا الانجذاب نحوالعبوديّة والعبادة وتطهير الباطن والتزكية لفخر فلاسفة الشرق بل فلاسفة العالم، صدر المتألّهين الشيرازيّ بعد قضاء عمره في الحكمة المتعالية إلی درجة أنـّه كتب بقلمه : «وإنّي لاَستَغفِرُ اللَهَ كثيراً ممّا ضَيَّعتُ شَطراً من عُمري في تَتَبُّعِ آراءِ المُتَفَلسِفةِ والمُجادِلينَ من أهلِ الكلامِ وتدقيقاتِهِم وتَعَلُّمِ جُرْبُزَتِهِم في القولِ وتفنُّنِهم في البحثِ حتَّي تَبَيَّنَ لي آخِرَ الامرِ بنورِ الإيمانِ وتأييدِ اللَهِ المنَّانِ أنَّ قياسَهُم عقيمٌ وصراطَهُم غيرُ مستقيم؛ فألقَينا زِمامَ أَمرِنا إلیهِ وإلی رسولهِ النَّذيرِ، فكلُّ ما بَلَغَنا منهُ آمَنَّا به وصَدَّقناهُ ولم نَحْتَلْ أَنْ نُخَيِّلَ له وجهاً عقليّاً ومسلكاً بحثيّاً، بلِ اقْتَدَينا بِهُداهُ وانْتَهينا بِنَهْيِهِ امْتِثالاً لقولِه تعالي : مَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، حتَّي فتحَ اللَهُ علی قلبِنا ما فَتَح فَأفْلَحَ ببركةِ متابعتِه وأَنجَح. [6] هذا الفقيه الكبير والمفكّر الجليل والفيلسوف البارز القدير الذي حصّل جميع هذه العلوم الحقّة في ظلّ علم العرفان وتهذيب النفس، وأدغمها جميعاً في أنوار الوجه الإلهيّ، وعيّن مرتبة كلّ علم في مكانه وموقعه، وجعل المقصود الاسمي هوالوصول إلی حرم الله الآمن، هذا العارف قد ربّي تلامذة، وقدّمهم إلی مدرسة العرفان، فكان كلّ واحد منهم نجماً في سماء الفضيلة والتوحيد، فأضاؤوا عالَماً وسطعوا في سمائه علی مدّ شعاع البصر والبصيرة. ومن جملتهم العارف الربّانيّ السيّد أحمد الطهرانيّ الكربلائيّ، وتلميذه فخر الفقهاء وجمال العرفاء الحاجّ الميرزا علیّ القاضي أعلی الله مقامهما الشريف. ثمّ إنَّ أُستاذنا فخر المفسّرين وسند المحقّقين العلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ مدّ الله ظلاله الوارفة، مع أنـّه قد سار في بداية حياته بجناحي العلم والعمل، وطوي الطريق في مدرستي الفلسفة والعرفان عند المرحوم القاضي، وأفني عمره في القياس والبرهان والخطابة وتقوية العلوم الفكريّة من «الإشارات» و«الاسفار» و«الشفاء» وحواشيها، مع الاشتغال الكامل بالخلوات الباطنيّة والاسرار الإلهيّة والمراقبات العرفانيّة، قد استقرّت راحلته أخيراً علی عتبة القرآن المقدّس، فانتهل من فيض الآيات القرآنيّة إلی درجة أصبح البحث والتفكير والقراءة والتمعّن والتفسير وتحليل وتأويل الآيات القرآنيّة عنده أعلی من كلّ ذكر وفكر، والتدبّر فيها ألذّ من كلّ قياس وبرهان، وكأنـّه لا يملك شيئاً سوي التعبّد المحض لمقام صاحب الشريعة الغرّاء وأوصيائه المكرّمين. وهذا صديقي المكرّم وسيّدي المعزّز الاشفق الاخ المرحوم آية الله الشيخ مرتضي المطهّريّ رضوان الله علیه الذي تمتدّ معرفتي به إلی أكثر من خمس وثلاثين سنة قد اكتشف بعد سنوات من البحث والدرس والتدريس والكتابة والخطابة والموعظة والتحقيق والتدقيق في الاُمور الفلسفيّة بذهنه الوقّاد ونفسه النقّادة أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يُحصِّل اطمئنان الخاطر وتهدئة السرّ دون الاتّصال بالباطن والارتباط بالله المنّان وإرواء القلب من منبع الفيوضات الربّانيّة، وبدونه لا يمكنه أبداً أن يدخل حرم الله المطهّر أويطوف حوله ويصل إلی كعبة المقصود. فتقدّم إلی هذا الميدان كالشمعة المحترقة الذائبة، والفراشة الهائمة حول السراج، كمؤمن رساليّ عاشق ولهان قد فُني في البحر اللامتناهي لذات المعبود وصفاته وأسمائه، فاتّسع وجوده بسعة وجود الله تعالي. فقيام الليالي الحالكة والبكاء والمناجاة في خلوة الاسحار، والتوغّل في الذكر والفكر والممارسة في دراسة القرآن والابتعاد عن أهل الدنيا والاتّصال بأهل الله وأوليائه، كلّ هذا كان مشهوداً في سيره وسلوكه رحمة الله علیه رحمةً واسعةً. لِمِثْلِ هَـ'ذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـ'مِلُونَ [7]؛ إِنَّ اللَهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ. [8] وقد طُلب قبل مدّة من هذا الحقير أن يكتب شيئاً في ذكري شهادته، وأنا الفقير الذي أري نفسي غير لائق حقّاً، لذلك اعتذرت أوّل الامر لكثرة المشاغل وتراكم الاعمال. وأخيراً وبعد المراجعة المتكرّرة أعطتني روح هذا الصديق العزيز الغالي مدداً لاُحرِّر هذا المختصر بعنوان مقدّمة لرسالة كتبتها في السير والسلوك، وأهديتها لروح المرحوم، وجعلتها في متناول أيدي طالبي الحقّ وسالكي سبل السلام وطريق الحقيقة. بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الاُمُورِ وَبِهِ أَسْتَعِينُ. وأصل هذه الرسالة أُسّ ومخّ أوّل دورة من الدروس الاخلاقيّة والعرفانيّة التي ألقاها أُستاذنا المعظّم العلاّمة الطباطبائيّ روحي فداه في سنتي ألف وثلاثمائة وثمان وستّين، وتسع وستّين هجريّة قمريّة في حوزة قمّ المقدّسة علی بعض الطلبة فحرّرتها كتقريرات لدروسه، وكنت أعتبر أنَّ قراءتها والمرور علیها في أوقات الشدّة والكدورة والتعب موجب لتنوير الروح وتلطيف النفس. فهذه دورة مررت علیها بالتنقيحات والإضافات أهدي ثوابها إلی روح الفقيد السعيد المطهّريّ أعلی الله مقامه الشريف. اللَهُمَّ احْشُرْهُ مَعَ أَوْلِيَائِكَ المُقَرَّبِينَ، وَاخْلُف عَلَي عَقِبِهِ فِي الغَابِرِينَ وَاجْعَلْهُ مِنْ رُفَقَاءِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْحَمْهُ وإيَّانَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّي اللَهُ عَلَي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَي أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ
وبعدُ؛ قالَ اللَهُ العَلِيُّ العَظِيمُ : سَنُرِيهِمْ ءَايَـ'تِنَا فِي الاْفَاقِ وَفِي´ أَنفُسِهِمْ حَتَّي' يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنـَّهُ الْحَقُّ أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنـَّهُ و عَلَي' كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلآ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلآ إِنَّهُ و بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ. [9] چه مبارك سحري بود وچه فرخنده شبي آن شب قدر كه اين تازه براتم دادند بي خود از شعشعة پرتو ذاتم كردند باده از جام تجلّي صفاتم دادند [10] يعيش الإنسان المادّيّ في صحراء المادّيّة المظلمة غارقاً في بحر الشهوات والكثرات اللامتناهية، ووسط أمواج العلائق المادّيّة التي تتقاذفه من كلّ جانب وفي كلّ آن، فما أن يفيق من لطمات الامواج وصدماتها حتّي تأتي أمواجٌ أعتي وقد نبعت من التعلّق بالمال والثروة والنساء والاولاد، فتصفعه الامواج علی وجهه صفعات متوالية حتّي يغوص في قعرها، ويغرق في ذلك اليمّ العميق المهول بحيث لن تسمع بعد ذلك استغاثاته وصرخاته للنجدة. لا يلتفت إلی جهة إلاّ ووجد الحرمان والحسرة اللتين هما من الآثار واللوازم التي لاتفارق المادّة القابلة للفساد تهدّدانه وترعبانه. السير والسلوك في اصطلاح العرفاءوفي هذا الخضم قد يلاطفه نسيم علیل باسم الجذبة، ويجد وكأنَّ هذا النسيم العطوف الودود يسحبه جانباً ويسوقه إلی مقصد ما، إلاّ أنَّ هذا النسيم لا يدوم هبوبه، فهويهبّ من حين إلی آخر. وَإنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلاَ فَتَعَرَّضُوا لَهَا وَلاَ تُعْرِضُوا عَنْهَا. [11] في هذه الحال يهمّ السالك بالسفر إلی الله، ويقرّر تبعاً لتأثير هذه الجذبة الإلهيّة أن يعبر عالم الكثرة، ويشدّ بكلّ ما يمكنه عنان السفر ليخلّص نفسه من هذه الغوغائيّة المليئة بالآلام والاضطرابات، ويُسمّي هذا السفر في اصطلاح العارفين وعرفهم بالسير والسلوك. فالسلوك هوطيّ الطريق، والسير هومشاهدة آثار وخصائص المنازل والمراحل أثناء ذلك الطريق. وزادُ هذا السفر الروحانيّ هوالمجاهدة والرياضة النفسانيّة ولانَّ قطع علائق المادّة صعب جدّاً، يتمّ التخلّص من وشائج عالم الكثرة بالتدريج حتّي يتمّ السفر من عالم الطبع. مزاحمة عالم الخیال و البرزخ للسالکولا ينفض السالك عن نفسه غبار الطريق حتّي يدخل عالم البرزخ الذي هوالكثرة النفسيّة، فيشاهد هنا بوضوح كم أودعت المادّة والكثرات الخارجيّة من ذخائر داخل بيت طبعه، وهي تلك الموجودات الخياليّة النفسانيّة التي نشأت من التعامل والاحتكاك بالكثرات الخارجيّة، وصارت جزءاً من آثارها وثمارها ومواليدها. وهذه الخيالات تقف مانعاً وعائقاً من سفره، وسبباً لافتقاده للهدوء والسكينة، فلا يختلي السالك بنفسه مناجياً الله تعالي إلاّ وهجمت علیه فجأة كالسيل الهادر قاصدة إهلاكه. جان همه روز از لگد كوب خيال وز زيان وسود واز بيم زوال ني صفا ميماندش ني لطف وفرّ ني به سوي آسمان راه سفر [12] وبديهيّ أنَّ الصدمة والعذاب الناشئين من الكثرات النفسيّة أقوي منهما في الكثرات الخارجيّة، فكم من إنسان استطاع بإرادته أن يبتعد عن مقابلة الكثرات الخارجيّة بالعزلة، ولكنّه بهذه الوسيلة لم يتمكن من أن يتخلّص من عذاب وصدمة الخيالات النفسيّة، لانّها قرينته ومجاورة له علی الدوام. إنَّ المسافر في طريق الله والخلوص والعبوديّة الحقّة لا يخاف من هؤلاء الاعداء؛ فهويشمّر ساعد الهمّة مستعيناً بتلك النغمة القدسيّة ليتقدّم نحوالمقصد ويخرج من عالم الخيالات المسمّي ب «البرزخ». ويجب أن يكون السالك حذراً جدّاً ومتيقّظاً حتّي لا يبقي شيء من هذه الخيالات في زوايا بيت القلب، لانَّ دأب هذه الموجودات الخياليّة أن تخبّي نفسها عندما يُراد إخراجها في زاوية مظلمة من زوايا القلب بحيث يظنّ السالك المنخدع أنـّه قد تخلّص من شرّها، ولم يبقَ فيه شيء من بقايا عالم البرزخ، ولكن ما أن يجد المسافر طريقه إلی نبع الحياة يريد أن يرتوي من عيون الحكمة حتّي تنصبّ علیه فجأة، شاهرة سيف القهر والجفاء فتقضي علیه. مَثَلُ هذا السالك مَثَلُ من يصبّ الماء في حوض بيته، ويتركه مدّة لا يلمسه حتّي تترسّب كلّ الاوساخ فيظهر الماء في الحوض صافياً فيظنّ أنَّ هذا الصفاء وهذه الطهارة الحاصلة دائمة، ولكن بمجرّد إرادته الغوص أوتطهير شيء بالحوض تعود تلك الاوساخ لتلوّث هذا الماء الصافي وتظهر علی سطحه بشكل قطع سوداء. فينبغي للسالك أن يستمرّ بالمجاهدة والرياضة إلی أن يحصل علی هدوء البال واستقرار الخاطر حتّي تترسّب آثار الخيال في ذهنه وتتحجّر ولا تستطيع أن تقوم مجدّداً لتشوّش ذهنه حين التوجّه إلی المعبود. وحينما يعبر السالك من عالم الطبع والبرزخ إلی عالم الروح يطوي عدّة مراحل سوف نتحدّث عنها إن شاء الله تعالي بالتفصيل. آخِر مرحلة السلوك الفناء في الذات الاحديّةوإجمالاً، فإنَّ السالك بعد أن يوفّق لمشاهدة نفسه والصفات والاسماء الإلهيّة شيئاً فشيئاً يصل إلی مرحلة الفناء الكلّيّ، ثمّ يصل بعدها إلی مقام البقاء بالمعبود، وعندها تثبت له الحياة الابديّة. هرگز نميرد آنكه دلش زنده شد به عشق ثبت است در جريدة عالم دوام ما [13] وبالتأمّل والتدبّر في الآيات القرآنيّة الكريمة يُصبح هذا الاصل أمراً مسلّماً، وحاصله أنَّ الله تعالي يقول في إحدي آياته الكريمة : وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَهِ أَمْوَ 'تًا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. [14] ويقول في مكان آخر : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ. [15] وأيضاً : مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقٍ. [16] بضمّ هذه الآيات بعضها إلی بعض، يتّضح أنَّ أُولئك الاحياء والمرزوقين هم عبارة عن وجه الله الذي ـ بنصّ الآية الكريمة ـ لا يعرف الفناء والزوال. ومن جانب آخر يُعلم من الآيات القرآنيّة الاُخري، أنَّ المراد من وجه الله تعالي والذي لا يقبل الزوال هوتلك الاسماء الإلهيّة. وبيان ذلك : أنـّه قد فسّر في آية أُخري وجه الله الذي لا يزول ولا يفني بأسمائه تعالي التي تترتّب علیها صفات العزّة والجلال : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويَبْقَي' وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَـ'لِ وَالإكْرَامِ. [17] فقد اتّفق المفسّرون علی أنَّ كلمة «ذو» صفة ل «وجه» أي أنَّ وجه ربّك الذي هو ذوالجلال والإكرام باقٍ، وكما نعلم فإنَّ وجه كلّ شيء هوما تحصل المواجهة به، فوجه أيّ شيء مظهر له، والمظاهر هي تلك الاسماء الإلهيّة التي يواجه الله مخلوقاته بها والنتيجة أنَّ كلّ الموجودات قابلة للزوال والفناء إلاّ الاسماء الجلاليّة والجماليّة، وهكذا يُعلَم أنَّ السالكين إلی الله الذين وصلوا إلی فيض سعادة بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ هم عبارة عن الاسماء الجلاليّة لحضرة الربّ جلّ وعزّ. ويُعلم أيضاً بوضوح مراد الائمّة الاطهار علیهم السلام من قولهم: نَحْنُ أَسْمَاءُ اللَهِ [18]، وليس المقام الذي يصفون أنفسهم به هومقام الحكومة الظاهريّة الاجتماعيّة، وتولّي الاُمور الشرعيّة والاحكام الإلهيّة الظاهريّة. بل المراد ذلك الفناء في الذات الاحديّة الذي يتلازم مع وجه الله وصيرورته مظهراً تامّاً للصفات الجماليّة والجلاليّة الذي لا يقارن بأيّ منصب ومقام. وفي طريق السير تكون المُراقَبَة من أهمّ الاُمور وهي في حكم ضرورة من ضروريّاته. فينبغي للسالك أن لا يخلي نفسه دون مراقبتها منذ أن يضع قدمه الاُولي في الطريق وحتّي آخره، فهي من الضرورات المؤكّدة. وليعلم أنَّ المراقبة درجات ومراتب، فمنها ما يناسب المراحل الاوّليّة، ومنها ما يناسب المراحل التي تليها. فكلّما سار نحوالكمال وطوي المراحل والمنازل أصبحت مراقبته أدقّ وأعمق بحيث لوحُمّلت تلك الدرجات من المراقبة علی السالك المبتدي لن يستطيع القيام بها، بل يترك السلوك فوراً ويهجره أويحترق ويهلك، ولكن شيئاً فشيئاً علی أثر المراقبة في الدرجات الاوّليّة والتقوي في السلوك يمكنه أن يصل إلی المراتب العالية من المراقبة في المراحل التالية، وعندها فإنَّ الكثير من المباحات التي كانت له في المراحل الاوّليّة تصبح حراماً وممنوعة علیه. آثار المراقبة في وجود السالكوعلی أثر المراقبة الشديدة والاهتمام بها تسطع أنوار الحبّ والعشق في ضمير السالك؛ لانَّ حبّ الجمال والكمال لدي الإنسان أمر فطريّ علی الإطلاق، وقد خمر في جبلّته وأُودع في ذاته، إلاّ أنَّ حبّ المادّة والتعلّق بالكثرات يصبح حجاباً للعشق الفطريّ فلا يدع هذا النور الازليّ يظهر فيه. وبالمراقبة تضعف هذه الحجب شيئاً فشيئاً إلی أن تزول في النهاية، فيظهر ذلك الحبّ والعشق الفطريّ ليقود الإنسان إلی مبدأ الجمال والكمال. ويعبّر عن هذه المراقبة في اصطلاح العارفين بـ«مِي» (المدام والخمر). به پير ميكده گفتم كه چيست راه نجات بخواست جام «مي» وگفت راز پوشيدن [19] * * * راه خلوتگه خاصَم بنما تا پس از اين «مي» خورم با تو و ديگر غم دنيا نخورم [20] عندما يواظب السالك علی المراقبة، يُظهر الله سبحانه تعالي علیه من باب العطف والرأفة أنواراً بعنوان الطلائع، في بداية الامر تظهر هذه الانورا مثل البرق لتختفي فجأة، ثمّ تقوي شيئاً فشيئاً حتّي تصبح مثل النجمة الصغيرة المتلالئة، ثمّ تقوي لتصبح مثل القمر، وبعدها تظهر كالشمس الساطعة، وأحياناً مثل ضوء مصباح أوقنديل مشتعل. وهذه الانوار تُسمّي في اصطلاح العارفين بـ «النوم العرفانيّ»، وهي من قبيل الموجودات البرزخيّة. مشاهدة السالك نفسه في مختلف مراحل التجرّدوحينما يترقّي السالك في مراتب المراقبة لتكتمل عنده مراحلها تُصبح هذه الانوار أقوي، فيري السالك كلّ السماء والارض شرقاً وغرباً دفعة واحدة مضيئة مشرقة، هذا النور هونور النفس الذي يسطع حين العبور من عالم البرزخ. لكن في المراحل الاُولي للعبور عند ابتداء ظهور التجلّيات النفسيّة يشاهد السالك نفسه بصورة مادّيّة، وبعبارة أُخري قد يلاحظ نفسه وكأنّها واقفة أمامه، وهذه المرحلة هي مرحلة ابتداء التجرّد. يقول المرحوم الاُستاذ العلاّمة القاضي رضوان الله علیه : «خرجت من غرفتي يوماً متخطّياً ممرّ البيت، فرأيت نفسي واقفة بسكون إلی جانبي، فنظرت إلیها بدقّة متناهية فرأيت في وجهي خالاً لم ألحظه من قبل، وعندما دخلت إلی الغرفة ونظرت في المرآة، رأيت فعلاً أنـّه كان يوجد في وجهي خال. ولم أكن حتّي ذلك الوقت ملتفتاً إلیه». وأحياناً يشعر السالك أنـّه قد أضاع نفسه، ومهما بحث عنها لا يستطيع العثور علیها، ويقال إنَّ هذه المشاهدات تقع في المراحل الابتدائيّة لتجرّد النفس، وهذه (المراحل) مقيّدة بالزمان والمكان، وفيما بعد ـ وببركة التوفيقات الإلهيّة ـ يستطيع السالك أن يري حقيقة نفسه بتجرّدها التامّ والكامل. وينقل عن المرحوم الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ رضوان الله علیه، الذي كان تلميذاً ملازماً لاُستاذ العرفان والتوحيد المرحوم المولي حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله علیه مدّة أربع عشرة سنة، أنـّه قال : «ذات يوم قال لي الاُستاذ : أَوكَلْتُ مهمّة تربية التلميذ الفلانيّ إلیك، وكان ذلك التلميذ يملك همّة عالية وعزماً راسخاً، فقضي ستّ سنوات في المراقبة والمجاهدة حتّي وصل إلی مقام القابليّة المحضة للإدراك وتجرّد النفس، فأردتُ أن ينال هذا السالك طريق السعادة وهذا الفيض علی يد الاُستاذ ويكتسي بهذه الخلعة الإلهيّة، فأحضرته إلی بيت الاُستاذ، وبعد عرض الامر علیه قال الاُستاذ : ليس هذا بشيء، ثمّ أشار بيده وقال : التجرّد مثل هذا فقال ذلك التلميذ : رأيت أنـّني فصلت عن جسدي فوراً، وشاهدت إلی جانبي موجوداً مثلي». وليعلم أنَّ شهود الموجودات البرزخيّة ليس له ذلك القدر من الشرافة، بل الشرافة في رؤية النفس في عين التجرّد التامّ والكامل؛ لانَّ النفس في هذه الحال تسطع بتمام حقيقتها المجرّدة فتُشاهد بصورة موجودة لم يحدّها زمان ولا مكان، بل تحيط بمشرق العالم ومغربه، وهذا الشهود ـ علی خلاف شهود المراحل الاُولي ـ ليس جزئيّاً، وإنـَّما هومن قبيل إدراك المعاني الكلّيّة. نُقِلَ عن المرحوم السيّد أحمد الكربلائيّ رضوان الله علیه الذي كان من تلامذة المرحوم الهمدانيّ البارزين، أنـّه قال : «كنت ذات يوم أستريح في مكان ما، فأيقظني شخص وقال : إذا أردت أن تشاهد نور الاسفهبديّة فقم من مكانك، وعندما فتحت عيني رأيت نوراً ليس له حدّ أوحدود، يحيط بمشرق العالم ومغربه». اللَهُمَّ ارْزُقْنَا. وهذه هي مرحلة تجلّي النفس التي تشاهد بتلك الصورة علی هيئة نور غير محدود. وبعد عبور هذه المرحلة يوفّق السالك السعيد ـ علی إثر الاهتمام بالمراقبة المتناسبة مع العوالم العلويّة ومقتضيات تلك المنازل والمراحل ـ لمشاهدة صفات الباري تعالي، أو إدراك أسماء الذات المقدّسة بنحوكلّيّ. وكم يحدث في هذه الحال أن ينتبه السالك فجأة إلی أنَّ جميع موجودات هذا العالم هي علم واحد، أوأنّه لا يوجد أبداً غير قدرة واحدة؛ هذا في مرحلة شهود الصفات، أمّا في مرحلة شهود الاسماء والتي هي أرفع درجة منها، يُلاحِظ السالك أنَّ الموجود في كلّ العوالم، عالم واحد وقادر واحد وحيّ واحد. وممّا لا شكّ فيه أنَّ هذه المرحلة هي أشرف وأكمل من مرحلة إدراك الصفات التي توجد في مرتبة القلب؛ «لاَنَّ السَّالِكَ يُصْبِحُ وَلاَيَرَي قَادِراً ولاَ عَالِماً ولاَ حَيّاً سِوَي اللَهِ تَعَالَي». وهذا الشهود غالباً ما يظهر في حال تلاوة القرآن. فكثيراً ما يتسنّي للقاري أن لا يري نفسه قارئاً، بل إنَّ القاري شخص آخر، وقد يدرك أحياناً أنَّ المستمع أيضاً كان شخصاً آخر. واعلم أنَّ لقراءة القرآن في حصول هذا الامر تأثيراً كبيراً جدّاً، ويحسن أن يقرأ السالك حين الاشتغال بصلاة الليل سور العزائم؛ لانَّ السجود للّه فجأة من حال القيام لا يخلومن اللطف. وقد ثبت بالتجربة أنَّ قراءة السورة المباركة «ص» في ركعة الوتر من صلاة الليل ليلة الجمعة مؤثّر جدّاً، وفائدة هذه السورة تُعلم من الرواية التي وردت بشأن ثوابها. وحين يطوي السالك هذه المراحل بالتوفيق الإلهيّ، ويوفّق للمشاهدات القدسيّة، سوف تحيط به الجذبات الإلهيّة لتقرّبه في كلّ آن إلی الفناء الحقيقيّ، إلی أن تحيط به أخيراً الجذبة التي تجعله متوجّهاً إلی الجمال والكمال المطلق، فيشتعل وجوده الخاصّ وكلّ عالم الوجود في عينيه بأنوار الطلعة البهيّة للمعشوق، فلا يري أثراً لسواه، كَانَ اللَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ. [21] في هذه الحال يتخطّي السالك وادي الهجران ليستغرق في بحر مشاهدات الذات الربوبيّة اللامتناهي. ولا يخفي أنَّ سير السالك وسلوكه لا يتنافي مع وجوده في عالم المادّة، فإنَّ بساط الكثرة الخارجيّة يبقي علی حاله، ليحيا السالك في الوحدة مع عين الكثرة. قال أحدهم : بقيت بين الناس ثلاثين عاماً كانوا يظنّونني معهم ومراوداً لهم، والحال أنـّني خلال تلك المدّة لم أكن أعرف ولا أري منهم أحداً سوي الله. «الحال» شهود النفس و«البقاء بالمعبود» بعد الفناء الكلّيّهذه الحالة مهمّة جدّاً، وتحوز علی أهمّيّة عظيمة، فمن الممكن أن تظهر في البداية وللحظة واحدة، ولكن شيئاً فشيئاً تشتدّ لِتَصِلَ إلی عشر دقائق أوأكثر، ثمّ ساعة أوأكثر، لتنتقل بعدها بالعناية الإلهيّة من الحال العابر إلی المقام. ويُعبّر عن هذه الحالة في الاخبار وعلی لسان العظماء بـ البقاء بالمعبود، ولا يمكن الوصول إلی هذه المرتبة من الكمال إلاّ بعد حصول الفناء الكلّيّ لعالَم الإمكان في حقيقة الوجود الإلهيّ، وعندها لن يري السالك شيئاً سوي الذات الإلهيّة المقدّسة. كُتِبَ أنـّه : «طُلِبَ من أحد المنجذبين بالجذبة الإلهيّة ويُدعي بابا فرج الله المجذوب أن يصف الدنيا، فقال : مذ فتحتُ عينَيّ لم أرَ الدنيا حتّي أصفها لكم». [22] ويعبّر عن هذا الشهود الابتدائيّ الذي لم يقوَحتّي ذاك الوقت ب «الحال»، ويكون السالك فيه غير مختار، ولكن علی إثر شدّة المراقبة والعناية الإلهيّة ينتقل السالك إلی «المقام»، ويُصبح هنالك مختاراً. ومن البديهيّ أنَّ السالك القويّ هوالذي يكون في عين شهود هذه الاحوال متوجّهاً إلی عالم الكثرة، ويدير كلا العالمين، وهذه المرتبة رفيعة جدّاً والوصول إلیها في غاية الصعوبة، ولعلّها تختصّ بالانبياء والاولياء ومن اختاره الله تعالي، فهؤلاء في عين الاشتغال بنعمة لِي مَعَ اللَهِ حَالاَتٌ لاَ يَسَعُهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ [23]، تظهر منهم جلوات وتجلّيات أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. [24] وإذا قيل : إنَّ هذه المناصب اختصاصيّة، والوصول إلی هذه الذروة من المعارف الإلهيّة منحصر بالانبياء والائمّة المعصومين علیهم السلام، وإنَّ الآخرين ليس بإمكانهم الوصول إلی هذا الطريق أبداً. الوصول لمقام التوحيد المطلق مُيَسَّر للجميعنقول : إنَّ منصب النبوّة والإمامة أمر اختصاصيّ، ولكنَّ الوصول إلی مقام التوحيد المطلق والفناء في الذات الاحديّة الذي يُعبَّر عنه بالولاية ليس أمراً اختصاصيّاً أبداً، ودعوة الانبياء والائمّة علیهم السلام أُممهم إلی هذه المرحلة من الكمال، ودعوة رسولالله صلّي الله علیه وآله وسلّم أُمّته إلی اقتفاء آثار مسيره حيثما سار، خير دليل علی إمكان السير إلی ذلك المقصد، وإلاّ لزم أن تكون الدعوة لغواً. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَهَ كَثِيرًا. [25] روي عن طريق العامّة، عن رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم أنـّه قال : لَولاَ تَكْثِيرٌ فِي كَلاَمِكُمْ، وَتَمْرِيجٌ في قُلُوبِكُمْ لَرَأَيْتُمْ مَا أَرَي، وَلَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ. هذا الحديث يبيّن بوضوح سبب عدم الوصول إلی الكمالات الإنسانيّة، وهذا السبب هوالخيال الشيطانيّ الباطل، والافعال العابثة اللاغية. وروي أيضاً عن طريق الخاصّة : لَولاَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ حَوْلَ قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَرَأَوْا مَلَكُوتَ السَّمَـ'وَاتِ والاْرْضِ. [26] ومن جملة آثار تلك المرتبة الإنسانيّة العالية : الإحاطة الكلّيّة ـ بقدر الاستعدادات الإمكانيّة ـ بالعوالم الإلهيّة، ونتيجة هذه الإحاطة الاطّلاع علی الماضي والمستقبل والتصرّف في موادّ الكائنات، إذ للمحيط غاية التسلّط علی المحاط علیه، فهومرافق للجميع، وحاضر في كلّ مكان. يقول أحد العارفين وهو الشيخ عبدالكريم الجيليّ في كتابه « الإنسان الكامل » : «أذكر مرّة عرضت لي حالة في فترة مرّت كلمح البصر وجدت نفسي خلالها متّحدة مع جميع الموجودات بحيث كنت أراها جميعاً حاضرة لديّ عياناً، ولكنَّ هذه الحال لم تستمرّ لاكثر من لحظة». والمانع من دوام استمرار هذا الحال هوالاشتغال بأُمور البدن، وأنَّ حصول كلّ هذه المراتب متوقّف علی ترك تدبير البدن. يقول أحد عرفاء الهند واسمه الشيخ وليّ الله الدهلويّ في كتابه «الهمعات» : أَطلعوني علی أنَّ التخلّص من آثار النشأة المادّيّة يحصل بعد مرور خمسمائة عام علی اجتياز عالم المادّة والموت، وهذه المدّة مطابقة لنصف يوم من الايّام الربوبيّة، لقوله عزّ من قائلٍ : وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. [27] ومعلوم أنَّ سائر درجات وفيوضات هذا العالم بلا حدّ ولا نهاية، ثمّ لمّا كانت الالفاظ توضع للمعاني علی أساس الاحتياجات البشريّة فتتّسع بمقدار اتّساعها، لذا لم يكن من الممكن بيان الحقائق والانوار المجرّدة لعالم الربوبيّة بالالفاظ، وكلّ ما قيل فيها لا يعدوكونه إشارة أوكناية ليس بمقدورها إنزال تلك الحقائق إلی مستوي الافهام. فالإنسان المادّيّ باعتبار أنـّه يحيا في أظْلَمِ العَوَالِمِ الإلهيّة كما تصرّح بذلك بعض الاخبار : «أنت في أظلم العوالم» لا يضع الالفاظ إلاّ لما يقع علی بصره أوتناله يده ممّا يدخل في إطار حاجاته اليوميّة، أمّا سائر العوالم والتعلّقات والتشعشعات والانوار والارواح التي لا علم له بها فلا يضع لها ألفاظاً، فلا يوجد ـ بناءً علی ذلك ـ لغة في العالم يتسنّي لها التحدّث عن هذه المعاني السامية، فكيف يمكن إذَن توصيف هذه المعاني وبيانها ؟ مشكل عشق نه در حوصلة دانش ماست حلّ اين نكته بدين فكر خطا نتوان كرد [28] والذين تحدّثوا عن هذه الحقائق طائفتان، هما : الاُولي : الانبياء الكرام علیهم السلام، حيث ولا شكّ كانت لهم رابطة مع عوالم ماوراء المادّة، ولكنّهم بحكم الحديث القائل : نَحْنُ مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَي قَدْرِ عُقُولِهِمْ [29] اضطرّوا أن يعبّروا عن هذه الحقائق تعبيراً قابلاً لإدراك عامّة الناس له؛ ولهذا غضّوا النظر عن بيان الحقائق النورانيّة والغاية الساطعة، ولم يفصحوا عن تبيان ما لا يخطر علی قلب بشر، وكانوا يعبّرون عن حقيقة مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَي قَلْبِ بَشَرٍ [30] بتعابير مثل الجنّة والحور والقصور وغيرها، ولهذا اعترفوا في النهاية بأنَّ حقائق تلك العوالم لا يحدّها وصف ولا يسعها بيان. الثانية : طائفة من الناس كان نصيبهم ـ من خلال متابعة طريق الانبياء ـ التشرّف بإدراك هذه الحقائق والفيوضات بقدر اختلاف استعداداتهم، وقد كان كلامهم تحت ستار الاستعارة والتمثيل. مقاما الخلوص والإخلاصعالم الخلوص والإخلاص وليعلم أنَّ الوصول إلی هذه المقامات والدرجات لا يمكن أن يتحقّق دون الإخلاص في سبيل الحقّ، ومادام السالك لم يصل إلی منزلة المخلَصين، فلن يتمّ له كشف الحقيقة كما ينبغي. واعلم أنَّ الإخلاص والخلوص علی قسمين : الاوّل: خلوص الدين والطاعة للّه تعالي. الثاني : خلوص النفس له تعالي. يدلّ علی الاوّل الآية الكريمة : وَمَآ أُمِرُو´ا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.[31] وعلی الثانية الآية الشريفة : إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ.[32] والحديث النبويّ المشهور : مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحَاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ إلَي لِسَانِهِ، أي أنَّ الذي يصل إلی هذه المرحلة هو ذاك الذي أخلص نفسه للّه تعالي. وتوضيح هذا الإجمال أنَّ الله تعالي كما أسند الصلاح في القرآن الكريم وفي بعض المواضع إلی العمل، كقوله تعالي : مَنْ عَمِلَ صَـ'لِحًا [33]، أو عَمِلَ عَمَلاً صَـ'لِحًا [34]، أو الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ [35]، وفي بعض المواضع أسند ذلك أيضاً إلی ذات الإنسان، كقوله تعالي : إِنَّهُ و مِنَ الصَّـ'لِحِينَ [36]، أو صَـ'لِحُ الْمُؤْمِنِينَ [37] كذلك اعتبر أنَّ الإخلاص والخلوص يستند إلی العمل أحياناً وقد نسبه إلیه، وأحياناً يستند إلی الذات. وبديهيّ أنَّ تَحَقُّقَ الإخلاص في مرتبة الذات متوقّف علی الإخلاص في مرتبة العمل أي أنَّ الذي لم يُخلِص في أعماله وأفعاله وأقواله وفي سكناته لن يصل إلی مرحلة الإخلاص الذاتيّ؛ قال عزّ من قائل : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـ'لِحُ يَرْفَعُهُ [38]، بإرجاعه الضمير المستتر الفاعل في «يرفع» إلی «العمل الصالح» إذ يصبح المعني «العَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ الكَلِمَ الطَّيِّبَ». واعلم أنَّ الذي يصل إلی مرحلة الخلوص الذاتيّ وينال هذا الفيض العظيم، سوف تكون له آثار وخصائص ليست من نصيب الآخرين، منها : آثار وخصوصيّات مقام الإخلاصالاوّل : ما نصّت علیه بعض الآيات من عدم تسلّط الشيطان علیه، كقوله تعالي : فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [39]، وممّا لا ريب فيه أنَّ هذا الاستثناء للمخلصين ليس تشريعيّاً، وإنَّما هوأثر طبيعيّ لاقتدارهم الذاتيّ في مقام التوحيد؛ حيث لا يعود للشيطان قدرة علی إغوائهم، وبسبب ضعفه وعجزه لا يستطيع أن يصل إلیهم في هذه المرحلة؛ ولانـّهم أخلصوا أنفسهم للّه يرون الله في كلّ ما تقع علیه أبصارهم، وإذا بدا لهم الشيطان بأيّ شكل أوهيئة، تراهم ينظرون إلی هذه الهيئة بالنظر الإلهيّ ليغترفوا منها فيضاً إلهيّاً، لهذا اعترف الشيطان منذ البداية بالعجز عن التأثير في هذه الطائفة، ولم يكن ذلك منه مُحاباةً لهم أوترحّماً علیهم، إذ لا غاية له سوي الغواية والإضلال. الثاني : أنَّ هذه الطائفة معفوّة من حساب يوم الحشر الآفاقيّ والوقوف في عرصاته، وقد جاء في القرآن الكريم : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَـ'واتِ وَمَن فِي الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَهُ. [40] فيعلم من هذه الآية الكريمة ـ بشكل قطعيّ ـ وجود جماعة تأمن صعقة يوم القيامة وفزعه، وإذا ضممنا إلیها الآية الشريفة : فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ [41]، يتّضح أنَّ الطائفة التي هي في أمان من صعقة يوم القيامة هي «عباد الله المخلصين»؛ لانـّه ليس لهؤلاء أعمال توجب حضورهم في عرصة يوم القيامة، فهم قد قتلوا في ساحات جهاد النفس وترويضها بالمراقبة والعبادات الشرعيّة، وتعلّقوا بالحياة الابديّة بعد ما اجتازوا القيامة الانفسيّة العظمي، وقد تمّ حسابهم خلال فترة المجاهدة، فجلّلوا بعد نيلهم شرف القتل في سبيل الله بخلعة الحياة الابديّة، لينعموا بفيض الخزائن الربوبيّة؛ قال عزّ من قائلٍ : ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَهِ أَمْوَ 'تًا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. [42] يضاف إلی ما تقدّم أنَّ الإحضار ينشأ من عدم الحضور، فهم قبل ظهور القيامة كانوا حاضرين في كلّ مكان، ومطّلعين علی كلّ الاحوال؛ لقوله تعالي : عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. الثالث : أنَّ كلّ ما يعطي للإنسان من ثواب وأجر يوم القيامة سوف يكون مقابل ما عمله إلاّ هذه الطائفة من الناس تتعدّي الكرامة الإلهيّة لهم حدود أجر العمل المعهود : وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ. [43] ولوقيل : إنَّ مفاد هذه الآية هوأنَّ المعذّبين يجزون بحسب أعمالهم، أمّا عباد الله المخلَصين فلن يكون جزاؤهم بحسب أعمالهم، بل الله المنّان سوف يعطيهم بفضله وكرمه. نقول : إنَّ في الآية إطلاق، فلا يختصّ الخطاب فيها بفئة المعذّبين، يضاف إلی ذلك أنَّ مجازاة العباد بالفضل والكرم الإلهيّ لا يتنافي مع الجزاء الذي يقابل العمل، وإن كان معني الفضل هو أنَّ الله المنّان يعطي الاجر العظيم في قبال العمل الصغير، فيعدُّ تعالي العمل الصغير كبيراً، ولكن مع هذا كلّه يبقي الجزاء واقعاً في قبال العمل، في حين أنَّ الآية الكريمة تصرّح بأنَّ جزاء المخلَصين غير هذا؛ ومفادها : أنَّ عبادالله المخلَصين لا ينالون الجزاء مقابل العمل أبداً، وجاء في آية أُخري : لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ. [44] فكلّ ما تتعلّق به مشيئتهم يتاح لهم وزيادة علیه، يتّضح من هذا أنـّهم يُعطون من الكرامات الإلهيّة فوق ما تتعلّق به الإرادة والمشيئة، وأعلی من مستوي التصوّر، وأعلی مستوي من فضاء تحليق طائر اختيارهم وإرادتهم. ولهذه المسألة دقائق جديرة بالانتباه. الرابع : أنَّ لهؤلاء المقام المنيع والمنصب الرفيع والمرتبة العظيمة التي يستطيعون فيها أداء الحمد والشكر والثناء للذات الاحديّة كما هولائق بالذات المقدّسة، قال عزّ من قائل : سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ. [45] وهذه غاية كمال المخلوق، ومنتهي الدرجة الممكنة. لزوم قطع علاقة السالك من عالم الكثرةمن مجموع البيانات السابقة نري قدر مميّزات المراحل الاخيرة للسلوك التي هي مقام المخلَصين، وكم هي الفيوضات التي تترتّب علیها؛ ولكن ينبغي أن يعلم أنَّ الوصول إلی هذه الكمالات وتحصيل هذه الحقائق لا يتيسّر إلاّ لمن يُقتَل في ميدان الجهاد في سبيل الله، ولا يرتوي من تلك الفيوضات الإلهيّة إلاّ مَن انتهل من كأس الشهادة. والمراد من القتل : قطع علاقة الروح بالبدن ومتعلّقاته، وكما يقطع الشهيد في معركة القتال علاقة روحه ببدنه بواسطة السيف الظاهريّ كذلك سالك طريق الله ينبغي أن يقطع ـ بواسطة الاستمداد من القوي الرحمانيّة ـ علاقة روحه عن البدن ومتعلّقاته بالسيف الباطنيّ في ميدان جهاد النفس الامّارة. وعلی السالك في بداية السلوك إلی الله أن يقطع وشائج التعلّق بعالم الكثرة عن طريق الزهد والتأمّل والدقّة والتفكّر في ضعة الدنيا وعدم فائدة التعلّق بها، فنتيجة الزهد انعدام الرغبة والميل إلی الاشياء، ويترتّب عدم الفرح بالاُمور التي تجلب النفع المادّيّ له، وعدم الحزن من الوقائع التي تؤدّي إلی ضرره المادّيّ. لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَي' مَافَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَيـ'كُمْ. [46] وهذا لا يتنافي مع الحزن والفرح في الله؛ لانَّ هذا الفرح ليس من حبّ المال والمصالح والاعتبارات الكاذبة، بل من جهة أنـّه يري نفسه غارقاً في بحر إحسان الله وكرمه. وبعد طيّ هذه المرحلة يلتفت السالك إلی أنـّه يُحبّ ذاته حبّاً مفرطاً، وأنَّ هذا الحبّ يصل إلی درجة العشق، وأنَّ كلّ ما يؤدّيه وكلّ جهاده ناشي من فرط حبّه لذاته؛ لانَّ إحدي خصائص الإنسان حبّه لنفسه بالفطرة، وتضحيته بكلّ شيء من أجلها، بل الاستعداد لإبادة أيّ شيء من أجل بقائها. والتخلّص من هذه الغريزة صعب جدّاً، ومواجهة هذا الحسّ ـ الذي هوحبّ النفس ـ ومجاهدته من أعقد المشاكل، وما دامت هذه الغريزة باقية لن يتجلّي نور الله في القلب، وبعبارة أُخري : إذا لم يتجاوز السالك نفسه لن يصل إلی الله تعالي. لزوم سير السالك في طريق رضوان اللهوعلی السالك أن يستمدّ العون من الالطاف الإلهيّة والإمدادات الرحمانيّة المطلقة لإضعاف حبّ الذات حتّي يزيله في النهاية؛ فعلیه أن يكفر بهذا الصنم الباطنيّ الذي هورأس كلّ المفاسد وينساه كلّيّاً، بحيث تكون أعماله ـ عند التأمّل والتحقيق ـ كلّها للذات الإلهيّة المقدّسة، ويتبدّل حبّ ذاته إلی حبّ الله تعالي، ولا يتمّ هذا إلاّ بالمجاهدة، وبعد طيّ هذه المرحلة لن يكون للسالك أيّ تعلّق بالبدن وآثاره حتّي روحه التي تجاوزها، فيكون كلّ ما يعمله خالصاً للّه. فكلّ ما يعمله للّه، وإذا سدّ جوعه وهيّأ لوازم الحياة والعيش بقدر الكفاف والضرورة فذلك لانَّ المحبوب الازليّ يريد حياته وإلاّ لايخطو خطوة من أجل تحقّق حياة هذه النشأة. وبالطبع فإنَّ هذه الإرادة للحياة هي في طول الإرادة الإلهيّة لا عرضها؛ وعلی هذا الاساس لا يحقّ للسالك أن يسعي للحصول علی الكشف والكرامات، ويعمل من أجل تحقيقها، بواسطة الاذكار والرياضات الروحيّة من أجل أن تُطوي له الارض، أويُخبَر عن المغيّبات، أويطّلع علی الضمائر والاسرار، أوالتصرّف في موادّ الكائنات، أولاستكمال وبروز القوي النفسانيّة، لانَّ مثل هذا الشخص لا يسير في الدرب الذي يُرضي المحبوب، ولن يكون مخلصاً في عبادته فهوقد جعل نفسه المعبود، وسار لقضاء حاجاته وتحقيق رغباته الخاصّة، وإن كان لا يعترف بهذا المنكر فيؤدّي كلّ عباداته ـ علی الظاهر ـ في سبيل الله. ومثل هذا الإنسان ينطبق علیه قوله تعالي : أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـ'هَهُ و هَوَيهُ. [47] فعلی السالك أن يجتاز هذه المرحلة، ويهجر نفسه المتمسّكة بالانانيّة. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي. وعندما يصل السالك إلی هذه المرحلة سوف ينسي ـ تدريجيّاً ـ نفسه التي كان يحبّها للّه، فتضمحلّ ذاته، ولن يري بعد ذلك غير الجمال الازليّ والابديّ، فيغمره ذلك البحر اللامتناهي، وعندها لن يبقي له أيّ أثر. وعلی السالك أن يحذر ـ في تلك الحرب النفسيّة ـ حيل الشيطان وجنوده، حتّي يتغلّب علیهم ويتخلّص من الآثار النفسيّة لذاته كاملاً، ويقتلع جذورها من الزوايا الخفيّة في القلب، فمع بقاء ذرّة واحدة من حبّ المال والجاه والمنصب والكبر وحبّ النفس والرئاسة فيه لن يصل أبداً إلی الكمال؛ ولهذا شُوهد الكثيرون من الذين قضوا سنوات طويلة في الرياضات والمجاهدات ولم يصلوا إلی الكمال، بل لاقوا الهزيمة في مجاهدة النفس؛ وعلّة ذلك أنَّ جذور بعض الصفات كانت باقية في أعماق قلوبهم وهم يظنّون أنـّها قد أُزيلت بالكامل، وفي مواقع الامتحان الإلهيّ وفي مظانّ بروز النفس وتجلّي آثارها تهتزّ هذه الجذور وتنموفجأة فيُقضي علی السالك. ثمّ إنَّ النجاح في غلبة النفس وجنودها منوط بالمدد الغيبيّ والعناية الإلهيّة الخاصّين، لانَّ طيّ هذه المرحلة لن يكون دون توفيقه وعنايته الخاصّينِ. يقال : إنَّ تلامذة المرحوم السيّد بحرالعلوم رأوه يوماً وهويبتسم، فسألوه عن السبب، فأجاب : اليوم، وبعد خمس وعشرين سنة من المجاهدة، نظرتُ في نفسي فرأيت أنَّ أعمالي لم يعد فيها رياء، وأنـّني وُفِّقْتُ لرفعه، فَتَأَمَّل جَيِّداً. وعلی السالك أن يكون ملازماً للشريعة الغرّاء منذ بداية السير والسلوك وحتّي آخر مراحله، ولا يتجاوز ظاهر الشريعة بقدر رأس الإبرة. فلورأيت شخصاً يدّعي السلوك ولا يلازم التقوي والورع ولا يتابع جميع الاحكام الشرعيّة الإلهيّة وانحرف عن الصراط المستقيم للشريعة الحقّة ولوبقدر رأس الإبرة، فاعلم أنـّه منافق إلاّ إذا كان له عذر أوكان مخطئاً أوناسياً. عبادة الكاملين تقتضي حصول كمالهموما سُمِعَ من البعض ـ من القول بسقوط التكاليف عن السالك بعد الوصول إلی المقامات العالية والفيوضات الربّانيّة ـ حديث كاذب وافتراء عظيم؛ لانَّ الرسول الاكرم صلّي الله علیه وآله وسلّم مع أنـّه أشرف الخلائق والموجودات كان ملازماً ومتابعاً للاحكام الإلهيّة حتّي آخر أيّام حياته، فسقوط التكليف ـ بهذا المعني ـ كذب وبهتان. نعم، يمكن أن نفهم منه معني آخر غيرما يقصده هؤلاء، وهو: أنَّ أداء الاعمال العباديّة يوجب كمال النفوس البشريّة ويوصل الإنسان بواسطة الالتزام بالسنن العباديّة من مراحل القوّة إلی الفعلیّة. لهذا فإنَّ عبادة أُولئك الذين لم يصلوا بعد إلی مرحلة الفعلیّة من جميع الجهات هي لاجل الاستكمال، أمّا أُولئك الذين وصلوا إلی مرحلة الفعلیّة التامّة، فلا معني لان تكون عبادتهم للحصول علی الكمال وتحصيل مقام القرب، بل العبادة من هؤلاء لها معني آخر يقتضيه نفس حصولهم علی درجة الكمال؛ لهذا عندما سألت عائشة رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم عن سبب تحمّله هذه الآلام والاتعاب في العبادة رغم أنَّ الله تعالي قال له : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. [48] قال صلّي الله علیه وآله وسلّم : «أَلاَ أَكُونُ عبداً شكوراً؟». [49] فاتّضح بذلك أنَّ الإتيان بالاعمال العباديّة من البعض لم يكن طلباً للكمال، بل محض إظهار الامتنان والشكر الجزيل. إنَّ الحالات التي تظهر للسالك علی أثر المراقبة والمجاهدة والانوار والآثار التي تُصبح مشهودة له من حين إلی آخر، كلّ هذه مقدّمة تحصيل الملكة، فمجرّد ترتّب الآثار وتغيّر الحال في الإجمال ليس كافياً، بل يجب علی السالك أن يسعي لرفع بقايا العالَم السافل الكامن في ذاته، فإنـَّه ما لم يسانخ صالحي العالم العالي لن يكون الوصول إلی مراتبهم ميسوراً له، فمن شأن أيّ خطأ صغير في السلوك والجهاد أن يعيده مجدّداً إلی العالم السافل. قال تعالي : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي'´ أَعْقَـ'بِكُمْ. [50] فالآية الكريمة تشير إلی هذه الحقيقة؛ إذَن ينبغي للسالك أن يُطهِّر ظاهره وباطنه كاملاً وكلّ زوايا وخفايا قلبه حتّي يوفّق لصحبة الارواح الطيّبة، ومجالسة صالحي الملا الاعلی. بيان إجماليّ للعوالم الاثني عشر المقدّمة علی عالم الخلوصوَذَرُوا ظَـ'هِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ. [51] ومن هنا ينبغي للسالك تخطّي العوالم المتقدّمة علی عالم الخلوص كاملة، وإجمال هذه العوالم قد بيّنها الله سبحانه وتعالي في الآية المباركة : الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـ'هَدُوا فِي سَبِيلِ اللَهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَهِ وَأُولَـ'´ئِكَ هُمُ الْفَآئِزُونَ * يُبَشِّرُهُم رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَ 'نٍ وجَنَّـ'تٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَـ'لِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا إِنَّ اللَهَ عِندَهُ و´ أَجْرٌ عَظِيمٌ. [52] وعلیه، تكون العوالم المتقدّمة علی عالم الخلوص أربعة : الاوّل: الإسلام، الثاني : الإيمان، الثالث : الهجرة، الرابع : الجهاد في سبيل الله. ولانَّ جهاد هذا المسافر هوالجهاد الاكبر لقوله صلّي الله علیه وآله وسلّم : رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الاَصْغَرِ إلَي الجِهَادِ الاَكْبَرِ [53]. فشرط هذا السفر أن يكون إسلام المجاهد وإيمانه هما الإسلام والإيمان الاكبران، بعدها علی السالك أن يُشمّر عن ساعد الهمّة ـ مسترسلاً ـ مع الرسول الباطن ومستعيناً بالرسول الظاهر أوخليفته للهجرة، وينزل إلی ميدان المجاهدة حتّي ينال فوز القتل في سبيلالله. وعلی السالك أن يلتفت إلی كثرة الموانع الإنسيّة والشيطانيّة التي اعترضته من بداية سلوك إلی هذه المرحلة من الجهاد، لكنّه إن فاز بهذا القتل، و تخطّي عوالم الإسلام والإيمان الاكبر، وتفوّق و قُتل في هذه المجاهدة أيضاً، فإنّه سيبلغ بداية عوالم الإسلام الاعظم والإيمان الاعظم والهجرة العظمي والجهاد الاعظم، وموانعها الكفر الاعظم والنفاق الاعظم. وفي هذا الوادي لن يكون لجنود الشيطان أيّ قدرة للنيل منه والغلبة علیه، فيتصدّي الشيطان (رئيس الابالسة) بنفسه للوقوف دون إتمام السالك سيره وسلوكه. فلا ينبغي للسالك ـ إن طوي هذه العوالم ـ أن يظنّ أنـّه نجي من المخاطر ووصل إلی جوهر المقصود؛ بل علیه أن يلتفت إلی أنـّه ما لميطو العوالم العظمي السابقة لن يكون بمأمن من حبائل إبليس لمنعه من الوصول إلی المنزل المقصود. فعلیه أن يشمّر عن ساعد الهمّة لمنع الشيطان من إيقاعه في الكفر الاعظم والنفاق الاعظم، ليُهاجر ـ بعدها ـ الهجرة العظمي، ويتخطّي بالمجاهدة العظمي قيامة النفس العظمي، فيدخل في وادي المخلَصين. رَزَقَنَا اللَهُ إن شَاءَ اللَهُ تَعَالَي. ارجاعات [1] ـ «منظومة السبزواريّ» الإلهيّات، في أفعاله تعالي، غرر في أنحاء تقسيمات لفعل الله تعالي، ص 183، طبعة ناصري. [2] ـ «بحر المعارف» ص 393، الطبعة الحروفيّة؛ و«المكاتيب» لعبدالله قطب، ص 1003. [3] ـ من جملة فقرات الدعاء المنسوب إلی أميرالمؤمنين علیه السلام الذي شرحه الحاجّ المولي جعفر الكبودر اهنگيّ وطبعه في كرّاس صغير؛ وقد ذكره المحقّق الكاشانيّ في «كلمات مكنونة» ص 61، الطبعة الحجريّة، بهذه العبارة : وقد ورد في أدعيتهم علیهم السلام. [5] ـ روي هذا الحديث بطرق عديدة عن رسول الله، بعبارات مختلفة ذات مضمون واحد؛ و ذكر في «إحياء العلوم» ج 4، ص 322، و تعلیقته في ص191؛ و في «عوارف المعارف» المطبوع في حاشية «إحياء العلوم»، ج 2 ص256. و قد ورد في كتب الشيعة، منها : «عيون أخبار الرضا» ص 258؛ «عدّة الداعي» ص 170؛ «أُصول الكافي» ج 2، ص 16. و الرواية الواردة في «العيون» بإسناده عن الإمام الرضا علیه السلام، عن أبيه، عن جدّه، عن الإمام محمّد بن علیّ الباقر، عن أبيه الإمام السجّاد، عن جابر بن عبدالله الانصاريّ، عن أميرالمؤمنين علیه السلام هي : قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيهِ وَآلِهِ : مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحَاً إلاَّ جَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَي لِسَانِهِ. [10] ـ «ديوان حافظ» غزل 178، ص 178، طبعة پژمان. يقول : «هي مباركة كانت ليلة القدر التي تسلّمت فيها وثيقة حرّيّتي». «وقد أذهلني شعاع ضوء الله الذي فتق صفاتي من خمرة التجلّي». [12] ـ «مثنوي» ص 12، طبعة ميرخاني. يقول : «إنَّ الروح لتفقد صفاءها وبهاءها ولا يغدو بإمكانها العروج نحوالاعالي إذا انساقت مع الهوي وانصاعت لما يضرّها ولا ينفعها وخشيت الاندكاك ولم تؤمن البقاء المطلق». [13] ـ «ديوان حافظ» غزل 12، ص 12، طبعة پژمان. يقول : «لا يموت أبداً من عمّرت قلبه المحبّة، فقد كُتب لنا الخلود في صحيفة الكون». [19] ـ «ديوان حافظ» غزل 387، ص 390، طبعة پژمان. يقول : «سألت شيخ الحانة عن طريق النجاة فتناول كأس المدام وأجابني كتمان السرّ». يقول : «اجعلني من أخصّ عبادك، لنختلي بعدها ونشرب الخمرَ معاً فأنسي هموم الدنيا». [22] ـ شرح حال «بابا فرج المجذوب» موجود في كتاب «تاريخ حشري» (= تأريخ الحشريّ) في حالات العرفاء المتوفّين في تبريز، وقد جاء كلام «بابا فرج» هذا في الكتاب منظوماً : كه فرج تا كه ديده بگشادست چشم اوبر جهان نيفتاده است وترجمته : «إنَّ عينيْ فَرَج لم تشاهد الدنيا منذ أن فتحها». ونظيره ما أنشده حافظ. («ديوان حافظ» غزل 387 ص 390، طبعة پژمان): منم كه شهرة شهرم به عشق ورزيدن منم كه ديده نيالودهام به بد ديدن وترجمته : أنا من كنت في بلدي بالعشق مشهورا أنا من لم تشاهد عيناه سواه محبوبا وعن ابن الفارض أيضاً («ديوان ابن الفارض» ص 182 ) : وحَيَاةِ أَشْوَاقِي إلَيْكَ وَتُرْبَةِ الصَّبْرِ الجَمِيلِ مَا اسْتَحْسَنَتْ عَيْنِي سِوَاكَ وَلاَ صَبَوْتُ إلَي خَلِيلِ وقد نقل أنـّه نظم هذا البيت في عالم الرؤيا. [28] ـ «ديوان حافظ» غزل 133، ص 133، طبعة پژمان. يقول : «لا يمكن لافكارنا القاصرة أن تحلّ معضلة الهيام». [36] ـ الآية 75، من السورة 21 : الانبياء. [37] ـ الآية 4، من السورة 66 : التحريم.
|
|
|