|
|
بناء علی ما تقدّم من أنَّ المسافر إلی الله ينبغي له أن يطوي اثني عشر عالماً قبل الوصول إلی عالم الخلوص ـ وهي : الإسلام الاصغر والاكبر والاعظم؛ والإيمان، الاصغر والاكبر والاعظم؛ والهجرة، الصغري والكبري والعظمي؛ والجهاد، الاصغر والاكبر والاعظم ـ فعلی السالك أن يعرف خصائص هذه العوالم و آثارها وعلائمها وموانعها وصوارفها؛ وقد بيّناها هنا بنحوالإجمال، وتفصيلها موجود في الكتاب المستطاب المنسوب للمرحوم فخر الفقهاء والاولياء السيّد مهدي بحر العلوم رضوان الله علیه، ومن أراد الشرح المفصّل، فعلیه أن يرجع إلی ذلك الكتاب، لكنّنا هنا ولتوضيح هذه المسألة نبيّنها ببعض الإجمال. الإسلام الاكبرعبارة عن التسليم والانقياد المحض، أي ترك الاعتراض علی الله عزّوجلّ من جميع الوجوه، والاعتراف والإذعان بصلاح كلّ ما هوموجود ومتحقّق، وعدم صلاح ما لم يحدث، وبشكل عامّ رفع اليد عن الاستفسار والسؤال وعدم الشكوي من قضاء الله تعالي، وقد أشار إلی هذه المرتبة مولي الموحّدين أميرالمؤمنين علیه السلام في الحديث المرفوع عن البرقيّ : إنَّ الإسْلامَ هُوَالتَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَاليَقِينُ. وإضافة إلی ترك الاعتراض، ينبغي أن لا يكون في قلبه أيّ نوع من المؤاخذة علی الاحكام التشريعيّة أوالتكوينيّة للّه تعالي، كما ورد في قوله تعالي : فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي' يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَر بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي´ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. [1] هذه المرحلة هي مرحلة الإيمان الاكبر التي يسري فيها الإسلام الاكبر إلی الروح ويسيطر علی القلب. الإيمان الاكبرعندما يتنوّر قلب السالك بنور الإسلام الاكبر تعرض علیه من حين لآخر حالة يشاهد فيها ـ علاوة علی الإدراك الحسّيّ ـ أنّ كلّ موجود يستند إلی الباري عزّوجلّ، وبعبارة أُخري : يجد الله حاضراً في كلّ الاحوال؛ وهي مرحلة الشهود والإسلام الاكبر؛ وما لم تصل هذه الحالة إلی الكمال بحيث تسري إلی جميع أركان البدن وتتصرّف في سائر الاعضاء والجوارح يمكن للموانع المادّيّة والمشاغل والشواغل الطبعيّة أن تصرف السالك عن هذه الحالة وتسلبه ذلك الشهود ليعود إلی الغفلة، فيجب علی السالك أن يقف بعزم راسخ ليرتفع بهذه الحال إلی مقام الملكة ويوصلها إلی الكمال حتّي لا تستطيع الشواغل الخارجيّة بعدها أن تغيّر مسيره الشهوديّ وتتغلّب علی حاله، فينبغي أن يسري هذا الإسلام من مقام القلب إلی الروح حتّي يتبدّل ذلك الإجمال إلی تفصيل، وبأمر من الروح تُحيط تلك الحالة بكلّ القوي الظاهريّة والباطنيّة لتصل من الحال إلی الملكة. مقام الإحسان وآثارهوهذا المقام هوالذي يُعَبِّر عنه العارفون بمقام الإحسان، كما يقول الله تعالي في كتابه الكريم : وَالَّذِينَ جَـ'هَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ولا يقف تعالي عند ذلك بل يقول : وَإِنَّ اللَهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. [2] فإذا لم يصل المجاهد في سبيل الله إلی مرتبة الإحسان لن يستطيع الحصول والوصول إلی سبل الهداية الإلهيّة. سئل رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم عن معني الإحسان؛ فأجاب : أَنْ تَعْبُدَ اللَهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنـَّهُ يَرَاكَ. فإلی ذلك الحين الذي لا يكون إسلام السالك الاكبر قد وصل إلی مرحلة الإيمان الاكبر قد تعتري السالك ـ من حين لآخر ـ حالة الإحسان فيؤدّي العبادات بشوق ورغبة وميل شديد. عالم الإیمان الأکبر و خصوصیّاتهأمّا عندما يصل إلی الإيمان الاكبر فإنـَّه ينتقل فيه الإحسان من حال طاري إلی ملكة المحسنين، وحينها يؤدّي السالك جزئيّات الافعال وكلّيّاتها بداعي الميل والشوق بطيب خاطر، وذاك لانَّ الإيمان قد سري إلی الروح، ولانَّ الروح سلطان جميع الاعضاء والجوارح وحاكمها، لذا فإنَّها تحمل الجميع علی العمل والمثابرة، فتنقاد لها سائر الاعضاء بتسليم وإنابة بلا تخلّف ولا اعتراض. قال الله تعالي في حقّ هذه الطائفة : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَـ'شِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ الْلَغْوِ مُعْرِضُونَ. [3] ثمّ إنَّ الاشتغال بالملاهي لمّا كان ناشئاً من الميل إلیها والرغبة فيها، وإنَّ السالك المؤمن بالإيمان الاكبر الذي وصل إلی مرتبة الإحسان وملكته، ليس له أيّ رغبة فيها؛ لانـّه يعرف أنـّه لا يمكن اجتماع حُبَّينِ وشوقينِ في قلب واحد؛ لقوله تعالي : مَا جَعَلَ اللَهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [4]، نعرف بالبرهان الإنّيّ [5] عدم وجود الميل والرغبة الإلهيّة في قلب السالك فيما لوكان له رغبة في الملاهي، فمثل هذا القلب يكون منافقاً؛ لانـّه من جانب يظهر الميل والرغبة في الاُمور الراجعة إلی الله تعالي، ومن جانب آخر يميل ويرغب في اللغوواللهو. وهذا هوالنفاق الاكبر الذي يقابل الإيمان الاكبر، فلا يكون التسليم والإطاعة فيه ناشئينِ من الرغبة والاشتياق الباطني. وإنـّما هما نتاج العقل ووليدَي الخوف والمصالح التي تعترض الإنسان، وإلی هذا النفاق أشار تعالي بقوله : وَإِذَا قَامُو´ا إِلَي الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالَي'. [6] حينما يصل السالك إلی الإيمان الاكبر لا يكون فيه أيّ درجة من درجات هذا النفاق، ولا تكون أفعاله ناشئة ـ بأيّ حال من الاحوال ـ من المدركات العقليّة والمصالح والمنافع الذاتيّة أوالخوف، بل هي ناشئة من الشوق والمحبّة وبداعي العشق والميل والرغبة. عالم الهجرة الکبریالهجرة الكبري ولانَّ السالك قد وصل إلی مرتبة الإيمان الاكبر فعلیه أن يستعدّ للهجرة الكبري، وهي الهجرة بالبدن عن مخالطة أهل العصيان ومجالسة أهل البغي والطغيان وأبناء الدهر الغَرور، والهجرة بالقلب عن المودّة لهم والميل إلیهم، والهجرة بالبدن والقلب معاً عن العادات والرسوم المتعارفة والاعتبارات التي تمنع السالك عن سلوك طريق الله، وتكون عائقاً ومانعاً من سفره؛ لانَّ العادات والرسوم متاع بلاد الكفر. ففي المجتمع المادّيّ يتقيّد الإنسان برسوم وعادات وهميّة وخياليّة اعتاد علیها أهل الدنيا؛ فأصبح قياس النفع وميزان الخسارة والمحاورات والمعاشرات والزيارات مبنيّاً علیها، كما جرت العادة علی أن يُنسَبَ إلی الجهل كلّ مَن يلتزم بالصمت في مجالس المذاكرة والمباحثات العلميّة، أوأن يُتهافت علی الجلوس في صدر المجلس باعتباره دليل الكبر والرفعة، أواعتبار التقدّم في الدخول والخروج من المجلس دليل علی العظمة، أوأنَّ التصنّع والتشدّق في الكلام دليل علی المماشاة مع الناس وحسن الخلق، وخلافه دليل علی الحقارة والضعة وضعف الموقف والشخصيّة وسوء الخلق. فيجب علی السالك ـ بالتوفيق الإلهيّ والإمداد الرحمانيّ ـ أن يغضّ النظر عن كلّ هذه الاُمور، وأن يهجر عالم الخيال والوهم ويطلّق هذه العجوز ثلاثاً، فلا يخاف ولا يفزع من أيّة قوّة، ولا يهوله مذمّة الناس أومعاتبة من يعدّون أنفسهم من أهل العلم والفضل، فقد جاء في جامع الكلينيّ في رواية السكونيّ عن الصادق علیه السلام، عن رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّم : أَرْكَانُ الكُفْرِ أَرْبَعَةٌ: الرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالسَّخَطُ، وَالغَضَبُ. وفسّرت الرهبة هنا بالرهبة من الناس عند مخالفة عاداتهم ونواميسهم الوهميّة. وحاصل الكلام : أنَّ علی السالك أن يرفع يده عن جميع التقاليد والعادات والرسوم الاجتماعيّة الاعتباريّة التي تسدّ الطريق إلی الله. ويعبّر العارفون عن هذا الامر ب الجنون؛ لانَّ المجنون ليس له معرفة برسوم وعادات الناس، فلا يوليها أيّة أهميّة، ولا يبالي بمدح الناس وذمّهم، ولا يجد الخوف طريقاً إلیه عند ترك الناس له أوثورتهم علیه ولا يغيّر منهجه. اي دل آن به كه خراب از مي گلگون باشي بي زر وگنج به صد حشمت قارون باشي در مقامي كه صدارت به فقيران بخشند چشم دارم كه به جاه از همه افزون باشي تاج شاهي طلبي گوهر ذاتي بنما ار خود از گوهر جمشيد وفريدون باشي كاروان رفت وتودر خواب وبيابان در پيش كي روي ره ز كه پرسي چكني چون باشي نقطة عشق نمودم به توهان سهومكن ورنه چون بنگري از دائره بيرون باشي ساغري نوش كن وجرعه بر أفلاك نشان تا به چند از غم أيّام جگر خون باشي؟[7] عالم الجهاد الاكبرالجهاد الاكبر وعندما يُوَفَّق السالك ـ بالعناية الإلهيّة ـ للهجرة، وينتشل نفسه من مستنقع العادات والرسوم، يضع قدمه في ميدان الجهاد الاكبر حيث محاربة جنود الشيطان، لاَنَّ السالك في هذا الموقع يكون في عالم الطبيعة أسير الوهم والغضب والشهوة، وعرضة للاهواء المتضادّة، تحيطه أمواج الآمال والاماني، وت ستولي علیه الهموم والغموم، وتؤلمه منافيات الطبع والوجدان، ويترقّب المخاوف العديدة، فتضطرم كلّ زاوية من زوايا صدره، ويشعر بالفقر والحاجة وأنواع الآلام والانتقام تهدّد كيانه، منها ما يخصّ أهله وعياله، ومنها ما يرتبط بماله وخوفه من تلفه وضياعه، أوجاه يبتغيه فلا يصل إلیه؛ فتوخزه أشواك الحسد والغضب والكبر والامل، ويقع فريسة أفاعي وسباع عالم الطبيعة والمادّة، فتكدّر قلبه ظلمات الوهم بما لا يعدّ ولا يحصي، وتتعاقب علیه صفعات الدهر، وتُدمي أقدامه الاشواك في كلّ موضع وضعها فيه. فكلّ هذه الآلام والاسقام قد تعتري قلب السالك، وبعد التأمّل والتدبّر يلتفت إلی كثرتها فعلی السالك أن يتغلّب علیها بمنازلة جنود الوهم والغضب والشهوة، والظفر بعون الله وتوفيقه في هذه المجاهدة الكبري، متخلّصاً من العوائق والعلائق، ومودّعاً عالم الطبيعة إلی الابد. عالم الإسلام الاعظم وآفاتهالإسلام الاعظم حينها يدخل عالم الإسلام الاعظم حيث يري نفسه جوهراً فرداً ودُرَّةً يتيمة، محيطاً بعالم الطبيعة ومصوناً من الموت والفناء، وخالياً من تضارب الاضداد ويُشاهد في نفسه صفاء وضياء وبهاء يتخطّي إدراك عالم الطبيعة، فالسالك في هذه الحال قد أدرك بموته في عالم الطبيعة حياة جديدة، ورغم أنـّه في عالم الملكوت والناسوت ظاهراً، فهويري الموجودات الناسوتيّة بصور ملكوتيّة، وكلّ ما يقابله من الاُمور المادّيّة بصوره الملكوتيّة، ولا يصل للسالك في هذه المرحلة أيّ ضرر؛ لانـّه قد وصل إلی قيامة النفس الوسطي، وأزاح الستار عن كثير من الاُمور الخفيّة، و شاهد كثيراً من الاحوال العجيبة. وهذه المرتبة هي مرتبة الإيمان الاعظم التي ذُكِرَت في القرآن الكريم بشكل واضح : أَو مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ'هُ وَجَعَلْنَا لَهُ و نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ و فِي الظُّلُمَـ'تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَ 'لِكَ زُيِّنَ لِلْكَـ'فِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. [8] وكذلك قوله تعالي : مَنْ عَمِلَ صَـ'لِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَي' وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ و حَيَو'ةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. [9] ولا يخفي أنَّ السالك عندئذٍ بالإمكان أن يأخذه العجب والانانيّة من جرّاء ما يشاهده، وأن يواجهه أعظم الاعداء وأشدّهم قتالاً وهونفسه، كما ورد في الحديث: أَعْدَي عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ. ففي هذه الحال إن لم تتدارك السالك العناية الربّانيّة سوف يبتلي بالكفر الاعظم، وقد أشاروا إلی هذا الكفر بقولهم : النَّفْسُ هِيَ الصَّنَمُ الاَكْبَرُ، وهذه هي عبادة الاصنام التي التجأ النبيّ إبراهيم علیه السلام إلی الله واستعاذ به منها : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَعْبُدَ الاْصْنَامَ. [10] إذ من الواضح أنـّه لا يتصوّر تلك العبادة للاصنام المصنوعة في حقّ إبراهيم علیه السلام، وإنَّما هويستعيذ بالله من ذلك الشرك الذي استعاذ منه الرسول الاكرم صلّي الله علیه وآله بقوله : اللَهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ. كلّ الخيرات من الله، وكلّ الشرور من النفسإذن علی السالك أن يعي مستعيناً بالعون الإلهيّ بأنـّه لا شيء، وأن يذعن بعجزه وذلّه وعبوديّته ومملوكيّته، وأن يدع الانانيّة حتّي لايقع في أحضان الكفر الاعظم؛ ليوفّق بالتالي للوصول إلی الإسلام الاعظم، فقد كان بعض العارفين لا يتلفّظ بكلمة «أنا» و«نحن» طوال حياته، وإنّما كان قوله : جاء العبد وذهب العبد. والبعض الآخر منهم كان يفصل بين ما هومستند إلی الحسن والجمال الإلهيّ فينسبه إلی ذات الحقّ، وما هوراجع إلیه والساحة الإلهيّة المقدّسة بريئة منه فينسبه إلی نفسه، وما يمكن إسناده إلی نفسه وإلی الله تعالي يأتي به بصيغة الجمع كنحن، وهذه الطريقة قد استفادها من قصّة موسي والخضر علیهما السلام، إذ يقول الخضر علیه السلام : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـ'كِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُ أَنْ أَعِيبَهَا. [11] فأتي هنا بصيغة المفرد المتكلّم ونسب العيب لنفسه، لانَّ العيب لا يسند إلی الذات الإلهيّة. وَأَمَّا الْغُلَـ'مُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـ'نًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِ لَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَو'ةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا. [12] لانَّ القتل يمكن أن ينسب إلی الله وإلی الخضر لذا جاء به بصيغة الجمع. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـ'مَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ و كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـ'لِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا. [13] لانَّ التوجّه إلی الخير وإرادة الكمال والنفع تستند إلی الذات الإلهيّة، لذا نسبه إلی الله تعالي، وهكذا في حديث إبراهيم علیه السلام حيث تبرز هذه الطريقة في الخطاب : الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ * وإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. [14] فهو هنا قد نسب المرض لنفسه والشفاء للّه تعالي. ولا يتمّ الوصول إلی مقام الإسلام الاعظم، ورفض أنانيّة النفس التي هي محلّ بروز الشيطان وظهوره إلاّ بالتوفيق الإلهيّ. يقول الحاجّ إمام قلي النخجوانيّ، أُستاذ المرحوم السيّد حسين القاضيّ والد المرحوم الحاجّ الميرزا علیّ القاضي رضوان الله تعالي علیهم في المعارف، والذي درس الاخلاقيّات والمعارف الإلهيّة، وطوي المراتب الكماليّة عند المرحوم السيّد قريش القزوينيّ رضوان الله علیه : «حينما صرت كهلاً رأيت الشيطان في الخلسة، وكنّا واقفينِ علی جبل، فوضعت يدي علی لحيتي وقلت له : ها قد أصبحتُ كهلاً وبلغني الكبر، فهلاّ تتركني وتذرني وحيداً. فأشار إلیَّ بأن انظر إلی جانبي، وعندما نظرتُ رأيت وادياً عميقاً جدّاً يبهت العقل من شدّة الرعب ويأخذ بمجامع الإنسان، ثمّ قال لي : أنا ليس في قلبي أيّ رحمة ومروءة وعطف، وأنت لوعَلِقتَ في حبالي سوف يكون مكانك في هذا الوادي الذي تراه الآن». عوالم الإيمان الاعظم، الهجرة العظمی والجهاد الاعظمالإيمان الاعظم المرحلة التي هي أعلی من الإسلام هي مرحلة الإيمان الاعظم. وهي عبارة عن شدّة ظهور ووضوح الإسلام الاعظم بحيث يتجاوز العلم والتصديق إلی مرتبة المشاهدة والعيان، وفيه يرتحل السالك من عالم الملكوت، فتقوم علیه القيامة النفسيّة الكبري، ويدخل إلی عالم الجبروت منتقلاً من المشاهدات الملكوتيّة إلی المعاينات الجبروتيّة. الهجرة العظمي بعد هذا علی السالك أن يهاجر من وجوده، ويرفضه مطلقاً، وهذا هوالسفر إلی عالم الوجود المطلق. وإلی هذه المرحلة إشارة في حديث بعض الاعاظم : دَعْ نَفْسَكَ وَتَعَالَ. ويشير لها ـ أيضاً ـ قوله تعالي : فَادْخُلِي فِي عِبَـ'دِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [15]. وإن أتت «وَادْخُلِي جَنَّتِي» بعد «فَاَدْخُلِي فِي عِبَـ'دِي». وخطاب يَـ'´أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ هوخطاب للنفس التي فرغت من الجهاد الاكبر، ودخلت إلی عالم الفتح والظفر الذي هومقرّ الاطمئنان. ولكن لانـّها لم تفرغ بعد من المجاهدة العظمي، وما زالت آثارها الوجوديّة باقية، ولانَّ غاية الاضمحلال متوقّفة علی تحقّق الجهاد الاعظم، فهي لم تتخلّص بعد من هيمنة التسلّط والقهر، وهي في مضمار «المليك» و«المقتدر»، وهما اسمان عظيمان للّه تعالي : فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. [16] يجب علی السالك بعد هذه المرحلة أن يتغلّب في المجاهدة علی الآثار الضعيفة لوجوده، ويزيل بقاياها المختفيّة فيه كاملاً ومن الجذور، حتّي يقدر أن يضع قدمه في بساط التوحيد المطلق، وهذا العالم هوعالم الفتح والظفر. وبهذا تكون العوالم الاثنا عشر قد طويت، وهذا الشخص الذي عبر الهجرة العظمي والجهاد الاعظم وصار فاتحاً ومظفّراً سوف يدخل عالم الخلوص، وقد دخل في مضمار إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَ'جِعُونَ [17]، وقامت بذلك قيامته النفسيّة العظمي، وتخطّي الاجسام والارواح وجميع التعيّنات، مُفنياً ذاته عنها جميعاً، واضعاً قدمه في عالم اللاهوت، ليخرج من تحت كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ. [18] فمثل هذا الإنسان قد مات بالموت الإراديّ، ولهذا قال رسول الله صلّي الله علیه وآله وسلّلا : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَي مَيِّتٍ يَمْشِي فَلْيَنْظُرْ إلَي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. مزيّة سالكي أُمَّة الإسلام علی سالكي بقيّة الاُممبيان وتوضيح : إنَّ الكمالات التي ذكرت إلی الآن، وبُيِّنَت آثارها وعلائمها بالتقريب، هي فيوضات ـ من جانب ربّ العزّة ـ تختصّ بأُمَّة خاتم الانبياء والمرسلين محمّد بن عبدالله صلّي الله علیه وآله. فسالكي الاُمم السالفة والشرائع السابقة كانت كمالاتهم محدودة، حيث كان بمقدورهم أن يشاهدوا أسماء وصفات الربّ فقط، وذلك بعد حصول الفناء والذوبان، وما كان يخطر في أذهانهم ما هوأعلی من هذا. وسرُّ ذلك أنَّ منتهي معارفهم كلمة لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَهُ وحاصلها شهود الذات الجامعة لجميع الصفات الكماليّة والجماليّة، ولكنَّ سالكي أُمَّة الرسول الاكرم صلّي الله علیه وآله هم في مرحلة أعلی من هذه بكثير، وقد ساروا إلی مراحل أبعد لا يمكن بيانها وشرحها، وسبب ذلك أنَّ جميع التعاليم الإسلاميّة تعود إلی كلمة « اللَهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ». وبناء علی هذا فإنَّ المراحل التي يطويها السالك المسلم سوف تنتهي تلقائيّاً إلی حدّ لا يقبل البيان والوصف، وذلك لارتباط السلوك بالكلمة المباركة «اللَهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ». لهذا فإنَّ نفس الانبياء السالفين لم يكونوا يتصوّرون شيئاً فوق مقام شهود الاسماء والصفات الإلهيّة ليُحَلِّقوا بطائر هممهم إلی ذلك العشّ، ولذلك كانوا يتوسّلون بالولاية المعنويّة والروحيّة ـ للرسول الاكرم وأميرالمؤمنين والصدّيقة الطاهرة والائمّة الاطهار ـ عندما كانت تحيط بهم البلايا الدنيويّة، فيجدون الخلاص. وهذا هومقام الولاية المعنويّة الكبري الذي كان يدفع الهموم والغموم عن الانبياء. وهذا المقام وإن كان معلوماً عندهم إجمالاً، وعلی أساسه كانوا يتوسّلون بمقامات الاطهار العالية، ولكنّ كيفيّته وخصائصه بقيت مجهولة لديهم إلی أواخر حياتهم علیهم السلام. نعم يستفاد من القرآن الكريم حصول حالتين للنبيّ إبراهيم علیه السلام ـ لكن لا علی نحوالدوام ـ استطاع فيهما أن يشهد الحقائق العالية والفيوضات الكاملة، وسيتحقّق هذا المقام في المنزل الآخر. مقام «االصلاح» أرفع من مقام «الإخلاص»قبل الاستعانة بالقرآن الكريم للاستدلال علی هذه القضيّة، نذكر أنَّ لمقام الإخلاص مراتب تشكيكيّة، وقدنصّ القرآن علی وصول عدّة من الانبياء لمرتبة الإخلاص، ومع هذا كلّه هناك مقام أعلی وأعظم لم يصلوه، وكانوا يتضرّعون إلی الله تعالي بغية الوصول إلیه، كما نجد ذلك في القرآن الكريم حكاية عن النبيّ يوسف علیه السلام الذي كان من المخلَصين : إِنَّهُو مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [19]، مع هذا فقد كان يطلب من الله تعالي أن يلحقه بالصالحين : أَنتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّـ'لِحِينَ.[20] بناء علی هذا لم يكن النبيّ يوسف علیه السلام قد وصل إلی مقام الصلاح، ولهذا كان يطلب اللحوق بالصالحين بعد الموت. ولكن هل استجيبت دعوة يوسف أم لا، وهل سيصل إلی مقام الصلاح يوم القيامة أم لا ؟ هذا ما لم تشر إلیه الآيات القرآنيّة التي ذُكرت، ومع أنَّ النبيّ إبراهيم علیه السلام كان له المقام الشامخ في الخلوص، إلاّ أنـّه كان يقول : رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّـ'لِحِينَ. [21] إذن مقام «الصلاح» الذي كان النبيّ إبراهيم الخليل علیه السلام يدعوالله تعالي أن يلحقه بالواصلين إلیه هوأعلی من مقام الخلوص. والله لم يجب دعاءه في الدنيا، بل وعده أن يكون في الآخرة : وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـ'هُ فِي الدُّنْيَا وَإِنـَّهُو فِي الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّـ'لِحِينَ. [22] يجب أن يُعلم أنَّ هذه المرتبة من الصلاح التي تمنّاها الانبياء السابقون هي غير الصلاح الذي أُعطي لإبراهيم وأولاده بنصّ الآية الكريمة : وَوَهَبْنَا لَهُو´ إِسْحَـ'قَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَـ'لِحِينَ. [23] لانَّ هذا الصلاح كان حاصلاً للجميع، ومن جملتهم النبيّ إبراهيم علیه السلام الذي كان يرجو ـ مع ذلك ـ الوصول إلیه؛ فهذا الصلاح الذي كان يرجوه أعلی من ذلك بكثير. وأمّا الدليل علی أنَّ رسول الله صلّي الله علیه وآله وعدّة في زمانه قد وصلوا إلی درجة الصلاح، هي الآية الكريمة الناطقة عن لسان الرسول صلّي الله علیه وآله. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَـ'بَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّـ'لِحِينَ. [24] فالرسول صلّي الله علیه وآله قد أثبت لنفسه ـ في هذه الآية ـ الولاية المطلقة للحضرة الإلهيّة ابتداءً، ثمّ قال إنَّ وليّي هوالذي يتولّي أُمور الصالحين، فعُلِم من هذا وجود أفراد من المخلَصين الذين هم في مقام الصلاح في ذلك الزمان، وأنَّ الله كان متولّياً لاُمورهم. بناء علی ما ذُكر فإنَّ سرّ دعاء الانبياء السالفين وتوسّلهم بالخمسة المطهّرين أوالائمّة الاطهار قد اتّضح، واتّضح ـ أيضاً ـ مدي علوّهم، وسموّ منزلة الصلاح فيهم، بحيث يطلب النبيّ إبراهيم علیه السلام من ربّه أن يلحقه بهم. إثبات مقام الإخلاص للانبياء العظاموللاستدلال علی أنَّ الانبياء العظام قد وصلوا إلی مقام الإخلاص، يمكن الاستعانة بالآيات الشريفة بعدّة أوجه : الاوّل : عن طريق حمده وثنائه، وكما صرّح به القرآن من أنـّه سبحانه وتعالي لا يحيط به حدّ ولا يدركه نعت، ولا يمكن لاحد أن يصفه ويحمده بما يليق بساحة كبريائه إلاّ عباده المخلَصين؛ قال الله عزَّ مِن قائلٍ : سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ. [25] ويأمر الله تعالي نبيّه بالحمد، حيث يقول : قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَـ'مٌ عَلَي عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَي'´، ءَآللَهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ. [26] ويحكي عن حمد إبراهيم علیه السلام : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَي الْكِبَرِ إِسْمَـ'عِيلَ وَإِسْحَـ'قَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ. [27] ويأمر النبيّ نوحاً علی نبيّنا وآله وعلیه السلام أن يؤدّي الحمد حيث يقول : فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّـ'نَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّـ'لِمِينَ. [28] الثاني : التصريحات القرآنيّة حول مقام إخلاص بعض الانبياء العظام، كما ورد في شأن النبيّ يوسف علیه السلام : إِنَّهُ و مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. وفي شأن النبيّ موسي بن عمران علیه السلام : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَـ'بِ مُوسَي'´ إِنَّهُ و كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا. [29] وفي شأن الانبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب علیهم السلام : وَاذْكُرْ عِبَـ'دَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـ'قَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الاْيْدِي وَالاْبْصَـ'رِ * إِنَّآ أَخْلَـصْنَـ'هُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَي الدَّارِ. [30] الثالث : عن طريق شكرهم للّه تعالي، فمن جانب طبقاً للآية الكريمة : فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. [31] فليس للشيطان من قدرة علی قلّة من العباد، وهم المخلَصون. ومن جانب آخر طبقاً للآية الكريمة : ثُمَّ لاَتِيَنَّهُم مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ'نِهِمْ وعَن شَمَآئِلِهِمْ ولاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ'كِرِينَ. [32] فالعباد الذين أغواهم الشيطان ما كانوا من الشاكرين. ومن هنا يتّضح أنَّ أيدي الشيطان لا تصل إلی الشاكرين الذين هم العباد المخلَصون. فإذا وجدنا في القرآن الكريم عباداً يصفهم الله تعالي بصفة الشكر والشاكرين، نفهم أنـّهم من عباد الله المخلَصين، ومن جملتهم النبيّ نوح علیه السلام، فقد قال تعالي عنه : ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ و كَانَ عَبْدًا شَكُورًا. [33] وقال بالنسبة للنبيّ لوط علیه السلام : إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلآ ءَالَ لُوطٍ نَجَّيْنَـ'هُم بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِن عِندِنَا كَذَ 'لِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ. [34] وقال بالنسبة للنبيّ إبراهيم علیه السلام : إِنَّ إِبْرَ 'هِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ولَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لاِنْعُمِهِ. [35] وبشكل عامّ، فإنَّ كلّ الانبياء الذين عُرِفوا بصفة الشكر كانوا من المخلَصين. الرابع : عنوان الاجتباء، حيث يصف الله تعالي بعض الانبياء بهذا الإجتباء : وَوَهَبْنَا لَهُ و إِسْحَـ'قَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا ونُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ومِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُ و دَ وسُلَيْمَـ'نَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَي' وَهَـ'رُونَ وَكَذَ 'لِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَي' وَعِيسَي وَإِلَيْاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّـ'لِحِينَ * وَإِسْمَـ'عِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَي الْعَـ'لَمِينَ * وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـ'تِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَـ'هُمْ وَهَدَيْنَـ'هُمْ إِلَي صِرَ 'طٍ مُسْتَقِيمٍ. [36] ويمكن الاستدلال بهذه الآيات الكريمة علی مقام إخلاص جميع الانبياء، بخلاف طرق الاستدلال السابقة التي استنتجنا منها إخلاص أفراد معدودين ممّن ورد ذكرهم. واستدلالنا هنا يتوقّف علی أمرين : الاوّل : عنوان الاجتباء؛ لانَّ هذه الكلمة تعني إختيار شيء من بين أشياء متشابهة، فإذا اختار شخص بعض التفّاحات من صندوق التفّاح، فإنَّ هذه العمليّة تسمّي اجتباءً. فعندما يقول تعالي في الآية الكريمة وَاجْتَبَيْنَـ'هُمْ، أي اخترناهم من بين جميع المخلوقات والبشر، وجعلناهم في مكان أومقام خاصّ بنا، يتفاوت حكمهم ـ بناء علی ذلك ـ عن الآخرين؛ فهؤلاء أفراد قد اختيروا بتمام المعني للّه، فهم تحت إشرافه. ومعلوم أنَّ هذا الإجتباء للّه ينطبق علی عنوان الإخلاص، لانَّ المخلَصين هم أُولئك الذين كانوا للّه، وقُطعت نسبتهم كلّيّاً عن جميع الموجودات وتعلّقوا بالحضرة القدسيّة. الثاني : أنَّ هذا الاجتباء في الآية لا يختصّ بأفراد معيّنين، وإن كان تعالي قد قال ـ بعد ذكر نوح وإبراهيم وستّة عشر آخرين من الانبياء وذكر آباءهم وذرّيّتهم وإخوانهم ـ، إنَّ هؤلاء اجتبيناهم، وما هو معلوم، أنَّ المراد من إخوانهم، إخوانهم الروحيّون والاخلاقيّون الذين يساوونهم بالمعارف الإلهيّة والسلوك. وهكذا يستفاد من هذه الآية الإطلاق، بل العموم، فيمكن الاستدلال بها علی مقام إخلاص جميع الانبياء. بعد فهمنا لشرح عوالم السلوك الاثني عشر، ينبغي البحث في الطريق و كيفيّة السفر والسلوك. ويوجد بيانان أحدهما إجمالي و آخر تفصيلي.
البيان الاوّل : إن أوّل ما يلزم للسالك أن يقوم به هوالفحص والبحث في الاديان والمذاهب، وبذل ما يمكنه من السعي حتّي يصل إلی مقام توحيد الله المتعال ويدرك حقيقة هدايته، وإن كان ذلك بصرف الظنّ ومجرّد الترجيح. فبعد التصديق العلميّ أوالظنّيّ يخرج من الكفر ليدخل في الإسلام والإيمان الاصغرين، والإجماع قائم في هذه المرحلة علی أنَّ الاستدلال واجب علی كلّ مكلّف. وإذا لم يحصل للمكلّف بعد السعي والبحث أيّ ترجيح، فعلیه أن يشمّر عن ساعد الهمّة، ومتابعة الإصرار بذرف الدموع والتضرّع والانين والإبتهال حتّي يفتح له الباب، كما هومأثور عن حالات النبيّ إدريس علی نبيّنا وآله وعلیه السلام ومريديه. والمراد من الإبتهال والتضرّع هوأن يلتفت الإنسان إلی عجزه ومسكنته، ويطلب الهداية من صميم قلبه. ومن البديهيّ أنَّ الله سبحانه لا يترك عبده المسكين الطالب للحقّ والعاشق للحقيقة دون أن يهديه طريق الخلاص. وَالَّذِينَ جَـ'هَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا. [37] نبيّ الله إدريس علیه السلام يتحدّث مع العلاّمة الطباطبائيّ في المناموأذكُر [38] حينما كنت في النجف الاشرف أنهل من التربية الاخلاقيّة والعرفانيّة علی يد المرحوم الحاجّ الميرزا علیّ القاضيّ رضوان الله علیه، كنت جالساً حين السحر علی سجّادة الصلاة، فاستولي علَيَّ النعاس وشاهدت رَجُلينِ جالسينِ مقابلي، كان أحدهما النبيّ إدريس علیه السلام، والآخر أخي العزيز الحاجّ السيّد محمّد حسن الطباطبائيّ الذي يعيش حاليّاً في تبريز، وفي ذلك الموقف كان النبيّ إدريس علیه السلام منشغلاً بالتحدّث معي، ورغم أنـّه كان المتكلّم إلاّ أنّني كنت أسمع كلامه بواسطة صوت أخي السيّد الطباطبائيّ. وقال لي : «لقد وقعت في حياتي العديد من الاحداث المهولة، وبالحسابات العادّيّة كان تفسيرها محالاً بل ممتنعاً، ولكنّها كانت تحلّ أمامي فجأة، فاتّضح لي أنَّ ذلك بواسطة يد فوق الاسباب والمسبّبات العادّية من عالم الغيب، وكان هذا أوّل انتقال لي ربط عالم الطبيعة بعالم ماوراء الطبيعة وخيط ارتباطنا يبدأ من هنا». ففي ذلك الوقت خطر ببالي أنَّ المراد من ابتلاءات النبيّ إدريس علیه السلام هي تلك الصدمات والمشاكل في أيّام الطفولة، والمقصود أنـّه إذا توسّل الإنسان بصدق في مسألة الهداية واستعان بربّه، سوف يُعينه ويساعده جزماً، وفي تلك الحال يكون الاستمداد من الآيات القرآنيّة موافقاً لواقع العبد ومؤثّراً فيه ونافعاً له، قال الله تبارك وتعالي : أَلاَ بِذِكْرِ اللَهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. [39] ويكون أيضاً للاوراد المعروفة مثل : يَا فَتَّاحُ، يَا دَلِيلَ المُتَحَيِّرِينَ، وأمثالها تأثير عظيم، ولا يحصل هذا إلاّ بأدائها بالقلب الولهان والحضور والتوجّه الكافيين. قصّة الشابّ المريد قلبيّاً للهدايةنقل لي أحد أصدقائي بأنـّه تشرّف ذات مرّة بزيارة العتبات المقدّسة في كربلاء، وقال : «انطلقت بنا السيّارة من إيران وإلی جانبي كان يجلس شابّ حليق الذقن تبدو علیه السمنة، ولهذا لم يجر بيننا أيّ حديث، وأثناء الطريق إذا بصوته يرتفع فجأة بالبكاء والنحيب، ممّا أثار دهشتي، فسألته عن سبب بكائه، فقال لي : إنـّني إذا لم أُخبرك فلمن أقول. أنا مهندس مدنيّ، وقد رُبّيت منذ الطفولة تربية غير دينيّة، فلم أكن أعتقد بالمبدأ والمعاد، وإنَّما كنت أشعر أنَّ في قلبي ميلاً ومحبّة للمتديّنين فقط، سواء كانوا مسلمين أومسيحيّين أويهوداً. وفي يوم كنت في إحدي السهرات الليليّة التي كان يحضرها أكثر رفقائي البهائيّين، حيث رقصنا ولعبنا ساعات وساعات، فجأة شعرت في أعماق نفسي بالخجل، وتضايقت من أفعالي، واضطررت أن أخرج من المغفرة وصعدت إلی الطابق العلويّ وهناك أجهشت بالبكاء، ورحت أُردّد في نفسي وأقول : يا ذا الذي إن كان هناك إله فهوأنت ! أدركني، ثمّ نزلت إلی الحفل الذي كان منتهياً. وفي اليوم التالي كنت عازماً علی السفر في مهمّة تخصّصيّة بصحبة رئيس القطار وبعض الشخصيّات، وفجأة رأيت سيّداً نورانيّاً يقترب منّي، فسلّم علَيَّ وقال: أُريد أن ألتقي بك. فوعدته بأن أراه غداً بعدالظهر. وبعد ذهابه أخبرني أحد أصدقائي بأنَّ هذا الرجل من السادة الكبار، فلماذا سلّمت علیه بلا مبالاة ؟ فقلت : لقد ظننت أنـّه أتي وسلّم علَيَّ لحاجة له عندي ! وبعدها أمرني رئيس القطار بالسفر في اليوم التالي، وبالتحديد في الموعد الذي أبرمته مع السيّد وكلّفني بعدّة أُمور وأعمال. فقلت في نفسي : لن أستطيع بعد هذا أن ألتقي بالسيّد غداً. في اليوم التالي ـ عندما اقترب موعد العمل ـ أحسستُ بالضعف شيئاً فشيئاً، واعترتني حمّي شديدة ألزمتني الفراش وأحضروا لي الطبيب، ممّا أدّي إلی إعفائي من المهمّة التي كلّفت بها في ذلك اليوم. وما إن خرج الرجل الذي أرسله رئيس القطار إلَيَّ، وتأكّد من مرضي، إذا بالحمّي تزول عنّي، وعادت حالتي إلی طبيعتها، وأحسست بالراحة مجدّداً. حينها أدركت أنـّه لابدّ من وجود سرّ في ذلك. فنهضت ثمّ ذهبت إلی منزل ذلك السيّد، وما إن جلست عنده بدأ يلقي علَيَّ دورة من الاُصول الاعتقاديّة بالادلّة والبراهين، بحيث أصبحت مؤمناً. ثمّ كلّفني بعدّة أُمور، وأمرني بالمجيء إلیه في اليوم التالي. تردّدتُ علیه عدّة أيّام، وكنت ـ كلّما جئت إلیه ـ أسمع منه أخباري والحوادث التي وقعت في أيّامي الماضية دون زيادة أونقيصة، ولم يكن مطّلعاً علیها أحد غيري، وحتّي نيّاتي التي عزمت علیها ولم أخبر بها أحداً. ومرّت الايّام فاضطررت ذات ليلة أن أشترك في سهرة للاصدقاء، جرّتني إلی طاولة القمار. في اليوم التالي، عندما دخلت علیه، قال لي علی الفور : ألم تستح وتخجل من ارتكاب هذه المعصية الكبيرة، فبدأت دموع الندم تنهمر من عينيَّ، وقلت له : لقد أخطأتُ، وأنا أتوب الآن. فقال : ينبغي أن تغتسل غسل التوبة ولا تعد إلی تلك المعصية. فحدّد لي عدّة تكاليف. وباختصار، غيّرتُ سيرتي وبرنامج حياتي. ولانَّ هذه القضيّة حدثت في زنجان، فعندما أردت الانتقال إلی طهران أمرني بزيارة بعض العلماء هناك، وفي النهاية أُمِرتُ أن أزور العتبات المقدّسة. وهذا السفر كان بأمر السيّد الجليل». قال صاحبي : وعندما اقتربنا من الحدود العراقيّة، سمعت صوته قد علا بالبكاء ثانية، فسألته عن السبب. فقال : « ونحن ندخل أرض العراق ـ الآن ـ رأيت أبا عبدالله علیه السلام يقول لي : مرحباً بكم». ومرادي أنـّه إذا سار الإنسان في طريق الصدق والصفاء، وطلب الهداية من ربّه من صميم قلبه، سوف يوفّق لها، وإن كان لديه شكّ في التوحيد. العلم يورث العمل، والعمل يورث العلمعندما يوفّق السالك في هذه المرحلة، علیه أن يشمّر عن ساعد الهمّة لتحصيل الإسلام الاكبر والإيمان الاكبر. وأوّل الاُمور اللازمة في هذه المرحلة تعلّم الاحكام الشرعيّة التي يجب أن يتعلّمها علی يد فقيه، وبعد تحصيل العلم، علیه أن ينهض لمقام العمل ويداوم علیه حتّي تزداد معرفته ويرتفع يقينه درجة درجة؛ لانَّ العلم يورث العمل والعمل يورث العلم. فلازم الاعتقاد الشديد بالشيء، العمل به وتطبيقه. وبالبرهان الإنـّي نكتشف أنَّ عدم العمل بالشيء يكون نتيجة لعدم جزميّة علمه واعتقاده وإذعانه، فهومجرّد صور منتقشة في قوي الخيال. فالذي يعتقد بالعلم الواقعيّ الحقيقيّ برازقيّة الحضرة الاحديّة المطلقة، لا يتهالك علی تحصيل المال، بل يقتصر علی الكفاف الذي أمر به الشرع، ويسعي بهدوء البال وسكون الخاطر وبقدر طاقته لتحصيل ذلك المعاش له ولعياله. والذي يجعل نفسه عُرضة للقلق والهموم والغموم من أجل تحصيل المعاش، ويسعي فوق الحدّ الطبيعيّ له، يُعلم أن لا اعتقاد له بالرازقيّة المطلقة، وإنَّما يعتقد بالرازقيّة المقيّدة، بأن يعتبر الله رازقاً فيما لوتوفّر هذا المقدار من السعي المجهد، أويعتبره رازقاً مقيّداً بامتلاك الثروة أو بإعطاء المال آخر الشهر إلی غير ذلك من القيود. بناء علی هذا، يكون الاضطراب الخارجيّ أو الداخليّ حاكياً عن عدم العلم بالرازقيّة، أو بكونها مقيّدة. وهذا هومعني وراثة العلم للعمل. وأمّا مثال وراثة العمل للعلم : أنَّ الإنسان إذا قال بصدق : سُبْحَانَ رَبِّيَ الاَعْلَي وَبِحَمْدِهِ. سوف يتحسّس الذلّ، وبديهيّ أنَّ الذلّ لا يتحقّق بدون العزّ، فالذليل دائماً في مقابل العزيز والمقتدر؛ إذن لا يجد مناصاً من التوجّه إلی مقام العزّة المطلقة، ثمّ يفهم أنـّه لابدّ مع هذه العزّة من علم وقدرة أيضاً، وهكذا. فمن هذا العمل البسيط ـ الذي هوذكر يتلي حال السجود ـ يطّلع علی العزّة المطلقة والعلم المطلق والقدرة المطلقة للّه تعالي. وهذا هومعني أداء العمل للعلم، وينظر إلی هذا المعني قوله تعالي : وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ. فينبغي له أن يبادر بنشاط للاعمال الواجبة، ويجدّ في ترك المحرّمات؛ لانَّ سلوك طريق الله يتنافي مع ترك الواجب وارتكاب المحرّم. وبمراعاة هذين الامرين تسير جهود السالك وأتعابه في طريق الصلاح، وإلاّ فما هي فائدة الزينة مع تلوّث البدن، كذلك الاعمال المستحبّة والرياضات الشرعيّة لن تكون مثمرة مع تلوّث القلب والروح. فليجدّ السالك في ترك المكروهات، وأداء الاعمال المستحبّة؛ لانَّ حصول مرتبة الإسلام الاكبر والإيمان الاكبر تتوقّف علی الاعمال، باعتبار أنَّ لكلّ عمل خاصيّة تختصّ به تؤدّي إلی تكميل الإيمان، وإلی هذا المعني أُشير في حديث محمّد بن مسلم : الإيمانُ لا يَكُونُ إلاَّ بالعَمَلِ، والعَمَلُ مِنهُ، ولا يَثبُتُ الإيمانُ إلاَّ بالعَمَلِ. لهذا علی السالك أن يؤدّي كلّ عمل مستحبّ ولومرّة واحدة، حتّي يجد حظّه الإيمانيّ من ذلك العمل، كما جاء في أحاديث أميرالمؤمنين علیه السلام إنَّ الإيمان الكامل ينشأ من العمل، إذن علی السالك إلی الله أن لا يتواني أثناء السير إلی منزل الإيمان الاكبر عن القيام بالاعمال المستحبّة. وبديهيّ أنـّه بالمقدار الذي يتسامح ويتساهل في أداء الاعمال المستحبّة ينقص إيمانه بذلك المقدار؛ لهذا إذا قام السالك بتطهير يده ولسانه وسائر أعضائه وجوارحه، وأدّبها ـ بتمام معني الكلمة ـ بالادب الإلهيّ، ولكنّه لم يجاهد نفسه في مقام الإنفاق وبذل الاموال، فلن يكتمل سلوكه الإيمانيّ، بل يسير إلی النقص، ويكون ذلك النقص مانعاً له من الارتقاء إلی المقام الاعلی. بناء علی هذا ينبغي أن يعطي كلّ عضومن أعضائه حظّه الإيمانيّ حتّي تحصل له حالة الإيمان، كأن يشغل القلب الذي هوأمير البدن بالذكر والفكر، فالذكر : عبارة عن تذكير القلب بأسماء وصفات حضرة الباري تعالي شأنه، والفكر عبارة عن توجيه القلب إلی الآيات الآفاقيّة والنفسيّة، وينبغي التأمّل والتدقيق في صنعها وسيرها حتّي يرتوي قلب الإنسان من منبع الإيمان بواسطة هذين العملين. أَلاَ بِذِكْرِ اللَهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. [40] وبعد أن ينال كلّ عضومن الاعضاء حظّه الإيمانيّ، يجب أن يبدأ بالمجاهدة، وبها يكمل نقصان الإسلام الاكبر والإيمان الاكبر، ويبتعد عن حالة الشكّ والظنّ ليصل إلی اليقين. الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُو´ا إِيمَـ'نَهُم بِظُلْمٍ أُولَـ'´ئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ. [41] وتكون نتيجة المجاهدة ـ إضافة إلی ورود الصراط المستقيم ـ الامن والحفظ من حبائل الشياطين. أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. [42] الخوف، عبارة عن الحذر وترقّب ما لم يقع بعد، مع كون المترقب مورد إزعاج الإنسان وقلقه. والحزن، عبارة عن الهمّ والغمّ من أمر غير ملائم وغير مقبول قد وقع. هذان الامران ليس لهما طريق إلی السالك، لانـّه قد جعل عمله كلّه للّه، وليس له مقصود سوي الله، فهولا يحزن لامر قد فات، ولا يخاف من شيء مترقّب، فهنا اليقين الذي وصف الله تعالي ذويه بالاولياء. ويشير إلی ذلك قول أميرالمؤمنين علیه السلام : أَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ، فَهُوَ مِنَ اليَقِينِ عَلَي مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ. ويقول أيضاً : هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَي حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ، وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الاَعْلَي. ففي هذه المرحلة بالذات تُفتَح له أبواب الكشف والشهود. الارتباط الداخليّ للسالك بعالم الملكوت لا يتنافي مع كونه في الدنياومن البديهيّ أنَّ طيّ هذا المنزل لا يتنافي مع كون السالك في الدنيا منشغلاً بأُموره الضروريّة، ولا علاقة لفيوضاته القلبيّة بالاوضاع الخارجيّة من النكاح والتكسّب والتجارة والزراعة وأمثالها، وفي الوقت الذي يكون السالك بين الناس منشغلاً بأُمور الدنيا، تكون روحه سائرة تشارك الملكوتيين أسرارهم، مَثَلُ هذا الإنسان مثل من تنزل علیه المصيبة بفقدان عزيز، فهو في حال المصيبة بين الناس يتكلّم معهم ويجالسهم و يأكل وينام، أمّا في أعماقه فهناك البحر الهائج وأمواج الخواطر المتلاطمة التي تذكّره بالمحبوب، كلّ من ينظر إلی وجهه يري آثار المصيبة. وسالك طريق الله له حين الاشتغال بالاُمور الدنيويّة ألوان من الإرتباطات والإتّصالات مع ربّه، يموج في قلبه بحر من الشوق، وفي كيانه تتوقّد نيران العشق، وتذيب فؤاده حرق الفراق والهجران، ولا يعلم عن هذا البركان المتفجّر في أعماقه أحد سوي الله، ولكن من ينظر إلی وجهه يعلم إجمالاً أنَّ عشق الله وعبادة الحقّ والتوجّه إلی الحضرة المقدّسة قد فعل به ما فعل. من هذا البيان يُعلم أنَّ التضرّع والمناجاة والإبتهال الذي كان للائمّة الاطهار ـ كما ورد في أدعيتهم المأثورة ـ لم يكن تصنّعاً، أولاجل إرشاد الناس وتعلیمهم، فهذا التوهّم ناشي من الجهل وعدم إدراك الحقائق، لانَّ شأنهم علیهم السلام أجلُّ ومقامهم أشرف من أن يظهروا بيانات دون أن يكون لها معني أوحقيقة، أويدعوا الناس إلی الله بالادعية والمناجاة الكاذبة، فهل يمكن القول إنَّ كلّ هذا الانين والتضرّع والهيام لمولي الموالي أميرالمؤمنين والإمام السجّاد علیهما السلام لم تكن في الواقع حقيقيّة بل كان فيها شيء من التصنّع أوالتعلیم ؟ حاشا وكلاّ، فهذه الطائفة من أئمّة الدين سلام الله علیهم باعتبارها اجتازت مراتب السلوك، ودخلت حرم الله ووصلت إلی مقام البقاء بعد الفناء الذي هومقام البقاء بالمعبود، فحالهم جامع بين عالمي الوحدة والكثرة، ويراعون نور الاحديّة علی الدوام في مظاهر عوالم الإمكان والكثرات الملكيّة والملكوتيّة، ولامتلاكهم علیهم السلام هذه الدرجة السامية من الكمالات، فإنّهم دائماً يراعون لوازم عالم الملك والملكوت، فهم لا يتسامحون في أصغر أوأدني حكم من الاحكام أوأدب من الآداب أوحال من الاحوال المتناسبة مع هذه العوالم، وفي نفس الوقت تراهم يحتفظون بتوجّههم الخاصّ إلی العوالم العالية، ولهذا سُمُّوا بالموجودات النوريّة. عالم الفتح والظفر والانتقال من مملكة الملكوتأجل؛ وبعد أن وفّق السالك وطوي هذه العوالم وتغلّب علی الشيطان، سوف يدخل عالم الفتح والظفر، ويصل إلی مرحلة طيّ العوالم اللاحقة. فالسالك حينها يكون قد طوي عالم المادّة، ودخل في سلك عالم الارواح، ومن هنا يبتدي سفره الاعظم، أي السفر من عالم النفس والروح، والإنتقال من دولة الملكوت إلی مملكة الجبروت واللاهوت. كيفيّة السير في هذا الطريق ـ بعد البيعة مع الشيخ العارف، ووليّ الله الذي اجتاز مقام الفناء ووصل إلی مقام البقاء بالله، والمطّلع علی المصالح والمفاسد والمنجّيات والمهلكات، و المتمكّن من تولّي زمام أمور تربية السالك، وهدايته إلی كعبة المقصود ـ عبارة عن الفكر و الذكر والتضرّع والإبتهال إلی الله قاضي الحاجات، ومن الطبيعيّ أن يكون سفره في هذه المنازل متعلّقاً بأُمور عديدة ينبغي أن تراعي جميعها بنحو أحسن وأكمل.
ارجاعات [7] ـ يقول : «جدير بك أيّها القلب أن تسكرك الخمرة الحمراء لتحضي بأضعاف مالقارون من مجد بلا كنز أوذهب. وأرجولك منصباً من أرفع المناصب حينما تمنح الرتب إلی الفقراء. فإن كنت تبتغي تاج إمارة فأبرز معدنك الصافي إن كان يعدل كنز الملكينِ (جمشيد وفريدون). رحل السراة وأنت غارق في النوم وأمامك الطريق الطويل فمتي ستشدّ الرحال ومن الذي سيهديك إلی الطريق؟ لقد هديتك إلی قطب الغرام فلا تتعامي وإلاَّ فإنَّك إذا ابتعدت ستجد نفسك وحيداً منقطعاً. فاحتس الخمرة واسكب رشفة علی الافلاك حتّي متي تحترق ألماً وحزناً علی الدنيا؟»
|
|
|