|
|
الصفحة السابقةعالم التكوين يقظ ومراقب وحفيظيقول الله عزّ وجلّ: وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الاْرْضِ وَلاَفِي السَّمَآءِ وَلآ أَصْغَرَ مِن ذَ ' لِكَ وَلآ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَـ'بٍ مُّبِينٍ. [1] فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّ كتاب الله المتجلّي ( وهو عالم التكوين والخلقة ) هو عين علم الله سبحانه. فعلمه تعالي إذاً ليسمنفصلاً عن عالم الخلقة وكتاب التكوين. كما أنّ عالم التكوين والشهادة ـ في المقابلـ ليسمنفصلاً عن علم الله عزّ وجلّ. أَمْ يَحْسَـبُونَ أَنَّا لاَ نَسْـمَعُ سِـرَّهُمْ وَنَجْوَیـ'هُمْ بَلَي' وَرُسُـلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.[2] ويُلاحظ في هذه الآية الكريمة أنّه تعالي علی الرغم من تسميته الملائكة بكتّاب الاعمال، فإنّه يقول: إنّنا نعلم سرّهم ونجواهم. كما يقول تعالي: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَـ'نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ و وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّي الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. [3] أي أنّ فعل الملكينِ هو فعلنا؛ وأخذهما وتلقّيهما، هو أخذنا وتلقّينا. لقد تجلّي علمنا الكلّيّ المحيط في هذه الشبكات والقوالب والآلات والمرايا، فظهر في كلّ مَلَك بقدر سعته. فصار علمهم ـ من ثمّ ـ عين علمه عزّ وجلّ. والملفت للنظر هنا أنّ جملة إِذْ يَتَلَقَّي الْمُتَلَقِّيَانِ وردت في موضع تعليل. أي أنّها جاءت للإجابة علی سؤال: لماذا نحن أقرب إلی الإنسان من حبل الوريد؟ ولماذا نعلم بوساوسه وأفكاره ونواياه وخواطره؟ لانّ المتلقّيين جالسان عن الشمال وعن اليمين يحفظان جميع أقواله وأفعاله. فنفس حفظهما وحراستها ـ إذاًـ هي عين علمنا واطّلاعنا وحفظنا. ومن هذا القبيل جملة: وَسَتُرَدُّونَ إِلَي' عَـ'لِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـ'دَةِ فَيُنبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ،[4] الواردة بعد قوله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَري اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ و وَالْمُؤْمِنُونَ. أي أنّ رؤية رسول الله والمؤمنين هي عين شهادة الحقّ جلّ وعزّ. ونظير هذه الآيات الكريمة التي ينسب فيها الله إلی نفسه عمل الموجودات والملائكة كثيرة وجمّة في القرآن الكريم. وليست حقيقة التوحيد أمراً غير هذا. وعلی الإنسان أن ينتبه ويتوجّه كلّ ساعة من نهاره وليله إلی أ نّه لميُخلق مهملاً في عالم التكوين. يقول القرآن الكريم: أَيَحْسَبُ الإنسَـ'نُ أَن يُتْرَكَ سُدًي.[5] إنّ الإنسان لم يترك سدي، فهو موجود من الموجودات التي خلقها الله تبارك وتعالي عن علم وحكمة. وكلّ ذرّة شكّلت بدن الإنسان وأُوجدت روحه وسرّه وأكملت ظاهره وباطنه كانت وفق تقدير وحكمة. وبالتالي فإنّ الإنسان مسؤول في محضر الحقّ سبحانه. فإن هو طوي صراط الحقّ ومسيرة العدل والصراط المستقيم الذي ينبغي عليه طيّه، فسيكون قد اجتاز طريقه وفق نظريّة الخلق التشريعيّة. وعلی الإنسان أن لا يتصوّر أ نّه كان مهملاً، ليتحرّك ساعة في الطريق المستقيم وأُخري في مسار مُنحرف؛ وليتوجّه إلی الله في ليلة معيّنة ويغفل عنه في أُخري؛ وليمتنع من الكذب في شهر رمضان ثمّ يدنّس نفسه بالمعصية بعد شهر رمضان. أشعار الشيخ بهاء الدين العامليّ في الابتهال إلی الله تعالياي مركز دائره امكان وي زُبدة عالم كون و مكان تو شاهِ جواهرِ ناسوتي خورشيدِ مظاهرِِ لاهوتي تا كي ز علايقِ جسماني در چاه طبيعتِ خود ماني [6] تا چند به تربيتِ بدني قانع به خزف زِ دَرِ عَدَني صد مُلْك ز بهر تو چشم به راه اي يوسف مصر برآ از چاه تا والي مصر وجود شوي سلطان سرير شهود شوي در روز ألَست بَلَي گفتي وامروز به بسترِ «لا» خفتي تا كي زمعارف عقلي دور به زخارف عالمِ حسّ مغرور از موطن اصل نياري ياد پيوسته به لهو و لعِب دلشاد نه اشك روان نه رخ زردي الله الله تو چه بيدردي يكدم به خود آ و ببين چه كسي به چه بسته دل و به كه هم نفسي زين خواب گران بردار سري ميپرس ز عالمِ دل خبري زين رنج عظيم خلاصي جوي دستي به دعا بردار و بگوي يا ربّ يا ربّ به كريميِ تو به صفات و كمالِ رحيميِ تو يا ربّ به نبيّ و وصيّ وبتول ياربّ ياربّ به دوسبطِ رسول[7] يا ربّ به عبادت زين العباد به زهادت باقرِ علم رَشاد يا ربّ يا ربّ به حقّ صادق به حقّ موسي به حقّ ناطق يا ربّ يا ربّ به رضا شهِ دين آن ثامن و ضامن اهل يقين يا ربّ به تقيّ و مقاماتش يا ربّ به نقيّ و كراماتش يا ربّ به حسن شهِ بحر و برّ به هدايت مَهدي دين پرور كين بندة مُجرمِ عاصي را وين غرقة بَحرِ معاصي را از قيد علائق جسمانيّ وز بند وساوس شيطانيّ لطفي بنما و خلاصش كن وز اهل كرامت خاصش كن يا ربّ يا ربّ كه بهائي را آن بيهده گَردِ هوائي را كه بلهو ولعب شده عمرش صرف ناخوانده ز لوح وفا يك حرف زين غم برهان كه گرفتار است در دست هوي و هوس زاراست در شغل زخارف دنيي دون مانده به هزار اَمَل مَفتون [8] رحمي بنما به دلِ زارش بگشا ز كرم گِرِه از كارش از پيش مَران ز رَه إحسان به سعادت ساحتِ قرب رسان وارسته ز دنيي دونش كن سرحلقة اهل جنونش كن[9] وحقّاً فإنّ الإنسان لو كان مع الله، ولو عمل عملاً لرضاه تعالي، فإنّه سيجد بوضوح أنّ الله لم يتركه مهملاً، وأ نّه يُغيثه في مواقع الضرورة، وأنّ الارواح الطيّبة الحيّة وجنود الملائكة تتعبّأ من أجل حراسته وحفظه، لانّ عالم الوجود حيّ يقظ. وَعِندَنَا كِتَـ'بٌ حَفِيظٌ. [10] لقاء كريمة آية الله الاراكيّ إمام العصر عليه السلاموقد وقعت قضيّة جديرة بالتأمّل خلال السنتين الاخيرتين في أيّام الحجّ، وهذه القضيّة متعلّقة بكريمة شيخ طائفة الاعلام آية الله آقا الميرزا محمّدعلی الاراكيّ دام ظلّه العالي،[11] وهو من علماء الطراز الاوّل البارزين في الحوزة العلميّة المقدّسة في قم، ومن الزهّاد والعبّاد العدول وممّن لايشكّ في وثاقته العامّة والخاصّة. يقول: إنّ كريمتي من النساء الصالحات المتديّنات، وقد تكفّلت بنفسي بأُمورها الشرعيّة وبأمر تعليمها وتربيتها وتأديبها، وكانت تحت إشـرافي في جميع أُمورها منذ نعـومة أظفارها. ولايعترضني الريب أبداً في صدقها. وكانت قد سافرتْ إلی بيت الله الحرام في موسم الحجّ بمفردها دون أن يصحبها زوجها. وكانت من العفّة والحياء واجتناب الرجال بحيث أقلقها أمر سفرها بمفردها، لذا كان التفكير شغلها الشاغل. فقد كانت تتسأءل: « ياإلهي! كيف لي بالسفر وحدي؟ إنّني لمأتشرّف بزيارة بيتالله الحرام حتّي الآن، ولا أعلم شيئاً عن مناسك الحجّ وآدابه، فكيف سأطوف وأسعي؟» حتّي حان موعد السفر، فقلت لها أثناء الحـركة: « كرّري هذا الذكر وسافري: يَا عَلِيمُ يَا خَبِيرُ؛ فإنّ الله سيُعينك ». ولانّ هذا السفر هو سفر واجب فمن الطبيعيّ أنّ الله سبحانه سيرعي ضيوفه الذين لايهتدون سبيلاً. وقد أتمّت كريمتنا سفرها بحمد الله ومنّه وعادت موفّقة سالمة وحكت لنا ما وقع لها في مكّة المكّرمة عند ورودها إلی بيت الله الحرام للقيام بالطواف فقالت: « لقد أحرمتُ ثمّ دخلت المسجد الحرام لاطوف، فشاهدت أنّ الناس قد احتشدوا حول الكعبة بشكل يتعذّر علی معه أن أطوف؛ فاهتديت إلی الحجر الاسود الذي يمثّل نقطة بداية الطواف، بَيدَ أ نّي كلّما حاولت الشروع من هناك والطواف حول الكعبة عجزتُ. فأحسستُ بالعجز والحيرة، وقلت ضارعة: ياإلهي! لقد جئتُ للطواف حول بيتك، وأنت تري أن لاقدرة لي علی ذلك مع هذا الازدحام وهذا الجمع. فماذا سأفعل ياإلهي، فإنّي عاجزة؟! فشاهدتُ فجأة أنّ هناك مكاناً فارغاً علی شكل أُسطوانيّ قد انفتح بمحاذاة الحجر الاسود، وسمعت صوتاً يهمس في أُذني قائلاً: أوكلي نفسك إلی إمام عصرك وطوفي معه في هذا المكان! فدخلتُ في ذلك المكان الاُسطوانيّ الفارغ، وشاهدت أمامي إمام العصر عليه السلام منهمكاً بالطواف مع شخص آخر يسـير خلفه من جهة اليسـار تقريباً، فانشـغلتُ بالطواف خلفهما، وبدأتُ من عند الحجر الاسود وأتممتُ سبعة أشواط علی هذا المنوال. فلم أحسّ في هذه المدّة باحتشاد الناس، بل ولميصب بدني ولايدي إصبع أحد، وكنت في جميع الاشواط السبعة أتوسّل بالإمام وأمسح بيدي علی كتفه في ضراعة ورجاء، إلاّ أ نّني لمأكن أُشاهد وجه الإمام، إذ كان منهمكاً بالطواف ناظراً إلی الامام. وعندما انتهت الاشواط السبعة فشاهدت نفسي خارج تلك الحلقة وقد اختفي من أمام ناظري الإمام وذلك الشخص الآخر، فلمأعد أشاهدهما. وأنا آسفة علی أمرٍ واحد في هذه الواقعة، وهو أ نّني لمأُسلّم علی الإمام لاسمع جواب سلامه أيضاً ». يقول آية الله الاراكيّ مدّ ظله السامي: « هذه هي نتيجة الانقطاع إلی الله عزّ وجلّ، ونتيجة الإحساس بالعجز والفاقة إليه، والتبتّل والابتهال إليه سبحانه. ولقد تشرّفت بالسفر لاداء الحجّ، وكنت في غاية الشوق واللهفة لاستلام الحجر الاسود، فذهبتُ يوماً للطواف مع جمع من الاصدقاء عسي أن يعينوني خلال الزحام فأستلم الحجر مرّة. حتّي أ نّني اقتربتُ من الحجر برفقة الاعوان والمرافقين وكدت استلمه بيدي، وإذا فجأة قد ازداد ضغط ازدحام الناس، بحيث قذف بنا بعيداً فسقط كلّ واحد منّا في جانب. وهذه هي نتيجة عدمالانقطاع إلی الله عزّ وجلّ، والتي تمثّلت ـ عموماًـ في اعتمادنا علی أُولئك المرافقين ». ولا يزال آية الله الاراكي علی قيد الحياة في الوقت الحاضر، [12] وهو شيخ نورانيّ معمّر ربّما جاوز عمره التسعين، ويسكن في قم، وقد سمع كثير من المشتاقين هذه القصّة منه، كما أنّ الراغبين في سماعها يمكنهم التشرّف بالسفر إلی قم والمثول في محضره لاستماعها مباشرة منه دونما واسطة. كما أنّ كريمته لاتزال علی قيد الحياة، ويمكن للمخّدرات الاستماع إليها والاستفادة منها. والخلاصة فإنّ عالم التكوين التحقّق الخارجيّ يقظ، وأنّ وليّ مركز الفعل الإلهيّ حيّ، وعلی الإنسان أن يتحرّك باستمرار علی مسار الصراط المستقيم وسبيل العدالة. أي ينبغي أن يكون أرجاء وجود الإنسان من الافعال الخارجيّة والافكار الذهنيّة والخواطر القلبيّة في صراط هدي الحقّ. وعلی الإنسان أن يجسّد الحقّ بتمام معني الكلمة وأن يجتنب الباطل، وإلاّ فسيأتي يوم تلزمه فيه الحسرة والندم. يوم الجزاء الذي تأتي فيه الملائكة بأعمال الإنسان فتعرضها عليه، فيتعالي صراخه: وَوُضِعَ الْكِتَـ'بُ فَتَرَي الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَـ'وَيْلَتَنَا مَالِ هَـ'ذَا الْكِتَـ'بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلآ أَحْصَـ'هَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَيَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. [13] ذلك اليوم هو يوم الخزي والخجل. وذلك الموقف هو موقف الحياء والذلّة والمسكنة. ومثل الإنسان في هذه الدنيا كمثل طائر الحجل الذي يدفن رأسه في الثلج لئلاّيراه الصيّاد. فهو يتخيّل في كلّ قبيح يرتكبه أنّ الله لايراه، وأنّه إذا تغافل فإنّ عالم الوجود سيغفل عنه. فهو يتصوّر هذا العالم عالماً جاهلاً أعمي، ويظنّ بأنّ عالم المادّة والطبع عالم بلاشعور. فهو لايري الملائكة مهيمنين علی هذا العالم، فلذلك يخيّل إليه أنّ ما يراه هو الحقيقة، غافلاً عنأنّهذا لايعدو مجرّد تصوّر ووهم، وأنّ العالم عالم حيّ. وسنتحدّث في المجلس القادم إن شاء الله تعالي ( وموضوعه عن المعاد) عن كيفيّة شهادة الجمادات، فيتّضح أنّ الباب والجدار مطّلعان علی أعمالنا أيضاً، وأ نّهما يدوّنان ذلك. ويشكّل هذا الامر مسألة منفصلة ومستقلّة قائمة علی أساس فلسفيّ ونظريّة أُخري. وعلی أيـّة حال: أَيَحْسَبُ الإنسَـ'نُ أَن يُتْرَكَ سُدًي. [14] لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يقرأ هذه الآية فيكرّرها، لا نّه عليه السلام يري حقيقة الامر ويعلمها، إذ كان ينظر بعين البصيرة فيري أنّ جميع موجودات عالم الملك تخضع لقيموميّة موجودات عالم الملكوت، وأنّ عالم البدن والطبع محكومٌ لعالم الغيب وخاضع له، وأنّ البدن خاضع للنفس، وأنّ جميع العالم خاضع لتلك الروح الكلّيّة والولاية العامّة المهيمنة علی جميع الموجودات. وعلی هذا الاساس، فإذا ما تغافل المرء ـ مع كلّ هذه الخصوصيّاتـ فإنّه سيبتلي غداً بالحسرة الشديدة والندم العميق، ويتعالي صراخه قائلاً: وَوَاحَسْرَتَا علی مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَهِ. لقد كنت غافلاً في محضر الله عزّ وجلّ، ولقد كان لي المقام الفلانيّ فلمأبلغ المقصود، فكنت خائناً لربّي الذي أوجدني ورعاني في كلّ جانب والخالق الذي ربّاني وتعاهدني. العواقب الوخيمة للغفلة عن صحيفة الاعماللقد بلغنا مقام الكمال والعلم والقدرة، فنظرنا إلی الدنيا باستصغار، وألهينا أنفسنا بالشهوات والغفلة حتّي انقضي العمر وغادرنا هذا العالم بأيدٍ صفرات خالية، وذاك هو موقف الندم. إنّ أمير المؤمنين عليه السلام إمامنا؛ ومعني الإمام أ نّه قدوتنا الذي نتبعه ونقتفي أثره. ومن لوازم الإمامة أن يجعل المأموم أعماله وفق حركات الإمام وسكناته، وإلاّ لما صدق للائتمام من معني. ولو أمّ امرؤ جماعة فركع الإمام ووقف المأموم، ثمّ سجد الإمام فقرأ المأموم الحمد والسورة، ثمّ قنت الإمام فسجد المأموم، ثمّ نهض الإمام فجلس المأموم، لما دُعي ذلك ائتماماً. بل الائتمام ـبعد حصول النيّة الصادقة والقصدـ عبارة عن المتابعة والاقتداء في جميع الاعمال والافعال والاقوال. وأمير المؤمنين عليه السلام هو إمامنا بلا ريب، إلاّ أ نّه ينبغي أن نري مدي ائتمامنا به. أنأتمّ به في جميع الحالات واللحظات؟ أينحصر ائتمامنا به في الافعال الخارجيّة أم في الخواطر الذهنيّة، أم في المعاني والاُمور الوجدانيّة القلبيّة؟ أكنّا مستعدّين لتطهير أنفسنا وتزكيتها كما فعل؟ يَا نَدِيمِي ضَاعَ عُمْرِي وَانْقَضَي قُمْ لاِسْتِدْرَاكِ وَقْتٍ قَدْ مَضَي وَاغْسِلِ الاَدْنَاسَ عَنِّي بِالمُدَامْ وَامْلاَءِ الاَقَدَاحَ مِنْهَا يَا غُلاَمْ أَعْطِنِي كَأْسَاً مِنَ الخَمْرِ الطَّهُورْ إنَّهَا مِفْتَاحُ أَبْوَابِ السُّرُورْ خَلِّصِ الاَرْوَاحَ مِنْ قَيْدِ الهُمُومْ أَطْلِقِ الاَشْبَاحَ مِنْ أَسْرِ الغُمُومْ كاندرين ويرانة پر وسوسه دل گرفت از خانقاه و مدرسه نه ز خلوت كام بردم نه ز سيْر نه زمسجد طرف بستم نه زدير[15] عالمي خواهم از اين عالم بِدَر تا به كام دل كنم سير دگر [16]
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلی العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم: الْيَوْمَ نَخْتِمُ علی'´ أَفْوَ ' هِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. [17] تذكر هذه الآية أوضاع الافراد في يوم القيامة بلحاظ الشهادة، فهناك طائفة من الشهداء يوم القيامة هم أعضاء الإنسان وجوارحه، إذ إنّ أيدي أعداءالله وأرجلهم وآذانهم وجلودهم وأبدانهم تشهد مع غيرها علی الاعمال التي ارتكبوها في الحياة الدنيا. ولا يعني ذلك ـ بطبيعة الحال ـ أنّ الايدي والارجل سيصبح لها لسان كلساننا فتُحدث صوتاً ونطقاً، بل شهادتها هي إظهارها للوجود وجعلها تمثّل الاعمال التي اجترحتها حين كانت هذه الاعضاء حيّة ومتحرّكة. علّة الختم علی الافواه وتكلّم الايدي يوم القيامةالْيَوْمَ نَخْتِمُ علی'´ أَفْوَ ' هِهِمْ. إنّنا سنختم في ذلك اليوم علی أفواه المشركين والكفّار والمنافقين لئلاّيفوهوا بشيء. وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فلماذا ـ ياتريـ يختم الحقّ تبارك وتعالي علی أفواههم، أمّا أيديهم وأرجلهم فتشهد علی أعمالهم؟ لانّ هذا اللسان قد اعتاد الكذب هنا، فصار لصاحبه مَلَكة الكذب. ومع أنّ ذلك العالم هو عالم انكشاف الحقائق وعالم لايمكن لاحد أن يخفي شيئاً فيه؛ لكنّ ملكة الكذب التي نشأت لديهم، فاصطحبوها معهم عند رحيلهم عن الدنيا، ستظهر هناك وتتجلّي، فيحاولون الكذب هناك أيضاً، مع جلاء الامر ووضوحه؛ ومع سطوع حقيقته للعيان. تماماً كمثل السارق الذي يمدّ يده في جيب المرء فيسرق نقوداً، ثمّ يمسكه المرء متلبّساً ولا تزال النقود في يده، إلاّ أ نّه ينكر ويدّعي أ نّه لميفعل شيئاً. ومع أنّ الامر واضح كوضوح الشمس، إلاّ أ نّه ـ مع ذلكـ ينكر ولايعترف. وبعبارة أُخري: أ نّنا لا نشكّ في حقيقة الامر وواقعه، لكنّ ظهور مَلَكة الكذب والاختلاق لدي الافراد الكاذبين سيستدعي كذبهم هناك أيضاً. وعليه فإن تقرّر أن يُكتفي منهم باعترافهم اللسانيّ يوم القيامة، فإنّهم سينكرون هناك أيضاً ويزعمون بأ نّهم لميفعلوا شيئاً أبداً، وأنّ تلك الافعال لمتصدر منهم قطعاً. وقد يعترضون ويستدلّون علی كذبهم ويأتون بشاهد ودليل، فيناقشون ربّهم في الحساب. وقد جاء في إحدي الروايات الواردة في هذا المقام ( ربّما تطرقّنا إلی ذكرها في هذا المجلس ) بيانٌ لطيف لاحوال هؤلاء، وذلك في قولهم: إلهنا! إنّ هؤلاء الملائكة الذين يشهدون علينا هم ملائكتك. فلِمَ جئت بهم ليشهدوا؟ إنّنا لم نرتكب هذا العمل، كما أنّ هؤلاء الشهود لايصلحون للشهادة؛ فقد جئت بشاهد من عندك لانقبل بشهادته. وفي هذه الحالة إن تقرّر أن يقول الله عزّ وجلّ للإنسان: اعترف بنفسك؛فمن ذا الذي سيعترف يا تري؟ لذا سيختم علی ألسن المجرمين وأفواههم؛ أي أنّ الإنسان سيعجز عن الكلام إذ ستسلب منه القدرة علی النطق. وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِم أمّا الايدي فتنطق وتتكلّم. فكيف ـ يا تري ـ ستتكلّم؟ أيصبح لليد لسان؟ أيخرج من اليد صوت يتحدّث؟ كلاّ، بل تكلّم اليد عبارة عن قيامها بنفس العمل الذي فعلته في الدنيا. إنّكم تقولون: لقد شاهدتُ ذلك المريض، وكانت ملامح وجهه تنطق بأ نّه ليس بصحّة جيّدة. ولقد شاهدت زيداً وكان وجهه يحكي جذله وفرحه. وقد رأيت عمراً وكانت طلعته حاكية عن بهجته وسروره. فما الذي يعنيه التحدث والحكاية هنا؟ أتعني حقيقةً أنّ الوجه قد اكتسب لساناً؟ كلاّ بطبيعة الحال. بل معني ذلك أ نّه كان في هيئة تعبّر عن نفسه وتصوّر فرحه، وتكشف عن الحقيقة في فرحه أو في حزنه وغمّه، أو في مرضه وانحراف صحّته، وتشير إلی ذلك الواقع، وهو ما يُدعي بالحكاية. حقيقة معني الكلام هي إبراز ما في الضميروأساساً فإنّ المعني الحقيقيّ للتكلّم وفقاً للمذهب الصحيح في أنّ الالفاظ وضعت للمعاني الكلّيّة، هو عبارة عن إظهار ما في الضمير. فالمعاني الموجودة في ذهن الإنسان إذا ما أراد إلقاءها. وإفهامها للطرف المقابل، توجبّ عليه ـإظهاراً لما في ذهنهـ الاستعانة بالإشارة والكناية أو بالكتابة أو بنصب علامة وغير ذلك، أو توجّب عليه أن يتحدّث بلسانه ويتكلّم. ونظراً لانّ الطرق الاُخري ـ غير الكلام ـ طرق صعبة وعسيرة؛ فإنّ تلك المعاني تُنقل عن طريق الكلام في قالب الالفاظ المتبادلة بين المتكلّم والسامع، حيث تحكي تلك الالفاظ عن تلك المعاني. وعلی هذا الاساس فإنّنا نقوم بصبّ ذلك المعني الذهنيّ في قالب هذه الالفاظ الخاصّة، فيستمع السامع لهذا القالب. أي أ نّنا نسلّمه هذا القالب ليصرف هذا اللفظ إلی ذلك المعني باعتبار علمه بالارتباط بين هذا القالب واللفظ مع ذلك المعني. ومن هنا فإنّ الكلام هو عبارة عن وسيلة لانتقال المعاني من ذهن المتكلّم إلی ذهن السامع. أشبه بقطبي بطّاريّة كهربائيّة أحدهما موجب والآخر سالب نريد الربط بينهما وتوحيد مستواهما. فنربط هذا القطب بذاك بواسطة سلك توصيل، فيجري التيّار الكهربائيّ من أحد القطبين إلی القطب المخالف من خلال سلك التوصيل، حتّي يصبح طرف البطّاريّة في مستوٍ كهربائيّ واحد. افرضوا الآن أنّ هناك معانٍ معيّنة في ذهني، وأ نّها غيرموجودة في أذهانكم، وأ نّي أُريد إيصال هذه المعانيّ إليكم، لتوحيد المستويات الفكريّة بلحاظ هذه المعاني الخاصّة التي تقرّر الحديث عنها. فنربط سلك توصيل بين هذا المخّ وبين مخّ كلّ فرد من السامعين. فما هو هذا السلك ياتري؟ إنّنا نتّفق مع بعضنا أ نّنا متي ما قلنا زيد، فإنّنا نقصد هذا السيّد المعيّن. وإذا ما قلنا ذهب، فإنّنا نقصد: تحرّك وابتعد. وإذا قلنا الليل، فنعني به الوقت الذي تختفي فيه الشمس وراء الاُفق فيظلم الجوّ. ولو قلنا النهار، فهو الوقت الذي تطلع فيه الشمس من وراء الاُفق فتضيء الجوّ. وهذه بأجمعها ألفاظ ذات معان. وجميع الالفاظ المستعملة في اللغة ذات دلالة علی معانٍ خاصّة قد تعاقد أهل اللغة عليها. إنّ الاُمّ التي تتحدّث بلغتها المحلّيّة تضع علی لسان طفلها ألفاظاً علی أساس التعاقد القوميّ والمحلّيّ. ومن ثمّ فإنّنا متي شئنا إلقاء هذه المعاني، فإنّنا نربط سلك توصيل، وهذا السلك عبارة عن البيان وإجراء المعاني من الذهن علی اللسان وإيصالها إلی السامع، حيث نقول بتحويل ذلك المعني إلی ألفاظ نقدّمها إلی السامع الذي يعلم مسبقاً بالارتباط بين ذلك المعني وهذا اللفظ، فيفهم من هذا اللفظ ذلك المعني، ويدرك ما نرمي إليه بكلامنا. وجميع الالفاظ التي استعملها ويستعملها سكّان العالم، المتمدّن منهم وغيرالمتمدّن لاتتعدّي هذا الاُسلوب الذي يجسّد الطريق الافضل والاسهل لتبادل المعاني والتحاكم بين الحقائق والمعاني، بين أذهان عامّة الناس ونفوسهم. وهذا هو معني التكلّم. فالتكلّم ـ إذاً ـ هو الإشارة إلی ما في الذهن من المعاني الخفيّة إشارةً تزيل الخفاء وتظهر تلك المعاني. ويقال لمفردها كلمة ولمجموعها كلمات؛ تَكَلَّمَ يَتَكَلَّمُ تَكَلُّمَاً. وبطبيعة الحال فإنّ أصل الكلام هو الجَرْح، ثمّ استعمل اللفظ في هذا المعني الذي ذكرناه. ما الذي تعنيه الآية: وَكَلَّمَ اللَهُ مُوسَي' تَكْلِيمًا. [18] أتقصد أنّ الله سبحانه تكلّم بلسان؟ كلاّ بطبيعة الحال لا نّه عزّ وجلّ ليسجسماً. أفأوجد صوتاً في الفضاء فقال: يَـ'مُوسَي'´ إِنِّي أَنَا اللَهُ؟ لوصحّ ذلك لما كان كلاماً للّه. فإيجاد الصوت من قبل الله لايُدعي كلاماً للّه تعالي، ولاينسب إليه عزّ وجلّ. إنّكم تدعون متكلّمون حين تقومون ببيان كلمات معيّنة فتنتسب إليكم تلك الحال ( حال الكلام ) آنذاك. أمّا لو صنعتم مسجّلاً للصوت أو جهازاً يتكلّم فإنّ ذلك لن يُدعي كلاماً لكم، كما لاتُدعَون متكلِّمُون. معني تكلّم الله مع موسي عليه السلامإنّكم تدعون متكلّمون حين يقوم التكلّم بكم. لذا فإنّ معني تكلّم الحقّ المتعال مع النبيّ هو أنّ الحقّ تعالي أَفهَم موسي سلسلة معانٍ من التوحيد والمعارف والقوانين والاحكام كان موسي يجهلها قَبلاً، فأدركها من خلال ذلك الوحي والإلقاء في القلب. أي أ نّه تعالي أزاح الستار أمام أحاسيسه الذهنيّة وإدركاته القلبيّة والسرّيّة، فلميعد لعالم الجهات وحصار المادّة لديه حدوداً بلحاظ تجلّي الاسماء الكلّيّة، وصار وجوده وسيعاً منفتحاً بحيث يمكنه استلام إرادة الحضرة الاحديّة في مرآة وجوده، وإدراكها والنظر إليها. هذا هو معني تكلّم الله مع النبيّ موسي. كما أنّ تكلّم الشجرة التي قالت: إِنِّي أَنَا اللَهُ. وسائر الموجودات القائمة في العالم والتي كلاّ منها تكشف الستار عن حقيقة معيّنة وتقوم بإظهارها وبتجليتها من هذا القبيل. أمّا الإنسان فلسانه هو وسيلته للكلام، وأمّا الحيوانات فوسيلتها أصواتها المختلفة، وأمّا الشجر فبكيفيّة أُخري، وكذا الحال في الجمادات. وهذا الاختلاف تستدعيه نفوسها المختلفة. وبالنسبة للملائكة فبكيفيّة أُخري أيضاً. فقد جاء جبرائيل عليه السلام إلی النبيّ فتحدّث معه. أفكان لجبرائيل بدن؟ أكان له لسان؟ إنّ جبرائيل مَلَك مقرّب أحاط بشرق العالم وغربه، وليسوجوده وجوداً مادّيّاً، بل له وجود من نوع آخر. ومن هذا القبيل يد الإنسان التي تتكلّم وتشهد يوم القيامة علی الاعمال التي فعلتها. أي أنّ اليد تحضر أمام الإنسان فتؤدّي نفس العمل الذيفعلته في الدنيا؛ مهما كان ذلك العمل. سواءً رُفعت للقنوت، أم للدعاء، أم لإطعام الفقير، أم امتدّت للسرقة والخيانة ولعب القمار. وستأتي يد الإنسان أمام أنظاره في كيفيّة غير منفصلة عن الإنسان، فتفعل ما سبق لها فعله. بل إنّ الإنسان سيفعل بنفسه تلك الاعمال. وهذا هو معني التحدّث. وإذاً فأ نّي سيمكن لاحد أن ينكر أعماله وهو يري هيئتها رأي العين؟ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. والارجل ـ بدورها ـ ستشهد بنفس الطريقة والكيفيّة علی ما اكتسبت في الدنيا. وقد جاء في آية أُخري: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. [19] وقد أُضيف اللسان في هذه الآية إلی الايدي والارجل. فقد جاء في الآية السابقة من سورة يس أنّ الله تعالي يختم علی الالسن والافواه لئلاّتتكلّم. أمّا في هذه الآية من سورة النور فقد جاء بأنّ الالسن تتحدّث بدورها. وهذا الاختلاف يرجع إلی اختلاف الموقف. وبناء علی هذه المقدّمة، فقد يدرك الإنسان أيّ موقف يختم فيه علی الافواه، وأيّ موقف تشهد فيه الالسن. فالموقف الذي يُختم فيه علی الافواه هو الموقف الذي يحاول فيه اللسان إظهار خلاف ما ارتكب الإنسان، أي حين يحاول أن يكذب ويتّهم ليبرّي نفسه؛ فيُختم علی الافواه آنذاك لتخرس. أمّا الموقف الذي يشهد فيه اللسان، فلا يعني الموقف الذي يمتلك فيه اللسان القدرة علی النطق بالاعتراف والإقرار، بل يعني الموقف الذي يقوم فيه بنفس الاعمال التي ارتكبها في الدنيا. أي نفس قيامه وانهماكه بالكذب والنميمة والتهمة والافتراء وخداع الناس وباقي الاعمال التي فعلها في الدنيا. فاللسان ـ إذاً ـ يكرّر العمل الذي فعله في الدنيا؛ منتهي الامر أ نّه يكرّره بصورته الملكوتيّة. شأنه في ذلك شأن اليد والرجل. والتعبير: تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ لا يعني نطق اللسان هناك كنطقه في هذه الدنيا واعترافه بأ نّه فعل كذا وكذا، إذ لا مجال في ذلك المقام لامثال هذه الاعترافات أو الاعتراضات اللسانيّة. وحجم شهادة اللسان مشابه لحجم شهادة اليد والرجل، حيث إنّه يمثّل نفس العمل الذي ارتكبه. هذا بشأن شهادة اللسان. شهادة الاعين والآذان والجلود يوم القيامةوقد وردت آيات في سورة السجدة جديرة بالملاحظة والتأمّل: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَهِ إلی النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّي'´ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ'رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُو´ا أَنطَقَنَا اللَهُ الَّذِي´ أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآأَبْصَـ'رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ'كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ* وَذَ ' لِكُمْ ظَنُّكُمُْ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَیـ'كُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الْخَـ'سِرِينَ. [20] لاحظوا قوله هنا شَهِدَ عَلَيْهِم سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ'رُهُمْ وَجُلُودُهُم؛ أي أنّ أعينهم وآذانهم وجلودهم ستشهد عليهم يوم القيامة بكلّ ما فعلوا في الحياة الدنيا. وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُّمْ عَلَيْنَا، فيعترضون علی جلودهم: أ نّنا لمنكن نتوقع أن تشهدوا علينا. إنّ بشرة الإنسان أقرب إليه من كلّ شيء، ولاينبغي لها أن تشهد عليه. وبالإضافة إلی حبّ الإنسان لنفسه فإنّه يحبّ في هذه الدنيا أفراداً غرباء فيبادلهم المودّة والصُّحبة من أجل أن ينفعونه في الشدائد وعند الضرورة. أمّا الآن فقد آن أوان يشهد فيه علی الإنسان بشرته وجلده. قَالُوا أَنطَقَنَا اللَهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ: إنّ الذي أنطقنا هو الذي بدأكم ثمّ إليه منتهاكم ومعادكم، والذي خلقكم ثمّ إليه عودتكم في مسيرتكم التكامليّة تجاهه. وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآأَبْصَـ'رُكُمْ وَلاَجُلُودُكُمْ وَلَـ'كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ* وَذَ ' لِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَب'كُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـ'سِرِينَ. ذلكم ظنّكم السيّي الذي ظننتموه بربّكم، فتخيّلتم أ نّه غيرمطّلع علی أعمالكم، فجُزيتم بالخسران علی سوء ظنّكم بالله فصرتم من الخاسرين، وصرتم علی شفا هاوية من النار، وعلی وشك السقوط في أُتونها. ومن خلال التأمّل في هذه الآيات نحصل علی نتائج مهمّة هي: شهادة الاعضاء والجوارح مختصّة بأعداء اللهأوّلاً: أنّ الآيات الدالّة علی شهادة الايدي والارجل والآذان والاعين والجلود يوم القيامة متعلّقة بأعداء الله. فلم يرد في آية من القرآن الكريم أنّ جلد المؤمن أو يده أو رجله ستشهد عليه يوم القيامة. فشهادة الجوارح والجلود ـ إذاًـ أمر منحصر بالكفّار وأعداء الله من غيرالمؤمنين؛ والجوارح لاتشهد علی المؤمنين من أهل المعصية. وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَهِ؛ أي أنّ أعداء الله سيحشرون فتصبح حالهم كما ذكرنا. ويستفاد من هذا الامر ـ كما ذكر الفقهاء ـ أنّ الخطابات القرآنيّة موجّهة إلی الكفّار كما هي موجّهة إلی المؤمنين. إذ إنّ هناك بحثاً في اختصاص الاحكام والتكاليف بالمسلمين، أو شمولها لعامّة الناس بما فيهم المؤمن والكافر. الحقيقة أ نّها موجّهة لجميع الناس، منتهي الامر أنّ الكفّار لو جاءوا بها ما تُقبّلت عبادتهم منهم، لانّ الإسلام وقصد القربة هما شرطا القبول. وباعتبار أنّ الإسلام ونيّة القربة في متناول أيديهم؛ فإنّهم يستطيعون أن يُسلموا من خلال التلفّظ بالشهادتين، ليمكنهم قصد القربة ثمّ القيام بتلك الاعمال. وَالإيجَابُ بِالاخْتِيَارِ لاَيُنَافِي الاخْتِيَارَ، كَمَا أَنَّ الامْتِنَاعَ بِالاخْتِيَارِ لاَيُنَافِي الاخْتِيَارَ. [21] وعلی هذا الاساس فكما يؤاخذ الكفّار يوم القيامة ويعذّبون فيما يتعلّق بأُصول الدين؛ وكما يسألون عن علّة عدمإيمانهم وعدمتوحيدهم وعدمإسلامهم وعدماعتقادهم بالمعاد، فإنّهم ـكذلكـ سيُسألون لماذا لميصلّوا، ولماذا لميزكّوا، ولماذا لم ينكحوا وفق نكاح الإسلام؟ حَتَّي'´ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ'رُهُمْ وَجُلُودُهُم. والظاهر هنا من الجلود، تلك الجلود البدنيّة التي تُذنب، وهي كناية عن الفُروج. إذ لو كانت اليد تُذنب، لما قال شهد عليهم جلود أيديهم، بل لقال: شهدت عليهم أيديهم. ولو كانت الرِّجل تذنب لما قال: شهد عليهم جلود أرجلهم، ولقال: شهدت عليهم أرجلهم. والامر كذلك بالنسبة إلی العين والاُذُن واللسان. أمّا جلد البدن فهو كناية عن مباشرة الجلد للقبائح كالزنا وأمثالها. وهذا هو أدب القرآن الذي لم يشأ التصريح بآلات الرجولة والاُنوثة وتسميتها بأسمائها حين ذكر أ نّها تأتي لتشهد، فكنّي عنها من ثمّ بالجلود؛ وقد جاء في بعض الروايات أنّ الافخاذ تشهد علی الذنوب. وثانياً: أنّ أعداء الله يقولون لجلودهم: لِمَ شهدتم علينا؟ وهم لايقولون ذلك لاعينهم ولا لآذانهم، مع أنّ اعتراضهم ينبغي أن يتوجّه أوّلاً إلی الاعين والآذان ذات الحياة والإحساس. ومع أنّ شهادة العين والاُذن أمر يستدعي العجب، إلاّ أنّ شهادة الجلد أعجب وأغرب، لانّ الجلد لا عين له ليري، ولا أُذن له ليسمع، ولاحياة له ولاشعور عقلانيّ، بل هو جلد ليس إلاّ. وممّا يثير العجب أن يأتي الجلد فيشهد. ومن هنا فإنّ أعداء الله سيضطربون، وينزعجون أشد الانزعاج، لانّ الامر بلغ الحدّ الذي صاروا معه يرون الجلد الفاقد لجميع درجات الفهم والشعور والإدراك في الدنيا، وهو يشهد ضدّ الإنسان في هذا الظرف الخطير. وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا؛ فتجيبهم جلودهم: ما كان لنا من الامر شيء. إذ ما الذي يعنيه الجلد يا تري؟ إنّ الإرادة هي إرادة الله الذي يأمر العين بالإبصار، ويأمر الاُذن بالسماع، واللسان بالنطق. الله الذي أنطق جميع الموجودات كلاّ بدوره. فهو الذي أمرنا أن نحضر فنشهد، وليسلنا بدون إرادته واختياره عزّ وجلّ أيّ شيء من أنفسنا. وليس لنا ولالاعيننا ولالآذاننا إرادة ذاتيّة ليمكننا أن نشهد في موضع ونمتنع في آخر. أمّا مراعاة حالكم والامتناع عن الشهادة ضدّكم باعتبارنا بشرتكم وجلودكم، فليس لنا من الامر شيء. إنّ الله هو الذي أنطقنا؛ وحين يُنطق الله تعالي شيئاً، فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء لساناً أو عيناً أو أُذناً أو جلداً. قَالُوا أَنَطَقَنَا اللَهُ الَّذِي´ أَنطَقَ كُلَّ شَيءٍ. [2] ـ الآية 80، من السورة 43: الزخرف. [3] ـ الآيتان 16 و 17، من السورة 50: ق. [4] ـ الآية 105، من السورة 9: التوبة. [5] ـ الآية 36، من السورة 75: القيامة. [6] ـ مجموعة الشيخ البهائيّ «شير و شكر» ص 23. يقول: «يا محور دائرة الاءمكان، وخُلاصة عالم الكون والمكان. أنت مَلِك الجواهر الناسوتيّة، وشمس المظاهر اللاهوتيّة. إلی متي تبقي متردّياً في بئر طبعك من جرّاء العلائق البدنيّة؟». [7] ـ يقول: «وبعبادة زين العباد، وبزهد باقر علم الرشاد. يا ربّ بحقّ الصادق، وبحقّ موسي الناطق بالحقّ. يا ربّ بحقّ الرضا مَلِك الدين، الإمام الثامن ضامن أهل اليقين. يا ربّ بالتقي ومقاماته، وبحقّ النقيّ وكراماته. وبحقّ الحسن سلطان البرّ والبحر، وبهُدي المهديّ مُقيم الدين. الطفْ بهذا العبد المجرم العاصي، غريق بحر الذنوب والمعاصي. ونجِّه من قيد العلائق الجسمانيّة، ومن وثاق الوساوس الشيطانيّة. وخلِّصْه بلطفك واجعله من أهل الكرامة الخاصّة. يا ربّ يا ربّ، إنّ البهائيّ الذي ليس إلاّ ذرّة غبار لا معني لها. قد انقضي عمره في اللهو واللعب دون أن يتلو من صفحة الوفاء حرفاً. فنجِّه من الغمّ فهو أسيرٌ مُمتحن يئنّ من الهوي والهوس. فلقد ظلّ مفتوناً بالزخارف الدنيويّة يحدوه ألف أمل». [8] ـ يقول: «وإلي متي تقنع ـ بتربية بدنك ـ بالخزف بدلاً من درّ عَدَن؟ إنّ مائة ملك يترقّبون وصولك، فاخرج يا يوسف مصر من البئر. من أجل أن تصبح والي مصر الوجود، ولتصبح سلطان سرير الشهود. لقد قلتَ «بلي» في يوم «ألست»، فرقدتَ اليوم في فراش «لا». إلی متي تنأي عن المعارف العقليّة، مغروراً بزخارف عالم الحسّ؟ لا تذكر شيئاً عن وطنك الاصليّ، مبتهجاً باللهو واللعب. فلا دمعك جارٍ ولا طلعتك شاحبة، الله الله كم أنت معافي بلا غمّ! فعُدْ إلی نفسك لحظة وانظر مَن تكون، وبمن وبماذا تعلّق قلبك خلال أنفاسك المعدودة؟ وانهض من نومك الثقيل وانشد عن أخبار عالم القلب. وانشد خلاصك من هذه المحنة العظيمة، وارفع يديك وادعُ قائلاً. يا ربّ يا ربّ، أُقسم عليك بكرمك وصفاتك وتمام رحمتك. وأُقسم عليك بالنبيّ والوصيّ والبتول؛ وأستحلفك بسبطَي الرسول». [9] ـ يقول: «وارحمْ قلبه الضارع الشاكي، واجعل له من أمره مخرجاً بكرمك. ولا تطرده عن بابك، واسلك به سبيلاً ـ بإحسانك ـ إلی سعادة ساحة القُرب». وحرّره من الدنيا الدنيّة، واجعله (بحبّك) شيخ حلقة أهل الجنون». [10] ـ النصف الثاني من الآية 4، من السورة 50: ق. [11] ـ الكتاب مؤلّف قبل رحيله قُدّس سرّه. وقد حافظناعلی عبارة المصنّف، فاقتضي التنويّه.(م) [12] ـ سبق أن نوّهنا بأن الكتاب مؤلَّف في حياة آية الله الاراكيّ قدّس سرّه.(م) [13] ـ الآية 49، من السورة 18: الكهف. [14] ـ الآية 36، من السورة 75: القيامة. [15] ـ مجموعة الشيخ بهاء الدين العامليّ «نان و حلوا» ص 20. يقول: «إنّ باطني خربة مليئة بالوساوس، وقلبي منقبض عن معبد الدراويش والمدرسة. فلا أنا في خلوتي نلتُ مناي ولا في سيري؛ ولا أنا بالمسجد ارتبطتُ ولابالدير». [16] ـ يقول: «أريد عالماً خارج هذا العالم، لانال مُني قلبي وأسير سيراً آخر». [17] ـ الآية 65، من السورة 36: يس. [18] ـ الآية 164، من السورة 4: النساء. [19] ـ الآية 24، من السورة 24: النور. [20] ـ الآيات 19 إلی 23، من السورة 41: فصّلت. [21] ـ هاتان قاعدتان أُصوليّتان تبحثان في علم الاُصول، ومفادهما أنّ الشيء الذي يجبعلی الإنسان من خلال اختياره، فيضطرّ الإنسان للاءتيان به، لامنافاة له مع اختيار الإنسان. والامر نفسه بالنسبة للشيء الذي يمتنععلی الإنسان باختياره، إذ لامنافاة له مع كون الإنسان مختاراً. |
|
|