|
|
الرجوع الی المجلد السابع
بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلیّ العظيم وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلی قيام يوم الدين قال الله الحكيم في كتابه الكريم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا* إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـ'لِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا وَكَانَ ذَ ' لِكَ علی اللَهِ يَسِيرًا. [1] يستفاد من هذه الآية أنّ لجهنم طريقاً يوصل سالكيه من الكفّار والظالمين إلیها. وقال تعإلی: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَ ' جَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ* مِن دُونِ اللَهِ فَاهْدُوهُمْ إلی' صِرَ ' طِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْـُولُونَ* مَا لَكُمْ لاَتَنَاصَرُونَ* بَلْ هُمُ إلیوْمَ مَسْتَسْلِمُونَ. [2] وقد بيّن في هذه الآية الشريفة أيضاً أنّ هناك طريقاً موصلاً إلی الجحيم، والمراد بالجحيم جهنّم، إذ يُطلق لفظ الجحيم علی كلّ نار يلفحها الهواء أو تُنفخ في ا لموقد فتّتقد ويتأجّج لهبها. جَحَمَتِ النارُ جَحْماً و جَحَماً، و جَحُمَت النارُ جُحُوماً، اشتعلت واضطرمت وتأجّجت، ومن باب جَحَمَ ـ جَحْماً المتعدّي، وهو إشعال النار وإضرامها. وصراط جهنّم هو أحد المنازل التي يتوجّب علی الكفّار والظالمين عبوره، والطريق الذي يجب علی المؤمنين أيضاً اجتيازه للوصول إلی الجنّة. ويعلو هذا الصراط جهنّم أو يمرّ في داخلها، وهو كالجسر الذي ينبغي علی جميع الناس عبوره. ويدعوه العوامّ خطأً بـ ( جسر الصراط ) [3] لانّ الجسر والصراط لفظان مترادفان لهما معني واحد، وليسصواباً أن يُضاف الاسم إلی مرادفه. ونظير ذلك تعبير «شب ليلة الرغائب»، وتعبير «سنگ حجر الاسود». [4] وعلیه، فينبغي لنا أن نعلم المكان الذي نُصب فيه هذا الجسر، أهو علی جهنّم أم في داخلها؟ وهل يتوجّب اجتيازه علی جميع الافراد، أم علی بعضهم؟ وهل ينبغي حتماً علی من يريد الوصول إلی الجنّة أن يعبر هذا الصراط، أم أنّ للجنّة طريقاً آخر غيره؟ وما هي حقيقة الصراط أساساً؟ ولِمَ يتوجّب علی الإنسان أن يعبره ليصل إلی الجنّة؟ وما التلازم بين الذهاب إلی الجنّة والعبور علی الصراط؟ لا ريب أ نّه في باطن ووجدان كلّ فرد من أفراد البشر الذين يعيشون في هـذه الدنيا هدف ومقصد يتحـرّك لبلوغه؛ سـواءً كان علی علم بذلك أملا. فكلّ فرد شاء أم أبي يتحرّك في ذاته وحقيقته باتّجاه ذلك المقصد، ويهدف من خلال أعماله وأفعاله إلی ترميم نقاط الضعف في وجوده، وإلی تأمين احتياجاته الباطنيّة والنفسيّة. لكلّ نفس من النفوس طريق خاصّ إلی الله تعإلیوممّا لا شكّ فيه أ نّنا حين نعيش في هذه الدنيا، نكون في حركة إلی الامام سنة بعد سنة حتّي يأتي أجلنا فيتعيّن علینا الرحيل. لذا فمن الطبيعيّ أن يكون لنا كذلك سيراً وكدحاً باطنيّاً نحو هدف معيّن. ولايكون هذا السير بين المسافات المكانيّة الدنيويّة، أي أن نتحرّك من نقطة معيّنة لبلوغ نقطة أُخري، بل هو سير باطنيّ وتحوّل ذاتيّ. وهذا السير عامّ، لانّ لجميع أفراد البشر سير في ملكاتهم، الاسود منهم والابيض، المؤمن منهم والكافر والمنافق. وهذه الحركات الخارجيّة التي تصدر عنهم إنّما هي لإصلاح نقاط الضعف الموجودة في أنفسهم، إلی أن يصلوا إلی نهاية السفر وهم يظنّون أ نّهم قد بلغوا هدفهم المنشود وقاموا بإصلاح أنفسهم من العيوب وترميم نقاط ضعفهم. وممّا لا شكّ ولا ريب فيه أيضاً أ نّه في عين امتلاك جميع أفراد البشر للغرائز، إلاّ أنّ تلك الغرائز والملكات متفاوتة لديهم. فبعض منهم يُخلق شجاعاً، والبعض الآخر جباناً. بينما لبعض متوسّطي الحال درجات ومراتب مختلفة. فكما يمتلك البعض مَلَكة الحياء منذ الطفولة، يتميّز البعض الآخر بالصلابة والصلافة. وكذلك الامر بالنسبة إلی تفاوت سائر الصفات الاُخري لدي الافراد، سواء كانت ذميمةً كالبخل والحسد والحقد وحبّ الانتقام، أم كانت حسنة حميدة. ولكلّ فرد من هؤلاء سير في ملكاته وغرائزه تلك، وعلیه أن يُوصلها إلی حدّ الاعتدال. لذا ينبغي علی كلّ فرد أن يُكمل نفسه حسب قابليّته واستعداده ليكون إنساناً سويّاً معتدلاً في أخلاقه وملكاته بلا إفراط ولاتفريط. ويستفاد هنا أنّ في ذات كلّ شخص طريق خاصّ إلی الله تعإلی؛ لذا قال أهل الحكمة: الطُّرُقُ إلی اللَهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِ الخَلاَئِقِ. أي من حيث النفسيّة الخاصّة التي يمتلكها كلّ موجود؛ فله طريقاً خاصّاً من باطنه إلی الله تعإلی. وبطبيعة الحال، فهذه العبارة ليست آية ولارواية، بل هي من أقوال الاعلام، وهي مقولة صحيحة وصائبة. وبغضّ النظر عن ذلك، فلقد جاء الانبياء والاولياء لدعوة الإنسان إلی الله عزّ وجلّ، وليضعوا له خطّة عمل بلحاظ الباطن والوجدان ـناهيك عن خطّة عمل للخارجـ من أجل أن يسير علی ضوئها فيبلغ هدفه. علی أنّ تلك الطرق التي عيّنوها لبلوغ هذه الغاية مختلفة ومتفاوتة. ومع أنّ الشرائع الإلهيّة تدعو برمّتها إلی التوحيد، إلاّ أ نّها متفاوتة تكاملاً من حيث القوانين والاوامر. فشريعة النبيّ موسي ـمثلاًـ تختلف عن شريعة النبيّ عيسي. كما أنّ شريعة النبيّ إبراهيم تنتهج طريقاً خاصّاً. أمّا شريعة الرسول الاكرم صلّيالله علیه وآله المكمِّلة والمتمِّمة لجميع الشرائع، فتشير إلی الصراط المستقيم الذي يقود جميع قوي الإنسان من حالتَي الإفراط والتفريط إلی الصراط الاوسط، صراط العدالة، ويبلغ بالإنسان إلی هدفه في أسرع وقت وأقصر طريق. ولقد عاش النبيّ نوح علی هذه الارض تسعمائة وخمسين عاماً بين قومه، حسب ما ذكر القرآن، أمّا رسول الله صلّي الله علیه وآله فكانت حياته الدنيويّة ثلاثاً وستّين سنة، امتلك فيها مقامات ودرجات عإلیة من المسلّم لميحظ بها النبيّ نوح ـمع كونه جدّ نبيّنا الاكرمـ وبلحاظ النهج فقد كان تلميذَ مدرسة ابنه، وربيبَ ولايته وروحانيّته. وَإنِّي وَإنْ كُنْتُ ابْنَ آدَمَ صُورَةً فَلِي فِيهِ مَعْنيً شَاهِدٌ بِأَبُوَّتِي [5] لذا نلاحظ أنّ آدم أبا البشر ونوحاً وإبراهيم وموسي وعيسي وسائر الانبياء علی نبيّنا وآله وعلیهم الصلاة والسلام كانوا يتوسّلون بالانوار الطيّبة للخمسة آل الكساء لرفع الموانع الغيبيّة، ولفتح سُبل السلام، ولطيّ مدارج القرب ومعارجه. وعلیه فإنّ سبلهم الباطنيّة إلی الله تعإلی كانت مختلفة، إلاّ أ نّها أيضاً موصلة إلی المطلوب، وهادية إلی مقام قرب الحقّ ومعرفته. ويُلاحظ في الآية المباركة: وَالَّذِينَ جَـ'هَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [6] أنّ السبل قد جاءت بصيغة الجمع؛ أي أنّ هناك سبلاً وطرقاً للوصول إلی الله عزّ وجلّ لكسب مقام القرب والخلوص، أمّا الصراط المستقيم فواحد لايمكن أن يكون أكثر من واحد. اهْدِنَا الصِّرَ ' طَ الْمُسْتَقِيمِ * صِرَ ' طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ علیهِمْ. [7] وَإِذًا لاَّتَيْنَـ'هُم مِّن لَّدُونَّآ أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَـ'هُمْ صِرَ ' طًا مُّسْتَقِيمًا. [8] فالذين يسلّمون للّه سبحانه ولرسوله تسليماً محضاً، ولايجدون في أنفسهم حرجاً ممّا قضي.. ويطيعون أوامره ومواعظه إطاعة محضة.. أُولئك هم المحسنون المُنعم علیهم بالثبات التامّ والاستقامة، وبالتإلی إتيانهم الاجر العظيم بالهداية إلی الصراط المستقيم. وقد ورد تعبير «الصراط المستقيم» في القرآن الكريم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، وجميعها بلفظ «المستقيم» ومطلقاً لم يرد لفظ «الصراط» فيالقرآن بصيغة الجمع «الصُّرُط»، بل بصيغة المفرد. أمّا السبيل فقد تكرّر كثيراً بصيغة الجمع «السُّبُل»، كما في الآيات الكريمة التإلیة: يَهْدِي بِهِ اللَهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَ ' نَهُ و سُبُلَ السَّلَـ'مِ. [9] ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَ ' تِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً. [10] وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ علی اللَهِ وَقَدْ هَدَيـ'نَا سُبُلَنَا. [11] ويستفاد هنا أنّ السُّبل إلی الله سبحانه كثيرة، أمّا الصراط المستقيم فواحد لاغير، وأنّ جميع هذه السبل تكتسب من الصراط المستقيم (الذي يمثّل الفاصلة الاقصر بين العبد وربّه) بمقدار قربها منه. فكلّما زادت زاوية الانحراف المتصوّرة لتلك السبل عن الصراط المستقيم، تضاءلت تبعاً لذلك استفادتها من الصراط المستقيم؛ وكلّما قلّت زاوية انحرافها عنه، تضاعفت في المقابل استفادتها منه. ولو فرضنا أنّ هذه الجهة تمثّل مقام قُرب الحقّ تعإلی، فسيمكن تمثيل الصراط المستقيم والسبل المختلفة بالشكل التإلی:
والخلاصة فإنّ الإنسان يأتي إلی هذه الدنيا، فيطوي طريقه فيها إلی أن يموت، سواءً استفاد من نهج الانبياء أم لميستفد، إلاّ أ نّه ـفي كلّ حالـ يمتلك في باطنه سبيلاً قد تكامل بتربية الانبياء، أم بقي ناقصاً غيرمتكامل، فالحقيقة التي لا يعتريها الشكّ أبداً هي حركته الباطنيّة الذاتيّة الدائمة. وسيكون لهذا السبيل الذي يسلك به الإنسان إلی ربّه في الحياة الدنيا ظهورٌ في عالم القيامة. وقد علمنا سابقاً أنّ جميع موجودات وأفعال عالم المادّة والطبع والمُلك والشهادة لها في عالم الغيب والملكوت صورة ملكوتيّة، وإحداها الصراط، الذي هو الصورة المُلكيّة في هذا العالم لسير الإنسان النفسيّ نحو مبدأه. وصورته الملكوتيّة هناك سيكون الصراط، إذ لاريب في أنّ كلّ امري في هذه الدنيا يمتلك صراطاً سيظهر في الآخرة بالهيئة الملكوتيّة لذلك العالم. ولابدّ أن يكون لصراط الدنيا في عوالم الطبع والمادّة، والشهوة، والغضب، والاوهام والاُمور الاعتباريّة، ويربط بين الموجودات المتفرّقة علی أساس تلك الاُمور الاعتباريّة؛ صورة ملكوتيّة تمثّل بروز الصورة المُلكيّة وتجلّيها. وعلیه فإنّ حقيقة الدنيا التي جاء إلیها جميع أفراد البشر ثمّ رحلوا عنها ستظهر يوم القيامة وتتجلّي في هيئة جهنّم. ولانّ الصراط هو الطريق الذي يسلكه الإنسان من الدنيا إلی الجنّة ويقع في جهنّم، لذا يجب عبوره للوصول إلی الجنّة، لانّ جهنّم هي كلّ ما يُبعد الإنسان عن الله تعإلی. ينبغي علی جميع الافراد عبور جهنّموليسالمراد بالدنيا هو العيش علی الارض، بل المراد بها العيش في عالم العلائق، حيث إنّ كلّ فرد حين يقدم إلی هذه الدنيا يكتسب علائق معيّنة، التي تحجبه عن ربّه وتستدعي غفلته، وستظهر يوم القيامة وتتجلّي في هيئة جهنّم. وقد ورد في الآية الشريفة: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ علی' رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا* ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقُوا وَنَذَرُ الظَّـ'لِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. [12] وجاء في الآيات التي سبقتها: وَيَقُولُ الإنسَـ'نُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا* أَوَ لاَ يَذْكُرُ الإنسَـ'نُ أَ نَّا خَلَقْنَـ'هُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْـًا* فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيـ'طِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا* ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ علی الرَّحْمَـ'نِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَي' بِهَا صِلِيًّا. [13] ويستفاد من جملة وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا التي تنصّ علی التعميم فضلاً علی الإطلاق؛ ومن الحصر بين النفي والإثبات، أنّ جميع البشر بلااستثناء يردون جهنّم، المؤمنون منهم والكفّار والمنافقون. سئل رسول الله: أتدخل النار أنت أيضاً؟ قال: بلي، لكنّي أعبرها كالبرق الخاطف. [14] وجاء في الرواية أنّ رسول الله بكي حين نزلت الآية المذكورة حتّي ابتلّت الارض من دموعه، ثمّ نزلت: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقُوا وَنَذَرُ الظَّـ'لِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. ولقد كان صلوات الله علیه وآله يبكي ويذرف الدموع رحمةً بأُمّته حين سمع بأنّ الله عزّ وجلّ يورد الاُ مّة بأجمعها في جهنّم، لانّ مسؤوليّة الاُ مّة علی عاتق الرسول الحميم الشفيق علی أُمّته. وعلینا أن نري الآن ما السرّ في ورود الجميع جهنّم؟ إنّ السرّ يكمن في كون جهنّم مظهراً للدنيا في الآخرة. ولقد جاء الانبياء والائمّة والاولياء إلی هذه الدنيا؛ وهذا يعني أ نّهم قد جاءوا إلی جهنّم. وعلیهم أن يجتازوها للوصول إلی الجنّة، ولانّ الدنيا جسر الآخرة، وجهنّم جسر الجنّة؛ ولانّ بلوغ الجنّة وإدراك مقام قرب الحقّ تعإلی أمر متعذّر بدون القدوم إلی الدنيا وبدون المجاهدات النفسانيّة، فلابدّ للجميع ـوالحال هذهـ أن يقدموا إلی جهنّم هذه ثمّ لينجوا منهاّ. لماذا يجتاز الانبياء الصراط كالبرق الخاطف؟ونظائر الانبياء يأتون إلی الدنيا ويرحلون عنها دون أن يعلق بهم أيّ رجس منها، ودون أن تلبسهم من مدلهمّات ثيابها أو يصطبغوا بصبغتها، ودون أن يحجبهم عن الله تعإلی زوجة أو ولد، ولا كسب ولاتجارة؛ فيجتازون الدنيا كالبرق الخاطف، ويغدون مصداقاً للآية الشريفة: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ'رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَهِ وَإِقَامِ الصَّلَو'ةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَو'ةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَـ'رُ. [15] هم رجال لم تدنّسهم الدنيا أبداً، ولم تجذبهم إلیها ويستفاد هنا أنّ ورودهم جهنّم كان من حيث ورودهم إلی هذه الدنيا وخروجهم منها؛ وبما أنّ قلوبهم لم تنصرف إلیها أبداً، ولميتعلّقوا بها ولميتدنّسوا بأوساخها، لذا فلم يتوقّفوا فيها وعبروها كالبرق الخاطف. ولقد مكث رسول الله صلّي الله علیه وآله في هذا العالم ثلاثاً وستّين سنة، إلاّ أ نّه لم يكن في هذه الدنيا لحظة واحدة. ونقصد بالدنيا محبّة غير الله سبحانه، والولع بزينة هذا العالم، والميل إلی عالم الباطل والغرور. وإذاً فقد مكث النبيّ علی هذه الارض، إلاّ أ نّه لم يمكث في الدنيا. وحين قدم إلی الارض فقد عبر كالبرق الخاطف دونما لحظة تأمّل أو وقوف علی سائر العلائق الدنيويّة كالرياسة والجاه وحبّ المال وأمثال ذلك. الدنيا تعني عالم الاعتبار، والإعراض عن الحقائق والانشـغال بالاُمورالاعتباريّة، والبقاء خلف الحجب الظلمانيّة، والتنزّل عن مستوي الإنسانيّة، والعيش في حدود أفكار البهائم والشياطين. فهل كانت هذه حياة رسولالله؟ أبداً. فحياة الرسول الاكرم لم تكن علی هذا النحو أساساً، ولانّ النبيّ الكريم لم يعِش طوال عمره الشريف دقيقة واحدة لهدف دنيويّ شأنه شأن أهل الدنيا. وقد جاء في الرواية أنّ الانبياء والاولياء يعبرون الصراط كالبرق الخاطف. أفرأيتم السماء حين تومض بالبرق؟ أرأيتم كيف تحار أعينكم لوميضة؟ وهكذا وبتلك السرعة يجتاز الانبياء الصراط. وما الحياة الدنيا إلاّ جسر جهنّم الذي لابدّ من عبوره للخروج منها، لقد ورد الانبياء إلی عالم الاعتبار، إلاّ أ نّهم عبروه بسرعة، لا نّهم لميتعلّقوا بالحياة الدنيا هنا أبداً، لذا يعبرون الصراط هناك بسرعة أيضاً. وبغضّ النظر عن الانبياء والائمّة والاولياء، فللعبور درجات مختلفة باختلاف درجات الافراد من حيث تعلّقهم بالحياة الدنيا، فالذين تعلّقوا بها، هم في درجة أدني وبالتإلی فإنّ عبورهم مختلف. فهناك المؤمنون الذين قد جاءوا إلی هذه الحياة الدنيا وابتلوا بامتحانات عديدة وذلك لقطع كلّ العلائق الدنيويّة والوصول إلی مقام التوحيد، فإنّهم سيعبرون الصراط بسرعة، ولكن ليستكسرعة الانبياء، بل كسرعة الريح. ومن أهل الآخرة هناك أفراد لا يمكن عدّهم من الاشقياء، لا نّهم ليسوامن أهل الذنوب، بل هم من أصحاب إلیمين، إلاّ أنّ قلوبهم تفتقر إلی ذلك العشق والحماس، وإلی جذبة أهل التوحيد التي تومض كالشرر فتحرق الاوهام والاُمور الاعتباريّة. وعلی الرغم من أ نّهم يبحثون عن الله تعإلی، إلاّ أنّ بحثهم ينقصه الهمّة العإلیة والعزم القاطع والسرعة الفائقة. وسيعبرون هؤلاء الصراط كمثل راكب الفرس. وكما يحسّ راكب الفرس خلال عبوره جسراً ما بحرارة النار المتأجّجة تحت ذلك الجسر، وكذلك سيشعر أصحاب إلیمين بحرارة النار خلال عبورهم الصراط مع أنّ النار لاتمسّهم. وهناك آخرون وبالرغم من أ نّهم أصحاب إلیمين لكنّهم ليسواعلی قدر كبير من الطهارة والنزاهة، فقد كانت لهم بعض الاخطاء، وبعض التقصير، وكانت لهم ذنوبهم التي غفرها الله لهم. وأمثال هؤلاء سيعبرون الصراط بسرعة الراجل. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـ'´نءِرَ الإثْمِ وَالْفَوَ'حِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَ'سِعُ الْمَغْفِرَةِ.[16] ونظائر هؤلاء سيدخلون الجنّة دونما شفاعة ـكما سيأتي لاحقاً في بحث الشفاعةـ إلاّ أنّ عبورهم علی الصراط سيكون أصعب وأعسر، كما عبور الراجل علی جسر ما أصعب من عبور الراكب. ولابدّ للراجل من إطالة رؤيته لمنظر النار، وتأثّره بحرارتها بشكل أشدّ. وهناك بعض الافراد ممّن ارتكب الكبائر، إلاّ أنّ الشفاعة شملتهم باعتبارهم من ذوي الإيمان الراسخ. وأمثال هؤلاء يعبرون الصراط بتؤدة وسير أعرج. أمّا الظالمون والكافرون فيهوون في جهنّم. ولكن، كم ستطول إقامتهم فيها؟ الله أعلم. وبطبيعة الحال فإنّ درجات الظلم والكفر متفاوتة، وعلی هؤلاء أن يمكثوا في جهنّم حتّي تطهّرهم النار. والله أعلم كم سيطول بقاؤهم فيها، فقد يمكثون فيها شهراً واحداً أو شهرين، وقد يبقون سنة واحدة أو سنتين؛ وقد يرزحون فيها عشر سنين أو حتّي ألف سنة، إذ إنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، وعلیهم أن يمكثوا في جهنّم حتّي يخرجوا منها. اللهمّ إلاّ المخلّدون منهم في النار، الذين استحال وجودهم ناراً. وسيأتي الكلام لاحقاً عن خصائص أحوال المخلّدين في النار. إنّ الخارجين من النار يغتسلون في حوض الكوثر، فيتخلّصون من تلك الظلمات والخرائب ببركة الولاية، ويذهبون إلی الجنّة طاهرين مطهّرين. والسؤال، هل سيقام الصراط علی جهنّم أم في داخلها؟ ليس لدينا رواية صريحة في هذا الشأن، إلاّ أنّ الطبرسيّ ينقل في «مجمع البيان» رواية عن ابن مسعود تلقي أضواءً علی المطالب المذكورة. قال: ارجاعات [1] ـ الآيتان 168 و 169، من السورة 4: النساء. [2] ـ الآيات 22 إلي 26، من السورة 37: الصافّات. [3] ـ ترجمة «پل صراط» وهو تعبير يستعمله عوامّ الناطقين بالفارسيّة.(م) [4] ـ تعبيران فارسيّان، و «شب» في الفارسيّة»: «ليلة»، و «سنگ» بمعني «حجر».(م) [5] ـ «ديوان ابن الفارض» ص 105، البيت 631 من التائيّة الكبري: نظم السلوك. [6] ـ الآية 69، من السورة 29: العنكبوت. [7] ـ الآيتان 6 و 7، من السورة 1: الفاتحة. [8] ـ الآيتان 67 و 68، من السورة 4: النساء. [9] ـ الآية 16، من السورة 5: المائدة. [10] ـ الآية 69، من السورة 16: النحل. [11] ـ الآية 12، من السورة 14: إبراهيم. وقد وردت هذه الآية علی لسان الانبياء في ردّهم علی الطواغيت والمستكبرين. [12] ـ الآيتان 71 و 72، من السورة 19: مريم. [13] ـ الآيات 66 إلي 70، من السورة 19: مريم. [14] ـ لم أعثر علی نصّ كلامه الشريف صلوات الله وسلامه عليه وعلی آله الطاهرين فاقتضي التنويه.(م) [15] ـ الآية 37، من السورة 24: النور.
|
|
|